الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
المهر:
تعريفه وسبب وجوبه:
المهر هو الحق المالي الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها، أو الدخول بها. ويسمى الصداق، والفريضة، والأجر، والعُقر، والنِّحْلة.
ويثبت وجوبه على الزوج بأحد سببين: إما بمجرد العقد على الزوجة، أو بالدخول الحقيقي بها، فإذا تم عقد الزواج صحيحا شرعا وجب المهر على الزوج بمجرد تمام العقد ولو لم يعقبه دخول بها، بحيث لو مات أحد الزوجين بعد العقد وقبل الدخول كان المهر حقا للزوجة أو لورثتها. وأما إذا كان عقد الزواج فاسدا شرعا كأن عقد بغير حضور شهود فلا يجب على الزوج المهر بمجرد هذا العقد الفاسد، وإنما يجب إذا أعقبه دخول الزوج حقيقة بمن عقد عليها بحيث لو مات أحد الزوجين بزواج فاسد بعد العقد وقبل الدخول أو افتراقا من تلقاء أنفسهما أو بتفريق القضاء قبل الدخول فلا يجيب على الزوج مهر.
دليل وجوبه:
والدليل على وجوب المهر في عقد الزواج قول الله تعالى في سورة النساء: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . وقوله سبحانه: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ
بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} . فالله أمر بإيتائهن مهورهن وسمى المهر فريضة، فدل على وجوب المهر في الزواج، وأنه لا زواج بلا مهر.
مقداره: أقل المهر شرعا عشرة دراهم فضة تزن سبعة مثاقيل أو ما قيمته ذلك من أي مال، وقد كان وزن الدراهم الفضة في صدر الإسلام مختلفا، فمنها عشرة دراهم تزن عشرة مثاقيل، ومنها عشرة تزن ستة مثاقيل، ومنها عشرة تزن خمسة مثاقيل، وكان هذا الاختلاف يؤدي إلى النزاع بين أرباب المال وجباة الضرائب فاختار عمر بن الخطاب في خلافته المتوسط من هذ الأوزان وهو العشرة الدراهم التي تزن سبعة مثاقيل وصار هو المعتبر في كل نصاب شرعي مقدر بالدراهم، وهذه الدراهم العشرة تساوي بالنقود المصرية خمسة وعشرين قرشا صاغا.
ولا حد لأكثره، فللمتعاقدين أن يزيدا عن العشرة إلى ما شاءا.
أما الدليل على تحديد نهايته الصغرى بعشرة دراهم فهو الحديث: "ولا مهر أقل من عشرة دراهم" 1، وأما الدليل على أنه لا حد لأكثره؛ فلأنه لم يرد نص بتحديد نهايته الكبرى ولا تحديد إلا بنص، ولذا روي أن عمر رضي الله عنه قال في خطبه له: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت له امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ.
ما يصح أن يكون مهرا: ولا يلزم أن يكون المهر دراهم مضروبة ولا أن يكون من الذهب أو الفضة بل يصح شرعا أن يكون المهر من الذهب أو الفضة المضروبين وغير المضروبين، ومن كل شيء معلوم له قيمة مالية من عقار أو منقول مكيل أو موزون أو حيوان، ومن منافع الأعيان التي يستحق في مقابلها
1 روى البيهقي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء، ولا مهر أقل من عشرة دراهم".
المال كسكنى المنزل أو زراعة الأرض، فكل مال معلوم متقوم قيمته عشرة دراهم فضة فأكثر سواء أكان نقدا أم عينا أم منفعة يصح شرعا أن يسمى مهرا. والمعتبر أن تكون قيمته عشرة دراهم وقت العقد حتى لو كان المسمى قيمته عشرة وقت العقد، ثم نقصت قيمته عنها عند التسليم ليس لها المطالبة بالنقص، ولو كانت قيمته وقت العقد أقل فلها المسمى وما يكمل العشرة.
تعجيله وتأجيله: ولا يلزم أن يكون حالا بل يصح أن يكون حالا وأن يكون مؤجلا كله أو بعضه إلى أي أجل يتفق عليه العاقدان أو إلى عدة آجال يدفع عند كل أجل قسط منه حسب عرف البلاد فيما يعجل وفيما يؤجل. والمتعارف في القاهرة تعجيل الثلثين وتأجيل الثلث إلى أحد الأجلين الموت أو الطلاق، وفي بعض البلاد المصرية تعورف تعجيل النصف وتأجيل النصف إلى أحد الأجلين، فإن اتفق العاقدان على المعجل والمؤجل عمل باتفاقهما، وإن لم يتفقا عمل بما يقضي به عرفهما؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
من له الحق في المهر: المهر في ابتداء العقد يتعلق به حقان حق الشرع، وحق الزوجة وأوليائها؛ لأن الشرع جعل المهر حكما وأثرا مترتبا حتما على الزواج بحيث لا يكون إلا بمهر، ولذا سماه الله فريضة في قوله:{فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ، ولا يكون بمهر أقل من عشرة دراهم للحديث:"ولا مهر أقل من عشرة دراهم" فوجوب مهر لا يقل عن عشرة دراهم هذا حق الشرع، ولذا لا تملك الزوجة ولا أولياؤها نفي وجوب المهر أصلا ولا نقص مقداره عن عشرة دراهم؛ لأن المهر إلى عشرة حق الشرع، والإنسان لا يملك إسقاط حق غيره.
وإبلاغ المهر إلى مقدار مهر المثل حق للزوجة وأوليائها، ولذا لو زوجت المكلفة نفسها بأقل من مهر مثلها بغير رضا وليها العاصب كان لوليها طلب الفسخ؛ لأنها برضاها أسقطت حقها هي ولكن بقي للولي حقه، ولو زوج الصغيرة الولي غير الأب
والجد بأقل من مهر مثلها لم يصح تزويجه مراعاة لحقها. هذا في ابتداء عقد الزواج أما بعد أن يتم العقد وتتقرر حقوقه فإن المهر يكون حقا خالصا للزوجة وحدها، تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها، فلو أبرأت زوجها منه كله أو بعضه بعد ما وجب لها في ذمته بالعقد الصحيح أو بالدخول صح إبراؤها وبرئت ذمته منه، ولو قبضته ووهبته له صحت هبتها؛ لأن هذا تصرف في خالص حقها، ولذا قال الله تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} ، ولا حق لزوجها ولا لغيره في الاعتراض على تصرفها في مالها الذي هو خالص حقها ما دامت رشيدة؛ لأن كل مالك رشيد رجلا أو امرأة متزوجة أو غير متزوجة يتصرف في ملكه كما يشاء.
مقدار المهر الذي يجب للزوجة:
في بعض الأحوال يكون المهر الواجب للزوجة عشرة دراهم فقط.
وفي أحوال يكون المهر الواجب لها هو مهر مثلها.
وفي أحوال يكون المهر الواجب هو المسمى المتفق عليه في العقد بالغا ما بلغ.
وفي أحوال يكون المهر الواجب لها هو الأقل من المسمى ومن مهر مثلها.
متى يكون الواجب عشرة دراهم:
إذا سمي في العقد مهر أقل من عشرة دراهم بأن سمي مثلا عشرون قرشا أو شيء قيمته وقت العقد عشرون قرشا ففي هذه الحالة يكون المهر الواجب للزوجة عشرة دراهم فقط "25 قرشا" أو الشيء المسمى وما يكمل العشرة؛ وذلك لأن المهر إلى عشرة دراهم حق الشرع، وما زاد إلى مهر المثل حق الزوجة وأوليائها، فإذا رضيت بأقل من عشرة فقد أسقطت حقها وهذا تملكه، وأسقطت حق الشرع وهذا لا تملكه، فيكمل المهر إلى العشرة مراعاة لحق الشرع الذي لا يملك العاقدان تفويته كله أو بعضه1. وكذلك إذا سمي عشرة دراهم تجب العشرة.
1 وقال زفر: لها في هذه الحالة مهر مثلها؛ لأن تسمية ما لا يصح مهرا شرعا كعدم التسمية وعند عدم التسمية الواجب مهر المثل.
ويراعى أنه إذا كان للزوجة ولي عاصب ولم يرض بهذا المهر فله طلب الفسخ ما دامت العشرة أقل من مهر المثل؛ لأنها لا تملك إسقاط حقه.
متى يكون الواجب مهر المثل:
وإذا لم يسم في العقد مهر أصلا بأن صدرت الصيغة بدوت تسمية مهر "زوجيني نفسك - قبلت". أو كان الزواج على نفي المهر بأن صدرت الصيغة "زوجيني نفسك على أن لا مهر لك - قبلت" أو سمي في العقد مهر لا تصح تسميته شرعا كتسمية شيء مجهول جنسه، أو شيء ليست له قيمة مالية ففي هذه الحالات الثلاث يكون المهر الواجب للزوجة هو مهر مثلها.
وذلك لأن المهر هو من أحكام الزواج وحقوقه المترتبة عليه، وليس ركنا له ولا شرطا من شروطه فالسكوت عن ذكره أو النص على نفيه لا أثر له في انعقاد الزواج ولا صحته فيصح العقد ويترتب عليه وجوب مهر، ولا عبرة بسكوت العاقدين عن ذكره أو بنفيهما له؛ لأن أثر العقد يترتب عليه ولا ينتفي بنفي العاقدين له، أو سكوتهما عنه.
ولما كان الواجب الأصلي هو مهر المثل والمسمى يقوم مقامه فإذا لم يسميا مهرا، أو نفياه، أو سميا مالا تصح تسميته شرعا، يجب الموجب الأصلي وهو مهر المثل.
وتسمى من سكت في العقد عن تسمية مهر لها المفوضة؛ لأنها بسكوتها عن تسمية مهر لها كأنها رضيت بتفويض أمر تقديره إلى زوجها فلها بعد العقد، وقبل الدخول بها أن تطالبه بفرض مهر لها، فإن تراضيا على مهر وجب، وإن لم يتراضيا رفعت أمرها إلى القضاء ليأمره بالفرض فإن لم يفعل قضى لها بمهر مثلها.
وأما لو سكتت عن مطالبته بفرضه حتى دخل بها، ومات أحدهما فالواجب
لها مهر مثلها؛ لأنه هو الموجب الأصلي للعقد في هذه الحالة وقد تقرر وجوبه وتأكد بالدخول أو الموت1.
متى يكون الواجب هو المسمى في العقد:
وإذا سمي في العقد مهر تسمية صحيحة بأن سمي شيء معلوم له قيمة مالية في اعتقاد المتعاقدين يعادل عشرة دراهم فأكثر وكان العقد صحيحا ففي هذه الحالة يكون المهر الواجب هو المسمى كأن يسمى نقودا تعادل عشرة دراهم فأكثر أو خاتم ذهب كذلك أو عقارا أو منقولا معلوما أو منفعة يستحق عليها الأجر.
أما إذا كانت التسمية غير صحيحة فالواجب مهر المثل كما قدمنا.
وتفسد التسمية إذا كان المسمى لا قيمة له في دين المتعاقدين كالخمر والخنزير بالنسبة للزوج المسلم، ولو كانت الزوجة مسيحية، أو كانت له قيمة مالية ولكنه مجهول جهالة فاحشة تؤدي إلى النزاع بأن تزوجها على حلي ولم يبين جنسه ولا نوعه أو تزوجها على عشرة أرادب ولم يبين نوعها، فإن بيّن نوع المسمى كعشرة أرادب قمح كانت الجهالة يسيرة فتصح التسمية، ويكون الواجب مقدر المسمى من النوع الوسط أو قيمته والخيار للزوج في ذلك، ولو تزوجها على مائة جنيه ودار، أي: على معلوم ومجهول فلها مهر مثلها لا ينقص عن مائة جنيه؛ لأنه رضي بأدائها.
متى يكون الواجب أقل الأمرين المسمى ومهر المثل:
وإذا كانت التسمية صحيحة والعقد فاسدا والزوج دخل بزوجته دخولا حقيقيا ففي هذه الحالة يكون المهر الواجب لها هو الأقل من المسمى ومهر مثلها فإن
1 روى أصحاب السنن عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال: "لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة". فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق مثل الذي قضيت ففرح بها ابن مسعود.
كان المسمى مائة ومهر مثلها مائتين فالواجب لها مائة؛ لأنها رضيت بها، وإن كان المسمى مائة ومهر مثلها ثمانين فالواجب لها ثمانون؛ لأن ما زاد عن مهر المثل إنما يجب بالعقد الصحيح ولا يصح العقد الفاسد سببا لوجوبه.
ومهر المثل هو مهر امرأة من قوم أبي الزوجة كأختها وعمتها وبنت عمها تساويها وقت العقد سنا وجمالا ومالا وبلدا وعصرا وعقلا ودينا وأدبا وخلقا وعلما وبكارة أو ثيوبة وعدم ولد، فإن لم توجد واحدة من قوم أبيها تساويها في هذه الصفات ينظر إلى مهر زوجة أجنبية تساويها فيها.
وإذا اختلف الزوجان في مقدار مهر المثل فادعى الزوج أنه خمسون جنيها وادعت الزوجة أنه سبعون جنيها، فإن أقام أحدهما بينة قضي له، وإن لم توجد بينة فاليمين على من أنكر الزيادة وهو الزوج، فإن حلف أن مهر مثلها كما ادعى قضي له وإن نكل قضي لها.
زيادة المهر والحط منه:
بعد تمام عقد الزواج وتسمية المهر فيه تسمية صحيحة يجوز للزوج إذا كان كامل الأهلية أن يزيد المهر الذي سماه في العقد بأن يقول لها جعلت مهرك مائة وخمسين جنيها بدل مائة، وهذه الزيادة تلزمه وتعتبر ملحقة بالمهر وجزءا مكملا له بشروط ثلاثة: أن يكون معروفا قدرها، وأن تقبلها الزوجة أو وليها في المجلس، وأن تكون الزوجية قائمة. ويجوز للزوجة أيضا في هذه الحالة إذا كانت كاملة الأهلية أن تحط عن زوجها برضاها وفي حال صحتها كل مهرها أو بعضه إن كان من النقود، وإذا كن مهرها من الأعيان لا من النقود يجوز لها أن تهبه له كله أو بعضه، وعلة هذا واضحة؛ لأن الزوج الكامل الأهلية له أن يتصرف في ماله كيف يشاء ويزيد في مهر زوجته أية زيادة، وكذلك الزوجة الكاملة الأهلية أصبح مهرها بعد العقد خالص حقها فلها أن تتصرف فيه بالإبراء أو الهبة كما تشاء. ولأبي الصغير أو جده أن يزيد في مهر زوجة الصغير بعد العقد من مال الصغير
ويكون حكم هذه الزيادة كحكم زيادة الزوج الكامل الأهلية وكذلك شروط لزومها، ولكن ليس لأبي الصغيرة أو جدها أن يحط عن زوجها شيئا من مهرها بعد العقد1.
متى يتأكد وجوب المهر بتمامه:
قدمنا أن المهر يجب بمجرد العقد في الزواج الصحيح، وبالدخول الحقيقي في الزواج الفاسد.
فأما المهر الواجب بالدخول الحقيقي في الزواج الفاسد فهو واجب وجوبا مؤكدا مستقرا غير معرض لأن يسقط كله أو نصفه بأي فرقة، سواء كان هذا الواجب هو مهر المثل عند عدم التسمية الصحيحة أو الأقل من المسمى ومهر المثل عند وجود تسمية صحيحة؛ وذلك لأن الزوج بدخوله الحقيقي بالزوجة قد استوفى المتعة بها فتقرر وتأكد عليه مهرها كاملا، فإذا افترقا من تلقاء نفسهما أو فرق بينهما القضاء بعد الدخول الحقيقي فمهرها كاملا حق لها عليه.
وكذلك المهر الواجب بالدخول الحقيقي بناء على شبهة كما إذا زفت امرأة إلى رجل وقيل له إنها زوجتك فدخل بها ثم تبين أنها ليست زوجته فإن المهر الواجب لهذه المرأة بسبب الدخول الحقيقي بها وهو مهر مثلها واجب لها بتمامه وجوبا مؤكدا مستقرا، ولا يسقط كله أو نصفه بأي فرقة.
أما المهر الواجب بمجرد العقد في الزواج الصحيح فهو واجب وجوبا غير مستقر بل هو عرضة لأن يسقط كله أو نصفه.
1 وهذا التفريق موضع نظر وكان الظاهر أن يسوى بين الأمرين فإما أن لا يجوز للأب أو الجد الزيادة في مهر زوجة الصغير والحط من مهر الصغيرة؛ لأن هذا تبرع بمال المولى عليه وهو لا يملكه، أو يجوز له الأمران؛ لأنه في ابتداء العقد يملك أن يزيد في مهر زوجة الصغير وينقص من مهر الصغيرة لمصلحة يراها تفوق المال فكذا بعده؛ لأنه لوفور شفقته لا يعمل إلا ما فيه المصلحة، فالتسوية في الجواز أو المنع هو الظاهر وأما التفريق فلا يظهر له مبرر.
وإنما يتأكد هذا الواجب بتمامه إذا دخل الزوج بزوجته حقيقة، أو اختلى بها خلوة صحيحة، أو مات أحدهما قبل الدخول والخلوة، فإذا وجد بعد العقد الصحيح واحد من هذه المؤكدات الثلاثة تأكد وجوب المهر لها بتمامه وصار حقا مستقرا للزوجة لا يسقط بأي فرقة من قبله أو من قبلها؛ وذلك لأنه بالدخول الحقيقي قد استوفى حقه في المتعة فيتأكد للزوجة حقها في المهر كاملا، وبالخلوة الصحيحة قد مكنت الزوجة زوجها من نفسها ولم يوجد ما يمنعه أن يستوفي حقه ويستمتع بها، فكونه مع ذلك لم يستوف حقه لا يمنع من تقرر حقها في مهرها كاملا؛ لأنها أسلمت نفسها وأتت ما وسعها وهو الذي اقتصر على الاستمتاع بالخلوة بها، وقد قال الله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ، وبموت أحد الزوجين قبل الدخول والخلوة انتفى احتمال طروء فرقة من قبل الزوج تنصف المهر أو فرقة من قبلها تسقطه فتقرر الواجب بالعقد بتمامه، فإذا كان الذي مات هو الزوج أخذت الزوجة مهرها أو ما بقي لها منه من تركته قبل قسمتها بين ورثته؛ لأنه دين يبدأ بسداده، وإذا كانت التي ماتت هي الزوجة أخذ ورثتها مهرها أو ما بقي منه من زوجها بعد خصم ما يخصه منه؛ لأنه من ورثتها يستحق نصف تركتها أو ربعها.
والمراد بالخلوة الصحيحة أن يجتمع الزوجان منفردين في مكان آمنين من اطلاع غيرهما عليهما بدون إذنهما وليس بأحدهما أي مانع حسي أو شرعي أو طبيعي يمنع من الجماع، فإذا لم تتوافر هذه الشروط بأن اختليا في مكان لا يأمنان فيه من اطلاع الغير عليهما، أو اختليا وبهما أو بأحدهما مانع من الجماع شرعي كحيض أو صوم فرض، أو طبيعي كوجود ثالث مميز، أو حسي كصغر ومرض لا يستطاع معه الجماع فالخلوة فاسدة لا يتأكد بها وجوب المهر بتمامه.
وكما أن الخلوة الصحيحة في الزواج الصحيح تشارك الدخول الحقيقي في تأكيد وجوب المهر بتمامه: فهي تشاركه أيضا في إيجاب العدة عليها بعد الفرقة، وفي الآثار
المترتبة على العدة من وجوب النفقة، وحرمة الجمع بينها وبين محرم لها، وحرمة زواج أربع سواها ما دامت في العدة، وفي ثبوت النسب.
ويختلفان في الإحصان. فالدخول الحقيقي يحصن الرجل حتى إذا زنى بعده رجم، والخلوة الصحيحة لا تحصنه حتى إذا زنى بعدها جلد.
وفي حرمة البنات، فالدخول الحقيقي بالأم يحرم بنتها على الزوج الذي دخل بها، وأما مجرد خلوته الصحيحة بها فلا يحرم عليه بنتها.
وفي حل المرأة لمطلقها ثلاثا، فإذا تزوجت المطلقة ثلاثا بآخر واختلى بها فقط خلوة صحيحة لا تحل لمطلقها الأول حتى يدخل بها الثاني دخولا حقيقيا.
وفي الرجعة، فالطلاق بعد الدخول الحقيقي رجعي وبعد الخلوة الصحيحة بائن. وكذلك الدخول الحقيقي بالمطلقة رجعيا يعتبر مراجعة ولكن الخلوة الصحيحة بها لا تعتبر مراجعة.
وفي الميراث، فلو طلقت بعد الدخول الحقيقي ثم مات وهي في العدة ترثه؛ لأن طلاقها رجعي، ولكن لو طلقت بعد الخلوة الصحيحة ثم مات وهي في العدة لا ترثه؛ لأنها بائنة منه.
والخلوتان الفاسدة والصحيحة في الزواج الصحيح تشتركان في إيجاب العدة بعد الفرقة احتياطا في المحافظة على الأنساب وعدم اختلاطها.
ففي الزواج الصحيح: الخلوة الصحيحة تشارك الدخول الحقيقي في بعض الأحكام وتخالفه في بعضها. وتشارك الخلوة الفاسدة فيه كذلك في إيجاب العدة.
وأما في الزواج الفاسد فالخلوة مطلقا سواء كانت صحيحة أو فاسدة لا توجب المهر بتمامه؛ لأن الشأن أن فساد الزواج يكون مانعا لهما من الجماع فلا تعتبر الخلوة تمكينا من الاستمتاع ولا مظنة له.
متى يجب للزوجة نصف المهر:
إذا سمي في عقد الزواج الصحيح مهر تسمية صحيحة، ثم انحلت عقدة الزوجية قبل الدخول أو الخلوة الصحيحة بسبب من قبل الزوج وجب للزوجة نصف مهرها فقط سواء كان سبب الفرقة الذي من قبله تطليقا أو فسخا بغير اختياره نفسه عند البلوغ، والدليل على هذا قوله تعالى في سورة البقرة:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} .
دلت هذه الآية على أن الزوجة التي طلقها زوجها قبل أن يمسها، أي: قبل أن يدخل بها حقيقة أو حكما وكان قد فرض لها مهرا فالواجب المستحق لها عليه نصف ما فرض لها، فإن كانت لم تقبض مهرها فلها مطالبة زوجها بعد الطلاق بنصفه إلا أن تعفو وتتنازل عن مطالبته، وإن كانت قبضته فلزوجها الذي بيده عقدة النكاح مطالبتها بعد الطلاق بأن ترد إليه نصفه إلا أن يعفو ويتنازل عن مطالبتها برده.
ومثل المطلقة في هذا الحكم كل من فارقها زوجها قبل الدخول بها بسبب من قبله، كما إذا ارتد عن الإسلام زوج المسلمة، أو أبى الزوج غير المسلم أن يسلم بعد أن أسلمت زوجته. وأما فسخه بخيار البلوغ فهو فسخ للعقد من أصله فلا يجب عليه شيء ما دام لم يدخل بمن عقد عليها. لا حقيقة ولا حكما؛ لأن العقد إذا انفسخ يجعل كأن لم يكن.
والحكمة في إيجاب نصف المهر في هذه الحال أن لها وجهتين من النظر مختلفتين، فلو نظرنا من وجهة أن الزوج بالفرقة قبل الدخول حقيقة أو حكما لم يستمتع بزوجته أي نوع من الاستمتاع، ولم تقم له بواجب من واجبات الزوجية وحالها بعد الفرقة على ما كانت عليه قبل العقد ينتج أن الزوج لا يجب عليه شيء من المهر، ولو نظرنا من وجهة أن الزوجة بالعقد ملكت زوجها حق المتعة بها ولم تمنعه
أن يستوفي حقه وهو الذي فوت ملكه مختارا بهذه الفرقة الآتية من قبله ينتج أن عليه المهر كله، فالشارع الحكيم وفّق بين الوجهتين وراعى الجانبين وأوجب على الزوج في هذه الحال نصف المهر المسمى فلم يفوت على الزوجة كل حقها، ولم يلزم الزوج بكل ما وجب بالعقد1.
والمتبادر من قوله سبحانه وتعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أن الذي ينصف بالطلاق قبل الدخول حقيقة أو حكما هو المهر الذي فرض حين العقد فرضا صحيحا؛ لأن هذا هو الذي يفهم من إطلاق {مَا فَرَضْتُمْ} 2.
فإذا لم يكن فرض حين العقد مهر فرضا صحيحا بأن سكت عن تسمية المهر أصلا، أو نفي، أو سمي تسمية غير صحيحة ففي هذه الأحوال الثلاثة التي يكون الواجب فيها مهر المثل لو فارق الزوج زوجته قبل الدخول بها حقيقة أو حكما بسبب من قبله لا يجب لها نصف المهر؛ لأن الذي ينصف هو ما فرض في العقد فرضا صحيحا، والواجب لها في هذه الأحوال المتعة كما سيجيء.
وكذلك الزيادة التي تزاد على المهر بعد العقد سواء زادها الزوج إن كان كامل الأهلية أو أبوه أو جده إن كان فاقدها أو ناقصها لا يجب للزوجة نصفها بالطلاق قبل الدخول حقيقة أو حكما بل تسقط عن الزوج؛ لأن الذي ينصف هو ما فرض في العقد وهذه زيدت بعده.
وكذلك المهر الذي يفرض للمفوضة بعد العقد بتراضي الزوجين لا ينصف بالطلاق قبل الدخول حقيقة أو حكما؛ لأنه فرض بعد العقد.
1 الحقيقة أن الزوجة بالعقد استحقت المهر، والطلاق قبل الدخول فوت عليها نصف ما استحقته مراعاة لمصلحة الزوج، فليس النصف الذي تأخذه تعويضا وإنما هر بعض حقها، والطلاق فوت عليها بعضه الآخر.
2 ولو سمى أقل من عشرة دراهم ثم طلقها قبل الدخول وجبت لها خمسة دراهم؛ لأننا لما لم نعتبر تسمية الأقل من العشرة جعل كأنه سمى العشرة، فبالفرقة قبل الدخول يجب عليه نصفها وهو خمسة.
وهذا هو الجاري عليه العمل وهو مذهب الطرفين ومذهب أبي يوسف الأخير، وكان رأيه أولا أن الزيادة التي تزاد على المهر بعد العقد متى استوفت شروط لزومها واعتبرت مكملة للمهر تنصف بالطلاق قبل الدخول كما ينصف أصل المهر. وكذلك ما فرض للمفوضة بعد العقد؛ لأنه صار فرضها وكأنه فرض حين العقد، ولكن القول المفتى به يستند إلى إطلاق قوله تعالى:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ولا يتسارع إلى الذهن عند الإطلاق إلا الفرض حين العقد فرضا صحيحا.
وإذا كان المهر لم تقبضه الزوجة ولا يزال في ذمة الزوج أو تحت يده فبمجرد وقوع الفرقة من قبله قبل الدخول حقيقة أو حكما يصير نصفه ملكا له يتصرف فيه كيف يشاء بحيث لو كان المهر عشرة أفدنة وطلقها قبل الدخول بها وقبل أن يسلمها لها، فبمجرد الطلاق يكون له الحق أن يتصرف في خمسة منها بالبيع والهبة وسائر تصرفات المالك في ملكه بدون توقف على قضاء له بها، وأما إذا كان المهر قد قبضته الزوجة فلا يصير نصفه ملكا للزوج بمجرد الطلاق قبل الدخول وإنما يصير ملكا له إذا ردته إليه بالتراضي، أو قضى له به القاضي، بحيث لو تصرف فيه قبل القضاء له به أو قبل رده إليه بالرضا لا ينفذ تصرفه شأن تصرف الإنسان فيما لا يملكه.
والفرق بين الحالين أن المهر المستحق للزوجة بالعقد إذا قبضته تقوي ملكها فيه فلا يزول ملكها عن نصفه، ويعود إلى ملك مطلقها بمجرد وقوع الفرقة، بل لا بد من أن ترده إليه برضاها أو يقضي له به القضاء، وأما إذا لم تقبضه فملكها فيه لم يقو فبمجرد الفرقة يزول ملكها عن نصفه ويعود إلى ملك مطلقها.
وإذا نما المهر وهو في يد الزوج بأن كان أوراقا مالية فربحت، أو كان بقرات عجافا فسمنت أو ولدت فبالفرقة قبل الدخول حقيقة أو حكما يكون هذا النماء لهما؛ لأنه نماء ملكهما المشترك لكن إذا كانت الزيادة التي زيدت فيه ليست نماء له
ولا متولدة منه كالبناء فهو لمن زاده، وكذلك الحكم إذا نما وهو في يد الزوجة، وقد قضى بعد الفرقة بنصفه لمطلقها.
وأما إذا كان نماؤه وهو في يد الزوجة قبل القضاء له بنصفه، فالنماء كله لها؛ لأنه نماء ملكها خاصة ما دام لم يصدر حكم بنصفه للزوج، وإذا كانت زيادة غير متولدة كالبناء فهي لها أيضا إذ الظاهر أنها هي التي زادتها وهو في يدها.
متى تجب للزوجة المتعة:
في الحالات الثلاثة التي يجب فيها مهر المثل، وهي ما إذا لم يسم في عقد الزواج الصحيح مهر، أو نفي، أو سمي تسمية غير صحيحة إذا طلق الزوج زوجته أو فارقها بأي سبب من قبله قبل الدخول حقيقة أو حكما وجبت لها المتعة، وكذلك إذا تراضى مع المفوضة على فرض مهر لها بعد العقد، ثم طلقها أو فارقها بأي سبب من قبله قبل الدخول حقيقة أو حكما وجبت له المتعة.
والدليل على هذا قوله تعالى في سورة البقرة: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} أي: لا تبعة عليكم من إيجاب مهر أو نصفه إن طلقتم النساء في حين أنكم لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن، والحكمة في إيجابها أن الزوجة تستحق حقا ماليا بعد ما لحقها من الضرر بهذه الفرقة التي ليست من قبلها، وليس في العقد مهر مفروض حتى يفرض لها نصفه فأوجب الشارع لها المتعة حقا لها.
والمراد بالمتعة ما تمتع به الزوجة وتعطاه تعويضا لها عن إيحاشها بهذه الفرقة من الثياب التي تلبسها المرأة للخروج عادة، أو ما يعادلها من مال أو أي عوض، ولذا قال الفقهاء المتعة الثياب التي تكسى بها المرأة عند الخروج حسب عرف بلدها وليس معنى قولهم أن المتعة لا تكون إلا بهذا، بل كما تكون بالكسوة تكون بقيمتها أو ما يعادلها.
ويراعى في تقدير المتعة حال الزوج المالية يسارا أو إعسارا وتوسطا فتجب متعة الموسر أو المعسر لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ، وقيل يراعى في تقديرها حال الزوجة فقط؛ لأنها قائمة مقام نصف مهر مثلها، ومهر مثلها يراعى فيه حالها فكذلك ما قام مقامه، وقيل يراعى في تقديرها حالهما معا حتى لا يسوى بين الرفيعة والوضيعة، ولا يرهق الفقير إذا كانت مطلقته غنية، والقول الأول هو الراجح؛ لأنه صريح قول الله تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} .
وعلى كل حال يشترط أن لا تزيد المتعة على مقدار نصف مهر المثل؛ لأنها قائمة مقامه ولا تنقص عن خمسة دراهم؛ لأنه أقل نصف المهر شرعا.
متى يسقط المهر ولا يجب للزوجة منه شيء:
إذا حصلت الفرقة بين الزوجين قبل الدخول حقيقة أو حكما، وكان سبب الفرقة آتيا من قبلها سقط مهرها ولا حق لها في شيء منه، فإن كانت لم تقبضه فليس لها مطالبة الزوج به، وإن كانت قبضته فعليها رده، وذلك كما إذا اختارت نفسها عند البلوغ في الحال التي لها فيها خيار الفسخ، أو ارتدت عن الإسلام، فلا تستحق شيئا من مهرها؛ لأنها هي التي فوتت على الزوج حقه وحالت بينه وبين المتعة؛ ولأنها بإقدامها على سبب الفرقة مع علمها بأنه لم يوجد ما يؤكد لها مهرها تعتبر كأنها متنازلة عنه، وباختيارها الفسخ بالبلوغ نقضت العقد من أصله فلا يستحق لها شيء، وكذلك إذا كان سبب الفرقة آتيا من قبل ولي الزوجة، كما إذا فسخ الزواج لعدم كفاءة الزوج قبل الدخول بناء على طلب الولي أو فسخ بناء على طلبه؛ لنقصان المهر عن مهر المثل فتعتبر هذه فرقة من قبل الزوجة؛ لأن وليها من قبلها.
اقتران المهر بشرط:
إذا سمي المهر مطلقا غير مقترن بشرط لأحد الزوجين أو محارمهما كان الواجب هو المسمى على ما بينا.
أما إذا سمي المهر وقرن به شرط فهذا له أحوال ثلاثة:
"الأولى" أن يسمي الزوج لزوجته مهرا أقل من مهر مثلها ويشترط لها على نفسه في نظير ذلك شرطا فيه منفعة، مباحة شرعا، مقصودة لها، يتوقف تحققها على فعله، سواء كانت المنفعة لشخصها أو لقريبها المحرم، كأن يكون مهر مثلها مائة، ويسمي لها ثمانين على أن لا يتزوج أو لا ينقلها من بلدها أو أن يطلق ضرتها.
ففي هذه الحالة يعتبر المهر الذي رضيت به الزوجة مجموع الأمرين القدر المسمى، والمنفعة المشروطة، فإذا وفى الزوج بالشرط فلها المسمى الذي تراضيا به، وإن لم يوف بالشرط تستحق مهر مثلها لا المسمى؛ لأن هذا المسمى لم ترض به مع نقصه عن مهر مثلها، إلا مع تحقيق المنفعة المشروطة لها، فإذا فاتت المنفعة فات رضاها بالمسمى فيجب الموجب الأصلي لكل زواج لم يتراض فيه على تسمية، وهو مهر المثل؛ لأن المنفعة كانت عوضا لها عن الفرق بين المسمى ومهر مثلها.
ولهذا إذا كان المسمى لا ينقص عن مهر مثلها فلا أثر للإخلال بهذا الشرط، كما لا يكون أثر للإخلال به إذا كان المشروط مضرة لا منفعة، كأن يتزوج عليها، أو منفعة غير مباحة شرعا كأن يسقيها خمرا، أو منفعة لأجنبي منها، ففي هذه الحالات يكون الواجب هو المسمى، فالمراد أن تكون المنفعة المشروطة مباحة مقصودة يستحق بفواتها العوض، وهو الفرق بين المسمى ومهر المثل.
"الثانية" أن يسمي الزوج لزوجته مهرا أكثر من مهر مثلها، ويشترط لنفسه عليها في نظير ذلك شرطا فيه منفعة له، كأن يكون مهر مثلها مائة ويسمي لها مائة وخمسين، على أن تكون عذراء أو سليمة من الأمراض أو بيضاء، ففي هذه الحالة إذا تحقق المشروط للزوج فعليه المسمى، وإن لم يتحقق فليس عليه إلا مهر مثلها؛ لأنه إنما رضي بالزيادة على مهر مثلها في مقابلة هذا الوصف الذي يرغب فيه، فإذا فات ما يرغب فيه فات رضاه بما زاد عن مهر المثل فلا يجب عليه إلا مهر المثل.
هذا إذا كان في عبارة العاقدين ما يفيد أنهما تراضيا على جعل المنفعة المشروطة لها في مقابل النقص عن مهر مثلها في الحالة الأولى، وجعل الوصف المرغوب فيه منه في مقابل الزيادة على مهر مثلها في الحال الثانية، وأما إذا شرط أحد الزوجين في العقد شرطا فيه منفعة له، ولم تجعل هذه المنفعة في مقابل نقص عن مهر المثل أو زيادة عليه بل كان اشتراطها للرضا بالزواج نفسه، لا بمقدار المهر المسمى فيه فمذهب الحنفية أنه لا أثر لهذا الاشتراط، ولا يترتب على الإخلال به شيء؛ لأن الزواج في مذهبهم لا يدخله خيار شرط ولا رؤية ولا عيب1.
ومذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه إذا شرط أحد الزوجين شرطا فيه نفع مقصود له وفات الشرط فللمشروط له خيار الفسخ؛ لأنه ما رضي بالزوجية إلا على هذا الشرط، ولا يسقط حقه في الفسخ إلا إذا أسقطه أو رضي بمخالفة الشرط، ودليله أن الرضا بالزواج إنما تم على هذا الشرط فإذا فات الشرط فات الرضا فيثبت الخيار؛ ولأن الحديث الصحيح صريح في أن أحق الشروط أن يوفى بها ما استحلت به المتعة بالزوجات.
"الثالثة" أن يسمي الزوج لزوجته مهرا على شرط ومهرا آخر على شرط آخر كأن يتزوجها على مائة، إن كانت سليمة من الأمراض وعلى خمسين إن كانت غير سليمة.
فعلى قول الصاحبين التسميتان صحيحتان، فإن كانت سليمة فلها المائة، وإن كانت غير سليمة فلها الخمسون، ووجه هذا ظاهر؛ لأنهما تم تراضيهما عليه.
وعلى قول زفر التسميتان غير صحيحتين؛ لأن المسمى مردد بين شيئين والترديد مورث للجهالة وتسمية المجهول غير صحيحة، فالواجب لها مهر مثلها لا يزيد على مائة؛ لأنها رضيت بها ولا ينقص عن خمسين؛ لأنه رضي بها.
1 فيتنبه للفرق بين اقتران عقد الزواج بشرط وبين اقتران تسمية المهر فيه بشرط، ففي الأول الرضا بالزواج نفسه مشروط بهذا الشرط، وفي الثاني الرضا بالمسمى بهذا الشرط، وأما الزواج فغير مشروط به.
وعلى قول أبي حنيفة المسمى الأول على التقدير الأول صحيح، فإن تحقق أول الشرطين وجب المسمى له. وأما الثاني فغير صحيح؛ لأنه ورد بعد الأول الذي صح فلم يصادف محلا، فإن تحقق الشرط الثاني بأن تبين أنها غير سليمة في المثال المذكور، فالواجب لها مهر المثل لا يزيد عن مائة. والراجح قول الصاحبين1.
قبض المهر وتصرف الزوجة فيه:
قدمنا أن المهر بعد العقد يصير حقا خالصا للزوجة، فإن كانت كاملة الأهلية غير محجور عليها للسفه فهي التي تقبضه بنفسها، أو بمن توكله عنها في قبض مهرها، سواء أكانت بكرا ثيبا، ويراعى أن توكيل الثيب لأبيها أو جدها في قبض مهرها لا بد أن يكون بتصريحها. وأما البكر فيكون توكيلها بتصريحها وبسكوتها عن نهيه أن يقبض؛ لأن العادة جارية بأن ولي البكر هو الذي يقبض مهرها ويتولى تجهيزها فيكون سكوتها رضا بقبضه جريا على العرف. وأما الثيب فالمتعارف أنها تباشر شئونها بنفسها، فلا بد من إذنها له بالقبض بصريح القول أو الفعل.
وإن كانت غير كاملة الأهلية فالذي يقبض مهرها هو ولي مالها.
والولي المالي هو واحد من ستة على هذا الترتيب: الأب ثم وصيه ثم الجد ثم وصيه ثم القاضي ووصيه، وكل من الأب والجد له الولاية على نفس الصغيرة ومالها، فله تزويجها وله قبض مهرها. ومن عدا الأب والجد من الأقارب له الولاية على نفس الصغيرة فقط فله تزويجها، وليس له قبض مهرها إلا إذا كان مقاما وصيا عليها. والوصي له الولاية على مال الصغيرة فقط، فله قبض مهرها وليس له تزويجها، إلا إذا كان قريبا لها ولا يوجد أقرب منه، فمن له الولاية على النفس والمال معا
1 قال في الدر: لو تزوجها على ألف إن كانت قبيحة وعلى ألفين إن كانت جميلة يصح الشرطان بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه، ووجهه عند الإمام أن الجهالة هنا غير فاحشة؛ لأنها وقت الشرط على صفة واحدة من الجمال أو القبح وجهل الزوج بصفتها لا يوجب خطرا. وفي هذا نظر.
يملك التزويج وقبض المهر، ومن له الولاية على أحدهما فقط لا يتعداه إلى الآخر. فإذا قبضت الكبيرة العاقلة مهرها بنفسها أو بوكيلها برئت ذمة الزوج منه. وإذا قبض مهر الصغيرة واحد ممن لهم الولاية على مالها فقبضه معتبر، وتبرأ به ذمة الزوج، وليس للصغيرة بعد بلوغها أن تطالب زوجها بشيء منه وشأنها مع وليها. وإذا قبضه واحد ممن ليست لهم الولاية على مالها فقبضه غير معتبر ولا تبرأ به ذمة الزوج، فللزوجة بعد بلوغها أن تطالب زوجها به، وهو يرجع على من أقبضه إياه. كما إذا قبض مهر الكبيرة أحد بدون توكيل منها.
وبما أن المهر يصير بعد العقد خالص حق الزوجة، فلها أن تتصرف فيه بكل التصرفات الجائزة لها شرعا، شأن كل مالك في ملكه، فلها أن تشتري به وتبيعه وتهبه لأجنبي أو لزوجها. وليس لأحد يجبرها على فوات شيء منه لزوجها أو لغيره ولو كان أباها أو أمها. وإذا ماتت قبل أن تستوفيه كان تركة لها يستوفيه ورثتها، مع مراعاة أن زوجها من ضمن ورثتها كما تقدم.
وإذا كان المهر من الأعيان التي تتعين بالتعيين كعشرة فدادين محدودة ووهبتها الزوجة لزوجها، أو وهبت له نصفها ثم طلقها قبل الدخول بها حقيقة أو حكما، فسواء كانت هبتها له بعد القبض أو قبله ليس له مطالبتها بشيء؛ لأنه بالطلاق قبل الدخول حقيقة أو حكما يستحق خمسة فدادين من هذه العشرة، وقد عاد له عين ما يستحقه وإن كان عوده من طريق الهبة.
وكذلك إذا كان المهر مما لا يتعين بالتعيين كمائة جنيه أو عشرة أرادب قمح هندي أو عشرة قناطير قطن أشموني، وقبل أن تقبضه وهبته له أو وهبت له نصفه، ثم طلقها قبل الدخول حقيقة أو حكما فليس له مطالبتها بشيء؛ لأنه بالطلاق قبل الدخول وقبل تسليمها المهر يستحق براءة ذمته من نصف المهر، وقد برئت ذمته منه فقد استوفى حقه. وأما إذا كان مما لا يتعين بالتعيين كمائة جنيه وقبضته ثم وهبته له
فطلقها قبل الدخول فإنه يطالبها برد نصف المهر إليه؛ لأن المائة التي أخذها بالهبة ليست هي التي أعطاها إياها مهرا، فكأنها وهبته أي مائة.
فالأصل أنه إذا عاد للزوج بالهبة من زوجته عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول لا يطالب الزوجة بشيء. ولا عبرة بكونه عاد إليه من طريق الهبة وهو استحقه من طريق الطلاق قبل الدخول؛ لأن اختلاف الطريق لا يضر ما دام عين الحق قد وصل.
فلو كانت إعادته إليه لا بطريق الهبة بأن باعته له فهذا لا يؤثر في استحقاقه نصف المهر على أي حال؛ لأن الذي يسقط حقه في مطالبتها هو عود عين حقه إليه بغير عوض.
ضمان المهر:
بما أن المهر يكون بالعقد الصحيح دينا للزوجة في ذمة زوجها إن كان من النقود أو المثليات، وفي ضمانه إن كان من الأعيان القيمية فلها أن تستوثق لاستيفائه، بأخذ رهن منه تكون أحق به حتى تستوفي مهرها. أو بأخذ كفيل يضمن لها مهرها، ولا فرق بين أن يكون الزوج صغيرا أو كبيرا، وبين أن يكون الكفيل أجنبيا أو ولي أحد الزوجين.
ولهذا جعل في وثيقة الزواج الرسمية في مصر سطر خاص بالكفالة؛ ليدون فيه هل كفل أحد الزوج في المهر والنفقة أو في أحدهما أو لم يتعرض لها.
وبما أن الكفالة عقد فهي كسائر العقود تتم بالإيجاب والقبول، فإذا كفل الزوج أبوه في مهر زوجته فلا بد لصحة الكفالة ونفاذها من أن تقبلها الزوجة في مجلس إيجابها، إن كانت كبيرة عاقلة أو يقبلها عنها وليها، إن كانت صغيرة ليست أهلا للقبول. وإذا كفل أبو الزوجة الصغيرة مهرها لها قامت عبارته مقام إيجابه وقبوله لما له من الولاية عليها.
وبما أن الكفالة من التبرعات1؛ لأنها التزام الكفيل بأن يطالب مع الأصيل بدين على الأصيل لا عليه. والتبرعات في حالة صحة المتبرع نافذة أيا كان الشخص المتبرع له، ومهما بلغ مقدار المتبرع به. وفي حال مرض الموت حكمها حكم الوصية فإن كان المتبرع له وارثا توقف نفاذ التبرع على إجازة سائر الورثة. وإن كان غير وارث نفذ التبرع فيما يعادل ثلث تركة المتبرع وتوقف فيما زاد على إجازة سائر الورثة.
بناء على هذا إذا كفل الزوج أبوه في مهر زوجته فهو متبرع لابنه بالكفالة بهذا المهر، وإذا كفل أبو الزوجة مهرها لها فهو متبرع لبنته بها، فإذا كان الكفيل منهما في حال صحته فكفالته صحيحة نافذة غير متوقفة على إجازة أحد، وإذا كان في مرض موته فكفالته في حكم الوصية والمتبرع له وارث وهو ابنه المكفول عنه في الصورة الأولى وبنته المكفول لها في الصورة الثانية، ولهذا يتوقف نفاذ الكفالة في الصورتين على إجازة سائر الورثة مهما كانت قيمة المهر المكفول.
وأما إذا كان الكفيل أجنبيا من المكفول له أو المكفول عنه، فإن كان في حال صحته فكفالته نافذة، وإن كان في مرض موته فكفالته نافذة فيما لا يتجاوز ثلث تركته، وتتوقف على إجازة ورثته فيما زاد عنه.
ومتى تمت الكفالة كان للزوجة أن تطالب بمهرها الزوج أو الكفيل، فإذا أدى الأصيل وهو الزوج فقد برئت ذمته، وإذا أدى الكفيل رجع بما أداه على الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره وإذنه، وإلا فلا رجوع له على الأصيل.
وإذا كان الكفيل أبا الزوج والزوج كبير فهو على هذا الأصل العام إن ضمنه بإذنه رجع عليه بما أداه وإلا فلا رجوع، أما إذا كفل الأب ابنه الصغير الفقير فليس له الرجوع عليه بالمهر الذي أداه، إلا إذا أشهد عند أدائه أنه أداه ليرجع
1 إذا كانت الكفالة بغير أمر المدين وإذنه تكون تبرعا ابتداء وانتهاء، وإذا كانت بإذنه تكون تبرعا ابتداء فقط.
به عليه؛ وذلك لأن العادة جارية بأن الآباء يدفعون مهور أبنائهم الفقراء، فهي قرينة على أن الأب متبرع بما ضمن، فإذا أراد خلاف المعتاد فلا بد أن يشهد على ذلك، ولو مات أبو الصغير الفقير قبل أن يدفع المهر الذي ضمنه لزوجته فللزوجة أخذه من تركته، ولباقي الورثة الرجوع به في نصيب الصغير من ميراث أبيه.
وإذا لم يكفل الأب ابنه الصغير في مهره فليس للزوجة مطالبة الأب به؛ لأنه ليس مدينا ولا كفيلا، لكن إذا كان الصغير غنيا فللزوجة مطالبة أبيه بأن يدفع لها مهرها من مال الصغير المشمول بولايته ولو لم يضمن.
هلاك المهر، واستهلاكه، واستحقاقه: 1
إذا قبضت الزوجة مهرها وهلك في يدها فهو ملكها وهلاكه عليها، لا ترجع على الزوج بشيء، وكذلك إذا استهلكته هي أو استهلكه غيرها كان ضمانه على من استهلكه.
وأما إذا هلك في يد الزوج قبل أن تقبضه منه فهو ضامن لمثله أو قيمته سواء هلك من نفسه أو بفعل الزوج، إلا إذا كان هلاكه بعمل من الزوجة فإنها باستهلاكه تعتبر مستوفية له، وإذا كان هلاكه بفعل أجنبي فضمانه على من استهلكه، والزوجة بالخيار إن شاءت ضمنت هذا المستهلك وإن شاءت ضمنت زوجها، وهو يرجع على المستهلك بما أداه.
وأما إذا استحق المهر بأن تبين أن المنزل المسمى مهرا ليس ملكا للزوج، بل هو ملك غيره فسواء أكان ثبوت استحقاقه قبل القبض أو بعده فالزوج ضامن لمثله أو قيمته.
1 المهر إذا كان مما لا يتعين بالتعيين فإنه بمجرد العقد الصحيح يثبت دينا للزوجة في ذمة الزوج، وإذا كان مما يتعين بالتعيين يكون بمجرد العقد الصحيح ملكا للزوجة، وفي ضمان الزوج ما بقي في يده، فأداء المهر في الحال الأولى يبرئ ذمة الزوج منه، وأداؤه في الحال الثانية يبرئه من ضمانه.
وإذا استحق بعضه كثلثه أو نصفه وكان المهر من المثليات أخذت الزوجة الباقي ورجعت على الزوج بمثل المستحق، وإن كان من القيميات كمنزل مثلا خيرت الزوجة بين أن تأخذ الباقي وقيمة المستحق من الزوج وتصير شريكة مع المستحق، وبين أن تأخذ قيمة المسمى كله وتترك للزوج الباقي منه ليكون هو شريك المستحق؛ لأنها لا تجبر على شركة في مهرها قد لا ترضاها.
قضايا المهر:
قضايا المهر والمنازعات بشأنه بين الزوجين أو ورثتهما ليست محصورة في مسائل معينة، فقد يكون النزاع في أن المهر المستحق بالطلاق كل المسمى أو نصفه، وقد يكون النزاع في مقدار مهر المثل ما هو، وقد يكون النزاع في أن صيغة الكفالة المدونة بالعقد تتناول المهر أو لا تتناوله، إلى غير ذلك من صور المنازعات، ولكن فقهاء الحنفية اقتصروا في هذا البحث على ذكر قضايا أربع:
"الأولى" إذا ادّعت الزوجة بعد الدخول بها حقيقة أن مهرها جميعه باق في ذمة زوجها، وأنها لم تقبض شيئا من مقدم صداقها والزوج ينكر ذلك، لا تسمع هذه الدعوى؛ لأنها دعوى يكذبها الظاهر إذ الغالب أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا بعض قبض مقدم صداقها أو شيء منه.
فإن ادّعت أنه باق لها بذمته بعض المقدم لا كله تسمع دعواها، وإن دفعها الزوج بأنه أوافها جميع المقدم فعليه إثبات ما دفع به. والمرجع في أن الظاهر يكذب دعواها أو لا يكذبها إلى العرف.
"الثانية" إذا ادّعى أحد الزوجين أنه سمي في العقد مهر تسمية صحيحة، وأنكر الآخر حصول تسمية فالبينة على من ادعى التسمية واليمين على من أنكرها، فإن أقام المدعي البينة قضي بالمسمى الذي ادعاه، وإن عجز عن إقامة البينة وطلب تحليف
المنكر وجهت إليه اليمين، فإن نكل عن الحلف حكم عليه بسبب نكوله؛ لأنه بمثابة اعتراف منه بدعوى المدعي، وإن حلف أنه لم تحصل تسمية حكم برفض دعوى المدعي، ويكون الواجب حينئذ مهر المثل؛ لأنه هو الموجب الأصلي لكل زواج لم يثبت حصول تسمية للمهر فيه على أن لا ينقص مهر المثل الواجب عما ادعاه الزوج، إن كان هو مدعي التسمية ولا يزيد على ما ادعته الزوجة إن كانت هي مدعية التسمية؛ لأن ادعاء واحد منهما مسمى معينا يعد رضا منه به، فالزوج راض بأن يزيد مهر المثل إلى ما ادعاه، والزوجة راضية بأن ينقص إلى ما ادعته.
وظاهر أنه إنما يكون الواجب مهر المثل إذا كان هذا النزاع في حالة تستحق فيها الزوجة المهر بتمامه، بأن كانت الزوجية الصحيحة قائمة أو حصلت فرقة، ولكن بعد وجود ما يؤكد وجوب المهر بتمامه من دخول حقيقي، أو حكمي.
وأما إذا كان النزاع بعد الفرقة وقبل وجود واحد من مؤكدات وجوب المهر بتمامه، فإنه إذا حلف المنكر ترفض الدعوى، ويكون الواجب المتعة؛ لأنها هي التي تقوم مقام نصف المهر المثل، على أن لا تنقص عن نصف ما سماه الزوج إن كان هو المدعي، ولا تزيد على نصف ما سمته الزوجة إن كانت هي المدعية.
هذا إذا كان النزاع في أصل التسمية بين الزوجين أنفسهما ومثله، ما إذا كان النزاع بين أحدهما وورثة الآخر، أو بين ورثتهما. وهذا قول الصاحبين وبه يفتى. وخالفهما الإمام فيما إذا كان النزاع بين ورثتهما وطال العهد بموت الزوجين وموت أقرانهما، فقال إنه في هذه الحال لا يمكن معرفة مهر المثل حتى نوجبه، وعلى قوله هذا إذا حلف المنكر ترفض دعوى المدعي، ولا يقضى بشيء لا بالمسمى لعدم ثبوته ولا بمهر المثل لعدم معرفته، فإن لم يتقادم عهد موتهما وأمكن معرفة مهر المثل فالإمام وصاحباه متفقون على وجوبه بعد الحلف.
"الثالثة" إذا اختلف الزوجان في قدر المسمى بأن ادعت الزوجة أن المهر المسمى مائة جنيه، وادعى الزوج أنه ثمانون فقال أبو يوسف: إن الزوجة تدعي الزيادة والزوج ينكرها، فإن أقامت البينة على ما ادعت قضى لها به، وإن عجزت عن البينة وطلبت تحليف الزوج وجهت إليه اليمين فإن نكل قضي بما ادعته وإن حلف قضي بالقدر الذي ذكره هو، إلا أن يكون قدرا أقل من مهر مثلها بحيث يستنكر عادة أن يسمى لمثلها فيحكم مهر المثل.
وقال الطرفان: إن كل واحد منهما مدع ومنكر، فالزوج يدعي أن مهرها ثمانون وينكر دعواها في زيادة العشرين، وهي تدعى عليه بالعشرين وتنكر أن له الحق في إدخالها في طاعته حتى تتسلمها.
وإذا كان كل منهما مدعيا فمن أقام منهما بينة على دعواه قضي له، وإن أقاما بينتين فإن كان مهر المثل يشهد لإحدى البينتين كانت مرجوحة، والبينة الأخرى التي لا يشهد لها مهر المثل راجحة.
ففي المثال المذكور إذ أقام الزوج بينة على أن المسمى ثمانون وأقامت هي بينة على أنه مائة، فإن كل مهر مثلها ثمانين أو ستين أو أقل رجحت بينتها هي وقضي لها بالمائة، وإن كان مهر مثلها مائة أو مائة وعشرين أو أكثر رجحت بينته هو وقضي بالثمانين.
وقالوا في تعليل هذا إن البينات شرعت لإثبات خلاف الظاهر، والظاهر هنا مهر المثل فالبينة التي تخالفه راجحة1.
1 وفي هذا التعليل نظر؛ لأن كون البينات شرعت أصلا لإثبات خلاف الظاهر لا يقتضي أن وجود قرائن وشواهد تعضدها يجعلها مرجوحة، ويجعل الأخرى التي تكذبها القرائن والشواهد راجحة، مع أن الظاهر قد يكون وحده شهادة فكيف إذا أيد بينة يضعفها.
وإذا كان مهر المثل لا يشهد لإحدى البينتين بأن كان تسعين في المثال المذكور أي: أكثر مما قال وأقل مما قالت فلا مرجح لإحدى البينتين المتعارضتين، فتسقطان ويقضى بمهر المثل.
وإن لم يكن لأحدهما بينة فالقول لمن يشهد له مهر المثل بيمينه، فإن شهد للزوج وجهت إليه اليمين بطلبها، وإن شهد للزوجة وجهت إليها اليمين بطلبه، فمن نكل قضي عليه بما ادعاه خصمه، ومن حلف قضي له بما ادعاه. وإن كان مهر المثل لا يشهد لواحد منهما تحالفا أي: وجهت اليمين إلى كل منهما ليحلف على نفي دعوى صاحبه، فإن حلفا جميعا قضي بمهر المثل، وإن نكل أحدهما قضي عليه بما ادعاه خصمه، ويبدأ بتحليف الزوج.
والعمل في المحاكم الشرعية المصرية بمذهب أبي يوسف فقد جاء في المادة 16 من القانون رقم 25 لسنة 1929 ما نصه:
"إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر فالبينة على الزوجة، فإن عجزت كان القول للزوج بيمينه إلا إذا ادعى ما لا يصح أن يكون مهرا لمثلها عرفا فيحكم مهر المثل، وكذلك الحكم عند الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر أو بين ورثتهما" والأخذ بقول أبي يوسف في هذا أعدل وتطبيقه قضاء أيسر؛ لأن تحكيم مهر المثل وترجيح البينة التي لا يشهد لها قد يكون متعذرا في بعض الحالات.
"الرابعة" إذا أعطى الخاطب مخطوبته أو أعطى الزوج زوجته قبل الدخول بها أو بعده شيئا من النقود أو الحلي أو الثياب أو الطعام أو غيرها، ولم يعين وقت إعطائه أنه هدية أو من المهر، ثم اختلفا فادعت هي أنه هدية وادعى هو أنه من المهر، فإن أقام أحدهما بينة على ما ادعاه قضي له، وإن أقاماها جميعا رجحت بينتها؛ لأنها تثبت خلاف الظاهر، إذ الظاهر أن المعطي أعطى ليؤدي الواجب عليه، فإن الإنسان يعمل أولا على تخليص ذمته مما عليه ثم يهدي
ويتبرع، وإن عجزا عن إقامة البينة فالقول لمن يشهد له العرف بيمينه، فإن كان العرف جاريا بأن هذا المعطى يعتبر هدية فالقول فيه للمرأة بيمينها، وإن كان لم يتعارف بأنه هدية فالقول فيه للرجل بيمينه، وإن لم يكن عرف فالقول للرجل بيمينه؛ لأنه هو المعطي وإليه المرجع في بيان على أي وجه كان الإعطاء، لكن إذا كان ما أعطاه مما يستنكر أن يكون مهرا كطعام مهيأ للأكل من سمك أو شواء ونحوه فلا يكون القول فيه، وتصدق فيه هي بيمينها؛ لأن الظاهر أن مثل هذا من الهدايا.
وفي كل موضع يثبت فيه أن المعطى مهر سواء كان ثبوته بالبينة أو اليمين، فإن كان هذا المعطى موجودا في يد الزوجة فهي بالخيار إن شاءت احتسبته من مهرها واستوفت ما بقي لها منه، وإن شاءت ردته واستوفت مهرها كاملا، وإن كان قد هلك في يدها أو استهلك احتسب عليها بقيمته واستوفت الباقي لها من مهرها إن بقي لها منه شيء.
وإذا عدل الخاطب عن الخطبة بعد أن قدم لمخطوبته نقودا أو حليا أو ثيابا أو طعاما أو غير ذلك فما تبين أنه قدمه على أن يكون من المهر يسترده بنفسه إن كان قائما ويسترد مثله أو قيمته إن كان هالكا أو مستهلكا؛ لأنه قدمه على أنه واجب ولم يجب، وما تبين أنه قدمه هدية يسترده إن كان موجودا على حاله، وأما إن هلك أو استهلك فلا يسترد بدله أي شيء، وكذلك إذا منع من الرجوع فيه مانع مما يمنع رجوع الواهب في هبته.
الجهاز ومتاع البيت:
إذا اشترى الأب جهازا لبنته من ماله فهو متبرع لها بما اشتراه، فإن كانت كبيرة فلا تملكه إلا إذا تسلمته؛ لأن الأب متبرع بالشراء لها والتبرع لا يفيد الملك إلا بالقبض، ومتى تسلمته وملكته فليس لأبيها ولا لغيره أن يسترده أو شيئا منه؛ لأن الهبة للقريب المحرم لا يصح الرجوع فيها.
وأما إذا كانت صغيرة فإنها تملكه بمجرد الشراء لها؛ لأنها في ولايته ويده يدها، ومتى صار ملكا لها بالشراء فليس لأبيها ولا لغيره استرداد شيء منه؛ لأنه هبة للقريب المحرم.
وبما أن هذا تبرع من الأب أفاد التمليك بالتسليم في الحال الأولى أو بمجرد الشراء في الحال الثانية، فإن كان الأب في حال صحته وقت التسليم لابنته الكبيرة، أو وقت الشراء لابنته الصغيرة ملكت كل واحدة منهما ما تبرع به لها أبوها ملكا نافذا غير متوقف على إجازة أحد شأن كل تبرع يصدر من صحيح أهل للتبرع، وإن كان الأب وقت التسليم للكبيرة أو الشراء للصغيرة مريضا مرض الموت توقف نفاذ تبرعه على إجازة سائر ورثته؛ لأن التبرع في مرض الموت في حكم الوصية والوصية لوارث لا تنفذ إلا بإجازة سائر الورثة أيا كان مقدار المتبرع به.
وبما أن الجهاز يصير بالتسليم أو الشراء ملكا لابنته، فلو كان باقيا من ثمنه شيء فهو عليه هو، يطالب به في حياته ويستوفى من تركته بعد مماته، وليس لورثته الرجوع على البنت بشيء.
والجهاز ملك خالص للزوجة سواء اشترته بمالها أو اشتراه لها أبوها من ماله ولا حق للزوج ولا لأحد غيره فيه، ولا تجبر على استعماله لزوجها أو لأحد من ضيوفه، وإذا رضيت هي أن ينتفع به كان له الانتفاع، وإذا لم ترض كان عليه أن يعد مسكنه إعدادا شرعيا، ويجعله مستكملا كل ما يلزمه من فرش وأدوات، وهي أيضا لا تجبر على أن تجهز نفسها لا من مهرها ولا من غيره، فلو زفت بجهاز قليل لا يتناسب مع المهر الكثير الذي دفعه الزوج، أو بلا جهاز أصلا فليس له مطالبتها ولا مطالبة أبيها بشيء، ولا نقص شيء من المهر الذي تراضيا عليه، وإن بالغ الزوج في زيادته رغبة منه في كثرة الجهاز؛ لأن المهر حق تستحقه الزوجة في مقابلة تمليكه حق المتعة بها لا في مقابلة جهاز تزف إليه به.
قضايا الجهاز وأثاث البيت:
قضايا الجهاز والأثاث ليست محصورة، فقد يقع النزاع بشأن امتناع الزوج عن تسليم أعيان الجهاز أو بعضها لزوجته، وقد يقع النزاع بشأن قيمة هذه الأعيان إذا استهلكت، وقد يكون في غير ذلك، ولكن الفقهاء هنا اقتصروا على ذكر قضيتين اثنتين:
"الأولى" إذا جهز الأب بنته من ماله وزفها إلى زوجها بجهاز ولم يصرح بأنه ملّكها هذا الجهاز، أو أعاره إياها ثم ادعى هو أو أحد ورثته بعده أن أعيان الجهاز التي زفت بها أو بعضها كانت عارية لا ملكا للزوجة، وطلب الحكم بردها فادعت الزوجة أو زوجها بعد وفاتها أن هذه الأعيان كانت ملكا لا عارية ولا حق للأب أو ورثته في استردادها، فمن حيث إن كان واحد من المتداعيين مدع، فمن أقام منهما بينة على دعواه قضي له سواء أكان بحجة غير معارضة، وإن كان لكل منهما بينة رجحت بينة من يثبت خلاف الظاهر؛ لأن البينات لإثبات خلاف الظاهر، والظاهر هنا هو العرف فإن كان العرف يشهد أن مثل هذه الأعيان المتنازع فيها يجهز الأب بها ابنته تمليكا لها رجحت بينة مدعي الإعارة، وهو الأب أو ورثته بعده، وإن كان العرف يشهد بأنها تجهز بها إعارة رجحت بينة مدعي التمليك وهو الزوجة أو زوجها بعدها، وإن كان العرف مشتركا لا يشهد لواحد منهما ولا عليه رجحت بينة الأب أو ورثته؛ لأن الأب هو الذي أعطى الجهاز وجهة الإعطاء تعلم منه وورثته خلفاؤه يعلمون جهة تصرفاته.
وإن لم يكن لواحد منهما بينة فالقول لمن يشهد له الظاهر بيمينه، فإن كان الظاهر وهو العرف يشهد أن مثل هذه الأعيان تسلم إعارة فالقول للأب أو ورثته باليمين، وإن كان يشهد بأنها تسلم تمليكا فالقول للزوجة أو الزوج باليمين، وإن كان العرف مشتركا لا يشهد لواحد منهما ولا عليه فالقول للأب أو ورثته باليمين، لما قدمناه من أنه هو المعطي وإليه المرجع في بيان جهة الإعطاء؛ ولأن ورثته من
بعده هم خلفاؤه
…
وكذلك يكون القول للأب أو ورثته باليمين إذا كانت أعيان الجهاز أكثر مما تجهز به مثل هذه الزوجة عادة؛ لأن كثرته عن جهاز أمثالها ظاهر يشهد للأب بأنه أعار ولم يملك.
والأم والجد كالأب في ذلك النزاع؛ لأن العرف يحكم بأن تجهيز الأم لبنتها والجد لبنت ابنه كتجهيز الأب لابنته؛ لأنهما يقومان مقامه.
"الثانية" إذا اختلف الزوجان في أثاث البيت الذي يسكنانه، فادعى الزوج أنه له وادعت الزوجة أنه لها فمن حيث إن كلا منهما مدع، فمن أقام البينة قضي له، سواء كان الاختلاف حين قيام الزوجية أم بعد حصول فرقة، وسواء كان البيت الذي يسكنان فيه ملكا لأحدهما أم مستأجرا، وسواء شهد الظاهر لمن أقام البينة أم خالفه؛ لأن بينته أثبتت دعواه. وإن كان لكل منهما بينة رجحت بينة من يثبت خلاف الظاهر؛ لأن البينات كما قدمنا لإثبات خلاف الظاهر. والظاهر هنا هو صلاحية الشيء المتنازع فيه لأيهما، فإن كان يصلح له خاصة كثيابه الخصوصية أو أدوات الرسم لمهندس أو العيادة لطبيب رجحت بينتها، وإن كان يصلح لها خاصة كثيابها الخصوصية وأدوات زينتها رجحت بينته، وإن كان يصلح لهما كالسرر والبسط والأواني، فلا مرجح لإحدى البينتين، والقول قول الزوج بيمينه؛ لأن يده على البيت وما فيه ظاهر يشهد له بلا معارض. وإن لم يكن لواحد منهما بينة فالقول لمن يشهد له الظاهر بيمينه، فما يصلح للرجال خاصة القول فيه للزوج بيمينه، وما يصلح للنساء خاصة القول فيه للزوجة بيمينها، وهذا بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه.
وأما ما يصلح لهما ففيه خلاف. قال الطرفان: يكون القول فيه للزوج بيمينه؛ لأنه صاحب اليد وظاهر يده شاهد له. وقال أبو يوسف إن العادة جارية بأن الزوجة تزف إلى زوجها بشيء من الجهاز ولو قليلا، ويندر أن تزف الزوجة بلا جهاز أصلا، فهذه الأعيان الصالحة لهما من سرر وفرش وأوان وشبهها لا بد أن تكون