المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مقدمة الطبعة الأولى] - فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية ت علي مخلوف

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة الطبعة الأولى]

- ‌[شيء من ترجمة العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي رحمه الله]

- ‌[مقدمة العلامة الألوسي]

- ‌[الأولى التعبد بإشراك الصالحين في عبادة الله تعالى]

- ‌[الثانية أنهم متفرقون ويرون السمع والطاعة مهانة ورَذالة]

- ‌[الثالثة أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له عندهم فضيلة]

- ‌[الرابعة أن دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد]

- ‌[الخامسة الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم]

- ‌[السادسة الاحتجاج بما كان عليه أهل القرون السالفة]

- ‌[السابعة الاعتماد على الكثرة والاحتجاج بالسواد الأعظم]

- ‌[الثامنة الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبا]

- ‌[التاسعة الاستدلال على المطلوب والاحتجاج بقوم أُعْطوا من القوة في الفهم والإدراك وفي القدرة والْمُلْك ظَنًّا أن ذلك يمنعهم من الضلال]

- ‌[العاشرة الاستدلال بعطاء الدنيا على محبة الله تعالى]

- ‌[الحادية عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بأخذ الضعفاء به]

- ‌[الثانية عشرة رميُ من اتبع الحق بعدم الإخلاص وطلب الدنيا]

- ‌[الثالثة عشرة الإعراض عن الدخول في الحق الذي دخل فيه الضعفاء تكبرا وأنفة]

- ‌[الرابعة عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا]

- ‌[الخامسة عشرة الاستدلال بالقياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح وجهلهم بالجامع والفارق]

- ‌[السادسة عشرة الغلو في الصالحين من العلماء والأولياء]

- ‌[السابعة عشرة اعتذارهم عن اتباع الوحي بعدم الفهم]

- ‌[الثامنة عشرة أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما تقول به طائفتهم]

- ‌[التاسعة عشرة الاعتياض عن كتاب الله تعالى بكتب السحر]

- ‌[العشرون تناقضهم في الانتساب]

- ‌[الحادية والعشرون تحريف كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون]

- ‌[الثانية والعشرون تحريف العلماء لكتب الدين]

- ‌[الثالثة والعشرون معاداة الدين الذي انتسبوا إليه أشد العداوة وموالاتهم لمذهب الكفار]

- ‌[الرابعة والعشرون عدم قبولهم من الحق إلا ما قالته طائفتهم والكفر بما مع غيرهم من الحق]

- ‌[الخامسة والعشرون ادعاء كل فرقة أنها هي الناجية]

- ‌[السادسة والعشرون أنهم أنكروا ما أقروا أنه من دينهم]

- ‌[السابعة والعشرون التعبد بكشف العورات]

- ‌[الثامنة والعشرون التعبد بتحريم الحلال]

- ‌[التاسعة والعشرون الإلحاد في أسمائه وصفاته]

- ‌[الثلاثون نسبة النقائص إليه سبحانه كالولد والحاجة]

- ‌[الحادية والثلاثون تنزيه المخلوق عما نسبوه للخالق]

- ‌[الثانية والثلاثون القول بالتعطيل]

- ‌[الثالثة والثلاثون الشركة في الملك]

- ‌[الرابعة والثلاثون إنكار النبوات]

- ‌[الخامسة والثلاثون جحود القدر والاحتجاج به على الله تعالى]

- ‌[السادسة والثلاثون مسبة الدهر]

- ‌[السابعة والثلاثون إضافة نِعَم الله إلى غيره]

- ‌[الثامنة والثلاثون الكفر بآيات الله]

- ‌[التاسعة والثلاثون اشتراء كتب الباطل واختيارها على الآيات]

- ‌[الأربعون القدح في حكمته تعالى]

- ‌[الحادية والأربعون الكفر بالملائكة والرسل والتفريق بينهم]

- ‌[الثانية والأربعون الغلو في الأنبياء والرسل عليهم السلام]

- ‌[الثالثة والأربعون الجدال بغير علم]

- ‌[الرابعة والأربعون الكلام في الدين بلا علم]

- ‌[الخامسة والأربعون الكفر باليوم الآخر والتكذيب بلقاء الله وبعث الأرواح]

- ‌[السادسة والأربعون التكذيب بقوله تعالى مالك يوم الدين]

- ‌[السابعة والأربعون التكذيب بقوله تعالى لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة]

- ‌[الثامنة والأربعون التكذيب بقوله تعالى ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون]

- ‌[التاسعة والأربعون قتل أولياء الله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس]

- ‌[الخمسون الإيمان بالجبت والطاغوت وتفضيل المشركين على المسلمين]

- ‌[الحادية والخمسون لبس الحق بالباطل وكتمانه]

- ‌[الثانية والخمسون التعصب للمذهب والإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه]

- ‌[الثالثة والخمسون تسميه اتباع الإسلام شركا]

- ‌[الرابعة والخمسون تحريف الكلم عن مواضعه وَلَيُّ الألسنة بالكتاب]

- ‌[الخامسة والخمسون تلقيب أهل الهدى بالصابئة والحشوية]

- ‌[السادسة والخمسون افتراء الكذب على الله والتكذيب بالحق]

- ‌[السابعة والخمسون رمي المؤمنين بطلب الغلو في الأرض]

- ‌[الثامنة والخمسون رمي المؤمنين بالفساد في الأرض]

- ‌[التاسعة والخمسون رمي المؤمنين بتبديل الدين]

- ‌[الستون كونهم إذا غُلِبوا بالحجة فزعوا إلى السيف والشكوى إلى الملوك]

- ‌[الحادية والستون تناقض مذهبهم لما تركوا الحق]

- ‌[الثانية والستون دعواهم العمل بالحق الذي عندهم]

- ‌[الثالثة والستون الزيادة في العبادة]

- ‌[الرابعة والستون النقص من العبادة]

- ‌[الخامسة والستون تَعَبُّدُهم بترك أكل الطيبات من الرزق وترك زينة الله التي أخرج لعباده]

- ‌[السادسة والستون تعبدهم بالْمُكاء والتصدية]

- ‌[السابعة والستون دعواهم الإيمان عند المؤمنين فإذا خرجوا خرجوا بالكفر الذي دخلوا به]

- ‌[الثامنة والستون دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم]

- ‌[التاسعة والستون دعاؤهم الناس إلى الكفر مع العلم]

- ‌[السبعون المكر الكُبَّار]

- ‌[الحادية والسبعون أئمتهم إما عالم فاجر وإما عابد جاهل]

- ‌[الثانية والسبعون زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس]

- ‌[الثالثة والسبعون دعواهم محبة الله مع ترك شرعه]

- ‌[الرابعة والسبعون تمنيهم على الله تعالى الأمانِيَّ الكاذبة]

- ‌[الخامسة والسبعون اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد]

- ‌[السادسة والسبعون اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد]

- ‌[السابعة والسبعون اتخاذ السُّرُج على القبور]

- ‌[الثامنة والسبعون اتخاذ القبور أعيادا]

- ‌[التاسعة والسبعون الذبح عند القبور]

- ‌[الثمانون التَّبَرُّك بآثار المعظَّمين كدار الندوة]

- ‌[الفخز بالأحساب والاستسقاء بالأنواء والطعن في الأنساب والنياحة]

- ‌[الخامسة والثمانون تعيير الرجل بفعل غيره لا سيما أبوه وأمه]

- ‌[السادسة والثمانون الافتخار بولاية البيت]

- ‌[السابعة والثمانون الافتخار بكونهم من ذرية الأنبياء عليهم السلام]

- ‌[الثامنة والثمانون الافتخار بالصنائع]

- ‌[التاسعة والثمانون عظمة الدنيا في قلوبهم]

- ‌[التسعون ازدراء الفقراء]

- ‌[الحادية والتسعون عدم الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر]

- ‌[الثانية والتسعون الإيمان بالْجِبْت والطاغوت وتفضيل دين المشركين على دين المسلمين]

- ‌[الثالثة والتسعون كتمان الحق مع العلم به]

- ‌[الرابعة والتسعون القول على الله بلا علم]

- ‌[الخامسة والتسعون التناقض الواضح]

- ‌[العِيافة والطَّرْق والطِّيَرَة والكِهانة والتحاكم إلى الطاغوت]

الفصل: ‌[مقدمة الطبعة الأولى]

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد أيضا: فعن جابر بن عبد الله قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]

» وكان من عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه رضوان الله تعالى عليهم: «وسترون من بعدي اختلافا شديدا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» ، ومحدثات الأمور هي الأمور المخترعة في الدين التي يراد بها التقرب إلى الله سبحانه، وكل محدثة فهي بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فصاحبها في النار، ولو كان قد رآها حسنة.

ص: 3

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «قد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» . روى الأحاديث الثلاثة آنفة الذكر ابن ماجه في أوائل سننه.

إن الاقتداء بالسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم في أمور الدين لهو أمر واجب، جاء التصريح به في مثل قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]

فالله سبحانه وتعالى قد ذكر في هذه الآية الكريمة تحذيرا شديدا عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومشاققته، ثم عطف على ذلك فقال:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] ولا شك أن هذا السبيل هو سبيل الله الذي حذر الله سبحانه المؤمنين أن يخالفوه، وهو ما كان عليه المهاجرون والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الذين أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم في قوله:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]

إن على كل مسلم أن يعلم ما هو المنهج الصحيح من ضمن المناهج الكثيرة التي تنتسب إلى الإسلام، هذا المنهج الذي طالما غفل عنه جماعات من المسلمين قديما وحديثا، ولم يتنبهوا له، أو أنهم تنبهوا له ولم يرعوه حق رعايته.

هذا المنهج هو منهج الفرقة الناجية، التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة:«ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» .

وفي الحديث المروي في المسانيد والسنن تفسير لهذه الرواية وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم «حين سئل عن الفرقة الناجية: من هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا عليه وأصحابي» .

فمن استمسك بهذا السبيل: سبيل المؤمنين الأوائل من المهاجرين والأنصار كان من الناجين يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]

ص: 4

وطالما أن الأمر كذلك فإنه لا بد للدعوة الإسلامية في هذا العصر خاصة من أمرين:

أولهما: تصفية دين الإسلام مما هو غريب عنه مما هو مخالف للكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم كالشرك، وجحد الصفات الإلهية وتحريفها باسم التأويل، والاجتهادات الخاطئة، والأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة وغير ذلك.

أما الأمر الثاني: فهو تربية الناس - والجيل الناشئ خصوصا - على هذا الإسلام المصفى من كل شائبة تربية إسلامية صحيحة منذ نعومة أظفاره، ورأس ذلك وأساسه وأسه: توحيد الله سبحانه، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دونه، فإن حاجة الخلق إلى ذلك وإلى العلم بالله وأسمائه وصفاته فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، فحاجتهم إليه فوق حاجتهم للطعام والشراب، بل وإلى النَّفَس الذي لا حياة إلا به.

هذا الأمر المهم العظيم الذي لأجله انقسم الناس إلى مؤمنين وكفار، ودخلوا به الجنة أو النار، هو أجل ما يقضى فيه الأوقات، وتصرف في سبيله الأموال، بل وتبذل النفوس الغالية رخيصة لأجل إعلاء كلمة الله، فحري بنا أن نحرص كل الحرص على تعلم توحيد الله تعالى وتعليمه، والحرص على الابتعاد عما يناقضه من الشرك واتخاذ الصالحين والأنبياء والملائكة وغيرها معبودات مع الله، كما كان عليه أهل الجاهلية، الذين جاء نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمخالفتهم في هذا الأمر العظيم، وفي غيره؛ ذلك أن جميع الرسل والأنبياء بعثوا بالتوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال عز اسمه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]

وقد بقي الناس بعد آدم عشرة قرون على التوحيد، ثم حدث الشرك بشبهة تعظيم الصالحين، والدليل قول الله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أسماء رجال صالحين من

ص: 5

نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدَتْ» (1) .

وهذا يدل على أهمية العلم الشرعي، والخسارة العظيمة بفقدانه، فلما حصل هذا أرسل الله نبيه نوحا عليه السلام إلى قومه لما غلوا في الصالحين، ونُسي العلم، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 59 - 60] وقد ذكر الله في سورة نوح وغيرها قصته معهم، واستكبارهم عن الإيمان، وإفراد الله بالعبادة، وأنه عليه السلام نوَّع الدعوة لهم؛ ليكون أنجع فيهم، فلم يؤمن معه إلا قليل، ثم أغرقهم الله، فأدخلهم جهنم، أعاذنا الله منها.

وقد أخبر سبحانه أنه أرسل إلى عاد أخاهم من القبيلة هودا، وإلى ثمود أخاهم صالحا، وشعيبا إلى مدين، قال تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] وقال عز من قائل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85] فكل الأنبياء بعثوا بالتوحيد كما تقدم.

ولما أرسل الله نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كسر تلك الأصنام بعينها التي عبدها قوم نوح عليه السلام، والتي توارثها المشركون، وغيرها من الأصنام، وقد أرسل إلى قوم يتعبدون

(1) رواه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير باب: (ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق) برقم: 4920) .

ص: 6

ويحجون ويتصدقون، ويحبون الله ويذكرونه كثيرا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين، قال تعالى:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] فجدد لهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، وأخبرهم أن هذا التقرب حق لله وحده، ولا يصلح منه شيء لغير الله، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا غيرهما.

قال تعالى آمرا نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ - قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي - فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 11 - 15]

وقد كان هؤلاء المشركون يقرون بأن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع وما فيهن، والأرضين السبع وما فيهن، كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره.

والدليل على ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89] وغير ذلك من الآيات.

فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في الإسلام، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، بأن لا يعبد إلا الله، ويكفر بما يعبد من دونه من

ص: 7

الأنبياء والملائكة والصالحين والمقبورين وغيرهم، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وقال سبحانه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء لا يريدون إلا شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون.

وهذا التوحيد هو معنى قولك (لا إله إلا الله) فإن الإله هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا صالحا، أو شجرة أو قبرا أو جنيا، فإن مشركي العرب لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق، فإنهم يعلمون أن ذلك هو الله وحده كما تقدم، وإنما أرادوا بالإله: الذي يقصد بالعبادة، فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ، وأن يكفروا بما يُعبد من دون الله، فأبوا عليه ذلك، وجرى ما هو معروف من نصر الله نبيه عليهم، والتمكين لدينه في الأرض، كما بينت ذلك في كتابي " سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم "(1) .

إذا علمت ذلك، وعلمت الشرك بالله الذي حرمه الله أشد من تحريم الزنى، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والذي قال الله فيه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وعرفت دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وعرفت ما وقع فيه فئام (2) من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الشرك، وضممت إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم

(1) هو فصول فيما صح من السيرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وذكر اهتمامه بتوحيد الله، وذكر أيامه وغزواته وسراياه، وأخلاقه الرفيعة، وشمائله الفاضلة، أسأل الله العظيم أن ييسر طباعته قريبا.

(2)

أي: جموع كثيرة.

ص: 8

الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان» (1) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة» وذو الخلصة: طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية (2) وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» (3) .

إذا علمت ذلك أفادك فائدتين:

الأولى: الفرح بفضل الله وبرحمته، قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]

الثانية: الخوف العظيم من الشرك، فإن سادات الأولياء خافوا منه كمثل نبي الله وخليله إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال الله عنه أنه دعا ربه بقوله:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] وقال نبي الله وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم» (4) وخصوصا أن الله قص علينا في القرآن الكريم عن قوم موسى عليه السلام مع صلاحهم وعلمهم، وأن الله فضلهم على أهل زمانهم، بدليل قوله تعالى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] مع ذلك طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله يعبدونه، كما أن للمشركين آلهة يعبدونها، قال تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] يعني: تجهلون عظمة الله، وما ينبغي أن ينزه عنه من الشريك.

واعلم أن الله سبحانه من حكمته أنه جعل لكل نبي عدوا، والدليل قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]

(1) صحيح: رواه أبو داود في (الفتن والملاحم ذكر الفتن ودلائلها: 4252) .

(2)

متفق عليه: رواه البخاري في (الفتن باب: تغير الزمان حتى تعبد الأوثان: 7116) واللفظ له، ومسلم في (الفتن: 7298) وفيه: ". . حول ذي الخلصة "، وكانت صنما تعبدها دوس في الجاهلية، بتباله.

(3)

رواه في (كتاب الفتن: 7299) .

(4)

رواه البخاري في " الأدب المفرد "(716) .

ص: 9

[الأنعام: 112]، وقال تعالى في الحديث القدسي:«إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (1) إذا علمت ذلك كله عظم فرحك بفضل الله وبرحمته، وزاد خوفك من طرائق الشياطين في صد الناس عن سبيل الله، فقد قال إمامهم إبليس لربك عز وجل:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] فقد قعد إبليس وجنوده من الشياطين على الطريق الموصلة إلى الله، ومعهم فصاحة وتزيين وشبه، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحا لك تقاتل به هؤلاء الشياطين.

ولا تخف ولا تحزن إذا أقبلت على الله، وتوكلت عليه، وأصغيت إلى حجته وبيناته {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] و {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه، والموحد الواحد يغلب ألفا من علماء المشركين، قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم هم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على المسلم الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فلا يأتي صاحب باطل بحجة أو شبهة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.

ومن ذلك أن تعلم ما كان عليه أهل الجاهلية من أمور خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ذلك من أهم المهمات التي وردت في الكتاب والسنة الصحيحة، وذلك

(1) رواه مسلم في (الجنة: 7207)، قال في " لسان العرب ": فاجتالتهم الشياطين أي: استخفتهم فجالوا معهم في الضلال، وجال واجتال إذا ذهب وجاء، ومنه الجولان في الحرب، واجتال الشيء إذا ذهب به، وساقه، والجائل: الزائل عن مكانه.

ص: 10

لتحذر منها، ثم تحذر منها، وتكون معرفتها زادا لك وسلاحا في وجه المشركين.

فلقد كان البشر قبل البعثة المحمدية في جاهلية وشر، ثم أتى الله سبحانه بهذا الخير العظيم (دين الإسلام) كما روى البخاري ومسلم - واللفظ له- عن حذيفة بن اليمان قال:«كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: " نعم " فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: " نعم، وفيه دَخَن " قال: قلت: وما دَخَنه؟ قال: " قوم يستنُّون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر " قلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها " فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: " نعم، هم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا " قلت: فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك» (1) وفي رواية أخرى لمسلم (4785) : «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» .

فالجاهلية كانت قبل البعثة، وقد يتلبس الإنسان المسلم بشيء من صفات الجاهلية، فيقال فيه:«إنك امرؤ فيك جاهلية» (2) وكمثل الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، ويأتي الكلام على ذلك في أبواب الكتاب بإذن الله، وهذه لا يكفر صاحبها، فهي من أبواب الكبائر، أما التي يكفر صاحبها فمثل: دعاء غير الله، وطاعة العلماء والحكام في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.

ويأتي الكلام على هذا مفصلا بمشيئة الله، ويعرف كل من النوعين المكفِّر وغير المكفِّر بالدليل الشرعي من كتاب وسنة، وما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم.

(1) متفق عليه: رواه البخاري في (المناقب علامات النبوة في الإسلام: 3606)، ومسلم في (الإمارة: 4784) .

(2)

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لأبي ذر، وتأتي القصة في المسألة [85] من هذا الكتاب.

ص: 11

الأدلة على وجوب مخالفة أهل الجاهلية: الأدلة كثيرة، فمنها قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15] وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] فنهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون، ويدخل فيه (كل من خالف شريعته، وأهواؤهم هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك، فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه)(1) .

وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104](راعنا) : حافظنا، من راعيته إذا تأملته وتعرفت أحواله، وكانت اليهود تقوله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشبها بالمؤمنين، وهو بلغتهم سب بالرعونة، فينوونه، فنهى الله عنه المؤمنين (2) .

بيان سوء عاقبة من اتبع أهل الجاهلية: جاءت أدلة صريحة في بيان العاقبة الشنيعة التي أعدها الله تعالى لمن خالف أمره، وتشبه بأعدائه، مما يدل على قبح الفعل، وشناعته، ومن هذه الأدلة:

(1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (1 / 85) .

(2)

" التفسير الوجيز على هامش الكتاب العزيز " لكاتب هذه السطور، ص (16) .

ص: 12

قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] ففي هذا تهديد شديد ووعيد أكيد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعدما علموا من القرآن والسنة، والخطاب مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد أمته (1) .

وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 120] ولم يقل: دينهم؛ لأن ما هم عليه مجرد أهواء نفس، ومن ترك الدين اتبع الهوى لا محالة (2) .

قال أبو العباس رحمه الله: (ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك)(3) .

قال الله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]

قال أبو العباس: (ثم قوله: فاستمتعتم وخضتم خبر عن وقوع ذلك في الماضي، وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة، كسائر ما أخبر الله به عن الكفار والمنافقين عند مبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه ذم لمن حاله كحالهم إلى يوم القيامة)(4) .

وصف المتشبهين بما يفيد شناعة فعلهم: كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» (5) .

(1) انظر: تفسير ابن كثير عند تفسير الآية الكريمة.

(2)

التفسير الوجيز ص (22) .

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 85 - 86) .

(4)

الاقتضاء (1 / 104 - 105) .

(5)

رواه البخاري في (الديات من طلب دم امرئ بغير حق: 6882) .

ص: 13

قاعدة كلية عامة: أن هذه الأمة ستتبع سَنَن من كان قبلها. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها: شبرا بشبر، وذراعا بذراع. " فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: " ومن الناسُ إلا أولئك؟» (1) وقوله: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ تبعتُموهم» (2) .

وفي ذلك مسائل:

الأولى: العلم بذلك.

الثانية: الحذر الشديد من مشابهة المشركين في أي شيء.

الثالثة: الخوف الشديد من أن يتشبه بهم من غير قصد، ففيه:

الرابعة والخامسة: أهمية العلم، والخسارة العظيمة بفقدانه.

السادسة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم يخاف على أمته اتباعهم، فلذلك قال ما قال على جهة التعيير والتوبيخ.

السابعة: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «شبرا بشبر، وذراعا بذراع» كناية عن شدة الموافقة لهم في الكفر والمعاصي، وهو خبر معناه النهي عن اتباعهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من تشَبَّه بقوم فهو منهم» (3) .

والتشبه يشمل كل شبه يكون في الأعياد والأخلاق والملابس والكلام وغير ذلك.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال: " إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلْبَسْها» (4) والأمر يطول في هذا، ولعل فيما ذكرنا كفاية إن شاء الله.

(1) رواه البخاري: في (الاعتصام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم ": 7319) .

(2)

متفق عليه: رواه البخاري - واللفظ له - برقم (7320)، ومسلم في (العلم: 6781) .

(3)

حسن صحيح: رواه أبو داود في (اللباس في لبس الشهرة: 4031) .

(4)

رواه مسلم: في (اللباس: 5434)، والعصفر: نبات يصبغ به، وقد عصفرت الثوب فتعصفر. انظر:" لسان العرب " مادة: " عصفر ".

ص: 14

إذا علمت هذا زاد حرصك على تعلم ذلك وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، خصوصا أن علماء هذه الأمة الخاتمة حذروا من سلوك مسالك الجاهلية النكراء، بعدما رأوا ما وقع فيه فئام الناس من البدع والمحدثات، والتشبه بأهل الجاهلية الجهلاء من الأميين والكتابيين، ووقعوا فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان من نتائج ذلك تأليف الكتب المحذرة من الوقوع في ذلك، فألفت في ذلك مؤلفات عديدة، منها ما يتحدث عن البدع عموما، وفي ضمنه التحذير من مشابهة الكفار، ومنها ما هو خاص بالتحذير من مشابهة الكفار.

ومن هذه المؤلفات هذا المؤلف الذي بين يديك، وهو " مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الجاهلية " ألف أصله الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد رحمه الله، وتوسع فيها على هذا النحو علامة العراق: الإمام أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله الألوسي رحم الله الجميع.

وقد كنت عزمت على طباعته سنة 1413 هـ لكن ما يسر الله ذلك، ثم عزمت ثانية هذا العام 1422 هـ، فكانت هذه الطبعة، ومن رأى فيها شيئا من الخطأ فليبادر إلى نصيحتي مشكورا، بأن يبينه لي، وليكن رائده في هذا المجال وغيره النصح والإرشاد، والتواصي بالحق، ورحم الله عبدا دلني على خطئي، وأهدى إلي عيوبي، وليكن النصح مقرونا بالدليل من كتاب وسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وجزاه الله خيرا.

هذا وصلى الله على عبده ونبيه محمد وعلى النبيين من قبله وسلم تسليما كثيرا.

كتبه

علي بن مصطفى خلوف

الخميس 2 / 2 / 1432هـ

عنوان المراسلات: دمشق: ص. ب 2625

ص: 15