الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف السلف من الآراء والآرائيين
ولقد تَنَبَّهَ سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- إلى هذا الأمر الخطير، فألزموا أنفسهم أمرين عظيمين:
الأول: الإمساك بما ورثوه من سلفهم، والامتناع عن إحداث شيء في الدين بآرائهم.
ولولا خشية الإطالة لسردتُ من أقوالهم ما فيه عِظَةٌ للعاقلين.
وحسبي أن أذكر قول الإمام أحمد المشهور:
((إِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ كَلِمَةً لَيْسَ لَكَ فِيهَا إِمَامٌ)) (1).
الثاني: مجانبة أهل البدع، والتحذير منهم، ومحاربة الآراء الدخيلة على الإسلام، والتبرؤ منها، ومن أصحابها.
وليس الموضعُ موضعَ سَرْدٍ، فحسبنا رواية عن ابن عمر، وأخرى عن أبيه رضي الله عنهما:
فقد ذُكِرَ عند ابن عمر قومٌ يتكلمون في الْقَدَرِ، فقال رضي الله عنه:
(1) يأتي عزوها.
((إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي)) (1).
وقال رجل لابن عمر: ((أرأيت
…
أرأيت)) (2).
فقال له: ((اجعل أرأيت في اليمن
…
)).
قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله:
((قوله: ((اجعل أرأيت باليمن))، يُرِيدُ: الإنكارَ عليه أن يقابل خَبَرَهُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعاذير، والتمحلات، وليس هذا من أدب المسلمين، بل يجب على المسلم إذا سمع الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله، دون تردد، أو تلكؤ، وما ينبغي له إلا السمع والطاعة)) (3).
سواء أَدْرَكَ المقصودَ من الحديث أم لم يدركه، وسواء قَبِلَهُ عَقْلُهُ أم لم يقبله؛ لأن الْمُتَّبِعَ يُخْضِعُ عَقْلَهُ لشرعه، وَلَا يُخْضِعُ شَرْعَهُ لعقله.
وقصة صبيغ مع عمر رضي الله عنه من أوضح الأدلة على ضلال أصحاب ((أرأيت)) الذين لا يقيمون للاتباع وزنا.
إذ جاء صَبِيغٌ الصحابةَ رضي الله عنهم يسألهم عن متشابه القرآن، وأراد أن يُعْمِلَ فيها فِكْرُهُ، وأن يفهمها بعقله دونما الرجوع إلى الأثر والاتباع، وألقى بِشُبَهِهِ على الصحابة، فما كان من هؤلاء الْمُتَرَبِّينَ على يد سيد الْمُرَبِّينَ، وإمام المتبعين صلى الله عليه وسلم، إلا أن أمسكوا عن الجواب، وعزفوا عن الرد، ثم أخبروا عُمَرَ رضي الله عنه وعنهم أجمعين- بما حدث.
(1) مسلم (1/ 37)، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنة (2/ 142)، وغيرهما.
(2)
البخاري (1/ 496)، وأحمد (2/ 152)، وغيرهما.
(3)
تحقيق أحمد شاكر للمسند (رقم 6396).
وَلِمَ لا يمسكون، ولأمير المؤمنين لا يخبرون! وهو أمر جَلَلٌ؟ !
فالرأي صار حَكَمًا، والعقل أصبح مرجعًا لفهم القرآن دونما الأثر والاتباع.
فأخذه عمر، وجلده، ثم حبسه، ثم جلده، وحبسه ثم جلده، وحبسه ثم قال صَبِيغٌ: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد قتلي فاقتلني، ولكن قد ذهب الذي أشكو، فنفاه إلى العراق، ومنعه من مجالسة الناس، ثم صلح حاله، فلما قامت فتنة الخوارج -فتنة الفكر والتقول على الله تعالى بغير علم- جاء الناسُ صَبِيغًا، فقالوا:
قم يا صبيغ، فقد جاء دورك، فقال: أَدَّبَنِي الْعَبْدُ الصَّالِحُ. (1)
فَتَدَبَّرْ هذا الجزاء القاسي، والتأديب الشديد من أمير المؤمنين، سيد المتبعين في زمانه، لِمَنْ أراد أَنْ يُعْمِلَ عقله، ويُحكِّمه على كتاب خالقه العليم الخبير.
وَسُئِلَ عطاء عن شيء، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيه برأيك؟ قال: ((إِنِّي أَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ يُدَانَ فِي الْأَرْضِ بِرَأْيِي)) (2).
فهذا حال عطاء رحمه الله .. وما أدراك ما عطاء بن أبي رباح
…
قال الذهبي (3) عن عطاء هذا: ((شَيْخُ الْإِسْلَامِ، أَدْرَكَ مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)).
وقال ابن عباس: ((تَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ وَعِنْدَكُمْ عَطَاءٌ حَجَّ سَبْعِينَ
(1) الدارمي (1/ 67) والآجري في الشريعة (148) وابن عساكر في تاريخ دمشق (8/ 330) وابن وضاح (56) وذكره الخلال (228) والشاطبي في الاعتصام (1/ 80) وابن حجر في الإصابة (3/ 258) وغيرهم.
(2)
الدارمي (المقدمة رقم 107).
(3)
سير أعلام النبلاء (5/ 78).
حَجَّةً؟ ! )).
قال أبو حازم: ((فَاقَ عَطَاءٌ أَهْلَ مَكَّةَ فِي الْفَتْوَى)).
وقال محمد بن عبد الله الديباج: ((مَا رَأَيْتُ مُفْتِيًا خَيْرًا مِنْ عَطَاءٍ)).
وسأل سليمانُ بن هشام قتادةَ -المفسر المشهور-: هل في البلد -يعني مكة- أَحَدٌ -يعني من العلماء-؟
فقال: ((أَقْدَمُ رَجُلٍ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ عِلْمًا عَطَاءٌ .. )).
وإذا كان هذا الإمام يقول: ((إني أستحيي من الله أن يدان في الأرض برأيي))، فكيف بمن لا يصلح أن يكون خادمًا له! ولا يعرف من العلم الشرعي شيئًا؟ ! .. يُشَرِّعُ برأيه .. ويرسم سبيلًا برأيه .. ويجعله دينًا للعباد .. ويخالف سبيل المؤمنين -سبيل السلف- برأيه .. إِنَّ هذا لهو الفساد بعينه، نعوذ بالله من الفساد.
وعن عروة بن الزبير قال:
((مَا زَالَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ، فَقَالُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ، فَأَضَلُّوهُمْ)) (1).
وعن الزِّبْرِقَانِ قَالَ: نَهَانِي أَبُو وَائِلٍ (2) أَنْ أُجَالِسَ أَصْحَابَ ((أَرَأَيْتَ)).
(1) الدارمي (المقدمة رقم 120).
(2)
أبو وائل: هو شقيق بن سلمة، أحد أئمة التابعين الأخيار، قال الذهبي: الإمام الكبير، شيخ الكوفة، مخضرم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وما رآه.
حَدَّثَ عن أكابر الصحابة؛ كعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وأبي هريرة، رضي الله عنهم.
تعلم القرآن في شهرين، قال عنه إبراهيم: إني لأحسبه ممن يُدْفَعُ عَنَّا به.
وقال ابن معين: لا يسأل عن مثله.
وقال الذهبي: قد كان هذا السيد رأسًا في العلم والعمل. ((سير أعلام النبلاء)) (4/ 161).
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: ((مَا حَدَّثُوكَ هَؤُلَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخُذْ بِهِ، وَمَا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحُشِّ)) (1).
ولقد كان من الأخطاء الجسيمة التي نشأ عليها كثير من شباب هذه الصحوة بخاصة، والمسلمون بعامة؛ عَدَمُ إدراك هذه القضايا التأصيلية العظيمة .. فلا يفرقون بين أثر ورأي، ولا بين اتباع وفكر .. فأتهاهم من أتاهم، فحرك حماسهم، وَهَيَّجَ نفوسهم .. فهبوا مع الرياح .. وطاروا مع كل جناح .. فكانت الأجنحة من هواء .. فسقطوا إذ سقط، وفروا إذ أُسِرَ .. ويئسوا إذ قُتِلَ.
فما أضعفَ عقولَ ((الأرائيين))، وما أضلهم!
وما أعقلَ المتبعين، وما أهداهم! جعلنا الله وإياكم منهم.
وإنه لمن الغش لهذه الأمة أن يُجْعَلَ رأي ارتآه رجل دينًا لها يُدْعَى إليه، وَيُنَافَحُ عنه.
وإن من أبرز صفات العاقل:
أن يميِّز بين الأثر الذي هو من الرب الحكيم الجبار، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي هو دين يجب أن تدين به الأمة، وبين الرأي الذي هو رأي لضعيف مربوب، وفكر مخلوق، وما لم يفرق الناس بين هذا وذاك فَهُمْ في هلكة.
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه:
((إِيَّاكُمْ وَأَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ)) (2).
(1) الحش: المكان الذي تُقضى فيه الحاجة، ويُلقى فيه القذر.
(2)
عزاه ابن القيم في إعلام الموقعين لسنن سعيد بن منصور، وذكر سنده (1/ 57).
ومن الآراء المبتدعة المعاصرة:
- جواز وجود المعارضة للحاكم المسلم.
- جواز تعدد الأحزاب في الدولة المسلمة.
- الدعوة لتوحيد الجماعات الإسلامية على غير أسس شرعية إلا أساس ((اسكنوا نسكت))!
- جواز حكم المسلمين بحاكم غير مسلم يطبق الشريعة.
- إيجاد قواعد فقهية غير قواعد السلف الصالح.
- إعذار أهل البدع في بدعهم.
وغير ذلك مما لا يُصَدَّقُ لولا ثبوته!
والله المستعان، وعليه الهداية إلى سواء الصراط.