الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وآخرون يرون لزوم الانتقال بهم من البداوة الى الأريافومن الأريافالى المدن. ولعل هذا من نوع التعليق بالمحال لأن الانتقال تابع الى أحوال طبيعية وقسرية لا يتيسر تحقيقها بسهولة ولم يكونوا في حالة يمكن أن نحققها بسهولة. وفي كل هذه الاحوال أبدينا عجزا من أيجاد طريقة لبث الثقافة في العشائر
…
وهكذا يرى آخرون لزوم أيجاد مدرسين حائزين أوصافا تلائم البادية، وهم رجال دين ومهذبون بأن تتوازن القدرة والرجل الديني. والا حدثت مشاكل ونفرة. وحينئذ تحبط المشاريع، ويحبط التدبير. وهل أستعصى وجود مدرسين حائزين للأوصاف؟ ولما كنا سائرين في طريق بث الثقافة فلا وجه لقبول الآراء المارة وأمثالها مما يعد عرقلة في سبيل المشروع، وان نجهد في تحقيق ما عزمنا عليه بأتخاذ وسائله الأ أننا يجب ان لا نتخذ (طريقة التعليم) كما هو الشأن في المدن وبمقياس واسع. وما لا يدرك كله لا يهمل جله فلا نريد ان يكونوا مثل أهل المدن وبمناهجهم ومقياس حياتهم فيجاروهم في الثقافة ونجعل هؤلاء تابعين مناهج التعليم في (المعارف) . وهل لهم تلك القدرة أو صبر لاجتياز العقبات حتى يتساوى الحضري والبدوي في الثقافة؟! وهنا يهمنا ملاحظة أثر التعليم في البدو والدرجة التي يستحقون أن تبلغ بهم ليكونوا أعضاء فعالة في المجتمع فينالوا النصيب اللائق وان ندرك وجوه تحقيق الممكنات فيهم ليحصلوا من الثقافة على درجة وافية بحاجتهم أو بالتعبير الاولى أن يكونوا عارفين بما عندهم منتظما وزيادة قليلة. والمواهب تقويها وتزيد عليها، أو تكتفي بما عندها.
وكنت أوضحت ذلك في كتاب عشائر العراق المجلد الاول ونشرته سنة 1937م أي قبل 17 عاما. وأنا مسرور أن يتجدد البحث وتشاركني جماعة ممتازة من أهل الثقافة في الموضوع كما اني أوضحت ثقافة عشائر الكرد في المجلد الثاني. والاحوال متقاربة.
ويهمنا أن نوضح الآن الوجهة العملية للاصلاح التي جعلناها هدفنا بعد أكتناه تلك الاقوال، فلا أريد أن أسرح في الخيال فأقول: يجب أن يكون التعليم عاما وان يشمل أبناء الشعب كافة. وانما رجحت لزوم أدخال (التعليم البسيط) في ربوعهم، ومن ثم نرعى تقوية ذلك وتوسيعه تدريجيا، ولذا أرى من الصعب ان نقلب البادية الى حضارة وان كنا نتمنى ذلك الا ان الاماني والاحلام تضليل. لم يشبع هؤلاء الخبز فكيف يصح ان نوجد فيهم (تخمة) من العلوم. وليس لهم مأوى فكيف نستطيع تعليمهم الكماليات
…
!!؟ وهنا أثبت النهج الذي أختططته في تثقيف البدو على أساس (الثقافة البسيطة) ، وان يكون من طريق أوضاعهم في حياتهم. فاذا كان البدوي يفكر في طريقة القنص، وفي اتخاذ تدابير لمحافظة كيانه خشية ان يبتلعه الآخرون وكلهم طالب صيد، أو أن يرتاد المراعي، فلا شك اننا نهدف في تعليمه نواحي اصلاح في هذه وامثالها وحسن التبصير بطرق ادارتها، فلا تترك الفتوة الغريزية فيه، ولا الشجاعة ولا العزة أو الشمم. وانما تصرف هذه الى ناحية مهمة بأن لا تتجاوز أو تعتدي على الغير. وهكذا في الالتفات الى حاجيات هؤلاء، وما تقوم به حياتهم أو لا تترك ناحية تسير بهم نحو ما يعلمون بل نقوي فيهم خير الخصال لا سيما ما له مساس بالحياة الاجتماعية، أو ما كان له ارتباط بسمرهم، وما يخدم ثقافتهم. وجل ما نتطلبه ان نجعل كل واحد منهم في مستوى أرقى من أي أمريء منهم في عقيدته، في آدابه، وفي مهمات حياته. بأن نجهد أن نجعله بدويا بصيرا متعلما نابها، وان لا نميل به الى أكثر.
والمناهج التي أقترحتها في تهذيب البدوي وثقافته
1 -
القراءة والكتابة بأبسط أوضاعها، وأن نبذل له القرطاس بوفرة والا فلا يستطيع أن يقوم بحاجته وليس له وارد فضلا عن بعده عن المدن ونلاحظ بعض المطالب بعد أن يتعلم النحو والصرف بأقل ما يمكن تلقينه
…
2 -
الحساب. فلا نتجاوز الاعمال الاربعة.
3 -
العقائد والعبادات على أن لا تتجاوز الفروض والامور الضرورية. وأن نقدم له القرآن الكريم ليقرأه دوما. وفيه من التوحيد والثقافة ما يقربه من المعرفة مع حل الالفاظ الغريبة التي يصعب عليه فهمها بتغير لفظي. وقد أفردت في عشائر العراق العربية وفي الكردية بحثا خاصا في العقيدة يتضمن ما ينبغي ان تكون عليه عقيدة العشائر والاهتمام بهذه الناحية يعد أصلا في ثقافة العشائر.
4 -
السيرة والتأريخ. وأما السيرة اعني سيرة الرسول (ص) وسيرة الخلفاء الراشدين فانها خير ما يجب أن يلقن هؤلاء وهي أفضل تأريخ وأجل سيرة. وباقي التواريخ مما له علاقة بنا يجب أن يلقن بأيجاز.
5 -
الشعر البدوي وبعض الفصيح. فيختار ما هو أنقى وأصفى، وفيه من الاخلاق الفاضلة ما يبعده عن الاعمال الرديئة، وله مساس بالحياة البدوية.
6 -
أن يبصر بالصيد، والسباق، وتربية المواشي وبعض أمراضها وطرق وقايتها من الامراض وبالمراعي وتنظيمها أو طريق استغلالها.
7 -
الالعاب البدوية وتنظيمها بصورة لائقة.
8 -
معرفة حقوق أهل البادية وواجباتهم نحو الامة والدولة.
ويتم ذلك واكثر تدريجيا باستخدام مدرسين عارفين بأوضاعهم. وغالب أهل المدن أصحاب علاقة بالبدو وللاختيار قيمته ليعلموا أوضاعهم وآدابهم معرفة صحيحة ومن طريق ما يعلمون كعرف القبائل، وبيان المرذول منه، والمقبول مما يدل على حنكة ودقة نظر.
وهؤلاء المدرسون يجب أن لا ينفكوا من الممارسة، وبيان المطالعات، ويختار من آدابهم ما كان نافعا للكل بعد تجارب عديدة بل لا تترك التجارب مرة بعد أخرى، بل تكرر وتناقش في مؤتمرات سنوية. وكل ما نشعر به من بعض يجب أن نسارع في تلافيه واصلاح غلطه. والامل أن نعد ذلك مهمة النجاح، وان نسلك فيها خير الطرق على ان لا نفلت من أيدينا ناحية المعرفة من طريقهم. فأذا تكلمنا في الابل جمعنا ما يعلمون وبصرناهم بما عندنا مما يفيد. وهكذا في الخيل جمعنا حكاياتهم وما عرفناه عنها. وهكذا نمضي في الشعر، وفي المجالس الادبية، وفي الصيد، والسباق، وفي تربية المواشي وإدارة المراعي. والامل أن نعرف نحن ايضا ما عندهم لتتساوى المعرفة. وكثير مما عنهم لا نزال في غفلة عنه. ونريد ان نعلمهم ما يعلمه بعض أفرادهم الافاضل. وفي ذلك توجيه للهدف الاصلاحي، وتدريب للحياة العملية، ونقد للعوائد المرذولة. ومن ناحية أخرى يجب ان نقدم بعض النابهين الى المدن ليتعلموا ويعلموا قومهم أو ان نمضي بهم حتى يتمكنوا من التحصيل العالي، وبالتوالى نكثر من عدد هؤلاء.
هذه الحالة البدوية في الثقافة.
وأما أهل الأرياففهم أقرب الى المدن في كثير من أوضاعهم. فالغفلة عن حياة الأريافلاتقل عن البدو ولا تزال العناية بها قليلة جدا وان كانت غير منعدمة بل زادت العناية بها ولكن من غير طريقها بتطبيق المناهج الابتدائية. وفي هذه يقال ما قلنا في تلك. وهؤلاء أدبهم العامي لا يشبه الادب البدوي. وقد يقاربه أحيانا وفي بعض الاصقاع مما تدعو الحاجة الى أستغلاله. وفيه تقريب من الفصحى أي ان معرفته واستظهاره يقربنا كثيرا من الادب الفصيح. والعشائر الريفية متأثرة به. ولا نريد أن نعين وجوه الاستفادة منه للمطالب الاجتماعية والقومية. وانما كلامنا في الثقافة بوجه عام. والتحول مشهود في البدوي اذا انتقل الى الأرياففلا يلبث أن تزول منه (ثقافة البادية) ، ويكتسب (أدب الارياف) . وهذا ما يدعو الى أن المرء لم يكن مقصورا على نوع من الادب وان الممارسة والمحيط أو البيئة مما تقربه الى المتعارف. وهذا النوع يقرب من الفصحى أيضا. ومن ناحية التأثير تدعو الحاجة الى أن نقتبس البيان من هؤلاء ليكون أدبنا طبيعيا أو سهلا ممتنعا، وأن نخفف من عجرفتنا في أستعمال المجازات لاظهار القدرة فنقرب بيانا من السهل الممتنع.
والسواد الاعظم يتأثر بالعامية وينجذب اليها. وما ذلك الا أنها أقرب الى أفهامهم، فحرمنا أن يكون لكل مقام مقال أو الغفلة عن حكمة كلموا الناس على قدر عقولهم وفهمهم. وللارياف الهوسات، والحسكة، وبوذية، وكذا النايل والعتابة
…
كما لهم أمثال مهمة وللبدو القصيد، والحداء، والهجيني، والطواح
…
وكل هذه أدبها مهم، ويقرب الى الفصحى بل لا نحتاج الا الى تعديل طفيف ليكون فصيحا.
والبدوي والريفي اذا درسا (قواعد قليلة من النحو) مشفوعة بأمثلة أو أدركوا الامثلة منتزعا منها القواعد القليلة فاقوا أهل المدن في لغتهم. فهؤلاء في آدابهم لامسوا الحياة، فكانت رغبتهم فيه قوية، ونال عندهم مكانة مهمة وان الكلمة الواحدة تقيمهم وتقعدهم. وقد تؤدي الهوسة الواحدة الى اهاجة الحفيظة.