الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهبة:
تعريفها:
الهبة في اللغة التبرع والتفضل بما ينفع الموهوب له من مال وغيره. قال تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} وقال سبحانه: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} .
وفي اصطلاح الفقهاء هي عقد يفيد تمليك العين في الحال بغير عوض. فهي من عقود التمليك المجاني والملك وارد فيها قصدا على العين. ومنفعتها تملك تبعا لها. بخلاف الإعارة فإنها تمليك في الحال بغير عوض ولكن للمنفعة لا العين. وبخلاف الوصية فإنها تمليك العين أو الدين أو المنفعة بغير عوض، ولكن لا في الحال بل فيما بعد موت الموصي. وبخلاف البيع والإجارة فإن التمليك للعين في البيع وللمنفعة في الإجارة ليس بالمجان، وإنما هو في مقابلة الثمن أو الأجرة.
ركنها:
ركنها ركن كل عقد الإيجاب والقبول. فالإيجاب ما صدر أولا من أحد العاقدين للدلالة على الرضا. والقبول ما صدر ثانيا من الآخر للدلالة على موافقته والرضا بما رضي به. وإيجاب الهبة قد يكون بلفظ صريح لا يحتمل معنى غير الهبة كقول الواهب وهبتك. تبرعت لك. هذا لك. وقد يكون بلفظ غير صريح يحتمل الهبة وغيرها مثل أطعمتك. نحلتك. فاللفظ الصريح يتم به إيجاب الهبة بدون توقف على نية الواهب أو دلالة الحال. وغير الصريح لا يعتبر إيجابا للهبة إلا بالنية أو دلالة الحال، وقبول الهبة قد يكون باللفظ كقول الموهوب له قبلت. رضيت. وقد يكون بالفعل وذلك بأن يقبض الموهوب له العين الموهوبة فيقوم قبضه مقام قوله قبلت. غير أن هذا القبض إن كان في مجلس الإيجاب تم به العقد والملك ولو لم يأذن به الواهب صراحة. وإن كان بعد مجلس الإيجاب لا يعتبر قبولا إلا إذا أذن الواهب به صراحة. فإذا قال شخص لآخر وهبتك هذا
الكتاب فخذه فإذا تناوله الموهوب له تم العقد بتناوله وملكه، سواء كان التناول في مجلس الإيجاب أو بعده. وإذا قال وهبتك هذا الكتاب ولم يقل فخذه فإن تناوله في مجلس الإيجاب ملكه؛ لأن سكوت الواهب إذن بالقبض دلالة. وإن تناوله بعد مجلس الإيجاب لا يملكه؛ لأنه قبض بغير إذن لا صراحة ولا دلالة فهو غير معتبر شرعا كما سيجيء.
وهل إيجاب الهبة مثل قبولها كما يكون بالقول يكون بالفعل بمعنى أن المالك إذا سلم شيئا من ملكه إلى آخر أو أرسل إليه شيئا منه ودلت القرائن على أنه يتبرع له به، هل يكون هذا الإرسال أو الإعطاء أو التسليم هبة بالفعل كالهبة بقول وهبت؟ الذي يؤخذ من أقوال فقهائنا أنه يكون هبة. فقد نصوا على أن الأب إذا سلم ابنته جهازها الذي جهزها به من ماله، ولم يصرح بأنه وهبه لها يعتبر هبة إذا كان العرف يشهد بأنه يوهب. ونصوا على أن الخاطب إذا أرسل إلى مخطوبته حلية أو ثوبا ولم يصرح بأنه من مهرها أو هبة لها يعتبر هبة إذا كانت العادة أن مثل هذا يوهب. ونصوا على أن الأب إذا أنفق على أولاده الأغنياء الذين لا تجب نفقتهم عليه يعتبر متبرعا، فالذي يؤخذ من هذا إن إيجاب الهبة كقبولها، كما يكون بالقول يكون بالفعل، إذا دلت القرينة على إرادة الهبة بهذا الفعل. وهذا استحسان كما صرحوا في البيع بأنه ينعقد بالتعاطي. والقياس أن العقود إنما تكون باللفظ ولكن قد يقوم الفعل مقام اللفظ بدلالة الحال، فيكون التسليم والتناول هبة وقبضا كما يكون التعاطي بيعا.
وقد يقوم إيجاب الواهب مقام قبول الموهوب له وقبضه، فتتم به الهبة كما إذا وهب الأب لولده الصغير، أو وهب أي ولي لمن هو في ولايته فإن عبارة الولي بمنزلة إيجاب منه وقبول عن المولى عليه، ويده نائبة عن يده فإيجابه هو في المعنى إيجاب وقبول وقبض.
شروطها:
1-
في الواهب:
يشترط في الواهب شروط لصحة هبته. وشروط لنفاذها بدون توقف على إجازة أحد.
فيشترط لصحة هبته أن يكون كامل الأهلية بالعقل والبلوغ. وأن يكون غير محجور عليه للسفه أو الغفلة. وأن يكون مختارا غير مكره.
فإن كان فاقد الأهلية وهو المجنون والصغير غير المميز. أو ناقص الأهلية وهو المعتوه المميز والصبي المميز. أو محجورا عليه للسفه أو الغفلة. أو مكرها. فهبة كل واحد منهم غير صحيحة؛ لأنها صادرة من غير أهل لها؛ لأنهم فريقان: فريق لا يتصور منه الرضا أصلا وهو فاقد الأهلية، وفريق لا يتصور منه الرضا الصحيح الذي يعتبر شرعا رضا وهم الباقون. ولكون هبة الواحد منهم غير صحيحة لا تلحقها إجازة الولي أو القيم. ولا تلحقها إجازة الواهب نفسه بعد كمال أهليته أو رفع الحجر أو الإكراه عنه؛ لأن الإجازة لا تلحق غير الصحيح. فبطلان هبتهم بطلان جوهري1.
ويشترط لنفاذ هبته أن يكون مع توافر شروط الصحة فيه غير محجور عليه للدين. وأن يكون صحيحا غير مريض مرض الموت. وأن يكون مالكا للعين الموهوبة.
فإن كان محجورا عليه للدين فهبته صحيحة موقوفة على إجازة دائنيه، ما دامت تضر بحقوقهم فإن أجازوها نفذت وإن لم يجيزوها بطلت. وإن كان مريضا مرض الموت فهبته حكمها حكم الوصية إن كانت لأحد ورثته توقفت على إجازة سائر الورثة بعد موته أيا كان مقدار الموهوب. وإن كانت لغير وارث نفذت فيما يخرج من ثلث تركته فقط، وتوقفت فيما زاد عنه على إجازة الورثة بعد موته. وإن كان غير مالك
1 قال صاحب البدائع في كتاب الإكراه: "وأما النوع الذي يحتمل الفسخ، فالبيع والشراء والهبة والإجارة ونحوها. فالإكراه موجب فساد هذه التصرفات عند أصحابنا الثلاثة. وعند زفر: يوجب توقفها على الإجارة كبيع الفضولي. وعند الشافعي: يوجب بطلانها أصلا". ثم قال: "المكره على الهبة والصدقة إذا سلم طائعا لا يجوز".
لما وهب فهو فضولي، وتصرف الفضولي يتوقف على إجازة المالك. ومن هذا هبة الرقيق؛ لأنه غير مالك فتتوقف هبته على إجازة المالك.
2-
في الموهوب له:
يشترط في الموهوب له أن يكون موجودا تحقيقا وقت الهبة له. وأن يكون معينا. فإن كان غير موجود كما إذا قال الواهب وهبت داري لابن فلان، ولم يولد لفلان ابن فالهبة باطلة. وكذلك إن كان الموهوب له غير معين معلوم، كما إذا قال الواهب وهبت داري لفلان أو أخيه فالهبة باطلة؛ وذلك لأن الهبة تمليك العين في الحال، ولا تمليك إلا لموجود معلوم يتملك بنفسه أو بوليه، والمعدوم والمجهول لا يتملكان بنفسهما ولا بوليهما؛ لأنه لا ولاية لأحد عليهما فلا يتحقق معنى الهبة إذا كان الموهوب له واحدا منهما، وعلى هذا فالهبة للحمل غير صحيحة؛ لأن الحمل غير موجود تحقيقا فلا يملك بنفسه، ولا ولاية لأحد عليه وهو حمل إذ الولاية عليه تبتدئ من حين ولادته. بخلاف الوصية للحمل فإنها صحيحة، وسبب التفريق بينهما أن الهبة تمليك محض في الحال ولا تتم إلا بالقبض. والحمل ليس أهلا؛ لأن يتملك في الحال ولا أن يقبض لا بنفسه ولا بولي عليه. وأما الوصية فهي تمليك من وجه واستخلاف من وجه، ولذا قيل إنها أخت الميراث. ولا يشترط لتمامها القبض.
فمتى كان الموهوب له موجودا تحقيقا ومعلوما صحت الهبة له، غير أنه إن كان كامل الأهلية فهو الذي يقبل الهبة ويقبضها بنفسه أو بنائبه، وإن كان فاقد الأهلية بأن كان مجنونا أو طفلا غير مميز فالذي يقبل الهبة له، ويقبضها بنفسه، أو بوكيله هو الولي المالي عليهما؛ لأنهما ليسا أهلا للقبول والقبض. وإن كان ناقص الأهلية وهو الصبي المميز والمعتوه المميز أو محجورا عليه لسفه أو غفلة فالذي يقبل الهبة ويقبضها هو الولي عليهم أو هم بأنفسهم؛ لأن قبول الهبة من التصرفات النافعة نفعا محضا فيملكونها بأنفسهم.
3-
في صيغة الهبة:
يشترط في صيغة الهبة أن تكون منجزة. لا معلقة على شرط. ولا مضافة إلى زمن مستقبل؛ لأن معناها التمليك في الحال. والتعليق يجعل التمليك عند وجود المعلق عليه لا في الحال. وكذلك الإضافة تجعل التمليك حين حلول الزمن المضاف إليه. فلو قال الواهب وهبت لك كتابي هذا إن نجحت في الامتحان فهي هبة باطلة، وكذلك لو قال وهبت لك كتابي في أول السنة المقبلة. إلا إذا كان التعليق صوريا، بأن كان المعلق عليه محققا وقت التكلم كما إذا قال إن كان هذا الكتاب ملكي فقد وهبته لك، وهو في الواقع ملكه؛ لأن هذه في الحقيقة صيغة منجزة في صورة معلقة. والأصل في عقود التمليك التام أنها تفيد الملك في الحال ولا تقبل توقيتا ولا تعليقا ولا إلى إضافة إلى مستقبل.
وأما اقترانها بالشرط: فإذا اقترنت الصيغة بشرط صحيح يلائم مقتضى العقد صحت الهبة، والشرط كما إذا وهبه كتابا، وشرط عليه أن يهديه هدية عينها. وأما إذا اقترنت بشرط لا يلائم مقتضى العقد، فالهبة تصح والشرط يبطل، كما إذا وهبه كتابا بشرط أن لا ينتفع به، أو بشرط أن لا يملكه ورثته من بعده.
والعمري هي هبة مقرونة بشرط باطل، ولذلك صحت وبطل الشرط. وصورتها أن يقول شخص لآخر وهبتك داري مدة عمرك، أو حياتك فإذا مت أنت فهي رد علي. أو وهبتك داري مدة عمري أو حياتي فإذا مت أنا فهي رد على ورثتي، أو يقول أعمرتك داري أو داري لك عمري، فهذه هبة مقرونة بشرط وهو تقييد الملك المقصود بها بوقت، هو مدة عمر الواهب أو الموهوب له، وهذا الشرط لا يلائم العقد؛ لأن مقتضى عقود التمليك التام استفادة الملك مطلقا غير موقت. ولذلك صحت الهبة وبطل الشرط فتكون الدار للمعمر له ولورثته من بعده.
وأما الرُّقبي فهي هبة معلقة على شرط غير محقق في الحال ولذلك كانت باطلة، وصورتها أن يقول شخص لآخر داري لك رقبي إن مت قبلك فهي لك، وإن مت قبلي فهي لي كأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، فهذه هبة معلقة على موت
الواهب قبل الموهوب له فهي باطلة. وحينئذ لا تفيد الملك للموهوب له. ويظل الشيء المرقب على ملك مرقبه ولورثته من بعده، ويكون في يد المرقب له عارية.
في الشيء الموهوب:
يشترط في الشيء الذي يوهب شروط لصحة هبته، وشروط لنفاذها، وشروط لتمام ملكيته.
فيشترط لصحة هبته أن يكون وقت عقد الهبة مالا، متقوما، موجودا، معلوما، مملوكا في نفسه، سواء كان من العقارات أو المنقولات.
ويشترط فيه لنفاذها أن يكون وقت عقد الهبة مملوكا للواهب.
ويشترط فيه لتمام ملكيته أن يقبضه الموهوب له.
وهذا تفصيل الإجمال في هذه الشروط.
1-
كونه مالا: فلو كان الشيء الموهوب ليست له قيمة مالية أصلا، ولا يتمول كالميتة حتف أنفها والدم المسفوح، فلا تصح هبته؛ لأن الهبة تمليك ولا تمليك إلا لما له قيمة مالية يتملك.
2-
كونه متقوما: فلو كان الشيء الموهوب غير متقوم في حق العاقدين، أو أحدهما كالخمر والخنزير بالنسبة للمسلمين، فلا تصح هبتهما؛ لأنهما في حق المسلمين غير محل للملك والتملك والهبة عقد تمليك.
3-
كونه موجودا: فلو كان الشيء الموهوب معدوما وقت عقد الهبة فلا تصح الهبة؛ لأنه لا محل للعقد، فلو وهب إنسان لآخر فرسا ثم تبين أنها ماتت قبل العقد فالهبة باطلة. ولو وهب لإنسان ما تثمره نخلته هذه السنة. أو ما تلده نعجته هذه المرة. أو ما في بطن بقرته من حمل، أو ما في ضرعها من لبن. فلا تصح الهبة في هذا كله؛ لأن المعدوم في الحال لا يتحقق فيه معنى الهبة، وهو التمليك في الحال. وكذلك لا تصح الهبة إذا كان الموهوب في حكم المعدوم فلو وهب لإنسان
ما في هذا البر من دقيق، أو ما في هذا اللبن من سمن، أو ما في هذا القصب من سكر، فلا تصح الهبة؛ لأن عين الوهوب غير موجود بشخصه فهو في حكم المعدوم.
4-
كونه معلوما: علم الموهوب يتحقق بتعيين قدره، كما إذا قال: وهبت لك نصف منزلي، أو بتعيين شخصه، كما إذا قال: وهبتك كتابي هذا؛ لأن الملكية لا ترد إلا على معلوم، فلو كان الشيء الموهوب مجهولا قدره وشخصه فلا تصح هبته، كما إذا وهب إنسان لآخر جزءا من داره ولم يبين قدره، أو وهب له أحد فرسيه ولم يعين أحدهما، أو شاة من غنمه ولم يبينها.
5-
كونه مملوكا في نفسه: والمراد بهذا كون الشيء الموهوب في ذاته مما ترد عليه الملكية، ويقبل التداول وانتقال ملكيته من يد إلى يد؛ لأنه لو كان مما لا يتملك ولا يقبل التداول لا يتحقق معنى الهبة فيه، فلو كان الشيء الموهوب من المباحات: كالماء في النهر، والسمك في البحر، والطير في الهواء. فلا تصح هبته؛ لأن المباح وهو مباح لا ملكية لأحد له ولا يرد عليه التمليك. ومن هذا لا تصح هبه المساجد والزوايا؛ لأنها ببنائها مساجد أو زوايا خرجت عن ملك بانيها، ولم تدخل في ملك أحد فصارت غير مملوكة في نفسها وغير قابلة للتداول.
وأساس هذه الشروط الخمسة أن الهبة عقد تمليك في الحال، فلا بد أن يكون محل العقد وهو الشيء الموهوب مما يملك في وقت وجود عقد الهبة، وذلك بكونه وقت العقد مالا متقوما موجودا معلوما مما يملك ويملَّك.
كونه مملوكا للواهب:
هذا شرط لنفاذ الهبة لا لصحتها، فلو وهب الإنسان ما هو مملوك لغيره فهو فضولي وهبته موقوفة على إجازة المالك، فإن أجازها المالك، وهو أهل لإجازتها بأن كان أهلا للتبرع نفذت، وإن لم يجزها بطلت. وكذلك إذا كان المالك غير أهل للإجازة. ولهذا بطلت هبة الولي المالي أي شيء من مال
من له الولاية عليه، كهبة الأب أو الجد أو الوصي مال الصغير؛ لأن المالك هو الصغير وهو ليس أهلا للإجازة.
فيلاحظ الفرق بين اشتراط كون الموهوب مملوكا في نفسه وبين اشتراط كونه مملوكا للواهب، فإن الأول شرط صحة، ويتفرع عليه أن هبة المباحات غير صحيحة. والثاني شرط نفاذ ويتفرع عليه أن هبة المملوك للغير صحيحة ولكنها موقوفة على إجازة المالك.
قبض الموهوب:
قبض الشيء الموهوب ليس شرطا لانعقاد الهبة، ولا لصحتها ولكنه شرط لانتقال الملكية من الواهب إلى الموهوب له، فبمجرد الإيجاب من الواهب والقبول من الموهوب له، واستيفاء الشروط التي بيناها في العاقدين. وفي صيغة العقد. وفيما يوهب. ينعقد العقد ويصح. ولكن لا يترتب عليه أثره وهو انتقال الملكية، إلا إذا قبض الموهوب له ما وهب له سواء كان عقارا أو منقولا. وقبل القبض تبقى العين الموهوبة ملكا للواهب وأي تصرف له نافذ. ولا يتعلق بها حق للموهوب له. وعللوا ذلك بما ورد من الأثر "لا تجوز الهبة إلا مقبوضة" وبأنه لو ثبت الملك في الشيء الموهوب بمجرد الإيجاب والقبول قبل القبض ثبت للموهوب له حق المطالبة بتسليمه، فينقلب عقد الهبة من عقد تبرع إلى عقد ضمان وفي هذا قلب للمشروع.
وإنما يكون القبض معتبرا شرعا وتنتقل به الملكية بشرطين: "أحدهما" أن يكون القبض بإذن الواهب. فإن كان الإذن صراحة كما إذا قال الواهب للموهوب له: اقبض ما وهبت لك، أو خذه، أو تسلمه، صح القبض في مجلس العقد وبعده. وإن كان الإذن دلالة كما إذا تناول الموهوب له العين الموهوبة على مرأى من الواهب وهو ساكت عن نهيه صح القبض في مجلس العقد لا بعده. "وثانيهما" أن يتولى القبض الموهوب له إن كان مميزا، أو وليه إن كان غير مميز، أو زوج الصغيرة بعد زفافها إليه؛ لأنه بعد الزفاف يعولها ويقوم على حفظها فيقبض ما يوهب لها.
وقد ينوب القبض القائم وقت الهبة عن تجديد قبض بعدها، فإذا أودع علي عند محمد وديعة، أو أعار له عارية، أو غصب محمد من علي عينا فقال علي: وهبت لك الوديعة، أو العارية، أو العين المغصوبة، وقال محمد: قبلت: فإن محمدا يملك ما وهب له مما تحت يده من وديعة أو عارية أو غصب بمجرد الإيجاب والقبول، وينوب قبضه القائم عن قبض يجدده بعد الهبة.
والقبض نوعان: قبض كامل، وقبض ناقص. فالقبض الكامل يتحقق بحيازة العين الموهوبة مفرزة غير شائعة في غيرها ولا متصلة به، والقبض الناقص يتحقق بمجرد التخلية بين الموهوب له والشيء الموهوب.
وفي بعض الهبات لا تنتقل الملكية إلا بالقبض الكامل. وفي بعضها قد يكتفى بالقبض الناقص وتنتقل به الملكية، وهذا هو التفصيل:
هبة المفرز المنفصل عن غيره: فإذا كان الشيء الموهوب مفرزا ليس شائعا في غيره ولا متصلا به كهبة دار محدودة ليست مشغولة بشيء للواهب. أو هبة خاتم معين أو كتاب معين، فلا تنتقل الملكية بالهبة فيه، إلا إذا قبضه الموهوب له قبضا كاملا بأن يتسلمه ويحوزه لنفسه.
هبة المشاع:
وأما إذا كان الشيء الموهوب مشاعا في غيره كهبة نصف هذ المنزل أو ربع هذا الحمام أو ثلث هذه الأرض الزراعية. فإن كان المشاع الموهوب بعضه يقبل القسمة كخمسين فدانا وهب خمسها أو منزل كبير وهب نصفه فإنه لا ينتقل الملك فيه إلا بالقبض الكامل، أي: بالقسمة وإفراز القدر الموهوب وتسليمه للموهوب له وحيازته لنفسه. وإن كان المشاع الموهوب بعضه لا يقبل القسمة كفرس أو منزل صغير، فإنه يكتفى بالقبض الناقص، وتنتقل الملكية فيه بقبض الموهوب على الشيوع. ووجه التفرقة بين الحالين إنه لما كان المشاع يقبل القسمة كان القبض الكامل ممكنا بالإفراز والحيازة، فلا تنتقل الملكية إلا به. ولكن
لما كان المشاع لا يقبل القسمة كان القبض الكامل غير ممكن، فاكتفى بالقبض الناقص الممكن، وهو القبض على الشيوع، والأصل في هذا أن النص شرط القبض. والقبض عند الإطلاق ينصرف إلى القبض الكامل، فحيث أمكن القبض الكامل لا تنتقل الملكية إلا به، وحيث لا يمكن يكتفى بالقبض الناقص.
والمراد بما يقبل القسمة ما يبقى منتفعا بأجزائه بعد القسمة، الانتفاع الذي كان منتفعا به قبلها، كعشرة أفدنة من خمسين فدانا، أو نصف منزل كبير يقبل أن يقسم منزلين. والمراد بما لا يقبل القسمة ما لا يبقى منتفعا به بعد القسمة الانتفاع الذي كان قبلها بأن كان لا يبقى منتفعا به أصلا، كحبة من اللؤلؤ لو قسمت لا ينتفع بها، أو يبقى منتفعا به، ولكن بغير الانتفاع الأول كبقرة أو منزل صغير.
ومن هذا يتبين أن المشاع سواء أكان يقبل القسمة أم لا يقبلها تصح هبة جزء معين منه، وأن شيوع الموهوب في غيره لا يبطل هبته غير أنه إن كان شائعا فيما يقبل القسمة لا يملك إلا بالقبض الكامل، أي: بالإفراز والحيازة، وإن كان شائعا فيما لا يقبل القسمة ملك بالقبض الناقص وهو قبضه على الشيوع.
هبة المتصل بغيره:
إذا كان الشيء الموهوب متصلا بغيره فإما أن يكون اتصاله اتصال ملاصقة أو اتصال جوار. واتصال الملاصقة إما أن يكون خلفيا كاتصال الزرع بالأرض والثمر بالشجر أو صناعيا كاتصال البناء بالأرض. واتصال الجوار كاتصال الدار بالأثاث الموضوع فيها. واتصال الأثاث بالدار، والهبة مع هذا الاتصال بكل أنواعه صحيحة، ولا تنتقل الملكية بها إلا بالقبض، غير أنه في اتصال الملاصقة بنوعيه: الخلقي والصناعي، وفي أحد نوعي اتصال الجوار هو ما إذا كان الموهوب مشغولا بما اتصل به، لا تنتقل الملكية إلا بالقبض الكامل، أي: بفصل الموهوب مما اتصل به، وتسليمه للموهوب له وحده. وأما في النوع الآخر من اتصال الجوار وهو أن يكون الموهوب شاغلا لما اتصل به فإنه تنتقل الملكية بالقبض الناقص
أي: بمجرد التخلية بين الواهب والموهوب له. وعلى هذا لو وهب ما في الأرض من زرع. أو وهب الأرض بدون زرعها. أو البناء القائم على الأرض. أو الأرض المقام عليها البناء بدونه. أو الدار المشغولة بأثاثه أو المكتبة المشغولة بكتبه، ففي كل هذا لا يملك الموهوب إلا بفصله مما اتصل به وقبضه وحده. ولو وهب ما في داره من أثاث، أو في مكتبته من كتب ملك الموهوب له الموهوب بمجرد التخلية بينه وبينه.
الهبة بشرط العوض:
إذا اشترط الواهب على الموهوب له أن يعطيه عوضا عن هبته صح ذلك. ولا يقال إن هذا ينافي كون الهبة تمليكا بغير عوض؛ لأن معنى كونها بغير عوض أنه ليس شرطا في تحققها وجود العوض كالبيع. وهذا لا ينافي أنها في بعض جزئياتها يشرط فيها العوض. فإذا وهب واحد لآخر كتابا على أن يهديه كتابا صحت الهبة والشرط، وتكون هبة ابتداء ومعاوضة انتهاء فيشترط فيها ما يشترط في الهبة ولا تنتقل الملكية إلا بالقبض، وإذا تمت روعي فيها أحكام البيع فيملك كل منهما ما أخذه ملكا لازما. وهذا هو مذهب الحنفية. وأما غيرهم فقالوا إن الهبة بشرط العوض بيع ابتداء وانتهاء فيراعى فيها أحكام البيع من حين العقد؛ لأن العبرة للمعاني لا الألفاظ.
حكم الهبة: إذا تمت الهبة مستوفية أركانها وشروطها وقبض الموهوب له العين الموهوبة، وترتب عليها حكمها وهو تملك الموهوب له للعين الموهوبة، ولكنه ملك غير لازم1؛ لأن الواهب له أن يرجع في هبته ويعيد إلى ملكه ما وهبه، ما لم يمنع من رجوعه أحد الموانع السبعة الآتية:
أما السبب في أن الواهب له حق الرجوع؛ فلأنه قد يكون أخرج العين من ملكه بغير عوض رغبة في أن يحقق له غرض من الأغراض الدنيوية، فإذا لم يحقق
1 الهبة إذا كانت لفقير محتاج أو لجهة من جهات البر تسمى صدقة، ويتم الملك فيها بالقبض، ولا يصح الرجوع فيها؛ لأن المقصود منها إذن مثوبة الله، ولا يصح الرجوع عن قصد الثواب من الله. بخلاف ما إذا كانت غير صدقة، فإن الواهب قد يكون قصده منها منفعة شخصية خاصة، فإذا فات قصده كان له الرجوع في هبته.
له هذا الغرض كان غير راض بالتمليك فيرجع فيه؛ لأن أساس التمليكات الرضا:
وهذا الحكم وتعليله موضع نظر؛ لأن العبرة في كل عقود التمليكات الرضا وقت العقد، وقد اعتبر صدرو الإيجاب منه اختيارا دليلا على الرضا، من غير نظر إلى ما تنطوي عليه نفسه. فمتى قال الواهب المستوفي الشروط وهبت، اعتبر راضيا بإخراج العين الموهوبة من ملكه بغير عوض، ولا عبرة بما ينويه ولا بما يطرأ بعد ذلك. ولهذا كان الرجوع في الهبة من وجهة الدين والخلق رزيلة تأباها المروءة وكرم الخلق؛ لأن فيه تغريرا بالموهوب له، ونقضا لالتزام تم من الواهب. ولذا قال الشافعي: لا يجوز للواهب أن يرجع في هبته إلا فيما يهب الوالد لولده.
وأما الموانع السبعة التي تمنع الواهب أن يرجع في هبته فهي المرموز لها بحروف "دمع خزقة" وهي:
1-
الزيادة المتصلة سواء كانت متولدة من الأصل، أو غير متولدة فمن وهبت له دابة فسمنت ونمت عنده، أو وهبت له قطعة أرض فبناها منزلا. أو وهب له منزل ذو طبقتين فبنى عليهما ثالثة، فليس للواهب أن يرجع في هبته؛ لأن الزيادة التي تولدت من الأصل كسمن الدابة أصبحت ملك الموهوب له؛ لأنها نماء مكله. والزيادة التي زادها الموهوب له كالبناء. هي ملكه أيضا، والواهب ليس له الرجوع إلا في ملكه خاصة وهو الأصل. وفصل الأصل من الزيادة قد يتعذر كما في سمن الدابة، أو يضر الموهوب له كما في البناء. وإذا فرجوع الواهب فيما وهب مع طروء هذه الزيادة المتصلة بنوعيهما إما متعذر وإما مضر بالموهوب له، فلهذا امتنع رجوعه في هذه الحال إلا إذا زالت الزيادة فيزول المانع ويعود له حق الرجوع. ومن هذا التعليل يفهم أن الزيادة المنفصلة لا تمنع الرجوع. كما إذا وهب له فرس فأسرجه.
2-
موت أحد العاقدين الواهب أو الموهوب له فإذا مات الواهب فليس لورثته الرجوع في الهبة؛ لأن الرجوع حق شخصي للواهب مبني على غرضه وقصده من الهبة فما دام لم يظهر له غرض آخر حتى مات اعتبر راضيا تمام الرضا بما وهب.
وإذا مات الموهوب له انتقل الملك في العين الموهوبة إلى ورثته، وليس للواهب الرجوع عليهم؛ لأنهم لم يتلقوا الملك منه بل من مورثهم.
3-
العوض فإذا كانت الهبة بشرط عوض أداه الموهوب له فليس للواهب الرجوع؛ لأن هذه في الحقيقة بيع لا هبة. وكذلك إذا لم تكن الهبة بشرط العوض، ولكن الموهوب له من تلقاء نفسه وبدون اشتراط عليه بعد أن تمت الهبة أعطى الواهب شيئا من ماله فأخذه. فسواء كان العوض مشروطا أو غير مشروط فهو مانع من الرجوع لحديث "الواهب أحق بهبته ما لم يثب عنها" أي: ما لم يعوض عنها.
4-
خروج الموهوب من ملك الموهوب له بأي سبب كالهبة والبيع والوقف؛ لأن الموهوب له تصرف في ملكه التصرف الجائز له، والواهب ليس له نقض هذا التصرف ولا الرجوع إلا على الموهوب له. وملكه الآن لغير الموهوب له.
5-
الزوجية: فإذا وهب أحد الزوجين للآخر شيئا فليس له الرجوع في هبته؛ لأن هذه الهبة في معنى الصلة للعلاقة الزوجية، وفي الرجوع قطع لهذه الصلة. والعبرة أن تكون الزوجية قائمة وقت الهبة، فلو وهب لأجنبية ثم تزوجها كان له الرجوع؛ لأن الزوجية وقت الهبة لم تكن قائمة. ولو وهب لزوجته ثم أبانها لم يكن له الرجوع؛ لأن الزوجية وقت الهبة كانت قائمة.
6-
القرابة المحرمية، فمن وهب لذي رحم محرم منه فليس له الرجوع حتى لا يكون بهذا الرجوع قاطعا لمن وصله من ذوي رحمه المحارم.
7-
هلال العين الموهوبة في يد الموهوب له؛ لأن ملك الواهب زال بالهلاك، وهو إنما يرجع في ملكه ولا يضمن الموهوب له مثلها، أو قيمتها؛ لأنها هلكت وهي على ملك الموهوب له، والمرء لا يضمن ملك نفسه عند هلاكه.
المحاكم المختصة بقضايا الهبة:
قضايا الهبة والوصية تتنازع اختصاصها في مصر. المحاكم الشرعية والمحاكم الأهلية. ومنشأ هذا النزاع أن المادة 16 من
لائحة ترتيب المحاكم الأهلية نصت على أنه ليس للمحاكم المذكورة أن تنظر في أمور منها: مسائل الهبة والوصية والمواريث وغيرها مما يتعلق بالأحوال الشخصية، فعلى هذا النص تستند المحاكم الشرعية في أن قضايا الهبة من اختصاصها، ولكن رئي أن القانون المدني نص على بعض أحكام الهبة في مواده، وهذا يقتضي أن للمحاكم الأهلية اختصاصا في قضايا الهبة تطبق فيه تلك النصوص.
لهذا جرى عمل كثير من المحاكم على توزيع الاختصاص، والتفريق بين القضايا المتعلقة بأصل الهبة والقضايا المتعلقة بغير أصلها، للتوفيق بين هذه النصوص.
فإذا كان موضوع النزاع انعقاد الهبة وصحتها، ونفاذها وأهلية الواهب وغير ذلك، مما يرجع إلى أركان الهبة وشروطها فالمختص بنظره المحاكم الشرعية. وأما إذا كان موضوع النزاع الإجراءات الشكلية، والتسليم وغير ذلك مما يتفرع من المنازعات، فالمختص بنظره المحاكم الأهلية.
ولكون الهبة اعتبرت من الأحوال الشخصية من جهة أن الواهب في الغالب ينوي بهبته التصدق والقربة، فالمرجع في أحكامها إلى الشريعة الإسلامية فيما لم ينص عليه القانون المدني. فالمختص بقضاياها نوعان من المحاكم ومرجع القضاء الأهلي في أحكامها إلى مصدرين: الشريعة الإسلامية والقانون المدني.