المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌12 - باب في بناء المساجد - فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود - جـ ٥

[ياسر فتحي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌12 - باب في بناء المساجد

تكلم في زمن هذه الواقعة: التمهيد (3/ 161)، زاد المعاد (3/ 357)، البداية والنهاية (4/ 213).

• وفي الجمع بين أحاديث الباب يقول أبو بكر الأثرم في ناسخ الحديث ومنسوخه (1): "فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وليست كذلك، ولكن الوجه في ذلك:

أن منها خاص، ومنها عام:

فأما العام: فالذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فليصل إذا ذكر وإذا استيقظ، لا كفارة لها إلا ذلك"، ولم يقل: فليرتحل، ثم ليصل، ولم يرخص في التأخير بعد الذكر، فهذا هو الذي أمر به، وعلَّمه أمته، فهو العام المعمول به.

وأما الخاص: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ارتحل لعلة قد فسرها، قال:"إن هذا وادٍ به شيطان؛ فارتحلوا منه"، وهذا شيء لا يعلمه إلا نبي، فهو خاص".

***

‌12 - باب في بناء المساجد

448 -

قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصبَّاح بن سفيان: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد".

قال ابن عباس: لتُزَخْرِفُنَّها؛ كما زخرفت اليهود والنصارى.

• حديث مرسل بإسناد صحيح، وقول بن عباس: موقوف عليه بإسناد صحيح.

أخرجه من طريق أبي داود:

ابن حزم في المحلى (4/ 44 و 247 - 248)، والبيهقي (2/ 438)، والبغوي في شرح السنة (2/ 111/ 464).

وأخرجه من طريق محمد بن الصباح:

ابن حبان (4/ 493 / 1615)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 313)، وابن حجر في التغليق (2/ 239).

قال النووي في الخلاصة (878): "رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم".

وقال ابن حجر في التغليق (2/ 240): "وأبو فزارة: وثقه ابن معين والدارقطني، وقال أبو حاتم: صالح، وروى له مسلم من روايته عن يزيد بن الأصم؛ فالحديث على شرطه؛ لكنه معلول".

وقال ابن حبان: "أبو فزارة، راشد بن كيسان: من ثقات الكوفيين وأثباتهم".

وقال أبو نعيم: "لم يوصله إلا محمد بن الصباح، ورواه عبد الجبار وغيره فوقفه على يزيد".

ص: 352

قلت: محمد بن الصباح، وعبد الجبار بن العلاء: صدوقان، متقاربان، إلا أنَّ عبدَ الجبار أرفعُ حالًا، فقد قال ابن معين في ابن الصباح الجرجرائي:"حدث بحديث منكر"[تاريخ الدوري (4/ 385/ 4906)، التهذيب (3/ 593)، المغني (2/ 593)]، كما أن عبد الجبار هو الأشهر بالرواية عن ابن عيينة، وهذا مما يرجح رواية عبد الجبار؛ لا سيما وقد توبع عليها، كما قال أبو نعيم.

• وممن روى هذا الحديث موصولًا أيضًا عن الثوري:

أ- يحيى بن سعيد الأموي [ليس به بأس، صاحب غرائب. انظر: التهذيب (4/ 356)، الميزان (4/ 380)] قال: ثنا سفيان الثوري، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أومر بتشييد المساجد".

أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 188/ 13003)، ومن طريقه: ابن حجر في التغليق (2/ 238).

قال الطبراني: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل: ثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: ثنا أبي، به.

وهذا إسناد صحيح إلى يحيى بن سعيد.

ب- علي بن قادم [صدوق، ضعفه ابن معين، روى عن الثوري: أحاديث غير محفوظة. التهذيب (3/ 188)، الميزان (3/ 150)]: ثنا سفيان الثوري، به.

أخرجه البيهقي (2/ 438)، وقرن إسناده بإسناد محمد بن الصباح عن ابن عيينة.

لكن قال ابن حجر في التغليق (2/ 239) بأن علي بن قادم رواه عن الثوري فأرسل الجملة الأولى عن يزيد بن الأصم، ووقف الثانية عن ابن عباس، فالله أعلم.

• خالف هؤلاء فأرسله عن الثوري:

أ- عبد الرحمن بن مهدي [واختلف عليه، ورواية الإرسال عنه أرجح، والله أعلم]، ووكيع بن الجراح [وهما من أثبت أصحاب الثوري]، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني [ثقة حافظ، من أصحاب الثوري]: رواه ثلاثتهم عن الثوري به، فأرسلوا الجملة الأولى عن يزيد بن الأصم، لم يذكروا ابن عباس، ووقفوا الثانية عن ابن عباس.

أخرجه أحمد في الورع [عزاه إليه ابن حجر في التغليق (2/ 239)]. وعبد الرزاق (3/ 152/ 5127)، وابن أبي شيبة (1/ 47/ 31274)، وابن حجر في التغليق (2/ 238 - 239)، وذكره ابن رجب في الفتح (2/ 473).

وهذه الرواية هي المحفوظة عن الثوري، والله أعلم.

• وهم فيه على الثوري: عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي [لا بأس به، وكان يدلس]: قال الطبراني في الكبير (12/ 188/ 13002): حدثنا محمد بن موسى بن حماد البربري: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن سفيان الثوري، عن ليث، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس -رفعه- قال:"لم أومر بتشييد المساجد".

ص: 353

قلت: ويحتمل أن يكون الوهم -بزيادة ليث بن أبي سليم- من قبل شيخ الطبراني، فقد قال فيه الدارقطني:"ليس بالقوي"[انظر: سؤالات الحاكم (152)، تاريخ بغداد (3/ 243)، الأنساب (2/ 131)، السير (14/ 91)، الميزان (4/ 51)، اللسان (7/ 537)].

• والحديث معروف عن ليث: فقد رواه عنه: معتمر بن سليمان، ومحمد بن فضيل، وأبو حمزة السكري محمد بن ميمون [وهم: ثقات، رووه عن ليث، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أؤمر بتشييد المساجد".

قال: وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى.

أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 274/ 3152) بشقه الثاني فقط. وأبو يعلى (4/ 340/ 2454) و (5/ 86 و 87/ 2688 و 2689)، والطبراني في الكبير (2/ 188/ 13001).

وليث بن أبي سليمٍ: ضعيف؛ لاختلاطه وعدم تميز حديثه.

• وممن رواه أيضًا من الضعفاء:

صباح بن يحيى المزني، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أومر بتشييد المساجد".

أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 188/ 13000).

وهذا لا يصلح في المتابعات؛ فإن صباح بن يحيى المزني هذا: متروك؛ بل متهم [التاريخ الكبير (4/ 314)، الجرح والتعديل (4/ 442)، ضعفاء العقيلي (2/ 212)، المجروحين (1/ 377)، الكامل (4/ 84)، الميزان (2/ 306)، اللسان (4/ 303)].

• وعليه؛ فإن حديث: "ما أمرت بتشييد المساجد": مرسل بإسناد صحيح، ويزيد بن الأصم: تابعي ثقة، وقول ابن عباس:"لتُزَخْرِفُنَّها؛ كما زخرفت اليهود والنصارى": موقوف عليه بإسناد صحيح.

• وقد رواه بعضهم مرفوعًا: قال ابن ماجه في السنن (740): حدثنا جُبَارة بن المُغَلِّس: ثنا عبد الكريم بن عبد الرحمن البجلي، عن ليث، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي، كما شرفت اليهود كنائسها، وكما شرفت النصارى بيعها".

قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 94): "هذا إسناد ضعيف؛ فيه ليث، وهو: ابن أبي سليم: ضعيف، وجبارة بن المغلس، وهو: كذاب".

قلت: هو واهٍ، وما كان يتعمد الكذب؛ إنما كان يوضع له الحديث؛ فيحدث به، قال أبو زرعة:"قال لي ابن نمير: ما هو عندي ممن يكذب، قلت: كتبت عنه؟ قال: نعم، قلت: تحدث عنه؟ قال: لا، قلت: ما حاله؟ قال: كان يوضع له الحديث، فيحدث به، وما كان عندي ممن يتعمد الكذب"[التهذيب (1/ 288)، الميزان (1/ 387)، الجرح والتعديل (2/ 550)]. وسيأتي الكلام عن عبد الكريم قريبًا.

ص: 354

وعليه: فالمعروف: موقوف على ابن عباس، ومثل هذا لا يعتبر به.

• وقد علق البخاري قول ابن عباس هذا، بصيغة الجزم، في صحيحه [8 - كتاب الصلاة، 62 - باب بنيان المسجد، قبل الحديث رقم (446)]، فقال:"وقال ابن عباس: لتزخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى"، فلو كان المرسل صحيحًا على شرطه، لأخرجه في هذا الباب، لكونه صريحًا في الدلالة على المقصود، أو لاكتفى بذكره معلقًا، فلما لم يفعل علمنا كونه ضعيفًا عنده، والله أعلم.

قال ابن حجر في الفتح (1/ 540): "وكلام ابن عباس فيه مفصول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، في الكتب المشهورة وغيرها، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع منه؛ للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله".

قلت: كم من حديثٍ أخرجه البخاري في صحيحه مختلفٌ في وصله وإرساله، لكن لما ترجح عند البخاري وصله؛ أودعه في الصحيح، ولكن يقال في مثل هذا: بأنه قد ترجح عنده الإرسال؛ فأعرض عن ذكره، والله أعلم.

• قال البغوي: "والمراد بالتشييد: رفع البناء وتطويله، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، وهي التي طُوِّل بناؤها،

، وقيل: البروج المشيدة: الحصون المجصصة، والشَّيْد: الجِص ....

ثم قال: وقول ابن عباس: لتزخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى، معناه: أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرَّفوا وبدَّلوا أمر دينهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم، وسيصير أمرُكم إلى المراءاة بالمساجد، والمباهاة بتشييدها وتزيينها.

قال أبو الدرداء: إذا حلَّيتم مصاحفكم، وزوَّقتم مساجدكم، فالدَّمار عليكم".

وقال أبو عبيد: "كل شيء رفعته فقد أشدته،

، يقال: أشدت البنيان، فهو مشاد، وشيَّدته فهو مشيَّد؛ إذا رفعته وأطلته" [غريب الحديث (3/ 129)] [وانظر: مقاييس اللغة (3/ 234)، تهذيب اللغة (11/ 270)، العين (6/ 277)، لسان العرب (3/ 244)، تاج العروس (8/ 262)، النهاية (2/ 517)].

• ومما روي في هذا المعنى:

ما رواه: جبارة بن المغلس قال: ثنا عبد الكريم بن عبد الرحمن البجلي الخزاز، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم".

أخرجه ابن ماجه (741)، وأبو يعلى [عزاه إليه البوصيري، ولم أقف عليه في المطبوع من المسند]. وأبو نعيم في الحلية (4/ 152)، والرافعي في التدوين (3/ 29 - 30).

قال أبو نعيم: "غريب من حديث عمرو وأبي إسحاق، تفرد به عنه عبد الكريم".

وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 293): "وفي إسناده ضعف".

وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 94): "هذا إسناد فيه جبارة بن المغلس وقد

ص: 355

اتهم، رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن جبارة بن المغلس به".

وقال ابن حجر في الفتح (1/ 539): "رجاله ثقات إلا شيخه جبارة بن المغلس ففيه مقال".

قلت: هو حديث منكر؛ لتفرد عبد الكريم هذا به عن أبي إسحاق السبيعي، دون أصحابه على كثرتهم، وعبد الكريم هذا: غير مشهور؛ روى عنه جماعة، ولم يوثقه إلا ابن حبان حيث قال في ثقاته (8/ 423):"مستقيم الحديث" هكذا في التهذيب (2/ 602) لم يزد على ذلك، وفاته ما سطَّره هو نفسه في اللسان (5/ 244) في ترجمة عبد الكريم الخزاز الذي قال فيه الأزدي:"واهي الحديث جدًّا" قال ابن حجر: "وهو عبد الكريم بن عبد الرحمن الخزاز، روى أيضًا عن أبي إسحاق السبيعي

" ثم ذكر له حديثًا منكرًا [وهو مخرج في أحاديث الذكر والدعاء برقم (411) (3/ 927)]، فإذا أضيف إلى ترجمته هذا الحديث المنكر أيضًا: دل ذلك على ضعفه، فالقلب أميل إلى قول الأزدي فيه، والله أعلم. وجبارة بن المغلس قد علمت حاله فيما تقدم.

***

449 -

قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس:

وقتادة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد".

• شاذ، والمحفوظ: موقوف بإسناد ضعيف.

أخرجه من طريق الخزاعي:

ابن خزيمة (2/ 282/ 1323)، والضياء في المختارة (6/ 222 و 223/ 2236 و 2237)، وابن الأعرابي في المعجم (3/ 931/ 1968)، والطبراني في الكبير (1/ 259/ 752)، وفي الأوسط (8/ 222/ 8460)، وفي الصغير (2/ 235/ 1087)، وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (414)، والبغوي في شرح السنة (2/ 113/ 465)، وابن حجر في التغليق (2/ 237)، وانظر: الإطراف بأوهام الأطراف (60)، والنكت الظراف (1/ 299 - 300).

قال الطبراني في الأوسط: "لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا حماد، تفرد به محمد بن عبد الله الخزاعي، ورواه الناس: عن حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس فقط".

وقال في الصغير: "لم يروه عن قتادة إلا حماد، تفرد به الخزاعي".

قلت: محمد بن عبد الله بن عثمان الخزاعي، أبو عبد الله البصري: ثقة؛ وثقه ابن المديني، وأبو حاتم [التهذيب (3/ 610)]؛ إلا أنه قد خالف في إسناد هذا الحديث:

ص: 356

جماعةً من الثقات الحفاظ، ممن هم أحفظ منه، وأكثر في العدد، وأعلم بحديث حماد بن سلمة، مثل: عبد الله بن المبارك، وعفان بن مسلم، وأبي سلمة موسى بن إسماعيل، ويونس بن محمد المؤدب، وعبد الصمد بن عبد الوارث، والحسن بن موسى الأشيب، وعبد الله بن معاوية الجمحي.

وتابعهم ممن تُكُلِّم في حفظه: أبو سعيد مولى بني هاشم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد البصري، والمؤمل بن إسماعيل.

رواه تسعتهم: عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد".

لم يذكروا: قتادة عن أنس.

أخرجه النسائي في المجتبى (2/ 32/ 689)، وفي الكبرى (1/ 383/ 770)، وابن ماجه (739)، والدارمي (1/ 383/ 1408)، وابن خزيمة (2/ 281/ 1322)، وابن حبان (4/ 492 و 493/ 1613 و 1614) و (15/ 162/ 6760)، والضياء في المختارة (6/ 222 و 223/ 2235 و 2238)، وأحمد (3/ 134 و 145 و 152 و 230 و 283)، وأبو يعلى (5/ 184 و 185/ 2798 و 2799)، والبيهقي (2/ 439)، والبغوي في شرح السنة (466)، وابن حجر في التغليق (2/ 237 و 238).

وهذا هو الصواب، والله أعلم.

ولفظ النسائي من طريق ابن المبارك: "من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد".

قال النووي في الخلاصة (879): "رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح".

قلت: وهو كما قال، رجاله رجال مسلم، وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان والضياء، وقد اتفق الشيخان على إخراج أحاديث: عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس [انظر: تحفة الأشراف (943 - 958)].

• إلا أني وجدت لهذا الحديث علة:

فقد روى أبو بكر بن أبي شيبة (1/ 274/ 3146)، ومسدد بن مسرهد (3/ 500/ 355 - مطالب):

عن ابن علية، عن أيوب، قال: حدثني رجل، عن أنس بن مالك، قال: كان يقال: ليأتين على الناس زمان يبنون المساجد، يتباهون بها، ولا يعمرونها إلا قليلًا.

لفظ ابن أبي شيبة مختصر، ولفظ مسدد: حدثني رجل أن أنس بن مالك رضي الله عنه مر قبل الطاعون الجارف، فجعل يمر بالمسجد قد أُحدِث، فيسأل عنه، فيقول: هذا مسجد أحدثه بنو فلان.

فقال: كان يقال: يأتي على الناس زمان يبنون المساجد، يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا.

قال أيوب: فجاء الجارف فجرفهم.

ص: 357

هكذا رواه إسماعيل ابن علية، فأبهم الواسطة بين أيوب وأنس، ولم يرفعه.

وابن علية: من أثبت الناس في أيوب، بل قدمه بعضهم في أيوب على حماد بن زيد [انظر: شرح العلل (2/ 700)]، وأما حماد بن سلمة: فقد ذكر مسلم في التمييز (218)(15/ أ) أن حمادًا يخطئ كثيرًا في حديث أيوب، وأن ابن علية أثبت منه فيه.

وعليه: فالمحفوظ: ما رواه ابن علية، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده ضعيف؛ لأجل الرجل المبهم، ولو كان هو أبا قلابة لصاح به ابن علية؛ فإنه أحفظ أهل البصرة، وأثبت الناس في أيوب [على قولٍ]. وأما حماد بن سلمة فقد سلك فيه الجادة والطريق السهل، ومسلم مع كونه يحتج بحماد إلا أنه لم يخرج له شيئًا بهذه السلسلة -أيوب عن أبي قلابة عن أنس-، وأكثر ما احتج به إنما هو في روايته عن ثابت وحميد خاصة، وإن كان يروي له عن غيرهما؛ إلا أن أكثره في المتابعات، والله أعلم.

• قال البخاري في صحيحه [8 - كتاب الصلاة، 62 - باب بنيان المسجد، قبل الحديث رقم (446)]: "وقال أنس: يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا".

هكذا علقه البخاري بصيغة الجزم، موقوفًا على أنس، ولعله أراد بذلك رواية ابن علية المتقدمة.

• وأما ما رواه سعيد بن عامر الضبعي، عن أبي عامر صالح بن رستم الخزاز، قال: قال أبو قلابة الجرمي: غدونا مع أنس بن مالك إلى الزاوية، فحضرت صلاة الصبح، فمررنا بمسجد، فقال أنس: لو صلينا في هذا المسجد! فقال بعض القوم: حتى نأتي المسجد الآخر، فقال أنس: أيُّ مسجد؟ قالوا: مسجد أُحدِث الآن، فقال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد، ولا يعمرونها إلا قليلًا".

أخرجه ابن خزيمة (2/ 281/ 1321)، والضياء في المختارة (6/ 224/ 2239)، والطبراني في الأوسط (7/ 301/ 7559) بدون القصة، وفيه:"يتباهون بكثرة المساجد".

والبغوي في شرح السنة (2/ 113 - 114/ 467)، وابن حجر في التغليق (2/ 236).

قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن أبي عامر الخزاز إلا سعيد بن عامر".

قلت: لم ينفرد به -وهو: صدوق-، بل تابعه عليه: يونس بن بكير [صدوق يخطئ] فرواه عن صالح بن رستم به نحوه.

أخرجه أبو يعلى (5/ 199/ 2817)، ومن طريقه: ابن حجر في التغليق (2/ 236).

ورواية أيوب السختياني -الثقة الحافظ الثبت، الفقيه الإمام-: أولى بالصواب، من رواية أبي عامر الخزاز، من جهتين:

الأولى: أن صالح بن رستم أبا عامر الخزاز: ليس بالقوي، فقد وثقه: أبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، والبزار، وابن حبان، وأبو نعيم، ومشَّاه: أبو حاتم، والعجلي، وابن عدي، وضعفه: ابن معين، وابن المديني، واختلفت الرواية عن أحمد: فقال الأثرم عنه: "صالح الحديث"، وروى المرُّوذي عنه أنه ليَّن أمره، وقال في عباد بن صهيب:

ص: 358

"وكان أمره قريبًا من أبي عامر الخزاز"، وعباد هذا أحد المتروكين، وتوسط فيه الدارقطني فقال:"ليس بالقوي"[انظر: التاريخ الكبير (4/ 280)، الجرح والتعديل (4/ 403)، العلل ومعرفة الرجال (1/ 546/ 1302)، سؤالات المروذي (155)، تاريخ الدوري (4/ 143/ 3608)، سؤالات ابن أبي شيبة (130)، كنى مسلم (1/ 583/ 2379)، معرفة الثقات (748)، مسند البزار (9/ 47/ 3567)، الثقات (6/ 457)، صحيح ابن حبان (3/ 145/ 864)، مشاهير علماء الأمصار (1190)، ضعفاء العقيلي (2/ 203)، الكامل (4/ 72)، تاريخ أسماء الثقات (573)، ذكر من اختلف العلماء فيه (57)، الحلية (3/ 351)، الموضح (2/ 182)، السير (7/ 28)، الميزان (2/ 294)، المغني (1/ 353)، الكاشف (1/ 495)، ذكر من تكلم فيه وهو موثق (163)، هدي الساري (457)، التهذيب (2/ 194) وغيرها].

الثانية: أنه لا يثبت سماع لأبي عامر هذا من أبي قلابة [وانظر: التاريخ الكبير (4/ 280)]، مع قلة روايته عنه جدًّا، ثم إن لفظ أدائه هنا ظاهره الانقطاع؛ لقوله: قال أبو قلابة.

• فإن قيل: إن لهذا الحديث إسناد صحيح كالشمس، على شرط الشيخين، فقد قال الضياء المقدسي في المختارة (7/ 86/ 2492): أخبرنا أبو أحمد عبد الوهاب بن علي بن علي بن عبيد الله الصوفي ببغداد، أن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز أخبرهم: أبنا عبد الصمد بن علي بن المأمون: ثنا علي -هو: ابن عمر الحربي-: أبنا أحمد بن الحسن: ثنا أبو محمد خلف بن سالم: ثنا عمرو بن عاصم: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد".

وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات مشهورون.

قلت: لكنه إسناد غريب، لم أعثر عليه في كتب المتقدمين من المحدثين، فكيف يعرضوا عن مثل هذا لو كان موجودًا عندهم، ولم أره في الفوائد المنتقاة لأبي الحسن علي بن عمر الحربي، فإنه من رواية: عبد الصمد بن علي بن المأمون المذكور في هذا الإسناد، وهذا مما يشكك في ثبوت هذا الحديث، إذ كيف يكون هذا من حديث الحربي، وليس هو في كتابه، مما هو على شرطه فيه؟!

فلا يبعد أن يكون دخل لأحد رواته حديث في حديث؛ بانتقال بصرٍ أو نحوه، والله أعلم.

***

450 -

. . . أبو همام الدلال محمد بن محبَّب: حدثنا سعيد بن السائب، عن محمد بن عبد الله بن عياض، عن عثمان بن أبي العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كان طواغيتهم.

• حديث ضعيف.

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 136) تعليقًا؛ إن لم يكن روى عن أبي همام

ص: 359

الدلال. وابن ماجه (743)، والحاكم (3/ 618)، والبزار (6/ 314/ 2327)، والدولابي في الكنى (3/ 1151 - 1152/ 2005)، والطبراني في الكبير (9/ 49 /8355)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/ 1962/ 4933)، والبيهقي في السنن (2/ 439)، وفي الدلائل (5/ 306)، وابن عبد البر في التمهيد (5/ 228)، والبغوي في شرح السنة (2/ 362/ 476)، والمزي في التهذيب (25/ 529)، والذهبي في السير (15/ 504 - 505).

قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يُروى إلا عن عثمان بن أبي العاص بهذا الإسناد".

قلت: أما هذا الإسناد: فإن رجاله ثقات؛ غير محمد بن عبد الله بن عياض؛ فإنه: مجهول، لا يعرف بغير هذا الإسناد، ولم يذكر سماعًا من عثمان [انظر: التاريخ الكبير (1/ 136)، الجرح والتعديل (7/ 302)، الثقات (5/ 378)، التهذيب (3/ 613)، الميزان (3/ 602) وقال:"لا يعرف"].

وعليه: فالإسناد: ضعيف.

• وقد روي معناه من حديث تميم بن غيلان:

فقد روى ابن قانع في المعجم (1/ 114)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1/ 458/ 1315):

من طريق أحمد بن محمد بن عيسى البرتي: ثنا أبو حذيفة: ثنا محمد بن مسلم الطائفي: ثنا المفضل بن تميم بن غيلان بن سلمة الثقفي، عن أبيه تميم بن غيلان، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة، ورجلًا آخر -إما خالد بن الوليد، أو غيره-، فأمرهم أن يكسروا طاغية ثقيف، فقالوا: يا رسول الله! فأين نجعل مسجدهم؟ قال: "حيث كانت طاغيتهم؛ حتى يعبد الله عز وجل كما [وفي رواية: حبث] كان لا يعبد".

قال ابن منده: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهو مرسل"[إصابة (1/ 376)].

وقال ابن قانع: "الصحيح: تميم بن غزية بن عمرو بن عطية بن خنسا بن مبذول بن عمرو بن مازن بن النجار".

قلت: الظاهر أنه كما في الرواية: تميم بن غيلان بن سلمة الطائفي الثقفي، وهو: تابعي، ليست له صحبة، يروي عن عبد الرحمن بن عوف وأبي الدرداء، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وأخطأ من عده في الصحابة [انظر: التاريخ الكبير (2/ 153)، الجرح والتعديل (2/ 441)، الثقات (4/ 86)، الإنابة (1/ 117/ 108)، الإصابة (1/ 376)، جامع التحصيل (72)، تحفة التحصيل (41)].

وابنه المفضل -أو: الفضل- بن تميم: لا يعرف.

ومحمد بن مسلم الطائفي: صدوق، يخطئ إذا حدث من حفظه، وله غرائب، وقد ضعفه أحمد على كل حال، من كتاب وغير كتاب [انظر: التهذيب (3/ 696)، الميزان (4/ 40)، التقريب (564)].

ص: 360

وأبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي: صدوق سيئ الحفظ، وكان يصحِّف [التقريب (619)].

والبرتي: ثقة حافظ [تاريخ بغداد (5/ 61)، السير (13/ 407)].

فهذا: مرسل بإسناد ضعيف، وهو: غريب؛ لا يصلح مثله في الشواهد؛ وعليه: فالحديث: ضعيف، والله أعلم.

• وفي الباب مما هو صالح للاحتجاج:

حديث طلق بن علي:

فقد روى ملازم بن عمرو قال: حدثني عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي، قال: خرجنا وفدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم[وفي رواية: خرجنا ستةً وفدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسة من بني حنيفة، ورجل من بني ضبيعة بن ربيعة]، فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بِيعَةً لنا، فاستوهبناه من فضل طَهوره، فدعا بماء فتوضأ، وتمضمض، ثم صبَّه في إداوةٍ، وأمرنا فقال:"اخرجوا، فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بِيعَتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخدوها مسجدًا" قلنا: إن البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف، فقال:"مدوه من الماء؛ فإنه لا يزيده إلا طيبًا".

[وفي رواية: فخرجنا فتشاححنا على حمل الإداوة أينا يحملها، فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم نوبًا، لكل رجل منا يومًا وليلةً،، فخرجنا حتى قدمنا بلدنا، فكسرنا بيعتنا، ثم نضحنا مكانها، واتخذناها مسجدًا، فنادينا فيه بالأذان، قال: والراهب رجل من طيئ، فلما سمع الأذان قال: دعوة حق، ثم استقبل تلعة من تلاعنا فلم نره بعد.

أخرجه النسائي في المجتبى (2/ 38/ 701)، وفي الكبرى (1/ 388/ 782)، وابن حبان (3/ 405/ 1123) و (4/ 480/ 1602)، والضياء في المختارة (8/ 162 و 163/ 175 و 176)، وابن سعد في الطبقات (5/ 552)، وابن أبي شيبة (1/ 423/ 4870)، وعمر بن شبة في أخبار المدينة (1/ 317/ 963)، وأبو إسحاق الحربي في غريب الحديث (2/ 807 و 895)، والطبراني في الكبير (8/ 332/ 8241)، وأبو نعيم في الدلائل (47)، والبيهقي في الدلائل (2/ 542 - 543)، وابن عبد البر في التمهيد (5/ 228)، والرافعي في التدوين (2/ 281).

وهذا إسناد حنفي يمامي حسن؛ وقيس قد سمع من أبيه، وهو: حسن الحديث، وقد تقدم الكلام على هذا الإسناد عند الحديث رقم (182).

وهذا الحديث قد احتج به النسائي على جواز اتخاذ البِيَع مساجد، وصححه ابن حبان والضياء.

تنبيه: زاد بعضهم في الإسناد، عند الضياء (175): سراج بن عقبة [وهو: ثقة. الجرح والتعديل (4/ 316)، الثقات (6/ 434)، التعجيل (356)] مقرونًا بعبد الله بن بدر، وهذه الزيادة وهم من الراوي؛ فقد رواه جماعة من الثقات الحفاظ عن ملازم به بدونها، والله أعلم.

ص: 361

• ورواه أحمد (4/ 23) من طريق محمد بن جابر الحنفي اليمامي عن عبد الله بن بدر عن طلق به مختصرًا، ومحمد بن جابر هذا: ضعيف؛ وقد وهم في إسناده ومتنه، والله أعلم.

***

451 -

. . . يعقوب بن إبراهيم: ثنا أبي، عن صالح: ثنا نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره: أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيًّا باللَّبِن والجَرِيد، وعَمَدُه من خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللَّبِن والجَرِيد، وأعاد عَمَلَه خشبًا، وغيَّره عثمان، فزاد فيه زيادةً كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة، وجعل عَمَدَه من حجارة منقوشة، وسقَّفَه بالساج.

قال أبو داود: القَصَّة: الجِصُّ.

• حديث صحيح.

أخرجه البخاري (446) وفيه: "مبنيًّا باللَّبِن، وسقفَه الجَرِيد"، وابن خزيمة (2/ 282/ 1324)، وابن حبان (4/ 478/ 1601)، وأحمد (2/ 130)، والبيهقي في السنن (2/ 438)، وفي الدلائل (2/ 541)، والخطيب في الكفاية (181).

تابع صالحَ بن كيسان: ابنُ سمعان [هو: عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان المخزومي المدني: متروك، متهم] فرواه عن نافع به.

أخرجه عبد الرزاق (3/ 153/ 5129).

• خالفهما: عبد الله بن عمر العمري [ليس بالقوي]، واختلف عليه:

أ- فرواه حماد بن خالد الخياط [ثقة حافظ]، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد من الأسطوانة إلى المقصورة، وزاد عثمان رضي الله عنه، وقال عمر رضي الله عنه: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نبغي نزيد في مسجدنا" ما زدت فيه.

هكذا بإسقاط ابن عمر من الإسناد.

أخرجه أحمد (1/ 47).

ب- ورواه عبد الله بن مسلمة القعنبي [ثقة حجة]، وأبو قتيبة سلم بن قتيبة [صدوق]: كلاهما عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال عمر رضي الله عنه: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني أريد أن أزيد في قبلتكم" ما زدت.

زاد القعنبي: "قال العمري: فزاد ما بين المنبر إلى موضع المقصورة".

أخرجه البزار (1/ 262/ 157)، وأبو يعلى [(3/ 463/ 348 - مطالب)، (225 و 226 - المقصد العلي)، (2/ 11 - مجمع الزوائد)]. وأبو بكر النجاد في مسند عمر (123/ 2).

ص: 362

قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه، ولا نعلم رواه إلا العمري عن نافع".

قلت: لا أُرَى هذا الاختلاف إلا من العمري نفسه؛ فإنه: سيئ الحفظ، وقد زاد في المتن: قوله صلى الله عليه وسلم: "نبغي نزيد في مسجدنا"، وهذا مما يدل على ضعف العمري، والله أعلم.

والمحفوظ: ما رواه صالح بن كيسان: الثقة الثبت.

• قال ابن بطال في شرح البخاري (2/ 97): "وهذه الآثار مع ما ذكر البخاري في هذا الباب: تدل أن السنةَ في بنيان المساجد: القصدُ وتركُ الغلو في تشييدها؛ خشية الفتنة، والمباهاة ببنائها،. . . إلى أن قال: وكان عمر قد فتح الله الدنيا في أيامه، ومكَّنه من المال؛ فلم يغير المسجد عن بنيانه الذي كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء الأمر إلى عثمان والمال في زمانه أكثر؛ فلم يزد أن جعل في مكان اللَّبِن حجارةً وقصةً، وسقَفَه بالساج مكان الجريد، فلم يُقَصِّر هو وعمر عن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علم منهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم بكراهة ذلك، وليُقتدى بهما في الأخذ من الدنيا بالقصد والكفاية، والزهد في معالي أمورها، وإيثار البلغة منها".

• وقال ابن رجب في الفتح (476): "وفيما فعله عمر وعثمان من تخريب المسجد والزيادة فيه: دليل على جواز الزيادة في المساجد، وتخريبها لتوسعتها وإعادة بنائها على وجه أصلح من البناء الأول؛ فإن هذا فعله عمر وعثمان بمشهد من المهاجرين والأنصار وأقروا عليه".

• وهذا أيضًا فيه دليل على أن الزيادة في المسجد لها حكم المزيد فيه في الفضل، فما زيد في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم كله مسجد، والصلاة فيه كلِّه سواء في المضاعفة والفضل، قاله ابن رجب [الفتح (2/ 479)].

***

452 -

قال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن فراس، عن عطية، عن ابن عمر، أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، أعلاه مظلَّلٌ بجريد النخل، ثم إنها نَخِرَت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع النخل وبجريد النخل، ثم إنها نخرت في خلافة عثمان، فبناها بالآجُرِّ، فلم تزَل ثابتةً حتى الآن.

• حديث منكر.

أخرجه من طريق أبي داود: البيهقي في الدلائل (2/ 541).

قال ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 216): "وهذا غريب".

ص: 363

قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ فإن عطية بن سعد العوفي: ضعيف الحفظ [انظر: التهذيب (3/ 114)، الميزان (3/ 79)]؛ وقد خالف في روايته هذه: نافعًا، وهو: أثبت أصحاب ابن عمر، وأكثرهم عنه رواية، وبقية رجاله: ثقات؛ وعليه: فهي رواية منكرة.

***

453 -

. . . عبد الوارث، عن أبي التيَّاح، عن أنس بن مالك، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فنزل في عُلْو المدينة، في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار، فجاؤوا متقلِّدين سيوفهم، فقال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر رِدْفه، ومَلأُ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وأنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى بني النجار، فقال:"يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا" فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل، قال أنس: وكان فيه ما أقول لكم: كانت فيه قبورُ المشركين، وكانت فيه خَرِبٌ، وكان فيه نخلٌ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبِشت، وبالخرب فسُوِّيت، وبالنخل فقُطع، فصفُّوا النخلَ قبلةَ المسجد، وجعلوا عِضادَتَيْه حجارةَ، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، ويقول:

"اللهم لا خيرَ إلا خيرُ الآخرهْ

فانصُرِ الأنصارَ والمهاجرهْ"

• حديث متفق على صحته.

أخرجه البخاري (428 و 1868 و 2106 و 2771 و 2774 و 2779 و 3932)، ومسلم (524) و (1805/ 129)، وأبو عوانة (1/ 331 و 177/ 1332 و 1178) و (4/ 349/ 6933)، وأبو نعيم في المستخرج (2/ 127/ 1159)، والنسائي في المجتبى (2/ 39 - 40/ 702)، وفي الكبرى (1/ 389/ 783)، وابن خزيمة (2/ 5/ 788)، وابن حبان (6/ 97/ 2328)، وأحمد (3/ 211 - 212)، والطيالسي (3/ 558/ 2198)، وابن سعد في الطبقات (1/ 235 و 240)، وأبو يعلى (7/ 193/ 4180)، وأبو العباس السراج في مسنده (512)، وفي حديثه بانتقاء الشحامي (311)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 83)، والبيهقي في السنن (2/ 438)، وفي الدلائل (2/ 539)، وابن عبد البر (5/ 231) و (13/ 148)، وابن منده في معرفة أسامي أرداف النبي صلى الله عليه وسلم (16 - 17)، والبغوي في شرح السنة (7/ 112/ 3659).

وقال: "هذا حديث متفق على صحته".

ص: 364

وقال أبو نعيم في الحلية: "صحيح متفق عليه من حديث أبي التياح، رواه عنه شعبة وحماد بن سلمة في آخرين، وأتمهم سياقًا عبد الوارث عنه".

قلت: وهو كما قال، فأما رواية حماد بن سلمة فأخرجها أبو داود:

***

454 -

. . . حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك، قال: كان موضع المسجد حائطًا لبني النجار، فيه حَرْثٌ ونخلٌ وقبورُ المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثامنوني به" فقالوا: لا نبغي به ثمنًا، فقطع النخلَ، وسوَّى الحرثَ، ونبش قبور المشركين،. . . وساق الحديث، وقال:"فاغفر" مكان "فانصر".

قال موسى [يعني: شيخه موسى بن إسماعيل الذي روى عنه هذا الحديث عن حماد]: وحدثنا عبد الوارث بنحوه، وكان عبد الوارث يقول: خَرِب، وزعم عبد الوارث أنه أفاد حمادًا هذا الحديث.

• حديث صحيح، وقوله:"حرث" وهم منه وتصحيف، وإنما هي:"خرب".

أخرجه ابن ماجه (742)، وأبو عوانة (1/ 331/ 1177) و (4/ 349 و 350/ 6934 و 6935)، وأبو نعيم في المستخرج (2/ 127/ 1159)، وأحمد (3/ 118 و 123 و 180 و 244)، والطيالسي (2198)، وابن أبي شيبة (3/ 60/ 12095)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 241/ 2244)، وأبو يعلى (7/ 192/ 4178)، وابن جرير الطبري في التاريخ (2/ 8)، والسراج في مسنده (511)، وفي حديثه بانتقاء الشحامي (310)، والبيهقي في الدلائل (2/ 540).

وتمام لفظه عند أحمد (3/ 244) من رواية عفان: قال: وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبني المسجد يصلي حيث أدركته الصلاة، وفي مرابض الغنم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهم ينقلون الصخر لبناء المسجد:

"اللهم إن الخير خير الآخرهْ

فاغفر للأنصار والمهاجرهْ"

• والذي يظهر لي -والله أعلم- أن قول حماد: "حرث" وهم منه وتصحيف، وإنما هي:"خرب" كما قال عبد الوارث بن سعيد؛ فإنه أحفظ وأثبت من حماد -كما قال أبو حاتم-، بل هو أحفظ الناس لحديث أبي التياح؛ قال معاذ بن معاذ:"سألتُ أنا ويحيى بن سعيد شعبةَ: عن شيء من حديث أبي التياح؟ فقال: ما يمنعكم من ذاك الشاب؟! -يعني: عبد الوارث فما رأيت أحدًا أحفظ لحديث أبي التياح منه! فقمنا، فجلسنا إليه، فسألناه، فجعل يمرها كأنها مكتوبة في قلبه"، وكان يحيى بن سعيد القطان يقدم عبد الوارث على غيره من أصحابه إذا خالفوه في شيء [انظر: الجرح والتعديل (1/ 146) و (6/ 75)، التهذيب (2/ 635) وغيرها].

ص: 365

• وأما رواية شعبة فأخصرهم:

قال شعبة: حدثني أبو التياح، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبني المسجد.

أخرجه البخاري (234 و 429)، ومسلم (524)، وأبو عوانة (1/ 331/ 1174 و 1175 و 1177) و (4/ 349/ 6934)، وأبو نعيم في المستخرج (2/ 127 و 128/ 1159 و 1160)، والترمذي (350)، وابن حبان (4/ 226/ 1385)، وأحمد (3/ 131 و 194)، والطيالسي (2198)، وابن أبي شيبة (1/ 338/ 3885)، وأبو يعلى (7/ 189/ 4174)، والسراج في مسنده (510)، وفي حديثه بانتقاء الشحامي (307 و 308)، وأبو القاسم البغوي في مسند ابن الجعد (1407)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (41/ 320).

قال الترمذي: "هذا حديث: حسن صحيح، وأبو التياح الضبعي اسمه: يزيد بن حميد".

• قال ابن رجب في الفتح (2/ 412): "والمقصود من تخريج الحديث في هذا الباب: أن موضع المسجد كان فيه قبور للمشركين، فنبشت قبورهم، وأخرجت عظامهم منها، وهذا يدل على أن المقبرة إذا نبشت وأخرج ما فيها من عظام الموتى لم تبق مقبرة، وجازت الصلاة فيها.

ويدل على كراهة الصلاة في المقبرة ولو كانت قبور المشركين؛ لما فيه من سد الذريعة إلى اتخاذ القبور مساجد، فإنه إذا تطاول العهد، ولم تعرف الحال، خشي من ذلك الفتنة.

وقد يقال مع ذلك: إن في نبش عظام المشركين للصلاة في أماكنها تباعدًا في الصلاة عن مواضع العذاب والغضب، وهي مما يكره الصلاة فيها،. . .

وفي الحديث: دليل على طهارة الأرض بالاستحالة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عند نبش الأرض بإزالة تراب القبور ولا تطهيرها، ولو فعل ذلك لما أهمل نقله؛ للحاجة إليه. . . .

وفي الحديث: دليل على أن قبور المشركين لا حرمة لها، وأنه يجوز نبش عظامهم، ونقلهم من الأرض للانتفاع بالأرض إذا احتيج إلى ذلك. . . .

ونص أحمد على أنه إذا غلب المسلمون على أرض الحرب فلا تنبش قبورهم.

وهذا محمول على ما إذا كان النبش عبثًا لغير مصلحة، أو أن يخشى منه أن يفعل الكفار مثل ذلك بالمسلمين إذا غلبوا على أرضهم.

وفي الحديث: دليل على أن بيع الأرض التي في بعضها قبور صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم طلب شراء هذا المربد.

وهذه المسألة على قسمين:

أحدهما: أن يكون المقبور في الأرض يجوز نبشه ونقله، كأهل الحرب، ومن دفن في مكان مغصوب، فهذا لا شك في صحة البيع للأرض كلها، وينقل المدفون فيها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقل عظام المشركين من المربد.

ص: 366