الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأستاذ الحكيم رجل آتاه الله ما كان به موصوف تلك الصفات ومنعوتها ومبتدأها وخيرها. يصوغ المعاني الغزيرة في الجمل القليلة النبيلة قد خرجته بلاغة القرآن وفصاحة الحديث والجيد من كلام العرب منظومه ومنثوره.
من أبرز صفاته في التدريس- بل وفي الحديث المعتاد- العربية الفصحى فلا يجنح للعبارات العلمية ليستعين بها ولا الكلمات الدورية التي يعتادها بعض المدرسين في كلامهم.
وأما أسلوبه في التفسير والحديث فهو بأسلوب الأستاذ الإمام محمد عبده أشبه وإليه أقرب وأبرز ميزاته فيهما التطبيق والتحقيق وسوق العبر وصوغ العظات.
وصف الحفلة الرائعة بختم الموطأ:
قبيل الاحتفال وجهت مراسيم الدعوة الخاصة للعلماء والأدباء والأعيان من عمالة قسنطينة مصحوبة ببيان الزمان والمكان، وتألفت لجنة أدبية للنظر في شؤون الحفلة وكانت متشكلة من: الأديب الناشط السيد أحمد بوشمال مدير مجلة (الشهاب) الغراء، وأساتذة مدرسة التربية والتعليم، وكاتب هذه السطور وفي قاعة مكتب المدرسة قررت اللجنة برنامجها الأدبي مساء يوم الاثنين على الساعة الثامنة.
وما كادت الشمس تجنح للغروب أصيل يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الثانى حتى تقاطرت وفود الدعوة على مدرسة التربية والتعليم المحروسة حيث وجدوا إخوانهم لقسنطينيين ينتظرون قدومهم السعيد بمزيد التشوق، فتهللت الوجوه، وتفتحت الشفاه ببسمات المودة واللقاء، ونطقت الألسنة بالتحيات المباركة والترحيبات القلبية، وتعانقت الأرواح قبل الأشباح، وتكاملت الوفود في المدرسة. وبعد أداء صلاة المغرب انبرى أهالي
قسنطينة المضاييف الكرام يتنافسون في تكريم ضيوفهم- كما هي عادتهم- فذهبوا بتلك الوفود الكريمة النازلة على الرحب والسعة إلى بيوتهم لتناول وجبة العشاء. وما كاد مؤذن العشاء يعتلي المنار حتى تكاملت تلك الوفود المكرمة في الجامع الأخضر المعمور حيث يؤدون صلاة العشاء ويسمعون بعدها درس الختم من الأستاذ الحكيم. وبعد الفراغ من الصلاة وضع كرسي الدراسة في وسط الجامع وحلق حوله الوفود والمستمعون وانتظمت الصفوف الأمامية من العلماء والأدباء. ولما اتسقت قلائد الحلقات واكتمل نظام الصفوف وعلت السكينة وساد السكوت كأن على الرؤوس الطير، طلع الأستاذ من مقصورته كالبدر ليلة تمامه في موكب من الجمال الإلهي والجلال النبوي، فاشرأبت الرؤوس لطلعته المباركة وتطلعت النفوس وخفقت الأفئدة في الصدور خفقة السرور فاعتلى كرسي الدراسة وأنشأ ينتشر على مستمعيه الكرام تلك الدرر الغالية والحكم البالغة بفصاحة نادرة وبلاغة ساحرة ونبرات موسيقية تمتزج بالأرواح امتزاج الماء بالراح، فهز النفوس بعظاته (الحسنية) وخلب العقول بتحقيقاته العلمية وأبحاثه النفيسة.
إستغرق في الدرس نحو ساعة ونصف مرت كلمح البصر من شدة فناء الأرواح في لذة الدرس وأغرق النفوس في الإصغاء - واللذائذ الروحية أوسع من الزمن- وختم الأستاذ درسه بدعوات مأثورة وتلى على الحاضرين آخر ما كتب بنسخة الموطأ اليدوية الأثرية فبين أنها مكتوبة بخط صاحبها في القرن السابع الهجري فيما أظن-.
ولما انتهى الدرس وصداه يتردد في النفوس ومعانيه السامية تملأ فضاء القلوب، أمر الناس بالجلوس في أماكنهم فقدمت إليهم صحون الزلابيا التي تبرع بها الكريم الخير المفضال السيد
الحاج حموش، فتناولوها شاكرين مسرورين هاتفين بحياة العلم والعلماء.
ثم بالغ القسنطينيون الكرام في الحفاوة والتكريم فتقدموا لسائر الحاضرين بمضخات ماء الزهور فضمخوا الجميع حتى عبقت الروائح وامتزج مسك الختام بطيب الوئام. ثم خرجت تلك الجماعات المباركة- وعبارات الشكر والثناء- ملء الأفواه- تتهادى في انهج المدينة الجميلة قاصدة مدرسة التربية والتعليم المرعية حيث تجدها مفتحة الأبواب مهيأة الأقسام مفسوحة الردهات والجوانب مزينة بالأضواء تتوسط هالتها الجميلة ثريا كهربائية عظيمة قلبت ليلها نهارا وجدرانها نضارا هنالك- وقد ذهب الهزيع الأول من الليل- أقيمت للوفود الكريمة حفلة أدبية شيقة هدرت فيها شقاشق الخطباء وصدحت بلابل الشعراء وسالت فيها أحاديث الأنس الممتعة، وكان المشرف على الحفلة كاتب هذه الجمل بإلحاح من زميله الأديب السيد أحمد بوشمال فصعد منبر الخطابة وارتجل كلمة وجيزة باسم طلبة الجامع الأخضر المعمور رحب فيها بالزائرين، ونوه بأعمال الأستاذ الجليلة وأياديه البيضاء، ثم أخذ يقدم إخوانه الخطباء والشعراء واحدا فواحدا فتقدم الأديب السيد محمد الغسيرى الأستاذ بالمدرسة المذكورة فألقى خطبة بارعة هز بها النفوس هزات وأثار حماسها كرات، وتلاه الأديب السيد محمد الصالح رمضان الأستاذ بالمدرسة المذكورة أيضا فألقى قصيدة كلها عيون بعد ما مهد لها بكلمات كلها شذرات، ثم تلاه الشاب الظريف الأديب السيد محمد الطاهر الورتلاني فألقى خطبة نفيسة شنف بها الأسماع وأمتع النفوس، ثم تلاه الأستاذ عمر بن البسكري المدرس بمدرسة الفتح بسطيف فألقى قصيدة رنانة أعيد بعض أبياتها لمزيد حسنها، ثم تلاه خفيف الروح الأستاذ الأديب
عباس بن الشيخ الحسين فارتجل خطابا حماسيا أثار به كوامن الحماس في النفوس ثم تلا الجميع العالم العلامة المؤرخ الكبير الأستاذ مبارك الميلى مدير جريدة "البصائر" الغراء فارتجل خطابا بليغا قارن فيه بين مكانة العلماء من نفوس العامة اليوم ومكانتهم من نفوسها بالأمس أعني قبل الإصلاح وبعد الإصلاح، فجاء بتحقيقات جليلة وتعليلات صائبة وأبحاث دقيقة، شأنه في كل المواضيع فأجاد وأفاد وكان المتتظر أن يكون خاتمة الخطباء لكن قام بعده التلميذ النجيب السيد محمد المديني فارتجل كلمات حماسية حمل فيها على قانون 8 مارس المشؤوم وما شاكله من قوانين الظلم والغطرسة، وتلاه الأخ البصيري فارتجل كلمات نفيسة هي إلى الفلسفة الروحية أقرب، ثم ختمت الحفلة بكلمة شكر وتقدير من كاتب هذه السطور ثم وزعت المشروبات على الحاضرين.
هذه صورة مصغرة لهذه الحفلة الرائعة ولو صادفت قلما سيالا وفكرا فسيحا لأبرزها في أبهى حللها وأجمل مناظرها.
(1) ش: ج 7، م 15 - رجب 1358ه - أوت 1939م (بتصرف).