الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة طه (20) : آيَة 116]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبى (116)
هَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه: 115] إِلَى آخِرِهَا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ بَلْ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا، فَوُقُوعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً اهْتِمَامٌ بِهَا لِتَكُونَ قِصَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَتَلْفِتَ إِلَيْهَا أَذْهَانَ السَّامِعِينَ. فَتَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً قِصَّةَ آدَمَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَارا [طه: 10] ، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ تَذْيِيلًا لِقِصَّةِ هَارُونَ مَعَ السَّامِرِيِّ وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَارُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَارُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَا عَهِدَ إِلَيْهِ مُوسَى. وَانْتَهَتِ الْقِصَّةُ بِذَلِكَ التَّذْيِيلِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى قِصَّةَ آدَمَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: 99] .
[117- 119]
[سُورَة طه (20) : الْآيَات 117 الى 119]
فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
قِصَّةُ خَلْقِ آدَمَ وَسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَإِبَاءِ الشَّيْطَانِ مِنَ السُّجُودِ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى بَيَانِ مَا اخْتُصَّتْ بِهِ هَاتِهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَفَانِينِ وَالتَّرَاكِيبِ.
فَقَوْلُهُ إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الشَّيْطَانِ إِشَارَةً مُرَادًا مِنْهَا التَّحْقِيرُ، كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [36] مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [22] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ.
وَقَوْلُهُ عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ [22] : وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَذُكِرَتْ عَدَاوَتُهُ لَهُمَا جُمْلَةً هُنَالِكَ
وَذُكِرَتْ تَفْصِيلًا هُنَا، فَابْتُدِئَ فِي ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ عَدَاوَتِهِ بِآدَمَ لِأَنَّ آدَمَ هُوَ مَنْشَأُ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِحَسَدِهِ، ثُمَّ أُتْبِعَ بِذِكْرِ زَوْجِهِ لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ إِيَّاهَا تَبَعٌ لِعَدَاوَتِهِ آدَمَ زَوْجَهَا، وَكَانَتْ عَدَاوَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِكِلَيْهِمَا لِاتِّحَادِ عِلَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ حَسَدُهُ إِيَّاهُمَا عَلَى مَا وَهَبَهُمَا اللَّهُ مِنْ عِلْمِ الْأَسْمَاءِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْفِكْرِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْهُدَى وَعُنْوَانُ التَّعْبِيرِ عَنِ الضَّمِيرِ الْمُوَصِّلِ لِلْإِرْشَادِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُبْطِلُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فِي اسْتِهْوَائِهِمَا وَاسْتِهْوَاءِ ذَرِّيَّتِهِمَا، وَلِأَنَّ الشَّيْطَانَ رَأَى نَفْسَهُ أَجْدَرَ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى آدَمَ فَحَنَقَ لَمَّا أُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ.
فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) قَوْلُهُ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجِهِ: بِأَنْ نُهِيَا نَهْيَ تَحْذِيرٍ عَنْ أَنْ يَتَسَبَّبَ إِبْلِيسُ فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يَرُوقُهُ صَلَاحُ حَالِ عَدُّوِهُ. وَوَقَعَ النَّهْيُ فِي صُورَةِ نَهْيٍ عَنْ عَمَلٍ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَعْمَالِ آدَمَ كِنَايَةً عَنْ نَهْيِ آدَمَ عَنِ التَّأَثُّرِ بِوَسَائِلِ إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، كَمَا يُقَالُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، كِنَايَةً عَنْ: لَا تَفْعَلْ، أَيْ لَا تَفْعَلْ كَذَا حَتَّى أَعْرِفَهُ مِنْكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ خَبَرَ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ.
وَأُسْنِدَ تَرَتُّبُ الشَّقَاءِ إِلَى آدَمَ خَاصَّةً دُونَ زَوْجِهِ إِيجَازًا، لِأَنَّ فِي شَقَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
شَقَاءَ الْآخَرِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْكَوْنِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ شَقَاءَ الذَّكَرِ أَصْلُ شَقَاءِ الْمَرْأَةِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى تَعْلِيلٌ لِلشَّقَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمَتَّعًا فِي الْجَنَّةِ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَمَشْرَبٍ وَاعْتِدَالِ جَوٍّ مُنَاسِبٍ لِلْمِزَاجِ كَانَ الْخُرُوجُ مِنْهَا مُقْتَضِيًا فِقْدَانَ ذَلِكَ.
وتَضْحى مُضَارِعُ ضَحِيَ: كَرَضِيَ، إِذَا أَصَابَهُ حَرُّ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الضُّحَى، وَمَصْدَرُهُ الضَّحْوُ، وَحَرُّ الشَّمْسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ مَبْدَأُ شِدَّتِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُصِيبُكَ مَا يُنَافِرُ مِزَاجَكَ، فَالِاقْتِصَارَ عَلَى انْتِفَاءِ الضَّحْوِ هُنَا اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَلَا تَصْرَدَ، وَآدَمُ لَمْ يَعْرَفِ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَالظَّمَأَ وَالضَّحْوَ بِالْوِجْدَانِ، وَإِنَّمَا عَرَفَهَا بِحَقَائِقِهَا ضِمْنَ تَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَجُمِعَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَصُولُ كَفَافِ الْإِنْسَانِ فِي مَعِيشَتِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الِاسْتِكْفَاءَ مِنْهَا سَيَكُونُ غَايَةَ سَعْيِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاته الْمُسْتَقْبلَة، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي تُصَاحِبُ التَّكْوِينَ تَكُونُ إِشْعَارًا بِخَصَائِصِ الْمُكَوِّنِ فِي مُقَوِّمَاتِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ تَوْفِيقِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم لِاخْتِيَارِ اللَّبَنِ عَلَى الْخَمْرِ فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اخْتَرْتَ الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ.
وَقَدْ قَرَنَ بَيْنَ انْتِفَاءِ الْجُوعِ وَاللِّبَاسِ فِي قَوْله أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَقَرَنَ بَيْنَ انْتِفَاءِ الظَّمَأِ وَأَلَمِ الْجِسْمِ فِي قَوْله لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ، فِي أَنَّ الْجُوعَ خُلُوُّ بَاطِنِ الْجِسْمِ عَمَّا يَقِيهِ تَأَلُّمَهُ وَذَلِكَ هُوَ الطَّعَامُ، وَأَنَّ الْعُرْيَ خُلُوُّ ظَاهِرِ الْجِسْمِ عَمَّا يَقِيهِ تَأَلُّمَهُ وَهُوَ لَفْحُ الْحَرِّ وقرص الْبرد ولمناسبة بَيْنَ الظَّمَأِ وَبَيْنَ حَرَارَةِ الشَّمْسِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَلَمُ حَرَارَةِ الْبَاطِنِ وَالثَّانِي أَلَمُ حَرَارَةِ الظَّاهِرِ. فَهَذَا اقْتَضَى عَدَمَ اقْتِرَانِ ذِكْرِ الظَّمَأِ وَالْجُوعِ، وَعَدَمِ اقْتِرَانِ ذِكْرِ الْعُرْيِ بِأَلَمِ
الْحَرِّ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ جَمْعُ النَّظِيرَيْنِ فِي كِلَيْهِمَا، إِذْ جَمْعُ النَّظَائِرِ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَدِيعِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَوْلَا أَنْ عَرَضَ هُنَا مَا أَوْجَبَ تَفْرِيقَ النَّظَائِرِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي تَفْرِيقِ النَّظَائِرِ قِصَّةٌ أَدَبِيَّةٌ طَرِيفَةٌ جَرَتْ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي ذَكَرَهَا الْمَعَرِّي فِي «مُعْجِزِ أَحْمَدَ» شَرَحِهِ عَلَى «دِيوَانِ أَبِي الطَّيِّبِ» إِجْمَالًا، وَبَسَطَهَا الْوَاحِدِيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى الدِّيوَانِ» . وَهِيَ: أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ لَمَّا أَنْشَدَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ قَصِيدَتَهُ الَّتِي طَالِعُهَا:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ قَالَ فِي أَثْنَائِهَا يَصِفُ مَوْقِعَةً بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَالرُّومِ فِي ثَغْرِ الْحَدَثِ:
وَقَفْتَ مَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ
…
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِم
تمرّ بك الْأَبْطَال كلمى هزيمَة
…
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
فَاسْتَعَادَهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْشَدَهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، قَالَ لَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ:
إِنَّ صَدْرَيِ الْبَيْتَيْنِ لَا يُلَائِمَانِ عَجُزَيْهِمَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ
…
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً
…
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ
وَأَنْتَ فِي هَذَا مِثْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ:
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ
…
وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأَ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ
…
لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
وَوَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِالشِّعْرِ أَنْ يَكُونَ عَجُزُ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي وَعَجُزُ الْبَيْتِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ لِيَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ فَيَكُونَ رُكُوبُ الْخَيْلِ مَعَ
الْأَمْرِ لِلْخَيْلِ بِالْكَرِّ، وَيَكُونَ سِبَاءُ الْخَمْرِ لِلَّذَّةِ مَعَ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ. فَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: أَدَامَ اللَّهُ عِزَّ الْأَمِيرِ، إِنْ صَحَّ أَنَّ الَّذِي اسْتَدْرَكَ عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ هَذَا أَعْلَمُ مِنْهُ بِالشِّعْرِ فَقَدْ أَخْطَأَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَأَخْطَأْتُ أَنَا، وَمَوْلَانَا يَعْرِفُ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَعْرِفُهُ الْبَزَّازُ مُعْرِفَةَ الْحَائِكِ لِأَنَّ الْبَزَّازَ لَا يَعْرِفُ إِلَّا جُمْلَتَهُ وَالْحَائِكَ يَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَتَفْصِيلَهُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْغَزَلِيَّةِ إِلَى الثَّوْبِيَّةِ. وَإِنَّمَا قَرَنَ امْرُؤُ الْقَيْسِ لَذَّةَ النِّسَاءِ بِلَذَّةِ الرُّكُوبِ لِلصَّيْدِ، وَقَرَنَ السَّمَاحَةَ فِي شِرَاءِ الْخَمْرِ لِلْأَضْيَافِ بِالشَّجَاعَةِ فِي مُنَازَلَةِ الْأَعْدَاءِ. وَأَنَا لَمَّا ذَكَرْتُ الْمَوْتَ أَتْبَعْتُهُ بِذِكْرِ الرَّدَى لِتَجَانُسِهِ وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الْمَهْزُومِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَبُوسًا وَعَيْنُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاكِيَةً قُلْتُ:
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ لِأَجْمَعَ بَيْنَ الْأَضْدَادِ فِي الْمَعْنَى.
وَمَعْنَى هَذَا أَن امْرُؤ الْقَيْسِ خَالَفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي جَمْعِ شَيْئَيْنِ مُشْتَهِرَيِ الْمُنَاسَبَةِ فَجَمَعَ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ مُنَاسَبَةً دَقِيقَةً، وَأَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ خَالَفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ جَمْعِ النَّظِيرَيْنِ فَفَرَّقَهُمَا لِسُلُوكِ طَرِيقَةٍ أَبْدَعَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الطِّبَاقِ بِالتَّضَادِّ وَهُوَ أَعْرَقُ فِي صِنَاعَةِ الْبَدِيعِ.
وَجُعِلَتِ الْمِنَّةُ عَلَى آدَمَ بِهَذِهِ النِّعَمِ مَسُوقَةً فِي سِيَاقِ انْتِفَاءِ أَضَدَادِهَا لِيُطْرَقَ سَمْعُهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشَّقْوَةِ تَحْذِيرًا مِنْهَا لِكَيْ يَتَحَامَى مَنْ يَسْعَى إِلَى إِرْزَائِهِ مِنْهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَإنَّك لَا تظمؤا- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) - عَطْفًا لِلْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَأَنَّكَ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَطْفًا عَلَى أَلَّا تَجُوعَ عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ، أَيْ إِنَّ لَكَ نَفْيَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ وَنَفْيَ الظَّمَأِ وَالضَّحْوِ.
وَقَدْ حَصَلَ تَأْكِيدُ الْجَمِيعِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِ (إِنْ) وَبِأُخْتِهَا، وَبَيْنَ الأسلوبين تفنّن.