المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الكهف (18) : الآيات 78 إلى 82] - التحرير والتنوير - جـ ١٦

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 75 إِلَى 76]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 77]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 78 إِلَى 82]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 83 إِلَى 84]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 85 إِلَى 88]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 89 إِلَى 90]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 91]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 92 إِلَى 98]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 99 الى 101]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 102]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 103 إِلَى 104]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 105]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 106]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 107 إِلَى 108]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 109]

- ‌[سُورَة الْكَهْف (18) : آيَة 110]

- ‌19- سُورَةُ مَرْيَمَ

- ‌أغراض السُّورَة

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 2 إِلَى 3]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 4 إِلَى 6]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 7 إِلَى 8]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 12 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 16 إِلَى 21]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 22 إِلَى 23]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 25 إِلَى 26]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 27 إِلَى 28]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 29]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 30 إِلَى 33]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 34 إِلَى 35]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 36]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 37]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 38]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 39]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 41 إِلَى 42]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 45]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 46]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 47 إِلَى 48]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 49 إِلَى 50]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 51 إِلَى 53]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 54 إِلَى 55]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 56 إِلَى 57]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 58]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 59 إِلَى 63]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 64]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 65]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 66 إِلَى 67]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 68 إِلَى 70]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 71 إِلَى 72]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 73 إِلَى 74]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 75 إِلَى 76]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 77 إِلَى 80]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 81 إِلَى 82]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 83 إِلَى 84]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 85 إِلَى 87]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 88 إِلَى 95]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 96]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 97]

- ‌[سُورَة مَرْيَم (19) : آيَة 98]

- ‌20- سُورَةُ طَهَ

- ‌أغراضها:

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 2 إِلَى 6]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 9 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 11 إِلَى 13]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 14 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 17 إِلَى 21]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 22 إِلَى 23]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 24 إِلَى 36]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 37 الى 41]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 42]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 43 إِلَى 44]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 45 إِلَى 48]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 49 إِلَى 50]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 51 إِلَى 52]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 53 إِلَى 54]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 55]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 56]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 57 إِلَى 59]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 60 إِلَى 61]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 62 إِلَى 64]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 65 إِلَى 66]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 67 إِلَى 69]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 70 إِلَى 71]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 72 إِلَى 73]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 74 إِلَى 76]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 77]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 78 إِلَى 79]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 80 إِلَى 82]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 83 إِلَى 85]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 86]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 87 الى 88]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 89]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 90 إِلَى 91]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 92 إِلَى 94]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 95 إِلَى 96]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 97]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 98]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 99 إِلَى 101]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 102 إِلَى 104]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 105 إِلَى 107]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 108 إِلَى 112]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 113 إِلَى 114]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 115]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 116]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 117 الى 119]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 120]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 121 إِلَى 122]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 123 الى 127]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 128]

- ‌[سُورَة طه (20) : الْآيَات 129 إِلَى 130]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 131]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 132]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 133]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 134]

- ‌[سُورَة طه (20) : آيَة 135]

الفصل: ‌[سورة الكهف (18) : الآيات 78 إلى 82]

وَقَوْلُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لَوْمٌ، أَيْ كَانَ فِي مُكْنَتِكَ أَنْ تَجْعَلَ لِنَفْسِكَ أَجْرًا عَلَى إِقَامَةِ الْجِدَارِ تَأْخُذُهُ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَلَا تُقِيمُهُ مَجَّانًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّ الضِّيَافَةِ وَنَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى مَا نُنْفِقُهُ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْأَتْبَاعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ.

وَهَذَا اللَّوْمُ يَتَضَمَّنُ سُؤَالًا عَنْ سَبَبِ تَرْكِ الْمُشَارَطَةِ عَلَى إِقَامَةِ الْجِدَارِ عِنْدَ الْحَاجَةِ

إِلَى الْأَجْرِ، وَلَيْسَ هُوَ لَوْمًا عَلَى مُجَرَّدِ إِقَامَتِهِ مَجَّانًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَهُوَ غَيْرُ مَلُومٍ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَاتَّخَذْتَ- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ بَعْدَ اللَّامِ وَبِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (اتَّخَذَ) .

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ لَتَخِذْتَ بِدُونِ هَمْزَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (تَخِذَ) الْمُفْتَتَحُ بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مَاضِي (تَخِذَ) أَوَّلُهُ فَوْقِيَّةٌ، وَهُوَ مِنْ بَاب علم.

[78- 82]

[سُورَة الْكَهْف (18) : الْآيَات 78 إِلَى 82]

قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً

ص: 9

(82)

الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِلَفْظِ هَذَا مُقَدَّرٌ فِي الذِّهْنِ حَاصِلٌ مِنِ اشْتِرَاطِ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ سُؤَالِهِ الثَّانِي فَقَدِ انْقَطَعَتِ الصُّحْبَةُ بَيْنَهُمَا، أَيْ هَذَا الَّذِي حَصَلَ الْآنَ هُوَ فِرَاقُ بَيْنِنَا، كَمَا يُقَالُ: الشَّرْطُ أَمْلَكُ عَلَيْكَ أَمْ لَكَ. وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمشَار إِلَيْهِ مِقْدَار فِي الذِّهْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ [الْقَصَص: 83] . وَإِضَافَةُ فِراقُ إِلَى بَيْنِي مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَأَصْلُهُ: فِرَاقٌ بَيْنِي، أَيْ حَاصِلٌ بَيْنَنَا، أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ الْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ إِلَى مَعْمُولِهِ، كَمَا يُضَافُ الْمَصْدَرُ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ خُرُوجُ (بَيْنَ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما [الْكَهْف: 61] .

وَجُمْلَةُ سَأُنَبِّئُكَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، تَقَعُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَهْجِسُ فِي خَاطِرِ مُوسَى عليه السلام عَنْ أَسْبَابِ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا الْخَضِرُ عليه السلام وَسَأَلَهُ عَنْهَا مُوسَى فَإِنَّهُ قَدْ وَعَدَهُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ ذِكْرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ.

وَالتَّأْوِيلُ: تَفْسِيرٌ لِشَيْءٍ غَيْرِ وَاضِحٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرُّجُوعُ. شَبَّهَ تَحْصِيلُ الْمَعْنَى عَلَى تَكَلُّفٍ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ بَعْدَ السَّيْرِ إِلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي

الْعِلْمِ يَقُولُونَ

إِلَخْ.. مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [7] .

وَفِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً تَعْرِيضٌ

ص: 10

بِاللَّوْمِ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ إِحْدَاثُ الذِّكَرِ حَسْبَمَا وَعَدَهُ بقوله فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.

وَالْمَسَاكِينُ: هُنَا بِمَعْنَى ضُعَفَاءِ الْمَالِ الَّذِينَ يَرْتَزِقُونَ مِنْ جُهْدِهِمْ وَيُرَقُّ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَكْدَحُونَ دَهْرَهُمْ لِتَحْصِيلِ عَيْشِهِمْ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ أَشَدَّ الْفَقْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التَّوْبَة: 60] بَلِ الْمُرَادُ بِتَسْمِيَتِهِمْ بِالْفُقَرَاءِ أَنَّهُمْ يُرَقُّ لَهُمْ كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ: «

مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ وَأَيُّ مِسْكِينٍ» .

وَكَانَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ هَؤُلَاءِ عَمَلَةٌ يَأْجُرُونَ سَفِينَتَهُمْ لِلْحَمْلِ أَوْ لِلصَّيْدِ.

وَمَعْنَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ: هُوَ مَلِكُ بِلَادِهِمْ بِالْمِرْصَادِ مِنْهُمْ وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ يُسَخِّرُ كُلَّ سَفِينَةٍ يَجِدُهَا غَصْبًا، أَيْ بِدُونِ عِوَضٍ. وَكَانَ ذَلِكَ لِنَقْلِ أُمُورِ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهُ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الْمَلِكُ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَشَهَوَاتِهِ، كَمَا كَانَ الْفَرَاعِنَةُ يُسَخِّرُونَ النَّاسَ لِلْعَمَلِ فِي بِنَاءِ الْأَهْرَامِ.

وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لِلْأُمَّةِ لَجَازَ التَّسْخِيرُ مِنْ كُلٍّ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَبَعْدَ تَحَقُّقِهَا.

ووراء اسْمُ الْجِهَةِ الَّتِي خَلْفَ ظَهْرِ مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَهُوَ ضِدُّ أَمَامَ وَقُدَّامَ.

وَيُسْتَعَارُ (الْوَرَاءُ) لِحَالِ تَعَقُّبِ شَيْءٍ شَيْئًا وَحَالِ مُلَازِمَةِ طَلَبِ شَيْءٍ شَيْئًا بِحَقٍّ وَحَالِ الشَّيْءِ الَّذِي سَيَأْتِي قَرِيبًا، كُلُّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْكَائِنِ خَلْفَ شَيْءٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ فِي [الْجَاثِيَةِ: 10] .

ص: 11

وَقَالَ لَبِيدٌ:

أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي

لُزُومَ الْعَصَا تُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ

وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا وَراءَهُمْ مَلِكٌ بِمَعْنَى أَمَامَهُمْ مَلِكٌ، فَتَوَهَّمَ بَعْضُ مُدَوِّنِي اللُّغَةِ أَنَّ (وَرَاءَ) مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَأَنْكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِلَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ هُوَ وَرَاءَكَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنَ اللَّيَالِي تَقُولُ: وَرَاءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ. يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ مِنَ الْأَضْدَادِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَمَعْنَى كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أَيْ صَالِحَةٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَلِكِ وَسَبَبِ أَخْذِهِ لِلسُّفُنِ قَصَصًا وَأَقْوَالًا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا بِعَيْنِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقْ بِهِ غَرَضٌ فِي مَقَامِ الْعِبْرَةِ.

وَجُمْلَةُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ جُمْلَتَيْ فَكانَتْ لِمَساكِينَ، ووَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ، فَكَانَ حَقُّهَا التَّأْخِيرَ عَنْ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهَا قُدِّمَتْ خِلَافًا لِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ بِإِرَادَةِ إِعَابَةِ السَّفِينَةِ حَيْثُ كَانَ عَمَلًا ظَاهِرُهُ الْإِنْكَارُ وَحَقِيقَتُهُ الصَّلَاحُ زِيَادَةً فِي تَشْوِيقِ مُوسَى إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ السَّفِينَةِ لِمَسَاكِينَ مِمَّا يَزِيدُ السَّامِعَ تَعَجُّبًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى خَرْقِهَا. وَالْمَعْنَى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَقَدْ فَعَلْتُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: فَعِبْتُهَا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ عَنْ قَصْدٍ وَتَأَمُّلٍ.

وَقَدْ تُطْلَقُ الْإِرَادَةُ عَلَى الْقَصْدِ أَيْضًا. وَفِي «اللِّسَانِ» عَزْوُ ذَلِكَ إِلَى سِيبَوَيْهِ.

وَتَصَرُّفُ الْخَضِرِ فِي أَمْرِ السَّفِينَةِ تَصَرُّفٌ بِرَعْيِ الْمُصْلِحَةِ الْخَاصَّةِ عَنْ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَصَالِحِ الضُّعَفَاءِ إِذْ كَانَ الْخَضِرُ عَالِمًا بِحَالِ

ص: 12

الْمَلِكِ، أَوْ كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُ بِوُجُودِهِ حِينَئِذٍ، فَتَصَرَّفُ الْخَضِرِ قَائِمٌ مَقَامَ تَصَرُّفِ الْمَرْءِ فِي مَالِهِ بِإِتْلَافِ بَعْضِهِ لِسَلَامَةِ الْبَاقِي، فَتَصَرُّفُهُ الظَّاهِرُ إِفْسَادٌ وَفِي الْوَاقِعِ إِصْلَاحٌ لِأَنَّهُ مِنِ ارْتِكَاب أخف الضررين. وَهَذَا أَمْرٌ خَفِيٌّ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إِلَّا الْخَضِرُ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ مُوسَى.

وَأَمَّا تَصَرُّفُهُ فِي قَتْلِ الْغُلَامِ فَتَصَرُّفٌ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ جَارٍ عَلَى قَطْعِ فَسَادٍ خَاصٍّ عَلِمَهُ اللَّهُ وَأَعْلَمَ بِهِ الْخَضِرَ بِالْوَحْيِ، فَلَيْسَ مِنْ مَقَامِ التَّشْرِيعِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مِنْ تَرْكِيبِ عَقْلِ الْغُلَامِ وَتَفْكِيرِهِ أَنَّهُ عَقْلٌ شَاذٌّ وَفِكْرٌ مُنْحَرِفٌ طُبِعَ عَلَيْهِ بِأَسْبَابٍ مُعْتَادَةٍ مِنِ انْحِرَافِ طَبْعٍ وَقُصُورِ إِدْرَاكٍ، وَذَلِكَ مِنْ آثَارٍ مُفْضِيَةٍ إِلَى تِلْكَ النَّفْسِيَّةِ وَصَاحِبِهَا فِي أَنَّهُ يَنْشَأُ طَاغِيًا كَافِرًا.

وَأَرَادَ اللَّهُ اللُّطْفَ بِأَبَوَيْهِ بِحِفْظِ إِيمَانِهِمَا وَسَلَامَةِ الْعَالَمِ مِنْ هَذَا الطَّاغِي لُطْفًا أَرَادَهُ اللَّهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى سَبْقِ عِلْمِهِ، فَفِي هَذَا مَصْلَحَةٌ لِلدِّينِ بِحِفْظِ أَتْبَاعِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ فِيهَا حِفْظُ الدِّينِ، وَمَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَحُكْمِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ.

وَالزَّكَاةُ: الطَّهَارَةُ، مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً.

وَالرُّحْمُ:- بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ-: نَظِيرُ الْكُثْرِ لِلْكَثْرَةِ.

وَالْخَشْيَةُ: تَوَقُّعُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُتَدَارَكْ بِقَتْلِهِ.

وَضَمِيرَا الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ فَخَشِينا وَقَوْلِهِ فَأَرَدْنا عَائِدَانِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحِدِ

بِإِظْهَارِ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِغَيْرِهِ فِي الْفِعْلِ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ يَكُونُ مِنَ التَّوَاضُعِ لَا مِنَ التَّعَاظُمِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَهُ فَنَاسَبَهُ التَّوَاضُعُ فَقَالَ: فَخَشِينا فَأَرَدْنا، وَلَمْ يقل مثله عِنْد مَا قَالَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها لِأَنَّ سَبَبَ الْإِعَابَةِ إِدْرَاكُهُ لِمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِحَالِ تِلْكَ الْأَصْقَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 13

قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [79] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُبْدِلَهُما- بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ- مِنَ التَّبْدِيلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ- مِنَ الْإِبْدَال.

وَأما قَضِيَّة الْجِدَار فَالْخَضِرُ تَصَرَّفَ فِي شَأْنِهَا عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ اللُّطْفَ بِالْيَتِيمَيْنِ جَزَاءً لِأَبِيهِمَا عَلَى صَلَاحِهِ، إِذْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَبَاهُمَا كَانَ يُهِمُّهُ أَمْرُ عَيْشِهِمَا بَعْدَهُ، وَكَانَ قَدْ أَوْدَعَ تَحْتَ الْجِدَارِ مَالًا، وَلَعَلَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَ وَلَدَيْهِ عِنْدَ بُلُوغِ أَشُدِّهِمَا أَنْ يَبْحَثَا عَنْ مَدْفِنِ الْكَنْزِ تَحْتَ الْجِدَارِ بِقَصْدٍ أَوْ بِمُصَادَفَةٍ، فَلَوْ سَقَطَ الْجِدَارُ قَبْلَ بُلُوغِهِمَا لَتَنَاوَلَتِ الْأَيْدِي مَكَانَهُ بِالْحَفْرِ وَنَحْوِهُ فَعَثَرَ عَلَيْهِ عَاثِرٌ، فَذَلِكَ أَيْضًا لُطْفٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. وَقَدْ أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ فِي قِصَّةِ الْجِدَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقِصَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ يَقِفُ عَلَى سِرِّهِ لِأَنَّ فِيهِمَا دَفْعَ فَسَادٍ عَنِ النَّاسِ بِخِلَافِ قِصَّةِ الْجِدَارِ فَتِلْكَ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لِأَبِي الْغُلَامَيْنِ.

وَقَوْلُهُ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي تَصْرِيحٌ بِمَا يُزِيلُ إِنْكَارَ مُوسَى عَلَيْهِ تَصَرُّفَاتِهِ هَذِهِ بِأَنَّهَا رَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ فَلَا إِنْكَارَ فِيهَا بَعْدَ مَعْرِفَةِ تَأْوِيلِهَا.

ثُمَّ زَادَ بِأَنَّهُ فَعَلَهَا عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي عَلِمَ مُوسَى أَنَّ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ النَّبِيءَ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنِ اجْتِهَادٍ أَوْ عَنْ وَحْيٍ، فَلَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ نَفْسِهِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا أُوثِرَ نَفْيُ كَوْنِ فِعْلِهِ عَنْ أَمْرِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ: وَفَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّي، تَكْمِلَةً لِكَشْفِ حَيْرَةِ

ص: 14

مُوسَى وَإِنْكَارِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَعْلَاتِهِ الثَّلَاثَ كَانَ يُؤَيِّدُ إِنْكَارَهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَصَرَّفَ عَنْ خَطَأٍ.

وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَيُنَازِعُهُ كُلٌّ من (أردْت) ، و (أردنَا) ، و (أَرَادَ رَبُّكَ) .

وَجُمْلَةُ ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا ابْتِدَاءٌ مِنْ

قَوْلِهِ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ تَلْخِيصٌ لِلْمَقْصُودِ كَحَوْصَلَةِ الْمُدَرِّسِ فِي آخِرِ دَرْسِهِ.

وتَسْطِعْ مُضَارِعُ (اسْطَاعَ) بِمَعْنَى (اسْتَطَاعَ) . حَذَفَ تَاءَ الِاسْتِفْعَالِ تَخْفِيفًا لِقُرْبِهَا مِنْ مَخْرَجِ الطَّاءِ، وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً لِلتَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ لَفَظٍ بِعَيْنِهِ مَعَ وُجُودِ مُرَادِفِهِ. وَابْتُدِئَ بِأَشْهَرِهِمَا اسْتِعْمَالًا وَجِيءَ بِالثَّانِيَةِ بِالْفِعْلِ الْمُخَفَّفِ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ تَسْتَطِعْ يَحْصُلُ مِنْ تَكْرِيرِهِ ثِقَلٌ.

وَأَكَدَّ الْمَوْصُولَ الْأَوَّلَ الْوَاقِعَ فِي قَوْلِهِ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً تَأْكِيدًا لِلتَّعْرِيضِ بِاللَّوْمِ عَلَى عَدَمِ الصَّبْرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ قَدِ اتَّخَذَتْهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ النِّحَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَصْلًا بَنَوْا عَلَيْهِ قَوَاعِدَ مَوْهُومَةً.

فَأَوَّلُ مَا أَسَّسُوهُ مِنْهَا أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا وَإِنَّمَا كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، وَأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي أُوتِيَهُ لَيْسَ وَحْيًا وَلَكِنَّهُ إِلْهَامٌ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ الَّذِي تَصَرَفَهُ فِي الْمَوْجُودَاتِ أَصْلٌ لِإِثْبَاتِ الْعُلُومِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَنَّ الْخَضِرَ مَنَحَهُ اللَّهُ الْبَقَاءَ إِلَى انْتِهَاءِ مُدَّةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ مَرْجِعًا لِتَلَقِّي الْعُلُومِ

ص: 15

الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ لِأَهْلِ الْمَرَاتِبِ الْعُلْيَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَيُفِيدُهُمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا هُمْ أَهْلٌ لِتَلَقِّيهِ.

وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِلْهَامَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْوَحْيِ، وَسَمَّوْهُ الْوَحْيَ الْإِلْهَامِيَّ، وَأَنَّهُ يَجِيءُ عَلَى لِسَانِ مَلَكِ الْإِلْهَامِ، وَقَدْ فَصَّلَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ وَالثَمَانِينَ مِنْ كِتَابِهِ «الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ» ، وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ بِفُرُوقٍ وعلامات ذكرهَا منثورة فِي الْأَبْوَابِ الثَّالِثِ وَالسَّبْعِينَ، وَالثَّامِنِ وَالسِتِّينَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَالرَّابِعِ وَالسِّتِينَ بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ الْإِلْهَامِيَّ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو مَا قَالَهُ مِنْ غُمُوضٍ وَرُمُوزٍ، وَقَدِ انْتَصَبَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مَا يُسَمَّى بِالْإِلْهَامِ حُجَّةً. وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ يَثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ، وَأَبْطَلُوا كَوْنَهُ حُجَّةً لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِخَوَاطِرِ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا وَلِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهَا النَّسَفِيُّ فِي «عَقَائِدِهِ» ، وَكُلُّ مَا قَالَهُ النَّسَفِيُّ فِي ذَلِكَ حَقٌّ، وَلَا يُقَامُ التَّشْرِيعُ عَلَى أُصُولٍ مَوْهُومَةٍ لَا تَنْضَبِطُ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيءٌ عليه السلام وَأَنَّهُ كَانَ مُوحًى إِلَيْهِ بِمَا أُوحِيَ، لِقَوْلِهِ وَما

فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

، وَأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى خَبَرُهُ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الَّتِي قُصَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ لَحِقَهُ الْمَوْتُ الَّذِي يَلْحَقُ الْبَشَرَ فِي أَقْصَى غَايَةٍ مِنَ الْأَجَلِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْرَضَ، وَأَنْ يَحْمِلَ مَا يُعْزَى إِلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ الْمَوْسُومِينَ بِالصِّدْقِ أَنَّهُ مَحُوكٌ عَلَى نَسْجِ الرَّمْزِ الْمُعْتَادِ لَدَيْهِمْ، أَوْ عَلَى غِشَاوَةِ الْخَيَالِ الَّتِي قَدْ تُخَيِّمُ عَلَيْهِمْ.

فَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِمَّنْ يَقُولُ: أَخْبرنِي الْخضر.

ص: 16