الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الأربعون القدح في حكمته تعالى]
الأربعون القدح في حكمته تعالى أقول: من خصال أهل الجاهلية: القدح في حكمته تعالى، وأنه ليس بحكيم في خلقه، بمعنى أنه سبحانه يخلق ما لا حكمة له فيه، ويأمر وينهى بما لا حكمة فيه.
وقد حكى الله تعالى ذلك بقوله في سورة " ص "[27] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]
وقال سبحانه في سورة " المؤمنين "[115 - 116] : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115 - 116]
وفي سورة " الدخان "[38 - 39] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38 - 39]
وفي سورة " الأنبياء "[16 - 17] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 16 - 17]
وفي سورة " الحجر "[85] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]
إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الله تعالى لم يخلق شيئا من غير حكمة ولا علة، على خلاف ما يعتقده أهل الباطل من الجاهليين، ومن نحا نحوهم من هذه الأمة ممن نفى الحكمة عن أفعاله سبحانه وتعالى.
وهذه مسألة طويلة الذيل، قد كثر فيها الخصام بين فِرَق المسلمين، والحق ما كان عليه السلف من إثبات الحكمة والتعليل.
وقد أطنب الكلام عليهما الحافظ ابن القيم في كتابه " شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل "، وعقد بابا مفصلا في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره، وإثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها.
ومن جملة ما قال في هذا الباب: " إنه سبحانه وتعالى أنكر على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا بحكمة كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39] والحق: هو الحِكَم والغايات المحمودة، التي لأجلها خَلَقَ ذلك كله، وهو أنواع كثيرة:
منها: أن يُعْرَف الله بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وآياته.
ومنها: أن يحب، ويعبد، ويشكر، ويطاع.
ومنها: أن يأمر، وينهى، ويشرع الشرائع.
ومنها: أن يدبر الأمر، ويبرم القضاء، ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات.
ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فيكون أثر عدله وفضله موجودا مشاهَدا، فيحمد على ذلك ويشكر.
ومنها: أن يُعْلِم خلقه أنه لا إله غيره، ولا رب سواه.
ومنها: أن يَصْدُق الصادق فيكرمه، ويكذب الكاذب فيهينه.
ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي، فيعلم عباده ذلك علما مطابقا لما في الواقع.
ومنها: شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها، وأنه وحده إلهها ومعبودها.
ومنها: ظهور آثار كماله المقدس، فإن الخلق والصنع لازم كماله، فإنه حي
قدير، ومن كان كذلك لم يكن إلا فاعلا مختارا.
ومنها: أن يُظْهِر أثر حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به، ومجيئه على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه، فتشهد حكمته الباهرة.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم، ويعفو ويغفر ويسامح، ولا بد من لوازم ذلك خلقا وشرعا.
ومنها: أنه يحب أن يُثْنَى عليه، ويمدح ويمجد، ويسبح ويعظم.
ومنها: كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته.
إلى غير ذلك من الحِكَم التي تضمنها الخَلْق، فخَلَقَ مخلوقاته بسبب الحق، ولأجل الحق، وخلقها ملتبس بالحق، وهو في نفسه حق، فمصدره حق، وغايته حق، وهو يتضمن الحق.
وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق، لا لشيء ولا لغاية، فقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 190 - 191]
وأخبر أن هذا ظن أعدائه، لا ظن أوليائه، فقال:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27]
وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق الخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أمر لحكمة، ولا نهى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة، لا لحكمة ولا لغاية مقصودة؟!
وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده؟!
بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات، فهما مظهران لحمده وحكمته.
فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره، فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك يُنَزَّه عنه الرب، ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقا وأمرا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم - أو يقع - أن يأمر بما لا مصلحة للمكلَّف فيه البتة، وينهى عما فيه مصلحة، والجميع بالنسبة إليه سواء.
ويجوز - عندهم - أن يأمر بكل ما نهى عنه، وينهى عن جميع ما أمر به، ولا فرق بين هذا وهذا إلا بمجرد الأمر والنهي.
ويجوز - عندهم - أن يعذب من لم يعصه طرفة عين، [بل أفنى عمره في طاعته وشكره](1) ويثيب من عصاه، بل أفنى عُمُره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول، وإلا فهو جائز عليه.
وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه.
والعجب العجاب أن كثيرا من أرباب هذا المذهب ينزهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه، ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور، ويزعمون أنه عدل وحق، وأن التوحيد - عندهم - لا يتم إلا به، كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه، وعلوه فوق سماواته، وتكلمه وتكليمه، وصفات كماله! فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات، والله ولي التوفيق " (2) .
انتهى المقصود من نقله، وتمام الكلام في هذا الباب من ذلك الكتاب، وإليه سبحانه المآب.
(1) ما بين المعكوفتين زيادة من شفاء العليل.
(2)
انظر: شفاء العليل (198 - 199) .