الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكتب إِلَيّ وَقد جمع لي بَين نيابته فِي الحكم وتوقيع الدست وَكَانَت قد وَردت عَلَيْهِ فتيا فِي لعب الشطرنج أجبنا أَيهَا الإِمَام أحلال هُوَ أم حرَام وَنحن قد عرفنَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَلَكنَّا نُرِيد أَن نَعْرِف رَأْيك واجتهادك فألقاها إِلَيّ وَقَالَ اكْتُبْ عَلَيْهَا مَبْسُوطا مستدلا ثمَّ اعرضها
فَكتبت كِتَابَة مُطَوَّلَة جَامِعَة للدلائل ونصرت مَذْهَب الشَّافِعِي فَكتب إِلَى جَانبهَا
(أموقع الدست الشريف ونائب الحكم
…
الْعَزِيز ومفتي الْإِسْلَام)
(خف من إلهك أَن يراك وَقد نهاك
…
وَمَا انْتَهَيْت وملت للآثام)
رضي الله عنه مَا كَانَ أَكثر مراقبته لرَبه سبحانه وتعالى كَانَ ربه بَين عَيْنَيْهِ فِي كل آونة
ذكر شَيْء من ثَنَاء الْأَئِمَّة عَلَيْهِ رضي الله عنه وعنهم ونفعنا بِهِ وبهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَقَلِيل مِمَّا شاهدنا من أَحْوَاله الزاهرة وأخلاقه الطاهرة وكراماته الباهرة
قد قدمنَا كَلَام الشَّيْخ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِيهِ وَقَالَ فِيهِ فِي مَكَان آخر كتبه فِي سنة عشْرين وَسَبْعمائة انْتهى إِلَيْهِ الْحِفْظ وَمَعْرِفَة الْأَثر بالديار المصرية وَله كَلَام كثير فِي تَعْظِيمه وَقد قدمنَا فِي تَرْجَمته قَوْله فِيهِ من أَبْيَات
(وكابن معِين فِي حفظ وَنقد
…
وَفِي الْفتيا كسفيان وَمَالك)
(وفخر الدّين فِي جدل وَبحث
…
وَفِي النَّحْو الْمبرد وَابْن مَالك)
وَصَحَّ من طرق شَتَّى عَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية أَنه كَانَ لَا يعظم أحدا من أهل الْعَصْر كتعظيمه لَهُ وَأَنه كَانَ كثير الثَّنَاء على تصنيفه فِي الرَّد عَلَيْهِ
وَفِي كتاب ابْن تَيْمِية الَّذِي أَلفه فِي الرَّد على الشَّيْخ الإِمَام فِي رده عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق لقد برز هَذَا على أقرانه
وَهَذَا الرَّد الَّذِي لِابْنِ تَيْمِية على الْوَالِد لم يقف عَلَيْهِ وَلَكِن سمع بِهِ وَأَنا وقفت مِنْهُ على مُجَلد
وَأما الْحَافِظ أَبُو الْحجَّاج الْمزي فَلم يكْتب بِخَطِّهِ لَفْظَة شيخ الْإِسْلَام إِلَّا لَهُ وللشيخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية وللشيخ شمس الدّين ابْن أبي عمر
وَقد قدمنَا قَول ابْن فضل الله إِنَّه مثل التَّابِعين إِن لم يكن مِنْهُم
وَكَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَبُو الْفَتْح السُّبْكِيّ رحمه الله يَقُول إِذا رَأَيْته فَكَأَنَّمَا رَأَيْت تابعيا
وَصَحَّ أَن شَيْخه الإِمَام عَلَاء الدّين الْبَاجِيّ رحمه الله أقبل عَلَيْهِ بعض الْأُمَرَاء وَكَانَ الشَّيْخ الإِمَام إِلَى جَانِبه الْأَيْمن وَعَن جَانِبه الْأَيْسَر بعض أَصْحَابه فَقعدَ الْأَمِير بَين الْبَاجِيّ وَالشَّيْخ الإِمَام ثمَّ قَالَ الْأَمِير للباجي عَن الَّذِي عَن يسَاره هَذَا إِمَام فَاضل فَقَالَ لَهُ الْبَاجِيّ أَتَدْرِي من هَذَا هُوَ إِمَام الْأَئِمَّة قَالَ من قَالَ الَّذِي جَلَست فَوْقه تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة
وَأما شَيْخه ابْن الرّفْعَة فَكَانَ يعامله مُعَاملَة الأقران ويبالغ فِي تَعْظِيمه ويعرض عَلَيْهِ مَا يصنفه فِي الْمطلب
وَكَذَلِكَ شَيْخه الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدمياطي لم يكن عِنْده أحد فِي مَنْزِلَته
وَلَو أخذت أعد مقَالَة أشياخه فِيهِ لطال الْفَصْل
وَبَلغنِي أَن ابْن الرّفْعَة حضر مرّة إِلَى مجْلِس الْحَافِظ أبي مُحَمَّد الدمياطي فَوجدَ الشَّيْخ الإِمَام
الْوَالِد بَين يَدَيْهِ فَقَالَ مُحدث أَيْضا وَكَانَ ابْن الرّفْعَة لِعَظَمَة الْوَالِد فِي الْفِقْه عِنْده يظنّ أَنه لَا يعرف سواهُ فَقَالَ الدمياطي لِابْنِ الرّفْعَة كَيفَ تَقول قَالَ قلت للسبكي مُحدث أَيْضا فَقَالَ إِمَام الْمُحدثين فَقَالَ ابْن الرّفْعَة وَإِمَام الْفُقَهَاء أَيْضا فبلغت شَيْخه الْبَاجِيّ فَقَالَ وَإِمَام الْأُصُولِيِّينَ
وَبِالْجُمْلَةِ أجمع من يعرفهُ على أَن كل ذِي فن إِذا حَضَره يتَصَوَّر فِيهِ شَيْئَيْنِ أَحدهمَا أَنه لم ير مثله فِي فنه وَالثَّانِي أَنه لَا فن لَهُ إِلَّا ذَلِك الْفَنّ
وَسمعت صاحبنا شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْخَالِق الْمَقْدِسِي الْمُقْرِئ يَقُول كنت أَقرَأ عَلَيْهِ الْقرَاءَات وَكنت لِكَثْرَة استحضاره فِيهَا أتوهم أَنه لَا يدْرِي سواهَا وَأَقُول كَيفَ يسع عمر الْإِنْسَان أَكثر من هَذَا الاستحضار
وَسمعت الشَّيْخ سيف الدّين أَبَا بكر الحريري مدرس الْمدرسَة الظَّاهِرِيَّة البرانية يَقُول لم أر فِي النَّحْو مثله وَهُوَ عِنْدِي أنحى من أبي حَيَّان
وَسمعت عَن سيف الدّين الْبَغْدَادِيّ شَيْخه فِي الْمنطق أَنه قَالَ لم أر فِي الْعَجم وَلَا فِي الْعَرَب من يعرف المعقولات مثله
وَسمعت جمَاعَة من أَرْبَاب علم الْهَيْئَة يَقُولُونَ لم نر مثله فِيهَا وَكَذَلِكَ سَمِعت جمَاعَة من أَرْبَاب علم الْحساب
وعَلى الْجُمْلَة لَا يُمَارِي فِي أَنه كَانَ إِمَام الدُّنْيَا فِي كل علم على الْإِطْلَاق إِلَّا جَاهِل بِهِ أَو معاند
وَلَقَد سَمِعت الْحَافِظ الْعَلامَة صَلَاح الدّين خَلِيل بن كيكلدي العلائي يَقُول النَّاس يَقُولُونَ مَا جَاءَ بعد الْغَزالِيّ مثله وَعِنْدِي أَنهم يظلمونه بِهَذَا وَمَا هُوَ عِنْدِي إِلَّا مثل سُفْيَان الثَّوْريّ
قلت أما أَنا فَأَقُول وَالله على لِسَان كل قَائِل كَانَ ذهنه أصح الأذهان وأسرعها نفاذا وأوثقها فهما وَكَانَ آيَة فِي استحضار التَّفْسِير ومتون الْأَحَادِيث وعزوها وَمَعْرِفَة الْعِلَل وَأَسْمَاء الرِّجَال وتراجمهم ووفياتهم وَمَعْرِفَة العالي والنازل وَالصَّحِيح والسقيم عَجِيب الاستحضار للمغازي وَالسير والأنساب وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل آيَة فِي
استحضار مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَفرق الْعلمَاء بِحَيْثُ كَانَ تبهت الْحَنَفِيَّة والمالكية والحنابلة إِذا حَضَرُوهُ لِكَثْرَة مَا يَنْقُلهُ عَن كتبهمْ الَّتِي بَين أَيْديهم آيَة فِي استحضار مَذْهَب الشَّافِعِي وشوارد فروعه بِحَيْثُ يظنّ سامعه أَنه الْبَحْر الَّذِي لَا تغيب عَنهُ شاردة إِذا ذكر فرع وَقَالَ لَا يحضرني النَّقْل فِيهِ فيعز على أَبنَاء الزَّمَان وجدانه بعد الفحص والتنقيب وَإِذا سُئِلَ عَن حَدِيث فشذ عَنهُ عسر على الْحفاظ مَعْرفَته
وَكَانَ يُقَال إِنَّه يستحضر الْكتب السِّتَّة غير مَا يستحضره من غَيرهَا من المسانيد والمعاجم والأجزاء
وَأَنا أَقُول يبعد كل الْبعد أَن يَقُول فِي حَدِيث لَا أعرف من رَوَاهُ ثمَّ يُوجد فِي شَيْء من الْكتب السِّتَّة أَو المسانيد الْمَشْهُورَة
وَأما استحضار نُصُوص الشَّافِعِي وأقواله فَكَانَ يكَاد يحفظ الْأُم ومختصر الْمُزنِيّ وأمثالهما
وَأما استحضاره فِي علم الْكَلَام والملل والنحل وعقائد الْفرق من بني آدم فَكَانَ عجبا عجابا
وَأما استحضاره لأبيات الْعَرَب وأمثالها ولغتها فَأمر غَرِيب لقد كَانُوا يقرؤون عَلَيْهِ الْكَشَّاف فَإِذا مر بهم بَيت من الشّعْر سرد القصيدة غالبها أَو عامتها من حفظه وَعَزاهَا إِلَى قَائِلهَا وَرُبمَا أَخذ فِي ذكر نظائرها بِحَيْثُ يتعجب من يحضر
وَأما استحضاره لكتاب سِيبَوَيْهٍ وَكتاب المقرب لِابْنِ عُصْفُور فَكَانَ عجيبا وَلَعَلَّه درس عَلَيْهِمَا
وَأما حفظه لشوارد اللُّغَة فَأمر مَشْهُور وَكنت أَنا أَقرَأ عَلَيْهِ فِي كتاب التَّلْخِيص للْقَاضِي جلال الدّين فِي الْمعَانِي وَالْبَيَان أَنا وَآخر معي وَلم يكن فِيمَا أَظن وقف على التَّلْخِيص قبل ذَلِك وَإِنَّمَا أقرأه لأجلي وَكُنَّا نحكم المطالعة قبل الْقِرَاءَة عَلَيْهِ فَيَجِيء فيستحضر من مِفْتَاح السكاكي وَغَيره من كَلَام أهل الْمعَانِي وَالْبَيَان مَا لم نطلع عَلَيْهِ نَحن مَعَ مبالغتنا فِي النّظر قبل الْمَجِيء ثمَّ يوشح ذَلِك بتحقيقاته الَّتِي تطرب الْعُقُول
وَكنت أَقرَأ عَلَيْهِ الْمَحْصُول للْإِمَام فَخر الدّين وَالْأَرْبَعِينَ فِي الْكَلَام لَهُ والمحصل فَكنت أرى أَنه يحفظ الثَّلَاث عَن ظهر قلب
وَأما الْمُهَذّب والوسيط فَكَانَ فِي الْغَالِب ينْقل عبارتهما بِالْفَاءِ وَالْوَاو كَأَنَّهُ درس عَلَيْهِمَا
وَأما شرح الرَّافِعِيّ الَّذِي هُوَ كتَابنَا وَنحن ندأب فِيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَو قلت كَيفَ كَانَ يستحضره لاتهمني من يسمعني
هَذَا وَكَأَنَّهُ ينظر تعليقة الشَّيْخ أبي حَامِد وَالْقَاضِي الْحُسَيْن وَالْقَاضِي أبي الطّيب والشامل والتتمة وَالنِّهَايَة وَكتب الْمحَامِلِي وَغَيرهم من قدماء الْأَصْحَاب وَيتَكَلَّم لِكَثْرَة مَا يستحضره مِنْهَا بالعبارة
حكى لي الْحَافِظ تَقِيّ الدّين ابْن رَافع قَالَ سبقنَا مرّة إِلَى الْبُسْتَان فَجِئْنَا بعده ووجدناه نَائِما فَمَا أردنَا التشويش عَلَيْهِ فَقَامَ من نَومه وَدخل الْخَلَاء على عَادَته وَكَانَ يُرِيد أَن يكون دَائِما على وضوء فَلَمَّا دخل ظهر لنا كراس تَحت رَأسه فأخذناه فَإِذا هُوَ من شرح الْمِنْهَاج وَقد كتب عَن ظهر قلب نَحْو عشرَة أوراق قَالَ فنظرها رَفِيق كَانَ معي وَقَالَ مَا أعجب لكتابته لَهَا من حفظه وَلَا مِمَّا نَقله من كَلَام الرَّافِعِيّ
وَالرَّوْضَة وَإِنَّمَا أعجب من نَقله عَن سليم فِي الْمُجَرّد وَابْن الصّباغ فِي الشَّامِل مَا نقل وَلم يكن عِنْده غير الْمِنْهَاج ودواة وورق أَبيض وَكُنَّا قد وجدنَا فِيهَا نقولا عَنْهُمَا
قلت أَنا من نظر شرح الْمِنْهَاج بِخَطِّهِ عرف أَنه كَانَ يكْتب من حفظه أَلا ترَاهُ يعْمل المسطرة وَالْوَرق على قطع الْكَبِير أحد عشر سطرا وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَنَّهُ يكْتب من رَأس الْقَلَم وَيُرِيد أَن ينظر مَا يلْحقهُ فَلذَلِك يعْمل المسطرة متسعة وَيتْرك بَيَاضًا كثيرا
قلت وَكنت أرَاهُ يكْتب متن الْمِنْهَاج ثمَّ يفكر ثمَّ يكْتب وَرُبمَا كتب الْمَتْن ثمَّ نظر الْكتب ثمَّ وَضعهَا من يَده وَانْصَرف إِلَى مَكَان آخر وَجلسَ ففكر سَاعَة ثمَّ كتب
وَكثير من مصنفاته اللطاف كتبهَا فِي دروج ورق المراسلات يَأْخُذ الأوصال ويثنيها طولا وَيجْعَل مِنْهَا كراسا وَيكْتب فِيهِ لِأَنَّهُ رُبمَا لم يكن عِنْده ورق كراريس فَيكْتب فِيهَا من رَأس الْقَلَم وَمَا ذَلِك إِلَّا فِي مَكَان لَيْسَ عِنْده فِيهِ لَا كتب وَلَا ورق النّسخ
وَأما الْبَحْث وَالتَّحْقِيق وَحسن المناظرة فقد كَانَ أستاذ زَمَانه وَفَارِس ميدانه وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي أَنه الْبَحْر الَّذِي لَا يساجل فِي ذَلِك كل ذَلِك وَهُوَ فِي عشر الثَّمَانِينَ وذهنه فِي غَايَة الاتقاد واستحضاره فِي غَايَة الازدياد
وَلما شغرت مشيخة دَار الحَدِيث الأشرفية بوفاة الْحَافِظ الْمزي عين هُوَ الذَّهَبِيّ لَهَا فَوَقع السَّعْي فِيهَا للشَّيْخ شمس الدّين ابْن النَّقِيب وَتكلم فِي حق الذَّهَبِيّ بِأَنَّهُ لَيْسَ بأشعري وَأَن الْمزي مَا وَليهَا إِذْ وَليهَا إِلَّا بعد أَن كتب خطه وَأشْهد على نَفسه بِأَنَّهُ أشعري العقيدة واتسع الْخرق فِي هَذَا فَجمع ملك الْأُمَرَاء الْأَمِير عَلَاء الدّين
ألطنبغا نَائِب الشَّام إِذْ ذَاك الْعلمَاء فَلَمَّا اسْتَشَارَ الشَّيْخ الإِمَام أَشَارَ بالذهبي فَقَامَ الصائح بَين الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والمالكية وتقفوا فِيهِ أَجْمَعُونَ وَكَانَ من الْحَاضِرين الشَّيْخ نجم الدّين القحفازي شيخ الْحَنَفِيَّة فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ الإِمَام أيش تَقول فَقَالَ
(وإليكم دَار الحَدِيث تساق
…
)
أبدل هَذَا بدار
فَاسْتحْسن الْجَمَاعَة هَذَا مِنْهُ وَدَار إِلَى ملك الْأُمَرَاء وَقَالَ أعلم النَّاس الْيَوْم بِهَذَا الْعلم قَاضِي الْقُضَاة والذهبي وقاضي الْقُضَاة أشعري قطعا وَقطع الشَّك بِالْيَقِينِ أولى
فوليها الشَّيْخ الإِمَام وَلم يكن مُخْتَارًا ذَلِك بل كَانَ يكرههُ وَقَامَ من وقته إِلَى دَار الحَدِيث وَبَين يَدَيْهِ الذَّهَبِيّ وَخلق فروى بِسَنَدِهِ من طرق شَتَّى مِنْهُ إِلَى أبي مسْهر حَدِيث يَا عبَادي وَتكلم على رِجَاله ومخرجه بِحَيْثُ لم يسع الْمجْلس الْكَلَام على
أَكثر من رجال الحَدِيث ومخرجه إِلَى أَن بهت الْحَاضِرُونَ لعلمهم أَن الشَّيْخ الإِمَام من سِنِين كَثِيرَة لَا ينظر الْأَجْزَاء وَلَا أَسمَاء الرِّجَال وَلَقَد قَالَ الذَّهَبِيّ
(وَمَا علمتني غير مَا الْقلب عالمه
…
)
وَالله كنت أعلم أَنه فَوق ذَلِك وَلَكِن مَا خطر لي أَنه مَعَ التّرْك والاشتغال بِالْقضَاءِ يحضر من غير تهيئة ويسند هَذَا الْإِسْنَاد
انْتهى
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ مَعَ صِحَة الذِّهْن واتقاده عَظِيم الحافظة لَا يكَاد يسمع شَيْئا إِلَّا حفظه وَلَا يحفظ شَيْئا فينساه وَإِن طَال بعده عَن تذكره جمعت لَهُ الحافظة الْبَالِغَة والفهم الْغَرِيب فَمَا كَانَ إِلَّا ندرة فِي النَّاس ووحق الْحق لَو لم أشاهد وَحكي لي أَن وَاحِدًا من الْعلمَاء احتوى على مثل هَذِه الْعُلُوم وَبلغ أقْصَى غاياتها نقلا وتحقيقا مَعَ صِحَة الذِّهْن وجودة المناظرة وَقُوَّة المغالبة وَحسن التصنيف وَطول الباع فِي الاستحضار واستواء الْعُلُوم بأسرها فِي نظهر أَحْسبهُ وهما
وَأَقُول كَيفَ تفي القوى البشرية بذلك وَلَكِن ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء
(وَلَيْسَ لله بمستنكر
…
أَن يجمع الْعَالم فِي وَاحِد)
كَانَ بِالآخِرَة قد أعرض عَن كَثْرَة الْبَحْث والمناظرة وَأَقْبل على التِّلَاوَة والتأله والمراقبة
وَكَانَ ينهانا عَن نوم النّصْف الثَّانِي من اللَّيْل وَيَقُول لي يَا بني تعود السهر وَلَو أَنَّك تلعب وَالْوَيْل كل الويل لمن يرَاهُ نَائِما وَقد انتصف اللَّيْل
واجتمعنا لَيْلَة أَنا والحافظ تَقِيّ الدّين أَبُو الْفَتْح وَالْأَخ المرحوم جمال الدّين الْحُسَيْن وَالشَّيْخ فَخر الدّين الأقفهسي وَغَيرهم فَقَالَ لي بعض الْحَاضِرين نشتهي أَن نسْمع مناظرته وَلَيْسَ فِينَا من يدل عَلَيْهِ غَيْرك فَقلت لَهُ الْجَمَاعَة يُرِيدُونَ سَماع مناظرتك على طَرِيق الجدل فَقَالَ بِسم الله وفهمت أَنه إِنَّمَا وَافق على ذَلِك لمحبته فِي وَفِي تعليمي
فَقَالَ أبصروا مَسْأَلَة فِيهَا أَقْوَال بِقدر عددكم وينصر كل مِنْكُم مقَالَة يختارها من تِلْكَ الْأَقْوَال وَيجْلس يبْحَث معي
فَقلت أَنا مَسْأَلَة الْحَرَام
فَقَالَ بِسم الله انصرفوا فليطالع كل مِنْكُم وَيُحَرر مَا ينصره
فقمنا وأعمل كل وَاحِد جهده ثمَّ عدنا وَقد كَاد اللَّيْل ينتصف وَهُوَ جَالس يَتْلُو هُوَ وَشَيخنَا الْمسند أَحْمد بن عَليّ الْجَزرِي الْحَنْبَلِيّ رحمه الله فَقَالَ عبد الْوَهَّاب هَات حُسَيْن هَات هَكَذَا يخصني أَنا وَأخي بالنداء
فابتدأ وَاحِد من الْجَمَاعَة فَقَالَ لَهُ إِن شِئْت كن مستدلا وَأَنا مَانع وَإِن شِئْت بِالْعَكْسِ
فحاصل الْقَضِيَّة أَن كلا منا صَار يسْتَدلّ على مقَالَته وَهُوَ يمنعهُ وَيبين فَسَاد كَلَامه إِلَى أَن يَنْقَطِع وَيَأْخُذ فِي الْكَلَام مَعَ الآخر حَتَّى انْقَطع الْجَمِيع
فَقَالَ لَهُ بَعْضنَا فَأَيْنَ الْحق
فَقَالَ أَنا أخْتَار الْمَذْهَب الْفُلَانِيّ الَّذِي كنت يَا فلَان تنصره وَنَصره إِلَى أَن قُلْنَا هُوَ الْحق ثمَّ قَالَ بل أخْتَار الْمَذْهَب الَّذِي كنت يَا فلَان تنصره
وَهَكَذَا أَخذ ينصر الْجَمِيع إِلَى أَن قَالَ لَهُ بَعْضنَا فَأَيْنَ الْبَاطِل
فَقَالَ الْآن حصحص الْحق الْمُخْتَار مَذْهَب الشَّافِعِي وَطَرِيق الرَّد على الْمَذْهَب الْفُلَانِيّ كَذَا وَالْمذهب الْفُلَانِيّ كَذَا وَالْمذهب الْفُلَانِيّ كَذَا وَقرر ذَلِك كُله إِلَى أَن قضينا الْعجب وكل منا يعرف أَن أقل مَا يكون للشَّيْخ الإِمَام عَن النّظر فِي مَسْأَلَة الْحَرَام سِنِين كَثِيرَة
وَحضر عندنَا مرّة الشَّيْخ جمال الدّين الْمزي الْحَافِظ رحمه الله إِلَى الْبُسْتَان وَكَانَ هُنَاكَ جمَاعَة من الْمَشَايِخ ي جُزْء الْأنْصَارِيّ أحضرهم الْوَالِد لإسماع الْأَطْفَال فَقَالَ لي الشَّيْخ شرف الدّين عبد الله بن الواني الْمُحدث رحمه الله كُنَّا نود لَو سمعنَا بِقِرَاءَة الشَّيْخ الإِمَام فَقلت لَهُ فَأخذ الْجُزْء وقرأه على الْجَمَاعَة قِرَاءَة قضى كل منا الْعجب من حسنها وسرعتها وبيانها
وَأما بَاب الْعِبَادَة والمراقبة فوَاللَّه مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله كَانَ دَائِم التِّلَاوَة وَالذكر وَقيام اللَّيْل جَمِيع نَومه بِالنَّهَارِ وَأكْثر ليله التِّلَاوَة وَكَانَت تِلَاوَته أَكثر من صلَاته ويتهجد بِاللَّيْلِ وَيقْرَأ جَهرا فِي النَّوَافِل وَلَا ترَاهُ فِي النَّهَار جَالِسا إِلَّا وَهُوَ يَتْلُو وَلَو كَانَ رَاكِبًا وَلَا يَتْلُو إِلَّا جَهرا وَكَانَ يَتْلُو فِي الْحمام وَفِي المسلخ
وَأما بَاب الْغَيْبَة فوَاللَّه لم أسمع اغتاب أحدا قطّ لَا من الْأَعْدَاء وَلَا من غَيرهم وَمن عَجِيب أمره أَنه كَانَ إِذا مَاتَ شخص من أعدائه يظْهر عَلَيْهِ من التألم والتأسف شَيْء كثير وَلما مَاتَ الشَّيْخ فَخر الدّين الْمصْرِيّ رثاه بِأَبْيَات شعر وتأسف عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لما مَاتَ القَاضِي شهَاب الدّين ابْن فضل الله الَّذِي سقنا كَلَامه فِيهِ فِيمَا مضى وَلَا يخفى مَا كَانَ بَينهمَا وَمن الْغَرِيب أَنه قَرَأَ طَائِفَة من الْقُرْآن ثمَّ أهداها لَهُ فَقلت لَهُ لم هَذَا أَنْت لم تظلمه قطّ وَهُوَ كَانَ يظلمك فَمَا هَذَا فَقَالَ لعَلي كرهته بقلبي فِي وَقت لحظ دُنْيَوِيّ فَانْظُر إِلَى هَذِه المراقبة
وَمِمَّا يدلك على مراقبته قَوْله فِي كتاب الحلبيات وَقد ذكر أَن القَاضِي لَا تسمع عَلَيْهِ الْبَيِّنَة فَإِن قَوْله أصدق مِنْهَا وَأَن فِي كَلَام الرَّافِعِيّ مَا يَقْتَضِي سماعهَا وَتَابعه ابْن الرّفْعَة وَأَنه لَيْسَ بِصَحِيح مَا صورته وتوقفت فِي كِتَابَة هَذَا وخشيت أَن يداخلني شَيْء لكوني قَاضِيا حَتَّى رَأَيْت فِي ورقة بخطي من نحور أَرْبَعِينَ سنة كلَاما فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَفِي آخرهَا وَمَا يَنْبَغِي أَن تسمع على القَاضِي بَيِّنَة وَلَا أَن يطْلب بِيَمِين
انْتهى
فَانْظُر خَوفه مداخلات الْأَنْفس بِحَيْثُ لَو لم يجد هَذِه الورقة السَّابِقَة على تَوليته الْقَضَاء بسنين عديدة لتوقف فِي كِتَابَة مَا اخْتَارَهُ خشيَة وفرقا على دينه جزاه الله عَن دينه خيرا
وَأما الدُّنْيَا فَلم تكن عِنْده بِشَيْء وَلَا يستكثرها فِي أحد يهب الجزيل وَلَا يرى أَنه فعل شَيْئا ويعجبني قَول الشَّيْخ جمال الدّين ابْن نباتة شَاعِر الْعَصْر فِيهِ من قصيدة امتدحه بهَا
(مُغنِي الْأَنَام فَمَا تعطل عِنْده
…
فِي الحكم غير محَاضِر الإفلاس)
(ومعجل الجدوى جزَافا لَا كمن
…
هُوَ ضَارب الْأَخْمَاس فِي الأسداس)
وَأما الصَّوْم فَكَانَ يعسر عَلَيْهِ وَلم أره يَصُوم غير رَمَضَان وست من شَوَّال قلت لَهُ لم تواظب على صَوْم سِتّ من شَوَّال فَقَالَ لِأَنَّهَا تَأتي وَقد أدمنت على الصَّوْم
وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا لحدة ذهنه واتقاد قريحته فَكَانَ لَا يُطيق الصَّوْم وَقد مَاتَ فِي عشر الثَّمَانِينَ بالحدة وَرُبمَا كَانَ يقْعد والثلج سَاقِط من السَّمَاء وَهُوَ على رَأسه طاقية
وَكَانَ يَقُول الشَّام توافقني أَكثر من مصر لبردها ويسكن ظَاهر الْبَلَد شتاء وصيفا
وَكَانَ لَا يصبر إِذا طلعت الشَّمْس إِلَى أَن يَسْتَوِي طَعَام الْبَيْت بل يَأْكُل من السُّوق وَمَا ذَلِك إِلَّا لسهره بِاللَّيْلِ مَعَ حِدة ذهنه فيجوع من طُلُوع الشَّمْس وَلَا يُطيق الصَّبْر ثمَّ إِذا أكل اجتزأ بالعلقة من الطَّعَام واليسير من الْغذَاء
وَأما مأكله وملبسه وملاذه الدُّنْيَوِيَّة فَأمر يسير جدا لَا ينظر إِلَى شَيْء من ذَلِك بل يجتزئ بِيَسِير المأكل ونزر الملبس
وَأما عدم مبالاته بِالنَّاسِ فَأمر غَرِيب وَلَقَد شاهدته غير مرّة يخرج بملوطته وعمامته الَّتِي ينَام فِيهَا إِلَى الطَّرِيق ورأيته مرّة خرج كَذَلِك وَكَانَت الملوطة الَّتِي عَلَيْهِ وسخة مقطعَة
رَاح إِلَى الْجَامِع يَوْم ختم البُخَارِيّ وَجلسَ فِي أخريات النَّاس بِحَيْثُ لم يشْعر بِهِ أحد ثمَّ كَأَنَّهُ عرضت لَهُ حَالَة فَرفع يَدَيْهِ وَتوجه ساكتا على عَادَته وَصَارَ رَافع يَدَيْهِ قبل أَن يشرعوا فِي الدُّعَاء بِنَحْوِ سَاعَة زمانية أَو أَزِيد ثمَّ اسْتمرّ كَذَلِك إِلَى أَن فرغ وَصَارَت الْعَوام يرونه ويتعجبون من لبسه وحاله ومجيئه على تِلْكَ الصُّورَة وَمَا تمّ الْمجْلس إِلَّا وَقد حضر النَّقِيب والغلمان فَقَامَ وَحضر إِلَى الْبَيْت وهم بَين يَدَيْهِ كَأَنَّهُ بَينهم غُلَام وَاحِد مِنْهُم وَعَلِيهِ من المهابة مَا لَا يعبر عَنهُ
وَكنت مَعَ ذَلِك أرَاهُ أَيَّام المواكب السُّلْطَانِيَّة يلبس الطيلسان مواظبا عَلَيْهِ وَكنت أعجب لِأَن طبعه لَا يَقْتَضِي الاكتراث بِهَذِهِ الْأُمُور فتجاسرت عَلَيْهِ وَسَأَلته فَقلت لَهُ أَنْت تقعد وتحكم وَعَلَيْك ثِيَاب مَا تَسَاوِي عشْرين درهما وأراك تحرص على لبس الطيلسان يَوْم الموكب
فَقَالَ يَا بني هَذَا صَار شعار الشَّافِعِيَّة وَلَا نُرِيد أَن ينسى وَأَنا مَا أَنا مخلد سَيَجِيءُ غَيْرِي ويلبسه فَمَا أحدث عَلَيْهِ عَادَة فِي تبطيله
ورأيته غير مرّة يكون رَاكِبًا البغلة فيجد مَاشِيا فيردفه خَلفه ويعبر الْمَدِينَة وهما كَذَلِك والنقيب والغلمان بَين يَدَيْهِ لَا يقدر أحد أَن يَعْتَرِضهُ
وَحضر مرّة ختمة بالجامع الْأمَوِي وَحَضَرت الْقُضَاة وأعيان الْبَلَد بَين يَدَيْهِ وَهُوَ جَالس فِي محراب الصَّحَابَة فَأَنْشد المنشد قصيدة الصرصري الَّتِي أَولهَا
قَلِيل لمدح الْمُصْطَفى الْخط بِالذَّهَب
…
)
فَلَمَّا قَالَ
(وَأَن ينْهض الْأَشْرَاف عِنْد سَمَاعه
…
)
الْبَيْت
حصلت للشَّيْخ الإِمَام حَالَة وَقَامَ وَاقِفًا للْحَال فَاحْتَاجَ النَّاس كلهم أَن يقومُوا فَقَامُوا أَجْمَعُونَ وحصلت سَاعَة طيبَة
وَكَانَ لَا يحابي فِي الْحق أحدا وأخباره فِي هَذَا الْبَاب عَجِيبَة حكم مرّة فِي وَاقعَة حريثا وصمم فِيهَا وعانده أرغون الكاملي نَائِب الشَّام وَكَاد الْأَمر يطلخم شاما ومصرا فَذكر القَاضِي صَلَاح الدّين الصَّفَدِي أَنه عبر إِلَيْهِ وَقَالَ يَا مَوْلَانَا قد أعذرت ووفيت مَا عَلَيْك وَهَؤُلَاء مَا يطيعون الْحق فَلم تلقي بِنَفْسِك إِلَى التَّهْلُكَة وتعاديهم قَالَ فَتَأمل فِي مَلِيًّا ثمَّ قَالَ
(وليت الَّذِي بيني وَبَيْنك عَامر
…
وبيني وَبَين الْعَالمين خراب)
وَالله لَا أرضي غير الله
قَالَ فَخرجت من عِنْده وَعرفت أَنه لَا يرجع عَن الْحق بزخارف من القَوْل
قلت وَلَقَد نزل لي شَيخنَا شمس الدّين الذَّهَبِيّ فِي حَيَاته عَن مشيخة دَار الحَدِيث الظَّاهِرِيَّة فَلم يمض النُّزُول وَقَالَ لي وَالله يَا بني أعرف أَنَّك مستحقها وَلَكِن ثمَّ مَشَايِخ هم أولى مِنْك لطعنهم فِي السن
ثمَّ لما حضرت الذَّهَبِيّ الْوَفَاة أشهد على نَفسه بِأَنَّهُ نزل لي عَنْهَا فوَاللَّه لم يمضها لي وَهَا خطه عِنْدِي يَقُول فِيهِ بعد أَن ذكر وَفَاة الذَّهَبِيّ وَقد نزل لوَلَدي عبد الْوَهَّاب عَن مشيخة الظَّاهِرِيَّة وَأَنا أعرف اسْتِحْقَاقه وَلَكِن سنّ الشَّبَاب مَنَعَنِي أَن أمضي النُّزُول لَهُ
وَلما نزل عَن مشيخة دَار الحَدِيث الأشرفية وَاتفقَ أَنه بعد أشهر حضر درسا عمله الْوَلَد تَقِيّ الدّين أَبُو حَاتِم مُحَمَّد ابْن الْأَخ شَيخنَا شيخ الْإِسْلَام بهاء الدّين أبي حَامِد سلمهما الله وَكَانَ أَشَارَ هُوَ بذلك ليفرح بتدريس ولد وَلَده بِحُضُورِهِ قبل وَفَاته قَالَ للْجَمَاعَة الْحَاضِرين مَا أعلم أحدا يصلح لمشيخة دَار الحَدِيث غير وَلَدي عبد الْوَهَّاب وشخص آخر غَائِب عَن دمشق
وَأكْثر النَّاس لم يفهم الْغَائِب وَأَنا أعرف أَنه الشَّيْخ صَلَاح الدّين العلائي شيخ بَيت الْمُقَدّس وحافظه
وَكَانَ يَقُول لي فِي أَيَّام مَرضه قبل أَن يحصل لي الْقَضَاء إياك ثمَّ إياك أَن تطلب الْقَضَاء بقلبك فضلا عَن قالبك فَأَنا أطلبه لَك لعلمي بِالْمَصْلَحَةِ فِي ولايتك لَك ولقومك وَلِلنَّاسِ وَأما أَنْت فاحذر لِئَلَّا يكلك الله إِلَيْهِ على مَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (يَا عبد الرَّحْمَن لَا تسْأَل الْإِمَارَة) الحَدِيث
وحضرته وَقد جَاءَ إِلَيْهِ بعض الْفُقَرَاء فَقَالَ أُرِيد ثَلَاثًا ولَايَة ابْني هَذَا موضعي ورؤية وَلَدي أَحْمد وموتي بِمصْر أشهد بِاللَّه لسمعت ذَلِك مِنْهُ
فَقَالَ لَهُ الْفَقِير سل الله فِي ذَلِك إِن كَانَ مصلحَة
فَقَالَ قد تحققت أَن كل وَاحِد من الثَّلَاثَة مصلحَة
فَقَالَ لَهُ الْقَضَاء مصلحَة لهَذَا
فَقَالَ نعم تحققت أَنه مصلحَة لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالدّين جَمِيعًا
وَقَالَ فِي ذَلِك الْمجْلس أَنا فِي بر وَلَدي أَحْمد يَعْنِي الْأَخ أَبَا حَامِد وَوَصفه بِالْعلمِ الْكثير
وَأما أَحْوَاله فَكَانَت عَجِيبَة جدا مَا عانده أحد إِلَّا وَأخذ سَرِيعا وَكَانَ لَا يحب أَن يظْهر عَلَيْهِ شَيْء من الكرامات ويتأذى كل الْأَذَى من ظُهُورهَا وَمِمَّنْ يظهرها وَقد اتّفقت لَهُ فِي الْقَاهِرَة ودمشق عجائب مِنْهَا واقعته فِي مشيخة جَامع طولون الَّتِي ذكرتها عِنْد ذكر قصيدته الَّتِي أَولهَا
(كَمَال الْفَتى بِالْعلمِ لَا بالمناصب
…
)
وَمِنْهَا أَنه كَانَ بِيَدِهِ تدريس المنصورية أَخذهَا عَن قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين الزرعي عِنْد ولَايَته قَضَاء الشَّام ثمَّ عزل الزرعي وأرغون النَّائِب فِي الْحجاز وَكَانَ كثير الصداقة لَهُ فَلَمَّا بلغ ذَلِك أرغون شقّ عَلَيْهِ وعزم على أَنه إِذا وصل إِلَى مصر ينْزع المنصورية من الْوَالِد ويعديها للزرعي فَلَمَّا قيل إِن أرغون وصل ويطلع غَدا بَات الْوَالِد فِي قلق لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ رزق غَيرهمَا إِلَّا الْيَسِير فَأَخْبرنِي أخي الشَّيْخ بهاء الدّين أَنه أخبرهُ أَنه صلى فِي اللَّيْل رَكْعَتَيْنِ فَسمع قَائِلا يَقُول لَهُ أرغون مَاتَ فَلَمَّا أصبح وَحضر الدَّرْس قيل لَهُ إِن أرغون طلع القلعة فَتوجه إِلَى جِهَة القلعة للسلام عَلَيْهِ فَبَلغهُ فِي الطَّرِيق أَن أرغون أمسك
وَمِنْهَا واقعته مَعَ إيتمش نَائِب الشَّام فَإِنَّهُ عانده وضاجره فَحكى لي أخي الشَّيْخ بهاء الدّين أَنه لما اشْتَدَّ بِهِ ذَلِك عزم على عزل نَفسه من الْقَضَاء فَحَضَرَ
درس الأتابيكة بالصالحية ثمَّ دخل إِلَى مَسْجِد فِي دهليزها وأغلق عَلَيْهِ الْبَاب وَصلى رَكْعَتي الاستخارة فِي ذَلِك فَلَمَّا كَانَت السَّجْدَة الثَّانِيَة من الرَّكْعَة الثَّانِيَة سمع قَائِلا يَقُول {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} فأحجم عَن ذَلِك إِلَى آخر حَيَاته
وَآخر أمره مَعَ إيتمش أَنه أَمر شاد الْأَوْقَاف بِجمع الْفُقَهَاء للْفَتْوَى عَلَيْهِ فَبينا شاد الْأَوْقَاف بعد صَلَاة الْجُمُعَة يجمعهُمْ وَإِذا بالبريدي قدم من مصر يَطْلُبهُ إِلَى بَاب السُّلْطَان معززا مكرما
وَكَانَ الإِمَام تَاج الدّين المراكشي الَّذِي ذكرت تَرْجَمته يحْكى أَنه رأى فِي مَنَامه قَائِلا يَقُول سَيَأْتِي شخص من مماليك ألجاي الدويدار يقتل هَؤُلَاءِ كلهم فَعَن قريب حضر البريدي الْمَذْكُور وَهُوَ قَيْصر مَمْلُوك ألجاي أحد مقدمي الْحلقَة وَتُوفِّي سنة سِتِّينَ وَسَبْعمائة فانطوى ذَلِك الْبسَاط وَعَاد الَّذين كَانُوا من قبل بلحظة يجمعُونَ الغض مِنْهُ واقفين على بَابه يَسْتَغْفِرُونَ ويعتذرون
وأعجب من ذَلِك أَن البريدي ذكر أَنه أَرَادَ أَن يتَخَلَّف فِي الطَّرِيق لشغل عرض لَهُ فصادف أَن غُلَامه سبقه وَمَا أمكنه التَّخَلُّف فَصَارَ غُلَامه وَهُوَ أَمَامه يَسُوق كل
السُّوق ظنا مِنْهُ أَن البريدي سبقه والبريدي يلْحقهُ إِلَى أَن وصل فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَو تَأَخّر بعده سَاعَة وَاحِدَة لحصل التَّعَب لنا
ثمَّ سَافر إِلَى مصر وَمَا اتّفقت إِقَامَته بهَا وَصَارَ يصعب عَلَيْهِ الْعود إِلَى دمشق وأيدغمش بهَا وَالْإِقَامَة مصر لَا تمكنه فبلغني أَن الْأَمِير الْكَبِير بدر الدّين جنكلي ابْن البابا وَهُوَ أكبر أُمَرَاء الدولة قَالَ نَحن مَعَ هَذَا السُّبْكِيّ فِي صداع لَا يُمكن إِقَامَته بِمصْر وَلَا يهون عَلَيْهِ عوده إِلَى دمشق وإيتمش بهَا وَلَا يمكننا عزل إيتمش بِسَبَب قَاض إِن كَانَت لَهُ كَرَامَة عِنْد الله فَالله يريحه من إيتمش فَجَاءَهُمْ الْخَبَر ثَانِي يَوْم بوفاة إيتمش فَجْأَة فَلَمَّا أَن بلغه الْخَبَر لم يزدْ على أَن ذرفت عَيناهُ بالدموع ثمَّ نَهَضَ إِلَى الصَّلَاة
وَكَانَ مِمَّن يحط عَلَيْهِ عِنْده القَاضِي شهَاب الدّين ابْن فضل الله فعزل وصودر وَاتفقَ لَهُ مَا اتّفق
وَكَانَ القَاضِي شهَاب الدّين أرسل إِلَيْهِ من قبل بِشَهْر يَقُول لَهُ مَعَ مَمْلُوكه عَرفتنِي فَقَالَ قل لَهُ نعم عرفتك وَلَكِن أَنْت مَا عَرفتنِي فَبعد شهر صودر وَاتفقَ لَهُ مَا اتّفق
وَمِنْهَا أمره مَعَ طقزتمر نَائِب الشَّام وَكَانَ من أصحب النَّاس لَهُ فِي مصر فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الشَّام غَيره الشاميون عَلَيْهِ وَأَعَانَهُمْ امْتِنَاعه من امْتِثَال أوامره فَطلب إِلَى مصر واستوحشنا من رَوَاحه فَمَا وَصلهَا إِلَّا وَهُوَ فِي النزع وَمَات
وَمِنْهَا أمره مَعَ أرغون شاه نَائِب الشَّام أَيْضا وَقد جرت لَهُ مَعَه فُصُول وَأَنا رَأَيْته مرّة يمسك بطرزه وَيَقُول لَهُ أَنا أَمُوت وَأَنت تَمُوت
وَقَالَ لَهُ مرّة يَا قَاضِي كم نَائِبا رَأَيْت فِي هَذِه الْمَدِينَة
قَالَ كَذَا كَذَا نَائِبا
فَقَالَ مَا يروحك إِلَّا أَنا
فَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام سَوف تبصر
فَبعد أَيَّام يسيرَة ذبح أرغون شاه صبرا
وَله فِيهِ أعجوبة حكى لي القَاضِي شرف الدّين خَالِد بن القيسراني موقع الدست قَالَ أَنا كنت السَّبَب فِي موت أرغون شاه
قلت كَيفَ
قَالَ لِأَنِّي غيرت خاطر أَبِيك عَلَيْهِ فَقلت لَهُ يَوْم الِاثْنَيْنِ يَوْم قَالَ لَهُ مَا قَالَ قبل أَن يجلس أرغون شاه يَا مَوْلَانَا قَاضِي الْقُضَاة نَحن نَعْرِف أَن لَك مدَدا من سيدنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهَذَا قد زَادَت إساءته عَلَيْك
فَقَالَ لي مَا نبالي اسْكُتْ إِذا تعرض للشَّرْع عَملنَا شغلنا
قَالَ فوَاللَّه لما قعدنا بدرت من أرغون شاه تِلْكَ الْكَلِمَات فِي حق والدك وكلمات أخر قبيحة فِي الشَّرْع فاتفق مَا اتّفق
قلت أما الَّذِي اتّفق لأرغون شاه فَإِنَّهُ ذبح صبرا لَيْلَة الْجُمُعَة
وَأما الَّذِي اتّفق من الشَّيْخ الإِمَام فَإنَّا صلينَا الْمغرب واجتمعنا على الْعشَاء ثمَّ صلى الشَّيْخ الإِمَام عشَاء الْآخِرَة وأوتر وَصعد السَّطْح فَحكى أهل الْبَيْت أَنه اسْتمرّ وَاقِفًا فِي السَّطْح مَكْشُوف الرَّأْس مطرقا ساكتا لَا يتَكَلَّم قَائِما على رجلَيْهِ إِلَى أَن طلع الْفجْر ثمَّ نزل فصلى الصُّبْح بِوضُوء الْعشَاء وَأَنه قَالَ للنِّسَاء وَهُوَ نَازل انْقَضى شغل أرغون شاه لَا يتَكَلَّم أحد فحسبنا
فَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء خرج الجيبغا من طرابلس وَوصل إِلَى دمشق لَيْلَة الْخَمِيس وأمسكه تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ ذبحه ثَانِي لَيْلَة
وَهَذِه كَانَت حَالَة الشَّيْخ فِي توجهه يكْشف رَأسه وَيجْعَل المنديل فِي رقبته وَيقوم على رجله مطرقا ساكتا وَيصير عَلَيْهِ من المهابة مَا يعجز الواصف عَن وَصفه ويكاد نم يرَاهُ فِي تِلْكَ الْحَالة يُوقن أَنه لَو لسعه زنبور فِي تِلْكَ الْحَالة لما أحس بِهِ
وَكَانَت أَيْضا عوائده إِذا كَانَت لَهُ حَاجَة أَن يكْتب قصَّة بِخَطِّهِ إِلَى الله تَعَالَى ويعلقها على خَشَبَة فِي السَّطْح وَرُبمَا أنزلهَا بعد أَيَّام وَكَأن ذَلِك عَلامَة قَضَاء الشّغل مَا أَدْرِي
وَهَذِه الْحِكَايَة الَّتِي لأرغون شاه أَنا سَمِعت النِّسَاء الثِّقَات فِي الْبَيْت يحكينها
وَأما أَنا فَفِي لَيْلَة الْخَمِيس بَلغنِي الْخَبَر عقيب مسك أرغون شاه فعبرت إِلَيْهِ وطرقت الْبَاب فَسمِعت صَوته فِي قِرَاءَة التَّهَجُّد فَأَمْسَكت فَقضى الرَّكْعَتَيْنِ وَخرج وَهُوَ يَتْلُو فَلَمَّا أَخذ فِي فتح الْبَاب ترك التِّلَاوَة وَقَالَ لَا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك
فَلَمَّا فتح قلت لَهُ أمسك أرغون شاه
قَالَ من قَالَ اسْكُتْ أيش هَذَا الفشار
فَمَا أَدْرِي لما قَالَ لي لَا تظهر الشماتة بأخيك هَل كَانَ ذهنه حَاضرا أَو أجراها الله على لِسَانه من غير قصد الله يعلم
وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ الْأَخ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة بهاء الدّين أَبُو حَامِد سلمه الله ونقلته من خطه قَالَ لما عدت من الْحجاز فِي الْمحرم سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة وجدته ضَعِيفا فاستشارني فِي نُزُوله لوَلَده سيدنَا قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين عَن قَضَاء الشَّام وَوَجَدته كالجازم بِأَن ذَلِك سيقع وَقَالَ لي سَبَب هَذَا أَنِّي قبل أَن أمرض بأيام أغلب ظَنِّي أَنه قَالَ خَمْسَة أَيَّام رحت إِلَى قبر الشَّيْخ حَمَّاد خَارج بَاب الصَّغِير وَجَلَست عِنْد قَبره مُنْفَردا لَيْسَ عِنْدِي أحد وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي الشَّيْخ لي ثَلَاثَة أَوْلَاد أحدهم قد رَاح إِلَى الله وَالْآخر فِي الْحجاز وَلَا أَدْرِي حَاله وَالثَّالِث هُنَا وأشتهي أَن موضعي يكون لَهُ
قَالَ فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام أغلب ظَنِّي أَنه قَالَ يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة جَاءَنِي الخالدي يُشِير إِلَى شخص كَانَ فَقِيرا صَالحا يصحب الْفُقَرَاء فَقَالَ لي فلَان يسلم عَلَيْك وَيَقُول لَك تقاطع عَلَيْهِ الدورة تروح للشَّيْخ حَمَّاد تطلب حَاجَتك مِنْهُ وَلَا تَقول لَهُ
قَالَ فَقلت لَهُ على سَبِيل الْبسط سلم عَلَيْهِ وَقل لَهُ أَلَسْت تعلم أَنه فَقير بائس وَأَنا كل أحد رَآنِي ذَاهِبًا إِلَى قبر الشَّيْخ حَمَّاد وَلَكِن الشطارة أَن تَقول لَهُ أيش هِيَ حَاجته
قَالَ فَتوجه الخالدي إِلَيْهِ ثمَّ عَاد وَقَالَ يَقُول لَك لَا تكن تعترض على الْفُقَرَاء الشَّيْخ حَمَّاد يَقُول لَك انْقَضتْ حَاجَتك الَّتِي هِيَ كَيْت وَكَيْت
قَالَ فَقلت لَهُ أما الْآن فَنعم فَإِن هَذَا لم يشْعر بِهِ أحد
قَالَ فَقلت لَهُ سَله هَل ذَلِك كشف أَو مَنَام
قَالَ فَعَاد وَقَالَ لَيْسَ ذَلِك إِلَيْك
انْتهى الْمَنْقُول من خطّ الْأَخ
وَمِنْهَا حَاله مَعَ إيتمش نَائِب الشَّام أَيْضا كرهه فِي الْآخِرَة وَكَلمه كلَاما وحشا فراح الشَّيْخ ذَلِك الْيَوْم إِلَى قبر الشَّيْخ حَمَّاد وَعَاد فَمَا مَضَت عشرَة أَيَّام إِلَّا وَجَاء الْخَبَر بعزله من نِيَابَة الشَّام
فَأشْهد على الشَّيْخ أَنه قَالَ من سَاعَة زرت قبر الشَّيْخ حَمَّاد عرفت هَذَا
وَقَالَ لي دَعَوْت عَلَيْهِ وندمت وَقَالَ لي لم أدع قبلهَا على غَيره
وَمِنْهَا حكايته مَعَ أرغون الكاملي نَائِب الشَّام أَيْضا وَآخِرهَا أَنه قَالَ كم ينغص حَالنَا الله يُقَابله
فوَاللَّه لقد عزل بعد شهر أَو أقل من نِيَابَة الشَّام وَنقل إِلَى حلب وَلم يهنأ عيشه بهَا بل عزل قَرِيبا وَنقل إِلَى مصر وَلم يهنأ بهَا بل قعد يويمات ثمَّ أمسك وأودع سجن الْإسْكَنْدَريَّة ثمَّ أخرج وَأقر بِبَيْت الْمُقَدّس إِلَى أَن مَاتَ بطالا حَزينًا كئيبا
قَالَ أخي الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَلَقَد حضر عِنْده دَار الْعدْل فِي يَوْم خَمِيس ثمَّ حضر فَأَخْبرنِي أَنه قدم إِلَيْهِ الْوَالِي شخصا لم يسْتَحق الْقَتْل فَأمره بقتْله فَالْتَفت الْوَالِد إِلَى الْوَالِي وَقَالَ هَذَا لَا يحل قَتله فتوقف الْوَالِي فَقَالَ لَهُ أرغون اقتله فَقَالَ لَهُ الْوَالِد هَذَا لَا يحل فاغتاظ أرغون من الْوَالِي فَأَخذه وَذهب بِهِ ليَقْتُلهُ
فَلَمَّا عَاد من دَار الْعدْل حكى لي الْحِكَايَة وَقَالَ لي لقد عزمت على
أَن لَا أحضر دَار عدل عِنْده أبدا بعْدهَا فَلم يتكمل النَّهَار حَتَّى ورد الْخَبَر بِأَن يلبغا نَائِب حلب خرج قادما لدمشق فسافر أرغون إِلَى جِهَة مصر ثمَّ لحلب ثمَّ لم يحضر دَار عدل بِدِمَشْق بعد ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ
وَأغْرب من ذَلِك مَا حَكَاهُ القَاضِي صَلَاح الدّين الصَّفَدِي فِي كتاب أَعْيَان الْعَصْر أَنه قَالَ عَنهُ مَا يفلح وَيَمُوت
وَأَنا أعرف وَقت هَذَا القَوْل وَسَببه كَانَ سَببه أَنه لما مرض الشَّيْخ وَصَارَ يَقُول فِي خاطري ثَلَاث عود وَلَدي أَحْمد من الْحجاز قبل موتِي وَولَايَة عبد الْوَهَّاب الْقَضَاء ووفاتي بِمصْر بعد ذَلِك وَأخذ يتَكَلَّم لي فِي الْقَضَاء قيل لَهُ إِن أرغون الكاملي قد اسْتَقر بِمصْر أَمِيرا كَبِيرا وَلَا بُد أَن يشاور على قَضَاء الشَّام وَإِن استشير فَهُوَ لَا يُشِير بابنك لبغضه فِيك
فَقَالَ أَو لَا يصل الْخَبَر إِلَّا وأرغون لَيْسَ فِي مصر وَلَا يفلح وَيَمُوت
فَكَانَ كَذَلِك
وَكَانَت أُمُوره فِي حَال مَرضه فِي غَايَة الْعجب وقاسى الشدائد وَلم يسمعهُ أحد يَقُول آه وَلَا يطْلب الْعَافِيَة بل غَايَة مَا يطْلب ولايتي ورؤية الْأَخ والوصول إِلَى مصر قبل الْوَفَاة وقضيت لَهُ الْحَاجَات الثَّلَاث
وَلم أره قطّ برح بألم يَعْتَرِضهُ وَلَا بأذى يحصل لَهُ بل يصبر عِنْد الحادثات ويحتسب رضي الله عنه
وَكَانَ كثير التَّعْظِيم للصوفية والمحبة لَهُم وَيَقُول طَرِيق الصُّوفِي إِذا صحت هِيَ طَريقَة الرشاد الَّتِي كَانَ السّلف عَلَيْهَا وَيَقُول مَعَ ذَلِك هُوَ مَسْلَك وعر جدا وينشد
(تنَازع النَّاس فِي الصُّوفِي وَاخْتلفُوا
…
قدما وظنوه مشتقا من الصُّوف)
(وَلست أنحل هَذَا الِاسْم غير فَتى
…
صافى فصوفي حَتَّى لقب الصُّوفِي)
وَكَانَت تعجبه الْفَائِدَة مِمَّن كَانَ وَلَا يستنكف أَن يسْمعهَا من صَغِير بل يستحسنها مِنْهُ
وَكَانَ كثير الْحيَاء جدا لَا يحب أَن يخجل أحدا
وَإِذا ذكر الطَّالِب بَين يَدَيْهِ الْيَسِير من الْفَائِدَة استعظمها وأوهمه أَنه لم يكن يعرفهَا لقد قَالَ لَهُ مرّة بعض الطّلبَة بحضوري حكى ابْن الرّفْعَة عَن مجلي وَجْهَيْن فِي الطَّلَاق فِي قَول الْقَائِل بعد يَمِينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى هَل هُوَ رَافع للْيَمِين فَكَأَنَّهَا لم تُوجد أَو نقُول إِنَّهَا انْعَقَدت على شَرط
فَقلت أَنا هَذَا فِي الرَّافِعِيّ أَي حَاجَة إِلَى نَقله عَن ابْن الرّفْعَة عَن مجلي
فَقَالَ لي الشَّيْخ الإِمَام اسْكُتْ من أَيْن لَك هَات النَّقْل وانزعج
فَقُمْت وأحضرت الْجُزْء من الرَّافِعِيّ وَكَانَ ذَلِك الطَّالِب قد قَامَ فوَاللَّه حِين أَقبلت بِهِ قبل أَن أَتكَلّم قَالَ الَّذِي ذكرته فِي أَوَائِل كتاب الْأَيْمَان من الرَّافِعِيّ وَأَنا أعرف