الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام نفيس لابن خلدون
يقول ابن خلدون:
"الفصل السابع: في أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب والسّبب لذلك أنّ الكسب كما قدّمناه قيمة الأعمال وأنّها متفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضروريّة في العمران عامّة البلوى به كانت قيمتها أعظم وكانت الحاجة إليها أشدّ. وأهل هذه الصّنائع الدّينيّة لا تضطرّ إليهم عامّة الخلق وإنّما يحتاج إلى ما عندهم الخواصّ ممّن أقبل على دينه. وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار والعموم فيقع الاستغناء عن هؤلاء في الأكثر. وإنّما يهتمّ بإقامة مراسمهم صاحب الدّولة بما ناله من النّظر في المصالح فيقسم لهم حظّا من الرّزق على نسبة الحاجة إليهم على النّحو الّذي قرّرناه. لا يساويهم بأهل الشّوكة ولا بأهل الصّنائع من حيث الدّين والمراسم الشّرعيّة لكنّه يقسم بحسب عموم الحاجة وضرورة أهل العمران فلا يصحّ في قسمهم إلّا القليل. وهم أيضا لشرف بضائعهم أعزّة على الخلق وعند نفوسهم فلا
يخضعون لأهل الجاه حتّى ينالوا منه حظّا يستدرّون به الرّزق بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك لما هم فيه من الشّغل بهذه البضائع الشّريفة المشتملة على إعمال الفكر والبدن. بل ولا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدّنيا لشرف بضائعهم فهم بمعزل عن ذلك، فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب. ولقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك عليّ فوقع بيدي أوراق مخرّقة من حسابات الدّواوين بدار المأمون تشتمل على كثير من الدّخل والخرج وكان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمّة والمؤذّنين فوقفته عليه وعلم منه صحّة ما قلته ورجع إليه وقضينا العجب من أسرار الله في خلقه وحكمته في عوالمه والله الخالق القادر لا ربّ سواه" (مقدمة ابن خلدون، 1/ 493).
وكلام ابن خلدون يتضمن أسراراً عديدة ملخصها على النحو الآتي:
- القائمون بأمور الدين لا تعظم ثروتهم في الغالب وهذا الأمر كان في عصر ابن خلدون وقبله وبعده.
- الأعمال الضرورية في العمران قيمتها أعظم وحاجة الناس إليها أشد، وكذلك تحسيناتها أكثر، ونتائجها أعلى.
- أهل الصنائع الدينية لا يضطر إليهم إلا في الفتاوى وحلِّ بعض النزاعات والتوجيه والإرشاد.
- يقع الاستغناء عن أهل الدين في الأكثر لأنهم لا يحتاج إليهم إلى في أوقات ومواقف محددة كما تقدم.
- توزع المرتبات من قبل أصحاب القرار في الدولة بحسب الحاجة إليهم، وأهل الدين ليسوا كغيرهم.
- عند المقارنة بين أصحاب الصنائع الهامّة وأهل الدين لا يتم مساواة حقيقيه كما يستحقون.
- أصحاب الدين وأهله يتمتعون أمام الخلق وأمام أنفسهم، ولا يخضعون لأهل الجاه.
- أهل الدين لا تتفرغ أوقاتهم لتقرب من أصحاب الجاه والسلطان ليأخذوا منهم المال.
- شرف البضاعة منع العلماء من التبذل لأصحاب الأموال.
- اعتزال أهل الدين ملذات الدنيا.
- لأجل هذه الأسباب المتقدمة كما يقول ابن خلدون لا تعظم ثروتهم.
- يعطي مثالاً تطبيقيا من واقع حياته، وهذا ما جرى عليه ابن خلدون في كتابه، والمئال من خلال النظر في
نفقات أهل الدين ومجرياتهم من الخزينة ليبرهن أن نفقاتهم أقل النفقات.
وفي كلام ابن خلدون دقه وعنايه فائقة منه بشؤون فئة شريفة من المجتمع يسلط الضوء على نفقاتهم ومجرياتهم.
وقبل هذا يقول ابن خلدون:
((وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته))
وهذه القاعدة التي بنى عليها ابن خلدون نظريته في كسب أهل الدين مقبول في المجتمعات ومطبق على أرض الواقع،
أما بخصوص القُضاة الذين شملهم ابن خلدون بكلامه فعندما احتاج الناس إلى القضاء وإنفاذ السلطة القانونية والتنفيذية ازدادت حاجتهم لأهل القضاء، وازدادت العناية بأمور القضاة.