الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْله: {فصل}
{الْحَقِيقَة: قَول مُسْتَعْمل فِي وضع أول} .
لابد قبل [الشُّرُوع] فِي تَبْيِين احترازات الْحَد من تبين مَا هية الْحَقِيقَة.
سَيَأْتِي فِي الْمَتْن: أَن إِطْلَاق لفظ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على الْمَعْنى الْمَذْكُور حَقِيقَة عرفية، لِأَنَّهُ من الاصطلاحي لَا من وضع اللُّغَة، نعم، هِيَ منقولة مِنْهَا، وَاخْتلف فِي كَيْفيَّة النَّقْل.
فَقَالَ الرَّازِيّ وَجمع: الْحَقِيقَة: فعلية من الْحق، بِمَعْنى: الثَّابِت، أَو الْمُثبت، اسْم فَاعل، أَو اسْم مفعول، نقل إِلَى الِاعْتِقَاد المطابق، ثمَّ إِلَى القَوْل المطابق، ثمَّ إِلَى الْمَعْنى الاصطلاحي.
يُرِيدُونَ بذلك: أَن فعيلا مِنْهُ إِن كَانَ بِمَعْنى فَاعل فَمَعْنَاه: الثَّابِت، من حق الشَّيْء يحِق، بِالْكَسْرِ وَالضَّم، بِمَعْنى: ثَبت، وَالتَّاء حِينَئِذٍ على بَابهَا فِي إِفَادَة التَّأْنِيث.
أَو بِمَعْنى مفعول: من حققت الشَّيْء أثْبته، فَهَذَا وَإِن كَانَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث كجريح، لَكِن التَّاء فِيهِ لنقل اللَّفْظ من الوصفية إِلَى الاسمية، بِأَن يسْتَعْمل بِدُونِ موصوفه، كَقَوْلِه تَعَالَى:{والنطيحة} [الْمَائِدَة: 3]، أَي: والبهيمة النطيحة، وَلَوْلَا إخْرَاجهَا للاسمية لقيل: الْبَهِيمَة النطيح، بِلَا تَاء.
ثمَّ نقل هَذَا اللَّفْظ - وَهُوَ الْحَقِيقَة سَوَاء كَانَت بِمَعْنى الثَّابِت أَو الْمُثبت -
إِلَى العقيدة الْحق، ثمَّ نقل إِلَى النِّسْبَة الصادقة، ثمَّ إِلَى الْكَلِمَة الْبَاقِيَة على مدلولها الأول، قَالَه الْبرمَاوِيّ، وَقَالَ: (هَذَا أحسن مَا يُقرر [بِهِ] كَلَامه - يَعْنِي الرَّازِيّ - / وَإِلَّا فالعقيدة، وَالْقَوْل المطابق، وَاللَّفْظ الْمَوْضُوع أَولا، لَا تَأْنِيث فِي شَيْء مِنْهَا، فَكيف أَتَى بِالتَّاءِ وَلَا تَأْنِيث أصلا؟
نعم، تعقب على القَوْل بذلك: بِأَنَّهُ لم احْتِيجَ فِي النَّقْل إِلَى هَذِه الوسائط؟ وَلم لَا يُقَال: إِنَّه نقل إِلَى الاصطلاحي من الأول من غير ضَرُورَة إِلَى وسائط؟ بل مُقْتَضى كَلَام ابْن سَيّده أَنه لَا نقل أصلا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُحكم:(الْحَقِيقَة فِي اللُّغَة: مَا أقرّ فِي الِاسْتِعْمَال على أصل وَضعه، وَالْمجَاز بِخِلَافِهِ) وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن ابْن جني، وَاعْتَرضهُ: بِأَنَّهُ غير جَامع، لخُرُوج الشَّرْعِيَّة والعرفية، ورد: بِأَن المُرَاد أَنه فِي اللُّغَة: مَا بَقِي على وضع أول بِأَيّ وضع كَانَ لَا بِوَضْع اللَّفْظ، وَالله أعلم) انْتهى.
إِذا علم ذَلِك؛ فقولنا فِي الْحَد: (قَول)، أولى من قَول من قَالَ:(لفظ) ؛ لِأَن القَوْل جنس قريب، لكَونه لم يَشْمَل المهمل؛ بِخِلَاف اللَّفْظ.
وَخرج بقولنَا: (مُسْتَعْمل) ، اللَّفْظ قبل الِاسْتِعْمَال، فَإِنَّهُ لَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز على مَا يَأْتِي، إِذْ الْمجَاز يعْتَبر لَهُ الِاسْتِعْمَال أَيْضا.
وَخرج بقولنَا: (فِي وضع أول) ، الْمجَاز؛ فَإِنَّهُ بِوَضْع ثَان، بِنَاء على أَنه مَوْضُوع وَهُوَ الصَّحِيح على مَا يَأْتِي، أما من يَقُول: إِنَّه غير مَوْضُوع، فَيخرج بِقَيْد الْوَضع، وَلَا حَاجَة حِينَئِذٍ إِلَى التَّقْيِيد بِكَوْنِهِ أَولا.
وَدخل فِي قَوْلنَا: (فِي وضع أول) مَا وضع لُغَة، أَو شرعا، أَو عرفا، والألفاظ الشَّرْعِيَّة والعرفية، هِيَ بِالْوَضْعِ الأول باصطلاح الشَّرْع وَالْعرْف، وَإِن كَانَت بِالْوَضْعِ الثَّانِي بِاعْتِبَار اللُّغَة، فَإِن الْوَضع الأول أَعم من الْوَضع بِاعْتِبَار اللُّغَة، فَحِينَئِذٍ تكون الْأَلْفَاظ المنقولة شَرْعِيَّة أَو عرفية، بِالْوَضْعِ الأول باصطلاح الشَّرْع وَالْعرْف، وَإِن كَانَت بِالْوَضْعِ الثَّانِي بِاعْتِبَار اللُّغَة.
فَإِن قيل: يرد على التَّعْرِيف الْعلم، فَإِنَّهُ يصدق على هَذَا التَّعْرِيف، وَلَيْسَ حَقِيقَة على مَا يَأْتِي.
قيل: الَّذِي للْعلم تَعْلِيق اسْم يخص تِلْكَ الْحَقِيقَة بِهِ، لَا من حَيْثُ وضع الْوَاضِع فِي اللُّغَة، / بل كل أحد لَهُ جعل علم على مَا يُريدهُ، وَالَّذِي ذكر من الْوَضع إِنَّمَا هُوَ من جِهَة من يعْتَبر وَضعه للغات، وَلَكِن فِيهِ نظر؛ فَإِن الْأَعْلَام قد تكون بِوَضْع اللُّغَة.
تَنْبِيه: قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة فِي حد الْحَقِيقَة: (فِيمَا وضع لَهُ ابْتِدَاء)، وَلم يَقُولُوا: فِي وضع أول.
قَالُوا: وَإِنَّمَا عدل عَن ذَلِك، للْخلاف فِي أَن الأول هَل يسْتَلْزم ثَانِيًا؟ فَإِن قُلْنَا: يسْتَلْزم، لزم أَن الْحَقِيقَة تَسْتَلْزِم الْمجَاز.
ورد ذَلِك الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " فَقَالَ: (وَمَا قيل: إِن فِي الْحَد نظرا؛ لِأَن الأول من الْأُمُور الإضافية الَّتِي لَا تعقل إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْئَيْنِ، وَحِينَئِذٍ يكون حد الْحَقِيقَة مستلزماً للمجاز، لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الأول على تَقْدِير أَن يكون إضافياً لَا يسْتَلْزم إِلَّا الْوَضع الثَّانِي، وَهُوَ جُزْء من مَفْهُوم الْمجَاز إِن اعْتبر الْوَضع الثَّانِي فِي الْمجَاز، وَلَا امْتنَاع فِي ذَلِك، لجَوَاز أَن يعْتَبر فِي حد الشَّيْء جُزْء مُقَابِله) انْتهى.
قلت: الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه: أَنه لَو قَالَ: أول مَمْلُوك اشتريه حر، وَلم يشتر غير وَاحِد، أَنه يعْتق عَلَيْهِ، فَسَموهُ:(أول) ، وَلَو لم يشتر غَيره.
وَلنَا قَول: إِنَّه لَا يعْتق، بِنَاء على أَنه لَا يُسمى (أول) حَتَّى يُوجد ثَان.
{و} قَالَ ابْن حمدَان {فِي " الْمقنع "} ، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل، وَقَالَهُ الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح ": الْحَقِيقَة: {اسْتِعْمَال اللَّفْظ} ورد قَالَ {الْقَرَافِيّ} فِي شرح التَّنْقِيح (الصَّوَاب: اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل، وَفرق بَين اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل، وَبَين اسْتِعْمَال اللَّفْظ، فَالْحق أَنَّهَا مَوْضُوعَة للفظ الْمُسْتَعْمل، لَا لنَفس اسْتِعْمَال اللَّفْظ، إِذْ الْمقْضِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَقِيقَة أَو مجَاز: هُوَ اللَّفْظ الْمَوْصُوف بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَخْصُوص، لَا نفس الِاسْتِعْمَال) انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي حدهما أولى من قَول من يَقُول " اسْتِعْمَال اللَّفْظ "، لِأَن مَدْلُول الْحَقِيقَة وَالْمجَاز هِيَ الْأَلْفَاظ / لَا اسْتِعْمَال الْأَلْفَاظ، وَإِنَّمَا [اسْتِعْمَال] اللَّفْظ فِي مَوْضُوعه أَو غَيره يَنْبَغِي أَن يُقَال [لَهُ] : تَحْقِيق وَتجوز، لَا حَقِيقَة ومجاز، تعريفاً للمصادر بالمصادر، وللأسماء بالأسماء) انْتهى.
{و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْعدة ": لفظ مُسْتَعْمل [فِي] مَوْضُوعه} .
وَلَفظه: اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي مَوْضُوعه، وَهَذَا الْحَد يتمشى على قَول من يَقُول: إِن الْمجَاز غير مَوْضُوع، فيكتفي فِي حَدهَا بقوله: فِي مَوْضُوعه كَمَا تقدم، وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر أول، وَمن يَقُول: إِنَّه مَوْضُوع، لَا يَكْتَفِي بذلك، وَهُوَ الصَّحِيح.
{و} قَالَ أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": اللَّفْظ الْبَاقِي على مَوْضُوعه} ، وَفِيه نظر؛ لدُخُوله الْمجَاز إِذا قُلْنَا: إِنَّه مَوْضُوع.
قَوْله: {وَقد تصير مجَازًا وَبِالْعَكْسِ، ذكره أَصْحَابنَا وَغَيرهم} .
يَأْتِي فِي الْمَتْن: أَن الدَّابَّة لمُطلق مَا دب، مجَاز عرفا، وَهِي فِي
الأَصْل حَقِيقَة، وَأَن الصَّلَاة للدُّعَاء، مجَاز شرعا، وَهِي فِي الأَصْل حَقِيقَة، وَأَن الدَّابَّة لذوات الْأَرْبَع، حَقِيقَة عرفية، وَهِي مجَاز لغَوِيّ، وَأَن الصَّلَاة للأقوال وَالْأَفْعَال الْمَعْلُومَة، حَقِيقَة شَرْعِيَّة، وَهِي مجَاز لغَوِيّ، وَالظَّاهِر أَن هَذَا مُرَادهم هُنَا.
الْحَقِيقَة ثَلَاثَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: اللُّغَوِيَّة، وَهِي الأَصْل، كالأسد على الْحَيَوَان المفترس.
الثَّانِي: الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة، وَحدهَا: مَا خص عرفا بِبَعْض مسمياته، يَعْنِي: أَن أهل الْعرف خصوا أَشْيَاء كَثِيرَة بِبَعْض مسمياتها، وَإِن كَانَ وَضعهَا للْجَمِيع حَقِيقَة، وَهِي قِسْمَانِ: عَامَّة، وخاصة.
فالعامة: مَا انْتَقَلت من مسماها اللّغَوِيّ إِلَى غَيره للاستعمال الْعَام بِحَيْثُ هجر الأول، وَذَلِكَ إِمَّا بتخصيص الِاسْم بِبَعْض مسمياته كالدابة /
بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَات الْحَافِر، فَإِن الدَّابَّة وضعت فِي أصل اللُّغَة لكل مَا يدب على الأَرْض [فخصصها] أهل الْعرف بِذَات الْحَافِر من الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير.
وَفِي " التَّمْهِيد " فِي الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة: أَن الدَّابَّة اسْم للْفرس عرفا، عِنْد الْإِطْلَاق يصرف إِلَيْهِ، ذكره فِي " الْفُنُون " عَن أصولي يَعْنِي نَفسه، قَالَ:(لِأَن لَهَا نوع قُوَّة من الدبيب، وَلِأَنَّهُ ذُو كروفر) ، وَلِهَذَا مثلنَا بهَا.
وَإِمَّا باشتهار الْمجَاز، كإضافتهم الْحُرْمَة إِلَى الْخمر، وَإِنَّمَا الْمحرم الشّرْب، وَكَذَلِكَ مَا يشيع اسْتِعْمَاله فِي غير مَوْضُوعه اللّغَوِيّ، كالغائط، والعذرة، [وَالرِّوَايَة]، وحقيقتها: المطمئن من الأَرْض، وفناء الدَّار، والجمل الَّذِي يستقى عَلَيْهِ المَاء.
والخاصة: مَا لكل طَائِفَة من الْعلمَاء من الاصطلاحات الَّتِي تخصهم، كاصطلاح النُّحَاة، والنظار، والأصوليين، وَغَيرهم على أَسمَاء خصوها بِشَيْء من مصطلحاتهم، كالمبتدأ، وَالْخَبَر، وَالْفَاعِل، وَالْمَفْعُول، والنقض،
وَالْكَسْر، وَالْقلب، وَغير ذَلِك مِمَّا اصْطلحَ عَلَيْهِ أَرْبَاب كل فن.
{وَالْمجَاز: قَول مُسْتَعْمل بِوَضْع ثَان لعلاقة} .
لابد قبل الشُّرُوع فِي ذكر احترازات الْحَد أَن نحرر مَا هية لفظ الْمجَاز وتصريفه، كَمَا تقدم فِي الْحَقِيقَة.
أما لفظ الْمجَاز فِي الأَصْل فمفعل من الْجَوَاز وَهُوَ: العبور والانتقال، وَأَصله مجوز، نقلنا حَرَكَة الْوَاو إِلَى مَا قبلهَا وَهِي الْجِيم، فَبَقيَ الْوَاو سَاكِنا وَمَا قبله مَفْتُوح، قلبناه ألفا، فَبَقيَ مجَاز.
والمفعل يكون مصدرا، وَاسم الْمَكَان، وَاسم زمَان، فالمجاز بِالْمَعْنَى الاصطلاحي: إِمَّا مَأْخُوذ من الأول، أَو من الثَّانِي، لَا من الثَّالِث، لعدم العلاقة فِيهِ بخلافهما.
فَإِنَّهُ إِن كَانَ من الْمصدر فَهُوَ متجوز بِهِ إِلَى الْفَاعِل للملابسة، كَعدْل بِمَعْنى عَادل، أَو من الْمَكَان لَهُ فَهُوَ من إِطْلَاق الْمحل على الْحَال، وَمَعَ ذَلِك / فَفِيهِ تجوز آخر؛ لِأَن الْجَوَاز حَقِيقَة للجسم لَا للفظ، لِأَنَّهُ عرض لَا يقبل الِانْتِقَال، فَهُوَ مجَاز باعتبارين، لَا أَنه مجَاز مَنْقُول من مجَاز آخر فَيكون بمرتبتين كَمَا زَعمه الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، فالمجاز هُوَ: اللَّفْظ الْجَائِز من شَيْء إِلَى آخر، تَشْبِيها بالجسم الْمُنْتَقل من مَوضِع إِلَى آخر، فحقق ذَلِك.
إِذا علم ذَلِك؛ فقولنا فِي حَده: (قَول) ، جنس قريب، وَهُوَ أحسن من قَول من قَالَ:(لفظ) ، لِأَنَّهُ جنس بعيد كَمَا تقدم.
وَقَوْلنَا: (مُسْتَعْمل) ، احْتِرَاز من المهمل، وَمن اللَّفْظ قبل الِاسْتِعْمَال، فَإِنَّهُ لَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز، كَمَا تقدم، وَيَأْتِي.
وَقَوْلنَا: (بِوَضْع ثَان) ، احْتِرَاز من الْحَقِيقَة، فَإِنَّهَا بِوَضْع أول كَمَا تقدم، وَمن لم ير الْمجَاز مَوْضُوعا يَقُول: فِي غير مَا وضع لَهُ، لَكِن الصَّحِيح: أَنه مَوْضُوع.
وَقَوْلنَا: (لعلاقة) ، خرج بهَا الْأَعْلَام المنقولة كبكر وكلب وَنَحْوهمَا، فَلَيْسَ بمجاز وَإِن كَانَ مَنْقُولًا؛ لكَونه لم ينْقل لعلاقة، وَلذَلِك خرج الْغَلَط.
تَنْبِيه: العلاقة هُنَا هِيَ المشابهة الْحَاصِلَة بَين الْمَعْنى الأول وَالْمعْنَى الثَّانِي، بِحَيْثُ ينْتَقل الذِّهْن بواسطتها عَن مَحل الْمجَاز إِلَى الْحَقِيقَة، فَكَانَ الْقيَاس فتح عينهَا؛ لِأَن الْفَتْح فِي الْمعَانِي، كَمَا يُقَال: علقت زَوْجَتي علاقَة، أَي: أحببتها حبا [شَدِيدا] ، وَالْكَسْر فِي الْأَجْسَام، وَمِنْه: علاقَة السَّوْط.
وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن تقْرَأ بِالْفَتْح على الأَصْل، أَو بِالْكَسْرِ على التَّشْبِيه بالجسم.
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر اللُّزُوم الذهْنِي بَين الْمَعْنيين، خلافًا لقوم} .
لابد أَن يكون بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي علاقَة اعْتبرت فِي اصْطِلَاح التخاطب بِحَسب النَّوْع، وَإِلَّا لجَاز اسْتِعْمَال كل لفظ لكل معنى بالمجاز، وَهُوَ بَاطِل اتِّفَاقًا، وَلِأَنَّهُ لَو لم تكن العلاقة بَينهمَا، لَكَانَ الْوَضع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنى الثَّانِي [أَولا] ، فَيكون حَقِيقَة فيهمَا، وَهُوَ بَاطِل / وَقد اشْترط قوم: اللُّزُوم الذهْنِي بَين الْمَعْنيين، وَهُوَ بَاطِل، فَإِن أَكثر المجازات الْمُعْتَبرَة عَارِية عَن اللُّزُوم الذهْنِي.
قَوْله: {ويتجوز بِسَبَب قابلي، وصوري، وفاعلي، وغائي، عَن مسبب، وبعلة عَن مَعْلُول، ولازم عَن ملزوم، وَأثر عَن مُؤثر، وَمحل عَن حَال، وَبِمَا بِالْقُوَّةِ على مَا بِالْفِعْلِ، وَبِكُل عَن بعض، [ومتعلق عَن
مُتَعَلق] ، وَبِالْعَكْسِ فِي الْكل، وَبِاعْتِبَار وصف زائل ف {وأورثكم أَرضهم} [الْأَحْزَاب: 27] وَنَحْوه مجَاز خلافًا للشَّيْخ، بِشَرْط أَن لَا يكون متلبساً الْآن بضده، أَو آيل قطعا أَو ظنا بِفعل أَو قُوَّة، وَزِيَادَة، وَنقص، وشكل، وَصفَة ظَاهِرَة، وَاسم ضد، ومجاورة، وَنَحْوه} .
ذكرنَا من أَنْوَاع العلاقة أَرْبَعَة وَعشْرين نوعا، وعدها الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَجمع: خَمْسَة.
قَالَ الْآمِدِيّ: (كل جِهَات التَّجَوُّز لَا تخرج عَن هَذَا) .
وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": (الَّذِي يحضرنا مِنْهَا اثْنَا عشر قسما) .
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل تبعا للقطب الشِّيرَازِيّ: (حصروا العلاقة بِنَاء على الاستقراء فِي خَمْسَة وَعشْرين نوعا) .
وأوصلها الصفي الْهِنْدِيّ إِلَى أحد وَثَلَاثِينَ نوعا، وَزَاد غَيره
عَلَيْهِ.
قَالَ بَعضهم: (فِيهَا تدَاخل) .
وَنحن نذْكر مَا قُلْنَاهُ فِي الْمَتْن، ونزيد مَا قيل فِي ذَلِك.
الأول: إِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج ": (إِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب، أَي: الْعلَّة على الْمَعْلُول) ، فجعلهما إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول، وَسَيَأْتِي أَن إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول نوع آخر، وَلَعَلَّه آراد إِطْلَاق ذَلِك بِاعْتِبَار، وَإِطْلَاق غَيره بِاعْتِبَار آخر.
وَإِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب أَرْبَعَة أَقسَام:
الأول: القابلي، كتسمية الشَّيْء باسم قابله كَقَوْلِهِم: سَالَ الْوَادي، وَالْأَصْل: سَالَ المَاء فِي الْوَادي، لَكِن لما كَانَ الْوَادي سَببا قَابلا لسيلان المَاء
فِيهِ، صَار المَاء من حَيْثُ القابلية كالمسبب لَهُ، فَوضع لفظ وَادي مَوْضِعه، قَالَه / الْبَيْضَاوِيّ والطوفي.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (ويعبر عَنهُ بالمادي) .
وَقَالَ - أَيْضا -: (فِي تَسْمِيَة هَذَا سَببا مَوضِع الْمُسَبّب نظر؛ فَإِن المادي فِي اصطلاحهم: جنس مَاهِيَّة الشَّيْء، كالخشب، مَعَ السرير، وَهنا لَيْسَ كَذَلِك، وَيظْهر أَن هَذَا من جنس تَسْمِيَة الْحَال باسم الْمحل، أَو من مجَاز النُّقْصَان، وَتَقْدِيره: سَالَ مَاء الْوَادي) انْتهى.
وَهُوَ مُحْتَمل.
الثَّانِي: الصُّورِي، كَقَوْلِهِم: هَذِه صُورَة الْأَمر وَالْحَال، أَي: حَقِيقَته.
الثَّالِث: الفاعلي، كَقَوْلِهِم: نزل السَّحَاب، أَي: الْمَطَر، لَكِن فاعليته بِاعْتِبَار الْعَادة، كَمَا تَقول: أحرقت النَّار، وَقَوْلهمْ للمطر: سَمَاء، لِأَن السَّمَاء فَاعل مجازي للمطر، بِدَلِيل قَوْلهم: أمْطرت السَّمَاء، وَقَالَ الشَّاعِر:
(إِذا نزل السَّمَاء بِأَرْض قوم
…
رعيناه وَإِن كَانُوا غضاباً)
أَي: الْمَطَر.
الرَّابِع: الغائي، كتسميتهم الْعصير خمرًا، وَالْحَدِيد خَاتمًا، وَالْعقد نِكَاحا، لِأَنَّهُ غَايَته، وَبَعْضهمْ يردهُ إِلَى مجَاز مَا يؤول، لَكِن شَرط ذَلِك أَن يكون بِقطع أَو غَلَبَة لَا بِاحْتِمَال، نعم، يشبه مَا سَيَأْتِي من إِطْلَاق مَا بِالْفِعْلِ على مَا بِالْقُوَّةِ، على أَن فِيهِ نظرا من حَيْثُ أَن الْعلَّة الغائية إِنَّمَا هِيَ فِي الذِّهْن وَهِي معلولة فِي الْخَارِج، فَإِن روعي الْخَارِج فَهُوَ من إِطْلَاق الْمَعْلُول على الْعلَّة كتسمية الْخشب سريراً، أَو الذِّهْن فَهُوَ من إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول؛ لِأَن الْعلَّة حِينَئِذٍ إِرَادَة خمريته بالعصير، أَو إِرَادَة كَونه سريراً قبل عمله، لَكِن الْعلَّة فِي الْحَقِيقَة هِيَ إِرَادَة ذَلِك.
الثَّانِي: إِطْلَاق الْمُسَبّب على السَّبَب، عكس الَّذِي قبله، كإطلاق الْمَوْت على الْمَرَض الشَّديد، وَكَقَوْلِه تَعَالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188]، أَي: لَا تأخذوها، وَالْأكل مسبب عَن الْأَخْذ،
وكقول الشَّاعِر:
(شربت الْإِثْم حَتَّى ضل عَقْلِي
…
كَذَاك الْإِثْم يذهب بالقعول)
سمي الْخمر إِثْمًا؛ لكَون الْإِثْم مسبباً عَنهُ.
الثَّالِث: إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول، / كَقَوْلِهِم: رَأَيْت الله فِي كل شَيْء، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ موجد كل شَيْء وعلته فَأطلق لَفظه عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ: رَأَيْت كل شَيْء فاستدللت بِهِ على الله.
الرَّابِع: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمَعْلُول على الْعلَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى:{إِذا قضى أمرا} [آل عمرَان: 47]، أَي: إِذا أَرَادَ أَن يقْضِي أمرا، فالقضاء
مَعْلُول الْإِرَادَة، وَكَقَوْلِه تَعَالَى:{وَإِن حكمت فاحكم} [الْمَائِدَة: 42]، أَي: إِذا أردْت أَن تحكم.
الْخَامِس: إِطْلَاق اللَّازِم على الْمَلْزُوم، كتسمية السّقف جداراً، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(قوم إِذا حَاربُوا شدو مآزرهم
…
دون النِّسَاء وَلَو باتت بأظهار)
يُرِيد بشد الْإِزَار: الاعتزال عَن النِّسَاء، وَمِنْه: إِطْلَاق الْمس على الْجِمَاع غَالِبا، وَإِلَّا فقد يكون الْجِمَاع بِحَائِل.
السَّادِس: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمَلْزُوم على اللَّازِم، كتسمية الْعلم حَيَاة، وَمِنْه:{أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا فَهُوَ يتَكَلَّم} [الرّوم: 35]، أَي: برهاناً فَهُوَ يدلهم، سميت الدّلَالَة كلَاما؛ لِأَنَّهَا من لوازمه، وَمِنْه قَول