الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مما أفاض الله- تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من النعم العظيمة المتوالية والآلاء الجسيمة المتتابعة- ليرضيه كما وعده- تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة- والتي يغبطه عليها الأنبياء والمرسلون والخلق كلهم أجمعون: نعمة الكوثر، الذي لا يعلم جمال منظره وصفاء لونه وحلاوة طعمه وكثرة أكوابه وعظم اتساعه إلا الله- تبارك وتعالى، وإذا كانت أقصى أماني الخلق يوم القيامة هو عفو الله وصفحه ومقعد في الجنة، فإن الله- تبارك وتعالى لم يضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم ذلك فحسب، بل أعطاه الدرجة العالية الرفيعة في الجنة والشفاعة العظمى والكوثر، وهي كلها عطايا لا تنبغي إلا له صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ السعدي رحمه الله:(يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي: الخير الكثير والفضل الغزير الذي من جملته ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من النهر الذي يقال له: الكوثر ومن الحوض طوله شهر وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء في كثرتها واستنارتها، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا)«1» .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
حب الله- سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (وهي فائدة مشتركة في جميع نعم الله على خير عباده صلى الله عليه وسلم وتظهر صور هذا الحب من تنوع عطاياه- سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أبلغ تنويع، فقد رفع شأنه عند الخلق كلهم جميعا بسؤاله الشفاعة، ورفع قدره ومكانه في الجنة فجعل له الوسيلة، ورفع شأن زيارته والورود عليه فقصده المؤمنون طمعا في الشراب الهنيء والطعم اللذيذ والكفاية من الظمأ أبد الآبدين.
وصدق من قال:
وأنت حقّا حبيب باريكا
…
يا صاحب الحوض من يدانيكا
الفائدة الثانية:
بلغت عناية الله- سبحانه وتعالى بحوض نبيه صلى الله عليه وسلم أتم العناية وأكملها فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة قال: قال عبد الله بن عمرو:
قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللّبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السّماء من شرب منها فلا يظمأ أبدا» «2» .
وعند مسلم عن ابن أبي مليكة قال: قال عبد الله بن عمرو بن العاص: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء وماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السّماء فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا» «1» .
وعنده أيضا عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، ما آنية الحوض؟ قال:«والّذي نفس محمّد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السّماء وكواكبها ألا في اللّيلة المظلمة المصحية آنية الجنّة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنّة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله ما بين عمّان إلى أيلة، ماؤه أشدّ بياضا من اللّبن وأحلى من العسل» «2» .
وبذلك تكون مظاهر اعتناء المولى- تبارك وتعالى بكوثر رسوله صلى الله عليه وسلم قد شملت الأوجه التالية:
1-
اللون: فهو أبيض من اللبن، لما ورد عند مسلم:«أشد بياضا من اللبن» ، واللون الأبيض يعطي منظرا أجمل للشراب، كما أنه يوضح صفاء الشراب ونقاءه.
2-
الريح: فهو أطيب من ريح المسك، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن ريح المكلوم «3» في سبيل الله هي ريح مسك، كما ورد في صحيح البخاري «4» ، إلا أن الله سبحانه وتعالى فضل شراب الكوثر بأن جعل ريح مائه أجمل من ريح المسك.
3-
الطعم: هو أحلى مذاقا من العسل، فعند مسلم:«لهو أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل» .
4-
سعته: لما رواه مسلم في صحيحه: «حوضي مسيرة شهر» . وسعة الحوض هكذا يدل على سعة ملكه- تبارك وتعالى، ويدل على إكرامه نبيه صلى الله عليه وسلم.
5-
وفرة آنيته: وأعتقد أن كثرتها تكفي كل الأمة لو وفدت عليه صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة، ونرى في الدنيا أن الملك الكريم إذا صنع طعاما وأعد مأدبة فإنه يجهزها بحيث لو ورد عليه كل من دعاه كفتهم المأدبة، ورد عند مسلم:«والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها» .
قال الإمام النووي رحمه الله «5» : (المختار الصواب أن هذا العدد للآنية على ظاهره
(1) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، برقم (2292) .
(2)
مسلم، كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، برقم (2300) .
(3)
المكلوم: أي المجروح.
(4)
البخاري، كتاب: الذبائح والصيد، باب: المسك، برقم (5533) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
انظر شرح النووي (15/ 56) .
وأنها أكثر عددا من نجوم السماء ولا مانع عقلي أو شرعي يمنع من ذلك، بل ورد الشرع به مؤكدا) ، يقصد بذلك قسم النبي صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم.
6-
جمال آنيته: فجمال الآنية وتزيينها للكوثر كان بمثابة تزيين النجوم للسماء ورد عند مسلم: «كأن الأباريق فيه النجوم» فقد تكون كثرة الشيء- في الدنيا- تعيب منظره، ولكن كثرة الآنية ستعطي الحوض جمالا خلابا كما تعطي النجوم للسماء منظرا جميلا.
7-
نفاسة آنيته: حيث إنها مصنوعة من الذهب والفضة، ورد عند مسلم:«ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء» .
8-
مصدر مائه: ينبع ماؤه من جنات عدن، ورد في الحديث:«يشخب فيه ميزابان من الجنة» .
9-
زينته الخارجية: اعتنى الله- سبحانه وتعالى بالشكل الخارجي للكوثر حتى يتمتع المؤمن يوم القيامة وهو يشرب منه بمنظره الجميل، حتى تشبع الروح كما يشبع الجسد، فقد جعل- سبحانه وتعالى على حافتي الكوثر قبابا مصنوعا من اللؤلؤ المجوف وهو أغلى المعادن وأنفسها، ورد عند البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لمّا عرج بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى السّماء قال: «أتيت على نهر، حافتاه قباب اللّؤلؤ مجوّفا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر» «1» .
10-
طيب طينته: إذا كان أصحاب البساتين والجنات في الدنيا لا يستطيعون أن يجملوا طينة البستان فهي دائما سيئة المنظر سيئة اللون وكذا الرائحة، إلا أن الله- عز وجل من عنايته بكوثر الحبيب صلى الله عليه وسلم جعل طينته مسكا أذفر، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«بينما أنا أسير في الجنّة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدّرّ المجوّف، قلت: ما هذا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الّذي أعطاك ربّك فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر» «2» .
11-
كفايته من الظمأ: وهي مزية لشراب الكوثر لا يشترك معه فيها أي شراب آخر في الدنيا والآخرة- فيما نعلم- ورد في الصحيحين: «فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا» ، ويستفاد من ذلك أن كل شراب أهل الجنة بعد هذه الشربة الهنية لن يكون عن ظمأ، إنما سيكون الشرب على سبيل التفكه والتلذذ فقط، ويستفاد منه أيضا قدرة الله- سبحانه
(1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، برقم (4964) .
(2)
البخاري، كتاب: الرقاق، باب: في الحوض، برقم (6581) .
وتعالى- العجيبة الذي وضع في هذه الشربة من الكوثر ما يقطع عن الإنسان الإحساس بالظمأ طوال حياته الأبدية في الجنة.
12-
سلامة معتقدات وارديه: قد يكون الملك الداعي إلى الطعام في الدنيا تقيّا ورعا لا يحب أن يأكل طعامه إلا الأخيار من الناس فيدعوهم إلى مأدبته، ولكن لا يأمن أن يدخل معهم المنافقون وأصحاب الأهواء ومرضى القلوب، ولكن الله- سبحانه وتعالى من بالغ عنايته لكوثر نبيه حرسه وأمر ملائكته أن يردوا تلك الأصناف فلا يردون الكوثر، ورد عند البخاري عن سهل بن سعد يقول: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بينني وبينهم، فأقول: إنّهم منّي!! فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» «1» .
ويتفرع عليه: شؤم الابتداع في الدين حيث يحرم من ابتدع بركة الشرب من الكوثر، بل يحرم من ورود الحوض أصلا، ويا ليتهم حرموا الشراب من الكوثر فحسب، وإن كانت هذه مصيبة، ولكنهم حملوا معها المصيبة الأعظم، وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.
13-
اختيار الاسم: من أوجه عناية الله- سبحانه وتعالى لكوثر حبيبه صلى الله عليه وسلم وجه قد يغافل عنه الكثير، ولكني أعتقد أنه ذروة الاعتناء، هو الاعتناء باسم النهر، فقد أكرم الله سبحانه وتعالى تسميته، حين جعل له اسما كريما يتضمن معاني كثيرة، فإن الكوثر معناه في اللغة: الخير الكثير، قال الإمام القرطبي: (والكوثر فوعل من الكثرة: مثل النوفل من النفل والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شي كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا، قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: بكوثر، أي:
بمال كثير. والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير) «2» . وبعد أن ذكر رحمه الله ستة عشر قولا لمعاني الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ختمها بقوله: (وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا)«3» . انتهى.
14-
ذكره في القرآن العظيم: أختم أوجه اعتناء الله- سبحانه وتعالى لكوثر نبيه صلى الله عليه وسلم بأعظم هذه الأوجه وأعلاها منزلة ألا وهي ذكر الكوثر في القرآن الكريم، بل نزول سورة باسمه، وهذا أبلغ التشريف للنبي صلى الله عليه وسلم.