الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبّة خردل من إيمان فأخرجه من النّار. فأنطلق فأفعل» «1» .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة:
1-
أنه سيد الناس يومئذ، وهو سيدهم، في الدنيا أيضا، لقوله صلى الله عليه وسلم:«أنا سيد ولد آدم ولا فخر» . وهذا الحديث لم يقيد التسييد بالدنيا أو الآخرة، ولكن في الحديث الذي معنا قيّد الأمر بيوم القيامة، لسببين:
أولهما: أنه في ذلك اليوم لن ينازعه أحد أنه سيد الناس، بخلاف الأمر في الدنيا، حيث كذب المنافقون والكافرون بنبوته وأنه سيد ولد آدم.
ثانيهما: أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم وسيادته للبشر أظهر وأعظم يوم القيامة، لحاجة الأولين والآخرين إليه في أن يرفع عنهم ما هم فيه، وهذا الذي ذكرته يشبه قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، مع أنه- سبحانه وتعالى، يملك أمر الدنيا والآخرة، ولكن الآية ذكرت الآخرة دون الدنيا، للأسباب التي ذكرتها آنفا.
2-
ظهور فضل النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على بقية البشر كلهم أجمعين، حيث يبلغ الناس غمّ وكرب، لا يطيقونه ولا يحتملونه، ويسلم هو من هذا الغم والكرب، بل يأتي معززا مكرما، لقوله صلى الله عليه وسلم:«فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون» .
3-
ظهور فضل النبي صلى الله عليه وسلم على بقية الأنبياء بما فيهم أولو العزم من الرسل، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، عليهم جميعا الصلاة والسلام، حيث إنهم لم يجترئوا على التقدم للشفاعة، وأحال كل منهم الأمر إلى غيره، وما قبل ذلك إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى يقول: أنا لها. فكفى بذلك بيانا لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم، وتدبر أخي المسلم، حال الأنبياء يوم القيامة، إذ
(1) البخاري، كتاب التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء، برقم (7510) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
المصدر السابق.
يقول كل منهم: نفسي، نفسي، نفسي، وينطلق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، لا يسأله نفسه، ولا أمته، بل يسأله أن يفرج ما الناس كلهم ملاقوه في هذا اليوم العظيم، ولا يفهم أحد، أن هذا الكلام يراد به التقليل من شأن الأنبياء، عليهم جميعا الصلاة والسلام، فهذا منكر عظيم، ولكن هذا الكلام بيان لفضل الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو فضل الله يؤتيه من يشاء.
4-
ظهور ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من عصمة في الدنيا، ما بعدها عصمة، حيث إن كل نبي من الأنبياء قد ذكر شيئا يمنعه من الشفاعة، إلا عيسى عليه السلام، ولأنه لم يذكر شيئا فعله يمنعه من الشفاعة، فقد ذكر أن الذي يمنعه منها، وجود من هو أحق بها، وهو العبد الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولذلك أحال- عليه السلام الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجب الإشارة هنا إلى أن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة، ترجع إلى أنه ما اقترف أي شيء في الدنيا، يلام عليه، ويحتاج فيه إلى مغفرة ربه، تبارك وتعالى، وأن قول الله تعالى:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [سورة الفتح: من الآية 2] ، إنما هو من باب رفع شأنه ومنزلته وطمأنته أنه وإن فعل شيئا، يحتاج إلى مغفرة، فإن هذه المغفرة حاصلة. والدليل على ذلك، أن موسى قد قتل نفسا، واستغفر ربه، فغفر له وجاء يوم القيامة مشفقا من هذا الذنب، وذكره على سبيل المانع من القيام بالشفاعة، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ارتكب أي شيء، وغفره الله له، لاستوى الأمر مع موسى ومحمد- عليهما الصلاة والسلام- يوم القيامة، ولكن هذا لم يحدث، بل فضل النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر من جهتين، الأولى: أنه لم يفعل شيئا مطلقا يلام عليه، صغيرا أو كبيرا، يحتاج فيه إلى التوبة، والثانية: أنه لو صدر منه شيء، فإن الله- عز وجل قد وعده بمغفرته ومحو الذنب قبل أن يقع الذنب، وقبل أن يحدث التوبة، وهذا أعظم المقامات، بل منتهاها، ولعلم عيسى عليه السلام بهذا المقام العظيم، لم يجرؤ على الشفاعة، مع أنه لم يذنب ذنبا.
5-
عظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة عند ربه، تظهر هذه المنزلة في النقاط التالية:
أ- أنه اختصه بالشفاعة العظمى في ذلك اليوم العظيم، وهو المقام المحمود، الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم به، في القرآن الكريم، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] .
ب- جعل الله- تبارك وتعالى الناس يذهبون للأنبياء، فيتعذرون عن الشفاعة، حتى يذهبوا آخر المقام إلى خاتم النبيين، وكان من الممكن أن يقدّر الله ذهابهم إليه ابتداء، ولكن قد يظن ظان أنه يوجد مع النبي أحد يقدر على الشفاعة العظمى، أو أن أحدا يزاحمه
هذه المكانة، فأراد الله- سبحانه وتعالى، أن يبين فضله مقرونا باعتذار الأنبياء جميعا، وأقول جميعا، لأن الذي اعتذر، هم أولو العزم من الرسل، فمن باب أولى أن غيرهم كان سيعتذر إذا طلب منه الشفاعة، فكأن الجميع قد اعتذر.
كما أن الاعتذار للناس عن الشفاعة، من قبل الأنبياء نبيّا من بعد نبي، يجعل الناس في كل مرة أشد حزنا، وأعظم كربا، ويجعلهم يتعلقون أكثر وأكثر بالنبي الذي بعده، فلا يصلون إلى خاتم النبيين إلا بعد أن يصل الغم والكرب بهم أبلغ الحد، كالمريض الذي طاف على الأطباء بمرضه العضال، فلم يجد عندهم الدواء، ولم يبق أمامه إلا طبيب واحد، إما أن يجد عنده الدواء، أو يموت بمرضه، فإذا وجد عند الطبيب الأخير الدواء، كان أكثر له امتنانا، وأشد يقينا بفضله وسبقه، عمن سواه وهكذا ستكون حال النبي صلى الله عليه وسلم، مع الناس يوم القيامة، أرأيت أخي القارئ، الحكمة من سؤال الناس الأنبياء الشفاعة واحدا بعد الآخر، أعلمت أخي القارئ فضل هذا النبي صلى الله عليه وسلم الكريم يوم القيامة، ففي الوقت الذي لا يسمع فيه إلا الهمس كما قال تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه:
108] ، ترى النبي صلى الله عليه وسلم يشفع عند ربه أن يقضي بين الناس، فهل بعد هذا الفضل من فضل؟.
ج- تظهر أيضا منزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه- سبحانه وتعالى إذا تدبرنا وتأملنا أحد أسباب اعتذار الأنبياء عن الشفاعة، في قول كل منهم:«إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» ، ومجال التأمل أنه في مثل هذا الغضب العظيم، من الرب- تبارك وتعالى، ينطلق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يأتي العرش ويخر ساجدا لله، حتى يأذن الله له بالشفاعة بقوله: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه
…
د- ومن عظيم منزلته صلى الله عليه وسلم أنه يؤذن له بالسجود تحت العرش، وهذا أبلغ القرب، بل هو القرب نفسه، ولم يأت دليل أن أحدا من المخلوقين سينزل هذه المنزلة، وهو السجود تحت العرش، من الأولين والآخرين.
ويتفرع على السجود بعض الأمور وهى:
أن السجود لله، هو أعظم مظاهر العبودية لله- عز وجل، وهي الهيئة التي يكون فيها العبد أقرب ما يكون لله- سبحانه وتعالى والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«فاتي تحت العرش فأقع ساجدا» ، ولو أن هناك هيئة أشرف من السجود، وأقرب إلى الله- سبحانه وتعالى، لبينها الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا المقام الرفيع.
- ثبوت عرش الرحمن، وكذب من ادعى، أن العرش، إنما يراد به الملك، وثبوت أن العرش له مكان معلوم، فوق السماوات السبع، لقوله صلى الله عليه وسلم:«فأنطلق فاتي تحت العرش» ، وأن العرش شيء مادي محسوس، يقع تحته العبد ساجدا، يصدق ذلك ما ورد عند البخاري، عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«النّاس يصعقون يوم القيامة فأكون أوّل من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطّور» «1» .
ثبوت استواء الله- سبحانه وتعالى على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله، ودليله:«فأقع ساجدا لربي- عز وجل» . ولولا استواء الله على العرش، ما كان للسجود تحت العرش من معنى، ولكان السجود للعرش، وليس لله المستوي على عرشه، ومع اعتقادنا هذا، فإننا ننزه الله من مشابهة خلقه، وأن كل أسمائه وصفاته إنما هي على وجه يليق بعظمته وكبريائه، ولا يجب الخوض في مثل هذه الأمور، لأنه يستحيل على العبد تصورها، وذلك لقصور العقل وعدم وجود النقل.
عدم خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة العبودية، التي هي أعظم المنازل، ودليله:«فأقع ساجدا لربي- عز وجل» . فالسجود لا يكون إلا من العبد للمعبود، وقوله:«لربي» إقرار أنه- سبحانه وتعالى هو الرب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المربوب، وكفى ذلك شرفا له، والذين يثبتون للنبي صلى الله عليه وسلم أمورا لم يثبتها هو لنفسه، ويريدون بذلك أن يرفعوا من قدره، هم في الحقيقة قد جهلوا قدر الله- عز وجل، لأنهم لو عقلوا قدر الله، لعلموا أن إثبات عبودية النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة لله- عز وجل، هي من أجل المقامات، وأعظم التشريفات، ولا نحتاج معها لإثبات ما لا ينبغي إثباته للنبي صلى الله عليه وسلم.
هـ- من أعظم مظاهر، حب الله- سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يختصه من دون الأنبياء والملائكة، بفتوحات مباركة من المحامد وحسن الثناء عليه، قال صلى الله عليه وسلم:«ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتح على أحد قبلي» . و «شيئا» هنا جاءت نكرة لتعظيم أمر الفتح الرباني.
ويتفرع على هذا الفتح من المحامد والثناء علمنا بعظيم قدر الله- تبارك وتعالى، فمع كل هذا الثناء وتلك المحامد، التي ذكرها الأنبياء في الدنيا، خاصة نبينا صلى الله عليه وسلم وكذا
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: قصة أبي طالب، برقم (3885) .
الملائكة بالملأ الأعلى، لم يصل أحد منهم، إلى الثناء على الله بما هو أهله، حتى يفتح الله يوم القيامة على النبي صلى الله عليه وسلم بالكثير من أنواع المحامد والثناء.
والشيء اللافت للنظر هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف تلك المحامد والثناء، بأنها شيء لم يفتحه الله على أحد قبله، ولم يصف تلك المحامد بأنها المحامد والثناء التي يستحقها الله- عز وجل، أو أنها المحامد التي تبلغ ذات الله الأعز والأكرم، مما يدل على أن كل المحامد والثناء مهما بلغت، لن تبلغ ما يستحقه الله- عز وجل، وما الله أهل له.
كما يتفرع عليه أيضا حب الله- سبحانه وتعالى للثناء والمحامد، وأنها تذهب غضب الرحمن، وأنه ينبغي أن يبدأ بها العبد مسألته؛ لأن تلك المحامد، كانت السبيل لاستدرار رحمات الله الرؤف الرحيم في هذا اليوم العظيم، وإطفاء غضبه- تبارك وتعالى ولو كان شيء أحب إلى الله من المحامد والثناء، لالتمسه النبي صلى الله عليه وسلم.
وومن دلائل حب الله- سبحانه وتعالى لنبيه: بعثه صلى الله عليه وسلم صيغة إجابة المولى- سبحانه وتعالى لدعائه صلى الله عليه وسلم حيث قال- عز من قائل-: «يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع» .
ونلحظ فيها:
أن الله- عز وجل قد بدأ خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم، بأداة النداء، وهذا مبلغ الاعتناء، ولما ناداه كانت المناداة باسمه:«يا محمد» ، وهذا شرف على شرف، وأعتقد أن المناداة كانت بالاسم، وليست بالصفة؛ لأن زمن التكليف قد انتهى، وزمن التشريف قد ابتدى.
قوله: «ارفع رأسك» دليل على علو منزلته ورفعة شأنه بين الخلائق يوم القيامة، وتدبر أنه كان أول أمر من الرب- سبحانه وتعالى وكان يمكن أن يأمر الله نبيه، أن يسأل ما يريد، حال سجوده، ودون أن يرفع رأسه، أو يأمره فيقول له:(قم يا محمد) .
كانت الإجابة قبل السؤال؛ لقوله تعالى: «سل تعطه واشفع تشفع» فوعده الله- سبحانه وتعالى بإجابة كل سؤله، وقبول كل أنواع شفاعته، قبل أن يبين النبي ما يريد، وهو قول يوضح مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من ربه، ولا يحتاج الأمر إلى شرح وإسهاب، لأجعل القارئ يتدبر ويتأمل، فقد تعجز الكلمات عن الشرح والبيان. ويكفي أن ننبه إلى أن الأمر بالسؤال، كان مفتوحا غير مقيد بشيء، فقال له- عز وجل:«سل» دون تحديد مجال السؤال، وستكون الإجابة- إن شاء الله تعالى- على كل ما سأل، وذكرت المشيئة هنا للتبرك، وليس للتعليق.
ويتفرع على ذلك، أن نحكم بكمال علم وأدب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كمال علمه، أنه لن يسأل ممنوعا، ومن كمال أدبه أنه لن يتعدى في السؤال، ولو كان من الممكن أن يصدر عنه شيء من ذلك ولو في أقل من القليل- حاشا لله- ما توجه إليه الخطاب الإلهي بالسؤال والإجابة بدون تقييد لماهية السؤال، ومجال الإجابة- فسبحان من علمه وأدبه، وجعله حقيقا بهذا المقام الرفيع.
وتشرف النبي صلى الله عليه وسلم بكل هذا الكلام والحوار، مع ربه- تبارك وتعالى بغير واسطة، ويكون كل الكلام على وجه الرضى والامتنان، بالإضافة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أول من حظي بشرف الكلام مع ربه يوم القيامة.
ز- أمر الله- سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقوم هو بإدخال من لا حساب عليه من أمته الجنة، ومباشرة النبي صلى الله عليه وسلم إدخال المؤمنين الجنة، شرف عظيم له، وحكمته- والله أعلم- أن يشعر المؤمنون في الآخرة بنعم الله التي أجراها على يد النبي صلى الله عليه وسلم، كما شعروا بذلك في الدنيا، وأن يعلموا أن طاعتهم للرسول، واجتهادهم في اقتفاء أثره، كانت موصلة لهم على يديه لجنات الحنّان المنّان، وانظر كيف أضاف المولى- سبحانه وتعالى أول طائفة تدخل الجنة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى:«أدخل من أمتك» كأن هذا الشرف لهذا الطائفة إنما كان لكونها من أمته صلى الله عليه وسلم.
ح- ومن الأمور التي تبين منزلته صلى الله عليه وسلم أن الله- سبحانه وتعالى، قد نوع له الشفاعات الممنوحة له، فمنها:
الشفاعة العظمى، التي نحن بصدد الحديث عنها، وهي مختزلة في هذا الحديث، حيث لم يرد ذكرها، وإنما انتقل الحديث من طلب الناس شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ليزاح عنهم الغم والكرب، إلى الشفاعة في المؤمنين.
الشفاعة في إدخال أمته الجنة، وهي أنواع تبدأ من إدخال من لا حساب له من الباب الأيمن من الجنة، وتتدرج حتى تنتهي إلى إدخال من قال لا إله الله، لما ورد عند البخاري:
ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر ساجدا فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لآخرجنّ منها من قال: لا إله إلا الله، وهذا منتهى إكرام نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم، كما أن كثرة مرات سجوده تحت العرش وتكرار الثناء والمحامد على الله- سبحانه وتعالى والإذن له كل مرة أن يخرج من النار طائفة من أمته كان
لبيان شرفه، وعظيم منزلته عند ربه، لأنه لا يمكن أن يتردد على الملك ويكثر عليه في الطلب، إلا من يحبه الملك أشد الحب.
شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب؛ لما ورد عند البخاري، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمّه فقال:«لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النّار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه» «1» .
ط- ومن أتم الأمور التي تبين منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، أنه أخبره في حياته بكل ما خبأه له يوم القيامة، من شرف ورفعة وسؤدد على الخلق كلهم جميعا، وذلك على وجه التفصيل لا الإجمال، وما كان هذا الإخبار ليحدث، لولا علم الله التام، بأدب النبي صلى الله عليه وسلم، مع ربه، وبالغ خوفه وتقواه وخشيته لله- عز وجل، ومن فوائد ذلك الإخبار:
أن يزداد النبي صلى الله عليه وسلم شكرا لله، على هذه المنزلة العظيمة، وتقرّ عينه في الدنيا، بعلمه القرب من خالقه، ومنزلته يوم القيامة.
أن تعلم الأمة منزلة نبيها، صلى الله عليه وسلم، في الآخرة، كما علمت منزلته في الدنيا، فيزداد حبها واتباعها له، طمعا أن ينالها شفاعته في الآخرة.
6-
رحمة وشفقة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة، حيث كان أول سؤال له في أمته، قال:
«فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب» ، فاجتهاده في السؤال والتوسل إلى الله، يدل على حبه لأمته، وكذا تكرار الشفاعة، حتى يرضى بخروج من قال لا إله إلا الله من النار، ويجب أن ننتبه إلى أنه صلى الله عليه وسلم أضاف الأمة إلى نفسه، من باب التوسل إلى الله- عز وجل أن يرحمها، فبهذه الإضافة تتنزل رحمات الله المتتابعة، ولو كان هناك إضافة أعظم من نفسه، لأضاف الأمة إليها، كأن يقول مثلا:(يا رب أمة الإسلام) أو (يا رب خير أمة أخرجت للناس) ؛ لأن الموقف يستلزم تأدبا مع الله أن يتوسل بأعظم الأمور حتى ينفرج الكرب والهم.
ومن دلائل شفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم، أنه خبأ دعوته شفاعة لأمته في هذا الموقف العظيم، فلكل نبي دعوة مستجابة، وقد استنفذ هذه الدعوة نوح، ولذلك اعتذر عن الشفاعة، وقد ورد عند البخاري، عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمّتي في الآخرة» «2» .
(1) البخاري، كتاب: الدعوات، باب: لكل نبي دعوة مستجابة، برقم (6304) .
(2)
البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، برقم (3358) .