الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْله: {فصل}
{الدّلَالَة: مصدر دلّ، وَهِي [مَا] يلْزم من فهمه فهم شَيْء آخر [بِلَفْظ] أَو غَيره] ، [فاللفظية] : طبعية، وعقلية، ووضعية، [وَهِي - أَي الوضعية -: كَون اللَّفْظ إِذا أطلق فهم الْمَعْنى الَّذِي لَهُ بِالْوَضْعِ] ، فدلالته -[أَي اللَّفْظ]- الوضعية على مُسَمَّاهُ: [مُطَابقَة] ، وعَلى جزئه: تضمن، [وعَلى لَازمه الْخَارِج، وَقيل: الذهْنِي: الْتِزَام] } . لَا شكّ أَن الدّلَالَة مصدر دلّ، إِذْ قد يُقَال: دلّ يدل دلَالَة بِفَتْح الدَّال على الْأَفْصَح وبكسرها.
وَقيل: بِالْفَتْح فِي الْأَعْيَان، وبالكسر فِي الْمعَانِي، كَمَا تقدم.
وَمعنى الدّلَالَة: الْإِرْشَاد إِلَى الشَّيْء، وَتقدم مَعْنَاهُ فِي الدَّلِيل، فَإِنَّهُ من الْمَادَّة.
وَهِي هُنَا: كَون الشَّيْء بِحَيْثُ يلْزم من فهمه فهم شَيْء آخر، فالشيء الأول هُوَ الدَّال، وَالثَّانِي هُوَ الْمَدْلُول.
وَقَالَ بَعضهم: هِيَ كَون الشَّيْء بِحَالَة يلْزم من الْعلم بِهِ الْعلم بِشَيْء آخر، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك بِلَفْظ أَو غَيره؛ لِأَن الدّلَالَة تَارَة تكون لفظية، وَتارَة تكون غير لفظية.
فاللفظية: هِيَ [المستندة] لوُجُود اللَّفْظ، إِذا ذكر وجدت، وتنقسم ثَلَاثَة أَقسَام: طبعية، وعقلية، ووضعية.
فالطبعية: كدلالة (أح أح) على وجع فِي الصَّدْر.
والعقلية: كدلالة الصَّوْت على حَيَاة صَاحبه.
والوضعية: وَهِي كَون اللَّفْظ إِذا أطلق فهم الْمَعْنى الَّذِي هُوَ لَهُ بِالْوَضْعِ، سَوَاء كَانَ بِوَضْع اللُّغَة، أَو الشَّرْع، أَو الْعرف، لذَلِك اللَّفْظ، فَهِيَ غير الوضعية الَّتِي هِيَ [قسيم] اللفظية.
فالوضعية هُنَا من الدلالات اللفظية، وَهِي المرادة، وَهِي ثَلَاثَة أَقسَام، وَلذَلِك قُلْنَا:(ودلالته الوضعية)، أَي: وَدلَالَة اللَّفْظ الوضعية على مُسَمَّاهُ: مُطَابقَة، أَي: دلَالَة مُطَابقَة، كدلالة الْإِنْسَان على الْحَيَوَان النَّاطِق، وَيَقَع فِي عبارَة [كثير] من الْعلمَاء كالرازي، والبيضاوي، وَابْن / الْحَاجِب، والهندي، والأبهري، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم: على تَمام مُسَمَّاهُ، وَهِي قَاصِرَة لخُرُوج مَا لَا جُزْء لَهُ كاسم الله، والجوهر الْفَرد، وَسَائِر البسائط، فَلَا يُقَال فِيهِ: تَمام، فَإِنَّهُ لَا جُزْء لَهُ.
وَإِنَّمَا سميت هَذِه الدّلَالَة مُطَابقَة؛ لِأَن اللَّفْظ مُوَافق لتَمام مَا وضع لَهُ، من قَوْلهم: طابق النَّعْل النَّعْل: إِذا توافقتا، فاللفظ مُوَافق للمعنى لكَونه مَوْضُوعا بإزائه.
وَدلَالَة اللَّفْظ على جُزْء مُسَمَّاهُ: دلَالَة تضمن، كدلالة الْإِنْسَان على حَيَوَان فَقَط، أَو نَاطِق فَقَط، سمي بذلك لتَضَمّنه إِيَّاه؛ لِأَنَّهُ يدل على الْجُزْء الَّذِي فِي ضمنه، فَيكون دَالا على مَا فِي ضمنه.
وَدلَالَة اللَّفْظ على لَازمه الْخَارِج - كدلالة الْإِنْسَان على كَونه ضَاحِكا أَو قَابلا صَنْعَة الْكِتَابَة -: دلَالَة الْتِزَام؛ لِأَنَّهَا دلّت على مَا هُوَ خَارج عَن الْمُسَمّى لكنه لَازم لَهُ، كَمَا مثلناه، لِأَن اللَّفْظ لَا يدل على كل أَمر خَارج عَنهُ بل على الْأَمر الْخَارِج اللَّازِم لَهُ.
وَقَوله: (وَقيل الذهْنِي) ، لم يشْتَرط أَكثر الْأُصُولِيِّينَ وأرباب الْبَيَان اللُّزُوم الذهْنِي فِي دلَالَة الِالْتِزَام؛ بل قَالُوا باللزوم مُطلقًا أَعم أَن يكون ذهنياً أَو خارجياً، وَسَوَاء كَانَ الذهْنِي فِي ذهن كل أحد كَمَا فِي الْعَدَم والملكة، أَو عِنْد الْعَالم بِالْوَضْعِ، أَو غير ذَلِك، وَلِهَذَا يجْرِي فِيهَا الوضوح والخفاء بِحَسب اخْتِلَاف الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال، وَذَلِكَ كدلالة الْقَرِينَة على الْمَعْنى الْمجَازِي.
وَلَكِن عِنْد التَّحْقِيق؛ ترى أَرْبَاب هَذَا القَوْل يرجعُونَ إِلَى لُزُوم ذهني وَلَو بِقَرِينَة تدل عَلَيْهِ وَأَصله خارجي، وَذَلِكَ [ينْقل] الذِّهْن، وفَاقا لمن
قَالَه وهم المناطقة، فَإِنَّهُم هم وَقوم من الْأُصُولِيِّينَ اشترطوا اللُّزُوم الذهْنِي ليحصل الْفَهم، لَا الْخَارِجِي، فَقَوْلهم أخص، وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ غير مَوْضُوع للازم، فَلَو لم يكن كَانَ اللَّازِم بِحَيْثُ يلْزم من تصور مُسَمّى اللَّفْظ تصَوره لما فهم. /
تَنْبِيه: اسْتشْكل انحصار الدّلَالَة فِي الثَّلَاثَة بِدلَالَة الْعَام على جزئي مِنْهُ، كدلالة الْمُشْركين على زيد مِنْهُم، فَإِنَّهُ لَيْسَ مُطَابقَة إِذْ لَيْسَ هُوَ جَمِيع الْمُشْركين، وَلَا تضمناً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جُزْءا مِنْهُم بل جزئياً - وَسَيَأْتِي الْفرق بَينهمَا - وَلَا التزاماً؛ لِأَنَّهُ دخل فِي لفظ الْمُشْركين [بِوَصْف] الشّرك.
وَقد يُجَاب: بادعاء كَونه من الْمُطَابقَة: بِاعْتِبَار صدق الْمُشرك عَلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ، وَهُوَ مَوْضُوع اللَّفْظ، والكمية فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ والجزئية خَارِجَة عَمَّا وضع لَهُ اللَّفْظ الَّذِي هُوَ كلي.
وبادعاء كَونه من الِالْتِزَام: لِأَن لَازم هَذِه الْمَاهِيّة الْمَوْضُوع لَهَا الْعُمُوم كل فَرد فَرد، فالفرد لَازم.
هَذَا إِشَارَة إِلَى تَحْقِيق الْخلاف الْمَشْهُور فِي الدلالات الثَّلَاث، هَل هِيَ كلهَا لفظية، أَو الْمُطَابقَة فَقَط والأخريان عقليتان، أَو الْمُطَابقَة والتضمن لفظيتان والالتزام عقلية؟
ثَلَاثَة مَذَاهِب:
الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ أَنَّهَا كلهَا لفظية - قَول الْأَكْثَر، لِأَن الِاسْتِنَاد للفظ فِي كل من الثَّلَاث، إِذْ هُوَ وَاسِطَة فِي الدّلَالَة على الْجُزْء وَاللَّازِم، فَكَانَ كالمطابقة.
الْمَذْهَب الثَّانِي - وَهُوَ أَن الْمُطَابقَة فَقَط لفظية والتضمن والالتزام عقليتان - قَول الرَّازِيّ، والتلمساني، والهندي، وَغَيرهم، لِأَن اللَّفْظ الْمَوْضُوع للْكُلّ لم يوضع للجزء وَلَا للازم، فَمَا دلّ إِلَّا بِوَاسِطَة تضمنه لَهُ
عقلا ولازميته لَهُ عقلا، فَلذَلِك ينْتَقل الذِّهْن من الْمُسَمّى إِلَيْهِمَا انتقالاً من الْمَلْزُوم إِلَى اللَّازِم، فهما عقليتان تابعتان للوضع، وَلَا يعْتَبر اللُّزُوم الْعقلِيّ، إِذْ يَصح إِطْلَاق الْمُطلق على الْمُقَيد والجزء على الْكل، والأعم لَا يسْتَلْزم الْأَخَص والجزء لَا يسْتَلْزم الْكل.
وَالْمذهب الثَّالِث / - وَهُوَ كَون الْمُطَابقَة والتضمن لفظيتين والالتزام عقلية - قَول الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن؛ لِأَن الْجُزْء دَاخل فِيمَا وضع لَهُ اللَّفْظ بِخِلَاف اللَّازِم فَإِنَّهُ خَارج عَنهُ.
وَقَالَ بَعضهم: (الْخلاف لَفْظِي وَإنَّهُ لَا خلاف فِي الْمَعْنى، وَلأَجل ذَلِك كَانَ تَقْسِيم الدّلَالَة اللفظية إِلَى الثَّلَاثَة، فاللفظ مُعْتَبر فِيهَا قطعا وَإِلَّا فَكَانَ يلْزم أَن يدْخل فِي الْمقسم مَا لَيْسَ مِنْهُ) .
دلَالَة الْمُطَابقَة أَعم من دلَالَة التضمن والالتزام، لجَوَاز كَون الْمُطَابقَة بسيطة لَا تضمن فِيهَا وَلَا لَازم لَهَا ذهني، وَدلَالَة التضمن قد تُوجد مَعَ الْمُطَابقَة وَلَا يُوجد الْتِزَام، وَعَكسه، وَهُوَ وجود الْتِزَام مَعهَا وَلَا يُوجد تضمن، وَصرح بِهِ الشريف الْجِرْجَانِيّ فِي مقدمته فِي " الْمنطق " فَقَالَ:(إِذا كَانَ اللَّفْظ مَوْضُوعا لِمَعْنى بسيط وَلَيْسَ لَهُ لَازم ذهني فتوجد الْمُطَابقَة بِدُونِ التضمن والالتزام، فَإِن كَانَ لَهُ لَازم ذهني فتوجد مَعَ الْمُطَابقَة دلَالَة الِالْتِزَام بِدُونِ دلَالَة التضمن، وَإِذا كَانَ اللَّفْظ مَوْضُوعا لِمَعْنى مركب وَلَا يكون لَهُ لَازم ذهني فيوجد مَعَ الْمُطَابقَة دلَالَة التضمن بِدُونِ دلَالَة الِالْتِزَام) انْتهى.
وَلم يحضرني الْآن مِثَال للآخرين.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (بَين الدلالات الثَّلَاث عُمُوم وخصوص، فالمطابقة أعلم مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ كلما وجدت دلَالَة التضمن أَو الِالْتِزَام وجدت دلَالَة الْمُطَابقَة؛ لِأَن ثمَّ مُسَمّى حِينَئِذٍ، فاللفظ يدل عَلَيْهِ مُطَابقَة، وَقد تُوجد دلَالَة الْمُطَابقَة وَلَا يوجدان فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع للبسائط الَّتِي لَيست لَهَا لَوَازِم بَيِّنَة.
وَأما هما؛ فَكل وَاحِد أعلم من الآخر واخص من وَجه، فيوجد التضمن بِدُونِ الِالْتِزَام فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع للمركبات الَّتِي لَيست لَهَا لَوَازِم / بَيِّنَة، والإلتزام بِدُونِ التضمن فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع للبسائط الَّتِي لَهَا لَوَازِم بَيِّنَة، ويجتمعان فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع للمركبات الَّتِي لَهَا لَوَازِم بَيِّنَة) انْتهى.
وَقَالَ الْقَرَافِيّ أَيْضا: (وَقع للْإِمَام وَغَيره: أَن دلَالَة الْمُطَابقَة حَقِيقَة والأخريين مجازان، قَالَ: وَهُوَ غير مُسْتَقِيم) ، وَبَين ذَلِك، ذكره الأسيوطي فِي " شرح منظومة جمع الْجَوَامِع " لَهُ.
وَمَا قُلْنَا: (إِن دلَالَة الْمُطَابقَة أَعم من الدلالتين) ، هُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، وَنَصره القطب الشِّيرَازِيّ وَغَيره فَقَالَ:(لجَوَاز أَن يكون من الماهيات مَا لَا يسْتَلْزم شَيْئا كَذَلِك، فَإِذا كَانَ لفظا مَوْضُوعا لتِلْك الْمَاهِيّة كَانَ دلَالَته عَلَيْهَا مُطَابقَة وَلَا الْتِزَام لانْتِفَاء شَرطه) .
وَزعم الرَّازِيّ - وَتَبعهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيّ عَن الْأَكْثَر -؛ أَن الْمُطَابقَة مستلزمة للالتزام، لِأَن تصور كل مَاهِيَّة يسْتَلْزم تصور لَازم من لوازمها، وَأقله أَنَّهَا لَيست غَيرهَا، وَاللَّفْظ إِذا دلّ على الْمَلْزُوم بالمطابقة دلّ على اللَّازِم فِي التَّصَوُّر بالالتزام.
وَجَوَابه: أَنا لَا نسلم أَن تصور كل مَا هية يسْتَلْزم تصور أَنَّهَا لَيست غَيرهَا، فكثيراً مَا نتصور ماهيات وَلم يخْطر ببالنا غَيرهَا فضلا عَن أَنَّهَا لَيست غَيرهَا، وَمن هُنَا تبين عدم استلزام التضمن الِالْتِزَام؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يعلم وجود لَازم ذهني لكل مَا هية لم يعلم [أَيْضا] وجود لَازم ذهني لكل مَاهِيَّة مركبة، فَجَاز أَن يكون فِي الماهيات المركبة مَا لَا يكون لَهُ لَازم ذهني، فاللفظ الْمَوْضُوع بإزائه دَال على أَجْزَائِهِ بالتضمن والالتزام) ، قَالَه القطب.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (دلَالَة الِالْتِزَام مُسَاوِيَة لدلَالَة الْمُطَابقَة، وهما أَعم من التضمن لجَوَاز كَون الْمَدْلُول وَاللَّازِم بسيطاً لَا جُزْء لَهُ) انْتهى.
قَوْله: {وَغير اللفظية [وضعية وعقلية] } .
تقدم أَن الدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ / إِلَى لفظية، وَإِلَى غير لفظية، وَتقدم الْكَلَام على الدّلَالَة اللفظية وأنواعها وأحكامها.
وَأما الدّلَالَة غير اللفظية فَهِيَ قِسْمَانِ: وضعية، وعقلية.
فالوضعية: كدلالة الأقدار على مقدوراتها، وَمِنْه دلَالَة السَّبَب على الْمُسَبّب ك (الدلوك) على وجوب الصَّلَاة، وكدلالة الْمَشْرُوط على وجود الشَّرْط كَالصَّلَاةِ على الطَّهَارَة وَإِلَّا لما صحت.
قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الشمسية ": ( [الدّلَالَة] الوضعية غير اللفظية كدلالة الْخط وَالْعقد وَالْإِشَارَة وَالنّصب) انْتهى.
والعقلية: كدلالة الْأَثر على الْمُؤثر، وَمِنْه دلَالَة الْعَالم على موجده وَهُوَ الله تَعَالَى، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ: اسْتِعْمَاله فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز} .
الدّلَالَة اللفظية تَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ:
أَحدهمَا: دلَالَة اللَّفْظ، وَالثَّانِي: الدّلَالَة بِاللَّفْظِ.
قَالَ الخسروشاهي: (وَقد خَفِي على ابْن الْخَطِيب الْفرق بَين دلَالَة اللَّفْظ، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ) انْتهى.
فَمَا تقدم من الدلالات اللفظية هِيَ دلَالَة اللَّفْظ، وَأما الدّلَالَة بِاللَّفْظِ، فَهُوَ: اسْتِعْمَاله إِمَّا فِي مَوْضُوعه وَهُوَ الْحَقِيقَة، أَو فِي غير [مَوْضُوعه] لعلاقة وَهُوَ الْمجَاز.
وَالْبَاء فِي قَوْله: (بِاللَّفْظِ) ، للاستعانة والسببية لِأَن الْإِنْسَان يدلنا على مَا فِي بِإِطْلَاق لَفظه، فإطلاق اللَّفْظ آلَة للدلالة، كالقلم للكتابة.
إِذا علم ذَلِك؛ فَالْفرق بَين دلَالَة اللَّفْظ وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ من وُجُوه:
أَحدهَا: من الْمحل، فَمحل دلَالَة اللَّفْظ الْقلب، وَمحل الدّلَالَة بِاللَّفْظِ وَاللِّسَان وَغَيره من المخارج.
الثَّانِي: من جِهَة الْمَوْصُوف، فدلالة اللَّفْظ صفة السَّامع، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ صفة الْمُتَكَلّم.
الثَّالِث: من جِهَة السَّبَب، فالدلالة بِاللَّفْظِ سَبَب، وَدلَالَة اللَّفْظ مسبب عَنْهَا.
الرَّابِع: من جِهَة الْوُجُود، فَكلما وجدت دلَالَة اللَّفْظ وجدت الدّلَالَة بِاللَّفْظِ، بِخِلَاف الْعَكْس.
الْخَامِس: من جِهَة / الْأَنْوَاع، فدلالة اللَّفْظ ثَلَاثَة أَنْوَاع: مُطَابقَة وتضمن والتزام، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ نَوْعَانِ: حَقِيقَة ومجاز.
قَالَ الْقَرَافِيّ: (فدلالة اللَّفْظ: فهم السَّامع من كَلَام الْمُتَكَلّم كَمَال الْمُسَمّى أَو جزءه أَو لَازمه، أَو كَونه بِحَيْثُ إِذا أطلق فهم السَّامع مِنْهُ ذَلِك، عبارتان للْمُتَقَدِّمين، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ، هِيَ اسْتِعْمَاله فِي مَوْضُوعه أَو غَيره لعلاقة.
قَالَ: وَالْفرق بَينهمَا وَاقع من خَمْسَة عشر وَجها:
فَإِن الأولى صفة للسامع، وَالثَّانيَِة صفة للمتكلم.
وَالْأولَى محلهَا الْقلب؛ لِأَنَّهُ موطن الْعلم والظنون، وَالْأُخْرَى محلهَا اللِّسَان وقصبة الرئة.
وَالْأولَى علم أَو ظن، وَالْأُخْرَى أصوات مقطعَة.
وَالْأولَى مَشْرُوط فِيهَا الْحَيَاة، وَالْأُخْرَى يَصح قِيَامهَا بالجماد، فَإِن الْأَصْوَات لَا تشْتَرط فِيهَا الْحَيَاة.
وَالْأولَى تتنوع إِلَى مُطَابقَة وتضمن والتزام، وَلَا تعرض لِلْأُخْرَى.
وَالثَّانيَِة إِلَى حَقِيقَة ومجاز، وَلَا يعرضان لتِلْك.
وَالثَّانيَِة سَبَب، وَالْأولَى مسببة عَنْهَا.
وَكلما وجدت الأولى وجدت الثَّانِيَة، لِأَن فهم مُسَمّى اللَّفْظ مِنْهُ فرع النُّطْق بِهِ وَلَا عكس، فقد يُوجد النُّطْق وَلَا يفهم الْمَدْلُول؛ لمَانع فِي السَّامع من غَفلَة، أَو جهل باللغة، وَنَحْو ذَلِك.
وَالْأولَى حَقِيقَة وَاحِدَة لَا تخْتَلف فِي نَفسهَا؛ لِأَنَّهَا علم أَو ظن، وهما أَبَد الدَّهْر على حَالَة، وَالثَّانيَِة تخْتَلف لاخْتِلَاف الِاسْتِعْمَال بِوُجُوب التَّقْدِيم تَارَة وَمنعه أُخْرَى، إِلَى غير ذَلِك من اخْتِلَاف أوضاع اللُّغَات الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا.
وَالْأولَى لَا تدْرك بالحس، وَالثَّانيَِة تسمع.
وَالثَّانيَِة بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء من المصادر السيالة الَّتِي لَا تبقى زمانين، وَالْأولَى مُخْتَلف فِيهَا هَل تبقى أَو لَا؟
وَالْأولَى دَائِما مُسَمّى وَاحِد وَهِي علم أَو ظن، وَالثَّانيَِة [لَا تسمع غَالِبا إِلَّا من مسموعات عديدة] ، والنطق بالحرف الْوَاحِد نَحْو (ق) و (ع) نَادِر.
وَالْأولَى تَأتي / من [الْأَخْرَس] ، بِخِلَاف الْأُخْرَى.
وَالْأولَى يُمكن قِيَامهَا بِغَيْر المتحيز، وَالثَّانيَِة لَا تقوم إِلَّا بالمتحيز،
وَلذَلِك أحلنا الْأَصْوَات على الله، وَله الْعلم الْمُتَعَلّق بِجَمِيعِ المعلومات؟
وَالْأولَى لَا تتَصَوَّر من غير سميع فَإِن فهم معنى اللَّفْظ فرع سَمَاعه، بِخِلَاف الْأُخْرَى.
وَالْأولَى لَا تُوصَف بِشَيْء مِمَّا تُوصَف بِهِ الثَّانِيَة من صِفَات الْكَلَام من الفصاحة واللكنة والتمتمة والجهورية وَغير ذَلِك) انْتهى كَلَام الْقَرَافِيّ.
قَوْله: {والملازمة: عقلية، وشرعية، وعادية} .
فالعقلية: كالزوجية للاثنين، والشرعية: كالوجوب للمكلف، والعادية كالسرير للارتفاع.
قَوْله: {وَتَكون قَطْعِيَّة، وضعيفة جدا، وكلية، وجزئية} .
فالقطعية: كالزوجية للاثنين أَيْضا، والضعيفة جدا: ككون عَادَة زيد [إِذا أَتَى يَحْجُبهُ عَمْرو] ، والكلية، كالزوجية للعشرة، والجزئية: كملازمة الْمُؤثر للأثر حَال حُدُوثه.