الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَكَانَ النُّطْقُ بِحَرْفِ التَّرَجِّي عَلَى لِسَانِهِمَا، كَمَا تَقُولُ لِلشَّخْصِ إِذَا أَشَرْتَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ: فَلَعَلَّهُ يُصَادِفُكَ تَيْسِيرٌ، وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ أَنَّكَ تَرْجُو ذَلِكَ وَلَكِنْ بِطَلَبِ رَجَاءٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالتَّذَكُّرُ: مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- أَيِ النَّظَرِ، أَيْ لَعَلَّهُ يَنْظُرُ نَظَرَ الْمُتَبَصِّرِ فَيَعْرِفُ الْحَقَّ أَوْ يَخْشَى حُلُولَ الْعِقَابِ بِهِ فَيُطِيعُ عَنْ خَشْيَةٍ لَا عَنْ تَبَصُّرٍ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ مِنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ على الْحق، فالتذكر: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْخَشْيَةُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ فَيَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِالْأَخْذِ بِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى.
وَهُنَا انْتَهَى تَكْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى- عليه السلام.
[45- 48]
[سُورَة طه (20) : الْآيَات 45 إِلَى 48]
قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
فُصِلْتِ الْجُمْلَتَانِ لِوُقُوعِهِمَا مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ مُوسَى مَعَ أَخِيهِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، أَيْ جَمَعَا أَمَرَهُمَا وَعَزَمَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَنَاجِيَا رَبَّهُمَا
قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى، لِأَنَّ غَالِبَ التَّفْكِيرِ فِي الْعَوَاقِبِ وَالْمَوَانِعِ يَكُونُ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْأَخْذِ فِي التَّهَيُّؤِ لَهُ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ أَمْرُهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتِياهُ.
ويَفْرُطَ مَعْنَاهُ يُعَجِّلُ وَيَسْبِقُ، يُقَال: فَرَطَ يَفْرُطُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. وَالْفَارِطُ: الَّذِي يسْبق الْوَارِدَة إِلَى الْحَوْضِ لِلشُّرْبِ. وَالْمَعْنَى: نَخَافُ أَنْ يُعَجِّلَ بِعِقَابِنَا بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ قَبْلَ أَنْ نُبَلِّغَهُ وَنُحِجَّهُ.
وَالطُّغْيَانُ: التَّظَاهُرُ بِالتَّكَبُّرِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه:
24] ، أَيْ نَخَافُ أَنْ يُخَامِرَهُ كِبْرُهُ فَيَعُدَّ ذِكْرَنَا إِلَهًا دُونَهُ تَنْقِيصًا لَهُ وَطَعْنًا فِي دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةِ فَيَطْغَى، أَيْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا هُوَ أَثَرُ الْكِبَرِ مِنَ التَّحْقِيرِ وَالْإِهَانَةِ. فَذَكَرَ الطُّغْيَانَ بَعْدَ الْفَرْطِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمَا لَا يُطِيقَانِ ذَلِكَ، فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَضْعَفِ لِأَن نَخَاف يؤول إِلَى مَعْنَى النَّفِيِ. وَفِي النَّفْي يُذْكَرُ الْأَضْعَفُ بَعْدَ الْأَقْوَى بِعَكْسِ الْإِثْبَاتِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَطْغى فَيُحْتَمَلُ أَنَّ حَذْفَهُ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِ، وَأُوثِرَ بِالْحَذْفِ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ لَيْسَ نَظِيرُ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ آخَرُ لِكَوْنِ التَّقْسِيمِ التَّقْدِيرِيِّ دَلِيلًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَكَرَ مُتَعَلِّقُ يَفْرُطَ عَلَيْنا وَكَانَ الْفَرْطُ شَامِلًا لِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ حَتَّى الْإِهَانَةَ بِالشَّتْمِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّقْسِيمُ بِ «أَوْ» مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ طُغْيَانُهُ عَلَى مَنْ لَا يَنَالُهُ عِقَابُهُ، أَيْ أَنْ يَطْغَى عَلَى اللَّهِ بِالتَّنْقِيصِ كَقَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: 38] وَقَوْلِهِ: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى [الْقَصَص: 38] ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَطْغى حِينَئِذٍ لتنزيهه عَن التَّصْرِيحِ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْكَ فَيَتَصَلَّبَ فِي كُفْرِهِ وَيَعْسُرُ صَرْفُهُ
عَنْهُ. وَفِي التَّحَرُّزِ مِنْ ذَلِكَ
غَيْرَةٌ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ أَيْضًا تَحَرُّزٌ مِنْ رُسُوخِ عَقِيدَةِ الْكُفْرِ فِي نَفْسِ الطَّاغِي فَيَصِيرُ الرَّجَاءُ فِي إِيمَانِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَضْعَفَ مِنْهُ فِيمَا قَبْلُ، وَتِلْكَ مَفْسَدَةٌ فِي نَظَرِ الدِّينِ.
وَحَصَلَتْ مَعَ ذَلِكَ رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ.
قَالَ اللَّهُ لَا تَخافا، أَيْ لَا تَخَافَا حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ نَهْيٌ مُكَنًّى بِهِ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّنِي مَعَكُما تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفِي، وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ حِفْظٍ.
وأَسْمَعُ وَأَرى حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ أَنَا حَافِظُكُمَا مِنْ كُلِّ مَا تَخَافَانِهِ، وَأَنَا أَعْلَمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ فَلَا أَدَعُ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا تَخَافَانِهِ.
وَنُزِّلَ فِعْلَا أَسْمَعُ وَأَرى مَنْزِلَةَ اللَّازِمَيْنِ إِذْ لَا غَرَضَ لِبَيَانِ مَفْعُولِهِمَا بَلِ الْمَقْصُودُ:
أَنِّي لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ.
وَالْإِتْيَانُ: الْوُصُولُ وَالْحُلُولُ، أَيْ فَحُلَّا عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ أَثَرُ الذَّهَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ، وَكَانَا قَدِ اقْتَرَبَا مِنْ مَكَانِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمَا فِي مَدِينَتِهِ، فَلِذَا أُمِرَا بِإِتْيَانِهِ وَدَعْوَتِهِ.
وَجَاءَتْ تَثْنِيَةُ رَسُولٍ عَلَى الْأَصْلِ فِي مُطَابَقَةِ الْوَصْفِ الَّذِي يُجْرَى عَلَيْهِ فِي الْإِفْرَادِ وَغَيْرِهِ.
وَفَعُولٌ الَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ تَجُوزُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ، كَقَوْلِهِمْ نَاقَةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ كَقَوْلِهِمْ: وَحْشِيَّةٌ خَلُوجٌ، أَيِ اخْتُلِجَ وَلَدُهَا. وَجَاءَ الْوَجْهَانِ فِي نَحْوِ (رَسُولُ) وَهُمَا وَجْهَانِ مُسْتَوِيَانِ.
وَمِنْ مَجِيئِهِ غَيْرَ مُطَابِقٍ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَة الشُّعَرَاء [16] :أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ هُنَالِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَدْخَلَ فَاءَ التَّفْرِيعِ عَلَى طَلَبِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَبَ إِطْلَاقِهِمْ كَالْمُسْتَقَرِّ الْمَعْلُومِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ إِمَّا لِأَنَّهُ سَبَقَتْ إِشَاعَةُ عَزْمِهِمَا عَلَى الْحُضُورِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لِذَلِكَ الْمَطْلَبِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ كَالْمُقَرَّرِ. وَتَفْرِيعُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ من الله ظَاهر، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ مِنَ اللَّهِ تَجِبُ طَاعَتُهُ.
وَخَصَّا الرَّبَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ فِرْعَوْنَ قَصْدًا لِأَقْصَى الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ كَوْنَ اللَّهِ رَبَّهُمَا
مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِمَا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وَكَوْنَهُ رَبَّ النَّاسِ مَعْلُومٌ بِالْأَحْرَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ عَلَّمَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ.
وَالتَّعْذِيبُ الَّذِي سَأَلَاهُ الْكَفَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُسَخِّرُ لَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ فِي الْخِدْمَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعُدُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْعَبِيدِ وَالْخَوَلِ جَزَاءَ إِحْلَالِهِمْ بِأَرْضِهِ.
وَجُمْلَةُ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فِيهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَكَانَتِ الْأُولَى إِجْمَالًا وَالثَّانِيَةُ بَيَانًا. وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ مِنَ اللَّهِ بِمَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ دَلَائِلَ الصِّدْقِ. وَكِلَا الْغَرَضَيْنِ يُوجِبُ فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُمَا مُصَاحِبَانِ لِآيَةٍ إِظْهَارًا لِكَوْنِهِمَا مُسْتَعِدَّيْنِ لِإِظْهَارِ الْآيَةِ إِذَا أَرَادَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنْ آمَنَ بِدُونِ احْتِيَاجٍ إِلَى إِظْهَارِ الْآيَةِ يَكُنْ إِيمَانُهُ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ حُكِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [16] قَوْلُ فِرْعَوْنَ: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا حيّة، وَقد تبعتها آيَاتٌ أُخْرَى.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى طَلَبِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى أُرْسِلَ لِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَكْوِينِ أُمَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِأَنْ يَبُثَّ فِيهِمُ الشَّرِيعَةَ الْمُصْلِحَةَ لَهُمْ وَالْمُقِيمَةَ لِاسْتِقْلَالِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، وَلَمْ يُرْسَلْ لِخِطَابِ الْقِبْطِ بِالشَّرِيعَةِ وَمَعَ ذَلِكَ دَعَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِ.
وَأَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى إِجَابَتِهِ طَلَبَ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَهَذَا يُؤْخَذُ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ النَّازِعَاتِ وَالْآيَاتِ الْأُخْرَى.
وَالسَّلَامُ: السَّلَامَةُ وَالْإِكْرَامُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّحِيَّةُ، إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مُعَيَّنٌ يُقْصَدُ بِالتَّحِيَّةَ. وَلَا يُرَادُ تَحِيَّةُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ الْمُوَاجَهَةِ لَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ- صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَغَيْرِهِ: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ»
. وَ (عَلَى) لِلتَّمَكُّنِ، أَيْ سَلَامَةُ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ثَابِتَةٌ لَهُمْ دُونَ رَيْبٍ. وَهَذَا احْتِرَاسٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلْإِنْذَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، فَقَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] تَعْرِيضٌ بِأَنْ يَطْلُبَ فِرْعَوْنُ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى- عليه السلام.
وَقَوْلُهُ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا تَعْرِيضٌ لِإِنْذَارِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ حُصُوله مِنْهُ ليبلغ
الرِّسَالَةِ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ قَبْلَ ظُهُورِ رَأْيِ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ حَتَّى لَا يُجَابِهَهُ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِ بِتَصْرِيحِ تَوْجِيهِ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِ. وَهَذَا من أُسْلُوبُ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ الَّذِي أَمَرَهُمَا اللَّهُ بِهِ.
وَتَعْرِيفُ الْعَذَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَالْمُعَرَّفُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ عَذَابًا عَلَى مَنْ كَذَّبَ.