الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 30 إِلَى 33]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
كَلَامُ عِيسَى هَذَا مِمَّا أَهْمَلَتْهُ أَنَاجِيلُ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ طَوَوْا خَبَرَ وُصُولِهَا إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا، وَهُوَ طَيٌّ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي أَحْوَالٍ غَيْرِ مَضْبُوطَةٍ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيئَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَالِابْتِدَاءُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ بِأَنَّ قَوْمًا سَيَقُولُونَ: أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَاءِ الْكِتَابِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ مُرَادٌ بِهِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ إِيتَاءَهُ إِيَّاهُ، أَيْ قدّر أَن يوتيني الْكِتَابَ.
وَالْكِتَابُ: الشَّرِيعَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكْتَبَ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا تَغْيِيرٌ. فَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى كَإِطْلَاقِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْإِنْجِيلُ وَهُوَ مَا كُتِبَ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ فَيَكُونَ الْإِيتَاءُ إِيتَاءَ عِلْمِ مَا فِي التَّوْرَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: 12] فَيَكُونَ قَوْلُهُ وَجَعَلَنِي نَبِيئًا ارْتِقَاءً فِي الْمَرَاتِبِ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا.
وَالْقَوْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَاضِي كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ وآتانِيَ الْكِتابَ.
وَالْمُبَارَكُ: الَّذِي تُقَارِنُ الْبَرَكَةُ أَحْوَالَهُ فِي أَعْمَالِهِ وَمُحَاوَرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُبَارَكَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَارَكَهُ، إِذَا جَعَلَهُ ذَا بَرَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَارَكَ فِيهِ، إِذَا جَعَلَ الْبَرَكَةَ مَعَهُ.
وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ وَالْيُمْنُ.
ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بِرَحْمَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُحِلَّ لَهُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَلِيَدْعُوَهُمْ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ أَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَغَيَّرُوا مِنْ دِينِهِمْ، فَهَذِهِ أَعْظَمُ بَرَكَةٍ تُقَارِنُهُ. وَمِنْ بَرَكَتِهِ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ حُلُولَهُ فِي الْمَكَانِ سَبَبًا لِخَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ مِنْ خِصْبِهَا وَاهْتِدَاءِ أَهْلِهَا وَتَوْفِيقِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ إِذَا لَقِيَهُ الْجَهَلَةُ وَالْقُسَاةُ وَالْمُفْسِدُونَ انْقَلَبُوا صَالِحِينَ وَانْفَتَحَتْ قُلُوبُهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، وَلِذَلِكَ تَرَى أَكْثَرَ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا مِنْ عَامَّةِ الْأُمِّيِّينَ مِنْ صَيَّادِينَ وَعَشَّارِينَ فَصَارُوا دُعَاةَ هَدًى وَفَاضَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْحِكْمَةِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ كَوْنَهُ مُبَارَكًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيئًا عُمُومًا وَجْهِيًّا، فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْله وَجَعَلَنِي نبيئا غُنْيَةٌ عَنْ قَوْلِهِ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً.
وَالتَّعْمِيمُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ أَيْنَ مَا كُنْتُ تَعْمِيمٌ لِلْأَمْكِنَةِ، أَيْ لَا تَقْتَصِرُ بَرَكَتُهُ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْهَيْكَلِ بِالْمَقْدِسِ أَوْ فِي مَجْمَعِ أَهْلِ بَلَدِهِ، بَلْ هُوَ حَيْثُمَا حَلَّ تَحُلَّ مَعَهُ الْبَرَكَةُ.
وَالْوِصَايَةُ: الْأَمْرُ الْمُؤَكَّدُ بِعَمَلٍ مُسْتَقْبَلٍ، أَيْ قَدَّرَ وَصِيَّتَي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، أَيْ أَنْ يَأْمُرَنِي بِهِمَا أَمْرًا مُؤَكَّدًا مُسْتَمِرًّا، فَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي أَوْصانِي مِثْلَ اسْتِعْمَالِهَا
فِي قَوْلِهِ آتانِيَ الْكِتابَ.
وَالزَّكَاةُ: الصَّدَقَةُ. وَالْمُرَادُ: أَنْ يُصَلِّيَ وَيُزَكِّيَ. وَهَذَا أَمْرٌ خَاصٌّ بِهِ كَمَا أُمِرَ نَبِيئُنَا صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَرِينَةُ
الْخُصُوصِ قَوْلُهُ مَا دُمْتُ حَيًّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ حَيَّاتِهِ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، أَيْ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَتَصَدَّقَ فِي أَوْقَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ غَيْرِ أَوْقَاتِ الدَّعْوَةِ أَوِ الضَّرُورَاتِ.
فَالِاسْتِغْرَاقُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَا دُمْتُ حَيًّا اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مُرَادٌ بِهِ الْكَثْرَةُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَتَيْنِ عَلَى أُمَّتِهِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي أَوْصَافٍ تَمَيَّزَ بِهَا عِيسَى عليه السلام، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَرْعِ صَلَاةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا شُرِعَ فِي التَّوْرَاةِ.
وَالْبَرُّ- بِفَتْحِ الْبَاءِ-: اسْمٌ بِمَعْنَى الْبَارِّ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ بَيْنَ قَوْمِهِ، لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَ ضَعِيفًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ، وَبِخَاصَّةٍ الْوَالِدَةُ لِأَنَّهَا تُسْتَضْعَفُ، لِأَنَّ فَرْطَ حَنَانِهَا وَمَشَقَّتِهَا قَدْ يُجَرِّئَانِ الْوَلَدَ عَلَى التَّسَاهُلِ فِي الْبِرِّ بِهَا.
وَالْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ الْغَلِيظُ عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ [59] قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
وَالشَّقِيُّ: الْخَاسِرُ وَالَّذِي تَكُونُ أَحْوَالُهُ كَدِرَةً لَهُ وَمُؤْلِمَةً، وَهُوَ ضِدُّ السَّعِيدِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ [105] .
وَوُصِفَ الْجَبَّارُ بِالشَّقِيِّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ فِي الْآخِرَةِ وَرُبَّمَا فِي الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ إِلَى آخِرِهِ، تَنْوِيهٌ بِكَرَامَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ رَبِّهِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ ذِكْرِ يَحْيَى.
وَجِيءَ بِالسَّلَامِ هُنَا معرّفا بِاللَّامِ الدَّالَّة عَلَى الْجِنْسِ مُبَالَغَةً فِي تَعَلُّقِ السَّلَامِ بِهِ حَتَّى كَانَ جِنْسُ السَّلَامِ بِأَجْمَعِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مُؤْذِنٌ