الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَاعْتَبِرْ " نحن قسمنا بينهم "
…
تلقه حقًّا وبالحق نزل
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] أي: النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين خير مما يجمعونه من حطام الدنيا الدنية، فالعظيم من رُزِق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنيء الفاني.
وأنت تعلم أن كثيرا من الناس اليوم على ما كان عليه أهل الجاهلية في هذه الْخَصلة، فتراهم لا يعتبرون العلم إذا كان صاحبه فقير الحال، وينظرون إلى الغني، ويعتبرون أقواله.
ولله در من قال:
رب حلم أضاعه عدم الما
…
ل وجهل غطى عليه النعيم
[التسعون ازدراء الفقراء]
التسعون ازدراء الفقراء فأنزل سبحانه قوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]
أقول: هذه الآية في أوائل سورة " الأنعام "، وبيان معناها يتعلق بما قبلها، وهو قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 51 - 52]
فلما أُمِرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار المذكورين لعلهم ينتظمون في سلك المتقين نُهِيَ عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم.
ويُفْهَم من بعض الروايات أن الآيتين نزلتا معا، ولا يفهم ذلك من البعض الآخر.
فقد أخرج الإمام أحمد والطبراني (1) وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده صُهَيْب وعمَّار وبلال وخَبَّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، رضيت هؤلاء من قومك! {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟! اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فأنزل الله تعالى فيهم القرآن: {وَأَنْذِرْ بِهِ} [الأنعام: 51] إلى قوله سبحانه: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] » .
وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال: " مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وقُرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل، والحارث بن عامر بن نوفل، ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب، فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعْبُد
(1) أحمد في مسنده (1 / 420) ، والطبراني في المعجم الكبير (10 / 268) .
(2)
في تفسيره (7 / 201) .
والحلفاء كان أعظم له في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه، فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلتَ يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم، وما يصيرون إليه من أمرهم، فأنزل الله سبحانه:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام: 51] إلى قوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى حذيفة وصَبيحا مولى أسيد، والحلفاء: ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم، ونزل في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل الله تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 54]
وقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] جملة معترضة بين النهي وجوابه، تقريرا له، ودفعا لما عسى أن يُتَوَهَّم كونه مسوغا لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم، كدأْب قوم نوح حيث قالوا:{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] والمعنى: ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة، كما يقوله المشركون، حتى تتصدى له، وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك - حسبما هو شأن منصب الرسالة - النظر إلى ظواهر الأمور، وإجراء الأحكام على موجَبها، وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير، وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي.
ورُوِيَ عن ابن زيد أن المعنى ما عليك من شيء من حساب رزقهم (1) أي: من فقرهم، والمراد لا يضرك فقرهم شيئا ليصح لك الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم.
وقوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] عطف على ما قبله، وجيء به - مع أن الجواب قد تم بذلك - مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه ينظِمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا، وهو كون انتفاء حسابه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، فهو على طريقة قوله سبحانه:
(1) روح المعاني (7 / 160) .