الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإحتفال بختم الموطأ
بقلم الأستاذ
الشيخ الجيلاني بن محمد
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
إستهلال:
وبعد. فإن من دواعي الغبطة والسرور وبواعث البهجة والارتياح أن أزف إلى المسلمين كافة وإلى أبناء الوطن العزيز خاصة هذه البشرى الجليلة والمفخرة الخالدة بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لموطأ إمام الأئمة ومستودع الشريعة مالك بن أنس رضي الله عنه بعد ما قضى في خدمته وهداية الأمة به درسا بضع عشرة سنة بعمل متواصل وجد جاد يحرر أسانيده ويعزز مسانده ويرفع مراسله ويستجلي أسراره ويكتسح به غيوم البدع وضلال العقائد، فهذب العقول وطهر النفوس وحرك الهمم وقوى العزائم وأفعم الصدور بأنوار السنة المحمدية. فانزاحت دياجي الجهل وشبه الضلال وعوارض الغفلة وعوامل الجمود واستفاقت الأمة من سباتها العميق على ضوء السنة الوهاج فاندفعت تعمل لصالح الدارين ورائدها كتاب الله وسنة رسول الله وهدي السلف الصالح.
ويسرني جدا أن أزف هذه البشرى الثانية بختم الحديث الشريف إلى القراء الكرام بعد أن يكون قد استقر في أيديهم العدد الخاص من "الشهاب" يحمل بين جوانحه البشرى الأولى بختم تفسير القرآن العظيم مدبجة أصوله ومحررة فروعه بيراع العالم العلامة أديبنا الأكبر وكاتبنا البليغ الأشهر الأستاذ البشير الإبراهيمى فهي بشرى على بشرى وخير يقفوه خير وفتح بعد فتح ونهوض بكتاب الله وسنة رسول الله يستتبع - إن شاء الله - نهوض الأمة وتقدمها ماديا وأدبيا إذ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فما أعظمها من منة وما أسبغها من نعمة.
كان ختم الأستاذ الجليل- حفظه الله - للموطأ لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الثاني عام 1358 - الموافق لفاتح جوان 1939 وكان الاحتفال به رائعا وطيب حديثه في الحواضر والبوادي ذائعا، وأريج عرفه في المجالس والنوادي متضوعا.
وسيرى القارئ وصف هذا الاحتفال العظيم فيما بعد إن شاء الله.
إن من أراد أن يصلح أمة قد عششت في أذهانها البدع، وامتصت قوتها العقلية أدواء الجهل الفتاك، والتهمت حرياتها سلطات المستبد، وأثقلت عاتقها فوادح الخطوب، يجب عليه- قبل كل شيء- أن يعتام لعلاجها أنجع الأدوية وأقوى المراهم رتقا لكلومها، ولا دواء أنفع لأمة هذه علتها، وهذا مرضها من معالجتها بكتاب الله، وتضميد جراحاتها بسنة رسول الله، فهما ترياق كل علة وبلسم كل مرض.
وقد ظهرت على الأمة الجزائرية- والحمد لله- علائم الشفاء وطلائع الإبلال وبوادر الصحة بعد ما قضى هذا الحكيم النطاسى
في معالجتها بكتاب الله وسنة رسوله، ردحا من الدهر بذل فيه جهده وروحه، يتتبع هذه الأدواء ويتقصاها في كل حاضرة وفي كل قرية، في كل سهل وفي كل جبل، يقتل البدعة ويحيى السنة، يطارد الجهل ويحارب الأمية، يميت اليأس من النفوس ويبعث فيها الأمل، يغشى البلدة أو القرية وقلوب أهلها متفرقة وأهواؤها متشاكسة وآراؤها متضاربة فلا يبرحها إلا والقلوب مجتمعة، والأهواء متحدة، والآراء متعاضدة، شعارها الوحيد قوله جل شأنه:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
ولعل أبلغ الظواهر دلالة يقظة الأمة وتفشي روح النهوض في أفكار أبنائها وسريان الهداية النبوية فيها. ذلك التطور الفكري الذي نراه يزداد يوما فيوما بالرغم من العراقيل المنصوبة في سبيله والسدود المضروبة لإيقافه. ولكنه تيار إلهي قوي فاض على النفوس لا يمكن إيقافه- إن الله بالغ أمره- ولو كره الكافرون.
فختم كتاب الله وسنة رسول الله في هذه الديار التي حل فيها الطارئ محل الأصلى، والسالب محل الكاسب، والدخيل محل الأصيل، على ضرب من الأسلوب يشرح -بحق- فصول الحياة المعقدة للأمة ويوضح لها مناهج السلوك ويأخذ بيدها في طريق لاحب وصراط سوي. هو ختم مؤذن بختم عصر الجمود والركود وإقبال عصر النهوض والتقدم.
الحديث الشريف هو المصدر الثانى- بعد كتاب الله- للتشريع الإسلامي وهو البيان الشافي والتحليل الفلسفي لكتاب الله، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
وتبيينه يكون بأقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، فالصد عن الحديث صد عن الذكر الحكيم والانحراف عنه إنحزف عن شرعة القرآن الكريم.
ولقد نال الحديث الشريف من الحيف والإعراض ما نال القرآن العظيم فقد انصرف الناس عنه انصرافهم عن القرآن وضلوا متشبثين بكتب ملئت بالأقوال الجدلية والمماحكاة اللفظية والألغاز التركيبية التي لا تجدي نفعا.
وبعد فإن الموطأ الذي نحن بصدد الحديث عنه هو من أصح كتب الحديث وأعمها نفعا لما اشتملت عليه من صحيح الأخبار وبالغ الآثار. قال الشافعي رضي الله عنه: "ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك". وفي لفظ: "ما وضع على الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك" - ولاحظ أنها شهادة الشافعي- وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: (الموطأ هو الأصل واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمذي) وقد شمله مالك رضي الله عنه بعناية عظيمة واحتفاء كبير فأجال فيه يد التهذيب والتنقيح حتى أخرجه على هذا الأسلوب العجيب والشكل الجميل من حسن الترتيب وسهولة التعبير وإتقان الوضع وإجادة الصنع وصحة الخبر وغزارة الأثر ذكر ابن الهباب أن مالكا رحمه الله روى مائة ألف حديث جمع منها في الموطأ عشرة آلاف ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويتخير بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة. وقال سليمان بن بلال: "لقد وضع مالك الموطأ وفيه أربعة آلاف حديث أو أكثر ومات وهي ألف حديث ونيف يخلصها عاما فعاما بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين".
وقال سعدون الورجيني من قصيدة في فضل الموطأ:
فبادر موطأ مالك قبل فوته
…
فما بعده - إن نات- للحق مطلب