الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لفظ أول فِي بعض الرِّوَايَات. قلت: وَقَوله: لِأَن جعل: من، بِمَعْنى: من أجل، قَلِيل، غير مُسلم، بل هُوَ كثير فِي الْكَلَام لِأَن أحد مَعَاني: من، للتَّعْلِيل كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. وَقَوله: وَأَيْضًا فقد ثَبت لفظ أول فِي بعض الرِّوَايَات مُجَرّد دَعْوَى فَلَا تقبل إلَاّ بِبَيَان. وَقَوله: حَتَّى يضعوا، بِكَلِمَة: حَتَّى الَّتِي للغاية رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره حِين يضعون فَفِي الأول حذفت النُّون من: يضعون، لِأَن أَن الناصبة مقدرَة بعد كلمة: حَتَّى، وعلامة النصب فِي الْجمع سُقُوط النُّون، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي فِي هَذَا الْموضع: بِأَن الْمَفْهُوم من هَذَا التَّرْكِيب أَن السّلف كَانُوا يبتدئون بالشَّيْء الآخر إِذْ نفي النَّفْي إِثْبَات، وَهُوَ نقيض الْمَقْصُود؟ ثمَّ أجَاب بقوله: إِن لفظ: مَا كَانُوا، تَأْكِيد للنَّفْي السَّابِق أَو هُوَ ابْتِدَاء الْكَلَام. قَوْله:(أُمِّي) ، هِيَ أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، زَوْجَة الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:(وَأُخْتهَا) أَي: أُخْت أُمِّي، وَهِي: عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم. قَوْله: (فَلَمَّا مسحوا الرُّكْن حلوا)، مَعْنَاهُ: طافوا وَسعوا وحلقوا حلوا، وَإِنَّمَا حذفت هَذِه المقدرات للْعلم بهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا منَاف لقَوْله: إنَّهُمَا لَا يحلان، وَمَا الْفَائِدَة فِي ذكره؟ قلت: الأول فِي الْحَج وَالثَّانِي فِي الْعمرَة وغرضه أَنهم كَانُوا إِذا أَحْرمُوا بِالْعُمْرَةِ يحلونَ بعد الطّواف ليعلم أَنهم إِذا لم يحلوا بعده لم يَكُونُوا معتمرين وَلَا فاسخين لِلْحَجِّ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لِأَن الطّواف فِي الْحَج للقدوم وَفِي الْعمرَة للركن، ثمَّ إعلم أَن الدَّاودِيّ قَالَ: مَا ذكر من حج عُثْمَان هُوَ من كَلَام عُرْوَة، وَمَا قبله من كَلَام عَائِشَة، وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: مُنْتَهى حَدِيث عَائِشَة عِنْد قَوْله: ثمَّ لم تكن عمْرَة، وَمن قَوْله: ثمَّ حج إبو بكر
…
إِلَى آخِره من كَلَام عُرْوَة. قلت: على قَول الدَّاودِيّ يكون الحَدِيث كُله مُتَّصِلا، وعَلى قَول أبي عبد الْملك: يكون بعضه مُنْقَطِعًا لِأَن عُرْوَة لم يدْرك أَبَا بكر وَلَا عمر، بل أدْرك عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ من يرى بِوُجُوب الطَّهَارَة للطَّواف كَالصَّلَاةِ، وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك، لِأَن قلوه: إِنَّه تَوَضَّأ لَا يدل على وجوب الطَّهَارَة قطعا لاحْتِمَال أَن يكون وضوءه عليه الصلاة والسلام على وَجه الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : الدَّلِيل على الْوُجُوب أَن الطّواف مُجمل فِي قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَفعله صلى الله عليه وسلم خرج مخرج الْبَيَان. قلت: لَا نسلم أَنه مُجمل، إِذْ مَعْنَاهُ الدوران حول الْبَيْت فَإِن قلت قَالَ صلى الله عليه وسلم (الطّواف) بِالْبَيْتِ صَلَاة قلت التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ وَلِهَذَا لَا رُكُوع فِيهَا وَلَا سُجُود وَلَو كَانَ حَقِيقَة لَكَانَ احْتَاجَ إِلَى تَحْلِيل وَتَسْلِيم وَاحْتج بِهِ أَيْضا من يرى أَن الْأَفْرَاد بِالْحَجِّ هُوَ الْأَفْضَل وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك لوُجُود أَحَادِيث كَثِيرَة دلّت على أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارنا وَقد ذكرنَا الإختلاف فِيهِ فِي هَذَا الْكتاب وَالله أعلم.
(بَاب وجوب الصَّفَا والمروة وَجعل من شَعَائِر الله)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن الْوُجُوب يتَعَلَّق بالأفعال لَا بالذوات قَالَ الْجَوْهَرِي الصَّفَا مَوضِع بِمَكَّة وَهُوَ فِي الأَصْل جمع صفاة وَهِي صَخْرَة ملساء وَيجمع على أصفاء وَصفا وصغى على وزن فعول. والصفا أَيْضا اسْم بِالْبَحْرَيْنِ والصفا بِالْمدِّ خلاف الكدر.
والمروة مروة السَّعْي الَّتِي تذكر مَعَ الصَّفَا وَهُوَ أحد رأسيه الَّذِي يتنهي السَّعْي إِلَيْهِمَا وَهُوَ فِي الأَصْل حجر أَبيض براق وَقيل هِيَ الَّتِي يقْدَح مِنْهَا النَّار قَوْله (وَجعل) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي جعل وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة كَمَا ذكرنَا وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَجعل من شَعَائِر الله كَذَا فِي نُسْخَة السماع وَفِي أُخْرَى وَجعلا أَي الصَّفَا والمروة والشعائر جمع شعيرَة وَقيل هِيَ جمع شعارة بالكسرة كَذَا فِي الموعب وَقَالَ الْجَوْهَرِي الشعائر أَعمال الْحَج وكل مَا جعل علما لطاعة الله تَعَالَى وَقَالَ أَبُو عبيد وَاحِدَة الشعائر شعيرَة وَهُوَ مَا ؤشعر لهى ألى الْبَيْت الله تَعَالَى وَقَالَ الزّجاج هِيَ جَمِيع متعبدات الله الَّتِي أشعرها الله أَي جعلهَا أَعلَى مَا لنا وَهِي كل مَا كُنَّا من موقف أَو مسعى أَو مذبح وَإِنَّمَا قيل الشعائر لكل عمل مِمَّا تعبد بِهِ لِأَن قَوْلهم شَعرت بِهِ عَلمته فَلهَذَا سميت الأعلامالتي هِيَ متعبدات لله شَعَائِر. وَقَالَ الْحسن شَعَائِر الله دين الله تَعَالَى.
حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ عُرْوَة سَأَلت عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا فَقلت لَهَا أَرَأَيْت قَول الله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} (الْبَقَرَة: 851) . فَوَالله مَا عَلَى أحَدٍ جُنَاحٌ أنْ لَا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ قالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّ هاذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أوَّلْتَهَا علَيْهِ أنْ لَا يتَطَوَّفَ بِهِمَا ولاكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأنْصَارِ كانُوا قَبْلَ أَن يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمُنَاةِ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ فَكانَ منْ أهَلَّ يتَحَرَّجُ أنْ يَطُوفَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ فلَمَّا أَسْلمُوا سألُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنْ ذالِكَ قَالُوا يَا رسُولَ الله إنَّا كُنَّا نتحَرَّجُ أنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ فأنْزَلَ الله تعَالى إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائرِ الله الآيَةَ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وقَدْ سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الطَّوافَ بَيْنَهُمَا فلَيْسَ لأِحَدٍ أنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أخْبَرْتُ أبَا بَكْرِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ فقالَ إنَّ هاذا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ ولَقَد سَمِعْتُ رِجالاً منْ أهلِ العِلْمِ يَذْكُرُونَ أنَّ النَّاسَ إلَاّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ كانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ فلَمَّا ذَكَرَ الله تعالَى الطَّوافَ بِالبَيْتِ ولَمْ يَذكُر الصَّفَا والمَرْوَةَ فِي القُرْآنِ قالُوا يَا رَسولَ الله كُنا نطَّوَّفُ بِالصَّفا والمَرْوَةِ وإنَّ الله أنْزَلَ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ فلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا فهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أنْ نَطَّوَّفَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ فأنْزَلَ الله تَعَالَى إِن الصَّفَا والمَرْوةَ مِنْ شَعَائِرِ الله الآيَةَ قَالَ أبُو بَكْرٍ فَأسْمَعُ هاذِهِ الآيَةَ نزَلَتْ فِي الفَريقَيْنِ كِلَيْهِما فِي الَّذِينَ كانُوا يَتَحَرَّجُونَ أنْ يَطُوفُوا بالجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفا والمَرْوَةِ والَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تحَرَّجُوا أَن يَطُوفُوا بِهِما فِي الإسْلامِ مِنْ أجلِ أنَّ الله تَعَالَى أمرَ بالطَّوَافِ بالبَيْتِ ولَمْ يَذْكُرِ الصَّفا حَتَّى ذكرَ ذالِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بالبَيْتِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج وَفِي التَّفْسِير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أرأيتِ؟) أَخْبِرِينِي عَن مَفْهُوم هَذِه الْآيَة، إِذْ مفهومها عدم وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة إِذْ فِيهِ عدم الْإِثْم على التّرْك، فَقَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: مفهومها لَيْسَ ذَلِك، بل عدم الْإِثْم على الْفِعْل، وَلَو كَانَ على التّرْك لقيل: أَن لَا يطوف، بِزِيَادَة: لَا، وَالتَّحْقِيق هُنَا أَن عُرْوَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أوَّل الْآيَة بِأَن لَا شَيْء عَلَيْهِ فِي تَركه، لِأَن هَذَا اللَّفْظ أَكثر مَا يسْتَعْمل فِي الْمُبَاح دون الْوَاجِب، وَأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أجابت بِأَن الْآيَة ساكتة عَن الْوُجُوب وَعَدَمه، لِأَنَّهَا لَيست بِنَصّ فِي سُقُوط الْوَاجِب، وَلَو كَانَت نصا لَكَانَ يَقُول: فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما، لِأَن هَذَا يتَضَمَّن سُقُوط الْإِثْم عَمَّن ترك الطّواف، وَلم يكن ذَلِك إلَاّ بِسَبَب الْأَنْصَار، وَقد يكون الْفِعْل وَاجِبا، ويعتقد المعتقد أَنه منع من إِيقَاعه على صفه، وَهَذَا كمن عَلَيْهِ صَلَاة ظهر، فَظن أَن لَا يسوغ لَهُ إيقاعها بعد الْمغرب، فَسَأَلَ فَقيل: لَا حرج عَلَيْك إِن صليت، فَيكون الْجَواب صَحِيحا، وَلَا يَقْتَضِي نفي وجوب الظّهْر عَلَيْهِ، وَقد وَقع فِي الْقِرَاءَة الشاذة، فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما، كَمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حَكَاهُ الطَّبَرِيّ وَابْن أبي دَاوُد فِي الْمَصَاحِف، وَابْن الْمُنْذر وَغَيرهم عَن أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأجَاب الطَّبَرِيّ: أَنَّهَا مَحْمُولَة على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة، وَكلمَة: لَا، زَائِدَة، وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقيل: لَا حجَّة فِي الشواذ إِذا خَالَفت الْمَشْهُورَة، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا: لَا حجَّة لمن قَالَ إِن السَّعْي مُسْتَحبّ بقوله: {فَمن تطوع خيرا} (الْبَقَرَة: 481) . لِأَنَّهُ رَاجع إِلَى أصل الْحَج وَالْعمْرَة لَا إِلَى خُصُوص السَّعْي لإِجْمَاع الْمُسلمين على أَن التَّطَوُّع بالسعي لغير الْحَاج والمعتمر غير مَشْرُوع، وَالله أعلم. قَوْله:(يهلونه) أَي: يحجونه. قَوْله: (لمناة) ، بِفَتْح الْمِيم
وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف تَاء مثناة من فَوق، وَهُوَ اسْم صنم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَت صَخْرَة نصبها عَمْرو ابْن لحي بِجِهَة الْبَحْر فَكَانُوا يعبدونها، وَقيل: هِيَ صَخْرَة لهذيل بِقديد وَسميت مَنَاة لِأَن النسائك كَانَت تمنى بهَا أَي: تراق. وَقَالَ الْحَازِمِي: هِيَ على سَبْعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة وإليها نسبوا زيد مَنَاة. قَوْله: (الطاغية) ، صفة لمناة إسلامية، وَهِي على زنة فاعلة من الطغيان، وَلَو رُوِيَ: لمناة الطاغية، بِالْإِضَافَة وَيكون الطاغية صفة للفرقة وهم الْكفَّار لجَاز. قَوْله:(عِنْد المشلل) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة، وَتَشْديد اللَّام الأولى الْمَفْتُوحَة اسْم مَوضِع قريب من قديد من جِهَة الْبَحْر، وَيُقَال: هُوَ الْجَبَل الَّذِي يهْبط مِنْهُ إِلَى قديد من نَاحيَة الْبَحْر، وَقَالَ الْبكْرِيّ: هِيَ ثنية مشرفة على قديد. وَقَالَ السفاقسي: هِيَ عِنْد الْجحْفَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بالمشلل من قديد، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي تَفْسِير الْبَقَرَة من طَرِيق مَالك (عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: قلت لعَائِشَة: وَأَنا يَوْمئِذٍ حَدِيث السن) فَذكر الحَدِيث، وَفِيه:(كَانُوا يهلون لمناة، فَكَانَت مَنَاة حَذْو قديد) أَي: مُقَابِله، وَقد مر أَن قديدا، بِضَم الْقَاف: قَرْيَة جَامِعَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة كَثِيرَة الْمِيَاه، قَالَه الْبكْرِيّ. قَوْله:(يتحرج) أَي: يحْتَرز من الْحَرج، وَيخَاف الْإِثْم. قَوْله:(فَلَمَّا أَسْلمُوا) أَي: الْأَنْصَار. قَوْله: (عَن ذَلِك) أَي: الطّواف بالصفا والمروة. قَوْله: (إِنَّا كُنَّا نتحرج) إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة مُسلم: أَن الْأَنْصَار كَانُوا قبل أَن يسلمُوا هم وغسان يهلون لمناة، فتحرجوا أَن يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة، وَكَانَ ذَلِك سنَّة فِي آبَائِهِم، من أحرم لمناة لم يطف بَين الصَّفَا والمروة، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن الْأَنْصَار كَانُوا يهلون فِي الْجَاهِلِيَّة لصنمين على شط الْبَحْر يُقَال لَهما: أساف ونائلة، ثمَّ يجيئون فيطوفون بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ يحلقون، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كَرهُوا أَن يطوفوا بَينهمَا للَّذي كَانُوا يصنعونه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة. وَفِي لفظ إِذا أهلوا لمناة لَا يحل لَهُم أَن يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة، وَيُقَال: إِن الْأَنْصَار قَالُوا: إِنَّمَا أمرنَا بِالطّوافِ وَلم نؤمر بالسعي بَين الصَّفَا والمروة، فَنزلت الْآيَة وَقَالَ السّديّ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة تعرف الشَّيَاطِين فِي اللَّيْل بَين الصَّفَا والمروة، وَكَانَت بَينهمَا آلِهَة، فَلَمَّا ظهر الْإِسْلَام قَالَ الْمُسلمُونَ: يَا رَسُول الله لَا نطوف بَين الصَّفَا والمروة، فَإِنَّهُ شرك كُنَّا نضعه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَنزلت الْآيَة. وَفِي (الْأَسْبَاب) لِلْوَاحِدِيِّ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ على الصَّفَا صنم على صُورَة رجل يُقَال لَهُ: أساف، وعَلى الْمَرْوَة صُورَة امْرَأَة تدعى: نائلة، يزْعم أهل الْكتاب أَنَّهُمَا زَنَيَا فِي الْكَعْبَة مسخهما الله تَعَالَى حجرين، فوضعا على الصَّفَا ليعتبر بهما فَلَمَّا طَالَتْ الْمدَّة، عبدا، فَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا طافوا بَينهمَا مسحوا الوثنين، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَكسرت الْأَصْنَام كره الْمُسلمُونَ الطّواف بَينهمَا لأجل الصنمين، فَنزلت هَذِه الْآيَة: وروى الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم فِي التَّفْسِير بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَت الْأَنْصَار: إِن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة من أَمر الْجَاهِلِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى:{إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْبَقَرَة: 851) . قَوْله: (وَقد سنّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَي: شرع وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجعل ركنا. وَقَالَ بَعضهم: أَي فَرْضه بِالسنةِ، وَلَيْسَ مُرَاد عَائِشَة نفي فريضتها وَيُؤَيِّدهُ قَوْلهَا لم يتم الله حج أحد وَلَا عمرته لم يلطف بَينهمَا قلت قَول الْكرْمَانِي جعل ركنا غير موجه لِأَن لفظ سنّ لَا يدل على معنى أَنه جعله ركنا وَإِلَّا لَا يبْقى فرق بَين السّنة والركن وَكَيف نقُول أَنه ركن وركن الشَّيْء مَا هُوَ دَاخل فِي ذَات الشَّيْء وَلم يقل أحد أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة دَاخل فِي مَاهِيَّة الْحَج وَكَذَا قَول بَعضهم أَي فَرْضه بِالسنةِ لَيْسَ مَدْلُول اللَّفْظ. وَقَوله لَيْسَ مُرَاد عَائِشَة نفي فرضيتها فَنَقُول وَكَذَا أَلا يدل على إِثْبَات فضيتها وَقَوله يُؤَيّدهُ قَوْلهَا إِلَى آخِره لَا يُؤَيّدهُ أصلا وَلَا يدل على مدعاه لِأَن نفي إتْمَام الشَّيْء لَا يدل على نفي وجوده فعلى كل حَال لَا يثبت الْفَرْضِيَّة غَايَة مَا فِي الْبَاب يدل على أَنه سنة مُؤَكدَة وَهِي فِي قُوَّة الْوَاجِب وَنحن نقُول بِهِ وَسَيَجِيءُ بَيَان الْخلاف قَوْله (ثمَّ أجزت أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن) الْمخبر هُوَ الزُّهْرِيّ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم وَيُقَال لَهُ رَاهِب قُرَيْش لِكَثْرَة صلَاته ولد فِي خِلَافه عمر بن الْخطاب وَمَات سنة أَربع وَتِسْعين قَالَه عمر وبن عَليّ وَفِي رِوَايَته مُسلم عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ قَالَ الزُّهْرِيّ فَذكرت ذَلِك لأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن هِشَام، فأعجبه ذَلِك، قَوْله:(إِن هَذَا الْعلم) ، بِفَتْح اللَّام الَّتِي هِيَ للتَّأْكِيد، وتنكير الْعلم، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين أَن هَذَا الْعلم أَشَارَ بِهِ إِلَى كَلَام عَائِشَة. وَقَوله:(مَا كنت سمعته) وَقع خَبرا لِأَن، وَلَفظ: كنت، بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، وَكلمَة: مَا، نَافِيَة، وعَلى رِوَايَة الْكشميهني. قَوْله:(لعلم) خبر: إِن، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة. وَلَفظ: كنت، بِلَفْظ الْمُخَاطب
وَقَالَ الْكرْمَانِي، مَا: مَوْصُولَة مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص، أَو مَرْفُوع بِأَنَّهُ صفة لَهُ أَو خبر بعد خبر. قَوْله:(وَلَقَد سَمِعت رجَالًا) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور. قَوْله: (إلَاّ من ذكرت عَائِشَة)، هَذَا الِاسْتِثْنَاء معترض بَين اسْم: إِن، وخبرها وَاسم: إِن، هُوَ قَوْله:(النَّاس) فِي قَوْله: إِن النَّاس، وخبرها هُوَ قَوْله:(مِمَّن كَانَ يهل بمناة)، ولفط مُسلم:(وَلَقَد سَمِعت رجَالًا من أهل الْعلم يَقُولُونَ إِنَّمَا كَانَ من لَا يطوف بَين الصَّفَا والمروة من الْعَرَب يَقُولُونَ: إِن طوافنا بَين هذَيْن الحجرين من أَمر الْجَاهِلِيَّة) . وَقَالَ آخَرُونَ من الإنصار: إِنَّمَا أمرنَا بِالطّوافِ بِالْبَيْتِ وَلم نؤمر بِهِ بَين الصَّفَا والمروة، فَأنْزل الله عز وجل:{إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْبَقَرَة: 851) . قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، فأراها قد أنزلت فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا الِاسْتِثْنَاء؟ قلت: وَجهه أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الرِّجَال من أهل الْعلم الَّذين أخبروا أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن أطْلقُوا وَلم يخصوا بطَائفَة، وَأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، خصت الْأَنْصَار بذلك، كَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا، وَهُوَ فِي صدر الحَدِيث، وَهُوَ قَوْلهَا: وَلكنهَا نزلت فِي الْأَنْصَار. قَوْله: (أَن يطوف بالصفا) ، بتَشْديد الطَّاء، وَأَصله: أَن يتطوف، فأبدلت التَّاء طاء لقرب مخرجهما، ثمَّ أدغمت الطَّاء فِي الطَّاء. قَوْله:(فاسمع هَذِه الْآيَة) وَهِي قَوْله: (إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله) وَقَوله: (فَأَسْمع) ، بِفَتْح الْهمزَة وَضم الْعين على صِيغَة الْمُتَكَلّم من الْمُضَارع، وَهَكَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَضَبطه الدمياطي فِي نسخته بدرج الْهمزَة وَسُكُون الْعين على صِيغَة الْأَمر، فرواية مُسلم: فأراها نزلت فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن تدل على أَن رِوَايَة الْعَامَّة أصوب. قَوْله:(فِي الْفَرِيقَيْنِ)، وهما من الْأَنْصَار وَقوم من الْعَرَب كَمَا صرح بِهِ مُسلم على مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله:(كليهمَا)، يَعْنِي: كلا الْفَرِيقَيْنِ، ويروى: كِلَاهُمَا، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ على مَذْهَب من يَجْعَل الْمثنى فِي الْأَحْوَال كلهَا بِالْألف، ثمَّ قَالَ: والفريق الأول: هم الْأَنْصَار الَّذين يتحرجون احْتِرَازًا من الصنمين، وَالثَّانِي: هم غَيرهم الَّذين يتحرجون بَعْدَمَا كَانُوا يطوفون لعدم ذكر الله لَهُ. قَوْله: (حَتَّى ذكر ذَلِك)، أَي: الطّواف بَينهمَا بعد ذكر الطّواف بِالْبَيْتِ، وَذكر الطّواف بِالْبَيْتِ هُوَ قَوْله تَعَالَى:{وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَذكر الطّواف بَين الصَّفَا والمروة هُوَ قَوْله: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْحَج: 92) . بعد قَوْله: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَغَيره، حَتَّى ذكر بعد ذَلِك مَا ذكر الطّواف بِالْبَيْتِ، قَالَ بَعضهم: وَفِي تَوْجِيهه عسر قلت: لَا عسر فِيهِ، فَهَذَا لكرماني وَجهه فَقَالَ: لفظ مَا ذكره يدل عَن ذَلِك، أَو أَن: مَا، مَصْدَرِيَّة وَالْكَاف مُقَدّر كَمَا فِي: زيد أَسد، أَي: ذكر السَّعْي بعد ذكر الطّواف كذكر الطّواف وَاضحا جليا ومشروعا مَأْمُورا بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احتجت بِهِ الْحَنَفِيَّة على أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَاجِب، لِأَن قَول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد سنّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الطّواف بَينهمَا، فَلَيْسَ لأحد أَن يتْرك الطّواف بَينهمَا، يدل على الْوُجُوب، وَرفع الْجنَاح فِي الْآيَة والتخيير يَنْفِي الْفَرْضِيَّة، لَا سِيمَا من مَذْهَب عَائِشَة، فِيمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ أَن السَّعْي بَينهمَا تطوع، وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة هُوَ مَذْهَب الْحسن وَقَتَادَة وَالثَّوْري، حَتَّى يجب بِتَرْكِهِ دم، وَعَن عَطاء: سنة لَا شَيْء فِيهِ، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد: هُوَ فرض لَا يَصح الْحَج إلَاّ بِهِ، وَمن بَقِي عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ يرجع إِلَيْهِ من بَلَده، فَإِن كَانَ وطىء النِّسَاء قبل أَن يرجع كَانَ عَلَيْهِ إتْمَام حجه أَو عمرته، ويحج من قَابل، وَيهْدِي. . كَذَا حَكَاهُ ابْن بطال عَنْهُم، وَنقل الْمروزِي عَن أَحْمد: أَنه مُسْتَحبّ، وَاخْتَارَ القَاضِي وُجُوبه وانجباره بِالدَّمِ، وَقَالَ ابْن قدامَة: وَهُوَ أقرب إِلَى الْحق، وَعَن طَاوُوس: من ترك مِنْهُ أَرْبَعَة أَشْوَاط لزمَه دم، وَإِن ترك دونهَا لزمَه لكل شوط نصف صَاع، وَلَيْسَ هُوَ بِرُكْن. وَذكر ابْن الْقصار عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل أَنه ذكر عَن مَالك فِيمَن تَركه حَتَّى تبَاعد، وَأصَاب النِّسَاء أَنه يجْزِيه وَيهْدِي، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى فِي (شَرحه لِلتِّرْمِذِي) : اخْتلفُوا فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة للْحَاج على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه ركن لَا يَصح الْحَج إلَاّ بِهِ. وَهُوَ قَول ابْن عمر وَعَائِشَة وَجَابِر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ، وَأحمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر لقَوْله صلى الله عليه وسلم:(اسْعوا فَإِن الله كتب عَلَيْكُم السَّعْي) رَوَاهُ أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة صَفِيَّة بنت شيبَة عَن حَبِيبَة بنت أبي تجرأة بِإِسْنَاد حسن، وَقَالَ عبد الْعَظِيم: إِنَّه حَدِيث حسن قلت: قَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : إِن حَبِيبَة بنت أبي تجرأة مَجْهُولَة، وَقَالَ شَيخنَا: هُوَ مَرْدُود لِأَنَّهَا صحابية، وَكَذَلِكَ صَفِيَّة بنت شيبَة صحابية، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه وَاجِب يجْبر بِدَم، وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) كَمَا حَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: إِنَّه لَيْسَ بِرُكْن وَلَا وَاجِب، بل هُوَ سنة ومستحب، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَابْن سِيرِين وَعَطَاء وَمُجاهد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَمن