المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الخامسة والثلاثون جحود القدر والاحتجاج به على الله تعالى] - فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية ت علي مخلوف

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة الطبعة الأولى]

- ‌[شيء من ترجمة العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي رحمه الله]

- ‌[مقدمة العلامة الألوسي]

- ‌[الأولى التعبد بإشراك الصالحين في عبادة الله تعالى]

- ‌[الثانية أنهم متفرقون ويرون السمع والطاعة مهانة ورَذالة]

- ‌[الثالثة أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له عندهم فضيلة]

- ‌[الرابعة أن دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد]

- ‌[الخامسة الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم]

- ‌[السادسة الاحتجاج بما كان عليه أهل القرون السالفة]

- ‌[السابعة الاعتماد على الكثرة والاحتجاج بالسواد الأعظم]

- ‌[الثامنة الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبا]

- ‌[التاسعة الاستدلال على المطلوب والاحتجاج بقوم أُعْطوا من القوة في الفهم والإدراك وفي القدرة والْمُلْك ظَنًّا أن ذلك يمنعهم من الضلال]

- ‌[العاشرة الاستدلال بعطاء الدنيا على محبة الله تعالى]

- ‌[الحادية عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بأخذ الضعفاء به]

- ‌[الثانية عشرة رميُ من اتبع الحق بعدم الإخلاص وطلب الدنيا]

- ‌[الثالثة عشرة الإعراض عن الدخول في الحق الذي دخل فيه الضعفاء تكبرا وأنفة]

- ‌[الرابعة عشرة الاستدلال على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا]

- ‌[الخامسة عشرة الاستدلال بالقياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح وجهلهم بالجامع والفارق]

- ‌[السادسة عشرة الغلو في الصالحين من العلماء والأولياء]

- ‌[السابعة عشرة اعتذارهم عن اتباع الوحي بعدم الفهم]

- ‌[الثامنة عشرة أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما تقول به طائفتهم]

- ‌[التاسعة عشرة الاعتياض عن كتاب الله تعالى بكتب السحر]

- ‌[العشرون تناقضهم في الانتساب]

- ‌[الحادية والعشرون تحريف كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون]

- ‌[الثانية والعشرون تحريف العلماء لكتب الدين]

- ‌[الثالثة والعشرون معاداة الدين الذي انتسبوا إليه أشد العداوة وموالاتهم لمذهب الكفار]

- ‌[الرابعة والعشرون عدم قبولهم من الحق إلا ما قالته طائفتهم والكفر بما مع غيرهم من الحق]

- ‌[الخامسة والعشرون ادعاء كل فرقة أنها هي الناجية]

- ‌[السادسة والعشرون أنهم أنكروا ما أقروا أنه من دينهم]

- ‌[السابعة والعشرون التعبد بكشف العورات]

- ‌[الثامنة والعشرون التعبد بتحريم الحلال]

- ‌[التاسعة والعشرون الإلحاد في أسمائه وصفاته]

- ‌[الثلاثون نسبة النقائص إليه سبحانه كالولد والحاجة]

- ‌[الحادية والثلاثون تنزيه المخلوق عما نسبوه للخالق]

- ‌[الثانية والثلاثون القول بالتعطيل]

- ‌[الثالثة والثلاثون الشركة في الملك]

- ‌[الرابعة والثلاثون إنكار النبوات]

- ‌[الخامسة والثلاثون جحود القدر والاحتجاج به على الله تعالى]

- ‌[السادسة والثلاثون مسبة الدهر]

- ‌[السابعة والثلاثون إضافة نِعَم الله إلى غيره]

- ‌[الثامنة والثلاثون الكفر بآيات الله]

- ‌[التاسعة والثلاثون اشتراء كتب الباطل واختيارها على الآيات]

- ‌[الأربعون القدح في حكمته تعالى]

- ‌[الحادية والأربعون الكفر بالملائكة والرسل والتفريق بينهم]

- ‌[الثانية والأربعون الغلو في الأنبياء والرسل عليهم السلام]

- ‌[الثالثة والأربعون الجدال بغير علم]

- ‌[الرابعة والأربعون الكلام في الدين بلا علم]

- ‌[الخامسة والأربعون الكفر باليوم الآخر والتكذيب بلقاء الله وبعث الأرواح]

- ‌[السادسة والأربعون التكذيب بقوله تعالى مالك يوم الدين]

- ‌[السابعة والأربعون التكذيب بقوله تعالى لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة]

- ‌[الثامنة والأربعون التكذيب بقوله تعالى ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون]

- ‌[التاسعة والأربعون قتل أولياء الله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس]

- ‌[الخمسون الإيمان بالجبت والطاغوت وتفضيل المشركين على المسلمين]

- ‌[الحادية والخمسون لبس الحق بالباطل وكتمانه]

- ‌[الثانية والخمسون التعصب للمذهب والإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه]

- ‌[الثالثة والخمسون تسميه اتباع الإسلام شركا]

- ‌[الرابعة والخمسون تحريف الكلم عن مواضعه وَلَيُّ الألسنة بالكتاب]

- ‌[الخامسة والخمسون تلقيب أهل الهدى بالصابئة والحشوية]

- ‌[السادسة والخمسون افتراء الكذب على الله والتكذيب بالحق]

- ‌[السابعة والخمسون رمي المؤمنين بطلب الغلو في الأرض]

- ‌[الثامنة والخمسون رمي المؤمنين بالفساد في الأرض]

- ‌[التاسعة والخمسون رمي المؤمنين بتبديل الدين]

- ‌[الستون كونهم إذا غُلِبوا بالحجة فزعوا إلى السيف والشكوى إلى الملوك]

- ‌[الحادية والستون تناقض مذهبهم لما تركوا الحق]

- ‌[الثانية والستون دعواهم العمل بالحق الذي عندهم]

- ‌[الثالثة والستون الزيادة في العبادة]

- ‌[الرابعة والستون النقص من العبادة]

- ‌[الخامسة والستون تَعَبُّدُهم بترك أكل الطيبات من الرزق وترك زينة الله التي أخرج لعباده]

- ‌[السادسة والستون تعبدهم بالْمُكاء والتصدية]

- ‌[السابعة والستون دعواهم الإيمان عند المؤمنين فإذا خرجوا خرجوا بالكفر الذي دخلوا به]

- ‌[الثامنة والستون دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم]

- ‌[التاسعة والستون دعاؤهم الناس إلى الكفر مع العلم]

- ‌[السبعون المكر الكُبَّار]

- ‌[الحادية والسبعون أئمتهم إما عالم فاجر وإما عابد جاهل]

- ‌[الثانية والسبعون زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس]

- ‌[الثالثة والسبعون دعواهم محبة الله مع ترك شرعه]

- ‌[الرابعة والسبعون تمنيهم على الله تعالى الأمانِيَّ الكاذبة]

- ‌[الخامسة والسبعون اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد]

- ‌[السادسة والسبعون اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد]

- ‌[السابعة والسبعون اتخاذ السُّرُج على القبور]

- ‌[الثامنة والسبعون اتخاذ القبور أعيادا]

- ‌[التاسعة والسبعون الذبح عند القبور]

- ‌[الثمانون التَّبَرُّك بآثار المعظَّمين كدار الندوة]

- ‌[الفخز بالأحساب والاستسقاء بالأنواء والطعن في الأنساب والنياحة]

- ‌[الخامسة والثمانون تعيير الرجل بفعل غيره لا سيما أبوه وأمه]

- ‌[السادسة والثمانون الافتخار بولاية البيت]

- ‌[السابعة والثمانون الافتخار بكونهم من ذرية الأنبياء عليهم السلام]

- ‌[الثامنة والثمانون الافتخار بالصنائع]

- ‌[التاسعة والثمانون عظمة الدنيا في قلوبهم]

- ‌[التسعون ازدراء الفقراء]

- ‌[الحادية والتسعون عدم الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر]

- ‌[الثانية والتسعون الإيمان بالْجِبْت والطاغوت وتفضيل دين المشركين على دين المسلمين]

- ‌[الثالثة والتسعون كتمان الحق مع العلم به]

- ‌[الرابعة والتسعون القول على الله بلا علم]

- ‌[الخامسة والتسعون التناقض الواضح]

- ‌[العِيافة والطَّرْق والطِّيَرَة والكِهانة والتحاكم إلى الطاغوت]

الفصل: ‌[الخامسة والثلاثون جحود القدر والاحتجاج به على الله تعالى]

والكلام في إثبات النبوة مفصل في غير هذا الموضع.

والمقصود أن إنكارها من سَنَن الجاهلية ومعارفهم، وفي الناس كثير ممن هو على شاكلتهم ومعوج طريقتهم.

[الخامسة والثلاثون جحود القدر والاحتجاج به على الله تعالى]

الخامسة والثلاثون جحود القدر، والاحتجاج به على الله تعالى، ومعارضة شرع الله بقدر الله وهذه المسألة من غوامض مسائل الدين، والوقوف على سرها عَسِر إلا على من وفقه الله تعالى.

ولابن القيم كتاب جليل في هذا الباب سماه " شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل ".

وقد أبطل الله سبحانه هذه العقيدة الجاهلية بقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ - قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]

تفسير هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الأنعام: 148] حكاية لفن آخر من أباطيلهم.

{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 148] لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح؛ إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم، بل هم كما نطقت به الآيات - {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى، وأن التحريم إنما كان من الله عز وجل، فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى على أن المشيئة والإرادة تساوي الأمر، وتستلزم الرضى كما زعمت المعتزلة (1) فيكون حاصل

(1) المعتزلة: فرقة ضالة ظهرت في الإسلام أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجا قائما على اتباع الهوى في العقائد الإسلامية، ولهم بدع كثيرة، من أهمها التحكم بعقولهم وأفهامهم القاصرة في الوحيين الشريفين: الكتاب والسنة، بدل السمع والطاعة، وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا.

ص: 63

كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئته سبحانه وإرادته، فهو مشروع ومرضي عند الله تعالى.

وبعد أن حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم، رد عليهم بقوله - عز من قائل -:{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] وهم أسلافهم المشركون.

وحاصله: أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام، وقد دلت المعجزة على صدقهم.

أو نقول: حاصله: أن ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، وكل ما هذا شأنه فلا تكليف به؛ لكونه مشروطا بالاستطاعة، فينتج: أن ما ارتكبه من الشرك وغيره لم يتكلف بتركه، ولم يبعث له نبي، فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل؛ لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون، وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية، ولكونه صدقا أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب.

ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف؛ لأنهما لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة.

{حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148] أي: نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم، وفيه إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى؛ لأن الذوق أول إدراك الشيء.

{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] أي: هل لكم من علم بأن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان؟

وهذا دليل على أن المشركين أمم استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك؛ لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، حيث قرع مسامعهم من

ص: 64

شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى، فحين طالبوهم بالإسلام، والتزام الأحكام، احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم - عليهم الصلاة والسلام -، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عِقدهم، كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به - عز شأنه - وهو عنهم مناط العَيُّوق (1) ؟

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] أي: تكذبون على الله تعالى.

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، والمراد بها في المشهور: الكتاب والرسول والبيان.

{فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] بالتوفيق لها، والحمل عليها، ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.

ومن الناس من ذكر وجها آخر في توجيه ما في الآية، وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسَلِّمون اختيارهم وقدرهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك، فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال، فكذب الرسل، وأشرك بالله عز وجل، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة.

ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له تعالى لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقعٍ واقعٌ بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعين.

والمقصود أن يَتَمَحَّضَ وجه الرد عليهم، وتتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم

(1) العَيُّوق: كوكب أحمر مضيء بحيال الثريا من ناحية الشمال، ويطلع قبل الجوزاء: لسان العرب " عيق ".

ص: 65

تعلقها (1) بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم، وأن إقامتهم الحجة بذلك خاصة.

وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا لصدور الجبرية، وعجزها معجزا للمعتزلة، إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدوة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة لأهل السنة على المعتزلة، والحمد لله رب العالمين.

ومنهم من وجه الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا، وأراده منا، وأنتم تخالفون إرادته، حيث تدعونا إلى الإيمان، فوبخهم سبحانه وتعالى بوجوه عدة:

منها: قوله سبحانه: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] فإنه بتقدير الشرط، أي: إذا كان الأمر كما زعمتم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]

وقوله سبحانه: {فَلَوْ شَاءَ} [الأنعام: 149] بدلا منه على سبيل البيان، أي: لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه، لو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام - أيضا - بالمشيئة، فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام، كما وجب بزعمكم ألا يمنعكم الأنبياء عن الشرك، فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة، بل موافقة وموالاة.

وحاصله: أن ما خالف مذهبكم من النِّحَل يجب أن يكون عندكم حقا؛ لأنه بمشيئة الله تعالى، فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة.

وفي سورة " النحل "[35] : {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]

(1) في الأصل: نفوذ السنة وعموم تغلغلها، والتصويب من روح المعاني.

ص: 66

الكلام على هذه الآية كالكلام على الآية السابقة، ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخذال الحجة، ألا ترى كيف ختم بنحو آخر مجادلاتهم في سورة " الأنعام " في الآية السابقة، وكذلك في سورة " الزخرف "[19 - 22]، وهو قوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ - وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ - أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 19 - 22]

ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] والمراد بما حرموه: السوائب والبحائر وغيرها.

وفي تخصيص الاشتراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا؛ فإن حاصله: أي: ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، فلو أنه سبحانه وتعالى شاء أن نوحده، ولا نشرك به شيئا، ونحلل ما أحله، ولا نحرم شيئا مما حرمنا - كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى - لكان الأمر كما شاء من التوحيد، ونفي الإشراك، وتحليل ما أحله، وعدم تحريم شيء من ذلك، وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك، بل شاء ما نحن عليه، وتحقق أن ما يقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم.

فرد الله تعالى عليهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] من الأمم، أي: أشركوا بالله تعالى، وحرموا من دونه ما حرموا، وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق.

{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] أي: ليست وظيفتهم إلا البلاغ للرسالة، الموضح طريق الحق، والمظهر أحكام الوحي التي منها تَحَتَّمَ تَعَلُّقُ مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق؛ لقوله تعالى:

ص: 67

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]

وأما إلجاؤهم إلى ذلك، وتنفيذ قولهم عليه شاؤوا أو أبوا - كما هو مقتضى استدلالهم - فليس ذلك من وظيفتهم، ولا من الحكمة التي يتوقف عليها التكليف، حتى يُسْتَدَلَّ بعدم ظهور آثاره على عدم حَقِّيَّة الرسل عليهم السلام، أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية، وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله، وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين.

والكلام على هذه الآية ونحوها مُسْتَوْفًى في تفسير " روح المعاني "(1) وغيره.

فجحود القدر، والاحتجاج به على الله، ومعارضة شرع الله بقدره، كل ذلك من ضلالات الجاهلية.

والمقصود أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين، فمن زلت قدمه عن هذه الجادة كان على ما كان عليه أهل الجاهلية، وهي الطريقة التي رد عليها الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

(1)(8 / 51 - 53) .

ص: 68