الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تدل على ذلك، مع النظر والاعتبار، وقد نزع بهذا الحديث بعض من ذهب مذهب المعتزلة في أن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش، وهذا جهل من قائله؛ لأن في الحديث الذي جاء فيه النهي عن البزاق في القبلة: أنه يبزق تحت قدمه وعن يساره، وهذا ينقض ما أصَّلُوه في أنه في كل مكان".
[وانظر الكلام على النزول في تخريج الذكر والدعاء (3/ 986)، وانظر: التمهيد (14/ 154)، المفهم (2/ 157)، فتح الباري لابن رجب (2/ 325 - 351)، فتح الباري لابن حجر (1/ 605 - 612)، طرح التثريب
(2/ 340)].
***
23 -
باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد
486 -
. . . الليث، عن سعيد المقبري، عن شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك يقول: دخل رجل على جملٍ، فأناخه في المسجد، ثم عَقَله، ثم قال: أيُّكم محمد؟ -ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم متكئٌ بين ظهرانَيْهم- فقلنا له: هذا الأبيضُ المتكئ، فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجبتُك" فقال له الرجل: يا محمد! إني سائلك. . . وساق الحديث.
• حديث صحيح.
أخرجه البخاري (63)، والنسائي في المجتبى (4/ 122 - 123/ 2092)، وفي الكبرى (3/ 90/ 2413)، وابن ماجه (1402)، وابن خزيمة (4/ 63/ 2358)، وابن حبان (1/ 367/ 154)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (258)، وأحمد (3/ 168)، والشافعي في الأم (3/ 182/ 876) و (3/ 207/ 890)، وفي المسند (378)، وابن زنجويه في الأموال (2/ 520/ 831) و (3/ 1190/ 2237)، والبزار (12/ 327/ 6192)، والطحاوي في المشكل (7/ 317/ 5296 - تحفة الأخيار)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 1011/ 5663)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 45/ 777)، وابن منده في الإيمان (1/ 272/ 130)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (2/ 197/ 326 و 327)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 1543/ 3910)، والبيهقي في السنن (2/ 444) و (7/ 9)، وفي المعرفة (5/ 184/ 4024)، والخطيب في الكفاية (260)، وفي المبهمات (154)، والبغوي في شرح السنة (3)، وابن بشكوال في الغوامض (1/ 56)، والسبكي في طبقات الشافعية (1/ 82).
ولفظه بتمامه عند البخاري: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجلٌ على جملٍ، فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيُّكم محمد؟ -والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانَيْهم-، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابنَ عبد المطلب!
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجبتُك"، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمُشدِّدٌ عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك، فقال:"سَلْ عمَّا بدا لك" فقال: أسألك بربِّك وربِّ مَن قبلَك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال:"اللهم نعم"، قال: أنشُدُك باللَّه! آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله! آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله! آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم"، فقال الرجل: آمنتُ بما جئتَ به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر.
• روى هذا الحديث عن الليث بن سعد به هكذا: ابنه شعيب بن الليث، وعبد الله بن وهب، وعبد الله بن يوسف التنيسي، ويونس بن محمد المؤدب، وعبد الله بن يزيد المقرئ، ويحيى بن إسحاق السيلحيني، ويحيى بن حسان التنيسي، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وحجاج بن محمد المصيصي، والنضر بن عبد الجبار المرادي، وعيسى بن حماد زغبة، وهو آخر من حدث عنه من الثقات، وعبد الله بن صالح كاتب الليث، وعاصم بن علي الواسطي [وهم (13) ثلاثة عشر رجلًا من الثقات، من أهل بيته، وأهل بلده، ومن الغرباء، وفيهم: أصحابه المكثرين عنه، وأحفظهم لحديثه، وآخر من حدث عنه]: لم يذكر أحد منهم واسطة بين الليث بن سعد، وبين سعيد المقبري، وصرح الليث -في رواية سبعة منهم- بسماعه هذا الحديث من المقبري.
• خالفهم: يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري المدني [ثقة]، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا ابن عجلان، وغيره من إخواننا، عن سعيد المقبري، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك يقول:. . . فذكر مثله؛ إلا أنه لم يذكر الصلوات الخمس.
أخرجه النسائي في المجتبى (4/ 123 - 124/ 2093)، وفي الكبرى (3/ 91/ 2414).
قال: أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم من كتابه، قال: حدثنا عمي -وهو: يعقوب بن إبراهيم-، به.
وهذا إسناد صحيح إلى يعقوب.
ومثل هذا مما يقال فيه: إنه من المزيد في متصل الأسانيد، فإن رواية جماعة الثقات من أصحاب الليث، ممن هم أعلم بحديثه من غيرهم: أصح من رواية الثقة الواحد من الغرباء، ممن قد يتطرق الوهم إليه، بخلاف الجماعة، والليث بن سعد: صحيح السماع من سعيد المقبري، وروايته عنه في صحيح البخاري [انظر: الصحيح (469 و 3169) وأطرافهما]، وهو ممن لا يكتفي بمجرد المعاصرة وإمكان اللقاء، وقد ثبت سماع الليث من المقبري بالأسانيد الصحيحة، كما في هذا الحديث أيضًا.
أو يقال: إن الليث سمعه أولًا من ابن عجلان وغيره، ثم لقي المقبري بعد ذلك فسمعه منه، والله أعلم.
قال ابن حجر في الفتح (1/ 150): "وفي هذا دليل على أن رواية النسائي. . . موهومة، معدودة من المزيد في متصل الأسانيد، أو يحمل على أن الليث سمعه عن سعيد بواسطة ثم لقيه فحدثه به".
• وقد اختلف فيه على سعيد المقبري:
أ- فرواه الليث، عن سعيد المقبري، عن شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك يقول:. . . فذكره.
ب- وخالفه: عبيد الله بن عمر [ثقة ثبت]، وأخوه: عبد الله بن عمر [ليس بالقوي]، والضحاك بن عثمان الحزامي [صدوق يهم]، رواه ثلاثتهم: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال:. . . فذكروه بنحوه، وزاد الأولان فيه ذكر الحج.
أخرجه النسائي في المجتبى (4/ 124/ 2094)، وفي الكبرى (3/ 92/ 2415)، وأبو داود الطيالسي (4/ 90/ 2449)، وأبو إسحاق الحربي في غريب الحديث (2/ 353) و (3/ 1064)، وأبو بكر الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (2447)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 59/ 785)، والدارقطني في الأفراد (5/ 192 - 193/ 5117)، وابن عبد البر في التمهيد (16/ 186 - 169)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (3/ 273)، وذكره ابن أبي حاتم في العلل (1/ 167/ 475)، والدارقطني في العلل (8/ 150/ 1470).
هكذا قالوا: عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فسلكوا فيه الجادة والطريق السهل.
والصواب: ما رواه الليث؛ فهو ثقة ثبت، إمام حافظ، وهو: أثبت الناس في سعيد المقبري، ممن يفصل حديثه عن أبي هريرة، عن حديثه عن غيره [انظر: شرح العلل (2/ 670)].
فإن قيل: كيف تُقدَّم رواية الليث على رواية عبيد الله، مع كون الأخير: أثبت وأحفظ، وهو مُقدَّم أيضًا في المقبري؟
فيقال: رواية عبيد الله بن عمر العمري: غريبة، لا تثبت عنه، فقد تفرد بها عنه: الحارث بن عمير البصري، نزيل مكة، وهو: ثقة من أصحاب أيوب، له مناكير، وفي تفرده عن عبيد الله بن عمر العمري المدني دون بقية أصحابه الثقات -على كثرتهم- نكارة [انظر: التهذيب (1/ 335)، الميزان (1/ 440)، المجروحين (1/ 223)، التنكيل (1/ 220/ 68)، الفوائد المجموعة (297)]، وتفرد به عن الحارث: ابنه حمزة وهو: ثقة.
قال الدارقطني في الأفراد: "تفرد به حمزة بن الحارث بن عمير، عن أبيه، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد".
وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن حديث الضحاك بن عثمان؟ فقال: "هذا وهم؛ إنما رواه الليث، عن سعيد المقبري، عن شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه"[العلل (1/ 167/ 475)]، وهذا مما يشعر بعدم ثبوت الرواية عن عبيد الله بن عمر، إذ لو كانت ثابتة مشهورة عنه لما غفل عنها أبو حاتم، والله أعلم.
وقال الدارقطني في العلل (8/ 150): "يختلف فيه على سعيد المقبري:
فرُوي عن عبيد الله بن عمر، وعن أخيه عبد الله، وعن الضحاك بن عثمان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، ووهموا فيه على سعيد.
والصواب: ما رواه الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن شريك بن أبي نمر، عن أنس بن مالك.
وقال يعقوب بن إبراهيم بن سعد: عن الليث، عن ابن عجلان، عن المقبري، وقد سمعه الليث من المقبري، وهو: صحيح عنه" وفي كلامه أيضًا إشعار بعدم ثبوت الرواية عن عبيد الله بن عمر.
وقال المزي في تهذيب الكمال (35/ 99) بعد رواية عبيد الله بن عمر: "وليس بمحفوظ".
وقال في تحفة الأشراف (9/ 481/ 12993): "كذا قال، والمحفوظ: حديث سعيد المقبري، عن شريك بن أبي نمر، عن أنس".
وقال الحافظ في الفتح (1/ 150): "ولم يقدح هذا الاختلاف فيه عند البخاري؛ لأن الليثَ: أثبتُهم في سعيد المقبري، مع احتمال أن يكون لسعيد فيه شيخان؛ لكن تترجح رواية الليث بأن المقبري عن أبي هريرة: جادة مألوفة، فلا يَعدِل عنها إلى غيرها إلا من كان ضابطًا متثبتًا، ومِنْ ثَمَّ قال ابن أبي حاتم عن أبيه: رواية الضحاك وهمٌ. وقال الدارقطني في العلل: رواه عبيد الله بن عمر، وأخوه عبد الله، والضحاك بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، ووهموا فيه، والقول: قول الليث".
• قال البخاري بعد حديث الليث: "رواه موسى وعلي بن عبد الحميد، عن سليمان، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا".
قلت: هكذا علقه البخاري، ووصله من طريق سليمان بن المغيرة:
مسلم (12)، وأبو عوانة (1/ 15 - 16/ 1 و 2)، وأبو نعيم في المستخرج (1/ 106/ 91)، والترمذي (619)، والنسائي في المجتبى (4/ 121 - 122/ 2091)، وفي الكبرى (3/ 89/ 2412) و (5/ 370 - 371/ 5832)، والدارمي (1/ 171/ 650)، وابن حبان (1/ 368/ 155)، والحاكم في المعرفة (5)، وأحمد (3/ 143 و 193)، وابن أبي شيبة (6/ 158/ 30318)، وعبد بن حميد (1285)، والبزار (13/ 322 - 323/ 6928)، وأبو يعلى (6/ 80/ 3333)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 317 - 318/ 928)، والطحاوي في المشكل (7/ 318/ 5297 - تحفة)، وفي أحكام القرآن (2/ 217/ 1607)، والطبراني في الأوسط (5/ 198/ 5070)، والدارقطني في الرؤية (157)، وابن منده في الإيمان (1/ 270 - 271/ 129)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (2/ 197/ 328)، وابن بشران في الأمالي (594)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 325)، وفي الاعتقاد (47)، وفي الأسماء والصفات (1/ 46 - 47)، وابن عبد البر في التمهيد (16/ 170)، والبغوي في شرح السنة
(4 و 5)، وابن طاهر المقدسي في العلو والنزول (17)، والسبكي في طبقات الشافعية (1/ 85)، والمزي في التهذيب (21/ 48 - 49)، وابن حجر في التغليق (2/ 69).
من طرقٍ عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس به.
ولفظ مسلم: عن أنس بن مالك قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل؛ فيسأله، ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد! أتانا رسولُك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال:"صدق"، قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله"، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله"، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال:"الله"، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال! آلله أرسلك؟ قال:"نعم"، قال: وزعم رسولُك أن علينا خمسَ صلواتٍ في يومنا وليلتنا؟ قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك! آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"، قال: وزعم رسولُك أن علينا زكاةً في أموالنا؟ قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك! آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"، قال: وزعم رسولُك أن علينا صومَ شهر رمضان في سنتنا؟ قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك! آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"، قال: وزعم رسولُك أن علينا حجَّ البيتِ من استطاع إليه سبيلًا؟ قال: "صدق"، قال: ثم ولَّى، قال: والذي بعثك بالحقِّ! لا أزيد عليهنَّ، ولا أنقص منهنَّ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لئن صدق ليدخلن الجنة".
قال ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم (142): "هذا الرجل هو: ضمام بن ثعلبة، بضاد معجمة مكسورة، وهو من بني سعد بن بكر بن هوازن، قبيلة حليمة التي أرضعت سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير هذا الوجه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الحاكم: "وفي طلب الإسناد العالي سنة صحيحة" فذكره.
وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم أحدًا أتمَّ له كلامًا عن ثابت عن أنس، من سليمان بن المغيرة، وقد رواه غيره، وكان سليمان من ثقات أهل البصرة".
وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن ثابت البناني إلا سليمان بن المغيرة".
وقال الدارقطني في "كتاب الرؤية" بعد ما أسنده من طريق علي بن المديني عن بهز بن أسد عن سليمان به: "قال علي: قال بهز: فحدَّثت بهذا الحديث حماد بن سلمة، فقال: هو مرسل، فقلت له: إن سليمان بن المغيرة -يعني: أسنده-، قال علي يتهدده لسليمان: صح، صح، صح -أي: هو ثقة-، فقال حماد: هو كان يسألني عن حديث ثابت. قال علي: وكان حماد بن سلمة أعلم الخلق بحديث ثابت.
. . . ثم أسند الدارقطني إلى يحيى بن معين قوله: من خالف حماد بن سلمة في ثابت، فالقول: قول حماد بن سلمة. قيل له: فسليمان بن المغيرة عن ثابت؟ قال: سليمان: ثبت، وحماد بن سلمة أعلم الناس بثابت".
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة (3/ 221): "حدثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: سمعت عليًّا [يعني: ابن المديني]، [قال:] قال بهز [يعني: ابن أسد]: سألت حماد بن سلمة: عن حديث ثابت عن أنس، أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة؟ فقال: هذا إنما هو: عن ثابت مرسل. فقلت: إنه سليمان بن المغيرة! فقال: قد كان يسألني عن حديث ثابت".
وقال الدارقطني في العلل (4/ 42/ ب): "يرويه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس، وخالفه حماد بن سلمة فرواه عن ثابت مرسلًا، وحماد بن سلمة: أثبت الناس في حديث ثابت".
وقال ابن حجر في الفتح (1/ 150): "وما فرَّ منه مسلم [يعني: من حديث الليث الذي أخرجه البخاري للاختلاف الواقع فيه على سعيد المقبري] وقع في نظيره؛ فإن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وقد روى هذا الحديث عن ثابت فأرسله، ورجَّح الدارقطني رواية حماد".
وقال أيضًا (1/ 153): "وإنما علقه البخاري لأنه لم يحتج بشيخه سليمان بن المغيرة، وقد خولف في وصله، فرواه حماد بن سلمة عن ثابت مرسلًا، ورجحها الدارقطني، وزعم بعضهم أنها علة تمنع من تصحيح الحديث، وليس كذلك؛ بل هي دالة على أن لحديث شريك أصلًا".
قلت: سليمان بن المغيرة: ثقة ثبت مأمون، متفق على توثيقه، وقال أحمد وابن المديني بأن أثبت الناس في حديث ثابت: حماد بن سلمة، ثم بعده: سليمان بن المغيرة، [انظر: العلل لابن المديني (151)، الجرح والتعديل (4/ 144)، التهذيب (2/ 108)، شرح علل الترمذي (2/ 690)]، وعادة الأئمة أنهم لا يقدمون أحدًا على حماد بن سلمة في حديث ثابت، فقد كان أعلمَ الخلق بحديث ثابت، وإذا اختلف حماد وسليمان بن المغيرة في حديث ثابت، قدموا حماد بن سلمة [انظر على سبيل المثال: علل ابن أبي حاتم (2/ 12 و 56 و 232/ 1510 و 1655 و 2185)، صحيح مسلم (181)، جامع الترمذي (2552 و 3105)]، وعلى هذا فالأقرب للصواب في هذا الحديث أنه: مرسل، كما ذهب إلى ذلك إمام علم العلل: علي بن المديني؛ بناءً على المناظرة التي وقعت بين حماد بن سلمة وبهز بن أسد، وتبعه على ذلك: الدارقطني، واستضعف الترمذي الموصول، ولعل مسلمًا لم يقف على رواية حماد المرسلة؛ فصحح الحديث من رواية سليمان، والله أعلم.
ولذلك فقد أعرض البخاري عن هذه الرواية، ولم يذكرها إلا تعليقًا، وعمد إلى رواية شريك بن أبي نمر عن أنس، فأخرجها في صحيحه، معتمدًا عليها، دون رواية ثابت التي اشتملت على زيادات ليست في رواية شريك، لا سيما ذكر الحج فيها، مع العلم بأن إسلام هوازن -والتي منها قبيلة سعد بن بكر- إنما كان بعد فتح مكة، بعد غزوة حنين، سنة ثمان، ولم يكن الحج قد فرض بعدُ، إذ الصحيح أنه فرض سنة تسع من الهجرة،
وجاء في بعض روايات حديث ثابت: نهينا في القرآن أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، وإنما نزل هذا النهي في القرآن في سورة المائدة في قوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101]، وسورة المائدة من آخر سور القرآن نزولًا، والظاهر أن قدوم ضمام بن ثعلبة كان قبل ذلك بكثير، والله أعلم.
قال شيخ الإسلام في المجموع (7/ 601): "ويشبه -والله أعلم- أن يكون البخاري رأى أن ذكر الحج فيه وهمًا؛ لأن سعد بن بكر هم من هوازن، وهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهوازن كانت معهم وقعة حنين بعد فتح مكة، فأسلموا كلهم بعد الوقعة، ودفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان بعد أن قسمها على المعسكر، واستطاب أنفسهم في ذلك، فلا تكون هذه الزيارة إلا قبل فتح مكة، والحج لم يكن فرض إذ ذاك".
***
487 -
. . . سلمة: حدثني محمد بن إسحاق: حدثني سلمة بن كُهَيل ومحمد بن الوليد بن نُوَيفِع، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بَعَثت بنو سعدِ بن بكرٍ ضِمامَ بنَ ثعلبة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقدِمَ عليه، فأناخ بعيرَه على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد،. . . فذكر نحوه، قال: فقال: أيُّكم ابنُ عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب" قال: يا ابنَ عبد المطلب،. . . وساق الحديث.
• حديث ضعيف.
أخرجه من طريق سلمة بن الفضل الأبرش الرازي:
الدارمي (1/ 172/ 652)، وابن شبة في أخبار المدينة (902)، وابن جرير الطبري في التاريخ (2/ 192 - 193)، والطبراني في الكبير (8/ 305/ 8149)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 276)، والمزي في التهذيب (26/ 595).
ولفظه بتمامه عند الطبراني من نفس طريق أبي داود، عن محمد بن عمرو بن بكر الرازي، أبي غسان، زنيج [ثقة]، عن سلمة به، قال: بعثت بنو سعد بن بكرٍ ضمامَ بنَ ثعلبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه، فأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجد، وكان ضمام رجلًا جلدًا أشعرَ ذا غديرتين، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: أيُّكم بُني عبد المطلب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب" قال: محمد؟ قال: "نعم" قال: يا ابن عبد المطلب! إني سائلُك ومغلظٌ في المسألة؟ فلا تجدنَ في نفسك. فقال: "لا أجد في نفسي، فَسَلْ عمَّا بدا لك" فقال: أنشُدُك بالله! إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن
تأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئًا، وأن نخلعَ هذه الأنداد التي كانت يعبد آباؤنا من دونه؟ قال:"اللهم نعم" قال: فأنشُدُك بالله! إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ فقال:"اللهم نعم"، ثم جعل يذكر فرائض الإسلام، فريضةً فريضةً: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها، يناشده عند كل فريضة، كما ناشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، لا أزيد عليه، ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن صدق ذو الغديرتين دخل الجنة".
زاد محمد بن حميد الرازي [حافظ ضعيف، كثير المناكير] عن سلمة الأبرش [عند الدارمي وابن شبة والطبري] بعد ذلك قوله: فأتى إلى بعيره، فأطلق عقاله، ثم خرج، حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام! اتقِ البرصَ، واتقِ الجنونَ، واتقِ الجذامَ، قال: ويلكم! إنهما والله! لا تضران ولا تنفعان، إن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا، استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. قال: فوالله! ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجلٌ ولا امرأةٌ إلا مسلمًا، قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
• وهذه الزيادة: محفوظة من حديث ابن إسحاق، فلم ينفرد بها محمد بن حميد الرازي عن سلمة الأبرش عن ابن إسحاق، فقد تابعه عليها: إبراهيم بن سعد، وزياد بن عبد الله البكائي، ويونس بن بكير، وحفص بن عبد الرحمن بن عمر البلخي النيسابوري قاضيها:
رواه أربعتهم [وهم من ثقات أصحاب ابن إسحاق، لا سيما إبراهيم بن سعد الزهري المدني]، عن محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب مولى عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة. . . فذكروا الحديث بتمامه مع الزيادة، إلا إنهم لم يذكروا في الإسناد: سلمة بن كهيل مقرونًا بابن نويفع.
أخرجه الحاكم (3/ 54)، وأحمد (1/ 250 و 264 و 265)، وابن هشام في السيرة النبوية (5/ 267)، والبزار (11/ 384 و 385/ 5218 و 5219)، والبيهقي في الدلائل (5/ 374)، وابن عبد البر في التمهيد (16/ 186)، وابن بشكوال في الغوامض (1/ 57)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 119/ 1214)، وفي المنتظم (3/ 216)، والسبكي في طبقات الشافعية (1/ 83 - 84).
والذي يظهر لي -والله أعلم- أن إقران سلمة بن كهيل في هذا الإسناد مع محمد بن الوليد بن نويفع: إنما هو وهمٌ من سلمة بن الفضل الأبرش الرازي، فهو وإن كان صدوقًا؛
إلا أنه يخطئ ويخالف، وضعفه بعضهم مطلقًا [انظر: التهذيب (2/ 76)، الميزان (2/ 192)]، ولم يذكر هذه الزيادة في الإسناد: من هو أحفظ وأروى منه لحديث ابن إسحاق ومغازيه، مثل إبراهيم بن سعد، وزياد البكائي، وغيرهما.
قال الحاكم: "وقد اتفق الشيخان على إخراج ورود ضمام المدينة، ولم يسق واحد منهما الحديث بطوله، وهذا صحيح".
وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يُروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".
قال ابن القيم في الزاد (3/ 648) بعد هذا الحديث: "وذكر الحج في هذه القصة يدل على أن قدوم ضمام كان بعد فرض الحج، وهذا بعيدٌ، فالظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة، والله أعلم".
قلت: محمد بن الوليد بن نويفع، مولى الزبير بن العوام القرشي، وأمه مولاة رافع بن خديج: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني:"يعتبر به"، وقال الذهبي:"فيه كلام،. . .، ما حدث عنه سوى ابن إسحاق، له حديث عن كريب، في إسلام ضمام بن ثعلبة"[انظر: التاريخ الكبير (1/ 254)، الجرح والتعديل (8/ 111)، الثقات (7/ 420 و 428)، سؤالات البرقاني (462)، الميزان (4/ 60)، التهذيب (3/ 724)].
وعليه: فهو في عداد المجاهيل، وهو قليل الرواية جدًّا، ما له سوى ثلاثة أحاديث بهذا الإسناد.
• ووجدت له متابعًا:
يرويه أحمد بن حفص: حدثني أبي: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن سفيان بن سعيد الثوري، عن موسى بن المسيب أبي جعفر، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاء رجل من بني سعد بن بكرٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترضعًا فيهم، فقال: يا بُني عبد المطلب! قال: "قد أجبتك" قال: أنا وافد قومي ورسولهم، وأنا سائلك ومشتدة مسألتي إياك، وناشدك فمشتد إنشادي إياك، فلا تجدنَّ عليَّ، قال:"نعم" قال: أخبرني من خلق السماوات والأرض والجنة والنار؟ قال: "الله عز وجل" قال: نشدتك به! أهو أرسلك بما أتانا كتابك وأتتنا رسلك: أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن ندع اللات والعزى؟ قال:"نعم" قال: نشدتك به! أهو أمرك؟ قال: "نعم" قال: أتانا كتابك وأتتنا رسلك: أن نصلي في كل يوم وليلة خمس صلوات، نشدتك به! أهو أمرك؟ قال:"نعم" قال: أتانا كتابك وأتتنا رسلك: أن نصوم في كل سنة شهرًا، نشدتك أهو أمرك؟ قال:"نعم" قال: أتانا كتابك وأتتنا رسلك: أن نحج إليه في ذي الحجة، نشدتك أهو أمرك؟ قال:"نعم" قال: هؤلاء خمس، ولست أزيد عليهن، فلما قفا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إنه إن فعل الذي قال دخل الجنة".
أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 306/ 8150)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (2/ 198/ 329).
وأخرجه ابن طهمان في مشيخته (123).
قال اللالكائي: "إسناد صحيح جيد غريب".
قلت: هو إسناد غريب، رجاله ثقات؛ عدا موسى بن المسيب الثقفي، أبو جعفر الكوفي البزاز: فإنه صالح الحديث. وأحمد بن حفص، هو: ابن عبد الله بن راشد السلمي النيسابوري.
وهو غريب من حديث الثوري، تفرد به عنه ابن طهمان، وهو ممن يغرب عن الثقات.
• لكن روى محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب وموسى بن السائب أبي جعفر الفراء، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، قال: جاء أعرابي من بني سعد بن بكرٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا غلام بني عبد المطلب. . . فذكره بمعنى ما تقدم، مطولًا، وذكر فيه المناشدة على الرسالة والصلاة والصيام والزكاة والحج، ومنهم من اختصره، وقد أتى فيه بلفظ منكر، قال:"أن نأخذ من حواشي أموالنا فنردها على فقرائنا" قال البيهقي: "هذه اللفظة إن كانت محفوظة؟ دلت على جواز تفريق رب المال زكاة ماله بنفسه، وحديث أنس رضي الله عنه في هذه القصة: "آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها في فقرائنا": إسناده أصح، والله أعلم".
أخرجه الدارمي (1/ 172/ 651)، وابن خزيمة (4/ 76/ 2383)، وابن أبي شيبة (3/ 331/ 14695) و (6/ 158/ 30317)، والطبراني في الكبير (8/ 306 و 307/ 8151 و 8152)، وفي الأوسط (3/ 132/ 2707)، وأبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (2/ 685 - 686)، والبيهقي (7/ 4)، وابن عبد البر في التمهيد (16/ 171).
عطاء بن السائب: كان قد اختلط، وسماع محمد بن فضيل منه بعد الاختلاط، وفيما رواه ابن فضيل عنه غلط واضطراب [انظر: التهذيب (3/ 104)، شرح العلل (2/ 736)، الكواكب النيرات (39)].
وممن رواه عن عطاء أيضًا:
• عبد العزيز بن عبد الصمد العمي [بصري، ثقة حافظ، لكنه سمع من عطاء بعد الاختلاط. الكواكب] رواه عن عطاء بن السائب، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل من أهل الشام، قال: إن أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا غلام بني عبد المطلب. . . فذكره.
أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (1/ 369/ 773).
• هانئ بن يحيى [صدوق يخطئ، من طبقة من سمع من عطاء بعد الاختلاط. انظر: الجرح والتعديل (9/ 103)، الثقات (9/ 247)، اللسان (8/ 321)]، قال: نا عطاء بن
السائب، قال: حدثني سالم بن أبي الجعد، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلًا من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا غلام بني عبد المطلب. . . .
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (8/ 233).
وعليه: فإن رواية عطاء بن السائب هذه: ضعيفة، مضطربة، لا يعوَّل عليها.
وأما رواية ابن فضيل عن موسى بن المسيب، أو: ابن السائب، أبي جعفر، فهي أولى بالصواب من رواية الثوري -والله أعلم-؛ لأن رواية الثوري: غريبة عنه، ورواية ابن فضيل: مشهورة عنه، قد انتشرت، وحملها عنه جمع من الثقات المشاهير، مثل ابن أبي شيبة، وابن نمير، وأحمد بن عمر بن حفص الوكيعي، ومحمد بن أبان بن وزير البلخي، ويوسف بن موسى بن راشد القطان، وغيرهم، بخلاف رواية الثوري فالنفس لا تطمئن لثبوتها عنه؛ لغرابتها، وأصحاب الثوري الثقات الذين حملوا عنه الحديث أكثر وأشهر بكثير من أصحاب ابن فضيل، كما أن الثوري إمامٌ كبير القدر في الحديث والفقه والعلم والسنة والزهد والورع، كان إمامًا من أئمة المسلمين وعلمًا من أعلام الدين، مع إتقانه وحفظه وضبطه المنقطع النظير، بخلاف ابن فضيل، فهو وإن كان صدوقًا من أهل العلم؛ إلا أنه كان شيعيًا غاليًا في التشيع، فكيف تنتشر رواية ابن فضيل دون رواية الثوري!
• وقد خولف موسى بن المسيب في وصل هذا الحديث:
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الأموال"(568): حدثنا هشيم: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، قال: جاء رجل من بني سعد بن بكرٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هشيم: أما حصين فلم يسمه، وأما غيره فقال: ضمام بن ثعلبة- فقال: يا غلام بني هاشم! إني وافد قومي وسيدهم، إني سائلك وناشدك، فمشتدة نشدتي، فلا تجدنَّ عليَّ، بالله الذي خلقك وخلق من قبلك ويخلق من بعدك! فإنه جاءتنا كتبك وجاءتنا رسلك بأن نعبد الله وحده، ونذر عبادة اللات والعزى، أهو الذي أمرك بذلك؟ قال:"نعم" قال: وجاءتنا كتبك وجاءتنا رسلك بأن نصلي في كل يوم خمس صلوات، أهو أمرك بذلك؟ قال:"نعم" قال: وجاءتنا كتبك وجاءتنا رسلك بأن نصوم شهر رمضان، أهو أمرك بذلك؟ قال:"نعم" قال: وجاءتنا كتبك وجاءتنا رسلك أن يُؤخَذ من حواشي أموال أغنيائنا فيُرَدَّ على فقرائنا، أهو أمرك بذلك؟ قال:"نعم" ثم قال: فأما تلك الهنات -يعني: الحواشي [يريد: الفواحش]- فلسنا سائليك عنها، ولا قاربيها، ثم انطلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن يصدق يدخل الجنة".
وهذا مرسل بإسناد صحيح.
هكذا قال حصين بن عبد الرحمن: عن سالم: مرسلًا، وهو: الصواب؛ فإن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي: ثقة ثبت حجة، وهشيم ممن سمع منه قبل التغير، وهو أعلم الناس بحديثه، وحصين: أعلم وأكثر رواية لحديث سالم بن أبي الجعد من موسى بن المسيب، وأحفظ منه وأضبط، وروايته عن سالم في الصحيح.
• وعلى هذا: فلم يتابع محمد بن الوليد بن نويفع [وهو: مجهول]، على روايته عن كريب، وسالم بن أبي الجعد ممن يروي عن كريب عن ابن عباس، وروايته بهذا الإسناد في الصحيح [انظر: البخاري (141) وأطرافه، مسلم (1434)]، فلو كان هذا الحديث عند كريب عن ابن عباس؛ لحمله عنه أصحابه الثقات، مثل سالم بن أبي الجعد، ولما أرسله سالم، والله أعلم.
• وله إسناد آخر عن كريب، لكنه لا يسوي فلسًا:
قال ابن سعد في الطبقات (1/ 299): أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بعثت بنو سعد بن بكبر في رجب سنة خمسٍ ضمامَ بن ثعلبة، وكان جلدًا أشعر ذا غديرتين، وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فأغلظ في المسألة، سأله عمن أرسله، وبما أرسله، وسأله عن شرائع الإسلام، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، فرجع إلى قومه مسلمًا قد خلع الأنداد، وأخبرهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجلٌ ولا امرأة إلا مسلمًا، وبنوا المساجد، وأذنوا بالصلوات.
وهذا منكر بهذا الإسناد، والمعروف عن شريك في هذا هو: ما رواه سعيد المقبري، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك به، وتقدم.
وأما هذا الإسناد والمتن فهو ساقط، ابن أبي سبرة: في عداد من يضع الحديث، ومحمد بن عمر، هو: الواقدي: متروك.
وبهذا تسقط حجة من قال بأن ضمام بن ثعلبة قدم سنة خمس، وانظر: أضواء البيان (4/ 339)، الإصابة (3/ 487).
• وفي نهاية الكلام عن حديث ضمام يحسن ذكر شيء من فوائده:
1 -
قال الإمام البخاري في صحيحه قبل حديث ضمام: "واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام بن ثعلبة، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: آلله أمرك أن نصلي الصلوات؟ قال: "نعم". قال: فهذه قراءةٌ على النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر ضمامٌ قومه بذلك فأجازوه".
وقال الترمذي: "سمعت محمد بن إسماعيل، يقول: قال بعض أهل العلم: فقه هذا الحديث: أن القراءة على العالم والعرض عليه جائزٌ مثل السماع، واحتجَّ بأن الأعرابي عرض على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأقر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم".
وقال الحاكم في المعرفة (258): "احتج شيخ الصنعة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في كتاب العلم من الجامع الصحيح بهذا الحديث في باب العرض على المحدث".
وقال الخطيب في الكفاية: "وقال جمهور الفقهاء والكافة من أئمة العلم بالأثر: إن القراءة على المحدث بمنزلة السماع منه في الحكم".
2 -
قال الطحاوي في المشكل مستدلًا بهذا الحديث: "مما يدل على أن الرجل إذا قال: أحدثك فلان بكذا؟ فقال: نعم، أنه يكون بذلك في حكم المبتدئ به الناطق بجميعه".
3 -
قال الحاكم في علوم الحديث (5): "وفي طلب الإسناد العالي سنة صحيحة"، وقال أيضًا:"وفيه دليل على إجازة طلب المرء العلو من الإسناد، وترك الاقتصار على النزول فيه؛ وإن كان سماعه عن الثقة؛ إذ البدوي لما جاءه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فرض الله عليهم، لم يقنعه ذلك حتى رحل بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع منه ما بلَّغه الرسول عنه، ولو كان طلب العلو في الإسناد غير مستحب لأنكر عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم سؤاله إياه عما أخبره رسوله عنه، ولأمره بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه".
4 -
قال أبو بكر بن خزيمة: "في هذا الخبر دلالة على أن الصدقة المفروضة غير جائز دفعها إلى غير المسلمين، وإن كانوا فقراء أو مساكين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمَ أن الله أمره أن يأخذ الصدقة من أغنياء المسلمين ويقسمها على فقرائهم؛ لا على فقراء غيرهم".
5 -
فيه دليل على حسن تصرف ضمام وتمكن عقله؛ حيث رتب قبول الشرائع على صحة الرسالة وصدق الرسول، وغير ذلك.
6 -
فيه دليل على عدم حاجة المكلف إلى دليل إثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى بالبرهان العقلي والقياس المنطقي المعروف عند المتكلمين والفلاسفة بطريقة الوجوب والإمكان والجوهر والعرض؛ إذ لم يحتج لذلك ضمام مع شدة استفصاله واستثباته للرسالة والشرائع، فدل ذلك على أن الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى فطري ضروري، دلت مخلوقاته وأفعاله سبحانه وتعالى على تفرده بالخلق والإيجاد، ومن ثَمَّ استحقاقه وحده لأن يعبد دون ما سواه.
***
488 -
. . . عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري: ثنا رجل من مزينة، ونحن عند سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: اليهودُ أَتَوُا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم! -في رجلٍ وامرأةٍ زَنَيا منهم-.
• حديث ضعيف، وقصة رجم اليهوديين اللذين زنيا: صحيحة ثابتة، في الصحيحين وغيرهما، بدون هذا السياق.
أعاده أبو داود بنفس إسناده في (37) كتاب الحدود، (25) باب في رجم اليهوديين، برقم (4450) وساق لفظه بتمامه، قال أبو هريرة: زنى رجلٌ من اليهود وامرأةٌ، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبيِّ؛ فإنه نبيٌّ بُعِثَ بالتخفيف، فإن أفتانا بِفُتيا دون الرجم قبِلْناها، واحتججنا بها عند الله، قلنا: فتيا نبيٍّ من أنبيائك، قال: فأَتَوُا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم! ما ترى في رجلٍ وامرأةٍ زنيا؟
فلم يُكَلِّمْهم كلمةً حتى أتى بيت مِدْرَاسِهِم، فقام على الباب، فقال:"أنشُدُكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى! ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أَحصَن؟ " قالوا: يُحَمَّمُ ويُجَبَّهُ ويجلد، والتَّجْبِيهُ: أن يحمل الزانيان على حمارٍ، وتُقابل أقفِيَتُهما، ويطاف بهما، قال: وسكت شابٌّ منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألَظَّ به النِّشدةَ، فقال: اللهم إذ نشدتنا؟ فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فما أولُ ما ارْتَخَصْتُم أمرَ الله؟ " قال: زنى ذو قرابةٍ من ملكٍ من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم، ثم زنى رجلٌ في أسرةٍ من الناس، فأراد رجمه، فحال قومُه دونه، وقالوا: لا يُرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرُجِما.
قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
وأعاده بنفس إسناده مختصرًا في (23) كتاب الأقضية، (27) باب كيف يحلف الذمي، برقم (3624)، مقتصرًا منه على قوله صلى الله عليه وسلم لليهود:"أنشُدُكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى! ما تجدون في التوراة على من زنى؟ ".
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 182 و 316/ 12694 و 13330)، وفي التفسير (1/ 189)، وعنه أو من طريقه، مطولًا ومختصرًا:
أحمد (2/ 279 - 280)[في سنده سقط، وانظر: الإتحاف (16/ 1/ 311/ 20837)]. وابن جرير الطبري في تفسيره (4/ 589/ 12013)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1138/ 6401)، والبيهقي (2/ 444)، والواحدي في أسباب النزول (222).
• ورواه عبد الله بن المبارك قال: حدثنا معمر، عن الزهري، قال: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب، وعند سعيدٍ رجلٌ وهو يوقِّره، فإذا هو رجلٌ من مزينة، وكان أبوه شهد الحديبية، وكان من أصحاب أبي هريرة، قال: قال أبو هريرة: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء نفرٌ من يهود، وقد زنا رجل منهم وامرأةٌ، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبيِّ؛ فإنه نبيٌّ بعث بالتخفيف، فإن أفتانا حدًّا دون الرجم فعلناه، واحتججنا عند الله حين نلقاه بتصديق نبيٍّ من أنبيائك، قال مرة عن الزهري: وإن أمرنا بالرجم عصيناه؛ فقد عصينا الله فيما كتب علينا من الرجم في التوراة -فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم! ما ترى في رجل منا زنا بعد ما أحصن؟ فقام رسول الله ولم يرجع إليهم شيئًا، وقام معه رجلانِ من المسلمين حتى [أتى] بيتَ مِدراس اليهود، فوجدهم يتدارسون التوراة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر اليهود! أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى! ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنا إذا أحصن؟ " قالوا: نجبِّه، -والتجبيه أن يحملوا اثنين على حمارٍ، فيولوا ظهر أحدهما ظهر الآخر-، قال: فسكت حبرُهم، وهو فتًى شاب، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتًا ألظَّ
النِّشدة، فقال حبرهم: أما إذا نشدتهم؛ فإنا نجد في التوراة الرجم على من أحصن، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فما أول ما ترخصتم به أمر الله؟ " فقال: زنا رجلٌ منا ذو قرابة بملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم، فزنا بعده آخر في أسرةٍ من الناس، فأراد ذلك الملك أن يرجمه، فقام قومه دونه، فقالوا: لا والله! لا ترجمه حتى ترجم فلانًا -ابن عمه-، فاصطلحوا بينهم على هذه العقوبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإني أحكم بما في التوراة" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرجما.
قال الزهري: وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44].
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (4/ 573/ 11928)، والبيهقي في الدلائل (6/ 269) بإسنادين صحيحين إلى ابن المبارك.
• تابع معمرًا على روايته عن الزهري:
يونس بن يزيد الأيلي، وعُقيل بن خالد، ومحمد بن إسحاق [وصرح بسماعه من الزهري]: رووه عن الزهري به، قال يونس وعقيل في روايتهما: أن ابن شهاب سمع رجلًا من مزينة ممَّن يتبع العلمَ وَيعِيَه.
ذكروه بدون موضع الشاهد؛ فلم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسًا في المسجد، وإنما ذكروا مجيء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجردًا عن ذكر الموضع الذي جاؤوه فيه.
ورواية يونس وعقيل هي بنحو رواية معمر، لكن ابن إسحاق زاد فيه بعض الزيادات التي أخذها عن بني إسرائيل فأدرجها في حديث ابن شهاب.
ولفظ حديث ابن إسحاق بتمامه:
أن أبا هريرة حدثهم: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأةٍ من يهود قد أحصنت، فقالوا: انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد؛ فاسألوه كيف الحكم فيهما، فولوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه -وهو الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار، ثم تُسوَّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتحول وجوههما من قبل دُبُر الحمار- فاتبعوه فإنما هو ملك، وإن هو حكم فيهما بالرجم [وفي رواية: فإنه نبي]؛ فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه.
فأتوه فقالوا: يا محمد! هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأةٍ قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدراس، فقال:"يا معشر اليهود! أَخرِجوا إليَّ أعلمَكم" فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور.
وقد روى بعض بني قريظة [وفي رواية: وقد حدثني بعض بني قريظة]: أنهم أخرجوا إليه يومئذٍ مع ابن صوريا: أبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا،
فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصَّل أمرهم؛ إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة. فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلامًا شابًا من أحدثهم سنًا، فألظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، يقول:"يا ابن صوريا! أنشُدُك الله! وأذكرك أياديه [وفي رواية: بأيامه، عند بني إسرائيل، هل نعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ "، فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم! إنهم ليعلمون أنك نبيٌ مرسلٌ، ولكنهم يحسدونك.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده في بني غنم بن مالك بن النجار.
ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا [زاد في الرواية الأخرى: وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم]، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41].
أخرج رواية الثلاثة عن الزهري: أبو داود (3625 و 4450 و 4451)، وابن هشام في السيرة (3/ 102)، وابن جرير الطبري في تفسيره (4/ 572 و 573 و 577/ 11926 و 11929 و 11936)، والبيهقي في السنن (8/ 246 و 247) و (10/ 180)، وفي الدلائل (6/ 270)، وابن عبد البر في التمهيد (14/ 398 و 399 و 400 - 401)، وابن بشكوال في الغوامض (2/ 728 - 729).
• والحاصل: فإن هذا الإسناد ضعيف؛ لجهالة عين راويه المزني المبهم، قال المنذري:"رجل من مزينة: مجهول".
قلت: إلا أن يكون: سليمان بن سنان المصري المزني [وثقه العجلي وابن حبان، وروى عنه اثنان]، فإنه يروي عن أبي هريرة، لكن يعكر عليه أنه لا يعرف للزهري عنه رواية، والزهري من حفاظ الخلق لو كان يعرفه لصاح به، والله أعلم.
• وقصة رجم اليهوديين اللذين زنيا: صحيحة ثابتة، قد رواها عدد من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، رواها:
1 -
ابن عمر: عند البخاري (1329 وأطرافه)، ومسلم (1699)، ويأتي عند أبي داود برقم (4446).
2 -
البراء بن عازب: عند مسلم (1700)، ويأتي عند أبي داود برقم (4447 و 4448).
3 -
جابر بن عبد الله: عند مسلم (1701)، ويأتي عند أبي داود برقم (4452 و 4455).
وغيرهم، ولم أقف في رواية أحد منهم أن اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد، أو أنه صلى الله عليه وسلم كان جالسًا في المسجد حين أتاه اليهود يحكِّمونه في شأن هذين اليهوديين؟ إلا ما جاء في رواية معمر من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، ولم يتابع عليها معمر ممن رواه عن الزهري، والله أعلم.
• وأصح وأصرح ما جاء في دخول المشرك المسجد ومكثه فيه:
حديث ثمامة بن أَثال:
رواه الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة، يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أَثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي يا محمد! خيرٌ، إن تقتلْ تقتلْ ذا دَمٍ، وإن تنعمْ تنعمْ على شاكرٍ، وإن كنتَ تريدُ المالَ، فسلْ تعطَ منه ما شئتَ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان بعد الغد، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال، غسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعمْ تنعمْ على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال، فسلْ تعطَ منه ما شئتَ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد! والله! ما كان على الأرض وجهٌ أبغضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحبَّ الوجوه كلِّها إليَّ، والله! ما كان من دينٍ أبغضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينُك أحبَّ الدين كلِّه إليَّ، والله! ما كان من بلدٍ أبغضَ إليَّ من بلدك، فأصبح بلدُك أحبّ البلاد كلِّها إليّ، وإن خيلَك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة، قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله! لا يأتيكم من اليمامةِ حبةُ حنطةٍ حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
متفق عليه، واللفظ مسلم، وقد تقدم تخريجه تحت الحديث رقم (356)، ويأتي عند أبي داود برقم (2679).
وقد ترجم له البخاري بقوله: "باب دخول المشرك المسجد".
• وفي الباب أحاديث أخرى، لا يصح منها شيء، منها:
1 -
حديث عثمان بن أبي العاص: أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد؛ ليكون أرقَّ لقلوبهم، فاشترطوا عليه: أن لا يُحشَروا، ولا يُعشَروا، ولا يُجَبُّوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لكم أن لا تحشروا، ولا تعشروا، ولا خيرَ في دينٍ ليس فيه ركوع".
أخرجه أبو داود (3026)، ابن خزيمة (2/ 285/ 1328)، وابن الجارود (373)، وأحمد (4/ 218)، والطيالسي (2/ 249/ 981)، وابن أبي شيبة (2/ 416/ 10579)، وابن شبة في أخبار المدينة (883)، وأبو إسحاق الحربي في غريب الحديث (1/ 152 - 153)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 186/ 1520)، والطبراني في الكبير (9/ 54/ 8372)، والبيهقي في السنن (2/ 444 و 445)، وفي الدلائل (5/ 305).