الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطورة الابتداع
من المؤسف حقًّا أن يكون معظم المسلمين، وكثير من دعاتهم ومشايخهم، لا يعلمون معنى الابتداع، ولا يدركون خطورته.
ولذلك تراهم يبتدعون، ويحثون على الابتداع، وتجد أكثرهم يستهزئون بالمُتَّبِعِينَ، ويحاربونهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وترى كثيرًا من الحزبيين، والسياسيين، والفكريين، والواقعيين، لا ينهون عنه، ولا ينأون عنه، وهم يظنون أنهم بهذا أقوم طريقًا، وأحسن سبيلًا!
ولو أنهم علموا معنى الابتداع، وأدركوا خطورته، وأنه أحب شيء إلى الشيطان بعد الشرك؛ لِمَا له من أثر عظيم في هَدْمِ الدين، كما هُدِمَتْ به الأديان مِنْ قَبْلُ، لَمَا فعلوا الذي فعلوا، وما قالوا الذي قالوا.
وتكمن خطورة الابتداع في:
أولًا: أن المبتدع يُنَصِّبُ نَفْسَهُ في منزلة الْمُشَرِّعِ، ولا يشرع إلا الله.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
قال ابن كثير رحمه الله: ((أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس
…
من الضلالات، والجهالة الباطلة
…
)) (1).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: ((والمعنى: أَلَهُمْ آلهة (شرعوا) أي: ابتدعوا (لهم) دينًا لم يأذن به الله؟ )) (2).
فحكم الله تعالى على الذين شرعوا لهم -أي: ابتدعوا لهم- بأنهم اتخذوهم شركاء من دونه، والعياذ بالله.
قال سيد رحمه الله تعالى (5/ 3152):
((وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله، وَأَذِنَ به، كائنًا مَنْ كان)).
والتشريع أعم من أن ينحصر في تشريع الحكام أحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان .. بل هو يشمل هؤلاء، ويشمل كذلك من شرع للناس عبادة من صلاة، أو ذكر، لم يأذن بها الله.
أو شرع لهم طريقًا للوصول إلى الحكم غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أو استحسن لهم طريقة في الدعوة، أو في نظام الحكم، غير طريقة السلف
…
كل ذلك يدخل في التشريع المبتدع، وكل ذلك سواء.
ثانيًا: أن الابتداع في الدين أخطر من ارتكاب الذنوب والمعاصي؛ لأن صاحبه يشرع، فيضاهي بابتداعه شرع الله وأحكامه، وذاك يعصي ويخطئ.
(1) تفسير ابن كثير (4/ 120).
(2)
زاد المسير (7/ 282).
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
((وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ الْمُغَلَّظَةَ شَرٌّ مِنَ الذُّنُوبِ)) (1).
ثالثًا: أن صاحب البدعة لا يفكر بالتوبة؛ لأنه يظن أنها عبادة؛ لذلك يستمر على بدعته التي هي أشد من المعصية، بل يدعو إليها، ومن أجل ذلك رأى بعض أهل العلم أن لا توبة له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
((إِنَّ اللَّهَ احْتَجَزَ (وَفِي رِوَايَةٍ: حَجَبَ) التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ .. )) (2). والعياذ بالله.
ولهذا نقل عن أئمة الإسلام، كسفيان الثوري، وغيره:
((إِنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ)) (3).
رابعًا: أن البدع أضلُّ للناس، وأَدْعَى لقبولها عندهم من المعصية.
ومعظم العصاة يعرفون أنهم عصاة، وكثير منهم يستحي من إظهار معصيته أمام الخلق، ومعظم الخلق يدركون ذلك، وأما المبتدع فهو يزعم أنه ببدعته يعبد ربه؛ ولذلك يَتَّبِعُهُ الناسُ، فيضلون بضلاله.
(1) مجموع الفتاوى (28/ 470).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط، كما في المجمع (10/ 192)، والبيهقي في شعب الإيمان (رقم 9457)، وغيرهم، وقال الهيثمي:((ورجاله رجال الصحيح، غير هارون بن موسى، وهو ثقة))، وصححه شيخنا في الجامع (1699)، والسلسلة (1620).
(3)
أبو نعيم في الحلية (7/ 26)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 132)، وانظر تلبيس إبليس (13).
قال صلى الله عليه وسلم: ((
…
وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ .. )) (1).
ولهذا قال السلف - كما سبق -: إن البدعة شر من الذنوب.
وقانا الله شر الجميع.
خامسًا: أن أصلَ الشرك، والضلال عن دين الله، والكفر به، كان سببه الابتداع.
قال ابن إسحاق:
((ويزعمون أن أولَّ ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يَظْعَنُ من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفسح في البلاد، إلا حمل معه حجرًا من حجارة الحرم؛ تعظيمًا للحرم، فحَيْثُمَا نزلوا وضعوه، فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى بلغ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم، حتى خلف الخلوف، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات)) (2).
قلت: وكذلك كان من أسباب الشرك البدعُ التي أحدثها قوم نوح في صالحيهم {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} . (3)
(1) مسلم (4/ 2059 و 2060).
(2)
السيرة (1/ 82).
(3)
انظر السيرة لابن هشام (1/ 83)، وابن كثير عند تفسيره لهذه الآية من سورة نوح.
وما انحرف من انحرف، ولا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ من الطوائف الإسلامية إلا بالابتداع.
سادسًا: أن الابتداعَ معاندةٌ للشارع، وَصَدٌّ عن الاتباع، فمن لم يكن متبعًا كان مبتدعًا، ومن كان مبتدعًا لم يكن متبعًا.
فتأمل هذا؛ فهو عزيز .. فإن الإنسان لا يمكن أن يسير على طريقين، ولا يمكن أن يكون له قلبان.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4].
قال الإمام الشاطبي: ((الْمُبْتَدِعُ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ، وَمُشَاقٌّ لَهُ
…
)) (1).
وقد رأينا هؤلاء الذين يُحْدِثُونَ للمسلمين طرقًا جديدة -سواء في العبادة، أو في السُّبُل، أو الفكر- لا يتحدثون عن الاتباع، ولا يحثون عليه، بل لا يذكرونه.
وإذا ذكروه، أو سمعوا به، فلا يعرفونه .. وإذا عرفوه لا يقيمون له وزنًا، ولا يدركون أَنَّ مَنْ لم يكن متبعًا كان مبتدعًا.
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50].
فإما أن يكون المرء متبعًا، وإما ان يكون مبتدعًا، ولا طريق ثالث.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ((مَا مِنْ بِدْعَةٍ تَحْيَى إِلَّا وَسُنَّةٌ تَمُوتُ)) (2).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
((شِعَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ هُوَ تَرْكُ انْتِحَالِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ)) (3).
(1) الاعتصام (1/ 49).
(2)
الاعتصام (1/ 81)، وعزاه للطبراني في الكبير، وهو فيه برقم (1100) بلفظ متقارب.
(3)
الفتاوى (9/ 10).
وقال ابن القيم رحمه الله:
((قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ .. } الآية.
فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما، إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به، وإما اتباع الهوى، فكل ما لم يأتِ به الرسول فهو من الهوى)) (1).
فإذا رأيت العالم أو الداعية لا يدندن على الاتباع، ولا يَحُثُّ عليه، فاعلم أنه ليس من أهله، ومن لم يكن من أهل الاتباع، كان من أهل الهوى والابتداع.
وقد حدثني الثقات بوقائعَ عجيبة صدرت من بعض المسلمين، فيها من الاستخفاف والسخرية بسلفنا الصالح ما لا يكاد يُصَدَّقُ لولا ثبوتها، منها:
أَنَّ محتجًا احتج بفهم ابن عباس في تفسير آية ..
فقال له الحجوج: ومن ابن عباس؟ ! استنكارًا واستهزاءً.
واحتججت مرة على رجل بحديث، فأنكره ..
فقلت: رواه أبو داود.
فقال مستهزئًا: ومن أبو طنّوس؟
كل ذلك بسبب سوء التربية التي عليها الكثير من الجماعات الإسلامية، من إهمالهم للعلم، وانشغالهم عنه بالقيل والقال، والواقع، والسياسات.
سابعًا: إن لازم كل مبتدع أن دين الله ناقص، وأن الله عز وجل لم يكمل دينه، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يتعبد العبادة الكاملة.
قال الإمام مالك رحمه الله:
(1) إعلام الموقعين (1/ 47).
((مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا)) (1).
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
((
…
فَالْمُبْتَدِعُ إِنَّمَا مَحْصُولُ قَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ مَقَالِهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَإِنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا أَشْيَاءُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَمَالِهَا وَتَمَامِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يَبْتَدِعْ
…
)) (2).
ثامنًا: أن الابتداع يفتح باب التغيير، والتبديل، والفوضى في الدين، والقول فيه بغير ضابط، ولا علم، بل إن من أكبر سُبُلِ هَدْمِ الدين من الداخل هو: الابتداع.
لأن مصدرَ الابتداعِ: الرأيُ، والظنُّ، والهوى، والاستحسانُ، والمصلحة المخالفة للاتباع، وهذا الذي سماه الله عز وجل افتراء عليه سبحانه وتعالى، وهو:
تاسعًا: الابتداع افتراء على الله.
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
فالافتراء -إذن- قولنا: هذه طريقة جائزة، وهذه طريقة غير جائزة، دون أن يكون لنا في ذلك دليل صحيح، وقول مُتَّبَعٌ.
(1) الاعتصام (1/ 49).
(2)
الاعتصام (1/ 49).