الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَقُول وَمن الله أَسْتَمدّ المعونة: مَوْضُوع كل علم مَا يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية} .
مَوْضُوع: اسْم مفعول، من وضع الشَّيْء، - مَبْنِيّ للْمَفْعُول -، يوضع فَهُوَ مَوْضُوع، أَي: محطوط.
قد علمت أَن الْعلم لَا يتَمَيَّز عِنْد الْعقل إِلَّا بعد الْعلم بموضوعه، / فَكل علم يتَمَيَّز عَن غَيره من الْعُلُوم بموضوعه كَمَا يتَمَيَّز برسمه.
وَلما كَانَ مَوْضُوع أصُول الْفِقْه أخص من مُطلق الْمَوْضُوع، وَالْعلم بالخاص مَسْبُوق بِالْعلمِ بِالْعَام، وَجب أَولا تَعْرِيف مَوْضُوع الْعلم حَتَّى تحصل معرفَة مَوْضُوع أصُول الْفِقْه، إِذْ كل علم لَهُ مَوْضُوع ومسائل.
فموضوع كل علم: مَا يبْحَث فِي ذَلِك الْعلم عَن الْأَحْوَال الْعَارِضَة لَهُ، الذاتية. ومسائله: هِيَ معرفَة تِلْكَ الْأَحْوَال.
فموضوع علم الطِّبّ مثلا: هُوَ بدن الْإِنْسَان، لِأَنَّهُ يبْحَث فِيهِ عَن الْأَمْرَاض اللاحقة لَهُ ومسائل: هِيَ معرفَة تِلْكَ الْأَمْرَاض.
وموضوع علم النَّحْو: الْكَلِمَات، فَإِنَّهُ يبْحَث عَن أحوالها من حَيْثُ الْإِعْرَاب وَالْبناء.
وَالْعلم بالموضوع لَيْسَ دَاخِلا فِي حَقِيقَة ذَلِك الْعلم، كَمَا قُلْنَا فِي بدن الْإِنْسَان والكلمات؟
وموضوع علم الْفَرَائِض: التركات، لَا الْعدَد على الْأَصَح.
إِذا علم ذَلِك؛ فَلَا يبْحَث فِي الْعُلُوم إِلَّا عَن الْأَعْرَاض الذاتية لموضوعاتها، أَي: الَّتِي منشؤها الذَّات بِأَن لحقته لذاته، وَلِهَذَا قُلْنَا: عَن عوارضه الذاتية.
والعوارض الذاتية هِيَ الَّتِي تلْحق الشَّيْء لما هُوَ هُوَ، أَي: لذاته، كالتعجب اللَّاحِق لذات الْإِنْسَان، أَو تلْحق الشَّيْء لجزئه كالحركة بالإرادة اللاحقة للْإنْسَان بِوَاسِطَة أَنه حَيَوَان، أَو تلْحقهُ بِوَاسِطَة أَمر خَارج عَنهُ مسَاوٍ لَهُ كالضحك الْعَارِض للْإنْسَان بِوَاسِطَة التَّعَجُّب.
وتفصيل ذَلِك أَن الْعَوَارِض سِتَّة: [لِأَن مَا يعرض] للشَّيْء إِمَّا أَن يكون عروضه لذاته، أَو لجزئه، أَو لأمر خَارج عَنهُ، وَالْأَمر الْخَارِج عَن المعروض: إِمَّا مسَاوٍ لَهُ، أَو أَعم مِنْهُ، أَو أخص مِنْهُ، أَو مباين.
فالثلاثة الأول وَهِي: الْعَارِض لذات المعروض، والعارض لجزئه، والعارض الْمسَاوِي، تسمى أعراضاً ذاتية لاستنادها إِلَى ذَات المعروض.
أما الْعَارِض / للذات فَظَاهر، وَأما الْعَارِض للجزء؛ فَلِأَن الْجُزْء دَاخل فِي الذَّات، والمستند إِلَى مَا فِي الذَّات مُسْتَند إِلَى الذَّات فِي الْجُمْلَة.
وَأما الْعَارِض لِلْأَمْرِ الْمسَاوِي؛ فَلِأَن الْمسَاوِي يكون مُسْتَندا إِلَى ذَات المعروض، والعارض مُسْتَند إِلَى الْمسَاوِي، والمستند إِلَى الْمُسْتَند إِلَى الشَّيْء مُسْتَند إِلَى ذَلِك الشَّيْء، فَيكون الْعَارِض - أَيْضا - مُسْتَندا إِلَى الذَّات.
وَالثَّلَاثَة الْأَخِيرَة هِيَ:
الْعَارِض لأمر خَارج أَعم من المعروض، كالحركة اللاحقة للأبيض بِوَاسِطَة أَنه جسم، وَهُوَ أَعم من الْأَبْيَض وَغَيره.
والعارض للْخَارِج الْأَخَص، كالضحك الْعَارِض للحيوان بِوَاسِطَة أَنه إِنْسَان، وَهُوَ أخص من الْحَيَوَان.
والعارض لسَبَب المباين، كالحرارة الْعَارِضَة للْمَاء بِوَاسِطَة النَّار وَهِي مباينة للْمَاء، تسمى أعراضاً غَرِيبَة لما فِيهَا من الغرابة بِالْقِيَاسِ إِلَى ذَات المعروض، وَفِي الْعُلُوم إِنَّمَا يبْحَث عَن الْأَعْرَاض الذاتية لموضوعاتها، قَالَه القطب
فِي " شرح الشمسية ".
قَالَ التَّفْتَازَانِيّ فِي " شرح الشمسية ": (الثَّالِث: بَيَان مَوْضُوعه، أَعنِي: تعْيين مَا بِهِ يتَمَيَّز هَذَا الْعلم فِي نَفسه عَن الْعُلُوم الْأُخَر حَتَّى يحصل لَهُ اسْم [وَاحِد] على الِانْفِرَاد، فَإِن تمايز الْعُلُوم فِي [ذواتها] لَيْسَ إِلَّا بِحَسب تمايز الموضوعات، حَتَّى لَو لم يكن لهَذَا مَوْضُوع مُغَاير لموضوع ذَلِك بِالذَّاتِ أَو بِالِاعْتِبَارِ لم يَكُونَا علمين، وَلم يَصح تعريفهما بِوَجْهَيْنِ مُخْتَلفين، لِأَن الْعلم عبارَة عَن جَمِيع مَا يبْحَث فِيهِ عَن الْأَعْرَاض الذاتية للموضوع بِاعْتِبَار وَاحِد) انْتهى.
قَوْله: {فموضوع أصُول الْفِقْه: الْأَدِلَّة الموصلة إِلَى الْفِقْه} .
يحْتَمل أَن تكون الْفَاء هُنَا فِي جَوَاب شَرط مُقَدّر، وَتَقْدِير الشَّرْط: إِذا علمت أَن مَوْضُوع كل علم مَا يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية، فموضوع أصُول الْفِقْه كَذَا، فَجَاءَت الْفَاء جَوَاب / هَذَا الشَّرْط الْمَحْذُوف.
وَيحْتَمل أَن تكون فَاء التَّفْرِيع.
إِذا علم بذلك؛ فموضوع أصُول الْفِقْه: أدلته من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَنَحْوهَا، لِأَنَّهُ يبْحَث فِيهَا عَن الْعَوَارِض اللاحقة لَهَا، من كَونهَا عَامَّة أَو خَاصَّة، أَو مُطلقَة أَو مُقَيّدَة، أَو مجملة أَو مبينَة، أَو ظَاهِرَة أَو نصا، أَو منطوقة أَو مفهومة، وَكَون اللَّفْظ أمرا أَو نهيا، وَنَحْو ذَلِك، وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ مسَائِله.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (مَوْضُوع أصُول الْفِقْه: الْأَدِلَّة الموصلة إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، وَاخْتِلَاف مراتبها، وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا) .
قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (مَوْضُوعه: مَا يبْحَث فِي علم أصُول الْفِقْه عَن أَحْوَاله على وَجه كلي، وَهُوَ الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة) .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ: (مَوْضُوع علم الْأُصُول: أَدِلَّة الْفِقْه؛ لِأَنَّهُ يبْحَث فِيهَا عَن الْعَوَارِض اللاحقة لَهَا من كَونهَا، عَامَّة وخاصة، وأمراً ونهياً، وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ الْمسَائِل) انْتهى.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ أَيْضا وَغَيره: (وَإِذا كَانَت الْأَدِلَّة هِيَ مَوْضُوع هَذَا الْعلم فَلَا تكون من ماهيته) كَمَا تقدم.
وموضوع الْفِقْه: أَفعَال الْعباد من حَيْثُ تعلق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بهَا، ومسائله مَا يذكر فِي كل بَاب.
قَوْله: {ولابد لكل من طلب علما أَن يتصوره بِوَجْه مَا، وَيعرف غَايَته، وَمَا يستمد مِنْهُ} .
قَوْله: لابد، أَي: لَا فِرَاق كل من حاول علما من الْعُلُوم وَطلب مَعْرفَته أَن يعرف ثَلَاثَة أُمُور:
أَحدهَا: معرفَة ذَلِك الْعلم، أَي: تصَوره بِوَجْه مَا، لِأَن طلب الْإِنْسَان مَا لَا يعرفهُ، محَال ببديهة الْعقل، وَذَلِكَ الْوَجْه الَّذِي يعرفهُ بِهِ هُوَ الْمَعْنى الَّذِي يُحِيط بكثرته، ثمَّ يَطْلُبهُ فِي جِهَة تَفْصِيله؟
فَإِن عرفه من جِهَة التَّفْصِيل كَانَ طلبه لَهُ محالاً، لِأَنَّهُ تَحْصِيل / الْحَاصِل، ثمَّ الْجِهَة الَّتِي يعرفهُ بهَا إِن كَانَت ذاتية فالمنبئ عَنْهَا الْحَد، وَإِلَّا الرَّسْم، على مَا يَأْتِي.
الثَّانِي: معرفَة غَايَة ذَلِك الْعلم؛ لِئَلَّا يكون سَعْيه عَبَثا، لِأَنَّهُ تَضْييع للعمر فِيمَا لَا يعلم لَهُ فَائِدَة.
الثَّالِث: أَن يعرف مَا يستمد مِنْهُ؛ ليرْجع فِي تِلْكَ الْجُزْئِيَّة إِلَى محلهَا مِنْهُ.
وَاعْلَم أَن أصل هَذِه الْقَاعِدَة: أَن كل مَعْدُوم يُوجد، مُتَوَقف وجوده على أَربع علل:
صورية: وَهِي الَّتِي تقوم بهَا الصُّورَة وتتميز بهَا عَن غَيرهَا، فتصور الْمركب مُتَوَقف على تصور أَرْكَانه وانتظامها على الْوَجْه الْمَقْصُود.
وغائية: وَهِي الباعثة على إيجاده، وَهِي الأولى فِي الْفِكر، مُقَدّمَة على سَائِر الْعِلَل وَإِن كَانَت آخرا فِي الْوُجُود الْخَارِجِي، وَلِهَذَا يُقَال: مبدأ الْعلم مُنْتَهى الْعَمَل، وَيُقَال أَيْضا: هِيَ عِلّة فِي الذِّهْن معلولة فِي الْخَارِج.
ومادية: وَهِي الَّتِي مِنْهَا يستمد المركبات أَو مَا فِي حكمهَا.
وفاعلية: وَهِي المؤثرة فِي إِيجَاد ذَلِك وإخراجه من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود.
وَيَأْتِي الْإِلْمَام بِهَذِهِ الْفَائِدَة فِي الْعلَّة الشَّرْعِيَّة فِي خطاب الْوَضع.
قَوْله: {فالأصول جمع أصل} .
الْفَاء هُنَا كالفاء فِي قَوْلنَا: (فموضوع) ، وَهَذَا بَيَان لَهَا من حَيْثُ جمعهَا وإفرادها، وَمَا كَانَ من الْأَسْمَاء على (فعل) سَاكن الْعين، فبابه فِي جمع الْقلَّة (أفعل)، نَحْو:(أفلس) و (أكلب)، وَفِي الْكَثْرَة على (فعال) نَحْو:(حَبل وحبال) و (كلب وكلاب) و (كَعْب وكعاب)، وعَلى (فعول) نَحْو: فصل وفصول) و (أصل وأصول) و (فرع وفروع) .
وَلما قدمنَا: أَن كل طَالب علم لابد لَهُ من معرفَة ثَلَاثَة أُمُور، شرعنا فِي بَيَانهَا، فَفِيمَا نَحن بصدده علم أصُول الْفِقْه، فَلَا بُد من مَعْرفَته / من حَيْثُ الْمَعْنى الْجَامِع لجزئياته كلهَا، وَمَعْرِفَة غَايَته، ومعرة استمداده، فَيعرف حَقِيقَته من أَرَادَ الِاشْتِغَال بِهِ، فَإِن عرف مَا يطْلب هان عَلَيْهِ مَا يبْذل.
فأصول الْفِقْه: مركب من مُضَاف ومضاف إِلَيْهِ، ثمَّ صَار بِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء لَهُ معنى آخر غير الأول وَهُوَ العلمية، فَصَارَ علما عَلَيْهِ بالغلبة، لقباً مشعراً برفعته، فَيَنْبَغِي أَن يعرف من حَيْثُ مَعْنَاهُ الإضافي، وَمن حَيْثُ مَعْنَاهُ اللقبي.
إِذا علم ذَلِك؛ فبعض المصنفين بَدَأَ بِمَعْرِِفَة كَونه مُضَافا، فَتكلم على الْمُضَاف أَولا، ثمَّ على الْمُضَاف إِلَيْهِ ثَانِيًا، ثمَّ على كَونه مركبا، وتابعناهم على ذَلِك فِي الْمَتْن، لِأَن معرفَة الْمُفْرد تكون قبل معرفَة الْمركب.
وَمن بَدَأَ بِكَوْنِهِ علما قَالَ: صَار ذَلِك كالمفرد، وَهُوَ أظهر وَأولى؛ لِأَن الأول فِيمَا تركيبه ملحوظ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك.
فعلى الأول: كل مركب لَا يعرف إِلَّا بِمَعْرِِفَة أَجْزَائِهِ، فأصول الْفِقْه، مركب من مُضَاف ومضاف إِلَيْهِ، فالمضاف أصُول، وَهِي جمع أصل.
{وَهُوَ} أَي: الأَصْل، {لُغَة} : أَي: فِي اللُّغَة: {مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره} .
اخْتلفت عباراتهم فِي الأَصْل فِي اللُّغَة، فَقيل: هُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره، {قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل} ، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ
فِي شرح الْعُمْدَة "، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، {وَالْأَكْثَر} .
{وَقَالَ جمع: مَا مِنْهُ الشَّيْء} . مِنْهُم الأرموي فِي " الْحَاصِل ".
وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب " و " التَّحْصِيل ": (الْمُحْتَاج إِلَيْهِ) .
وَقيل: مَا يتَفَرَّع عَنهُ غَيره. وَقَالَ بَعضهم: (هَذِه الْعبارَة أحسن من قَول أبي الْحُسَيْن: " مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره "؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَال: إِن الْوَلَد / يَنْبَنِي على الْوَالِد، وَيُقَال: إِنَّه فَرعه، وَأحسن من قَول صَاحب " الْحَاصِل "
وَجَمَاعَة: " مَا مِنْهُ الشَّيْء "؛ لاشتراك " من " بَين الِابْتِدَاء والتبعيض، وَأحسن من قَول الإِمَام:" الْمُحْتَاج إِلَيْهِ "؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بالاحتياج: مَا يعرف فِي علم الْكَلَام من احْتِيَاج الْأَثر إِلَى الْمُؤثر وَالْمَوْجُود إِلَى الموجد، لزم إِطْلَاق الأَصْل على الله تَعَالَى، وَإِن أُرِيد: مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الشَّيْء، لزم إِطْلَاقه على الْجُزْء وَالشّرط وَانْتِفَاء الْمَانِع، وَإِن أُرِيد: مَا يفهمهُ أهل الْعرف من الِاحْتِيَاج، لزم إِطْلَاقه على الْأكل واللبس وَنَحْوهمَا، وكل هَذِه اللوازم مستنكرة) انْتهى.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (و " من " فِي قَوْله: مَا مِنْهُ الشَّيْء للتَّبْعِيض، أَي: مَا بعضه الشَّيْء، وَالْفرع بعض أَصله، كَالْوَلَدِ من الْوَالِد، والغصن من الشَّجَرَة، لِأَن الْفِقْه مقتطع من أدلته اقتطاع الْوَلَد من الْوَالِد والغصن من الشَّجَرَة وَنَحْوه، وَيجوز أَن تكون " من " لابتداء الْغَايَة، على معنى: أَن أَدِلَّة الْفِقْه من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَنَحْوهَا [هِيَ] مبدأ ظُهُوره، وَمِنْهَا ابْتِدَاء بَيَانه، وَهُوَ أظهر الْمَعْنيين فِي " من ".) انْتهى.
وَقَالَ أَيْضا: (وَزعم بَعضهم أَن تَعْرِيف الشَّيْء ب " مَا " كَانَ فِي التعريفين قَبِيح؛ لِأَن المُرَاد من التَّعْرِيف الْإِيضَاح والإفهام، وَلَفظ " مَا " شَدِيد الْإِبْهَام، فالتعريف بِهِ يُنَافِي الْمَقْصُود.
ورده بِأَن " مَا " وَإِن كَانَت شَدِيدَة الْإِبْهَام غير أَن التَّعْرِيف لَيْسَ بهَا وَحدهَا، بل بهَا وَبِمَا بعْدهَا، وبمجموعهما يحصل الْكَشْف عَن حَقِيقَة الْمَحْدُود.
- ثمَّ قَالَ -: نعم المناقشة على ذَلِك من وَجه آخر، وَهُوَ: أَن شَأْن الْحُدُود والتعريفات أَن يَأْتِي فِيهَا بِالْجِنْسِ الْقَرِيب ثمَّ يُمَيّز بِالْفَصْلِ، وَلَفظ " مَا " عَام فِي الْجِنْس الْقَرِيب والبعيد، فَلَا يعلم مَا المُرَاد.
قَالَ: وَالْجَوَاب: / أَن الحذاق لَا يطلقون لفظ " مَا " فِي التَّعْرِيف إِلَّا مَعَ قرينَة تدل على الْجِنْس الْقَرِيب، والقرائن فِي المخاطبات كالألفاظ بل أبلغ فِي الإفهام) انْتهى.
وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " الإحكام " و " مُنْتَهى السول ": (هُوَ مَا يسْتَند تحقق الشَّيْء إِلَيْهِ) .
وَقيل: (منشأ الشَّيْء) ، وَلَا طائل تَحت هَذِه الْعبارَات، فَلذَلِك لم نذْكر فِي الْمَتْن مِنْهَا إِلَّا قَوْلَيْنِ، وَإِن كَانَ أهل اللُّغَة لم يذكرُوا هَذِه الْأَقْوَال فِي كتبهمْ، لِأَن الْأُصُولِيِّينَ يتعرضون لِأَشْيَاء لم يتَعَرَّض لَهَا أهل اللُّغَة، وَأما فِي الْعرف فَالْأَصْل مُسْتَعْمل فِي ذَلِك.
فَائِدَة: قَوْلنَا مثلا: الأَصْل لُغَة، أَو الْفِقْه لُغَة، أَو الدَّلِيل لُغَة، وَنَحْو ذَلِك، وَاصْطِلَاحا أَو شرعا وَنَحْوه.
اخْتلفُوا فِي الناصب لَهُ.
قيل: هُوَ مَنْصُوب بِنَزْع حرف الصّفة، وَتَقْدِيره: أَي: فِي اللُّغَة، وَهَكَذَا أعربه الطوفي فِي " شَرحه " وَغَيره.
وَقَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": (وَقَوله: الدَّلِيل لُغَة: المرشد، وَالْإِجْمَاع لُغَة كَذَا، وَشبهه، مَنْصُوب على الْمصدر، من بَاب الْمصدر الْمُؤَكّد لغيره، لِأَن مَعْنَاهُ: أَي: [مَدْلُول] الدَّلِيل لُغَة: المرشد.
لِأَن الدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى: دلَالَة شرع، وَإِلَى دلَالَة عرف، وَإِلَى دلَالَة لُغَة، فَلَمَّا كَانَت مُحْتَملَة وَذكر أحد المحتملات كَانَ من بَاب الْمصدر الْمُؤَكّد، وَكَانَ الْقيَاس أَن يذكر بعد [الْجُمْلَة] وَلكنهَا قدمت للقصد إِلَى أَنَّهَا لبَيَان دلَالَة الدَّلِيل، لِأَنَّهَا لَو أخرت لكَانَتْ صَالِحَة لكل وَاحِد مِنْهَا، وَلَيْسَت تمييزاً عَن النِّسْبَة، إِذْ لَا إِبْهَام فِي حمل المرشد على الدَّلِيل، وَلَا عَن [الْمُفْرد] وَهُوَ الدَّلِيل [إِذْ الْإِبْهَام فِي غير مستو] لكَونه مُشْتَركا) انْتهى.
وَقَوْلنَا مثلا: خلافًا لفُلَان، مَنْصُوب على الْمصدر أَو الْحَال، أَي: أَقُول ذَلِك وَأَنا أخالفهم مُخَالفَة وَخِلَافًا.
أَو أَقُول ذَلِك / فِي حَال كوني مُخَالفا لَهُم، وَهُوَ أحسن.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} .
أَي: معنى الأَصْل فِي الِاصْطِلَاح. {مَا لَهُ فرع} .
قَالَه ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَغَيره، وَهُوَ كَذَلِك؛ لِأَن الْفَرْع إِنَّمَا ينشأ دَائِما عَن أصل، وَالْأَصْل لَا يُطلق غَالِبا إِلَّا على مَا لَهُ فرع.
قَوْله: {وَيُطلق على الدَّلِيل} .
اعْلَم أَن للْأَصْل أَرْبَعَة إطلاقات إطلاقاً متعارفاً.
أَحدهَا: الدَّلِيل، وَيُطلق عَلَيْهِ غَالِبا، صرح بِهِ جمع من الْعلمَاء، كَقَوْلِهِم: أصل هَذِه الْمَسْأَلَة الْكتاب وَالسّنة، أَي: دليلها.
فَإِذا وصلته بالفقه وَقلت: دَلِيل الْفِقْه، كَانَ تَفْسِيرا لأصل الْفِقْه من حَيْثُ الْإِضَافَة، وَهُوَ المُرَاد هُنَا.
وَالثَّانِي: يُطلق على الرجحان، أَي: على الرَّاجِح من الْأَمريْنِ، كَقَوْلِك: الأَصْل فِي الْكَلَام الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز، أَي: الرَّاجِح عِنْد السَّامع هُوَ الْحَقِيقَة، وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة، وَبَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ.
وَالثَّالِث: الْقَاعِدَة المستمرة، أَو الْأَمر المستمر، كَقَوْلِك: أكل الْميتَة على خلاف الأَصْل، أَي: على خلاف الْحَالة المستمرة فِي الحكم.
وَالرَّابِع: الْمَقِيس عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يُقَابل الْفَرْع فِي بَاب الْقيَاس على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: {الْفِقْه لُغَة: الْفَهم، عِنْد الْأَكْثَر} .
الْفِقْه: مصدر فقه، يُقَال: فقه بِكَسْر الْقَاف وَضمّهَا وَفتحهَا.
فَالْأول لمُطلق الْفَهم، وَالثَّانِي إِذا كَانَ لَهُ سجية، وَالثَّالِث إِذا ظهر على غَيره، قَالَه الْقَرَافِيّ وَجَمَاعَة. قَالَ فِي " الْقَامُوس ":(فقه ككرم وَفَرح فَهُوَ فَقِيه، وَفقه كندس) .
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": (الْفِقْه: فهم الشَّيْء) .
قَالَ ابْن فَارس: (وكل علم بِشَيْء فَهُوَ فقه) .
وَالْفِقْه على لِسَان حَملَة الشَّرْع: علم خَاص.
وَفقه فقهاً من بَاب تَعب: إِذا علم، وَفقه - بِالضَّمِّ - مثله، وَقيل: الضَّم: إِذا صَار الْفِقْه لَهُ سجية.
قَالَ أَبُو زيد: " رجل فقه - بِضَم الْقَاف وَكسرهَا -، وَامْرَأَة فقهة بِالضَّمِّ ".) انْتهى. /
إِذا علم ذَلِك؛ فَلهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الِاصْطِلَاح.
فَأَما مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيره على أَقْوَال.
أَحدهَا: أَنه الْفَهم، قَالَه الْأَكْثَر؛ لِأَن الْعلم يكون عَنهُ.
قَالَ الطوفي: (وَمِمَّا يدل على تغايرهما؛ أَن الْفِقْه يتَعَلَّق بالمعاني دون الْأَعْيَان، وَالْعلم يتَعَلَّق بهما، فَيصح أَن يُقَال: علمت معنى كلامك وفهمته) .
قَالَ الْجَوْهَرِي: (الْفِقْه لُغَة: الْفَهم) .
قَالَ أَبُو الْفرج فِي " الْإِيضَاح ": (يُقَال فِي اللُّغَة: فلَان فَقِيه، أَي: فهم، وَفُلَان يفقه عني مَا أَقُول، أَي: يفهم عني مَا أَقُول، وَقد قَالَ الله تَعَالَى:{فَمَال هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا} [النِّسَاء: 78]، {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} [الْإِسْرَاء: 44] ، {مَا نفقه كثيرا مِمَّا تَقول} [هود: 91] ، أَي: لَا يكادون يفهمون، وَلَكِن لَا تفهمون، وَمَا نفهم كثيرا مِمَّا تَقول، وَنَحْوه
قَوْله: {وَهُوَ إِدْرَاك معنى الْكَلَام} .
يَعْنِي: معنى الْفَهم: إِدْرَاك معنى الْكَلَام، زَاد ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ":(بِسُرْعَة)، وَلَا حَاجَة إِلَيْهَا؛ لِأَن من يفهم بعد حِين يُقَال: فهم.
قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ - أَي: فِي " شرح الْمُخْتَصر " -: (المُرَاد بالفهم الدَّرك لَا جودة الذِّهْن من جِهَة تهيئه [لاقتناص] مَا يرد عَلَيْهِ من المطالب.
والذهن: قُوَّة النَّفس المستعدة لِاكْتِسَابِ الْحُدُود والآراء) .
وَالثَّانِي قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَابْن فَارس فِي " الْمُجْمل "، وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " التخليص "، والكيا، والقشيري، وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهم، وَحكي عَن الْأَصْحَاب: الْعلم.
لم أعلم من أَيْن نقلت أَن هَذَا القَوْل حُكيَ عَن الْأَصْحَاب الْآن.
قَالَ ابْن فَارس فِي " الْمُجْمل ": (الْفِقْه الْعلم، وكل علم بِشَيْء فَهُوَ فقه) .
وَالثَّالِث قَالَه ابْن الصيقل، وَصَاحب " رَوْضَة فقهنا "، وَالْغَزالِيّ، والآمدي: هما، أَي: الْفِقْه لُغَة: الْفَهم وَالْعلم.
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْفِقْه بِالْكَسْرِ الْعلم بالشَّيْء والفهم) ، وَلم يحك خلافًا.
يُقَال: فلَان يفقه الْخَيْر وَالشَّر، ويفقه كَلَام فلَان، أَي: يفهمهُ ويعلمه.
وَالرَّابِع قَالَه القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": (معرفَة قصد الْمُتَكَلّم) .
قَالَ الرَّازِيّ / فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب ": (هُوَ فهم غَرَض الْمُتَكَلّم من كَلَامه) .
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " عَن كَلَام القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": (يبطل بِكَلَام من لَا قصد لَهُ كالنائم وَالصَّبِيّ وَالْمَجْنُون) .
وَالْخَامِس، قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ":(الْكل) .
أَي: يُطلق على الْكل الَّذِي تقدم.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (يُقَال " فهمت كلامك، إِذا عَرفته وفهمته وعلمته، كل ذَلِك بِمَثَابَة وَاحِدَة) انْتهى.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (الْفِقْه هُوَ الْفَهم وَالْعلم وَالشعر والطب لُغَة، وَإِنَّمَا اخْتصّت بعض الْأَلْفَاظ بِبَعْض الْعُلُوم بِسَبَب الْعرف) ، وَحَكَاهُ عَن الْمَازرِيّ
فِي " شرح الْبُرْهَان ".
وَالسَّادِس قَالَه الشِّيرَازِيّ وَغَيره: (فهم مَا يدق) .
قَالَه أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع "، وَصَاحب " اللّبَاب " من الْحَنَفِيَّة، وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا.
قَالَ ابْن هُبَيْرَة: (هُوَ اسْتِخْرَاج الغوامض والاطلاع عَلَيْهَا)، وَهُوَ أظهر؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَال: فقهت أَن السَّمَاء فَوْقنَا، وَلَا أَن النَّار حارة، وَنَحْو ذَلِك، وَيُقَال: فقهت كلامك، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن الْفِقْه أخص من الْعلم.
قَالَ ابْن مُفْلِح - من أَصْحَابنَا - عَن كَلَام ابْن هُبَيْرَة: (وَلَعَلَّه مُرَاد من أطلق) .
وَالسَّابِع: (التَّوَصُّل إِلَى علم غَائِب بِعلم شَاهد) ، قَالَه الرَّاغِب.
قَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح مُخْتَصر الطوفي ": (الْفَهم هَيْئَة للنَّفس بهَا يتَحَقَّق مَعَاني مَا يحس، فالعلم إِذن عَنهُ، وَمن ثمَّ قيل: الْفِقْه التَّوَصُّل إِلَى علم غَائِب بِعلم شَاهد، فَهُوَ أخص من الْعلم) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا} .
أَي: فِي اصْطِلَاح فُقَهَاء الشَّرْع.
لَهُم فِي تَفْسِيره وَحده عِبَارَات لَا تَخْلُو من إيرادات. أَحدهَا - قَالَه أَكثر أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين -: (معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية بِالْفِعْلِ أَو الْقُوَّة الْقَرِيبَة) .
نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَيرد عَلَيْهِ: كَونهم حكمُوا بِأَنَّهُ معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية بِالْفِعْلِ، وَهَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ بشر، أَو الْقُوَّة، وَهُوَ مُشكل، إِذْ لَا بُد للفقيه / من معرفَة بعض الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ، فلعلهم أَرَادوا (أَو) بِمَعْنى (الْوَاو) ، فَيكون معرفَة الْأَحْكَام بَعْضهَا بِالْفِعْلِ وَبَعضهَا بِالْقُوَّةِ، فَيقرب الْأَمر، بل هَذَا هُوَ الْفَقِيه الْمُجْتَهد يعرف بعض الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ، وَبَعضهَا بِالْقُوَّةِ، لتهيوئه لَهَا.
وَقَالَ أَبُو الْفرج فِي مُقَدّمَة " الْإِيضَاح ": (حَده فِي الشَّرِيعَة: الْعلم بِأَفْعَال الْمُكَلّفين الشَّرْعِيَّة دون الْعَقْلِيَّة من تَحْلِيل أَو تَحْرِيم وحظر إِبَاحَة) .
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (حد الْفِقْه: الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة) .
وَقيل: (معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) انْتهى.
وَقَالَ ابْن حمدَان وَغَيره: (معرفَة كثير من الْأَحْكَام عرفا) .
فَقَالَ فِي " الْمقنع ": (الْفِقْه شرعا: معرفَة أَحْكَام جمل كَثِيرَة عرفا من مسَائِل الْفُرُوع العلمية من أدلتها الْحَاصِلَة بهَا) ، وَهُوَ حسن.
وَمرَاده بالمعرفة: الْفِعْل؛ لِأَن الْفَقِيه لابد لَهُ من معرفَة كثير من الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": (الْعلم بِأَحْكَام الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة كالحل وَالْحُرْمَة وَالصِّحَّة وَالْفساد وَنَحْوهَا.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": (وَأكْثر الْمُتَقَدِّمين قَالُوا: معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الثَّابِتَة لأفعال الْمُكَلّفين، وَقيل النَّاس) .
قَالَ فِي " شَرحه ": (لم يقصدوا تَحْرِير الْمُتَأَخِّرين، بل أَرَادوا الْإِشَارَة إِلَى حَقِيقَة الْفِقْه) .
وَيرد عَلَيْهِ أَشْيَاء كَثِيرَة، ومؤاخذات لَا طائل تحتهَا وَلَا فَائِدَة، وتعرف بِالتَّأَمُّلِ.
وَقيل: - هَذَا القَوْل الثَّانِي -:
إِنَّه نفس الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية، وَهُوَ أظهر، وَاخْتَارَهُ ابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، والعسقلاني شَارِح " الطوفي "، وَجمع كثير، لَا مَعْرفَتهَا وَلَا الْعلم بهَا، إِذْ الْعلم أَو الْمعرفَة بالفقه غير الْفِقْه، فَلَا يكون دَاخِلا فِي مَا هيته، وَمَا لَيْسَ دَاخِلا فِي الْمَاهِيّة لَا يكون جِنْسا فِي حَده، وَيَأْتِي لذَلِك مزِيد بَيَان / فِي حد أصُول الْفِقْه لقباً.
وَقيل - هَذَا القَوْل الثَّالِث -:
إِنَّه الْعلم بهَا عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال. اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَغَيرهم.
فبعضهم قَالَ: الْعلم، وَبَعْضهمْ قَالَ: الْمعرفَة.
وعَلى هَذَا الْحَد - أَيْضا - إيرادات ومؤاخذات كَثِيرَة، وأجوبة عَن ذَلِك، ذكروها فِي الشُّرُوح والمتون - أَيْضا - يطول الْكتاب بذكرها.
وَهَذَا الْحَد مُوَافق لقَوْل أَصْحَابنَا: (معرفَة الْأَحْكَام لَا نفس الْأَحْكَام) ، وَيَأْتِي مَأْخَذ الْخلاف فِي حد أصُول الْفِقْه لقباً؛ فَإِن الْخلاف هُنَا كالخلاف هُنَاكَ عِنْد [كثير] مِنْهُم.
فَائِدَة: عدي الْعلم بِالْبَاء، وَالْعلم يتَعَدَّى بِنَفسِهِ، فَلَا بُد من تَأْوِيل، وَلَهُم فِي تَأْوِيله وَجْهَان أَو ثَلَاثَة:
أَحدهَا: تضمن الْعلم معنى الْإِحَاطَة بِالْأَحْكَامِ، والإحاطة تتعدى بِالْبَاء.
الثَّانِي: تكون مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف تَقْدِيره: الْعلم الْمُتَعَلّق بِالْأَحْكَامِ، فَتكون الْبَاء مُتَعَلقَة بِصفة الْعلم وَهُوَ: الْمُتَعَلّق.
لَكِن قد جَاءَت الْبَاء فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلم بِأَن الله يرى} [العلق: 14] ، فَيحْتَمل زيادتها، وَيحْتَمل أَن يكون (علم) متضمناً معنى (أحَاط) .
فدخول الْبَاء فِي قَوْله: (الْعلم بِالْأَحْكَامِ) أما على طَرِيق التَّضْمِين فِي الْفِعْل فَظَاهر، وَأما على طَرِيق الزِّيَادَة فِي الْفِعْل؛ فَلِأَن الْمصدر الْمَعْرُوف بِالْألف وَاللَّام ضَعِيف الْعَمَل جدا، وَإِذا ضعف تقوى بالحرف، وَكَقَوْلِه تَعَالَى:{إِن كُنْتُم للرءيا تعبرون} [يُوسُف: 43]، {ومصدقاً لما بَين يَدَيْهِ} [الْمَائِدَة: 46] ، وعَلى كل تَقْدِير: هِيَ مُتَعَلقَة بِالْعلمِ، وَأما تَقْدِير مَحْذُوف
كَقَوْلِنَا: الْعلم الْمُتَعَلّق بِالْأَحْكَامِ، فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ، إِلَّا إِذا فسرنا الْعلم بالصناعة فَيظْهر تَقْدِيره. انْتهى.
فَائِدَة: الحكم الفرعي: مَا لَا يتَعَلَّق بالْخَطَأ فِي اعْتِقَاد مُقْتَضَاهُ وَالْعلم بِهِ قدح فِي الدّين وَلَا وَعِيد فِي الْآخِرَة، كالنية فِي الْوضُوء، وَالنِّكَاح / بِلَا ولي.
قَوْله: {والفقيه: من عرف جملَة غالبة مِنْهَا كَذَلِك، وأبدل الْمجد وَابْن حمدَان غالبة بكثيرة} .
هَذَا تَعْرِيف الْفَقِيه، لما ذكرنَا حد الْفِقْه، أردنَا أَن نَعْرِف الْفَقِيه.
وَقَوله كَذَلِك.
أَي: يعرفهَا عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، فَلَا يكون فَقِيها حَتَّى يعرفهَا على هَذِه الصّفة وَإِلَّا لَكَانَ مُقَلدًا. وأبدل الْمجد وَابْن حمدَان غالبة بكثيرة.
فَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (الْفَقِيه حَقِيقَة: من لَهُ أَهْلِيَّة تَامَّة يعرف الحكم بهَا إِذا شَاءَ، مَعَ مَعْرفَته جملا كَثِيرَة من الْأَحْكَام الفروعية وحضورها عِنْده بأدلتها الْخَاصَّة والعامة) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْمقنع ": (الْفِقْه شرعا: معرفَة أَحْكَام جمل كَثِيرَة عرفا من مسَائِل الْفُرُوع العلمية بأدلتها الْحَاصِلَة بهَا) .
فالفقيه حَقِيقَة من عرفهما معرفَة، وَيُمكن من معرفتهما معرفَة غَيرهمَا بطريقه) انْتهى.
فَكَلَام الْمجد وَابْن حمدَان وَكَلَام غَيرهمَا مُتَقَارب، لَكِن ظَاهر قَوْلهم: جملَة غالبة، الْغَالِبَة لابد وَأَن تكون فَوق النّصْف، حَتَّى تكون غالبة على مَا يقابلها، بِخِلَاف الْكَثِيرَة؛ فَإِنَّهَا تطلق حَيْثُ وجدت الْكَثْرَة.
وَحَيْثُ حملنَا الْعبارَة الأولى على أَكثر من النّصْف فيشكل؛ لِأَن الْفِقْه جَمِيعه لَا يُحِيط بِهِ بشر، فَكيف يعرف من ذَلِك النّصْف أَو أَكثر مِنْهُ، فَيبقى فِي الْعبارَة شَيْء.
وَإِن حملناها على أَكْثَره سهل الْأَمر، فَيكون المُرَاد: كَثِيرَة غالبة، فَهِيَ أخص من الْكَثْرَة الْمُطلقَة، وَيَأْتِي فِي تَعْرِيف الْمُجْتَهد: أَنه لَا يشْتَرط فِيهِ معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر، والمجتهد هُوَ الْفَقِيه.
فعلى هَذَا يكون قَوْلهمَا: كَثِيرَة، أولى من قَول من قَالَ: غالبة، إِذا فسرناها بِأَكْثَرَ من النّصْف، وَهُوَ كَذَلِك.
إِذا علم ذَلِك؛ فَلَا يُطلق الْفَقِيه على مُحدث وَلَا مُفَسّر وَلَا مُتَكَلم
وَلَا نحوي وَنَحْوهم، / قَالَه الشَّيْخ الْمُوفق وَغَيره، وَهُوَ وَاضح
قَوْله: {فَخرج بالأدلة: علم الله وَرُسُله غير الْمُجْتَهد فِيهِ} .
أردْت أَن أنبه هُنَا على بعض نكيتات فِي قيود حد ابْن الْحَاجِب وَغَيره مِمَّا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن.
فَخرج بقوله: الْعلم بِالْأَحْكَامِ: الْعلم بالذوات وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال.
قَالَ الْعلمَاء: (لَا بُد للْعلم من مَعْلُوم، وَذَلِكَ الْمَعْلُوم إِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَى مَحل يقوم بِهِ فَهُوَ الْجَوْهَر كالجسم، وَإِن احْتَاجَ؛ فَإِن كَانَ سَببا بَين الْأَفْعَال والذوات فَهُوَ الحكم، وَإِلَّا فَهُوَ الصّفة كالحمرة والسواد) .
وَخرج بقوله: عَن أدلتها: علم الله [وَرُسُله] من الْآدَمِيّين، فِيمَا لَيْسَ من اجتهادهم، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَن دَلِيل بل هُوَ [متلقى] عَن جِبْرَائِيل، وَمَا كَانَ من اجتهادهم فَهُوَ عَن دَلِيل.
وَقد صرح بِهَذَا الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته، وَغَيره، وَهُوَ وَاضح.
وَالصَّحِيح جَوَاز اجتهادهم ووقوعه مِنْهُم، على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي أَحْكَام الْمُجْتَهد.
وَخرج - أَيْضا - مَا علم من الدّين بِالضَّرُورَةِ، كإيجاب الصَّلَوَات الْخمس وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج، وَتَحْرِيم الزِّنَا والربا وَالسَّرِقَة وَنَحْوهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْفِقْه، لكَونه مستخرجاً من دَلِيل تفصيلي، وَالْعلم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء لَا يُسمى فقهاً فِي الِاصْطِلَاح، وَإِن سمي فروعاً بِالنِّسْبَةِ إِلَى أصُول الدّين، كَمَا يُقَال فِي تَكْلِيف الْكَافِر بالفروع، مُرَادهم بذلك الصَّلَاة وَنَحْوهَا.
أَي: قيل: إِن علم الله عَن الْأَدِلَّة، ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "؛ لِأَن الْعلم بِالْعِلَّةِ وَهُوَ الدَّلِيل، لَازم للْعلم بالمعلول وَهُوَ الحكم.