الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَوَامِل من النوق، الْوَاحِدَة: خلفة. قَوْله: (قَالَ جرير)، هُوَ جرير بن حَازِم الْمَذْكُور فِي السَّنَد. قَوْله:(فحزرت) ، بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، أَي: قدَّرت سِتَّة أَذْرع، وَقد ورد ذَلِك مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَمَا تقدم فِي الطَّرِيق الثَّانِي، فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالله أعلم.
34 -
(بابُ فَضْلِ الحَرَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْحرم، أَي: حرم مَكَّة، وَهُوَ مَا أحاطها من جوانبها، جعل الله حكمه فِي الْحُرْمَة تَشْرِيفًا لَهَا، وحدَّه من الْمَدِينَة على ثَلَاثَة أَمْيَال، وَمن الْيمن وَالْعراق على سَبْعَة، وَمن الْجدّة على عشرَة. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: حد الْحرم من طَرِيق الْمَدِينَة دون التَّنْعِيم عِنْد بيُوت تعار على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة، وَمن طَرِيق الْيمن طرف أضاة على سَبْعَة أَمْيَال من مَكَّة، وَمن طَرِيق الطَّائِف إِلَى بطن بيرة على أحد عشر ميلًا، وَمن طَرِيق الْعرَاق، إِلَى ثنية رَحل عشرَة أَمْيَال، وَمن طَرِيق جعرانة فِي شعب آل عبد الله بن خَالِد بن أسيد على خَمْسَة أَمْيَال، وَمن طَرِيق جدة مُنْقَطع الأعناس، وَمن الطَّائِف سَبْعَة أَمْيَال عِنْد طرف عُرَنَة، وَمن بطن عُرَنَة أحد عشر ميلًا. وَقيل: إِن الْخَلِيل، عليه الصلاة والسلام، لما وضع الْحجر الْأسود فِي الرُّكْن أَضَاء مِنْهُ نور وَصلى إِلَى أَمَاكِن الْحُدُود، فَجَاءَت الشَّيَاطِين فوقفت عِنْد الْأَعْلَام، فبناها الْخَلِيل، عليه الصلاة والسلام، حاجزا. رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَعنهُ أَن جِبْرِيل، عليه الصلاة والسلام، أرى إِبْرَاهِيم، عليه الصلاة والسلام، مَوضِع أنصاب الْحرم، فنصبها ثمَّ جددها إِسْمَاعِيل، عليه الصلاة والسلام، ثمَّ جددها قصي بن كلاب، ثمَّ جددها سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا ولي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعث أَرْبَعَة من قُرَيْش فنصبوا أنصاب الْحرم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (المنتظم) : وَأما حُدُود الْحرم: فَأول من وَضعهَا إِبْرَاهِيم، عليه الصلاة والسلام، وَكَانَ جِبْرِيل يرِيه، ثمَّ لم يجدد حَتَّى كَانَ قصي فجددها، ثمَّ قلعتها قُرَيْش فِي زمَان نَبينَا صلى الله عليه وسلم، فجَاء جِبْرِيل، عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ: إِنَّهُم سيعيدونها، فَرَأى رجال مِنْهُم فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول: حرم أكْرمكُم الله بِهِ نزعتم أنصابه؟ الْآن تختطفكم الْعَرَب، فأعادوها. فَقَالَ جِبْرِيل عليه الصلاة والسلام: قد أعادوها. فَقَالَ: قد أَصَابُوا. قَالَ: مَا وضعُوا مِنْهَا نصبا إلَاّ بيد ملك، ثمَّ بعث رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، عَام الْفَتْح تَمِيم بن أَسد فجددها، ثمَّ جددها عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ جددها مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ جددها عبد الْملك بن مَرْوَان. فَإِن قلت: مَا السَّبَب فِي بعد بعض الْحُدُود وَقرب بَعْضهَا مِنْهُ؟ قلت: إِن الله عز وجل، لما أهبط على آدم، عليه الصلاة والسلام، بَيْتا من ياقوتة، أَضَاء لَهُ مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، فنفرت الْجِنّ وَالشَّيَاطِين، وَأَقْبلُوا ينظرُونَ، فَجَاءَت مَلَائِكَة فوقفوا مَكَان الْحرم إِلَى مَوضِع انْتِهَاء نوره، وَكَانَ آدم، عليه الصلاة والسلام، يطوف بِهِ ويأنس بِهِ.
ونفسر الْأَلْفَاظ الَّتِي وَقعت هُنَا، فَنَقُول: تعار، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وَبعد الْألف رَاء: وَهُوَ جبل من جبال أبلى، على وزن: فعلى، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة على طَرِيق الْآخِذ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة على بطن نخل، وتعار جبل لَا ينْبت شَيْئا، وَقَالَ كثير:
(أجيبك مَا دمت بِنَجْد وَشَيْخه
…
وَمَا ثبتَتْ إبليٌّ بِهِ وتعار)
والتنعيم على لفظ الْمصدر من: نعْمَته تنعيما، وَهُوَ بَين مر وسرف، بَينه وَبَين مَكَّة فرسخان، وَمن التَّنْعِيم يحرم من أَرَادَ الْعمرَة. وَسمي التَّنْعِيم لِأَن الْجَبَل عَن يَمِينه يُقَال لَهُ: نعيم، وَالَّذِي عَن يسَاره يُقَال لَهُ: ناعم، والوادي نعْمَان. وَمر، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: مُضَاف إِلَى الظهْرَان، بالظاء الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، بَينه وَبَين الْبَيْت سِتَّة عشر ميلًا، وسرف، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء، وَفِي آخِره فَاء، وَقَالَ الْبكْرِيّ: بِسُكُون الرَّاء، وَهُوَ مَاء على سِتَّة أَمْيَال من مَكَّة، وَهنا أعرس رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة مرجعه من مَكَّة حَتَّى قضى نُسكه، وَهُنَاكَ مَاتَت مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لِأَنَّهَا اعتلت بِمَكَّة. فَقَالَت: أَخْرجُونِي من مَكَّة، وَلِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَخْبرنِي أَنِّي لَا أَمُوت بهَا، فحملوها حَتَّى أَتَوا بهَا سَرفًا إِلَى الشَّجَرَة الَّتِي بنى بهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تحتهَا مَوضِع الْقبَّة فَمَاتَتْ هُنَاكَ، سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، وَهُنَاكَ عِنْد قبرها سِقَايَة، وروى الزُّهْرِيّ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حمى السَّرف والربذة، هَكَذَا أورد فِي الحَدِيث: السَّرف، بِالْألف وَاللَّام، ذكره البُخَارِيّ. والأضاة، بِفَتْح الْهمزَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، قَالَ الْجَوْهَرِي:
هُوَ الغدير، وَقَالَ السُّهيْلي: بَينهَا وَبَين مَكَّة عشرَة أَمْيَال. وَقَالَ الْبكْرِيّ: أضاة بني غفار بِالْمَدِينَةِ. قَوْله: (بيرة) .
وقَوْلِهِ تعالَى: {إنَّمَا أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ رَبَّ هذهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمهَا ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ وأُمِرْتُ أنْ أكونَ مِنَ المُسْلِمينَ} (النَّمْل: 19) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على مَا قبله الْمَجْرُور بِالْإِضَافَة. وَجه تعلق هَذِه الْآيَة بالترجمة من جِهَة أَنه اختصها من بَين جَمِيع الْبِلَاد بِإِضَافَة إسمه إِلَيْهَا لِأَنَّهَا أحب بِلَاده إِلَيْهِ وَأَكْرمهَا عَلَيْهِ وَأَعْظَمهَا عِنْده، حَيْثُ أَن حرمهَا لَا يسفك فِيهَا دم حرَام، وَلَا يظلم فِيهَا أحد وَلَا يهاج صيدها، وَلَا يخْتَلى خَلاهَا. وَلما بيَّن الله تَعَالَى قبل هَذِه الْآيَة المبدأ والمعاد ومقدمات الْقِيَامَة وَأَحْوَالهَا، وَصفَة أهل الْقِيَامَة من الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَذَلِكَ كَمَال مَا يتَعَلَّق بأصول الدّين، ذكر هَذِه الْآيَة وَختم مَا قبله بِهَذِهِ الخاتمة، فَقَالَ: قل يَا مُحَمَّد: إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة، أَي: أَنِّي أخص رب هَذِه الْبَلدة بِالْعبَادَة، وَلَا اتخذ لَهُ شَرِيكا. والبلدة: مَكَّة، وَقَالَ الزّجاج: قرىء: هَذِه الْبَلدة، الَّتِي، وَهِي قَليلَة، وَتَكون الَّتِي فِي مَوضِع خفض من نعت للبلدة، وَفِي قِرَاءَة: الَّذِي، يكون: الَّذِي، فِي مَوضِع نصب من نعت رب، وَأَشَارَ إِلَيْهَا إِشَارَة تَعْظِيمًا لَهَا وتقريبا دَالا على أَنَّهَا موطن نبيه ومهبط وحيه، وَوصف ذَاته بِالتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ خَاص، وصفهَا فأجزل بذلك قسمهَا فِي الشّرف والعلو، ووصفها بِأَنَّهَا مُحرمَة لَا ينتهك حرمتهَا إلَاّ ظَالِم مضاد لرَبه، وَله كل شَيْء خلقا وملكا، وَجعل دُخُول كل شَيْء تَحت ربوبيته وملكوته، و: أمرت، الثَّانِي عطف على: أمرت، الأول يَعْنِي: أمرت أَن أكون من الحنفاء الثابتين على مِلَّة الْإِسْلَام.
وقولِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أوَ لَمْ تُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَما آمِنا يَجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقا مِنْ لَدُنَّا وَلاكِنَّ أكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الْقَصَص: 75) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله الْمَاضِي. وَتعلق هَذِه الْآيَة أَيْضا بالترجمة من حَيْثُ: إِن الله تَعَالَى وصف الْحرم بالأمن، ومنَّ على عباده بِأَن مكن لَهُم هَذَا الْحرم، وروى النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير:(أَن الْحَارِث بن عَامر بن نَوْفَل قَالَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم: {إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من أَرْضنَا} (الْقَصَص: 75) . فَأنْزل الله، عز وجل، ردا عَلَيْهِ:{أَو لم نمكن لَهُم حرما آمنا} (الْقَصَص: 75) . الْآيَة، مَعْنَاهُ: جعلهم الله فِي بلد أَمِين وهم مِنْهُ فِي أَمَان فِي حَال كفرهم، فَكيف لَا يكون لَهُم أَمن بعد أَن أَسْلمُوا وتابعوا الْحق. وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) : وَنزلت هَذِه الْآيَة فِي الْحَارِث بن عُثْمَان بن نَوْفَل بن عبد منَاف، وَذَلِكَ أَنه أَتَى النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّا لنعلم أَن الَّذِي تَقول حق، وَلَكِن يمنعنا من اتباعك أَن الْعَرَب تتخطفنا من أَرْضنَا لإجماعهم على خلافنا وَلَا طَاقَة لنا بهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فَحكى أَولا عَن قَوْلهم بقوله:{وَقَالُوا: إِن نتبع الْهَدْي مَعَك نتخطف من أَرْضنَا} (الْقَصَص: 75) . ثمَّ رد عَلَيْهِم بقوله: {أَو لم نمكن لَهُم. .} (الْقَصَص: 75) . الْآيَة، أَي: أَو لم نسكنهم حرما ونجعله مَكَانا لَهُم؟ وَمعنى: آمنا، ذُو أَمن يَأْمَن النَّاس فِيهِ، وَذَلِكَ أَن الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَت يُغير بَعضهم على بعض، وَأهل مَكَّة آمنون فِي الْحرم من السَّبي وَالْقَتْل والغارة، أَي: فَكيف يخَافُونَ إِذا أَسْلمُوا وهم فِي حرم آمن؟ قَوْله: (يَجِيء) قَرَأَ نَافِع بِالتَّاءِ من فَوق، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، قَوْله:{إِلَيْهِ} أَي: إِلَى الْحرم، أَي: تجلب وَتحمل من النواحي {ثَمَرَات كل شَيْء رزقا من لدنا} (الْقَصَص: 75) . أَي: من عندنَا، وَلَكِن أَكثر أهل مَكَّة لَا يعلمُونَ أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي فعل بهم فيشكرونه.
7851 -
حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا جرِيرُ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عنْ مَنْصُورٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ إنَّ هاذا البَلَدَ حَرَّمَهُ الله لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ ولَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ولَا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَاّ مَنْ عَرَّفَهَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن هَذَا الْبَلَد حرمه الله) ، وَفِيه تَعْظِيم لَهُ، وتعظيمه يدل على فَضله واختصاصه من بَين سَائِر الْبِلَاد، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ الْبَصْرِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن عَليّ بن عبد الله، وَأخرجه فِي الْحَج أَيْضا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَفِي الْجِهَاد عَن آدم وَعَن عَليّ بن عبد الله وَعَمْرو بن عَليّ، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى، د وَفِيه وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِيهِمَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَفِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن عبد بن حميد، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فيهمَا عَن عُثْمَان بِهِ مقطعا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج فِي الْبيعَة عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور، وَفِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن قدامَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حرمه الله) أَي: جعله حَرَامًا، وَلَفظ البُخَارِيّ فِي: بَاب غَزْوَة الْفَتْح: (أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَامَ يَوْم الْفَتْح، فَقَالَ: إِن الله حرم مَكَّة يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَهِيَ حرَام بحراح الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. .) الحَدِيث. وَقَالَ الْبَزَّار: وَهَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس من غير وَجه. فَإِن قلت: إِن قَوْله صلى الله عليه وسلم: (إِن إِبْرَاهِيم، عليه الصلاة والسلام، حرم مَكَّة وَأَنا أحرم مَا بَين لابتيها) أَي: لابتي الْمَدِينَة، يُعَارض هَذَا الحَدِيث؟ قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، لِأَن معنى قَوْله:(إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة) ، أعلن بتحريمها وَعرف النَّاس بِأَنَّهَا حرَام بِتَحْرِيم الله، إِيَّاهَا، فَلَمَّا لم يعرف تَحْرِيمهَا إلَاّ فِي زَمَانه على لِسَانه أضيف إِلَيْهِ. وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{الله يتوفى الْأَنْفس} (الزمر: 24) . فَإِنَّهُ أضَاف إِلَيْهِ التوفي. وَفِي آيَة أُخْرَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت} (السَّجْدَة: 11) . أضَاف إِلَيْهِ التوفي، وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى:{الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة} (النَّحْل: 82) . فأضاف إِلَيْهِم التوفي. وَفِي الْحَقِيقَة المتوفي هُوَ الله عز وجل، وأضاف إِلَى غَيره لِأَنَّهُ ظهر على أَيْديهم. قَوْله:(لَا يعضد شَجَرهَا) أَي: لَا يقطع، من عضدتُ الشّجر أعضده عضد، أَمْثَال: ضرب، إِذا قطعته، وَفِي (الْمُحكم) : الشّجر معضود وعضيد. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: معنى: لَا يعضد لَا يفْسد وَيقطع، وَأَصله من عضد الرجل الرجل إِذا أصَاب عضده بِسوء. قَوْله:(وَلَا ينفر صَيْده) أَي: لَا يزعج من مَكَانَهُ. وَهُوَ تَنْبِيه من الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَلَا يضْرب وَلَا يقتل بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله:(وَلَا يلتقط) على صِيغَة الْمَعْلُوم، ولقطته مَنْصُوب بِهِ. قَوْله:(إلَاّ من عرفهَا)، أَي: إلَاّ مَنْ عرف أَنَّهَا لقطَة فيلتقطها ليردها إِلَى صَاحبهَا وَلَا يتملكها.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن مَكَّة حرَام فَلَا يجوز لأحد أَن يدخلهَا إلَاّ بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه: وَمَالك فِي رِوَايَة، وَهِي قَوْله الصَّحِيح، وَالشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور عَنهُ، وَأحمد وَأبي ثَوْر، وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَمَالك فِي رِوَايَة، وَدَاوُد بن عَليّ وَأَصْحَابه من الظَّاهِرِيَّة: لَا بَأْس بِدُخُول الْحرم بِغَيْر إِحْرَام، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ أَيْضا، قَالَه عِيَاض، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر:(أَن النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، دخل يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء)، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أنس:(أَن النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، دخل مَكَّة وعَلى رَأسه مغفر. .) الحَدِيث. وَأجِيب: عَن هَذَا: بِأَن دُخُوله، صلى الله عليه وسلم، مَكَّة كَانَ وَهِي حَلَال ساعتئذ، فَكَذَلِك دَخلهَا وَهُوَ غير محرم، وَأَنه كَانَ خَاصّا للنَّبِي، صلى الله عليه وسلم، ثمَّ عَادَتْ حَرَامًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَلَا يجوز دُخُولهَا لأحد بِغَيْر إِحْرَام.
وَفِيه: أَنه لَا يجوز قطع شَوْكَة وَلَا قطع شَجَرَة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء على تَحْرِيم قطع شجر الْحرم، وَقَالَ الإِمَام: اخْتلف النَّاس فِي قطع شجر الْحرم: هَل فِيهِ جَزَاء أم لَا؟ فَعِنْدَ مَالك: لَا جَزَاء فِيهِ، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فِيهِ الْجَزَاء، وجزاؤه عِنْد الشَّافِعِي فِي الدوحة بقرة وَمَا دونهَا شَاة، وَعند أبي حنيفَة: يُؤْخَذ مِنْهُ قيمَة ذَلِك، يشترى بِهِ هدي، فَإِن لم تبلغ ثمنه ذَلِك تصدق بِهِ بِنصْف صَاع لكل مِسْكين، وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي الْخشب وَمَا أشبه قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت، وَالْمحرم والحلال فِي ذَلِك سَوَاء، وَأجْمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم على إِبَاحَة أَخذ كل مَا ينبته النَّاس فِي الْحرم من الْبُقُول والزروع والرياحين وَغَيرهَا، وَاخْتلفُوا فِي أَخذ السِّوَاك من شجر الْحرم، فَعَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعَمْرو بن دِينَار أَنهم رخصوا فِي ذَاك، وَحكى أَبُو ثَوْر ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَكَانَ عَطاء يرخص فِي أَخذ ورق السنا يستمشي بِهِ وَلَا ينْزع من أَصله، ورخصوا فِيهِ عَمْرو بن دِينَار، وَفِيه أَنه لَا يجوز رفع لقطتهَا إلَاّ المنشد، قَالَ القَاضِي عِيَاض: حكم اللّقطَة فِي سَائِر الْبِلَاد وَاحِد، وَعند الشَّافِعِي: أَن لقطَة مَكَّة بِخِلَاف غَيرهَا من الْبِلَاد، وَأَنَّهَا لَا تحل إلَاّ لمن يعرفهَا، وَمذهب الْحَنَفِيَّة كمذهب مَالك لعُمُوم قَوْله صلى الله عليه وسلم:(إعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا سنة) ، من غير فصل.