الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الثانية والسبعون زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس]
الثانية والسبعون زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس دليل هذه المسألة قوله تعالى في سورة " الجمعة "[6] : {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} [الجمعة: 6] أي: تهودوا، أي: صاروا يهودا.
{إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} [الجمعة: 6] أي: أحباء له سبحانه، ولم يضف (أولياء) إليه تعالى كما في قوله سبحانه:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} [يونس: 62] ليُؤْذِن بالفرق بين مدعي الولاية ومن يخصه بها.
{مِنْ دُونِ النَّاسِ} [البقرة: 94] أي: متجاوزين عن الناس.
{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [البقرة: 94] أي: فتمنوا من الله أن يميتكم، وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] في زعمكم، واثقين بأنه حق، فتمنوا الموت؛ فإنه من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الأنكاد والأكدار.
وأُمِرَ صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم ذلك إظهارا لكذبهم، فإنهم كانوا يقولون:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ويدعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة، ويقولون:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] كما أخبر تعالى عن الكتابيين في كتابه، فقال جل شأنه:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112]
ورويَ «أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتم
محمدا أطعناه، وإن خالفتموه خالفناه، فقالوا: نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير ابن الله والأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب؟! نحن أحق بها من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت:{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} [الجمعة: 6] » الآية (1) .
{وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] إخبار بحالهم المستقبل، وهو عدم تمنيهم الموت، وذلك خاص بأولئك المخاطَبين.
ورويَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» (2) فلم يَتَمَنَّهُ أحد منهم، وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه صلى الله عليه وآله وسلم، فعلموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم، ولحقهم الوعيد، وهذه إحدى المعجزات.
(1) ذكر ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: " قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ "[البقرة: 94 - 95]، عن ابن عباس رضي الله عنه: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: " قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" أي: بعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس:(فتمنوا الموت) فسلوا الموت. وقال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، قوله:"فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا، اهـ. ثم ذكر أثرا عن ابن عباس: قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه. وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس اهـ.
فالمسألة على سبيل المباهلة، وليست كما ذكره الشيخ رحمه الله، قال ابن كثير رحمه الله: ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت، فكيف تلزمونا بما لا يلزمكم اهـ. ثم قال بعد: وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محقٍّ يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، لا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عظيمة عزيزة؛ لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت. اهـ.
(2)
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6 / 274)، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس بلفظ:" لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ".
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] أي: بسببه، كأنه قيل: انتفى تمنيهم بسبب ما قَدَّمَتْ، والمراد بما قدمته أيديهم: الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار، ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95] أي: بهم، وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم، والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل، أي: والله عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي، وبما سيكون منهم، فيجازيهم على ذلك.
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة: 8] ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم.
{فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] البتة، من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه.
{ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الجمعة: 8] الذي لا تخفى عليه خافية.
{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8] من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها.
وهذا ديدن الزائغين، وشأن الملحدين، كما قال تعالى عن اليهود:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]
وقد ورث هذه الخصلة كثير ممن ينتمي إلى الملة الإسلامية، بل كل من الفِرَق يقول: نحن أولياء الله، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث الفِرَق في بيان الفرقة الناجية:«وهم ما أنا عليه وأصحابي» (1) .
(1) حسن: رواه الترمذي بلفظ: " ما أنا عليه وأصحابي " برقم (2641) . وقد تقدم ص (46) .