الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ (يَرِثُنِي) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِ وَلِيًّا. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الدُّعَاءِ فِي قَوْله فَهَبْ لِي لِإِرَادَةِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَجْوِبَةِ الثَّمَانِيَةِ أَنَّهَا عَلَى تَقْدِير فَاء السَّبَبِيَّة.
وآلِ يَعْقُوبَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ خَاصَّةً بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ آلِ
الْمُشْعِرِ بِالْفَضِيلَةِ وَالشَّرَفِ، فَيَكُونَ يَعْقُوبُ هُوَ إِسْرَائِيلُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَرِثُ مِنْ آلِ إِسْرَائِيلَ، أَيْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ وَأَحْبَارِ الْيَهُودِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاء: 54] ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ آلُ الرَّجُلِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ إِذَا كَانُوا على سنَنه، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: 68] وَقَوْلُهُ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الْإِسْرَاء: 3] ، مَعَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ ذَرِّيَّةُ مَنْ حُمِلُوا مَعَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ يَعْقُوبُ آخَرُ غَيْرُ إِسْرَائِيلَ. وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ، قَالَهُ: مَعْقِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ عَمُّ مَرْيَمَ أَخُو عِمْرَانَ أَبِيهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَخُو زَكَرِيَّاءَ، أَيْ لَيْسَ لَهُ أَوْلَادٌ فَيَكُونَ ابْنُ زَكَرِيَّاءَ وَارِثًا لِيَعْقُوبَ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ، فَيَعْقُوبُ عَلَى هَذِهِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَالِيَ الَّذِينَ خَافَهُمْ زَكَرِيَّاءُ من وَرَائه.
[7- 8]
[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 7 إِلَى 8]
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ عَقِبَ الدُّعَاءِ إِيجَازًا، أَيْ قُلْنَا يَا زَكَرِيَّاءُ إِلَخْ
…
وَالتَّبْشِيرُ: الْوَعْدُ بِالْعَطَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ قَالَ لِلْأَنْصَارِ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا»
،
وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى، فَقَالُوا بشرتنا فَأَعْطِنَا»
. وَمَعْنَى اسْمُهُ يَحْيى سَمِّهِ يَحْيَى، فَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ.
وَالسَّمِيُّ فَسَّرُوهُ بِالْمُوَافِقِ فِي الِاسْمِ، أَيْ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ قَبْلِ وُجُودِهِ. فَعَلَيْهِ يَكُونُ هَذَا الْإِخْبَارُ سِرًّا مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهُ زَكَرِيَّاءَ فَلَا يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ يُسَمِّي أَحَدٌ ابْنَهُ يَحْيَى فِيمَا بَيْنَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ وَبَيْنَ ازْدِيَادِ الْوَلَدِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ وَإِكْرَامٌ لِزَكَرِيَّاءَ إِذْ جَعَلَ اسْمَ ابْنِهِ مُبْتَكَرًا، وَلِلْأَسْمَاءِ الْمُبْتَكَرَةِ مَزِيَّةُ قُوَّةِ تَعْرِيفِ الْمُسَمَّى لِقِلَّةِ الِاشْتِرَاكِ، إِذْ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ كَثِيرًا مُدَّةَ وُجُودِهِ، وَلَهُ مَزِيَّةُ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ مِنْ بَعْدُ حِينِ يُسَمُّونَ أَبْنَاءَهُمْ ذَلِكَ الِاسْمَ تَيَمُّنًا وَاسْتِجَادَةً.
وَعِنْدِي: أَنَّ السَّمِيَّ هُنَا هُوَ الْمُوَافِقُ فِي الِاسْمِ الْوَصْفِيِّ بِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْوَصْفِ، فَإِنَّ الِاسْمَ أَصْلُهُ فِي الِاشْتِقَاقِ (وَسَمَ)، وَالسِّمَةُ: أَصْلُهَا وَسْمَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [النَّجْم: 27] ، أَيْ يَصِفُونَهُمْ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
الْآتِي: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَم: 65] أَيْ لَا مَثِيلَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَسْمَائِهِ. وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى يَحْيَى وَالِامْتِنَانِ عَلَى أَبِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنه لم يجىء قَبْلَ يَحْيَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ مَا اجْتَمَعَ لِيَحْيَى فَإِنَّهُ أُعْطِيَ النُّبُوءَةَ وَهُوَ صَبِيٌّ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: 12] ، وَجُعِلَ حَصُورًا لِيَكُونَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ فِي عِصْمَتِهِ عَنِ الْحَرَامِ، وَلِئَلَّا تَكُونَ لَهُ مَشَقَّةٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الْعِبَادَةِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ، وَوُلِدَ لِأَبِيهِ بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ وَلِأُمِّهِ بَعْدَ الْعُقْرِ، وَبُعِثَ مُبَشِّرًا بِرِسَالَةِ عِيسَى عليه السلام، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ
رَسُولًا، وَجُعِلَ اسْمُهُ الْعَلَمُ مُبْتَكَرًا غَيْرَ سَابِقٍ مِنْ قَبْلِهِ. وَهَذِهِ مَزَايَا وَفَضَائِلُ وُهِبَتْ لَهُ وَلِأَبِيهِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَكُونُ بِمَجْمُوعِ فَضَائِلَ لَا بِبَعْضِهَا وَإِنْ جَلَّتْ، وَلِذَلِكَ قِيلَ «الْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ» وَهِيَ كَلِمَةُ صِدْقٍ.
وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ جَوَابٌ لِلْبِشَارَةِ.
وأَنَّى اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ، وَالتَّعَجُّبُ مُكَنَّى بِهِ عَنِ الشُّكْرِ، فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ عَزِيزَةٌ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا ثُمَّ يَتَعَجَّبَ مِنِ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ اللَّهَ يَهَبُ لَهُ وَلَدًا مِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى بِأَنْ يَأْذَنَهُ بِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ غَيْرِ عَاقِرٍ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَجُمْلَةُ امْرَأَتِي عاقِراً حَالٌ مِنْ يَاءِ التَّكَلُّمِ. وَكُرِّرَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ فِي دُعَائِهِ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ زَكَرِيَّاءَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ عَدَمَ الْوِلَادَةِ بِسَبَبِ عُقْرِ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالرَّجُلِ عُنَّةٌ وَلَا خِصَاءٌ وَلَا اعْتِرَاضٌ، لأَنهم يحسبون الإنعاظ وَالْإِنْزَالَ هُمَا سَبَبُ الْحَمْلِ إِنْ لَمْ تَكُنْ بِالْمَرْأَةِ عَاهَةُ الْعُقْرِ. وَهَذَا خَطَأٌ فَإِنَّ عَدَمَ الْوِلَادَةِ يَكُونُ إِمَّا لِعِلَّةٍ بِالْمَرْأَةِ فِي رَحِمِهَا أَوْ لِعِلَّةٍ فِي مَاءِ الرَّجُلِ يَكُونُ غَيْرَ صَالِحٍ لِنَمَاءِ الْبُوَيْضَاتِ الَّتِي تُبْرِزُهَا رَحِمُ الْمَرْأَةِ.
ومِنَ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا لِلِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ.
وَالْكِبَرُ: كَثْرَةُ سِنِي الْعُمْرِ، لِأَنَّهُ يُقَارِنُهُ ظُهُورُ قِلَّةِ النَّشَاطِ وَاخْتِلَالِ نِظَامِ الْجِسْمِ.
وعِتِيًّا مَفْعُولُ بَلَغْتُ.