الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1393 - عَليّ بن عبد الْكَافِي بن عَليّ بن تَمام بن يُوسُف بن مُوسَى بن تَمام ابْن حَامِد بن يحيى بن عمر بن عُثْمَان بن عَليّ بن مسوار بن سوار ابْن سليم السُّبْكِيّ
الشَّيْخ الإِمَام الْفَقِيه الْمُحدث الْحَافِظ الْمُفَسّر الْمُقْرِئ الأصولي الْمُتَكَلّم النَّحْوِيّ
اللّغَوِيّ الأديب الْحَكِيم المنطقي الجدلي الخلافي النظار
شيخ الْإِسْلَام قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين أَبُو الْحسن
(إِمَام النَّاس جَامع كل علم
…
فريد الدَّهْر أسمى من تسامى)
(لَهُ التَّفْسِير لِلْقُرْآنِ أَلْقَت
…
إِلَيْهِ معادن الْعلم الزماما)
(وَفِي فن الحَدِيث إِلَيْهِ تنضى
…
ركائب من يه طلب القياما)
(وَفِي فن الْأُصُول لَهُ سمو
…
وَفِي نوع الْفُرُوع غَدا الهماما)
(وَفِي الْعَرَبيَّة الْأَمْثَال سَارَتْ
…
بهَا فِي الْخَافِقين لَهُ دواما)
(حوى لُغَة وتصريفا ونحوا
…
وأبياتا بِهِ تسمو نظاما)
(وأنسابا وتاريخا مُبينًا
…
لأحوال الَّذين غدوا عظاما)
(بديع بَيَان أسلوب الْمعَانِي
…
إِذا شرح اسْمهَا للمرء هاما)
(وَفِي علم الْعرُوض وَفِي القوافي
…
وَالِاسْتِدْلَال لم يأل اهتماما)
(وَفِي علم الْكَلَام وكل بحث
…
غَدا الحبر الْمُقدم والإماما)
شيخ الْمُسلمين فِي زَمَانه والداعي إِلَى الله فِي سره وإعلانه والمناضل عَن الدّين الحنيفي بقلمه وَلسَانه
أستاذ الأستاذين وَأحد الْمُجْتَهدين وخصم المناظرين
جَامع أشتات الْعُلُوم والمبرز فِي الْمَنْقُول مِنْهَا وَالْمَفْهُوم والمشمر فِي رضَا الْحق وَقد أَضَاءَت النُّجُوم
شَافِعِيّ الزَّمَان وَحجَّة الْإِسْلَام الْمَنْصُوب من طرق الْجنان والمرجع إِذا دجت مشكلة وَغَابَتْ عَن العيان
عباب لَا تكدره الدلاء وسحاب تتقاصر عَنهُ الأنواء وَبَاب للْعلم فِي عصره وَكَيف لَا وَهُوَ عَليّ الَّذِي تمت بِهِ النعماء
(وَكَانَ من الْعُلُوم بِحَيْثُ يقْضى
…
لَهُ من كل علم بِالْجَمِيعِ)
وَكَانَ من الْوَرع وَالدّين وسلوك سَبِيل الأقدمين على سنَن ويقين إِن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ
صادع بِالْحَقِّ لَا يخَاف لومة لائم صَادِق فِي النِّيَّة لَا يختشي بطشة ظَالِم صابر وَإِن ازدحمت الضراغم
مَنُوط بِهِ أَمر المشكلات فِي دياجيها محطوط عَن قدره السَّمَاء ودراريها مَبْسُوط قلمه وَلسَانه فِي الْأمة وفتاويها
شيخ الْوَقْف حَالا وعلما وَإِمَام التَّحْقِيق حَقِيقَة ورسما وَعلم الْأَعْلَام فعلا واسما
(إِذا تغلغل فكر الْمَرْء فِي طرف
…
من مجده غرقت فِيهِ خواطره)
لَا يرى الدُّنْيَا إِلَّا هباء منثورا وَلَا يدْرِي كَيفَ يجلب الدِّرْهَم فَرحا وَالدِّينَار
سُرُورًا وَلَا يَنْفَكّ يَتْلُو الْقُرْآن قَائِما وَقَاعِدا رَاكِبًا وماشيا وَلَو كَانَ مَرِيضا مَعْذُورًا
وَكَانَ دعواته تخترق السَّبع الطباق وتفترق بركاتها فتملأ الأفاق وتسترق خبر السَّمَاء وَكَيف لَا وَقد رفعت على يَد ولي الله تفتح لَهُ أَبْوَابهَا ذَوَات الإغلاق
وَكَانَت يَدَاهُ بِالْكَرمِ مبسوطتين لَا يُقَاس إِلَّا بحاتم وَلَا ينشد إِلَّا
(على قدر أهل الْعَزْم تَأتي العزائم
…
)
وَلَا يعرف إِلَّا الْعَطاء الجزل
(وَتَأْتِي على قدر الْكِرَام المكارم
…
)
(يَد تلوح لأفواه تقبلهَا
…
فتستقل الثريا أَن تكون فَمَا)
(وللمعاني الحسان الغر تَكْتُبهَا
…
بِأَحْسَن الْخط لما تمسك القلما)
(وللعفاة لتوليهم عوائدها
…
فَلَا يرى الْغَيْث شَيْئا لَو وفى وهمى)
(وللدعائي طول اللَّيْل يرفعها
…
إِلَى الْإِلَه ليولين بِهِ النعما)
(أعظم بهَا نعما كالبحر ملتطما
…
والغيث منسجما والجود منقسما)
يواظب على الْقُرْآن سرا وجهرا لَا يقرن ختام ختمة إِلَّا بِالشُّرُوعِ فِي أُخْرَى وَلَا يفْتَتح بعد الْفَاتِحَة إِلَّا سُورَة تترى
مَعَ تقشف لَا يتردع مَعَه غير ثوب العفاف وَلَا يتطلع إِلَى مَا فَوق مِقْدَار الكفاف وَلَا يتنوع إِلَّا فِي أَصْنَاف هَذِه الْأَوْصَاف
يقطع اللَّيْل تسبيحا وقرآنا وقياما لله لَا يُفَارِقهُ أَحْيَانًا وبكاء يفِيض من خشيَة الله ألوانا
أقسم بِاللَّه أَنه لفوق مَا وَصفته وَإِنِّي لناطق بهَا وغالب ظَنِّي أَنِّي مَا أنصفته وَإِن الغبي سيظن فِي أمرا مَا تصورته
(وَمَا عَليّ إِذا مَا قلت معتقدي
…
دع الحسود يظنّ السوء عُدْوانًا)
(هَذَا الَّذِي تعرف الْأَمْلَاك سيرته
…
إِذا ادلهم دجى لم يبْق سهرانا)
(هَذَا الَّذِي يسمع الرَّحْمَن صائحه
…
إِذا بَكَى وأفاض الدمع ألوانا)
(هَذَا الَّذِي يسمع الرَّحْمَن دَعوته
…
إِذا تقَارب وَقت الْفجْر أَو حانا)
(هَذَا الَّذِي تعرف الغبراء جَبهته
…
من السُّجُود طوال اللَّيْل عرفانا)
(هَذَا الَّذِي لم يُغَادر سيل مدمعه
…
أَرْكَان شبيبته الْبَيْضَاء أَحْيَانًا)
(وَالله وَالله وَالله الْعَظِيم وَمن
…
أَقَامَهُ حجَّة فِي الْعَصْر برهانا)
(وحافظا لنظام الشَّرْع ينصره
…
نصرا يلقيه من ذِي الْعَرْش غفرانا)
(كل الَّذِي قلت بعض من مناقبه
…
مَا زِدْت إِلَّا لعَلي زِدْت نُقْصَانا)
وَمَا زَالَ فِي علم يرفعهُ وتصنيف يَضَعهُ وشتات تَحْقِيق يجمعه إِلَى أَن سَار إِلَى دَار الْقَرار وَمَا سَاد أحد ناواه وَلَا كَانَ ذَا استبصار وَلَا سَاءَ من وَالَاهُ بل عَمه
بِالْفَضْلِ المدرار وَلَا سَاغَ بسوى طَرِيقه الاهتداء وَالِاعْتِبَار وَلَا ساح بِغَيْر نَادِيه نيل يخجل وابل الأمطار وَلَا ساخ قدم فَتى قَامَ بنصرته وَقَالَ أنْصر بَقِيَّة الْأَنْصَار وَلَا سَالَ إِلَّا ويداه مبسوطتان وابل كرم فِي هَذِه الديار وَلَا سامة أحد بِسوء إِلَّا وَكَانَت عَلَيْهِ دَائِرَة الْفلك الدوار وَلَا سَاقه الله حِين قَبضه إِلَّا إِلَى جنَّة عدن أعدت لأمثاله من الْمُتَّقِينَ الْأَبْرَار
ولد فِي ثَالِث صفر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وتفقه فِي صغره على وَالِده وَكَانَ من الِاشْتِغَال على جَانب عَظِيم بِحَيْثُ يسْتَغْرق غَالب ليله وَجَمِيع نَهَاره وَحكى لي أَنه لم يَأْكُل لحم الْغنم إِلَّا بعد الْعشْرين من عمره لحدة ذهنه وَأَنه كَانَ إِذا شم رَائِحَته حصل لَهُ شرى وَإِنَّمَا كَانَ يخرج من الْبَيْت صَلَاة الصُّبْح فيشتغل على الْمَشَايِخ إِلَى أَن يعود قريب الظّهْر فيجد أهل الْبَيْت قد عمِلُوا لَهُ فروجا فيأكله وَيعود إِلَى الِاشْتِغَال إِلَى الْمغرب فيأكل شَيْئا حلوا لطيفا ثمَّ يشْتَغل بِاللَّيْلِ وَهَكَذَا لَا يعرف غير ذَلِك حَتَّى ذكر لي أَن وَالِده قَالَ لأمه هَذَا الشَّاب مَا يطْلب قطّ درهما وَلَا شَيْئا فَلَعَلَّهُ يرى شَيْئا يُرِيد أَن يَأْكُلهُ فضعي فِي منديل درهما أَو دِرْهَمَيْنِ فَوضعت نصف دِرْهَم
قَالَت الْجدّة فاستمر نَحْو جمعتين وَهُوَ يعود والمنديل مَعَه وَالنّصف فِيهِ إِلَى أَن رمى بِهِ إِلَيّ وَقَالَ أيش أعمل بِهَذَا خذوه عني
وَكَانَ الله تَعَالَى قد أَقَامَ وَالِده ووالدته للْقِيَام بأَمْره فَلَا يدْرِي شَيْئا من حَال نَفسه
ثمَّ زوجه وَالِده بابنة عَمه وعمره خمس عشرَة سنة وألزمها أَن لَا تحدثه فِي شَيْء من أَمر نَفسهَا وَكَذَلِكَ ألزمها والدها وَهُوَ عَمه الشَّيْخ صدر الدّين فاستمرت مَعَه ووالده ووالدها يقومان بأمرهما وَهُوَ لَا يَرَاهَا إِلَّا وَقت النّوم وصحبته مُدَّة ثمَّ إِن والدها بلغه أَنَّهَا طالبته بِشَيْء من أَمر الدُّنْيَا فَطَلَبه وَحلف عَلَيْهِ بِالطَّلَاق ليُطَلِّقهَا فَطلقهَا فَانْظُر إِلَى اعتناء وَالِده وَعَمه بأَمْره وَكَانَ ذَلِك خوفًا مِنْهُمَا أَن يشْتَغل باله بِشَيْء غير الْعلم
ثمَّ إِنَّه دخل الْقَاهِرَة مَعَ وَالِده وَعرض محافيظ حفظهَا التَّنْبِيه وَغَيره على ابْن بنت الْأَعَز وَغَيره وَقيل إِن وَالِده دخل بِهِ إِلَى شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد عرض عَلَيْهِ التَّنْبِيه وَإِن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين قَالَ لوالده رد بِهِ إِلَى الْبر إِلَى أَن يصير فَاضلا عد بِهِ إِلَى الْقَاهِرَة فَرد بِهِ إِلَى الْبر
قَالَ الْوَالِد رحمه الله فَلم أعد إِلَّا بعد وَفَاة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ففاتتني مُجَالَسَته فِي الْعلم
وَسمعت الْوَالِد يَقُول أَنا مَا أتحقق الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَلَكِنِّي أذكر أَنِّي دخلت دَار الحَدِيث الكاملية بِالْقَاهِرَةِ وَرَأَيْت شَيخا هَيئته كَهَيئَةِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الموصوفة
لنا لَعَلَّه هُوَ وَسمعت الْحَافِظ تَقِيّ الدّين أَبَا الْفَتْح ابْن الْعم رحمه الله يَقُول هُوَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَلَكِن الشَّيْخ الإِمَام لورعه لَا يجْزم مَعَ أدنى احْتِمَال
ثمَّ لما دخل الْقَاهِرَة بعد أَن صَار فَاضلا تفقه على شَافِعِيّ الزَّمَان الْفَقِيه نجم الدّين ابْن الرّفْعَة وَقَرَأَ الْأَصْلَيْنِ وَسَائِر المعقولات على الإِمَام النظار عَلَاء الدّين الْبَاجِيّ والمنطق وَالْخلاف على سيف الدّين الْبَغْدَادِيّ وَالتَّفْسِير على الشَّيْخ علم الدّين الْعِرَاقِيّ والقراءات على الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصَّائِغ والفرائض على الشَّيْخ عبد الله الغماري الْمَالِكِي
وَأخذ الحَدِيث عَن الْحَافِظ شرف الدّين الدمياطي ولازمه كثيرا ثمَّ لَازم بعده وَهُوَ كَبِير إِمَام الْفَنّ الْحَافِظ سعد الدّين الْحَارِثِيّ
وَأخذ النَّحْو عَن الشَّيْخ ابْن حَيَّان وَصَحب فِي التصوف الشَّيْخ تَاج الدّين ابْن عَطاء الله
وَسمع بالإسكندرية من أبي الْحُسَيْن يحيى بن أَحْمد بن عبد الْعَزِيز بن الصَّوَاب وَعبد الرَّحْمَن بن مخلوف بن جمَاعَة وَيحيى بن مُحَمَّد بن عبد السَّلَام
وبالقاهرة من عَليّ بن نصر بن الصَّواف وَعلي بن عِيسَى بن الْقيم وَعلي بن مُحَمَّد بن هَارُون الثَّعْلَبِيّ والحافظ أبي مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن خلف الدمياطي وشهاب بن عَليّ
المحسني وَالْحسن بن عبد الْكَرِيم سبط زِيَادَة ومُوسَى بن عَليّ بن أبي طَالب وَمُحَمّد بن عبد الْعَظِيم بن السَّقطِي وَمُحَمّد بن المكرم الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الصُّوفِي وَمُحَمّد بن نصير بن أَمِين الدولة ويوسف بن أَحْمد المشهدي وَعمر بن عبد الْعَزِيز بن الْحُسَيْن بن رَشِيق وشهدة بنت عمر بن العديم
وبدمشق من ابْن الموازيني وَابْن مشرف وَأبي بكر بن أَحْمد بن عبد الدَّائِم وَأحمد بن مُوسَى الدشتي وَعِيسَى الْمطعم وَإِسْحَاق بن أبي بكر بن النّحاس وَسليمَان بن حَمْزَة القَاضِي وَخلق
وَأَجَازَ لَهُ من بَغْدَاد الرشيد بن أبي الْقَاسِم وَإِسْمَاعِيل بن الطبال وَغَيرهمَا
وَجمع مُعْجَمه الجم الْغَفِير وَالْعدَد الْكثير وَكتب بِخَطِّهِ وَقَرَأَ الْكثير بِنَفسِهِ وَحصل الْأَجْزَاء الْأُصُول وَالْفُرُوع وَسمع الْكتب وَالْمَسَانِيد وَخرج وانتقى على كثير من شُيُوخه وَحدث بِالْقَاهِرَةِ ودمشق
سمع مِنْهُ الْحفاظ أَبُو الْحجَّاج الْمزي وَأَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ وَأَبُو مُحَمَّد البرزالي وَغَيرهم
ذكره الذَّهَبِيّ فِي المعجم الْمُخْتَص فَقَالَ القَاضِي الإِمَام الْعَلامَة الْفَقِيه الْمُحدث الْحَافِظ فَخر الْعلمَاء تَقِيّ الدّين أَبُو الْحسن السُّبْكِيّ ثمَّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي ولد القَاضِي الْكَبِير زين الدّين
مولده سنة ثَلَاث وثماني وسِتمِائَة
سمع من الدمياطي وطبقته وبالثغر من شَيخنَا يحيى الصَّوَاب لحقه بآخر رَمق وبدمشق من ابْن الموازيني وَابْن مشرف وبالحرمين
وَكَانَ صَادِقا متثبتا خيرا دينا متواضعا حسن السمت من أوعية الْعلم يدْرِي الْفِقْه ويقرره وَعلم الحَدِيث ويحرره وَالْأُصُول ويقرئها والعربية ويحققها ثمَّ قَرَأَ بالروايات على تَقِيّ الدّين ابْن الصَّائِغ وصنف التصانيف المتقنة وَقد بَقِي فِي زَمَانه الملحوظ إِلَيْهِ بالتحقيق وَالْفضل
سَمِعت مِنْهُ وَسمع مني وَحكم بِالشَّام وحمدت أَحْكَامه فَالله يُؤَيّدهُ ويسدده سمعنَا مُعْجَمه بالكلاسة انْتهى
وَذكره أَيْضا فِي مُعْجم شُيُوخ وَفِي تذكرة الْحفاظ وَغَيرهمَا من كتبه
ذكره الْفَاضِل الأديب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى بن فضل الله الْعمريّ فِي كتاب مسالك الْأَبْصَار فَقَالَ بعد ذكر نسبه حجَّة الْمذَاهب مفتي الْفرق قدوة الْحفاظ آخر الْمُجْتَهدين قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين أَبُو الْحسن صَاحب التصانيف التقي الْبر الْعلي الْقدر
سمي عَليّ كرم الله وَجهه الَّذِي هُوَ بَاب الْعلم وَلَا غرو أَن كَانَ هَذَا الْمدْخل إِلَى ذَلِك الْبَاب والمستخرج من دَقِيق ذَلِك الْفضل هَذَا اللّبَاب والمستمير من تِلْكَ الْمَدِينَة الَّتِي ذَلِك الْبَاب بَابهَا والواقف عَلَيْهَا من سميه فَذَاك بَابهَا وَهَذَا بوابها
وبحر لَا يعرف لَهُ عبر وَصدر لَا يداخله كبر وأفق لَا تقيسه كف
الثريا بشبر وأصيل قدره أجل مِمَّا يموه بِهِ لجين النَّهَار ذائب التبر
إِمَام نَاضِح عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بنضاله وجاهد بجداله وَلم يلطخ بالدماء حد نصاله
حمى جناب النُّبُوَّة الشريف بقيامه فِي نَصره وتسديد سهامه للذب عَنهُ من كنَانَة مصره فَلم يخط على بعد الديار سَهْمه الراشق وَلم يخف مسام تِلْكَ الدسائس فهمه الناشق
ثمَّ لم يزل حَتَّى نقي الصُّدُور من شبه دنسها وَوُقِيَ من الْوُقُوع فِي ظلم حندسها
قَامَ حِين خلط على ابْن تَيْمِية الْأَمر وسول لَهُ قرينه الْخَوْض فِي ضحضاح ذَلِك الْجَمْر حِين سد بَاب الْوَسِيلَة يغْفر الله لَهُ وَلَا حرمهَا وَأنكر شدّ الرّحال لمُجَرّد الزِّيَارَة لَا واخذه الله وَقطع رَحمهَا
وَمَا برح يدلج ويسير حَتَّى نصر صَاحب ذَلِك الْحمى الَّذِي لَا ينتهك نصرا مؤزرا وكشف من خبء الضمائر فِي الصُّدُور عَنهُ صَدرا موغرا فَأمْسك مَا تماسك من بَاقِي العرى وَحصل أجرا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة يرى حَتَّى سهل السَّبِيل إِلَى زِيَارَة صَاحب الْقَبْر عليه الصلاة والسلام وَقد كَادَت تزور عَنهُ قسرا صُدُور الركائب وتجر قهرا أَعِنَّة الْقُلُوب وَهن لوائب بِتِلْكَ الشُّبْهَة الَّتِي كَادَت شرارتها تعلق بحداد
الأوهام وتمد غيهب صداها صدأ على مزايا الأفهام وهيهات كَيفَ يزار الْمَسْجِد وَيخْفى صَاحبه صلى الله عليه وسلم أَو يخفيه الْإِبْهَام أَو تذاد الْمطِي عَنهُ وَهِي تتراشق إِلَيْهِ كالسهام ولولاه صلى الله عليه وسلم لما عرف تَفْضِيل ذَلِك الْمَسْجِد وَلَا يم إِلَى ذَلِك الْمحل تأميل المغير وَلَا المنجد ولولاه لما قدس الْوَادي وَلَا أسس على التَّقْوَى مَسْجِد فِي ذَلِك النادي وَكَذَلِكَ قبلهَا شكر الله لَهُ قَامَ فِي لُزُوم مَا انْعَقَد عَلَيْهِ الْإِجْمَاع وَبعد الظُّهُور بمخالفته على الأطماع
وَمنع فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق أَن تجْرِي فِي الْكَفَّارَة مجْرى الْيَمين وَأَن تجلى فِي صُورَة إِن حققت لَا تبين خوفًا على مَحْفُوظ الْأَنْسَاب ومحظوظ الأحساب لما كَانَت تُؤدِّي إِلَيْهِ هَذِه الْعَظِيمَة وتستولي عَلَيْهِ هَذِه الْمُصِيبَة العميمة
وصنف فِي الرَّد على هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ كِتَابيه بل جرد سَيْفه وأرهف ذبابيه ورد الْقرن وَهُوَ ألذ خصيم وَشد عَلَيْهِ وَهُوَ يشد على غير هزيم وقابله وَهُوَ الشَّمْس الَّتِي تعشي الْأَبْصَار وقاتله وَكم جهد مَا يثبت البطل لعَلي وَفِي يَده ذُو الفقار
(وتطاعنا وتواقفت خيلاهما
…
وَكِلَاهُمَا بَطل اللِّقَاء مقنع)
وَمَا زَالا حَتَّى تقصدت الصفاح وتقصفت الرماح وتحيفت الْكَلم الْأَدِلَّة وجف الْقَلَم حَتَّى لم يبْق فِي فِيهِ بلة وانجلت غياهب ذَلِك العثير تبرق فِيهِ صفحات الْحق السوي والحظ السعيد النَّبَوِيّ والنصر المحمدي إِلَّا أَنه بالفتوح الْعلوِي بجهاد أيد صَاحب الشَّرِيعَة وآزره ورد على من سد بَاب الذريعة وخذل ناصره وأمضى يسابق إِلَيْهِ مرمى طرفه
جواد جرى على أعراقه وَجَاء على إِثْر سباقه
من عِصَابَة الْأَنْصَار حَيْثُ يعرف فِي الْحسب التليد ويدخر شرف النّسَب للمواليد وتصغر عظائم الأخيار وتصعر هَامة كل جَبَّار وتنشر ذؤابة يعرب على كتف شرفها وتركز عِصَابَة الْمجد المؤثل لسلفها
(وَالله أَوْس آخَرُونَ وخزرج
…
)
لَا بل هُوَ مِمَّن تشيدت بِهِ حصونهم الحصينة وحميت بِهِ أَن يدْخل الدَّجَّال أنقاب الْمَدِينَة واستله الفخار من بقايا تِلْكَ الأسرة فِي أكْرم ظُهُورهَا وَأعظم شموسها
المجللة للآفاق بظهورها وَأَعْلَى آياتها فِي مراقي الشَّرِيعَة الشَّرِيفَة درجا وَأسرى فِي أرجاء طيبَة الطّيبَة أرجا وأحوى لعلومها أشتاتا ولعلوها فِي أَسَانِيد العوالي إِثْبَاتًا ولحنوها على من نزل بهَا فِيمَا هُوَ أدفأ وأكن أبياتا وأسكن فِي صُدُور محافلها من الْأَسْرَار وأطلع فِي أفق جحافلها من الأقمار
بزغ من مطلع الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَنزع بِهِ عرقه إِلَى التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان وَهُوَ مثلهم إِن لم يكن مِنْهُم
ثمَّ خرج من بَيت الوزارة حَتَّى تتقاصر النُّجُوم وتتناصر ثمَّ تتناصف الْخُصُوم وتخفض أَعْنَاق الغيوم وَيجْرِي رحضاء الْبَرْق كَأَنَّهُ مَحْمُوم وتخضر أندية الْأُفق وَسُهيْل قد نبذ بالعراء كَأَنَّهُ ملوم ويسري هودج النَّجْم وَكَأَنَّهُ برسن الجوزاء مزموم ويباري صدر صَدره اللَّيْل فيربد حنقا وَلَو ألقِي فِي تياره لما اسْتَطَاعَ أَن يقوم ويتطاير زبد شبهه ويتنفس سحره كَأَنَّهُ مظلوم وَيظْهر على آخر فجره ثمَّ يخفى كَأَنَّهُ غيظ مكظوم ويضاهي مرآه مرْآة الضوي النَّهَار وأنى لَهُ وَوجه صباحه كَأَنَّهُ من حمرَة الشَّفق ملطوم وَلَو بذل ألفا مثل دِينَار شمسه لما بلغ مَا يروم
وبرز فِي طلب الْعلم حَتَّى أسكت لِسَان كل مُتَكَلم وأمات ذكر كل مُتَقَدم
وَأَحْيَا إِمَامَة الشَّافِعِي بنشر مذْهبه وَنصر ذِي النّسَب الْقرشِي فِي علياء رتبه
وَقَامَ بالاحتجاج لإِمَام بني الْمطلب فِي الائتمام بشريعة سيد بني عبد الْمطلب وَإِقَامَة الْحجَّة فِي سَبَب تَقْدِيمه وَحسب مَا أحرز فِي حَدِيثه مُضَافا إِلَى قديمه يحْتَج لقوليه ويحتل كنف مذْهبه الْمُمْتَنع من طريقيه حَتَّى أَصبَحت تسفر لَهُ وجوهه سافرة النقب ضاهرة المحاسن من وَرَاء الْحجب
لَا ترد الهيم إِلَّا حياضة وَلَا يعد النسيم إِلَّا رياضة حَتَّى تفرد وَالزَّمَان بِعَدَد أَهله مشحون وَالْعصر بمحاسن بنيه مفتون وساد أهل مصر قاطبة واستوطنها وضرتها الشَّام لَهُ خاطبة وَكَانَ بهَا لدين يقيمه ويقين يديمه وتقى هُوَ وَصفه وَعلا أَرَادَ مطاولتها الطود وَمَا هُوَ نصفه
وَقطع بهَا مُدَّة مقَامه فِي علم ينشره وَحقّ ينصره وضال يهديه وطالب يجديه وَسنة يؤيدها وبدعة فِي دكادك الخذلان يلحدها وزيغ يقوم منآده وزيف يعجل انتقاده وَطَرِيقَة سلف مَا عادها وَحَقِيقَة خلف مَا أنكرتها عَداهَا
وفتاو يعْتَمد عَلَيْهَا فُقَهَاء الْآفَاق ويستند إِلَيْهَا عُلَمَاء مصر وَالشَّام وَالْعراق
وتصانيف هِيَ جادة السَّبِيل ومادة الدَّلِيل تصد الأضاليل وَترد الأباطيل وَترد على الْعلمَاء فغاية الْمجِيد أَن يستحضر مَا حوته من نقُول أَو يَمْتَد إِلَى أَن يعد نَفسه مَعَه فَلَا يزِيد على أَن يكْتب تَحت خطه كَذَلِك نقُول
ثمَّ ولي قَضَاء الشَّام فأزال عطله وأزاح خطله وَأصْلح فاسده ونفق كاسده وتوقل ذرْوَة منصبه حَتَّى لَا يمتطى السنام وَلَا يستصلح الْأَنَام وَلَا يُوجد المؤهل وَاحِد فِي مصر وَلَا شامه فِي الشَّام فَحكم بسيرة العمرين فِي الْإِنْصَاف وَحكى صُورَة القمرين فِي الْأَوْصَاف
وانتهت إِلَيْهِ مشيخة دَار الحَدِيث بِالِاسْتِحْقَاقِ فوليها وَعرضت لَهُ أخواتها فَمَا رضيها
وتدارك الْعلم وَلم يبْق مِنْهُ إِلَّا آخر الرمق وصان الْمَذْهَب وَمَا لَهُ وَجه إِلَّا ظَاهر الرهق
وانتاش الطّلبَة من مراقد الخمول ومقاعد الونى عَن أَوَائِل الحمول حَتَّى نقضت كواكبهم عَن مقلها الْكرَى ورفضت سحائبهم إِلَّا مُوَاصلَة السرى إِلَّا أَن كثر الْعلم وطالبه وَعز ذُو الْفضل وَصَاحبه بكرم لله دره مَا أغزره وجود مَا أقل لَدَيْهِ حد الْبَحْر وَمَا أنزره
لَو عاصره حَاتِم وَهُوَ فِي الْكَرم لما ذكر أَو كَعْب بن مامة وَقد سمح حَتَّى بحص جنَاحه لما شكر بندى يغص بِهِ الْبَحْر شرقا ويتفصد جبين السَّحَاب عرقا ويتهيبه الْبَرْق فترتعد فرائصه فرقا ويختشي صوائبه الرَّعْد فيتعوذ وَلَا يَنْفَعهُ الرقى
هَذَا كُله وَهُوَ بعض مَا فِي كرم سجاياه وَأَقل مِمَّا فِي كثير مزاياه
هَذَا إِلَى جبين كالهلال ووقار عَلَيْهِ سميا الْجلَال وأدب أعذب فِي الْمقبل من المَاء الزلَال وَأطيب فِي المقيل من برد الظلال بنوادر أحر من الْجَمْر وألعب بالعقول أسْتَغْفر الله من الْخمر
حدا على طَريقَة سلفه المعرب مَا قصرت عَن مداه الْأَوَائِل واستجدت من نداه النائل وطرف علمه مِنْهُ بِمِقْدَار مَا أَعَانَهُ على التَّفْسِير الَّذِي أسكت عَارضه كل قَائِل وَغير هَذَا من انتزاع الْميل وأقامة الدَّلَائِل
ثمَّ سرح إِلَى حَيْثُ يسرح الطّرف ويدئب الطّرف ويلم بنادي المتيمين
وَينزل بوادي سلف أهل الصبابة المغرمين ويخالط تِلْكَ الْعِصَابَة فِي كيسها وَيذكر حَدِيث ليلى وقيسها لطائف لَو أَنَّهَا لأهل ذَلِك الزَّمَان السالف لما قَالُوا الأسمار إِلَّا فِي طرائف ظرائفها وَلَا قَالُوا فِي سمُرَات الْحَيّ إِلَّا فِي ظلّ وارفها وَلَا زادوا فِي ربيع بن أبي ربيعَة إِلَّا بعض زخارفها وَلَا عدوا جميلا إِلَّا مَا نشر من فضل مطارفها وَلَا رجعُوا عَنْهَا إِلَى مَذْهَب جرير فِي أوبه وَلَا خيموا عزل الأناشيد بتوبه كل ذَلِك بِطرف أدب غض الجنى لي مِنْهُ إِلَّا إطراب السَّامع وتنويع مَا لَا إِثْم فِيهِ إِذا قيل فِي فَضله الْجَامِع هُوَ الله الْجَامِع الَّذِي لَا يضاهي بيُوت عِبَادَته الْمَسَاجِد وَلَا يساهر مقل قناديلها طرفه الهاجد وَلَا تضم ضلوع محاريها مثل صَدره وَلَا تشْتَمل أحناء عقودها على مثل سره بسيرة زينها العفاف فَمَا تدنست صحف أَيَّامهَا وأقنعها الكفاف فَمَا رَأَتْ مَا زَاد عَلَيْهِ إِلَّا من آثامها
وَقد عَادَتْ دمشق بِهِ معمورة الأندية مأثورة الأنحية باهرة الْعلمَاء ظَاهِرَة بزينة نُجُوم السَّمَاء مَاضِيَة على مَنْهَج القدماء قاضية على سواهَا بِأَن الْعلم فِيهَا بِالْحَقِيقَةِ وَفِي غَيرهَا بالأسماء
وَهَذَا هُوَ الْيَوْم وَالله يبقيه خير من أظلته خضراؤها وصغرت لَدَى قدره الْجَلِيل كبراؤها قد ملك قُلُوب أَهلهَا المتباينة وسَاق بعصاه سوائم شردها المتعاصية واستوسق بِهِ أَمر الشَّام لعَلي وَكَانَ لَا يُطِيع إِلَّا مُعَاوِيَة
انْتهى
وَذكر بعد ذَلِك شَيْئا من حَاله وَقَالَ فِي آخِره وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْعلم فِي الْقرَاءَات والْحَدِيث والأصلين وَالْفِقْه
هَذَا كَلَام ابْن فضل الله وَلَا يخفى مَا كَانَ بَينه وَبَين الْوَالِد من الشحناء
وَذكره الشَّيْخ الإِمَام الأديب صَلَاح الدّين أَبُو الصفاء خَلِيل بن أيبك الصَّفَدِي فِي كتاب أَعْيَان الْعَصْر فَقَالَ بعد ذكر نسبه الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الزَّاهِد العابد الْوَرع الخاشع البارع الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام حبر الْأمة مفتي الْفرق الْمُقْرِئ الْمُحدث الرحلة الْمُفَسّر الْفَقِيه الأصولي البليغ الأديب المنطيقي الجدلي النظار جَامع الْفُنُون عَلامَة الزَّمَان قَاضِي الْقُضَاة أوحد الْمُجْتَهدين تَقِيّ الدّين أَبُو الْحسن الْأنْصَارِيّ الخزرجي السُّبْكِيّ الشَّافِعِي الْأَشْعَرِيّ
(يَا سعد هَذَا الشَّافِعِي الَّذِي
…
بلغه الله تَعَالَى رِضَاهُ)
(يَكْفِيهِ يَوْم الْحَشْر أَن عد فِي
…
أَصْحَابه السُّبْكِيّ قَاضِي الْقُضَاة)
أما التَّفْسِير فيا إمْسَاك ابْن عَطِيَّة وَوُقُوع الرَّازِيّ مَعَه فِي رزية
وَأما الْقرَاءَات فيا بعد الداني وبخل السخاوي بإتقان السَّبع المثاني
وَأما الحَدِيث فيا هزيمَة ابْن عَسَاكِر وعي الْخَطِيب لما أَن يذاكر
وَأما الْأُصُول فيا كلال حد السَّيْف وعظمة فَخر الدّين كَيفَ تحيفها الحيف
وَأما الْفِقْه فيا وُقُوع الْجُوَيْنِيّ فِي أول مهلك من نِهَايَة الْمطلب وجر الرَّافِعِيّ إِلَى الْكسر بعد انتصاب علمه الْمَذْهَب فِي الْمَذْهَب
وَأما الْمنطق فيا إدبار دبيران وقذى عينه وابتهار الْأَبْهَرِيّ وغطاء كشفه بمينه
وَأما الْخلاف فيا نسف جبال النَّسَفِيّ وعمى العميدي فَإِن إرشاده خَفِي
وَأما النَّحْو فالفارسي ترجل إِلَيْهِ يطْلب إعظامه والزجاجي تكسر جمعه مَا فَازَ بالسلامة
وَأما اللُّغَة فالجوهري مَا لصحاحة قيمَة والأزهري أظلمت لياليه الْبَهِيمَة
وَأما الْأَدَب فَصَاحب الذَّخِيرَة استعطى وَوَاضِع الْيَتِيمَة تَركهَا وَذهب إِلَى أَهله يتمطى
وَأما الْحِفْظ فَمَا سد السلَفِي خلة ثغره وَكسر قلب الْجَوْزِيّ لما أكل الْحزن لبه وَخرج من قشره
هَذَا إِلَى إتقان فنون يطول سردها وَيشْهد الامتحان أَنه فِي الْمَجْمُوع فَردهَا واطلاع على معارف أخر وفوائد مَتى تكلم فِيهَا قلت بَحر زخر
إِذا مَشى النَّاس فِي رقراق علم كَانَ هُوَ خائض اللجة وَإِذا خبط النَّاس عشواء سَار هُوَ فِي بَيَاض المحجة
وَأما الْأَخْلَاق فَقل أَن رَأَيْتهَا فِي غَيره مَجْمُوعَة أَو وجد فِي أكياس النَّاس دِينَار على سكتها المطبوعة
فَم بسام وَوجه بَين الْجمال والجلال قسام وَخلق كَأَنَّهُ نفس السحر على الزهر نسام
وكف تخجل الغيوث من ساجمها وَتشهد البرامكة أَن نفس حَاتِم فِي نقش خاتمها
وحلم لَا يَسْتَقِيم مَعَه الْأَحْنَف وَلَا يرى الْمَأْمُون مَعَه إِلَّا خائنا عِنْد من روى أَو صنف وَلَا يُوجد لَهُ فِيهِ نَظِير وَلَا فِي غرائب أبي مخنف وَلَا يحمل عَلَيْهِ حمل فَإِنَّهُ جَاءَ فِيهِ بِالْكَيْلِ المكنف
لم أره انتقم لنَفسِهِ مَعَ الْقُدْرَة وَلَا شمت بعدو هزم بعد النُّصْرَة بل يعْفُو ويصفح عَمَّن أجرم ويتألم لمن أوقد الدَّهْر نَار حربه وأضرم
ورعاية ود لصَاحبه الَّذِي قدم عَهده وتذكر لمحاسنه الَّتِي كَاد يمحوها بعده
وطهارة لِسَان لم يسمع مِنْهُ فِي غيبَة بنت شفة وَلَا تسف طيور الْمَلَائِكَة مِنْهُ على سفه
وزهد فِي الدُّنْيَا وأقلامه تتصرف فِي الْأَمْوَال ويفضها على ممر الْأَيَّام وَالْجمع وَالْأَشْهر وَالْأَحْوَال واطراح للملبس والمأكل وعزوف عَن كل لَذَّة وإعراض عَن أَعْرَاض هَذِه الدُّنْيَا الَّتِي خلق الله النُّفُوس إِلَيْهَا مغذة
هَذَا مَا رَآهُ عياني وَختم عَلَيْهِ جناني
وَأما مَا وصف لي من قيام الدجا وَالْوُقُوف فِي مقَام الْخَوْف والرجا فَأمر أَجْزم بصدقه وَأشْهد بِحقِّهِ فَإِن هَذَا الظَّاهِر لَا يكون لَهُ بَاطِن غير هَذَا وَلَا يرى غَيره حَتَّى الْمعَاد معَاذًا
(علم الزَّمَان حِسَاب كل فَضِيلَة
…
بِجَمَاعَة كَانَت لتِلْك محركه)
(فَرَآهُمْ مُتَفَرّقين على المدا
…
فِي كل فن وَاحِدًا قد أدْركهُ)
(فَأتى بِهِ من بعدهمْ فَأتى بِمَا
…
جاؤوا بِهِ جمعا فَكَانَ الفذلكه)
ثمَّ انْدفع القَاضِي صَلَاح الدّين فِي ذكر شَيْء من أَحْوَاله وكراماته وأخباره فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبهُ وَله بِهِ خُصُوصِيَّة
رَحل الْوَالِد رحمه الله إِلَى الشَّام فِي طلب الحَدِيث فِي سنة سِتّ وَسَبْعمائة وناظر بهَا وَأقر لَهُ علماؤها وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة فِي سنة سبع مستوطنا مُقبلا على التصنيف والفتيا وشغل الطّلبَة وَتخرج بِهِ فضلاء الْعَصْر
ثمَّ حج فِي سنة سِتّ عشرَة وزار قبر الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم ثمَّ عَاد وَألقى عَصا السّفر وَاسْتقر والفتاوى ترد عَلَيْهِ من أقطار الأَرْض وَترد إِلَيْهِ بَعْضًا على بعض
وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْمَذْهَب بِمصْر فَمَا طافت على نَظِيره وَإِن سَقَاهَا النّيل وَرَوَاهَا وَلَا اشْتَمَلت على مثله أباطحها ورباها وَلَا فخرت إِلَّا بِهِ حَتَّى لقد لعبت بأعطاف البان مهاب صباها
وَفِي هَذِه الْمدَّة رد على الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس ابْن تَيْمِية فِي مَسْأَلَتي الطَّلَاق والزيارة وَألف غَالب مؤلفاته الْمَشْهُورَة كالتفسير وتكملة شرح الْمُهَذّب وَشرح الْمِنْهَاج للنووي وَغير ذَلِك من مَبْسُوط ومختصر
وطار اسْمه فَمَلَأ الأقطار وَحلق على الدُّنْيَا وَلم يكتف بِمصْر من الْأَمْصَار شهرة بَعدت أطرافا وعمدت إِلَى الرّبع العامر من جانبيه تحاول عَلَيْهِ إشرافا
وَتَمَادَى الْأَمر إِلَى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فِي تَاسِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وَكَانَ قد تهَيَّأ لملازمة بَيته وَذَلِكَ أَنه كَانَ من عَادَته من حِين يهل شهر رَجَب لَا يخرج من بَيته حَتَّى يَنْسَلِخ شهر رَمَضَان إِلَّا لصَلَاة الْجُمُعَة فَطَلَبه السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون رحمه الله وَذكر لَهُ أَن قَضَاء الشَّام قد شغر بوفاة جلال الدّين الْقزْوِينِي وأراده على ولَايَته فَأبى فَمَا زَالَ السُّلْطَان إِلَى أَن ألزمهُ بذلك بعد ممانعة طَوِيلَة فِي مجْلِس متماد يطول شَرحه فَقبل الْولَايَة يالها غلطة أُفٍّ لَهَا وورطة ليته صمم وَلَا فعلهَا
فَقدم دمشق وَسَار على مَا يَلِيق بِهِ من قدم مَا نرى القَاضِي بكارا زَاد عَلَيْهِ إِلَّا بتبكيره ومجيئه فِي أول الزَّمَان وَهَذَا جَاءَ فِي أخيره مصمما فِي الْحق لَا تَأْخُذهُ فِيهِ لومة لائم صادعا بِالشَّرْعِ لَا يهاب بَطش الظَّالِم غير ملتفت إِلَى شَفِيع وَلَا مكترث بِذِي قدر رفيع
(حَتَّى يَقُول لِسَان الْحَال ينشده
…
يَا ثَبت لله هَذَا الصَّبْر وَالْجَلد)
(الْمُسلمُونَ بِخَير مَا بقيت لَهُم
…
وَلَيْسَ بعْدك خير حِين تفتقد)
وَرُبمَا خاطبته الْمُلُوك وَهُوَ لَا يسمع لَهُم كلَاما وَلَا يرد عَلَيْهِم جَوَابا
(يدع الْجَواب فَلَا يُرَاجع هَيْبَة
…
والسائلون نواكس الأذقان)
(أدب الْوَقار وَعز سُلْطَان التقى
…
فَهُوَ الْعَزِيز وَلَيْسَ ذَا سُلْطَان)
وَجلسَ للتحديث بالكلاسة فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْحَافِظ تَقِيّ الدّين أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد اللَّطِيف السُّبْكِيّ جَمِيع مُعْجَمه الَّذِي خرجه لَهُ الْحَافِظ شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أيبك الحسامي الدمياطي رحمه الله وسَمعه عَلَيْهِ خلائق مِنْهُم الْحَافِظ الْكَبِير أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الزكي الْمزي والحافظ الْكَبِير أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الذَّهَبِيّ
وَقد تولى بِدِمَشْق مَعَ الْقَضَاء خطابة الْجَامِع الْأمَوِي وباشرها مُدَّة لَطِيفَة وأنشدني شَيخنَا الذَّهَبِيّ لنَفسِهِ إِذْ ذَاك
(لِيهن الْمِنْبَر الْأمَوِي لما
…
علاهُ الْحَاكِم الْبَحْر التقي)
(شُيُوخ الْعَصْر أحفظهم جَمِيعًا
…
وأخطبهم وأقضاهم عَليّ)
وَولي بعد وَفَاة الْحَافِظ الْمزي مشيخة دَار الحَدِيث الأشرفية فَالَّذِي نرَاهُ أَنه مَا دَخلهَا أعلم مِنْهُ وَلَا أحفظ من الْمزي وَلَا أورع من النَّوَوِيّ وَابْن الصّلاح
وَقَالَ لي شَيخنَا الذَّهَبِيّ حِين ولي الخطابة إِنَّه مَا صعد هَذَا الْمِنْبَر بعد ابْن عبد السَّلَام أعظم مِنْهُ