الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دحض الدعوى بأن الإعجاز العلمي من إخبار الشياطين
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 26/07/1426هـ
السؤال
ما الرد على شبهة من يقول: إن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإعجاز العلمي هم شياطين الجن، كمسألة برزخ البحرين مثلا، وبالتالي فلا يصح الاستدلال بهذا على صحة هذا الدين؛ لأن الشياطين لهم قدرة على الغوص في أعماق البحار، كما أخبرنا الله تعالى عن شياطين سليمان. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
جوابا على فرية معرفة الشياطين التي سخرها الله تعالى للنبي سليمان عليه السلام بحقائق البحار ناهيك عن أسرار الكون وخفايا خلق الإنسان التي فاض بها القرآن الكريم فلم تهمس بها إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أقول مستعينا بالله العلي القدير:
كان الكندي جاري ميلر قسيساً يدعو للنصرانية وبحث في القرآن منذ عام (1978م) لعله يجد فيه مطعنا فإذا به يعلن إسلامه، لقد توقع أن يجد حديثا مضطربا يحمل سمات محلية ويؤرخ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأسرته، فإذا به يجد آفاق التعبير ممتدة لتشمل العالم أجمعه وتكثر فيه المعاتبات للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه بخلاف ما يتوقع من كاتب يمجد نفسه، كما في قوله تعالى:"وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ"[الحاقة: 44-47] .
وعلى حين ذكر النبي عيسى عليه السلام بالاسم مرات عديدة لم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم سوى أربع مرات فقط، ولم يرد ذكر لأحد من أفراد أسرته بينما ورد بالاسم ذكر خادمه المتبنى، وسميت سورة كاملة باسم مريم العذراء عليها السلام، وقابلية التجربة لكثير مما لا يدركه بشر حين تلقيه والوارد في تحدي الواثق جعلت الاكتشافات الحديثة أدلة على الوحي.
وهكذا يمكن بلوغ الحقيقة بالالتزام بمعيار مطابقة الواقع لكل قابل للتمحيص، وهي القاعدة التي تحدى بها القرآن تعريضا بالمنسوب سواه للوحي في قوله تعالى:"أَفَلَا يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً"[النساء 82] .
ولذا يقول الدكتور ميلر المبشر السابق: (قبل بضع سنوات وصلتنا قصَّةٌ إلى تورونتو بكندا عن رجلٍ كان بحَّاراً في الأسطول التجاريّ أعطاه أحد المسلمين ترجمةً لمعاني القرآن الكريم ليقرأها، ولم يكن هذا البحَّار يعرف شيئاً عن تاريخ الإسلام لكنَّه كان مهتمّاً بقراءة القرآن الكريم، وعندما أنهى قراءته عاد إلى المسلم وسأله: هل كان مُحمَّد هذا بحَّاراً؟ ، فقد كان الرجل مندهشاً من تلك الدِّقَّة الَّتي يصف بها القرآن البحر، وعندما جاءه الرد بالنفي أعلن إسلامه، لقد كان مُتأثِّراً بالوصف القرآنيِّ للأسرار البحريَّة، فالوصف الَّذي جاء في القرآن عن البحر لم يكن شيئاً يستطيع أن يكتبه أيُّ كاتبٍ من محض خياله، وظلمات البحر العميق والموج الَّذي من فوقه موجٌ من فوقه سحاب لم يكن شيئاً يمكن لأحدهم تخيُّله، بل إنَّه وصفٌ دقيق مصدره من يعرف حقاًّ كيف هو الواقع، ولا يمكن نسبة تلك المعرفة لمحمد –صلى الله عليه وسلم نفسه ولا لبشر سواه، هذا مثل واحد على أنَّ هذا القرآن لا يمكن أن يكون مصدره قبل أربعة عشر قرناً مضت غير الله الخالق سبحانه وتعالى نفسه) .
ويضيف الدكتور ميلر قائلاً: "الآن نأتي إلى الزعم الرخيص لتفسير دلائل نبوة محمد –صلى الله عليه وسلم بأن الشياطين هي التي تعينه، والله تعالى يقول: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ" [النحل: 98] ، أرأيتم! ، كيف يمكن أن يؤلف الشيطان كتابا ثم يقول قبل أن تقرأ هذا الكتاب عليك أن تتعوذ مني!! ، إن في هذه الآية رد منطقي لكل من قال بهذه الشبهة، وهناك قصَّةٌ مشهورة في الإنجيل تذكر كيف أنَّ بعض اليهود كانوا شهوداً حين أقام عيسى عليه السلام ميتاً فقام الرَّجل ومشى في طريقه، وحين رأوا المشهد قال بعض الشُّهود من اليهود مُنْكِرِيْن (هذا هو الشيطان، الشيطان هو الَّذي ساعده) ، وهذه القصَّة تلقى الآن كثيراً للموعظة في الكنائس في جميع أنحاء العالم، والنَّاس يذرفون دموعاً غزيرةً لسماعها قائلين (آه لو كنت هناك فما كنت لأكون غبيّاً مثل اليهود) ، ومع هذا فإنَّ هؤلاء النَّاس يفعلون ما فعله اليهود تماماً حين يُعرض عليهم شيءٌ من دلائل نبوة محمد –صلى الله عليه وسلم وكل ما يستطيعون قوله هو (الشيطان فعل ذلك، الشيطان هو الَّذي ألَّف هذا الكتاب) لأنَّهم حينئذ قد حُشِروا في الزَّاوية وحين لا يملكون أيَّ إجابةٍ مقبولة فإنَّهم يلجأون إلى أرخص مهرب يظنونه متاحا لهم، ولكن الموسوعة الكاثوليكيَّة الجديدة تُصرِّح بنزاهة قائلة: (عبر القرون الماضية قُدِّمت نظريات كثيرةٌ عن أصل القرآن واليوم لا يوجد إنسانٌ عاقل يقبل بأيٍّ منها) ، ومؤكَّدٌ أنَّهم قد استنفذوا كل النظريات لإنكاره ولم يستطيعوا إيجاد دليل واحد على أنَّه ليس وحيا من الله تعالى، وبديهي أن يسبب هذا التصريح للمسيحي المقلد وعكة، لكنه قد لا يملك أن يكون حراً في القرار مناقضاً للخضوع الَّذي تطلبه الكنيسة بلا سؤال، وقد قام حديثا هانز أحد قادة الكنيسة بدراسة القرآن وأعلن رأيه بجسارة الباحثين الشرفاء قائلا: (إن الله قد كلم الإنسان من خلال محمد) ، هذا بالتأكيد شيءٌ للتأمُّل لأولئك الَّذين يعقلون".
وتاريخ الثورة العلمية الحديثة يكاد ألا يتجاوز القرون الثلاثة الأخيرة، ولم يسجل التاريخ للشيطان اكتشافا واحدا في مجال العلوم الطبيعية، حيث سادت الخرافات قبل تلك الفترة، والحقائق العلمية المكتشفة حديثا نتاج جهود بشرية يعرف تاريخ الاكتشاف أصحابها ولا يوجد في سجلاته ذكرٌ لكلمة الشيطان فليست من مفردات العلوم الطبيعية، وربما تبرأ الشيطان نفسه من كثير مما ينسب إليه من مزاعم بلا دليل مثلما جعلوه سببا للأوبئة قبل اكتشاف الجراثيم، وإذا بحثت في المدونات التي تسبق القرآن كذلك فلن تجد من مهامه إحراز السبق في مجال اكتشاف الحقائق العلمية، وإنما بث أفكار سوء تتسلط على الإنسان لتضليله ودفعه لارتكاب الشرور، واقترن اسمه في كثير من الثقافات بالغواية والرذيلة والكذب والتلفيق والخداع والتزييف والباطل، وكان وراء كل إثم يرتكبه الإنسان والرائد في طمس الحقائق، فهل تاب وانعكست وظيفته رأسا على عقب فارتضى أن تنسب إليه حقائق في القرآن لم يدركها أحد إلا بعد حوالي عشرة قرون لكي يدعم النبوة الخاتمة؛ أم أن هذا شاهد عيان على أن الشيطان لم يقدم استقالته بعد في التضليل والافتراء لطمس الدليل!.
وهل يليق بمحقق نزيه أن يقبل بأن تلك الشياطين المسخرة للنبي سليمان عليه السلام خاصة قد نجحت أن تخدعه نفسه وتخفي عنه تلك الحقائق العلمية المبهرة التي فاض بها القرآن متفردا، فلم يرد لها ذكر قط في أي مدونة تسبقه! ، وكيف تعلم بحقائق الكون وتجهل مجرد موته فتظل تمارس مهام السخرة قائمة بأرقى صناعات عصره، يقول العلي القدير:"وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ اعْمَلُوَاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ. فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ"[سبأ: 12-14]، ويقول تعالى:"وَالشّيَاطِينَ كُلّ بَنّآءٍ وَغَوّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ"[ص: 37- 38] ، فكيف ينبغي بعمال تحت سوطه وفي ظل مهابته إن كانوا حقا مهرة في غير تلك الصناعات أن يفوقوه علما ويخفوا عنه سرا!.
وليس العلم بخفايا التكوين من مهام الشيطان وإنما الإغواء والتضليل بمكر ودهاء عن منهج المرسلين في عبادة الله تعالى وحده وفق قوله تعالى: "لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمّ لَاتِيَنّهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ"[الأعراف: 16- 17]، وقوله تعالى:"يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً"[النساء: 120]، وقوله تعالى:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً "[الأنعام: 112]، وفي مشهد تبرأ الشيطان نفسه ممن أضلهم تتجلى حقيقة مهمته في قوله تعالى:"وَقَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إِنّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ مّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"[إبراهيم: 22]، وحتى في مهمته تلك رغم المهارة لا يقع الكل فرائس وفق قوله تعالى:"إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىَ الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ"[النحل: 99-100]، وقوله تعالى:"إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً"[النساء: 76]، وليست فرية نسبة القرآن للشياطين سوى ترديد عاجز لحيرة عتاة المكابرين الأولين التي نفاها قوله تعالى:"وَمَا تَنَزّلَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ. وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُولُونَ"[الشعراء: 210-212]، والبينة هي المضمون في الدعوة للفضيلة لا الرذيلة كما قال تعالى:"هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَىَ مَن تَنَزّلُ الشّيَاطِينُ تَنَزّلُ عَلَىَ كُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ"[الشعراء: 221-222] .
ومجمل القول أن فرية نسبة القرآن للشيطان دليل على العجز واستنفاذ كل الأعذار عناداً ومكابرة وتهربا من الحقيقة بادعاء يعوزه الدليل، ولابد أن تعرض للفطين تساؤلات:
(1)
إذا كان الشيطان هو المصدر فكيف ذم نفسه في القرآن؟.
(2)
وإذا كان ذلك المصدر أكيدا فلماذا حاروا إذن فلفقوا معه جملة افتراضات ليس منها الوحي من الله القادر على كل شيء وكأنه تعالى ليس له عندهم وجود؟.
(3)
وإذا كان الشيطان رأسا لكل زائف ورذيلة يرتكبها الإنسان فكيف أيد كتابا لا تجد فيه إلا الحقيقة والدعوة إلى الفضيلة؟.
(4)
وإذا كان عالماً بحقائق التكوين قبل عصر الاكتشافات العلمية بقرون فلماذا خص بها دون الجميع خاتم النبيين؟.
ولو أن الشيطان قد أمد القرآن حقا بدلائل على الوحي فقد نال ما يستحق وانقلب السحر على الساحر فأصبح مؤيدا للنبوة الخاتمة بحجج علمية باهرة وله أن يولول ما شاء، يقول العلي القدير:"وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ. فَأيْنَ تَذْهَبُونَ. إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبّ الْعَالَمِينَ"[التكوير: 25-29] .