الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا أردنا أن نتوغل في هذه الناحية وجب علينا ان ننظرها كحالات دولية، أو مناسبات سياسية، تابعة الى حقوق واسعة النطاق، وبعيدة الغور في دقتها وأصلها ولكن بصورة مصغرة
…
وهذه الحقوق متعامل عليها، ومعروفة من قديم الزمان، ومضى القوم عليها وان لم تدون، أو تسجل في شريعة، أو قانون
…
والإسلام في اوائل ظهوره دوّن بعض الوقائع المخالفة، وسجل العلماء الشائع
…
وهكذا استمر، بل ان الإسلام تأسست فيه الحقوق الصحيحة، والوقائع المتعارفة
…
وقد قبل ما يصلح ان يكون تشريعاً عاماً
…
ولم توافق الشريعة الغراء على الحرب والغزو بلا سبب صحيح، أو اعتداء ظاهر
…
وفي سعة هذه العلاقات وكثرة وقائعها لا نستغني عنها اليوم لمعرفة الحقوق القديمة عندنا، وخاصة في جزيرة العرب، وفيها ما لم ينتبه الى صور حله، وطريق حسمه، ولا يقلل من قيمة هذه الحقوق انها غير مكتوبة
…
ولكننا نقول ان العربي احفظ لعهوده، واقرب لسياسته الحقة والصريحة، لا ينكث عهده الا ان يرى من مقابله ما يدل على العداء او التحرش او الاجحاف.. وهذا لا يقع دوماً، وإنما هو قليل جداً
…
وفي الوقت نفسه نرى البدوي يثأر فلا ينسى ما أصابه من حيف، أو ناله من ظلم
…
ولهم أشعار كثيرة في الثأر والترة، مدوّنة في غالب كتب الأدب مثل ديوان الحماسة لأبي تمام، وللبحتري وسائر الكتب الأدبية
…
وهذه حالتهم حتى اليوم. وعندهم المحالف، أو الجار لا تنتهك حقوقه بوجه وانما هو محل رعاية، وكذا النزيل فان رعايته اكبر، واحترامه أزيد.
وهم في كافة أحوالهم يتجنبون الحرب ووقائعه المؤلمة بكل ما يستطيعون من قدرة وقوة، وعقلاء القوم دائماً يكبحون شرة المتهورين الجامحين، ويحذرون الفتن
…
ومع هذا اذا وقع العداء وتمكن لا تكون الحرب حاسمة، يتفقون مع المجاورين، ومن لهم صلة قربى
…
بل يجري الغزو بين آونة وأخرى، وينتهب الواحد ما تصل اليه يده
…
وفي الغالب لا هاجمون على وجه نهار، ولا دون مبالاة، وانما يأتون على حين غرة وبنتيجة حساب للأمر وافتكار فيه؛ والغالب ان القتل في الغزو غير مقصود، وانما المقصود المال، وقد يكتفون بالتهويل
…
وهكذا
…
! وفي هذه الأيام مات الغزو تقريباً. والفضل في منعه راجع الى وسائط النقل الحاضرة، وسهولة استخدامها، وتكاتف الحكومات المجاورة لقطع دابره، وتفوق الأسلحة والعدد التي لا تستطيع القبائل مقاومتها كالمدرعات والرشاشات
…
والملحوظ ان الغزو اذا قام من البين، وان (البدو) حرموا منه، ومنعوا وجب ان نساعدهم في مراعيهم، وفي تجولاتهم، وتسهيل مهمتهم ليكونوا مثمرين لا أن يكونوا عاطلين..! وهذا كل ما يتطلبه البدوي، يريد ان يسير على البسيطة بسكينة وينتفع من المراعي
…
وفي هذا ترفيه لحالته وتحسين لها
…
وهو أول عمل يجب مراعاته وتقديمه على كل عمل، ثم تراعى طرق اصلاحه الأخرى
…
3 - وقائع الغزو المشهورة
مرّ بنا ذكر بعض الحوادث، ولكن هذه كثيرة لا تحصى، ولها شواهد وقصائد مقولة ومحفوظة ليست بالقليلة.. وهذه في العراق غالباً. ولا يعوزنا تدوينها الا أن الصعوبة كل الصعوبة في معرفة تاريخ حدوثها. ولا تعد الوقائع مدونة فيما بين نفس قبائل شمر بعضها مع بعض، أو بين عنزة، أو ما يقوم بها بعض هذه القبائل نحو الأخرى
…
ومنها يتكوّن سمر القوم، وحديث مجالسهم
…
ومحفوظ كل قبيلة لا يعتبر عاماً، وان كان يلهج به القوم، ويتناقلونه
…
الا انه لا تعطف له أهمية عظيمة، ولا تكاد تعد وقائع مثل هذه، وما يتحدث به القوم من حوادث شجاعة، وما يتغنى به القوم
…
وللصائح ولزوبع وللسبعة ولغيرها وقائع كثيرة وقد تكون فيها من الغرابة ما لا يوجد في الوقائع المهمة بين القبائل العظيمة واني اشير الى بعض الحوادث التي نالت شهرة وصارت حديث المجالس
…
4 - لعيون حصة ما تمصه
حصة هذه بنت الحميدي وأخت عبد المحسن جد الشيخ محروت، وهذه شاع فيها المثل (لعيون حصة ما تمصه) . وتفصيل الواقعة ان قوم ابن هذال من عنزة اصابتهم سنة فامحلت ارضهم، فاقتضى ان يعبروا الى الجزيرة، وكان يسكنها قبائل شمر. وكان الذي عبر هو الحميدي ابن هذال، وعبرت عنزة معه، وهذه لا تفكر الا في قبائل شمر وتعدها عدوها، أو ضدها. ومن مألوف البدو أن يبعثوا ركباً يدعون الضديد (الضد) الى المسالمة. ويطلبون أن يقضوا سنتهم
…
والى مثل هذه يميل الضعيف ويطلب ما يطلب من المهادنة
…
ولكن القوي لا يمنعه مانع، ولا يركن الى هذا النوع بل يعده ذلاً، واعترافاً بالضعف، وعنزة لم ترضخ لشمر في وقت، ولم تبد اذعاناً، أو ما ماثل. وان كانت الحروب بينهم سجالاً إذا غلبت قبيلة مرة، استعادت قوتها وأخذت بحيفها مرة أخرى
…
! عبروا ولم يبالوا، ومضوا لسبيلهم. وأما شمر فقد اتخذت هذه فرصة سانحة عرضت، ومن ثم تناوخوا، والكل متأهب لقتال صاحبه، وطال المناخ لمدة شهرين ولم تكن النتيجة لصالح عنزة، وانما انتصرت شمر انتصاراً باهراً
…
وفي هذه الوقعة كانت حصة بنت الحميدي بين من أسر واستولوا عليه من نساء عنزة، والعادة ان لا يتعرض القوم للنساء، ولا يمسهن احد بسوء، ولكن هذه المرة رأت حصة اهانة من بعض افراد شمر عرف انها بنت الحميدي فتطاول عليها وطعنها.. ومن ثم صاحت حصة " الدريعي يا رجالي "! وصل خبر هذه الصيحة الى الدريعي، وكان من رؤساء عنزة المعروفين آنئذ وعادت عنزة في هذه الحرب مخذولة. أما الدريعي فانه لم ينم على هذه الندبة من حصة وأمر قبائله في سورية أن تتأهب للحرب المقبلة، وإن من كان عنده فرس ذبح مهرها لئلا تذهب قوتهامن الرضاع
…
تأهبوا لأخذ الثار ونفروا للحرب، وصاروا يخاطبون أمهارهم بقولهم:" لعيون حصة ما تمصّه " أي أن أخذ ثأر حصة دعا أن حرمناك من الرضاع من ثدي امك. والبدوي متأهب بطبعه للغزو، ولكن الاهتمام في هذه الوقعة زاد، والتأهب والعناية بلغا حدهما
…
ومن نتائج هذه ان تحالف الهذال والشعلان على ان يصدقوا الحرب، وان يكون المتقدم للحرب الهذال بقبائلهم، وطلبوا الى الشعلان أن ينهبوا ويقتلوا من يتخلف عن الحرب من قبائل الهذال، وشاع أمر ذلك، ليكون القوم على يقين من القتل والنهب فيما إذا لم يتفادوا، ويحاربوا عدوهم، وهو قوي مثلهم، لا يقعقع له بالشنان.
وفي هذه الحرب في السنة التالية لتلك الواقعة طال المناخ ثلاثة أشهر، ولم يظهر الغالب؛ و (الحمل وزان) كما يقول المثل وكان يقتل بعض الفرسان من الطرفين، وضاق الأمر بآل هذال من عنزة، وكادوا يفشلون في هذه الحرب لولا أن علم آل الشعلان بأن التناوخ دام، وطال، وعلموا أن سرح شمر كان يجري على مرادهم ولم يكن عليه خطر، بخلاف ابل عنزة فإنها لا تستطيع أن تخرج فتسرح وتمرح
…
فعلم آل الشعلان أن الأمر ضاق بآل هذال، ونفروا بعضهم لمناصرة عشائر الهذال وانقاذهم مما أصابهم من ورطة
…
ومن ثم مضوا اليهم، وأرسلوا من يخبرهم بالقصة، وأعلموهم أنه في يوم كذا سوف يهاجمون السرح لقبائل شمر، ويضعضعون أوضاعهم، ويهاجمهم آل هذال من أمامهم تأميناً للإنتصار ففعلوا
…
وفي هذه المرة، وبهذه الطريقة تمكنوا من شمر، وانتصروا عليهم، وفي هذا أظهر ابن جندل من رؤساء الجلاس تدبيره في لزوم المساعدة السريعة، مضوا اليهم بلا ضعون ولا اثقال، واختاروا من يعولون عليه، وتمكنوا بسرعة من اللحاق والانتصار
…
بل وأخذ الانتقام بطعن بنت الجرباء بالصورة التي رأتها حصة
…
! وفي هذه نشاهد التدابير الحربية، وطرق الغزو للوقيعة، والشجاعة، وحسن الإدارة وما ماثل مما يتخلل الوقعة، وقد يصعب بيان قيمة بعض الأشخاص وما قاموا به، أو زاولوه من أعمال
…
ويتكون من هذه مجموع سمر قد يغني عن مطالعة الكتب، وإنما هو التحدث بالمجد، وأشخاص الوقائع لا يزالون في قيد الحياة، أو يحدث عنهم أبناؤهم، وتظهر مفاخرهم
…
وهناك القصائد، وذكر المخاطر، والسمر اللذيذ
…
نرى البدوي يهول في مواطن الهول، ويظهر المهارة والقدرة في موطنها، والعزة القومية. وصفحات بيانه تكتسب أوضاعها، ويكاد المرء يشعر أن الوقعة أمامه ويشاهد مخاطرها
…
!