الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُقَال - أَيْضا -: سُقُوط الْقصاص عَن الْمُسلم الْقَاتِل للذِّمِّيّ حكم ثَبت لوُجُود مقتضيه، وَهُوَ شرف الْإِسْلَام وصيانته أَن يَجْعَل الْكَافِر كفوا لَهُ.
وَيُقَال: قتل الْمُسلم بالذمي حكم انْتَفَى بِوُجُود نافيه، وَهُوَ تحقق التَّفَاوُت بَينهمَا، أَو بِانْتِفَاء شَرطه، وَهُوَ الْمُكَافَأَة.
وَيَقُول الْحَنَفِيّ: هُوَ حكم ثَبت بِوُجُود مقتضيه، / وَهُوَ عصمَة الْإِسْلَام المستفادة من قَوْله صلى الله عليه وسلم َ -: "
إِذا أَدّوا الْجِزْيَة فَلهم مَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا
".
وغالب مسَائِل الْفُرُوع يُمكن إِثْبَاتهَا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْوهمَا، فَهِيَ أَدِلَّة إجمالية بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل مَسْأَلَة.
وَاعْلَم أَن الْمَطْلُوب: إِمَّا إِثْبَات الحكم فَهُوَ بِالدَّلِيلِ الْمُثبت، أَو نَفْيه فَهُوَ بِالدَّلِيلِ النَّافِي، أَو بِانْتِفَاء الدَّلِيل الْمُثبت، أَو بِوُجُود الْمَانِع، أَو بِانْتِفَاء الشَّرْط فَهَذِهِ أَربع قَوَاعِد ضابطة لمجاري الْكَلَام على تعدد جريانها وَكَثْرَة مسائلها. قَوْله:{والمقلد فِي الْأَصَح} .
اخْتلف الشُّرَّاح: بِمَا خرج الْمُقَلّد من حد الْفِقْه.
فَقيل - وَهُوَ الْأَصَح -: إِنَّه خرج بِقَيْد الْأَدِلَّة التفصيلية؛ لِأَن مَعْرفَته لبَعض الْأَحْكَام لَيست على دَلِيل أصلا لَا إجمالي وَلَا تفصيلي، فَلَا يكون علمه فقهاً وَلَا هُوَ فَقِيه؛ لِأَن شَرط الْفَقِيه: أَن يكون علمه عَن دَلِيل تفصيلي، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك.
وَقيل: خرج بِقَيْد الِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّهُ يعلم بعض الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَمَعَ ذَلِك لَا يُسمى علمه فقهاً؛ لِأَن عمله بهَا بِالْعقلِ الْمُجَرّد لَا عَن نظر واستدلال.
قَوْله: {فأصول الْفِقْه علما} .
مَا مضى من الْكَلَام كَانَ على معرفَة أصُول الْفِقْه من حَيْثُ التَّفْصِيل، فتكلمنا على الأَصْل لُغَة وَاصْطِلَاحا وعَلى الْفِقْه لُغَة وَاصْطِلَاحا، وَذكرنَا فِي ضمن ذَلِك: من الْفَقِيه؟
وَالْكَلَام الْآن على أصُول الْفِقْه من حَيْثُ كَونهَا قد صَارَت علما، أَي: لقباً على هَذَا الْعلم.
وَلَهُم فِي تَعْرِيفه عِبَارَات مُخْتَلفَة.
أَحدهَا مَا قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " والعسقلاني شَارِح " الطوفي "، وَجمع كثير: هُوَ {الْقَوَاعِد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة الفرعية} .
قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (هِيَ أدلته الْكُلية الَّتِي تفيده بِالنّظرِ على وَجه كلي) انْتهى.
فَجعلُوا أصُول الْفِقْه: هِيَ الْقَوَاعِد نَفسهَا، لَا الْعلم بهَا.
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى وَأَصْحَابه: (أصُول الْفِقْه مَا تبنى عَلَيْهِ مسَائِل الْفِقْه / وَتعلم أَحْكَامهَا بِهِ) .
قَالَ ابْن مُفْلِح - بعد كَلَام القَاضِي وَأَصْحَابه: فَهِيَ الْقَوَاعِد
…
إِلَى آخِره قَالَ -: (وَزِيَادَة " عَن " أَو " من أدلتها التفصيلية " ضائع، لِأَن المُرَاد
بِالْأَحْكَامِ: " الْفِقْهِيَّة "، وَلَا تكون إِلَّا كَذَلِك) .
إِذا علم ذَلِك؛ فالقواعد: جمع قَاعِدَة، وَهِي هُنَا: عبارَة عَن صور كُلية تنطبق كل وَاحِدَة مِنْهَا على جزئياتها الَّتِي تحتهَا، وَلذَلِك لم يحْتَج إِلَى تقييدها بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا كَذَلِك، وَتقدم ذَلِك أَيْضا.
وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا مثلا: حُقُوق العقد تتَعَلَّق بالموكل دون الْوَكِيل.
وَقَوْلنَا: الْحِيَل فِي الشَّرْع بَاطِلَة.
فَكل وَاحِدَة من هَاتين القضيتين يعرف بِالنّظرِ فِيهَا قضايا مُتعَدِّدَة كَقَوْلِنَا: عُهْدَة المُشْتَرِي على الْمُوكل، وَلَو حلف لَا يفعل شَيْئا فَوكل فِي
فعله حنث، وَلَو وكل مُسلم ذِمِّيا فِي شِرَاء خمر أَو خِنْزِير لم يَصح، لِأَن أَحْكَام العقد تتَعَلَّق بالموكل.
وَقَوْلنَا: لَا يَصح نِكَاح الْمُحَلّل، وَلَا تَخْلِيل الْخمر علاجاً، وَلَا بيع الْعينَة، وَلَا الْحِيلَة على إبِْطَال الشُّفْعَة؛ لِأَن الْحِيَل بَاطِلَة.
وَهَكَذَا قَوْلنَا - وَهُوَ المُرَاد هُنَا -: الْأَمر للْوُجُوب، وللفور، وَنَحْوه على مَا تقدم.
وَذَلِكَ كُله قَوَاعِد للمسائل الْفِقْهِيَّة.
وَقد صنف بعض متأخري أَصْحَابنَا وَغَيره قَوَاعِد فِي أصُول
الْفِقْه، وَبنى عَلَيْهَا مسَائِل فقهية.
والتوصل هُوَ: قصد الْوُصُول إِلَى الْمَطْلُوب بِوَاسِطَة، فَهُوَ كالتوسل. وَاحْترز بالتوصيل بهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام: عَن الْقَوَاعِد الَّتِي لَا يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط شَيْء، كقواعد الْبَيْت، أَو يستنبط مِنْهَا غير الْأَحْكَام من الصَّنَائِع وَالْعلم بالهيئات وَالصِّفَات.
وَالْمرَاد بِالْأَحْكَامِ: الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فَلذَلِك وصفت بالشرعية؛ لِأَن تِلْكَ الْقَوَاعِد هِيَ الْأَدِلَّة السمعية من الْكتاب وَالسّنة وَمَا يتَوَصَّل بهما، وَالْأَحْكَام المستنبطة من الْأَدِلَّة السمعية لَا تكون إِلَّا شَرْعِيَّة، من حَيْثُ أَن / وجودهَا إِنَّمَا عرف من جِهَة الشَّرْع.
وَقيل: يحْتَرز بهَا عَن الاصطلاحية والعقلية، كقواعد علم الْحساب والهندسة.
وَاحْترز بالفرعية: عَن الْأَحْكَام الَّتِي تكون من جنس الْأُصُول، كمعرفة وجوب التَّوْحِيد من أمره تَعَالَى لنَبيه صلى الله عليه وسلم َ - فِي قَوْله تَعَالَى:{فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} [مُحَمَّد: 19]، وَقيل: ككون الْإِجْمَاع دَلِيلا، وَالْقِيَاس حجَّة، وَمن ثمَّ لَا حَاجَة إِلَى زِيَادَة مَا تقدم.
القَوْل الثَّانِي مَا قَالَه ابْن الْحَاجِب والطوفي وَجمع: أَن أصُول الْفِقْه: (الْعلم بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية عَن أدلتها التفصيلية) .
ورد: بِأَن أصُول الْفِقْه، الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية، لَا الْعلم بهَا وَلَا مَعْرفَتهَا؛ إِذْ الْعلم والمعرفة بأصول الْفِقْه غير أصُول الْفِقْه، فَلَا يكون دَاخِلا فِي ماهيتها، وَمَا لَيْسَ دَاخِلا فِي الْمَاهِيّة لَا يكون جِنْسا فِي حَده، كَمَا قُلْنَا فِي حد الْفِقْه، وَلِأَن هَذَا الْحَد، وَهُوَ الْعلم بالقواعد بِعلم أصُول الْفِقْه أشبه مِنْهُ بأصول الْفِقْه، لِأَن أصُول الْفِقْه أدلته، وَالْعلم بالأدلة غير الْأَدِلَّة.
وَظهر من هَذَا أَن الأجود أَن يُقَال: أصُول الْفِقْه الْقَوَاعِد
…
إِلَى آخِره كَمَا قدمْنَاهُ.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (وَلَو كَانَ هُوَ معرفَة الْأَدِلَّة؛ لَكَانَ يلْزم من فقدان الْعَارِف بأصول الْفِقْه فقدان أصُول الْفِقْه، وَلَيْسَ كَذَلِك) انْتهى.
قلت: هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا اخْتلف فِيهَا الْعلمَاء، فَذهب القَاضِي أَبُو يعلى - من أَصْحَابنَا - وَأَصْحَابه، وَالْقَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، والرازي، والآمدي، وَابْن حمدَان، وَابْن مُفْلِح، والإسنوي، وَابْن دَقِيق الْعِيد، وَغَيرهم، إِلَى أَن أصُول الْفِقْه: الْقَوَاعِد، وَهُوَ أظهر.
وَذهب ابْن الْحَاجِب، والأرموي، والبيضاوي، والطوفي، وَجمع، إِلَى أَن أصُول الْفِقْه: الْعلم بالقواعد.
قَالُوا: كَمَا أَن الْفِقْه متفرع عَن أدلته، هُوَ متفرع عَن الْعلم / بأدلته.
قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ": (هَذِه الْأَدِلَّة الْكُلية لَهَا حقائق فِي [أَنْفسهَا] من حَيْثُ دلالتها وَتعلق الْعلم بهَا، فَهَل وضع أصُول الْفِقْه لتِلْك الْحَقَائِق فِي [أَنْفسهَا] أَو [للْعلم] بهَا؟ [قَولَانِ] ، وَلكُل مِنْهُمَا وَجه، فَإِن الْفِقْه كَمَا يتَوَقَّف على الْأَدِلَّة يتَوَقَّف على الْعلم بهَا.
قَالَ: وَقد يرجح مَا قَالَه الْبَيْضَاوِيّ؛ بِأَن الْعلم بالأدلة [يُوصل إِلَى الْمَدْلُول، والأدلة] لَا توصل إِلَى الْمَدْلُول إِلَّا بِوَاسِطَة الْعلم بهَا؛ لِأَن الْفِقْه علم.
لَكِن أهل الْعرف يسمون الْمَعْلُوم أصولاً، ويسمون الْمَعْلُوم فقهاً، وَتقول: هَذَا كتاب أصُول، وَكتاب فقه، وَالْأولَى: جعل الْأُصُول [للأدلة] ، وَالْفِقْه للْعلم؛ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الِاسْتِعْمَال اللّغَوِيّ) انْتهى.
قلت: وَهَذَا التَّعْرِيف قَالَه جمع من الْعلمَاء، وَهُوَ أَن الْفِقْه: الْعلم بِالْأَحْكَامِ، وأصول الْفِقْه: الْقَوَاعِد، لَا الْعلم بهَا، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ، وَالله أعلم.
القَوْل الثَّالِث قَالَه الأرموي، والبيضاوي، وَغَيرهمَا، وَهُوَ قَوْلنَا:{وَقيل: معرفَة [دَلَائِل الْفِقْه] إِجْمَالا، وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا، وَحَال المستفيد} .
وكل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة وَهِي: معرفَة الْأَدِلَّة، وَمَعْرِفَة كَيْفيَّة الاستفادة، وَمَعْرِفَة حَال المستفيد، من أصُول الْفِقْه.
فأصول الْفِقْه عِنْد هَؤُلَاءِ: معرفَة هَذِه الثَّلَاثَة.
فمعرفة دلائله إِجْمَالا، وَاضح، ويحترز بِهِ عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا: عَن غير الْأَدِلَّة، كمعرفة الْفِقْه وَنَحْوه.
وَالثَّانِي: عَن معرفَة أَدِلَّة غير الْفِقْه، كأدلة النَّحْو وَالْكَلَام.
وَالثَّالِث: عَن معرفَة بعض أَدِلَّة الْفِقْه، كباب وَاحِد من أصُول الْفِقْه، فَإِنَّهُ جُزْء من أصُول الْفِقْه، فَلَا يكون أصُول الْفِقْه، وَلَا يُسمى الْعَارِف بِهِ أصولياً؛ لِأَن بعض الشَّيْء لَا يكون نفس الشَّيْء.
لَكِن جمع فِي " الْمِنْهَاج " وَغَيره، الدَّلِيل على دَلَائِل، وَهَذَا لَا يعرف.
قَالَ ابْن مَالك فِي " شرح الكافية ": (لم يَأْتِ " فعائل " جمعا لاسم جنس على وزن " فعيل " - فِيمَا أعلم - لكنه بِمُقْتَضى الْقيَاس جَائِز / فِي الْعلم الْمُؤَنَّث، ك " سعائد " جمع " سعيد " اسْم امْرَأَة) .
وَقَوْلهمْ: (وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا) مجرور بالْعَطْف على دَلَائِل.
أَي: معرفَة دَلَائِل الْفِقْه، وَمَعْرِفَة كَيْفيَّة الاستفادة من تِلْكَ الدَّلَائِل،
أَي: استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مِنْهَا، وَذَلِكَ يرجع إِلَى معرفَة شَرَائِط الِاسْتِدْلَال، كتقديم النَّص على الظَّاهِر، والمتواتر على الْآحَاد، وَنَحْو مِمَّا سَيَأْتِي فِي التعادل وَالتَّرْجِيح، فَلَا بُد من معرفَة تعَارض الْأَدِلَّة، وَمَعْرِفَة الْأَسْبَاب الَّتِي يرجح بهَا بعض الْأَدِلَّة على بعض، وَإِنَّمَا جعل ذَلِك من أصُول الْفِقْه؛ لِأَن الْمَقْصُود من معرفَة أَدِلَّة الْفِقْه: استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا، وَلَا يُمكن الاستنباط مِنْهَا إِلَّا بعد معرفَة التَّعَارُض وَالتَّرْجِيح؛ لِأَن دَلَائِل الْفِقْه مفيدة للظن غَالِبا، والمظنونات قَابِلَة للتعارض محتاجه إِلَى التَّرْجِيح، فَصَارَ معرفَة ذَلِك من أصُول الْفِقْه، قَالَه الْإِسْنَوِيّ.
وَقَوله: (وَحَال المستفيد) مجرور أَيْضا بالْعَطْف على دَلَائِل، أَي: وَمَعْرِفَة حَال المستفيد، وَهُوَ طَالب حكم الله تَعَالَى.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (فَيدْخل الْمُجْتَهد والمقلد - كَمَا قَالَ فِي " الْحَاصِل " - لِأَن الْمُجْتَهد يَسْتَفِيد الْأَحْكَام من الْأَدِلَّة، والمقلد يستفيدها من الْمُجْتَهد.
وَإِنَّمَا كَانَ معرفَة تِلْكَ الشُّرُوط من أصُول الْفِقْه؛ لأَنا بَينا أَن الْأَدِلَّة قد تكون ظنية، وَلَيْسَ بَين الظني ومدلوله ارتباط عَقْلِي، لجَوَاز عدم دلَالَته عَلَيْهِ، فاحتيج إِلَى رابط وَهُوَ الِاجْتِهَاد.
فتلخص أَن معرفَة كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة من أصُول الْفِقْه) .
وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: (المُرَاد بالمستفيد: الْمُجْتَهد؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَسْتَفِيد الْأَحْكَام من أدلتها، [وَلَا يدْخل الْمُقَلّد؛ لِأَن الْفِقْه / لَيْسَ مَوْقُوفا على التَّقْلِيد بِوَجْه أصلا، فَلَا] يجوز أَن يكون جُزْءا من أصُول الْفِقْه، بِخِلَاف الِاجْتِهَاد؛ فَإِن الْفِقْه مَوْقُوف عَلَيْهِ، نعم إِذا عرف الْمُجْتَهد عرف أَن مَا سواهُ مقلد) انْتهى.
وَهُوَ أقعد من الَّذِي قبله.
القَوْل الرَّابِع قَالَه الرَّازِيّ وَمن تبعه: أَن أصُول الْفِقْه لقباً: (مَجْمُوع طرق الْفِقْه إِجْمَالا، وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا، وَحَال المستفيد) .
وَهُوَ أولى من [غَيره] لأوجه:
أَحدهَا: أَنه قَالَ: مَجْمُوع طرق الْفِقْه، وَلم يقل: معرفَة ذَلِك، وَقد تقدم أَن الْأَصَح أَن أصُول الْفِقْه: الْأَدِلَّة، لَا مَعْرفَتهَا.
الثَّانِي: أَن ذَلِك يَشْمَل الْقطعِي والظني، وَأما معرفَة الْأَدِلَّة فَلَا تَشْمَل إِلَّا الظني، إِلَّا على رَأْي يَأْتِي.
الثَّالِث: أَنه يَشْمَل كَيْفيَّة الإستفادة، وَحَال المستفيد، فَهُوَ أجمع من الْحَد الأول.
وَالْمرَاد بطرق الْفِقْه: أدلته، فَهِيَ موصلة إِلَيْهِ، وجمعت طرق لتنوع الْأَدِلَّة، ولإفادة أَن أصُول الْفِقْه أَنْوَاع يصدق على كل نوع مِنْهَا أَنه أصُول الْفِقْه؛ لِأَن طرق الْفِقْه إِذا كَانَت أنواعاً، وكل نوع مِنْهَا أصُول فقه، كَانَ كل من الْأُمُور الثَّلَاثَة كَذَلِك، فَكل من علم الطّرق، وَعلم الاستفادة، وَعلم حَال المستفيد، تَحْتَهُ أَنْوَاع.
إِذا علم ذَلِك، فانقسام أصُول الْفِقْه إِلَى كل أَنْوَاعه من قسْمَة الْكُلِّي إِلَى جزئياته، لَا من قسْمَة الْكل إِلَى أَجْزَائِهِ، وَلِهَذَا لم يصر علما بالغلبة إِلَّا جمعا مُلَاحظَة لهَذَا الْمَعْنى، فَتَأَمّله فَإِنَّهُ نَفِيس، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {والأصولي: من عرفهَا} .
هَذَا تَعْرِيف الأصولي من هُوَ؟ وَهُوَ نِسْبَة إِلَى الْأُصُول، وَهُوَ من قَامَ بِهِ
الْأُصُول، وَقيام الْأُصُول بِهِ مَعْنَاهُ: مَعْرفَته إِيَّاه، وَهُوَ الْجمع، لِأَنَّهُ مُسَمّى بِهِ كالأنصاري وَنَحْوه، وَلَو لم يسم بِهِ لم تجز النِّسْبَة إِلَّا إِلَى الْمُفْرد / فَيُقَال: أُصَلِّي.
إِذا علم ذَلِك؛ ونسبناه إِلَيْهَا، فَلَا بُد أَن يكون قد عرفهَا وحررها وأتقنها، فبذلك يُسمى أصولياً، كَمَا أَن من أتقن الْفِقْه وحرره يُسمى فَقِيها، وَمن أتقن الطِّبّ يُسمى طَبِيبا، وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ وَاضح.
قَوْله: {وغايتها: معرفَة أَحْكَام الله تَعَالَى وَالْعَمَل بهَا} .
قد تقدم أَنه لابد لكل من طلب علما أَن يتصوره بِوَجْه مَا، وَيعرف غَايَته، وَمَا يستمد مِنْهُ، فَذَكرنَا تصور أصُول الْفِقْه قبل، وَهُوَ مَا ذكر من حَده مُضَافا ومضافاً إِلَيْهِ، وَحَال كَونه مركبا لقباً.
وَأما معرفَة غَايَة أصُول الْفِقْه فَهُوَ فَائِدَته، وَهُوَ التَّوَصُّل إِلَى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، أَو معرفَة كَيفَ استنبطت إِذا تعذر إِمْكَان الاستنباط وَالِاجْتِهَاد، وليستند الْعلم إِلَى اصله، وَذَلِكَ موصل إِلَى الْعَمَل، وَالْعَمَل موصل إِلَى خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
قَوْله: {فَيجب [تَقْدِيم] مَعْرفَتهَا [على الْفُرُوع] عِنْد ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا [وَجمع] } .
مِنْهُم: القَاضِي عبد الْجَبَّار المعتزلي، وَغَيرهم، ليتَمَكَّن بهَا من معرفَة الْفُرُوع.
قَوْله: {وَهُوَ ظَاهر كَلَام أبي بكر، وَابْن أبي
مُوسَى، وَأبي الْبَقَاء} .
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتى " لما ذكر هَذَا القَوْل: (وَلِهَذَا ذكره القَاضِي، وَابْن أبي مُوسَى، وَابْن الْبَنَّا، وَأَبُو بكر عبد الْعَزِيز، فِي أَوَائِل كتبهمْ الفروعية) .
قَالَ أَبُو الْبَقَاء العكبري: (أبلغ مَا توصل بِهِ إِلَى إحكام الْأَحْكَام إتقان أصُول الْفِقْه وطرف من أصُول الدّين) انْتهى.
قَوْله: {وَعكس القَاضِي، وَابْن حمدَان، وَجمع} . فَذَهَبُوا إِلَى تَقْدِيم الْفُرُوع؛ ليتَمَكَّن الأصولي بهَا، ولتحصل لَهُ الدربة والملكة.
قلت: الَّذِي يظْهر أَنه لَا بُد للأصولي من معرفَة بعض الْفِقْه، وَلَا يُمكن معرفَة الْفِقْه على الْحَقِيقَة إِلَّا بِمَعْرِِفَة الْأُصُول.
اخْتلف الْأَصْحَاب فِي مَحل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: هَل هُوَ الْوُجُوب، أَو الْأَوْلَوِيَّة؟
فَفِي " مسودة بني تَيْمِية "، وَقَالَهُ ابْن حمدَان فِي " رعايته "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل:(أَن الْخلاف فِي الْأَوْلَوِيَّة لَا فِي الْوُجُوب) ، وَهُوَ أظهر؛ لِأَن غَالب طلبة الْعلم من أَرْبَاب الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، لم نر أحدا مِنْهُم، وَلَا سمعنَا انه اشْتغل أَولا إِلَّا فِي الْفِقْه من غير نَكِير من الْعلمَاء، ثمَّ يشتغلون بعد ذَلِك فِي الْأُصُول وَفِي غَيرهَا.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيرهمَا:(إِن مَحل الْخلاف فِي الْوُجُوب) ، ونقلوا ذَلِك عَمَّن اخْتَارَهُ قبل.
فَإِن أبقينا الْوُجُوب على ظَاهره، فَالْقَوْل بالأولوية أقوى وَأظْهر، وَإِن حملنَا كَلَامهم فِي الْوُجُوب على الْأَوْلَوِيَّة ارْتَفع الْخلاف، وَيصِح حمله على ذَلِك على مَا يَأْتِي، وَإِن كَانَ ظَاهره خلاف ذَلِك، وَإِنَّمَا أولنا ذَلِك ليُوَافق عمل النَّاس قَدِيما وحديثاً، وَالله أعلم.
قَوْله: {ومعرفتها فرض كِفَايَة} .
يَعْنِي: معرفَة أصُول الْفِقْه، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": (وَالْمذهب أَنه فرض كِفَايَة كالفقه) . {وَقيل: فرض عين} .
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": (وَقد ذكر ابْن عقيل: أَنه فرض عين،
وَقَالَ العالمي الْحَنَفِيّ: هُوَ فرض عين على من أَرَادَ الِاجْتِهَاد وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاء، فرض كِفَايَة على غَيرهم، وَهُوَ أولى إِن شَاءَ الله تَعَالَى) انْتهى.
وَاخْتَارَهُ أَيْضا ابْن الصقال من أَصْحَابنَا، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما حكى هَذَا القَوْل: (وَالْمرَاد للِاجْتِهَاد، وَهِي لفظية) .
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِن من أَرَادَ الِاجْتِهَاد لابد من معرفَة أصُول الْفِقْه، على مَا يَأْتِي فِي شُرُوط الِاجْتِهَاد، فَالْخِلَاف لَفْظِي.