الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة طه (20) : الْآيَات 2 إِلَى 6]
مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6)
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِمُلَاطَفَةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ إِرْسَالِهِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْقَى بِذَلِكَ، أَيْ تُصِيبَهُ الْمَشَقَّةُ وَيَشُدُّهُ التَّعَبُ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُذَكِّرَ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدَهُ. وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ أَيْضًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الَخَشْيَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ادَّكَرُوا بِالْقُرْآنِ.
وَفِي هَذِهِ الْفَاتِحَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام بِالِاضْطِلَاعِ بِأَمْرِ التَّبْلِيغِ، وَبِكَوْنِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِثْلَ مُوسَى عليه السلام وَأَنْ لَا يَكُونَ مُفَرِّطًا فِي الْعَزْمِ كَمَا كَانَ آدَمُ عليه السلام قَبْلَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِمَنْ أُنْزَلَ عَلَيْهِ وَجَاءَ بِهِ.
وَالشَّقَاءُ: فَرْطُ التَّعَبِ بِعَمَلٍ أَوْ غَمٍّ فِي النَّفْسِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
إِلَّا مَقَالَةَ أَقْوَامٍ شَقِيتُ بِهِمْ
…
كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ قَرْعًا عَلَى كَبِدِي
وَهَمْزَةُ الشَّقَاءِ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ. يُقَالُ: شَقَاءٌ وَشَقَاوَةٌ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَشِقْوَةٌ- بِكَسْرِهَا.
وَوُقُوعُ فِعْلِ أَنْزَلْنا فِي سِيَاقِ النَّفْي يَقْتَضِي عُمُومَ مَدْلُولِهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِهِ، وَعُمُومُ الْفِعْلِ يسْتَلْزم عُمُوم متعلقانه مِنْ مَفْعُولٍ وَمَجْرُورٍ.
فَيَعُمَّ نَفْيَ جَمِيعِ كُلِّ
إِنْزَالٍ لِلْقُرْآنِ فِيهِ شَقَاءٌ لَهُ، وَنَفْيُ كُلِّ شَقَاءٍ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْإِنْزَالِ، أَيْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّقَاءِ فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ سَبَبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّقَاءِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَوَّلُ مَا يُرَادُ مِنْهُ هُنَا أَسَفُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: 6] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مَا أَرْسَلْنَاكَ لِتَخِيبَ بَلْ لِنُؤَيِّدَكَ وَتَكُونَ لَكَ الْعَاقِبَةُ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا تَذْكِرَةً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ لِلْقُرْآنِ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالٍ إِلَّا حَالَ تَذْكِرَةٍ فَصَارَ الْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى وَمَا أَنْزَلْنَاهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا تَذْكِرَةً. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ، فَفِعْلُ أَنْزَلْنا عَامِلٌ فِي لِتَشْقى بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَعَامِلٌ فِي تَذْكِرَةً بِوَاسِطَةِ صَاحِبِ الْحَالِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَنْفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: لِتَشْقى حَتَّى تَتَحَيَّرَ فِي تَقْوِيمِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَتَفْزَعَ إِلَى جَعْلِهِ مُنْقَطِعًا وَتَقَعَ فِي كَلَفٍ لِتَصْحِيحِ النَّظْمِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : «قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالنَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ (وَزَادَ غَيْرُ الْوَاحِدِيِّ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةَ، وَالْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ) لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ لِتَشْقَى بِتَرْكِ دِينِنَا، لَمَّا رَأَوْا مِنْ طُولِ عِبَادَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى الْآيَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ سَنَدٌ.
وَالتَّذْكِرَةُ: خُطُورُ الْمَنْسِيِّ بِالذِّهْنِ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ مُسْتَقِرُّ فِي الْفِطْرَةِ وَالْإِشْرَاكُ مُنَافٍ لَهَا، فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ تَذْكِيرٌ لِمَا فِي الْفِطْرَةِ أَوْ تَذْكِيرٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.
وَ (مَنْ يَخْشى) هُوَ الْمُسْتَعِدُّ لِلتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي صِحَّةِ الدِّينِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ يُفَكِّرُ لِلنَّجَاةِ فِي الْعَاقِبَةِ، فَالَخَشْيَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ الْأَصْلِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَعْنَى الْإِسْلَامِيُّ، وَهُوَ خَوْفُ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْفِعْلِ الْمَآلُ، أَي من يؤول أَمْرُهُ إِلَى الَخَشْيَةِ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ التَّقْوَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] أَيِ الصَّائِرِينَ إِلَى التَّقْوَى.
وتَنْزِيلًا حَالٌ مِنَ الْقُرْآنَ ثَانِيَةٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْعِنَايَةُ بِهِ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكِنَايَةِ بِأَنَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا يَتْرُكُ نَصْرَكَ وَتَأْيِيدَكَ.
وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ عَنْ ضَمِيرِهِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَحَتُّمِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ خَالِقُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَلِذَلِكَ وَصَفَ والسّماوات بِالْعُلَى صِفَةً كَاشِفَةً زِيَادَةً فِي تَقْرِيرِ مَعْنَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ شَأْنَ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ لَا جَرَمَ كَانَ الْقُرْآنُ شَيْئًا عَظِيمًا، كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا
…
بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
والرَّحْمنُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لَازِمِ الْحَذْفِ تبعا للاستعمال فِي حذف الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ كَمَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً. وَاخْتِيرَ وَصْفُ الرَّحْمنُ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ بِهِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْكَرُوا تَسْمِيَته تَعَالَى الرحمان: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] . وَفِي ذِكْرِهِ هُنَا وَكَثْرَةِ التَّذْكِيرِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ بَعْثٌ عَلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ شُكْرًا عَلَى إِحْسَانِهِ بِالرَّحْمَةِ الْبَالِغَةِ.
وَجُمْلَةُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى حَالٌ مِنَ الرَّحْمنُ. أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ.
وَالِاسْتِوَاءُ: الِاسْتِقْرَارُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [الْمُؤْمِنُونَ: 28] الْآيَةَ. وَقَالَ: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44] .
وَالْعَرْشُ: عَالَمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا، فَقِيلَ هُوَ أَعْلَى سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَأَعْظَمُهَا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَيُسَمَّى: الْكُرْسِيُّ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي تَصْوِيرِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ سُلْطَانِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى.
وَأَمَّا ذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِشَأْنِ عَظَمَةِ اللَّهِ بِعَظَمَةِ أَعْظَمِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عَلَى الْعُرُوشِ. وَقَدْ عَرَفَ الْعَرَبُ مِنْ أُولَئِكَ مُلُوكَ الْفُرْسِ وَمُلُوكَ الرُّومِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ عِنْدَهُمْ فِي الْعَظَمَةِ.
وَحَسَّنَ التَّعْبِيرَ بِالِاسْتِوَاءِ مُقَارَنَتُهُ بِالْعَرْشِ الَّذِي هُوَ مِمَّا يُسْتَوَى عَلَيْهِ فِي الْمُتَعَارَفِ، فَكَانَ ذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ كَالتَّرْشِيحِ لِإِطْلَاقِ الْعَرْشِ عَلَى السَّمَاءِ الْعُظْمَى، فَالْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ
الْبَيِّنِ تَأْوِيلُهُ بِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَقِيدَةِ: أَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
وَقِيلَ: الِاسْتِوَاءُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ. وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْأَخْطَلِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ
…
بِغَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَهُوَ مُوَلَّدٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ كَالْآيَةِ. وَلَعَلَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [54] . وَإِنَّمَا أَعَدْنَا بَعْضَهُ هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُشْتَهِرَةُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الْأَشْعَرِيَّةِ.