الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحرمات من النساء:
قدمنا أن من شروط صحة الزواج أن تكون المعقود عليها غير محرمة على من يريد الزواج بها بأي سبب من أسباب التحريم.
وهذا تفصيل المحرمات من النساء مؤبدا والمحرمات منهن مؤقتا:
من النساء من يحرم على المسلم أن يتزوج بواحدة منهن حرمة مؤبدة دائمة، على معنى أنها لا تحل أن تكون زوجة له في وقت من الأوقات. وهن النساء اللاتي تربطه بهن رابطة القرابة أو المصاهرة أو الرضاع. ومنهن من يحرم عليه أن يتزوج بواحدة منهن حرمة مؤقتة، على معنى أنها لا تحل أن تكون زوجة له ما دامت على حال خاصة قائمة بها، فإن تغير الحال وزال سبب التحريم الوقتي صارت حلالا له أن يتزوجها، وهن من تعلق حق غيره بها بزواج أو عدة. ومطلقته ثلاثا قبل أن تنكح زوجا غيره، ومن يكون في عصمته محرم لها، ومن يكون في عصمته أربع سواها، ومن لا تدين بدين سماوي، والأمة إذا كانت في عصمته حرة.
ومن عدا ذلك من النساء يحل للمسلم أن يتزوج منهن؛ لأن الله سبحانه بعد أن بيّن المحرمات قال عز شأنه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} .
الحكمة في تحريم من حرم من النساء:
أما تحريم من حرم من النساء مؤبدا بسبب القرابة أو المصاهرة أو الرضاع، فحكمته عدة أمور.
"الأول" أن كل إنسان في هذه الحياة محتاج إلى الارتباط بأفراد نوعه، وإلى عدة وسائل لهذا الارتباط بهم حتى يتبادل معهم الحاجات، ويتعاونوا على ما تتطلبه معيشتهم. وفي صلة القرابة أو المصاهرة أو الرضاع، ما يكفل إيجاد هذا الارتباط ويحقق تعاون المرتبطين بها. لهذا جعل الزواج وسيلة لإيجاد رابطة أخرى تربط
الزوج بمن تكون أجنبية عنه، لا تربطه بها صلة قرابة أو مصاهرة أو رضاع حتى تكون الزوجية وصلة بين الأجانب، وكم أسر متباعدة صارت بالتزاوج أسرة واحدة.
"الثاني" أن الإنسان كما أنه في حاجة إلى اكتساب رابطة تربطه بالأجانب عنه هو في حاجة إلى الاحتفاظ بصلات من تربطه بهم رابطة القرابة أو المصاهرة أو الرضاع، وفي إباحة الزواج بمن تربطه بهم إحدى هذه الروابط تعريض الوصلة بهم إلى القطيعة؛ لأن تبادل الحقوق والواجبات بين الزوجين قد يؤدي إلى الخلف والخصومة فتتحول القرابة إلى عداوة، ويفقد المرء آثار الارتباط بمن تربطه بهم تلك الصلات.
"الثالث" أن للقرابة حقوقا وللزوجية حقوقا وقد تتنافى هذه الحقوق وتتعارض فتكون من تجب لها الطاعة واجبا عليها الطاعة ومن له الرياسة مرءوسا. ولهذا التنافي حرم على السيد أن يتزوج أمته، وعلى السيدة أن تتزوج عبدها.
"الرابع" ما قرره الأطباء من أن الزواج بالأقارب ينتج النسل الضعيف، وأن مصلحة الطفل في أن يتولد من أبوين من أسرتين؛ لأن هذا يهيئ له ما قد يكون فيه نماؤه وقوته وسلامته من الأمراض.
وأما تحريم من حرم من النساء لأسباب وقتية فكل سبب من أسباب هذا التحريم الوقتي يشعر بحكمته وهي ترجع إلى منع الإنسان من الاعتداء على غيره، والخروج عن حدود دينه، وقطعه الرحم بين القريبات، واتخاذه زوجة لا تأتلف به غالبا، وليس من شأنها أن تتبادل معه ما تقتضيه الزوجية من مودة ورحمة. وغير ذلك مما سيتبين في تفصيل المحرمات.
المحرمات مؤبدا:
1-
بسبب النسب "القرابة":
بيّن الله سبحانه المحرمات بسبب القرابة بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} .
فيؤخذ من القرآن الكريم أن المسلم يحرم عليه بسبب القرابة أربعة أنواع من قريباته، وهن:
1-
أصوله، أي: أمه، وأم أمه، وأم أبيه، وإن علت؛ لأن لفظ الأم معناه الأصل فيشمل الجميع -حرمت عليكم أمهاتكم- أي: أصولكم من النساء.
2-
وفروعه، أي: بنته، وبنت بنته، وبنت ابنه، وإن سفلت؛ لأن لفظ البنت معناه الفرع فيشمل الجميع -وبناتكم- أي: وفروعكم من النساء.
3-
وفروع أبويه، أي: أخواته، وبنات إخوته، وأخواته، وإن نزلن لا فرق بين الشقيقة أو لأب أو لأم -وأخواتكم وبنات الأخ وبنات الأخت.
4-
وفروع جديه إذا انفصلن بدرجة واحدة، أي: عماته وخالاته، وعمات أصله، وخالاته. أما فروع جدية اللاتي انفصلن بأكثر من درجة فليست من المحرمات، وهن بنات الأعمام والعمات، وبنات الأخوال والخالات وبناتهن -وعماتكم وخالاتكم.
2-
بسبب المصاهرة:
بيّن الله سبحانه المحرمات بسبب المصاهرة بقول: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} . وقوله عز شأنه: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} .
فيؤخذ من القرآن الكريم أن المسلم يحرم عليه بسبب المصاهرة أربعة أنواع، وهن:
1-
أصول زوجته، أي: أمها وأم أمها، وأم أبيها وإن علت -وأمهات نسائكم.
2-
وفروع زوجته التي دخل بها، أي: بنتها، وبنت بنتها، وبنت ابنها وإن سفلت -وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن.
3-
وزوجة أصله، أي: زوجة أبيه وإن علا -ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء.
4-
وزوجة فرعه، أي: زوجة ابنه، وابن ابنه، وابن بنته وإن نزل -وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم.
فالدخول بالزوجة شرط لتحريم فرعها فقط. أما أصلها وزوجة الأصل وزوجة الفرع فتحرم بمجرد عقد الزواج ولو لم يحصل دخول، ولذا قال الفقهاء: العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات.
وعلى هذا لو عقد زواجه بامرأة ثم ماتت قبل أن يدخل بها أو طلقها قبل أن يدخل بها لا تحرم عليه بنتها ولا أي أنثى من فروعها. ولكن تحرم عليه أمها وكل أنثى من أصولها، ولو مات هو أو طلقها قبل الدخول تحرم هي على أصوله وفروعه. ولو تزوج الابن وقبل أن يدخل بزوجته مات عنها أو طلقها تحرم زوجته على أبيه.
قال أبو حنيفة: ومن زنى بامرأة أو لمسها أو قبلها أو نظر إليها بشهوة ترتب على فعله حرمة المصاهرة، فيحرم على الزاني أصول من زنى بها وفروعها، وتحرم هي على أصوله وفروعه. ففي مذهبه: الزنا تثبت به حرمة المصاهرة ومثله مقدماته ودواعيه،
حتى لو زنى الرجل بأم زوجته أو بنتها حرمت عليه زوجته حرمة مؤبدة. وفي هذا أقوى ردع عن ارتكاب معصية الزنا ودواعيه مع أصول الزوجة أو فروعها.
وأما في مذهب الشافعي فلا تثبت حرمة المصاهرة بالزنا ودواعيه؛ لأن حرمة المصاهرة رابطة تجعل الأجانب محارم كالأقارب. وهذه الرابطة نعمة لا تترتب إلا على العقد أو الدخول الشرعيين ولا تبنى على المحظور.
3-
بسبب الرضاع:
بينت المحرمات بسبب الرضاع في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} . وفي السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وألحق الفقهاء المصاهرة بالنسب فقالوا: كل من تحرم بالنسب أو المصاهرة تحرم بالرضاع.
فإذا أرضعت امرأة طفلا وهو في سن الرضاع أي: في الحولين الأولين من عمره سواء رضع قليلا أو كثيرا في مرة أو في عدة مرات صارت هذه التي أرضعته أما له من الرضاعة بمنزلة أمه من النسب، وصارت أخواتها خالات له من الرضاعة، وزوجها الذي در اللبن من ثديها بسببه أبا له من الرضاعة، وأخوات هذا الزوج عمات له من الرضاعة، وأولادها وأولاده أخواته وأخوته من الرضاعة، سواء أرضعتهم معه أو قبله أو بعده، وسواء كانوا أولادها من هذا الزوج أو من غيره، وسواء كانوا أولاده منها أو من غيرها، فقد يكون الأخ رضاعا شقيقا أو لأم أو لأب.
فكما يحرم على المسلم بالنسب: أصوله، وفروعه، وفروع أبويه وإن نزلن، وفروع جديه إذا انفصلن بدرجة واحدة، يحرم عليه الرضاع:
1-
أصوله، أي: أمه رضاعا، وأمها وإن علت، وأم أبيه رضاعا، وأمها وإن علت، لقوله سبحانه:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} .
2-
وفروعه، أي: بنته رضاعا، وبنتها وإن نزلت، وبنت ابنه رضاعا، وبنتها وإن نزلت.
3-
وفروع أبويه، أي: أخواته رضاعا، وبناتهن وإن نزلن، وبنات إخوته رضاعا، وبناتهن وإن نزلن -وأخواتكم من الرضاعة.
4-
وفروع جديه اللاتي انفصلن بدرجة واحدة، أي: عماته وخالاته رضاعا. أما بنات عماته وأعمامه رضاعا، وبنات أخواله وخالاته رضاعا، فتحل له كما تحل له نسبا.
وكما يحرم على المسلم بالمصاهرة أصول زوجته مطلقا، وفروع زوجته المدخول بها، وزوجات أصوله، وزوجات فروعه، ويرحرم عليه من الرضاع:
1-
الأم الرضاعية لزوجته وأمها وإن علت.
2-
البنت الرضاعية لزوجته وبنتها وإن نزلت، وبنت ابنها الرضاعي وبنتها وإن نزلت بشرط أن تكون زوجته مدخولا بها.
3-
وزوجات أبيه الرضاعي وأبي أبيه وإن علا.
4-
وزوجات ابنه الرضاعي وابن ابنه وإن نزل.
فالمحرمات من النساء بالرضاع ثمانية أنواع: وهن الأربع المحرمات بالنسب، والأربع المحرمات بالمصاهرة.
والدليل على تحريمهن قوله تعالى في بيان المحرمات: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} . وهذه الآية الكريمة صريحة في تحريم خصوص الأمهات رضاعا والأخوات رضاعا ولكنها تشير إلى تحريم الباقيات؛ لأنها أطلقت على التي أرضعت أنها أم وعلى أولادها أنهم أخوة وأخوات. فدل هذا الإطلاق على أن الرضاعة تصل الرضيع بمن أرضعته صلة الفرع بأصله؛ لأنه بتغذيه من لبنها صار بعضها وبعض زوجها، وعن هذه الفرعية والأصلية تتفرع سائر المحرمات. وهذا
الذي أشارت إليه الآية صرح به الحديث " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وإذ كانت التي أرضعت كالتي ولدت كل منهما أم، فأم الزوجة رضاعا كأمها نسبا، وبنتها رضاعا كبنتها نسبا. وإذ كان زوج المرضعة أبا للرضيع والرضيع فرع له، فزوجة الأب الرضاعي كزوجة الأب النسبي وزوجة الابن الرضاعي كزوجة الابن النسبي. ولهذا حرم من الرضاع ما يحرم بالمصاهرة كما حرم من الرضاع ما يحرم بالنسب.
وقد توجد بعض صور ظاهرها أنها مستثناة من هذ النص "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ولكن عند التأمل فيها وتحقيق معنى النص يتبين أنه لا استثناء.
من ذلك أنه يحرم على المسلم أم أخيه نسبا؛ لأنه إن كان أخاه الشقيق أو أخاه لأمه فهي أمه، وإن كان أخاه لأبيه فهي زوجة أبيه. ولا تحرم عليه أم أخيه رضاعا؛ لأنها أجنبية منه ولم يتحقق فيها بالنسبة له سبب من أسباب التحريم، وكذلك يحرم على المسلم أخت ابنه نسبا؛ لأنها إما بنته أو بنت زوجته المدخول بها. ولا تحرم عليه أخت ابنه رضاعا؛ لأنها أجنبية منه. كما لا تحرم عليه أخت أخيه رضاعا وجدة ابنه رضاعا.
والضابط العام لهذه الصورة أنها جزئيات في حال القرابة النسبية يتحقق فيها سبب من أسباب التحريم بأن توجد الأصلية أو الفرعية أو فرعية الأبوين أو الجدين.. وفي حال الرضاع لا يتحقق فيها سبب من ذلك فلا يوجد تحريم؛ لأن معنى يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أنه إذا وجدت من الرضاع أصلية أو فرعية أو فرعية أبوين أو فرعية جدين
…
فإنها تحرم كما في حال وجودها من النسب، وعند تحليل هذه الصور يتبين أن ليس فيها سبب تحريم.
المحرمات مؤقتا:
1-
زوجة الغير ومعتدته:
يحرم على المسلم أن يتزوج بامرأة هي زوجة غيره أو معتدته. فإذا كانت المرأة زوجيتها بغيره قائمة حقيقة بأن لم تقع بينهما فرقة بأي سبب، أو قائمة حكما بأن كانت في العدة بعد الفرقة فإنه يحرم عليه التزوج بها. لكن إذا انقطعت هذه الزوجية بتاتا بأن طلقت الزوجة أو مات عنها زوجها وانقضت عدتها فإن هذا التحريم يزول لزوال سببه.
والدليل على هذا التحريم قوله تعالى في بيان المحرمات: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . والمراد هنا بالمحصنات المتزوجات فهن من المحرمات. وقوله تعالى في شأن المعتدة من وفاة: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . أي: ولا تبرموا عقد الزواج حتى تنقضي العدة. وقوله سبحانه في شأن المطلقات: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أي: ينتظرن ولا يتزوجن. والحكمة في هذا منع الإنسان من الاعتداء على غيره بالتزوج من زوجته أو معتدته، وحفظ الأنساب من الاختلاط والضياع، ولهذا لم يفرق الشارع بين ما إذا كانت زوجة للغير بزواج صحيح، أو مدخولا بها بعد زواج فاسد، أو بناء على شبهة؛ لأنها في الحالات الثلاث فراش يثبت نسب ولدها من زوجها أو ممن دخل بها.
وأما لو كانت المرأة حاملا من الزنى فإنها لم يقم بها سبب هذا التحريم؛ لأنها لا هي زوجة للغير ولا معتدته، فيحل التزوج بها لمن زنى بها ولغيره غير أنه إذا تزوجها من زنى بها لا يحرم عليه قربانها في الحال. وأما إذا تزوجها غير الزاني بها فإنه يحرم عليه أن يدخل بها قبل أن تضع حملها، لقوله صلى الله عليه وسلم: $"لا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماؤه زرع غيره".
2-
الجمع بين محرمين:
يحرم على المسلم أن يتزوج بامرأتين محرمين، أي: تحرم إحداهما على الأخرى بأي سبب من أسباب التحريم، لو فرضت إحداهما رجلا.
فلا يحل له أن يجمع بين الأختين ولا بين البنت وأمها أو عمتها أو خالتها لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} . ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم". وذلك لأن العداوة بين الضرائر لا تخفى.
فالمرأتان المحرمان لا يحل الجمع بينهما بالزواج لا حقيقة بأن يجعلهما معا في عصمته ولا حكما بأن يتزوج الثانية وما تزال الأولى في عدته؛ لأنها ما دامت في عدته فهي زوجته حكما، ولا فرق بين أن يكونا محرمين بسبب النسب أو بسبب الرضاع، فالأختان رضاعا كالأختين نسبا لا يحل الجمع بينهما؛ لأن الشارع لا يبيح ما يقطع الصلة ويفكك الروابط ويجعل ذوات القربى ضرائر.
ولا بد أن تكون الحرمة بينهما ثابتة من الجانبين على معنى أن أية واحدة منهما لو فرضت رجلا حرمت عليه الأخرى، فلو كانت الحرمة من جانب واحد جاز الجمع بينهما، فيجوز الجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل؛ لأنه لو فرضت البنت رجلا ما جاز له أن يتزوج بامرأة أبيه ولكن لو فرضت المرأة رجلا جاز له التزوج بالبنت؛ لأنه لا صله بينهما بقرابة أو رضاع، فالحرمة من جانب واحد. ولهذا جاز الجمع1.
ولو أقدم رجل على الجمع بين المحرمين وتزوج الأختين مثلا فإما أن يتزوجهما بعقد واحد أو بعقدين، فإن تزوجهما بعقد واحد وليس بواحدة منهما مانع فسد عقده عليهما، وتجري على هذا العقد أحكام الزواج الفاسد فيجب الافتراق على المتعاقدين
1 وقال زفر: متى ثبت حرمة إحداهما على الأخرى ولو من جانب واحد يحرم الجمع بينهما.
وإلا فرق بينهما القضاء، وإذا حصل التفريق قبل الدخول فلا مهر لواحدة منهما ولا يترتب على مجرد هذا العقد أثر، وإن حصل بعد الدخول فللمدخول بها مهر المثل أو الأقل من مهر المثل والمسمى. ويترتب على الدخول بها سائر الآثار التي تترتب على الدخول بعد الزواج الفاسد. أما إذا كان بإحداهما مانع شرعي بأن كانت زوجة غير أو معتدته مثلا، والأخرى ليس بها مانع، فإن العقد بالنسبة للخالية من المانع صحيح، وبالنسبة للأخرى فاسد تجري عليه أحكامه.
وإن تزوجهما بعقدين متعاقبين واستوفى كل واحد من العقدين أركانه وشروطه وعلم أسبقهما فهو الصحيح واللاحق فاسد، وإن استوفى أحدهما فقط شروط صحته فهو الصحيح سواء كان السابق أو اللاحق.
وإن لم يعلم أسبقهما أو علم ونسي كأن يوكل رجلين بتزويجه فيزوجانه من اثنين يتبين أنهما أختان، ولا يعلم أسبق العقدين، أو علم ونسي فالعقدان غير صحيحين لعدم المرجح وتجري عليهما أحكام الزواج الفاسد.
3-
الجمع بين أكثر من أربع زوجات:
يحرم على المسلم أن يجمع في عصمته أكثر من زوجات أربع. فمن في عصمته أربع زوجات وعقد زواجه بخامسة، فإن زواجه بهذه الخامسة فاسد؛ لأنها محرمة عليه ما دام في عصمته أربع سواها، ولا فرق بين أن تكون الأربع في عصمته حقيقة بأن لم يطلق واحدة منهن، أو حكما بأن طلق إحداهن ولكنها ما زالت في عدته.
والدليل على إباحة التزوج بأربع وتحريم ما زاد عليهن قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . وقوله صلى الله عليه وسلم لمن أسلم وكانت له عشر نسوة في الجاهلية أسلمن معه: "أمسك أربعا وفارق سواهن".
والحكمة في إباحة تعدد الزوجات أمور:
منها أن الرجل قد لا تحصن نفسه واحدة فصونا له من الزنا واتخاذ الخليلات أباح الله له التزوج بأكثر من واحدة، ولم يبح للمرأة أكثر من زوج لئلا تضيع الأولاد باختلاط الأنساب.
ومنها أن عدد النساء في الغالب يزيد على عدد الرجال في أكثر الأمم، فإذا لم يبح للرجل إلا واحدة بقي عدد من النساء بلا عائل يقوم بشئؤنهن ومن غير زوج يحصن نفوسهن فيكن عرضة للسقوط.
ومنها أن الغرض الأول من الزواج وهو التوالد والتناسل يكون أكثر تحققا بتعدد الزوجات.
ومنها أن الزوج قد يجد زوجته عقيما ولا يرضى أن يفارقها لعقمها ولا يرضى أن يعيش محروما من نعمة الأبوة، فأباح الله له أن يتزوج معها أخرى للخلاص من هذا الحرج.
ومما يعترض إباحة التعدد أنه يؤدي غالبا إلى فساد الأسر؛ لأن العداوة بين الضرائر لا تنقطع ولها أسوأ النتائج في حل الروابط بين أفراد الأسرة؛ ولأن أولاد الرجل الواحد من أمهات شتى ينشئون متعادين متباغضين؛ ولأن الرجل في الغالب لا يستطيع العدل بين الزوجات ولا القيام بشئونهن جميعا فتكثر الخصومات والمنازعات؛ ولأن شعور الزوجة بأن لزوجها هذا الحق يجعلها غالبا مطمئنة.
ولكن الشارع رأى أن مضار إباحة التعدد أخف من مضار حظره، فاتقى أشد الضررين وأباح التعدد، وقيد هذه الإباحة بالقدرة على العدل بين الزوجات، فمن خاف أن لا يعدل بين المتعددات فلا تباح له إلا واحدة.
وأن ما أباحه الشارع من التعدد مع تقيد العدد بقصره على أربع واشتراط القدرة على العدل بينهن هو وسط معتدل بين ما كانت عليه الجاهلية من إباحة التعدد إلى
غير حد. وما عليه بعض الأمم الآن من حظر التعدد مطلقا، فإن لكل من هذين الطرفين أضرارا لا تخفى على من ينظر بعين النصفة ويبتغي وجه الحق.
4-
المطلقة ثلاثا:
من طلق زوجته ثلاث تطليقات فقد استنفد ما يملكه من عدد طلقاتها، وبانت منه بينونة كبرى، وصارت لا تحل له إلا إذا انقضت عدتها منه ثم تزوجها زوج آخر، وفارقها هذا الآخر بعد أن دخل بها وانقضت عدتها، فحينئذ يحل لمطلقها الأول أن يتزوجها ثانيا.
والدليل على هذا قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . ثم قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . وبينت السنة أن زواج الثاني لا يحلها للأول إلا بعد الدخول الحقيقي.
والحكمة في هذا أن الزوج إذا علم أنه بإيقاع الطلقات الثلاث تحرم عليه زوجته حتى تتزوج غيره يتروى في إيقاع الطلاق، ولا يتسرع في الإقدام عليه فيكون حل العصمة على أساس التفكير وتدبر العواقب.
وكذلك الزوجة إذا علمت أن وقوع الطلقات الثلاث عليها يحرمها على مطلقها ويضطرها إلى الزواج بغيره حملها ذلك على حس العشرةو واجتاب ما يؤدي إلى إيقاع طلاق عليها.
وحكمة ثانية: أن الزوجة إذا عادت إلى مطلقها بعد أن تزوجت غيره تكون قد خبرت أخلاق الرجال وعادت إلى زوجها الأول بعد هذه التجربة بأخلاق غير الأولى فلا يعود الشقاق الذي كان قد استوجب وقوع تلك الطلقات.
5-
من لا تدين بدين سماوي:
يحرم على المسلم أن يتزوج امرأة لا تدين بدين سماوي ولا تؤمن برسول ولا كتاب إلهي بأن تكون مشركة من الوثنيات اللاتي يعبدن الأصنام أو المجوسيات
اللاتي يعبدن النار أو الصابئات اللاتي يعبدن الكواكب. وإنما يباح للمسلم أن يتزوج مسلمة أو كتابية ممن تؤمن برسول وكتاب، كاليهودية التي تؤمن بموسى والتوراة والمسيحية التي تؤمن بعيسى والإنجيل. ولا يباح للمسلمة أن تتزوج إلا مسلما.
أما الدليل عل أن المسلم لا يباح له زواج المشركة فهو قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} . وقوله -صلى الله عليه سلم- في شأن المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم".
وأما الدليل على أن المسلم يباح له زواج المسلمة والكتابية فهو قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .
وأما الدليل على أن المسلمة لا يباح لها أن تتزوج غير المسلم فهو قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
والحكمة في هذه الأحكام أن أهم أغراض الزوجية من سكون أحد الزوجين للآخر واطمئنانه إليه، وتعاونهما وتبادلهما المودة والرحمة لا تتحقق غالبا إلا مع اتحاد الزوجين دينا؛ لأن اعتقادهما يكون واحد، وكذلك ما يجب عليهما وما يحرم وما يحل. ولكن لما كان المسلم والكتابية تجمعهما كلمة واحدة وهي كلمة التوحيد كان بينهما من التقارب ما يمكن أن تتحقق معه أغراض الزوجية.
فهذه الكلمة السواء بين المسلم وأهل الكتاب قاربت بينهم وأحلت زواج المسلم بالكتابية. ولا كذلك المسلم والمشركة، فإنهما لا تجمعهما كلمة وبينهما غاية البون وشدة الخلف، ولا تتحقق بينهما أغراض الزوجية فلهذا حرمت على المسلم المشركة.
ولما كان للزوج سلطان على زوجته، وهي في الغالب عرضة؛ لأن تتأثر به وتتابعه في دينه حرم على المسلمة أن تتزوج غير مسلم حتى لا تكون عرضة لمفارقتها الإسلام بتأثير زوجها وسلطانه؛ لأن الدين لا يبيح للمتدين به ما يجعله عرضة للخروج منه.
6-
الأمة على الحرة:
من في عصمته زوجة حرة يحرم عليه أن يتزوج معها زوجة غير حرة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة". والحكمة في هذا عدم امتهان كرامة الحرة بتزوج الرقيقة عليها، والتنويه بشرف الحرية. ولهذا التنويه جعل الله إباحة زواج الأمة مقيدة بما إذا لم يستطع زواج الحرة. قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . ولكن الطول على مذهب أبي حنيفة يتحقق بوجود الحرة في عصمته فعلا لا بمطلق القدرة المالية على زواج الحرة، فمن في عصمته حرة فهو مستطيع طولا زواج الحرائر فلا يحل له زواج الرقيقات.