الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف الصحابة والسلف من الابتداع في الطرق
ولقد بلغ حِرْصُ الصحابة -رضوان الله عليهم- على الاتباع، وتحذيرهم من الابتداع، وخوفهم منه مبلغًا عظيمًا.
قال الزهري: ((دخلت على أنس بن مالك وهو يبكي، قلت: ما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وقد ضُيِّعَتْ)) (1).
وإذا كان هذا الصحابي يبكي وهو في زمن القرن الأول، فكيف لو رأى أهل زماننا وهم يبدلون ويغيرون في دين الله، وما يخترعون من طرق، وما يبتدعون من أفكار؟ ! !
…
((لا شك أنه يهتم بقشور
…
لأن في عهده كان عِزُّ الإسلام، وفي عهده كانت فتوح الإسلام، ثم يبكي على القشور! ! لا مِرْيَةَ أَنَّهُ متآمر))! !
وهاك صحابي آخر مثل أخيه ((يبحث عن القشور
…
)) (2)! ! !
فعن حصين قال: ((كنت إلى جنب عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ رضي الله عنه،
(1) رواه البخاري (529).
(2)
حسبنا الله على الذين يتهمون الصحابة بلسان حالهم، وحسبنا الله على الذين لا يفهمون أساليب اللغة العربية، فيتهمون عباد الله بما ليس فيهم؛ غباوة أو حقدًا، ناسين أو متناسين أسلوب القرآن الكريم بمثل هذا. {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
وبشرُ بن مروان يخطبنا، فلما دعا رفع يديه، فقال عمارة: قَبَّحَ اللهُ هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ)) (1).
فانظر -هدانا الله وإياك سبيلَ هؤلاء- كيف أنكر هذا الصحابي -وهو من أصغر الصحابة سِنًّا- على أميرٍ أَحْدَثَ طريقة جديدة في رفع اليدين على المنبر.
((لا شك أن هذا الصحابي ((بدوي التفكير)) ((محدود العقل))، حيث جعل من الحبة قبة
…
تحريك إصبع بسيط جعله يقول ما يقول
…
ويترك الروم، والفرس، والطواغيت، وينشغل بهذه القشور
…
((لا ريب أنه عميل))
…
؟ ! ))! !
وإن شئتَ فتدبر معي هذين الأثرين العظيمين عن ابن مسعود رضي الله عنه:
((عن عَبْدَةَ بَنِ أَبِي لُبَابَةَ أن رجلًا كان يجمع الناس، فيقول: رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله، قال: فيقول القوم، فيقول: رحم الله من قال
…
فمر بهم عبد الله بن مسعود، فقال: لقد هديتم لِمَا لم يهتدِ له نَبِيُّكُمْ، أو أنكم لمتمسكون بِذَنَبِ ضلالة)) (2).
ثم أَمَرَ بالمسجد الذي كانوا فيه فَهُدِمَ (3).
وفي رواية طويلة قالوا: والله ما أردنا إلا الخير
…
فقال رضي الله عنه: ((وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ)) (4).
(1) أخرجه مسلم (2/ 595).
(2)
ابن وضاح (12).
(3)
ابن وضاح (8).
(4)
الدارمي (1/ 68) بسند صحيح وابن وضاح (صـ 8 وبعدها).
وَ ((مَرَّ ابن مسعود بامرأة معها تسبيح تُسَبِّحُ به، فقطَّعَهُ، وألقاه، ثم مر برجل يُسَبِّحُ بحصى، فضربه برجله، ثم قال:
لقد سبقتم
…
ركبتم بدعة ظلمًا
…
ولقد غلبتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علمًا)) (1).
فهؤلاء الصحابة الذين تَرَبَّوْا على منهج واحد، وَتَخَرَّجُوا [في] مدرسة واحدة، ((يهتمون بالقشور))؟ ! ؟
وَمَا لَنَا بُدٌّ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ وَالتَّأَسِّي بِهِمْ.
وهؤلاء الصحابة رضي الله عنه يفعلون ما يفعلون، ويقولون ما يقولون في تحريك يَدٍ، أو تسبيح بالحصى، أو اجتماع على هيئة لم يروها من معلمهم، ومربيهم صلى الله عليه وسلم.
فكيف لو رَأَوْا أهلَ زماننا وهم يُحْدِثُونَ الطرقَ، والسبل، والمناهج؛ كالانتخابات، والمظاهرات، والانقلابات، والمداهنات، والمشاركات، والتصويتات على شريعة الجبار -جل شأنه- في المجالس!
حتى صارت عندهم الأناشيدُ والتمثيلُ طريقةً تربوية (2) .. والانتخاباتُ والمشاركاتُ في المجالس طريقةً وصولية .. والانقلاباتُ والاغتيالاتُ طريقةً تغييرية .. والتفجيراتُ والمظاهراتُ طريقةً تعبيرية .. والكذبُ والافتراءُ على الأبرياء طريقةً دفاعية عن أحزابهم وزعمائهم.
(1) ابن وضاح في (البدع والنهي عنها) صـ 12.
(2)
مجرد الإنشاد الذي لا يتخذ دينا ولا ديدنا لا يحرم والتمثيل نوعان ولكل نوع حكم وليس هاهنا محل تفصيل.
وسار التابعون ومن سلك سبيلهم على هذا المنهج القويم في محاربة الابتداع أَيًّا كانت صورته، وَأَيًّا كان مقصده.
وَذِكْرُ مواقفِهِمْ يطول ويطول، وَحَسْبُ الْمُتَّبِعِ العاقلِ الراشدِ
…
الموقفُ والموقفان من إمام أو إمامين.
((ثَوَّبَ (1) المؤذنُ بالمدينة في زمان مَالِكٍ ..
فقال له: ما هذا الذي تفعل؟
قال: أَرَدْتُ أن يعرف الناسُ طلوعَ الفجر ..
فقال: لا تفعل، لا تُحْدِثْ في بلدنا شيئًا لم يكن فيه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد عشر سنين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فلم يفعلوا هذا.
فَكَفَّ المؤذن، ثم إنه تنحنح في المنارة.
فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟
قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر ..
فقال: ألم أَنْهَكَ أَلَّا تُحْدِثَ عندنا ما لم يكن؟
فقال: إنما نهيتني عن التثويب ..
ثم جعل يضرب الأبواب، ثم قال له ما قال في المرة الأولى .... وأجاب بما أجاب في المرة الأولى)).
فانظر -يا أخا الاتباع، يا من يريد الرشد- إلى هذا الإمام العظيم، وقد جعل النحنحة -وهي صوت يُخْرِجُهُ الإنسان من حنجرته بلا حروف- بدعةً، وَزَجَرَ فَاعِلَهَا ..
أم يُقَالُ: إن الإمام مالك ((متنطع))، ((سطحي التفكير))، ((بدوي الفقه))، ((متطرف))؟ ! !
وإذا كان هذا قوله في ((النحنحة)).
(1) التثويب: الدعوة للصلاة بغير الأذان.
فكيف لو رأى أهلَ زماننا وبدعهم؟ ! وكيف لو سمعهم وهم يتنحنحون استهزاءً بالسنن وأصحابها، والاتباع ودعاته؟ ! فما عساه يقول أو يفعل! ! فإلى الله المشتكى، وإليه عاقبة الأمور.
وأخيرًا:
إليك هذه النصيحة من رجل تربى على يد إمام السبيل صلى الله عليه وسلم، واتبعه على بصيرة، مصداقًا لقوله تعالى:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
وهو الصحابي الجليل أُبَيُّ بن كعب الذي لا ينتمي إلا إلى الجماعة الأم .. قال رضي الله عنه:
((عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَتَمَسُّهُ النَّارُ أَبَدًا، وَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ)) (1).
ولا شك أن هذا الصحابي الجليل ليس بينه وبين بعض الجماعات المعاصرة حساسية، أو معاداة شخصية، حملته على أن يقول هذا الذي كأنه صادر من مشكاة النبوة .. فلعل إخواننا إن كان عندهم شك في علم من ينصحونهم ونياتهم ألَّا يكون عندهم شك في علم الصحابي، ونيته، وصدق نصيحته!
ومن عرف هذا عرف كيف تتفرق الجماعات عن الجماعة الأم بالآراء
(1) اللالكائي (شرح أصول الاعتقاد)(1/ 54)، ابن الجوزي (تلبي إبليس)(صـ 10)، وذكره الشاطبي في (الاعتصام)(1/ 81 و 94)، والبغوي في (شرح السنة)(1/ 208).
الْمُحْدَثَةِ .. وتختلف الطوائف بالطرق المبتدعة .. وتتبعثر الْفِرَقُ بالأفكار المخترعة .. وتبقى الجماعةُ الأمُ سائرةً على دَرْبِ نَبِيِّهَا .. متبعةً سبيلَ سلفها .. لا يَضِرُهَا قِلَّتُهَا، ولا من خالفها، ولا عداء الناس لها، وافتراؤهم عليها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:
((لَا تَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) (1).
(1) انظر (السلسلة الصحيحة)(270 و 1955 و 1956 و 1957 و 1960).