الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرنَا هُنَا مسَائِل لَهَا تعلق بِالدَّلِيلِ كالمستدل نَفسه، والمستدل بِهِ، والمستدل عَلَيْهِ، والمستدل لَهُ، وَنَحْوهَا فَإِنَّهَا من مَادَّة الدَّلِيل.
فالمستدل: اسْم فَاعل من اسْتدلَّ يسْتَدلّ فَهُوَ مستدل، وَالْفِعْل مِنْهُ مَبْنِيّ للطلب غَالِبا، كاستغفر واستخرج وَنَحْوهمَا، وَذَلِكَ لِأَن السَّائِل يطْلب الدَّلِيل من المسؤول، والمسؤول يطْلب الدَّلِيل من الْأُصُول، قَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي:(السَّائِل مستدل) .
إِنَّمَا أخرنا كَلَام الإِمَام إِلَى هَذَا الْمحل؛ لنستدل بِهِ على مَا ذَكرْنَاهُ قبل ذَلِك من الدَّال وَالدَّلِيل والمبين والمستدل.
وَقَوله: هَذِه قَوَاعِد الْإِسْلَام؛ الَّذِي يظْهر أَن مَعْنَاهُ: أَن قَوَاعِد الْإِسْلَام ترجع إِلَى الله تَعَالَى، وَإِلَى قَوْله وَهُوَ الْقُرْآن، وَإِلَى رَسُوله صلى الله عليه وسلم َ -
وَإِلَى عُلَمَاء الْأمة، لم يخرج شَيْء من أَحْكَام الْمُسلمين وَالْإِسْلَام عَنْهَا.
قَوْله: وَالدَّلِيل: الْقُرْآن.
قَالَ الْفَخر أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل الْبَغْدَادِيّ: (هَذَا دَلِيل على أَن الدَّلِيل حَقِيقَة قَول الله تَعَالَى)
.
قَوْله: {والمستدل بِهِ: مَا يُوجب الحكم} . الْمُسْتَدلّ بِهِ اسْم مفعول، لَكِن هَل هُوَ الدَّلِيل أَو أَعم مِنْهُ؟
فَإِن كَانَ هُوَ الدَّلِيل حصل التّكْرَار فِي الْمُخْتَصر، فَإِنَّهُ يُقَال مثلا: هَذِه الْآيَة دَلِيل كَذَا وَاسْتدلَّ بهَا لكذا.
وَإِن كَانَ غَيره فَيكون / أَعم من الدَّلِيل، فَذكر الْأَعَمّ بعد الْأَخَص، وَهُوَ كثير فِي كَلَامهم، وَعَكسه وَهُوَ ذكر الْأَخَص بعد الْأَعَمّ.
وتابعت فِي " الْمُخْتَصر " صَاحب " الرَّوْضَة فِي الْفِقْه " من أَصْحَابنَا؛ فَإِنَّهُ ذكر الدَّلِيل وَذكر الْمُسْتَدلّ بِهِ، فَقَالَ:(الدَّلِيل: هُوَ الْموصل إِلَى الْمَقْصُود والمرشد إِلَى الْمَطْلُوب، والمستدل بِهِ: هُوَ الْعلَّة الْمُوجبَة للْحكم) انْتهى.
وَظَاهره: أَن الدَّلِيل أَعم من الْمُسْتَدلّ بِهِ، خلافًا لما قُلْنَا أَولا.
وعَلى كل حَال حَيْثُ حصل التباين وَلَو بِوَجْه انْتَفَى التّكْرَار، وَالله أعلم.
قَوْله: {والمستدل عَلَيْهِ: الحكم، فِي أَصَحهَا} .
الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ - أَيْضا - اسْم مفعول، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَالْأَصَحّ أَنه الحكم، أَي: الحكم على الشَّيْء بِكَوْنِهِ حَلَالا أَو حَرَامًا أَو مُسْتَحبا أَو وَاجِبا وَنَحْوه، قطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره.
وَحكى أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع " فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال فَقَالَ: (أَحدهَا: أَنه الحكم، فَقَالَ: الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ: هُوَ الحكم الَّذِي هُوَ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم؛ لِأَن الدَّلِيل يطْلب لَهُ، وَقيل: هُوَ الْخصم المناظر، وَقيل: هُوَ
مَذْهَب الْخصم الْمَطْلُوب فَسَاده) انْتهى.
قَوْله: {والمستدل لَهُ: الْخصم، وَقيل: الحكم} .
حكى الْقَوْلَيْنِ ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَالَّذِي يظْهر أَن القَوْل الأول لَازم للثَّانِي، فَإِن الِاسْتِدْلَال فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ للْحكم الَّذِي يَقُول بِهِ الْخصم، فالخصم يسْتَدلّ للْحكم الْقَائِل بِهِ وينصره، فَإِن الِاسْتِدْلَال لتَحْصِيل الحكم، أَو لكَون الْخصم قَائِلا بِهِ، فَهُوَ يسْتَدلّ لنَفسِهِ لَكِن لأجل الحكم الْقَائِل بِهِ.
قَوْله: {وَتَأْتِي الدّلَالَة} .
قَرِيبا، بعد الْكَلَام على الْمُفْرد والمركب، فِي الْكَلَام على اللُّغَة.
{وَالِاسْتِدْلَال} بعد الجدل.
{والمدلول} فِي التَّرْجِيح.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك: أَن مَادَّة (دلّ) و (اسْتدلَّ) لكل مِنْهُمَا اسْم فَاعل وَاسم مفعول ومصدر.
فاسم الْفَاعِل من (دلّ) : (دَال) ، و (دَلِيل) - إِن قُلْنَا بِمَعْنى فَاعل -، وَاسم / الْمَفْعُول:(مَدْلُول)، والمصدر:(دلَالَة) .
وَاسم الْفَاعِل من (اسْتدلَّ) : (مستدل) بِكَسْر الدَّال، وَاسم الْمَفْعُول بِفَتْحِهَا، والمصدر:(اسْتِدْلَال) ، لَكِن اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ تَارَة يكون [مستدلاً] بِهِ و [مستدلاً] عَلَيْهِ، و [مستدلاً] لَهُ.
قَوْله: {وَالنَّظَر - هُنَا -: فكر يطْلب بِهِ علم أَو ظن} .
النّظر يُطلق لُغَة على الِانْتِظَار، وعَلى رُؤْيَة الْعين، وعَلى الْإِحْسَان، وعَلى الْمُقَابلَة، وعَلى الِاعْتِبَار.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على [الجشت] : (النّظر لَهُ معَان عدَّة.
مِنْهَا: نظر الْعين كَقَوْلِه تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة، إِلَى رَبهَا ناظرة} [الْقِيَامَة: 22 - 23]، وَقَوله تَعَالَى:{على الأرآئك ينظرُونَ} [المطففين: 23، و 35] .
وَمِنْهَا نظر الْقلب كَقَوْلِه تَعَالَى: {أولم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْآيَة [الْأَعْرَاف: 185] .
وَمِنْهَا: معنى الْعَطف وَالرَّحْمَة كَقَوْلِه: {وَلَا ينظر إِلَيْهِم} [آل عمرَان: 77] .
وَمِنْهَا: معنى الِانْتِظَار كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة} [الزخرف: 66]، {انظرونا نقتبس من نوركم} [الْحَدِيد: 13] ، {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} [النَّمْل: 35] .
وَمِنْهَا: معنى الْمُقَابلَة والمحاذاة، يُقَال: دَاري تناظر دَارك، أَي: تقَابلهَا، والموضع الْفُلَانِيّ ينظر إِلَى جِهَة كَذَا، أَي: يُقَابله ويحاذيه.
وَمِنْه النّظر: لِأَنَّهُ يُقَابل الآخر ويناظره، وَيُسمى المتحاجان: متناظرين؛ لِأَنَّهُمَا متقابلان تقَابل الشَّيْئَيْنِ المتواجهين، وَلِأَنَّهُمَا متعاونان على النّظر الَّذِي هُوَ التفكر وَالِاعْتِبَار، طلبا لإدراك الْعلم وَبَيَانه.
وَالْمعْنَى الأول أظهر عِنْد أهل الْعَرَبيَّة، وَإِلَى الْمَعْنى الثَّانِي صغو الجدليين) انْتهى.
إِذا علم ذَلِك؛ فالنظر فِي الِاصْطِلَاح مَا ذكرنَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا:(هُنَا) ، لِأَن النّظر لَهُ معَان كَمَا تقدم، وَهُوَ - هُنَا - فكر يطْلب بِهِ علم أَو ظن، وَهَذَا التَّعْرِيف للْقَاضِي أبي بكر الباقلاني، وَتَبعهُ جمَاعَة.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (النّظر تفكر وَتَأمل، وَاعْتِبَار تَرْتِيب يعرف بِهِ الْمَطْلُوب من تصور وتصديق وحد وَدَلِيل / وأمارة) ، ثمَّ ذكر حد الباقلاني قولا، وَذكر أقوالاً غير ذَلِك.
وَنحن تابعنا الْجَمَاعَة، ونتكلم عَلَيْهِ.
فالفكر كالجنس، وَيُطلق على [ثَلَاثَة] معَان:
أَحدهَا: حَرَكَة النَّفس بِالْقُوَّةِ الَّتِي آلتها مقدم الْبَطن الْأَوْسَط من الدِّمَاغ، إِذا كَانَت تِلْكَ الْحَرَكَة فِي المعقولات، فَإِن كَانَت فِي المحسوسات سميت تخييلاً.
الثَّانِي - وَهُوَ المُرَاد بِالْحَدِّ وَهُوَ أخص من الأول -: حركتها من المطالب إِلَى المبادئ، ورجوعها من المبادئ إِلَى المطالب، ويرسم الْفِكر بِهَذَا الْمَعْنى بترتيب أُمُور حَاصِلَة فِي الذِّهْن، ليتوصل بهَا إِلَى تَحْصِيل غير الْحَاصِل.
الثَّالِث: إِطْلَاقه على جُزْء الثَّانِي، وَهُوَ الْحَرَكَة من المطالب إِلَى المبادئ، وَإِن كَانَ الْغَرَض مِنْهَا الرُّجُوع، وَهَذَا الَّذِي يسْتَعْمل [بإزائه] الحدس، وَهُوَ سرعَة الِانْتِقَال من المبادئ إِلَى المطالب.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (النّظر - عرفا -: الْفِكر الْمَطْلُوب بِهِ علم أَو ظن، فَينْتَقل من أُمُور حَاصِلَة ذهناً إِلَى أُمُور مستحصلة.
وَقد يُطلق على حَرَكَة النَّفس الَّتِي يَليهَا الْبَطن الْأَوْسَط من الدِّمَاغ، الْمُسَمّى بالدودة، أَي حَرَكَة كَانَت فِي المعقولات، وَفِي المحسات يُسمى تخييلاً لَا فكراً) انْتهى.
قَوْله: {والإدراك بِلَا حكم تصور، وبحكم تَصْدِيق} .
إِدْرَاك الْمَاهِيّة من غير حكم عَلَيْهَا يُسمى تصوراً، وَهُوَ حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الذِّهْن، وَمَعَ الحكم يُسمى تَصْدِيقًا.
فَالْأول ساذج، أَي: مَشْرُوط فِيهِ عدم الحكم، وَالثَّانِي مَشْرُوط فِيهِ الحكم.
وَمعنى الحكم فِي التَّصْدِيق: إِسْنَاد أَمر إِلَى آخر إِثْبَاتًا أَو نفيا، نَحْو: كَون زيد قَائِما أَو لَيْسَ بقائم.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه: (إِدْرَاك الْحَقَائِق مُجَرّدَة عَن الْأَحْكَام، وَقيل: حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الْعقل، والتصديق: نِسْبَة حكمِيَّة بَين الْحَقَائِق بِالْإِيجَابِ [أَو السَّلب] ، وَقيل: إِسْنَاد أَمر إِلَى آخر إِيجَابا أَو سلباً) انْتهى.
وَالْمعْنَى وَاحِد، فَكل تَصْدِيق / مُتَضَمّن من مُطلق التَّصَوُّر [ثَلَاثَة] تصورات: تصور الْمَحْكُوم عَلَيْهِ والمحكوم بِهِ من حَيْثُ هما، ثمَّ تصور نِسْبَة أَحدهمَا للْآخر، فَالْحكم يكون تصوراً رَابِعا على مَا قَالَه الْمُحَقِّقُونَ من أَرْبَاب هَذَا الْفَنّ، لِأَنَّهُ تصور تِلْكَ النِّسْبَة مُوجبَة، أَو تصورها منفية.
وَقَالَ ابْن سينا وَغَيره: (التَّصْدِيق: نفس الحكم كَيفَ فرضته؟ وَتلك التصورات الثَّلَاثَة السَّابِقَة عَلَيْهِ شَرط لَهُ) .
وَقَالَ الرَّازِيّ وَجمع: (الْمَجْمُوع هُوَ التَّصْدِيق، فالتصورات السَّابِقَة على الحكم شطر من التَّصْدِيق لَا شَرط) .
وَإِنَّمَا سمي التَّصَوُّر تصوراً لأَخذه من الصُّورَة، لِأَنَّهُ حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الذِّهْن، وَسمي التَّصْدِيق تَصْدِيقًا؛ لِأَن فِيهِ حكما يصدق فِيهِ أَو يكذب، سمي بأشرف لازمي الحكم فِي النِّسْبَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَقسم المنطقيون الْعلم إِلَى: علم بمفرد يُسمى تصوراً، كَالْعلمِ بِمَعْنى الْإِنْسَان وَالْكَاتِب، وَعلم بِنِسْبَة يُسمى تَصْدِيقًا، وَهِي: إِسْنَاد شَيْء إِلَى آخر بِالنَّفْيِ أَو الْإِثْبَات؛ بِمَعْنى إيقاعها أَو انتزاعها، وَهُوَ الحكم. كَالْحكمِ بِأَن الإسان كَاتب أَو لَا.
وَأما بِمَعْنى: حُصُول صُورَة النِّسْبَة فِي الْعقل، فَإِنَّهُ من التَّصَوُّر.
- ثمَّ قَالَ -: وَلم يذكر أَصْحَابنَا هَذَا التَّقْسِيم، وَاعْترض بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم عَلَيْهِ - وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بِأَن الْعلم [من مقوله أَن ينفعل، وَالْحكم وَهُوَ الْإِيقَاع أَو الانتزاع] من مقوله أَو يفعل، فَكيف يَصح تَقْسِيم الْعلم إِلَى التَّصَوُّر وَإِلَى التَّصْدِيق؟
وَأجِيب: لَا محيص عَنهُ إِلَّا بتقسيمه إِلَى التَّصَوُّر الساذج، وَإِلَى التَّصَوُّر مَعَ التَّصْدِيق، كَمَا فعله ابْن سينا فِي " الإشارات ".
أَو المُرَاد بِالْعلمِ: أَعم من الْإِدْرَاك، وَهُوَ: الْأَمر الْمُشْتَرك بَين الْإِدْرَاك والهيئة اللاحقة بِهِ المحتملة للصدق وَالْكذب، وَهُوَ الْمَعْنى الذهْنِي الْمُقَيد بِعَدَمِ غَيرهَا، فَيصح تقسيمه إِلَى الْإِدْرَاك الَّذِي هُوَ التَّصَوُّر، وَإِلَى الْهَيْئَة الْمَذْكُورَة / الَّتِي هِيَ التَّصْدِيق، كَذَا قيل؛ وَفِيه نظر) انْتهى.
فَائِدَة: على قَول المناطقة - وَعَلِيهِ الْعَمَل عِنْد عُلَمَاء هَذَا الزَّمَان - كل من التَّصَوُّر والتصديق ضَرُورِيّ ونظري، وَلَيْسَ كل مِنْهُمَا ضَرُورِيًّا وَإِلَّا لما جهلنا شَيْئا، وَلَا نظرياً وَإِلَّا لما تحصلنا على شَيْء، والنظري مِنْهُمَا يُسمى مَطْلُوبا.