الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة مَرْيَم (19) : الْآيَات 25 إِلَى 26]
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
فَائِدَةُ قَوْلِهِ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أَنْ يَكُونَ إِثْمَارُ الْجِذْعِ الْيَابِسِ رُطَبًا بِبَرَكَةِ تَحْرِيكِهَا إِيَّاهُ، وَتِلْكَ كَرَامَةٌ أُخْرَى لَهَا. وَلِتُشَاهِدَ بِعَيْنِهَا كَيْفَ يُثْمِرُ الْجِذْعُ الْيَابِسُ رُطَبًا. وَفِي ذَلِكَ كَرَامَةٌ لَهَا بِقُوَّةِ يَقِينِهَا بِمَرْتَبَتِهَا.
وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَقَوَلِهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَة: 195] .
وَضُمِّنَ وَهُزِّي مَعْنَى قَرِّبِي أَوْ أَدْنِي، فَعُدِّيَ بِ (إِلَى) ، أَيْ حَرِّكِي جِذْعَ النَّخْلَةِ وَقَرِّبِيهِ يَدْنُ إِلَيْكِ وَيَلِنْ بَعْدَ الْيُبْسِ وَيُسْقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا.
وَالْمَعْنَى: أَدْنِي إِلَى نَفْسِكِ جِذْعَ النَّخْلَةِ. فَكَانَ فَاعِلُ الْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقُهُ مُتَّحِدًا، وَكِلَاهُمَا ضَمِيرُ مُعَادٍ وَاحِد، وَلَا ضمير فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ الْمَعْنَى وَوُرُودِ أَمْثَالِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ نَحْوَ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ [الْقَصَص: 32] . فَالضَّامُّ وَالْمَضْمُومُ إِلَيْهِ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا مَنَعَ النُّحَاةُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ ضَمِيرَيْ مُعَادٍ وَاحِدٍ إِلَّا فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَفِي فِعْلَيْ: عَدِمَ وَفَقَدَ، لِعَدَمِ سَمَاعِ ذَلِكَ، لَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى، فَلَا يُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ مَنْعُ غَيْرِهِ.
وَالرُّطَبُ: تَمْرٌ لَمْ يَتِمَّ جَفَافُهُ.
وَالْجَنِيُّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مُجْتَنًى، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حَدَثَانِ سُقُوطِهِ، أَيْ عَنْ طَرَاوَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الرُّطَبِ الْمَخْبُوءِ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الرُّطَبَ مَتَى كَانَ أَقْرَبَ عَهْدًا بِنَخْلَتِهِ كَانَ أَطْيَبَ طَعْمًا.
وَ (تُساقِطْ) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- أَصْلُهُ تَتَسَاقَطُ بِتَاءَيْنِ أُدْغِمَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ فِي السِّينِ لِيَتَأَتَّى التَّخْفِيفُ بِالْإِدْغَامِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ. ورُطَباً عَلَى هَاتِهِ الْقِرَاءَاتِ تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ التَّسَاقُطِ إِلَى النَّخْلَةِ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ- بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ السِّينِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ سَاقَطَتِ النَّخْلَةُ تَمْرَهَا، مُبَالَغَةٌ فِي أَسْقَطَتْ ورُطَباً مَفْعُولٌ بِهِ.
وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدًا إِلَى بِجِذْعِ النَّخْلَةِ.
وَجُمْلَةُ فَكُلِي وَمَا بَعْدَهَا فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، أَيْ فَأَنْتِ فِي بُحْبُوحَةِ عَيْشٍ.
وَقُرَّةُ الْعَيْنِ: كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ، لِقَوْلِهِمْ: سَخَنَتْ عَيْنُهُ إِذَا كَثُرَ بُكَاؤُهُ، فَالْكِنَايَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ عَنِ السُّرُورِ كِنَايَةٌ بِأَرْبَعِ مَرَاتِبَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [الْقَصَص: 9] . وَقُرَّةُ الْعَيْنِ تَشْمَلُ هَنَاءَ الْعَيْشِ وَتَشْمَلُ الْأُنْسَ بِالطِّفْلِ الْمَوْلُودِ. وَفِي كَوْنِهِ قُرَّةَ عَيْنٍ كِنَايَةً عَنْ ضَمَانِ سَلَامَتِهِ وَنَبَاهَةِ شَأْنِهِ.
وَفَتْحُ الْقَافِ فِي وَقَرِّي عَيْناً لِأَنَّهُ مُضَارِعُ قَرِرَتْ عَيْنُهُ مِنْ بَابِ رَضِيَ، أُدْغِمَ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ إِلَى فَائِهَا فِي الْمُضَارِعِ لِأَنَّ الْفَاءَ سَاكِنَةٌ.
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. (26)
هَذَا مِنْ بَقِيَّة مَا ناداها بِهِ عِيسَى، وَهُوَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى مَرْيَمَ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ الطِّفْلِ، تَلْقِينًا مِنَ اللَّهِ لِمَرْيَمَ وَإِرْشَادًا لِقَطْعِ الْمُرَاجَعَة
مَعَ مَنْ يُرِيدُ مُجَادَلَتَهَا، فَعَلَّمَهَا أَنْ تَنْذُرَ صَوْمًا يُقَارِنُهُ انْقِطَاعٌ عَنِ الْكَلَامِ، فَتَكُونَ فِي عِبَادَةٍ وَتَسْتَرِيحَ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِينَ وَمُجَادَلَةِ الْجَهَلَةِ.
وَكَانَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْكَلَامِ مِنْ ضُرُوبِ الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، وَقَدِ اقْتَبَسَهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحْمَسَ الَّتِي حَجَّتْ مُصْمَتَةً. وَنُسِخَ فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام بِالسنةِ،
فَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ:
مَا بَالُ هَذَا؟ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَسْتَظِلَّ مِنَ الشَّمْسِ وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيَجْلِسْ وَلِيُتِمَّ صِيَامَهُ»
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ يُدْعَى أَبَا إِسْرَائِيلَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا:«إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ هَدَمَ هَذَا فَتَكَلِّمِي» . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَحْمَسَ حَجَّتْ مُصْمِتَةً، أَيْ لَا تَتَكَلَّمُ. فَالصَّمْتُ كَانَ عِبَادَةً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَلَيْسَ هُوَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ نَسَخَهُ الْإِسْلَامُ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: «مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ»
، وَعَمَلِ أَصْحَابِهِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي هَذِهِ عَلَى أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوجِبِ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قُرْبَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِكَفَّارَةٍ شَأْنَ النَّذْرِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ بِهِ أَوِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ لَهُ عَمَلٌ مُعَيَّنٌ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَقِبَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ
وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ كَفَّارَةٌ لَأَمَرَهُ بِهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ لَا اعْتِدَادَ بِهِ بِوَجْهٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى عِلَّةِ عَدَمِ انْعِقَادِ النَّذْرِ بِهِ
بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» .
فَعَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى يُكْسِبُ النَّفْسَ تَزْكِيَةً وَيَبْلُغُ بِهَا إِلَى غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ مِثْلَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، فَيُحْتَمَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ الْغَايَةِ السَّامِيَةِ، وَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ بِانْتِقَامٍ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ وَلَا تَعْذِيبٍ لَهُ كَمَا كَانَ أَهْلُ الضَّلَالِ يَتَقَرَّبُونَ بِتَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ، وَكَمَا شُرِعَ فِي بَعْضِ الْأَدْيَانِ التَّعْذِيبُ الْقَلِيلُ لِخَضْدِ جَلَافَتِهِمْ.
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الْحَج: 36- 37] ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ فِي الْهَدَايَا أَنْ يُرِيقُوا دِمَاءَهَا وَيَتْرُكُوا لُحُومَهَا مُلْقَاةً لِلْعَوَافِي.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ» : عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ»
، فَلَمْ يَرَ لَهُ فِي الْمَشْيِ فِي الطَّوَافِ قُرْبَةً.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِيءُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: قده بِيَدِهِ»
. و
فِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي: «أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ رَجُلَيْنِ وَهُمَا مُقْتَرِنَانِ. فَقَالَ: مَا بَالُهُمَا؟ قَالَا: إِنَّا نَذَرْنَا لَنَقْتَرِنَنَّ حَتَّى نَأْتِيَ الْكَعْبَةَ، فَقَالَ:
أَطْلِقَا أَنْفُسَكُمَا لَيْسَ هَذَا نَذْرًا إِنَّمَا النَّذْرُ مَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ»
. وَقَالَ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّاوِيَ لِبَعْضِ هَذِهِ الْآثَارِ رَوَاهَا بِلَفْظِ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَقِبَ حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَجْلِسَ:«قَالَ مَالِكٌ: قَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ» .
وَوَجْهُ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً أَنَّهُ جَرَاءَةٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ يَعْبُدَهُ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ عَلَى النَّفْسِ كَنَذْرِ صَمْتِ سَاعَةٍ، وَأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلنَّفْسِ الَّتِي كَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّعْذِيبِ بِوُجُوهِ التَّعْذِيبِ إِلَّا لِعَمَلٍ اعْتَبَرَهُ الْإِسْلَامُ مَصْلَحَةً لِلْمَرْءِ فِي خَاصَّتِهِ أَوْ لِلْأُمَّةِ أَوْ لِدَرْءِ مَفْسَدَةٍ مِثْلَ الْقِصَاصِ وَالْجَلْدِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاء: 29] .
وَقَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَنْفُسَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
لِأَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ لَا تُنَاطُ شَرَائِعُهَا إِلَّا بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ.
وَالْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذَا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ كَمَا قَالَهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» . وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : «وَمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ نَحْوِهُ أَوْ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ» ، فَقَوْلُهُ:«وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ» بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِنَذْرِهِ مُخَالِفًا لِنَهْيِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ.
وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ صَمْتًا بِدُونِ نَذْرٍ وَلَا قَصْدِ عِبَادَةٍ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا إِلَّا إِذَا بَلَغَ إِلَى حَدِّ الْمَشَقَّةِ الْمُضْنِيَةِ.
وَقَدْ بَقِيَ عِنْدَ النَّصَارَى اعْتِبَارُ الصَّمْتِ عِبَادَةً وَهُمْ يَجْعَلُونَهُ تَرَحُّمًا عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يَقِفُوا صَامِتِينَ هُنَيْهَةً.
وَمَعْنَى فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَانْذُرِي صَوْمًا وَإِنْ لَقِيتِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ صَوْمًا فَحُذِفَتْ جُمْلَةٌ لِلْقَرِينَةِ. وَقَدْ جُعِلَ الْقَوْلُ الْمُتَضَمِّنُ إِخْبَارًا بِالنَّذْرِ عِبَارَةً عَنْ إِيقَاعِ النَّذْرِ وَعَنِ الْإِخْبَارِ بِهِ كِنَايَةً عَنْ إِيقَاعِ النَّذْرِ لِتَلَازُمِهِمَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخَبَرِ الصِّدْقُ وَالْمُطَابَقَةُ لِلْوَاقِعِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 136] . وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ وَلَا تَفْعَلُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْذَنُ فِي الْكَذِبِ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ مَعَ عَدَمِ تَأَتِّي الصِّدْقِ مَعَهَا، وَلِذَلِكَ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ»
. وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَالْمُرَادُ أَنْ تُؤَدِّيَ ذَلِكَ بِإِشَارَةٍ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا بِأَنْ تُشِيرَ إِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْأَكْلِ، وَإِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فِي شَرْعِهِمْ مَشْرُوطًا بِتَرْكِ الْكَلَامِ كَمَا قِيلَ فَالْإِشَارَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَة، وَإِن كَانَ الصَّوْمِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قَدْ يَأْتِي بِهَا الصَّائِمُ مَعَ تَرْكِ الْكَلَامِ تُشِيرُ إِشَارَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا نَذَرَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي كَلَّمَهَا هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهَا حِينَ تُسْأَلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ [مَرْيَم: 29] .