الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا ولا يرى أثر للعقوبات الجزائية في العشائر كما هو معروف قديماً في الجاهلية مثل (الصفد) ، و (الغل) ، و (التجريد) ، و (المد) ، و (السمل) وغير ذلك مما أبطله الإسلام
…
فمن الأولى أن يزال أثر ما خالف الشرع، وأن تحدد قضايا الفصل والتحكيم في الأمور العامة بين قبيلة وأخرى مما تستدعى الخوف من خطر، وأن تودع القضايا للمحاكم وعلى كل نرى الأحكام ذات مساس كبير بالشريعة الإسلامية الغراء، والمخالفات قليلة ويراعى في قسم منها العوائد
…
وكلها تستدعي النظر وسنتعرض لما يرد الكلام عليه في القبائل الريفية وعلاقاتها بالأحكام الجاهلية وبالشرع الشريف
…
والمهم أن نقول هنا لم تؤثر الأمم المجاورة على تقاليد العرب تأثيراً كبيراً ولا أثرت الإسلامية إلا بعض التأثير ولكنه أكثر من تأثير المجاورين خصوصاً في العبادات وبعض المعاملات وفي الأحوال الشخصيةفإن تأثيرها مشهود
…
ولكن هؤلاء لم يتمكن المسلمون من اجتثاث بعض عوائدهم المدخولة تماماً
…
وسبب ذلك أن الإسلام أجرى تأثيره على البدو فعادوا متحضرين، وأن هؤلاء لم يتأثروا به بعد بحيث يتركون ما عندهم وينالون وضعاً مدنياً
…
فهؤلاء من بقايا البدو القدماء الذين لم ينالوا حظاً كبيراً من التربية الإسلامية ليعودوا متمدنين وإنما حافظوا على وضعهم الاجتماعي نوعاً، ولم تدخل الشريعة في قلوبهم أو لم تنفذ فيهم تنفيذاً صحيحاً
…
وليس من السهل تبديل ما عندهم، وإنما يحتاج الى رسوخ في العقيدة، والى تدرج الى الحضارة كالانتقال من البداوة الى الريفية، ومنها الى المدن
…
وعلى كل حال نرى الحالة البدوية الموجودة من ارقى الحالات البدوية وليست وحشية كما يتوهم وانما هي نتيجة تطورات وتكملات عديدة الى ان وصلت اليها الإسلامية بحيث قبلت الزواج، وراعت العقود، والتزمت العهود وقامت بفضائل أخلاقية كانت من طبعها؛ أو لاءمت غريزتها وحالاتها مدنية تقريباً بالنظر لوضعها الاجتماعي على قلة في المقياس ومراعاة مطالب لا ترضاها الشريعة ولا الحضارة
…
هذا ونلاحظ في قضايا الفصل ان البدو اليوم ليس لديهم قود في القتل، وانما هناك ثأر، وفتك من جانب المتضرر، أو أقاربه عند الظفر بالقاتل والتمكن منه
…
في حين اننا نعلم ان قد كان هناك قود. ومما قيل: خليلي هل ليلى مؤدية دمي اذا قتلتني أو أمير يقيدها وكيف تقاد النفس بالنفس لم تقل قتلت ولم يشهد عليها شهودها والمعروف ان الرؤساء يأمرون بمراجعة العارفة، ولا يتدخلون الا في الأمور العامة التي تهدد كيان القبيلة، وتجعلها في خطر
…
وعلى كل حال لما كانت السلطة للحكومة، ولم يكن للرؤساء الا الإدارة في امور محدودة، فمن واجب الحكومة ان تحدد مطالب (قانون العشائر) ، وأن تجعل غالب القضايا المدنية، والقضايا الشخصية مما لا مساس له بالسياسة العشائرية في حسمها تابعة الى المحاكم، ومثلها القضايا الفردية بين افراد قبيلة مما لا يهدد السلامة العامة
…
والا توالى الخطر، واشغلنا الدوائر الكثيرة، ووسعنا التشكيلات التي نحن في غنى عنها
…
-
9
-
نظام دعاوي العشائر
من حين ظهر الإسلام أزال العرف القبائلي في القضايا العامة، وعاد لا يعرف غير الشرع، وصرح ان لا حكم إلا لله. وإن الحكم وفق العرف الجاهلي مخالف بصراحة آية (أفحكم الجاهلية يبغون) ، وبقي الشرع الإسلامي معتبراً، مرعياً، ولكن في بعض الأوقات ضعفت سلطة الحكومة أو زالت فمال كل واحد الى ناحية التحكم أو الرضوخ، وأحيوا بعض العوائد الضارة، وتولد التكاتف على الحق والباطل معاً، وصار المجال واسعاً للتحزبات والعصبية القبائلية أمثال هذه فصارت القبائل في أوضاعها تضارع من نواح عديدة الجاهلية في نهجها، تذعن للشرع تارة؛ والى قدرتها أخرى، وتميل في الأكثر الى ما يكفل كيانها، ويؤدي الى وحدتها
…
وفي العهد العثماني نرى الجرائم الشخصية تابعة للقانون العام اى أن القضايا الكبرى بين القبائل كانت تتدخل الحكومة في أمرها إما بالاعتماد الى قدرتها، أو من طريق الصلح واحالة القضايا الى محكمين، وتنظر الى ما هو الأولى في سياستها والأحق بالقبول وذلك بصورة ادارية دون ارتباط بقانون
…
وبعد احتلال البصرة، من سنة 1915م أخذ يطبق على العشائر (بيان العشائر) ، وألزم الحكام الانجليز بمراعاته، وبعد الاستيلاء على بغداد وزاد شموله وظهر بوضع أوسع وشكل واضح من سابقه، وذلك أنه صدر نظام دعاوي العشائر بتاريخ 27 - 7 - 1918م ثم نشر قانون في تعديل هذا النظام في 28 - 8 - 1924، ولم يحصل فيه إلا تعديل طفيف في 1 - 6 - 1933 واستمر العمل بموجبه الى اليوم، فكان غير مرضي في وضعه، ومنفوراً في كثير من أحكامه
…
وأكثر ما يؤخذ عليه النظر في احكام المواد الشخصية (الأحكام الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية) ، والحال ان هذه لم يدخلها العرف، وليس فيها ما يخالف الشرع، وقد اعتادت القبائل البدوية جمعاء ان تسير في المواد الشخصية وفق احكام الشرع، ولم تخالف ذلك في زمن من الأزمان، واعطاء السلطة في هذه الى مجالس التحكيم يقصد منه تبعيد البدو عما اعتادوه من مراعاة النظام الشرعي، وايجاد عرف جديد يبعدهم عما ألفوه من الأحكام الشرعية مع ان القصد تقريبهم تدريجياً الى النظام والقانون والتدخل في أمرها ينافي المعتاد من زمن بعيد جداً هذا فيما سوى النهوة وما ماثلها كالتعدي على العفاف
…
وفي الوقائع الفردية بين رجال القبيلة الواحدة
…
أو ما يتعلق بأمور تافهة لا تشترك فيها القبيلة، ولا تهدد سلامتها، ولا يحتاج فيها الى نظام العشائر.
هذا وكنت قد قلت كلمتي حول هذا النظام بما ملخصه: " لا تزال قضايا العشائر من كافة نواحيها معضلة كبرى، عويصة الحل، معقدة الموضوع
…
تتعلق بأكثرية ساحقة من مجموع نفوس العراق، فلا يصح ان نتغافل عنها، أو نهمل الالتفات اليها دون ان نلاحظ شئونها، ونتبصر في سائر احوالها سواء في اجتماعياتها، او ادارتها وثقافتها، وتأمين تهذيبها، وملاحظة معايشها وراحتها، واقامة العدل بين مجموعاتها وافرادها في كافة ربوعها
…
مما يجب الاهتمام به؛ واستطلاع آراء الخبراء من كل صوب في موضوعه حتى تستقر المعرفة، ويتبين وجه الاصلاح وطريق حسن الإدارة
…
الا اننا للآن لم نظفر ببغية، ولا شاهدنا تقدماً في الحالة، فالقوم لا يزالون على ما كانوا عليه..
وقضية حسم النزاع بين افراد القبائل موضوع صغير من تلك الأمور ولكنه له مكانته، وأثره في النفوس، لأن النزاع ظاهرة تلك المجتمعات، وعنوان روحيتها ومطالب خلاف أفرادها وجماعاتها
…
التفتنا الى حل الخلاف ولم نبال باجتثاث اصله، والتدابير المانعة من وقوعه.! والموضوع نظام دعاوي العشائر وهل قام بالحاجة فسد ثلمة؟ أبدى كثيرون منا آراءهم حوله، ولا تزال تتكرر غالب هذه الملاحظات في الأندية والمجتمعات ونسمع التذمرات من كل صوب
…
الا ان جل ما نسمعه كلمات مختصرة، وانتقادات موجزة، أو تعرض لوقائع جزئية
…
ولم نشاهد من دوّن ملاحظاته في رسالة لتتوالى المباحث، وتمحص الأقوال وينضح الموضوع فتظهر خوافيه
…
ومن ثم تبرز آراء المتتبعين، ويبين الصحيح المقبول....
هذا النظام يحتاج الى جمع آراء مختلفة فيه وتنسيقها وبيان القول الأخير فيها
…
فهو غريب في وضعه، جديد في موضوعه، وشكله، لا يأتلف وحالة الأمة التي تتطلب النظام وحسن الإدارة، والسيرة الفاضلة في هذه الحياة
…
أحيا في أصل وضعه سنة جاهلية، وإدارة خاصة، وتعاملاً محلياً
…
فهو عودة الى ما قبل حمورابي في العراق وقبل ظهور الإسلامية في جزيرة العرب
…
كان العرب قبل إسلاميتهم قبائل مشتتة، وأصحاب عرف خاص، وعوائد موقعية بالنظر لكل قبيلة، أو إمارة
…
ولما جاء الإسلام قضى على هذه التعاملات، ومحا من البين العوائد المرذولة وقرر أحكاماً عامة حازت قبولا شاملاً
…
وهذه دعت قطعاً الى تحضر العرب المسلمين وسائر من انضم اليهم من الأمم، وانتزع الروح الجاهلي منهم، والسيطرة الشخصية، وساقهم الى نظام عام، واعلن " ولا تزر وازرة وزر أخرى " وآيات كثيرة، وفي الحديث " القتلى بواء " أي لا تفاضل بينهم
…
والآيات والأحاديث كثيرة مما ماثل هذه، وفيها امحاء للعرف الخاص الذي هو نتيجة اثرة، وتحكم، وقوة في جهة، وضعف، واستكانة، ورضوخ في اخرى
…
وكانت الفكرة شديدة في التمسك بأحكام الكتاب، والكل مقتنع ان العادة محكمة فيما لم يرد به نص شرعي حاسم، ولا مجال لأحد في مخالفة النصوص القاطعة
…
ومن حين قبلوا هذا المبدأ، وساروا بمقتضاه تحضروا، ونزعوا الفكرة الجاهلية، واستعاضوا عنها بالروحية الطيبة الصالحة
…
إن القانون العام فيه ما فيه من المحافظة على الوحدة، ونزوع الى التشريع العالمي
…
ووحدة الأمة في ان تفكر في قانون واحد لا قوانين متعددة، وحكم الأمة بقانون واحد مما أرشدت اليه التجارب بعد حين بمرارتها القاسية ذلك ما دعا الى تيقن قيمة الشريعة الغراء، راعت ذلك قبل ان تتنبه الأمم الكثيرة بل فاقتها بمراعاة إدارة الأمم بقانون واحد مما لا تزال الى اليوم الحوائل والعوائق تعاكسه.. وكل الأمم في هذه الأيام سائرة الى وحدة القوانين العالمية، ومن ظواهرها قوانين العقوبات، وبعض التشريع في قوانين التجارة وفي حقوق الدول الخاصة، وتفاهم الأمم في نواحي تطبيق القوانين
…
ان تعدد قوانين الأمة، واضطرابها عادة تدل على سخف في تلك الأمة، ونقص كبير فيها لا يعوضه الا الرجوع الى تلك الوحدة
…
ولم نجد اليوم في امة متحضرة قوانينى مقطعة الأوصال.
زال التعصب نوعاً، وهو سائر الى الزوال في ناحية التشريع خاصة، والآراء مصروفة الى ما قام عليه البرهان الصحيح، والسهولة والبساطة في القوانين، وصرنا نتوقع ان يكون اساس التشريع قواعد عامة تمشي الأمم بمقتضاها. لا ما نراه من التوغل والتدخل حتى في حركات الأشخاص وسيرهم بحالة يكادون يكونون فيها تبعاً لإدارة غيرهم وارادتهم بل اوامرهم العسكرية وايعازاتهم اليومية.. مما نشعر به في كل آن
…
والحاصل خزنوا ادمغتنا في مختلف الأيام بقوانين تافهة نحن اليوم في غنى عنها، أو في حاجة عظمى الى القضاء على الكثير منها
…
وقد سمعنا التهديد الالهي، والتحذير الشرعي في آية " أفحكم الجاهلية يبغون " وكأننا في غفلة فلا نزال نحمي العرف الخاص بين القبائل، ونناصره
…
ومهما كان السبب الحقيقي في وضع هذا النظام - قبل أن يكون نظاماً - وبواعث العمل به، فانه سبق ان طبق عيناً أو ما هو قريب منه وضعاً في انحاء مصر قبل العراق، وتألموا منه كما تألمنا
…
وقد قبلنا أحكامه، ولا حظناها ظهراً لبطن فلم نتبين فوائده في حين انه تجلت لنا أضراره الكثيرة
…
أما أنه لو حدث أمر عظيم بين قبيلتين او قبائل فحينئذ يكون الحسم بالتفاهم، أو بايقاف المتجاوز عند حده. وذلك مما يتعلق بالسياسة العشائرية وهي فوق هذا النظام الذي تتعلق قضاياه بأمور شخصية جزائية أو مدنية
…
ولكن السياسة العشائرية المذكورة تتطلب المصلحة العامة اكثر مما تهمها قضية شخص ونزاعه على شاة او بعير
…
وقد رأينا في وقائع تاريخية عديدة لزوم ادارة العشائر بحكمة في اوضاعها المختلفة سواء في العلاقات الداخلية وتقوية روابطها والخارجية وحسن تمشيتها مما يصلح ان يكون مثالاً يحتذى بحيث تتوقف هذه الإدارة على صحة العمل وتعقل القائمين به
…
وكم من قبيلة كبرى او امارة تحكمت في مقدرات العراق، وفي الحكومات المجاورة حتى دعا ذلك الى عقد معاهدات للتكاتف ضد صولة هؤلاء، والقضاء على نفوذهم والاستقلال في إدارة المملكة، وقد أوضحنا هذه الناحية بأمثلة كثيرة في (تاريخ العراق)
…
وكلمتي الأخيرة، ان بقاءه عودة بقبائلنا الى العصور الجاهلية الأولى
…
وقد دلتنا التجارب الى ان التمسك به جرّ الى اختلاق عوائد، أو تقرير تقاليد اما انها لا اصل لها فاوجدت بتأثير، أو أنها مما لا يقرها عدل، ولا يقبلها قانون، أو أنها نتيجة اثرة وتحكم كما تقدم وبعضها فيها هدم للأحكام الشرعية فيما يتعلق بالمواد الشخصية المعتادة
…
واذا كان لا بد من تطبيقه فيجب ان تحدد قضاياه من جهة، وان يكون قانون العقوبات اساساً له، وان تحسم قضايا العشائر على يد الحكام القضائيين لا بيد الإداريين.