الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون قد عدل بين أصول الحياة البدنية الثلاث طعامه وشرابه ونفسه، فأعطى لكل واحد الثلث من بطنه.
غير أن الإنسان إذا كان هكذا تغلبه الشهوة، وتقوده اللذة، فإنه بمظنة أن يتجاوز- ولو في بعض الأحيان- العدل إلى الامتلاء. فشرع له الصوم ليقاوم شر ذلك بما فيه من راحة للمعدة ونقاء، وتربية على امتلاك زمام نفسه عن الشهوات والملذات، وعلى استطاعة حملها على الجوع والعطش عند الاقتضاء. هذا للمعتدل وللمالئي للبطن الملوك للشهوة بالأحرى والأولى. أما ذاك المقتصر على الأكلات فهو له
زيادة في القوة ورسوخ لما تمكن منه من العادة المشروعة الحسنة.
فالصوم ضرورة لنظام الغذاء وحفظ الصحة البدنية وعون للإنسان على حسن استعماله لآلته الترابية الأرضية للترقي إلى آفاقه الروحية النورانية وكمالاته العلوية.
فالحمد لله الذي شرع لنا الصيام وفرض علينا رمضان ووفقنا إلى القيام به في كل عام.
نسئله المزيد إنه الحميد المجيد.
ليس الخبز كل ما نريد:
نحن- المسلمين- ربينا تربية إسلامية على إلفة الجوع، والتقلل من الأكل والاقتصار على قدر الحاجة، والمواساة في المطعم والمشرب. فطعام الواحد عندنا يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الثلاثة يكفي الستة وطعام الأربعة يكفي الثمانية ونعتقد عن تجربة أن الرجل لا يهلك عن نصف قوته.
بهذه التربية استطعنا أن نبقى ونعيش في مثل ما عليه حالة معظم الأمة الجزائرية من الفاقة والعوز والجوع والمسغبة، بينما هي تنظر إلى ما ينعم فيه غيرها من النعمة والرخاء، مما لو أصاب أمة أخرى لاجتاحها وأفناها، أو لأثارها ودفعها إلى موارد العذاب والردى.
وكما ربانا الإسلام هذه التربية من ناحية الغذاء فقد ربانا تربية أخرى من نواحي أخرى. ربانا على محبة العلم والمعرفة والرغبة فيهما والتلهف على ما فات منهما والاحترام لمن كان له حظ فيهما.
وبهذه التربية استطعنا - رغم الفاقة ورغم الجوع ورغم التثبيط والمعاكسة أن نحافظ على قرآننا وخطنا وبقايا علوم لغتنا وديانتنا وجملة معارفنا، واندفعنا إلى تأسيس المكاتب العربية رغم ما يحول بينها وبيننا واندفعنا إلى المكاتب الحكومية فضاقت عنا وبقيت مئات الآلاف في أنياب الجهل والفقر من أبنائنا.
ولولا تلك التربية الإسلامية التي زرعتها القرون فاستقرت في قرارات النفوس، وصارت من الخلق الموروث، لكان ما نحن فيه من ظلم وتعاسة وتقديم كل أحد علينا في وطننا والترك لمعامل التجويع والتجهيل تخرج آلاتها الفتاكة المتنوعة للقضاء علينا - شاغلا لنا عن العلم وعن الشعور به وعن طلبه وعن المزاحمة عليه.
جهل قوم من ذوي السلطة هذا الخلق منا فحسبوا- وهم جد عالمين بما فيه الأمة من جوع وفاقة- أننا قوم لا نريد إلا الخبز، وأن الخبز عندنا هو كل شيء، وأننا إذا ملئت بطوننا مهدنا ظهونا، وأنهم إذا أعطونا الخبز فقد أعطونا كل ما نطلب
اذ الخبز- في زعمهم- هو كل ما نريد، فإذا حادثناهم في حالنا سكتوا عن كل شيء إلا عن الجوع والخبز، وإذا رفعنا أصواتنا بمطالبتهم بحقوقنا لديهم، أو بإنجاز مواعيدهم خرجت المراسيم بتوزيع قناطير القمح أو الفرينة أو الدقيق أو سلفات البذر التي لا ينال المحتاج الحقيقي منها ما يسد حاجته، وتذهب في أثناء توزيعها في تعاريج والتواءات أخرى
…
فإذا صدرت تلك المراسم طبل المطبلون وزمر المزمرون، وحسب المغرورون أننا قد رضينا وفرحنا وانتهى أمرنا.
يا قوم، إنتا أحياء، وإننا نريد الحياة وللحياة خلقنا. وأن الحياة لا تكون بالخبز وحده، فهنالك ما علمتم من مطالبنا العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكلها ضروريات في الحياة. ونحن نفهم جيدا ضروريتها للحياة، وقد بذلنا فيها لكم ما كان -يوما- سببا قويا في حياتكم فلا تبخلوا علينا اليوم بما فيه حياتنا إن كنتم منصفين، وللأيام والأمم مقدرين.
وإلا فالله يحكم بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين (1).
(1) ش: ج9، م 12 - رمضان 1355ه - ديسمبر 1936م.