الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه
؟
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 13/01/1426هـ
السؤال
السلام عليكم.
أرجو منكم توضيح مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الإسراء والمعراج، والخلاف بين قول ابن عباس وعائشة، رضي الله عنهم، وهل رآه كفاحًا رأي العين؟ وما صحة حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، تأخر عن الصحابة، رضي الله عنهم، في صلاة الفجر، فقال:"لقد رأيت ربي البارحة"؟ وما معنى: (ثم دنى فتدلى) ؟ أرجو إفادتي لأني في حيرة من هذا الأمر. وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
القول الصحيح في المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه تعالى ببصره في ليلة المعراج، وإنما رآه بفؤاده، وأنه لم يثبت عن واحد من الصحابة، رضي الله عنهم، القول بالرؤية البصرية، وأما الذين قالوا إنه رآه ببصره من أهل العلم فليس لهم مستند على ذلك إلا ما فهموه من الروايات المطلقة عن بعض الصحابة كابن عباس، رضي الله عنهما، وغيره.
أخرج البخاري (4855) ، ومسلم (177) واللفظ له، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ، ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عز وجل:(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) . و: (لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) . فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ". فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ؟ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
…
) الحديث.
وفي رواية عند مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) . قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ.
وأخرج مسلم (178) من حديث أَبِي ذَرٍّ، رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ ".
وهذا حديث صريح في نفي الرؤية، بل هو أبلغ من النفي الصريح لمجيئه على صورة الاستفهام الإنكاري، لأن معناه: كيف أراه؟ وقد منعني من رؤيته النور؟ وهذا النور هو الحجاب الوارد في حديث أبي موسى، رضي الله عنه:"حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ". أخرجه مسلم (179) .
وقد جاء عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وروايات مطلقة بإثبات الرؤية، وروايات مقيدة بأنه رآه بفؤاده. فتحمل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة. ففي صحيح مسلم (176) أنه قال في قوله تعالى:(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) . قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ.
وأخرج ابن أبي عاصم في السنة (192) ، والحاكم في المستدرك (2/509) ، وابن منده في الإيمان (2/761) عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم عليه السلام، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والألفاظ الثابتة عن ابن عباس، رضي الله عنهما، هي مطلقة أو مقيدة بالفؤاد.... ولم يثبت عن ابن عباس، رضي الله عنهما، لفظ صريح بأنه رآه بعينه)[ينظر: مجموع الفتاوى (6/509) ] .
وقال الحافظ ابن حجر: (الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة، رضي الله عنهم، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب)[ينظر: فتح الباري (8/608) ] .
وأما قوله تعالى في سورة النجم: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) . فالمقصود هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود- رضي الله عنهما. انظر صحيح البخاري (4856،4855) ، صحيح مسلم (177،174) .
وهذا الذي يدل عليه سياق الآيات، قال تعالى:(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) . فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو جبريل عليه السلام. [ينظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/276) ] .
أما حديث: "رَأَيْتُ رَبِّيَ البَارِحَةَ". فأخرجه الإمام أحمد في المسند (22109) قال: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ: حَدَّثَنَا جَهْضَمٌ، يَعْنِي الْيَمَامِيَّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، يَعْنِي ابْنَ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا زَيْدٌ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي سَلَّامٍ نَسَبُهُ إِلَى جَدِّهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَائِشٍ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، رضي الله عنه، قَالَ: احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ:"كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ". ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ: "إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ، إِنِّي قُمْتُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عز وجل فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي يَا رَبِّ. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي رَبِّ. فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَعَرَفْتُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْتُ: نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ، وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ. قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قَالَ: سَلْ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ، فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا".
وأخرجه الترمذي (3235) . وقال: "حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح". وصححه الإمام أحمد كما في التهذيب (6 / 205) .
والرؤية المذكورة في الحديث رؤيا منام لا يقظة، وهذا ظاهر من قوله في الحديث:" فنعست في صلاتي حتى استثقلت.... ". وفي المسند: "حتى استيقظت".
قال الحافظ ابن كثير- بعد أن أورد الحديث: (فهذا حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة فقد غلط) . وقد نقل القاضي عياض اتفاق العلماء على جواز رؤية الله في المنام وصحتها [ينظر: إكمال المعلم (7/220) ] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه
…
) [مجموع الفتاوى (3/390) ] .
وأما ما جاء في هذا الحديث من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لربه، فهو حق يجب الإيمان به من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، كما قال عز وجل عن نفسه:(لَيس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: من الآية11] .
قال الحافظ ابن رجب: (وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل، بما وصفه به، فكل ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم به ربه عز وجل فهو حقٌّ وصدقٌ يجب الإيمان والتصديق به، كأنما وصف الله عز وجل، به نفسه مع نفي التمثيل عنه، ومن أشكل عليه فهم شيء من ذلك واشتبه عليه فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم وأخبر عنهم أنهم يقولون عند المتشابه: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن: "ومَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ". أخرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما. ولا يتكلف ما لا علم له به فإنه يخشى عليه من ذلك الهلكة) .
وقد أفرد الحافظ ابن رجب، رحمه الله، شرح الحديث في كتاب مستقل، وهو:(اختيار الأوْلَى في شرح حديث الملأ الأعلى) . وهو كتاب نفيس توسع فيه ابن رجب في شرح الحديث، فيحسن الرجوع إليه. هذا، والله أعلم.