الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت الإدارة غير متسلطة، وان الجاني كان معتزا بعشيرته. وفي هذا حماية له لفقدان القدرة في مطاردته. ومن ثم تركن العشائر الى مراعاة العرف ولكننا نرى الاجحاف مع وجود السلطة والاولى مراعاة القانون العام. وان تصلب الإدارة واصرارها في الدوام على تطبيقه مع اثارة قضيته في المجالس النيابية المتوالية مما يدعو الى الاستغراب ويبعث الامل على لزوم الغاء هذا القانون في القريب العاجل. ولذا لم اتعرض لتفصيل مسؤوليات أفراد العشيرة بالنظر للجاني وبيان العرف الخاص بها. وهذه لا تختلف عما في المجلد الاول.
والامل ان تزول الوصمة عن العراق في انه يحكم على الجاني وعلى أقاربه بسبب ما أحدث من جريرة، فالضرورة تدعو الى الرضوخ الى القانون العام كما أضطرت الإدارة الى فصل منازعات الاراضي بعد اكمال تسويتها بايداعها الى المحاكم. ومثلها الاحوال الشخصية اودعت الى المحاكم الشرعية كما كانت.
وعلى كل حال لا يأتلف تطبيق (قانون العشائر) على الأريافبعد ان كان الشرع سائدا في البلاد مدة أكثر من الف سنة، والقانون العام بعده، وبعد أن كان وضعنا الحقوقي تابعا لذلك القانون. كما لا يصح تطبيقه على أهل الأريافوهم أهل القرى الصغيرة. أو أهل المزارع المحدودة التي هي أشبه بالقرى أو جزء منها ولا شك ان زوال قسم منه وخروجه عن دائرة التطبيق مما يسهل الغاءه تماما أو أبقاءه محصورا فيما يحدث بين العشائر بعضها مع بعض في الداخل والخارج في حين أن التحكيم في قوانيننا مقرر ومن السهل مراجعة أحكامه وتطبيقه عليهم.
كان وضع هذا القانون قبل تشكيل (المجالس النيابية) . والآن تشترك الامة في وضع قوانينها. فالعشائر نواب في مجالسنا. وهم يشرعون القوانين علينا ولكنهم لم يقبلوا أن تكون شاملة للجميع بل على أهل المدن دونهم. وهذا من أغرب ما رأينا.
عرف الأرياف وعلاقته بالبدو
ان قانون العشائر لا تظهر الحاجة اليه في (العشائر الريفية) . فلا يرضى أحد أن يكون مسؤولا دون أن يرتكب وزرا. لان هؤلاء لا يختلفون عن أهل المدن كثيرا. وأهل الأريافاستقروا في مواطن وتركوا التجول الا احيانا ولدوافع خاصة ومن ثم صاروا كأهل المدن. وبتوالي الايام فقدوا خصائص البدو الكثيرة. والعلاقة بالبدو لا تنكر ويجب أن تكون مدنية وتابعة للحقوق الحديثة. ولكن جرت بعض الحوادث على العرف العشائري لأنه القانون المعمول به.
من ذلك ما وقع بين شمر والعبيد وهذه أقرب إلى أيامنا واتصالنا بحوادثها، فرأيت أن أبدي وجهات النظر في (صور الحل) فيها للتبصرة. ولعل النظر الى ما أتخذه الفريقان للتذرع بالاهداف مما يدعو للالتفات. في هذه القضية نحاول أن نعرف الاتجاه الحقوقي لما تجلى من تضارب الآراء لأستجلاء الغامض عند اضطراب الافهام في أمر الحل فما تمسك به أهل البادية وأهل الأريافمن المعارضات يكشف عن قدرة في التوجيه، وأظهار العرف. وهذا يحتاج الى دراسة عميقة، وتدقيق بالغ حده.
وهنا أقول أن هذه العشائر كل منها بمقام أسرة في تناصرها وتعاونها، أو انها أسرة موسعة فالتضامن مكين. بقيت كما كانت، أو حافظت على وضع الاسرة لما رأت من الحاجة الى الاحتفاظ، وتحميها قوة العشيرة، فكانت ضرورة التلازم ظاهرة في التعاون للذب عن كيانها. وهذا مشاهد في كل عشيرة. وربما تتجاوز العشائر حدود حماية الحقوق، فتتخذ القوة ذريعة للاعتداء
…
فاذا قلنا كان جرى بين شمر والعبيد كذا فالمقصود تعيين الاتجاه بينهما. ومن هذا القبيل قضايا القتل والمعارك. حاولت الإدارة الاصلاح بين هاتين العشيرتين بقصد اماتة النزاع واجتثاثه من أصله. ومن ثم كان ما وصل اليه المحكمون لم يتجاوز الحل ظاهرا، فلم يكن حاسما، قاطعا للغضاضة.
كنت علمت من الشيخ جلوب الطرفة من شيوخ شمرطوكة أن المرحوم الشيخ عجيل الياور كان حينما سمع بأشتباك العبيد مع عشيرة الصائح من شمر من جماعة المرحوم الشيخ جنعان الصديد سارع في أخبار رئيس عشائر زوبع (خميس الضاري) ، والشيخ جلوب من رؤساء شمر طوكة بأن لايسمعوا قولا للشيخ جنعان حذر أن تتوسع الفتنة، وأن ينتظروا ما يكتب اليهما. رجاهم أن لا يعملوا أمرا، وأكد عليهم خوف انتشار الشر.
وهكذا رأيت رؤساء العبيد أبدوا رغبتهم في أماتة الضغائن. وكنت حاضرا في مجلس المذاكرة بلا علم مني أنهم جاءوا لهذا الغرض. كنت زائرا للمرحوم الشيخ حمد الباسل باشا، فحبذ منهم الفكرة. وأبديت ما علمته من الشيخ جلوب. ولما علمت بأمر المذاكرة وان الاجتماع كان من أجلها ولم يلتئم المجلس بعد تركتهم وودعت الباشا. فأخبرت أنه تم الصلح، لكنه لم يتم حقيقة. وحدثت بعد ذلك حوادث محزنة مما لا محل لأيرادها.
ثم أجتمع العبيد وشمر في 15 و16 نيسان سنة 1943م ببغداد وفي هذا الاجتماع حضر المحكمون رؤساء العشائر الشيخ مشحن الحردان رئيس عشائر الدليم والشيخ محمد الرشيد البربوتي من شيوخ زبيد، والشيخ حبيب الخيزران رئيس عشائر العزة.
وخلاصة ما جرى أن المنازع فيه لم يكن أمرا يخص المطالبة بدماء القتلى من الفريقين (شمر والعبيد) ، وإنما القضية الواجبة الحل أن عشيرة الصائح ممن يرأسهم جنعان الصديد كانت تسكن الحويجة من مدة، وكذا في أراضي العيث، وأنهم كانوا يتمتعون بخيرات تلك المواطن كما أن العبيد كذلك كان هذا شأنهم في تلك المواطن وسبب النزاع هو الاراضي، ولم تجر تسويتها بعد.
أما المنهوبات والقتلى فأنها ظواهر تلك الخصومات. فحل مثل هذه سهل. والمطلوب حسم أصل النزاع. وفي هذه المذاكرة أشترك الاداريون قائممقام سامراء، وقائممقام الخالص، وقائممقام كركوك لعلاقتهم في تعيين أوجه الخلاف وأصل النزاع، وبيان ما يتطلبه كل فريق وكلاهما لا يود أن يبوح بما عنده، أو يتحاشى من ذكر غرضه أو التعرض له وأن كان هو المقصود.
وفي الوقت نفسه قال المحكمون نوصي الحكومة بما يقتضي عمله لحسم قضية الاراضي، واشرك شمر في مشروع الحويجة، وقالوا ان شمر كانوا من أمد قديم يسكنون الحويجة وينتفعون منها فلا يهمل حقهم، ولكن هذا لم يكن تدبيرا لا طريق لحله. وهذا تابع لأعمال إدارية خاصة. فاكتفوا بالايصاء مع بيان كل فريق وجهة نظره وادعائه بأنه من سكان الحويجة قديما. وان رجال الإدارة لم يرغبوا في الدخول بهذا الموضوع إذ لا صلاحية لهم في البت فيه، فطوي من البين وجعل موضوعا خاصا في حين أنه الاصل في موضوع النزاع.
ومن ثم انصرف المحكمون الى حل النزاع فيما عهد اليهم. ولما كان قد نفى رؤساء العبيد أن يكون لهم يد في أمر القتل وانهم ليس لهم القدرة على غيرهم وأبدوا أنهم لا يعلمون بالقاتلين، فكان من رأي المحكمين أن يحلفوا رؤساء العبيد على (طريقة البدو)
…
حينئذ تصدى رؤساء شمر الى القول بأن التحليف اهانة في حق المطلوب تحليفه، أو ظن به واشتباه من صحة كلامه فلم نشأ أن نعد رؤساء العبيد بهذا الوضع، فعدلوا عن التحليف، ولم يطلبوه حفظا لمراعاة منزلة هؤلاء الرؤساء.
ومعنى هذا أنهم رضوا بأنهاء القضية ظاهرا، وأبدوا أنهم لم يبق نزاع بينهم من جراء المنهوبات، والقتلى معا، وحاولوا أن يظهروا انهم أقرب الى الالفة، ولكن العبيد لم يرضوا بهذا الحل الظاهري الذي يراد به الحسم القانوني، وعدوا ذلك غير قاطع للنزاع. ولهذا لجأوا الى ناحية مهمة في صحة الحل وتمكينه، وهي أنهم طلبوا (الدخالة) من جراء أن من أعفي عن اليمين، أو عما يستلزمه من دية وتعويضات لا يمنعه مانع من قبول الدخالة. وبذلك حاولوا ان يكون الصلح متينا، وان لا تبقى المطالبة مستمرة، أو لا يبقى حذر
…
أرادوا أن تكون الدخالة على أحد أفراد العشيرة. ولو لم يكن من وجوه العشيرة، فيصيروا في حماية الكل كما لو كان قاتلا وطلب دخالة (حماية) ، فتضطر العشيرة كلها لحمايته. وهكذا العشيرة اذا طلبت الدخالة تكون ضمنا في حماية تلك العشيرة التي كانت معادية لها ومناضلة، فتصبح الالفة حاصلة، ويكون الحكم حاسما للنزاع، فلم يبق مجال لاختراق الصلح أو حكم المحكمين، فتزول النفرة من البين. (يسعى بذمتهم أدناهم) .
لم يوافق رؤساء شمر على ذلك. وقالوا لا نقبل بالدخالة من جهة أن عشيرة العبيد منتشرة وان (رؤساء العبيد) ليس لهم سلطة على العبيد كلهم، فليس من الصلاح أن نقبل الدخالة. لاننا لانكون بنجوة من ضرر العشيرة فكيف بأمر صيانتنا، وان نكون بمأمن؟ ومن ثم لا يأتلف السلام، بل يتوقع الضرر دوما
…
!