المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌16 ذو القعدة - 1318ه - مجلة المنار - جـ ٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (4)

- ‌غرة ذو القعدة - 1318ه

- ‌فاتحة السنة الرابعة

- ‌الداء والدواء

- ‌رواية عربية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌انتقاد الأخلاق والعادات

- ‌ثناء

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تصحيح

- ‌من الإدارة

- ‌16 ذو القعدة - 1318ه

- ‌الفضائل والرذائل [

- ‌خطبة أساس البلاغة

- ‌قصيدة جحدر في الأسد

- ‌تقريظ المنار الأنورواقتراح طلاب الأزهر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مهاجر أزهري

- ‌عريضة استرحام مسلمي بنغالة

- ‌كتاب الأمير عبد الرحمن خان

- ‌غرة ذو الحجة - 1318ه

- ‌مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

- ‌مضار اللَّثْم والتقبيل

- ‌الحنين إلى الوطن

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌ إميل القرن التاسع عشر

- ‌ملكة الإنكليز

- ‌البدع والخرافات

- ‌تهنئة واستماحة

- ‌وسام الافتخار المرصع

- ‌غرة المحرم - 1319ه

- ‌الانتقاد

- ‌الطلاق في الإسلام [

- ‌الفقه الإسلامي

- ‌العشق وحرية العرب

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينيةفي فرنسا

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 المحرم - 1319ه

- ‌أسئلة دينية وأجوبتها

- ‌الشيعة وأهل السنةاختلافهما

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌استلفات لإزالة شبهة

- ‌تصحيح غلط

- ‌تنبيه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلام

- ‌غرة صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌إظهار المدفون من تمثال فرعون

- ‌طُرَف الأعراب ونوادرهم

- ‌أسباب الحرب الروسية العثمانية

- ‌الوفد الإسلامي إلى الصين

- ‌زيارة القبور والمدرس المغرور

- ‌16 صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌تعليم العربية في المدارستأخره في تقدمه

- ‌نوادر البخلاء

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الطاعون في الكاب والمسلمون

- ‌غرة ربيع الأول - 1319ه

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌مكتوب في حق مسلوب

- ‌للفيلسوف الإسلامي

- ‌للشاعر العصري

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مصاب الصحافةوفاة بشارة باشا تقلا

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌16 ربيع الأول - 1319ه

- ‌التقليد

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌قسم الموالد والمواسم

- ‌غرة ربيع الثاني - 1319ه

- ‌التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

- ‌مدرسة خليل أغااحتفالها السنوي

- ‌المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادى الأول - 1319ه

- ‌علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلةشيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي [*]

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌عفة نساء العرب وبلاغتهن

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌تنبيه

- ‌إصلاح الطرق وأهلها

- ‌16 جمادى الأولى - 1319ه

- ‌وظائف علماء الدين

- ‌شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحيةوحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌التقاريظ

- ‌عيد الجلوس السلطاني

- ‌قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا

- ‌تعازٍ ووفيات

- ‌غرة جمادى الآخر - 1319ه

- ‌الرجال والنساء

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 جمادى الآخرة - 1319ه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌تهاني العلماء والأدباءلفضيلة مفتي الديار المصرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رجب - 1319ه

- ‌كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌ريشة صادق

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌رزء عظيم إسلاميوفاة أمير الأفغان

- ‌سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي

- ‌عودة أحمد عرابي

- ‌من إدارة المنار

- ‌مفاسد لا موالد

- ‌16 رجب - 1319ه

- ‌الاستقلال والاتكال

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌تغزل النساء

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌من إدارة المنار

- ‌غرة شعبان - 1319ه

- ‌الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌رثاء الأمير عبد الرحمن خان

- ‌انتقاد المقتطفوكتاب القسطاس المستقيم

- ‌تصحيح

- ‌الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي

- ‌الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

- ‌16 شعبان - 1319ه

- ‌الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في بلاد سيرالونمدرسة إسلامية في فوله

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رمضان - 1319ه

- ‌فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

- ‌السياسة والساسة

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌نساء المسلمين [

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1319ه

- ‌السياسة والساسةمن نحن ومن غيرنا

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌أخبار

- ‌16 شوال - 1319ه

- ‌حياة أمة بعد موتها

- ‌الأمراء والحكامبلاء الأمة بهم

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

- ‌نساء المسلمين

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌غرة ذو القعدة - 1319ه

- ‌نساء المسلمين وتربية الدينورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مؤتمر التربية والتعليم في الهند

- ‌العربية الفصحى والعامية المصريةمناظرة

- ‌وصف الشام

- ‌16 ذو القعدة - 1319ه

- ‌الخمر أم الخبائث

- ‌حرمة الخمر [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌نساء المسلمين

- ‌مدرسة محمد علي الصناعية

- ‌الدول في سلطنة مراكش

- ‌الرقص والعفة والحجاب

- ‌الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات

- ‌غرة ذو الحجة - 1319ه

- ‌إصلاح الدولة العلية

- ‌الإسلام والمسلمون

- ‌خبر سلمان الفارسي وإسلامه

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌سوانح وبوارح

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز

- ‌خاتمة السنة الرابعة

الفصل: ‌16 ذو القعدة - 1318ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والصلاة والسلام على سيدنا

محمد، وعلى كل عبد مصطفى.

وبعد، فإن المنار يدخل بهذا الجزء في العام الرابع من حياته وقد نما النمو

الطبيعي المقدَّر له من أول نشأته، وساعد حركة الإصلاح بصوته الضعيف، ولقي

صاحبه من الألاقي بعض لقي الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا

والله مع الصابرين.

من كان الله معه لا يضره كيد الكائدين، ولا يُحبط عمله إرجاف المرجفين،

وإن عظمت مظاهرهم وألقابهم، وعلت منازلهم وأحسابهم، بل جرت سنته تعالى

في خلقه بأن الضعيف ينتصر بالحق على القوي، والرشيد يغلب بالصدق والثبات

على الغويّ {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً

وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .

ما لقيتْ دعوة الحق من المعارضة بعض ما لقيت من الانتشار، ولا صادفت

من التدسية والإخفاء مثلما صادفت من التزكية والاشتهار، وما كان إلا ما كان في

الحسبان، وليس في الإمكان أبدع مما كان، ومن حاول الخروج بالكون عن سنته،

وتكليف عالم الاجتماع ما ليس في طبيعته، كان جديرًا بالخذلان، وبذلك خاب فلان

وفلان، وخفي هذا على بعض الناس فكانوا من القانطين، وضل آخرون في فهم

قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .

الحق ثقيل ولا سيما على المبطلين، والجدُّ مملول ولا سيما من الهازلين؛

ولذلك أشار علينا بعض الناصحين من محبي الإصلاح بأن نضم إلى المقالات

الإصلاحية والعلمية شيئًا من النبذ الأدبية، وأن نضيف إلى انتقاد التقاليد والعادات

بعض الأخبار والملح والفكاهات؛ لأن هذا أدعى إلى ترويح النفس، وتوفير الأنس

ولهذا وسَّعنا المجلة فزدنا في صفحاتها، ونوَّعنا موضوعاتها؛ ولكننا لم نزد في

الثمن، كما زدنا في المثمن؛ لأن بضاعة العلم والدين لا تزال عندنا على قلتها في

كساد، وبضاعة الشهوات واللذات في رواج وازدياد، فيسهل على أكثر المتعلمين

منا أن ينفقوا البِدَر في سبيل الهوى، ويصعب عليهم أن يبذلوا النزر اليسير في

سبيل الهدى، فما بالك بغيرهم الخالي من مثل غيرتهم، والمحروم من الشعور

بحميتهم (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون) ووفقهم لمعرفة أنفسهم ومن معهم

لعلهم يرشدون، اللهم و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .

...

...

...

... صاحب المنار ومحرره

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الداء والدواء

خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه بضروب من التكريم، خلقه

من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، خلقه جاهلاً لا يعلم شيئًا، ثم منحه

هدايات الحواس والعقل والنبوة، خلقه فقيرًا محتاجًا إلى كل شيء، وسخَّر له

بفضله كل شيء، فالأكوان تعمل به وهو يعمل في الأكوان، ويظهر ما انطوت

عليه من الإبداع والإتقان، مستعينًا بتلك الهدايات الموهوبة، على أعماله المكسوبة

حتى يصل كل من الإنسان والأكوان إلى ما أُعد له، ويبلغ الكتاب فيهما أجله،

وأعني بالكتاب كتاب الغيب المكنون، {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي

شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل: 65-66) .

جلَّت حكمة الله جعل حياة الإنسان الفردية مثالاً ونموذجًا لحياته القومية،

يرتقي الفرد منه بالتدريج ويتربى متأثرًا بحالة الأكوان، وما تعرضه عليه شؤون

أخيه الإنسان، فمنه ما ينمو ويرتقي باطراد، ومنه ما يعرض له المرض والفساد

فتوقف سيره قبل أن يتم دوره، فإما شقاء وارتقاء، وإما موتًا وفناءً، وكذلك الأمم

في أطوارها، والشعوب في أدوارها، وهذه قصصها وأخبارها، ما سعدوا إلا بما

كانوا يعملون، وما حل بهم الشقاء إلا بما كانوا يكسبون {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن

كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 33) .

استعان أناس بالحواس على الحسنات، واستعان بها آخرون على اجتراح

السيئات، ووصل قوم بالعقل إلى أحاسن الأعمال، واستعمله آخرون في سيئ

الفعال، واهتدى بالدين أمم إلى الصراط المستقيم، ووقع به آخرون في العذاب

الأليم {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ،

{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: 213) ،

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ

يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ

الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .

غرَّ أمةً ممن كان قبلنا دينهم، فحسبوا أن انتسابهم إليه هو كافلهم وضمينهم،

وناصرهم ومعينهم؛ فقصروا في الأعمال، واستبدلوا النقص بالكمال، فحل بهم

الخزي والنكال، وما أغنى عنهم الانتساب إلى الأنبياء، والاعتماد على الأصفياء،

والاستمداد من الأولياء، ولا أفادهم قولهم: نحن شعب الله، الذي فضَّله على العالمين

واصطفاه، وحملة كتابه التوراة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ

إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن

تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران:

23-

24) .

الغرور في الدين، هو الجرثومة التي تولدت منها جميع أمراض المسلمين،

كما حل بمن كان قبلهم، وحُذِّروا أن يكونوا مثلهم، فقد جاء في الحديث المتفق على

صحته: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) ، والمسلمون يعترفون

بهذا إجمالاً؛ ولكنهم ينكرونه عند التفصيل، فإذا عدَّدت لهم البدع والتقاليد التي

فتنوا بها، وحرَّفوا معاني كتاب الله تعالى وأوَّلوه برأيهم لترويجها، يلوون ألسنتهم

إنكارًا، ويُنغضون رؤوسهم إعراضًا وازورارًا، وإذا وصفت بهذا الغرور بعض

رجال الدين، من شيوخهم وآبائهم الميتين {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا

يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} (الأنفال: 6) .

هذا الغرور في الدين، الذي أصبنا به من بعد الخلفاء الراشدين، هو نقيض

الغرور الذي رُمي به الذين سبقونا بالإيمان، والذي قال فيه القرآن: {إِذْ يَقُولُ

المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} (الأنفال: 49) فإن ذلك

الغرور هو تصدي ثلاثمائة ونيف من المؤمنين، لزُهاء ألف من المشركين، من

ورائهم ألوف وزحوف من الفرسان، وليس وراء أولئك المؤمنين إلا النساء

والضعفاء والصبيان، وهذا الغرور هو خذلان ثلاثمائة مليون من المسلمين،

ووقوعهم بين أنياب الحوادث، ومخالب الكوارث، لا يحمون حقيقتهم، ولا

يدافعون عن حوزتهم؛ ولكنهم يستنجدون بالقبور ولا يُنجدون، ويستنصرون

بأرواح الموتى ولا يُنصرون {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ

ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .

تولدت جراثيم هذا الغرور بالدين في العصر الأول عندما فتح المسلمون البلاد

ودوَّخوا العباد، وجلسوا على كرسي السيادة، وضموا عليهم قطرَيْ السعادة،

فحسبوا أنهم غمروا بهذا الإنعام، لمجرد انتسابهم للإسلام، ثم دلهم القياس الفاسد

على أن هذا اللقب (مسلمون) يعطيهم سعادة الآخرة، كما أعطاهم سعادة الدنيا،

وكان لهم من الأحاديث الموضوعة وسوء فهم الصحيحة ما يؤيد القياس، ويمد

الوهم والالتباس، فقصروا فيما أمرهم الدين من الإصلاح للدنيا، كما قصروا في

عمل الصلاح للأخرى، فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ

القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117)[1] .

ويا ليتهم إذا عُذِّبوا بسلب سعادة الدنيا رجعوا إلى قياسهم، وخافوا أن يحرموا

سعادة الآخرة أيضًا إذا هم استرسلوا في هذا الغرور، ولم يخرجوا من هذا الديجور

ثم رجعوا إلى أنفسهم، وبحثوا عن أسباب سعادة سلفهم، وتبينوا أنها الأعمال، لا

الأماني والآمال، ثم استنوا بسنتهم، واستقاموا على طريقتهم، ولم يتكلوا على

شفاعتهم، ويجعلوها مناط سعادتهم، واعتبروا بقول خليل الرحمن عليه الصلاة

والسلام إذ قال لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} (الممتحنة: 4) وبما كان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه

أبي طالب، وبحديث الصحيحين: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل

عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال: (يا معشر قريش،

اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم

من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت

محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) نعم، وإن اعتقاد الخلف

أنهم يسعدون في الدنيا بأمداد سلفهم تكذيب للحس والعيان، واعتقاد أنهم بهم

ينجون في الآخرة إعراض عن السنة والقرآن، فالاحتجاج بعد هذا بقول فلان

وورد فلان جنون {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) .

ما وقف المسلمون بغرورهم في دينهم عند حد، بل عم عندهم كل شيء حتى

حكموه بالعلم الذي يرشد إليه، فجعلوه صادًّا عنه، وبالدنيا التي يأمر بعمرانها،

فحسبوه مؤذنًا بخرابها، وبالعقل الذي بُني عليه، فجعلوه عدوًّا له، ولما نزلت بهم

عقوبة غرورهم يئسوا من كل شيء أن ينالوه بأنفسهم، وسجلوا على أنفسهم هذا

اليأس وختموه بختم الدين وطبعوه بطابعه، حيث زعموا أنه من أشراط الساعة،

وأن الضعف إذا وقع بالمسلمين لا يرتفع إلا ما يكون من النهضة على يد المهدي

المنتظر القصيرة المدة؛ وإنما تكون بالخوارق والكرامات لا بالاستعداد والعصبية

القومية، ثم هي كإيماضة الخمود للذبال لا تلبث أن تزول سريعًا وتزول الدنيا في

أثرها بعد قليل، وقد مر في المنار تحقيق الحق في هذه التقاليد وبيان ضررها،

وأن الساعة مغيَّب عنا أمرها {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) .

فعلمنا مما تقدم أن أمراض المسلمين الاجتماعية التي جعلتهم وراء الأمم كلها

حتى التي كانوا يسودونها ترجع إلى داء واحد، وهو الغرور في دينهم وفهمه على

غير وجهه، وإن شفاء هذا الداء ليس بمحال ولا متعذر؛ وإنما المتعذر إصلاحهم مع

بقائه، وإن الدواء الذي يذهب به هو السير بالتربية والتعليم على سنن الكون وأصول

الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر المقالة، وإقناعهم بأن ارتقاء المسلمين بدينهم في

القرون الأولى لم يكن لسر خفي في الدين، ولا لحب الله تعالى لذوات الذين تسمَّوا

بالمسلمين؛ لأن الله منزه عن عشق الذوات والأعيان، وأفعاله لا تعلل بالأغراض

كأفعال الإنسان، وإنما ارتقوا به لأنه أرشدهم إلى سنن الارتقاء، وهداهم إلى الصفات

والأفعال التي بها السمو والاعتلاء، فهو كما تقدم هداية أُخذت على وجهها وحقيقتها،

فأدت إلى غايتها وأنتجت نتيجتها، فلما اختلفت الكيفية، انعكست القضية، كما

يهتدي بالحواس والعقل أقوام ويضل آخرون {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ

وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ

عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ

أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 22-23) .

أول أركان الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص الذي يصقل العقول من

صدأ الخرافات والأوهام، ويفك الإرادة من أسر الدجالين، ويعصم النفوس من حيل

المحتالين، ثم الإذعان بأن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فمن سار عليها

وصل ومن تنكبها هلك {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *

ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) حكم عام للآخرة والأولى، ثم

الاعتقاد بأن كل عمل ينافي مصلحة الأمة أو يحول دون منفعتها موجب لسخط الله

تعالى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم تصدي طائفة للاحتساب قولاً وعملاً والدعوة

إلى ما به حياة الأمة من علم وعمل ومباراتها للأمم العزيزة إلى غير ذلك مما فصَّلنا

القول فيه من قبل، وسنعيد البحث فيه إن شاء الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ

إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

ولنا الثقة بأن الكون وما فيه من الآيات، وما اكتشفه الناس من أسراره وما

يكتشفونه فيما هو آتٍ، كل ذلك خدمة لإظهار دين الفطرة على كل دين {وَلَتَعْلَمُنَّ

نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وإن دعوة الحق ستكون هي الفضلى، وطريقة

الإصلاح هي الطريقة المثلى؛ ولكن لا يمكن تعيين الزمن بالتحديد {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا

فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

شَهِيدٌ} (فصلت: 53)، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) ،

{لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67) .

_________

(1)

الأمم بالشرك إذا كانوا مصلحين، وهذا مشاهد وناهيك بالمسلمين واليابان.

ص: 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

القسم الديني [*]

القسم الثاني من الأمالي الدينية في النبوات

(الدرس الثامن عشر)

الحاجة إلى الوحي والنبوة

تكلمنا في العدد الماضي عن الوحي من حيث إضافته إلى الله تعالى وكونه

كلامه، والاستدلال على ذلك بالعقل والنقل على الوجه الذي كان عليه الصحابة

وأئمة السلف الصالحين رضي الله عنهم، ولذلك جعلناه في قسم (الإلهيات) ،

وكان مقتضى الترتيب المعقول أن يكون هذا المبحث برمته في قسم النبوات؛ لأن

النبوة إنما تكون بوحي الله وبكلامه، ونتكلم الآن عن الوحي من حيث حاجة البشر

إليه وحال من جاؤوا به.

المسألة (53) : الأرواح الخالدة

الاعتقاد بأن للبشر أرواحًا تبقى بعد الموت، ولها حياة أخرى بعد هذه الحياة

الدنيا هو الأساس الذي قام عليه بناء الدين المطلق، فلولاه لم يكن للدين معنى ولا

فائدة، بل لم يوجد أصلاً، وكل فائدة أفادها الدين للبشر من وثنيين وموحدين

فمصدرها هذا الاعتقاد، ما علّم قدماء المصريين صناعة البناء، وما يتبعها ويلزمها

من الهندسة وجر الأثقال، حتى بنوا مثل الأهرام وغير ذلك من العلوم والصناعات

إلا الاعتقاد بخلود النفس، وكذلك قل في الكلدانيين والصينيين والهنود واليونانيين

والرومانيين والفرس والإسرائيليين والعرب.

هذا الاعتقاد فطري في البشر، ولذلك وجد في كل جيل من أجيالهم في كل

طور من أطوارهم فليس هو من استنباط الأفكار، ولا من التخيلات والتصورات

فتتحكم فيه الأنظار، نعم لما ولع الناس بالعلوم النظرية ابتلوا بالتشكيك في كل

شيء، حتى في الوجدانيات والمحسوسات، ومنهم من أنكر الروح، ولكن هذا

الإنكار لم يلتفت إليه إلا نفر قليل من المستعبدين لنظرياتهم؛ لأنهم يقربون من

السفسطائية الذين أنكروا كل شيء حتى أنفسهم وحتى إنكارهم، وقد وُجد - والحمد

لله - من النظار من رد على منكري الروح بنظريات موجبة أقوى من نظرياتهم

السالبة، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك؛ لأننا نخاطب في دروسنا قومًا لم

يبتلوا بإنكار أنفسهم وأرواحهم.

هذه مقدمة تمهيدية لبيان الحاجة إلى الوحي وإرسال الرسل، ولا بد منها في

إثبات كون الوحي هو الذي يبين طرق السعادة في الحياة الآخرة، وهذا هو جزء

الغرض وتمامه أن نبين أننا محتاجون إلى الوحي في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة

جميعًا؛ لأننا نعتقد أن في اتباع الدين سعادة الدارين كما بيناه في المسألة الأولى من

الدرس الأول.

م (54) الحاجة إلى الوحي في الدنيا

لا نزاع في أن الإنسان خُلق ليعيش مجتمعًا، أو كما يقول الحكماء:

(الإنسان مدني بالطبع) ، ولم يعط من الإلهام الفطري ما يغنيه عن التعلم

والتربية بل خلقه الله محتاجًا لكل شيء وعاجزًا عن كل شيء بنفسه، ولذلك

أعطاه خالقه استعدادًا غير محدود، وجعل رغائبه وأمانيه غير محدودة، ابتلاه

بشهوات تسوقه إلى تحصيل رغائبه، وأعطاه قوى يستعين بها على ذلك ويدافع بها

من ينازعه أو يصده عنه، ولا شك أن هذه الرغائب والشهوات تكون مثارات

للتنازع بين ذويها؛ إذ ليس في فطرة الإنسان ولا في طبيعة الأكوان ما يوقف كل

إنسان عند حد من حظوظه لا يتعداه، نعم إن نوع الإنسان يتربى بالعلم؛ ولكن هذه

التربية ما كانت كافية له في جيل من أجياله للوقوف عند حد يعيِّن لكل فرد من

أفراده حقوقه وواجباته على وجه ملزم له بالوقوف عنده إلا بالدين، وكل دين

تصلح به شؤون البشر فهو حق منبعه الوحي الإلهي، وإن كنا نجهل مبدأ كل دين

عُرف في التاريخ أنه أحدث إصلاحًا، وكيفية طروء التحريف والتغيير عليه

حتى صار إصلاحه مشوبًا بإفساد.

يبلغ البشر بالاستفادة من التربية الكونية بالتدريج الطويل مبلغًا عظيمًا، ثم

يكونون على ما أوتوه من علم وحكمة أبعد عن التهذيب والإصلاح، وهم في

نهايتهم من أهل الدين في بدايتهم، وأعظم عبرة أمامنا الأمم الأوربية؛ فإن العلوم

الكونية قد ارتقت عندهم ارتقاء لم يُعْرَف له مثل في تاريخ الإنسان وقد صلح بها

وبما بقي من آثار الدين عندهم حالهم الدنيوي؛ ولكنهم لا يقاربون في هذا الصلاح

ما كان عليه المسلمون في العصر الأول عندما كان صلاحهم بالدين وحده غير

مدعوم بالعلوم الكونية والتربية العالمية، هل بلغ ملك أوربي في العدل والرحمة

وسائر الفضائل مبلغ أحد الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل الإسلام وحوشًا ضارية

يفترس بعضها بعضًا، فرباهم الدين على الكبر تربية تعجز عنها العلوم الكونية

بدون تعليم الوحي الصحيح، وإن مخضها الدهر بضع قرون، انظر إلى فظائع

أبناء القرن العشرين في الصين، وراجع تاريخ أهل القرن الأول من المسلمين،

انظر كيف ساوى عمر بن الخطاب بين صهر الرسول عليه الصلاة والسلام وابن

عمه وبين رجل من آحاد اليهود، وكيف أن دول أوروبا لا ترضى بمساواة أحقر

صعلوك من بلادها لأعظم أمير شرقي في الحقوق، انظر كيف افتتحت تلك الشراذم

من المسلمين بلاد الروم والفرس والفراعنة فكان أهلها راضين بحكمهم مفضلين لهم

على قومهم وأبناء ملتهم؛ حتى ترك معظمهم لغته ودينه طائعًا مختارًا من غير دعاة

تناديهم ولا مدارس تربيهم، وكيف أن الأوربيين يدخلون البلاد فلا يرون من أهلها

إلا كراهة ومقتًا يتضاعف ويزداد بازدياد أيام حكمهم، مع أنه ما تسنى لهم دخول

أرض إلا بعدما جار أهلها عن صراط الدين واستهانوا بالعدل، انظر كيف كان

المسلمون في بداوتهم يدخلون البلاد، فيطهرونها من الأرجاس الظاهرة والباطنة،

وكيف أن الأوربيين ما دخلوا قرية إلا وأفسدوا أخلاق أهلها وآدابهم بالخمر والفحش

والميسر ولا سعة معنا في هذا الدرس لتمام المقابلة بين مدنية المسلمين في القرن

الأول ومدنية أوروبا في القرن العشرين، أو القرن الخامس من قرون ترقيها في

الحضارة - سنبسط الكلام عن المدنيتين في غير هذه الدروس من أجزاء المنار

الآتية إن شاء الله تعالى.

نعم إن المسلمين انحرفوا عن صراط سلفهم فأدبهم الله تعالى بسلب كثير مما كان

أعطاهم، ولذلك ذهب بهاء دينهم قبل أن تكمل مدنيتهم المادية، ونرجو أن يكون ما

حل بهم من العقوبة كافيًا لإنابتهم ورجوعهم إلى رشدهم، وعند ذلك إذا قالوا يسمع

لهم، وإذا افتخروا يشهد العالم بصدقهم في فخارهم فهم الآن حجة من لا دين له على

كل دين؛ لأن دينهم إذا لم يكن طريقًا لسعادة الدنيا فلا يمكن أن يكون سواه، وإن

قررت القوة خلاف ما قررناه.

للكلام تتمة

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) ضاق هذا العدد عن نشر تفسير القرآن لفضيلة مفتي الديار المصرية.

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رواية عربية

أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي فقال: بلغني أنه

كان رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بن مالك فَتَّاكًا شجاعًا قد أغار على أهل

حجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه

بتلاعب جحدر به ويأمره بالاجتهاد في طلبه، فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى

فتية من بني يربوع فجعل لهم جُعْلاً عظيمًا إن هم قتلوا جحدرًا، أو أتوا به أسيرًا،

فانطلقوا حتى إذا كانوا قريبًا منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به

فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرة شدوه كتافًا وقدموا به على العامل،

فوجه به معهم إلى الحجاج فلما أُدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا

جحدر بن مالك. قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان وجفاء

السلطان وكَلَب الزمان. قال: وما الذي بلغ منك فجرأ جنانك؟ قال: لو بلاني

الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان، وبهم الفرسان، ولوجدني من أنصح

رعيته، وذلك أني ما لقيت فارسًا قط إلا وكنت عليه في نفسي مقتدرًا. قال له

الحجاج: إنا قاذفون بك في حائر فيه أسد عاقر ضار فإن هو قتلك كفانا مؤنتك،

وإن أنت قتلته خلينا سبيلك. قال: أصلح الله الأمير عظمت المنة وقويت المحنة.

قال الحجاج: فإنا لسنا تاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد. فأمر الحجاج فغُلت

يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن، فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة:

تحمل عني شعرًا. وأنشأ يقول:

تأوَّبني فبت لها كنيعًا

هموم لا تفارقني حوان [1]

هي العوَّاد لا عوَّاد قومي

أطلن عيادتي في ذا المكان

إذا ما قلت قد أجلين عني

ثنى ريعانهن عليَّ ثان [2]

فإن مقر منزلهن قلبي

فقد أنفهنه فالقلب آن [3]

أليس الله يعلم أن قلبي

يحبك أيها البرق اليماني

وأهوى أعيد إليك طرفي

على عدواء من شغل وشان [4]

ألا قد هاجني فازددت شوقًا

بكاء حمامتين تجاوبان

تجاوبتا بلحن أعجمي

على غصنين من غَرَب وبان

فقلت لصاحبي وكنت أحذو

ببعض الطير ماذا تحذوان

فقالا الدار جامعة قريبًا

فقلت بل أنتما متمنيان

فكان البان إن بانت سليمى

وفي الغرب اغتراب غير دان

أليس الليل يجمع أم عمرو

وإيانا فذاك بنا تداني

بلى وترى الهلال كما أراه

ويعلوها النهار كما علاني

فما بين التفرق غير سبع

بقين من المحرم أو ثمان

فيا أخوي من جشم بن سعد

أقلا اللوم إن لم تنفعاني

إذا جاوزتما سعفات حجر

وأودية اليماني فانعياني

إلى قوم إذا سمعوا بنعيي

بكى شبانهم وبكى الغواني

وقولا جحدر أمسى رهينًا

يحاذر وقع مصقول يماني

يحاذر صولة الحجاج ظلمًا

وما الحجاج ظلامًا لجان

ألم ترني عددت أخا حروب

إذا لم أجن كنت مِجنّ جان

فإن أهلك قرب فتى سيبكي

على مهذب رخص البنان

ولم أك ما قضيت ذنوب نفسي

ولا حق المهند والسنان

قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسد ضار عاتٍ يجر

على عجل، فأرسل به فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به، فجعل في حائر [5]

وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر، فأُتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى

عنقه، وأُعطي سيفًا، والحجاج وجلساؤه في منظرة لهم فلما نظر جحدر إلى الأسد

أنشأ يقول:

ليث وليث في مجال ضنك

كلاهما ذو أنف ومحك

وشدة في نفسه وفتك

إن يكشف الله قناع الشك

فهو أحق منزل بترك

فلما نظره الأسد زأر زأرةً شديدةً، وتمطى، وأقبل نحوه، فلما صار منه

على قيد رمح وثب وثبةً شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط

ذباب السيف لهواته، فخرَّ الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على

ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبَّر الحجاج والناس جميعًا وأكرم

جحدرًا وأحسن جائزته. وأخرجه ابن بكار في الموفقيات بطوله من طريق آخر

عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، ولجحدر في الأسد قصيدة

بديعة نذكرها في جزء آخر.

_________

(1)

تأوبني: أتاني ليلاً، وكنيعًا: من كنع إذا خضع ولان، والحواني: فُسر بأنه من الحين بالفتح، وهو الهلاك فهو إذن مقلوب أصله حوائن جمع حائنة، وهي النازلة المهلكة.

(2)

ريعان كل شيء: أوله.

(3)

أنفهه: أتعبه وأعياه، والآني: المتناهي الحرارة.

(4)

العُدَواء بضم ففتح: المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه، وعدواء الشغل: موانعه.

(5)

الحائر: شبه حوض يجمع فيه ماء المطر.

ص: 13

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

بين يدينا الآن 14 مصنفًا من المطبوعات الحديثة بعضها من المؤلفات القديمة

وبعضها من الحديثة، ولم نوفق لمطالعتها فننتقدها؛ ولكننا ننوه بها في الجملة

مكتفين بتصفح بعض صفحاتها.

(إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق)

كتاب جليل وسفر كبير ألفه السيد أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني أحد

مجتهدي القرن الثامن الهجري، وقد طبعته شركة طبع الكتب العربية في مطبعة

الآداب والمؤيد بالإتقان والنظافة المعهودين في الكتب التي تطبعها، الكتاب في

أصول العقائد، وقد اقتصر فيه على ما نطق به الكتاب والسنة غالبًا، وترك الخوض

في النظريات الفلسفية التي زادوها في علم عقائد الدين؛ ولكنه توسع كغيره فيما

توسع فيه المتكلمون كمسألة خلق الأفعال، ومسألة الصفات، ونقل كثيرًا من كلام

النظار، والمزية الكبرى التي امتاز بها كتابه على كتب العقائد المتداولة أنه لم

يتعصب لمذهب مخصوص، ولم يخف اللائمة في تقرير ما يعتقده إن كان مخالفًا

لما عليه الناس؛ لأنه آثر الحق على الخلق، وهو أقرب إلى أهل الأثر منه إلى

أهل النظر، وعهدنا بأكثر المتكلمين التقصير في علم الرواية، ويمكننا أن نقول:

ينبغي لكل مشتغل بعلم الدين الاطلاع على هذا الكتاب.

***

(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)

يذكرنا التنويه بهذا الكتاب كل مصنف تطبعه هذه الشركة؛ فإنه كان نادر

الوجود، وهو من أجلّ الكتب الإسلامية ومؤلفه العلامة شمس الدين محمد بن قيم

الجوزية وهو يُطلب كسابقه من إدارة المؤيد، ومن جميع المكاتب بمصر.

***

(الحديقة الفكرية في إثبات الله بالبراهين الطبيعية)

كتاب ألفه ونشره بالطبع حديثًا صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي فريد

وجدي واسمه يدل على موضوعه، بحث فيه مباحث دينية عصرية على طريقته

الجديدة في هذه المباحث، وتكلم فيه عن الإنسان والإيمان، وعن الإيمان في دور

الفطرة، ودور الفلسفة، ودور العلم، وانتقل من هذا إلى شُبه ملاحدة الماديين

وإبطالها، ثم عقد فصلاً آخر في المادة وما وراءها، وبيان انتهاء دور الإلحاد،

وأطال في هذا الفصل الكلام في مسألة استحضار الأرواح، ثم تكلم عن الإيمان في

الدور الرابع وهو رجوع الإنسان إلى دور الفطرة الأولى، وبيان أن الإسلام هو

دين الفطرة وهذا خاتمة الكتاب، أما طبعه فحسبنا أن نقول: إنه في مطبعة الترقي،

وعلى أحسن ورق فيها، وثمنه ثمانية قروش، فنحث القراء على الاطلاع عليه،

ولا سيما أبناء المدارس النظامية الذين يدرسون العلوم العصرية، ولعلنا نوفق للعود

إلى الكلام فيه بعد تمام مطالعته.

***

(تاريخ آداب اللغة العربية)

لما علم الكاتب الأديب محمد بك دياب المفتش الثاني للغة العربية في نظارة

المعارف أن بعض علماء ألمانيا عنوا بالتأليف في تاريخ آداب لغتنا الشريفة هزته

الأريحية العربية إلى إجابة اقتراح صديق له في تأليف هذا الكتاب تاريخ آداب اللغة

وقد أصدر منه بالطبع جزآن، طُبع أولهما في مطبعة جريدة الإسلام، والآخر في

مطبعة الترقي المتقنة، وفي كل جزء منهما ما لا يستغنى عن الوقوف عليه من

الفوائد، كالكلام في نشأة اللغة وترقيها، وتاريخ الكتابة العربية والخط وتاريخ

المصنفات، وتاريخ الفنون والإنشاء فهذه الموضوعات تفتح للمشتغلين بهذا الفن

أبوابًا واسعة في البحث والتحرير.

ولا يسلم الكتاب من نقد، لا سيما في المباحث المبتكرة فقد فتحته لهذا

الغرض، فجاء أمامي الكلام على كتاب (أساس البلاغة) للزمخشري فرأيت

المصنف ذهب في الكلام عليه مذهب من يرى أنه معجم من معاجم اللغة فإنه قال:

(والكتاب ليس قاصرًا على إفادة اللغة، بل يرشد أيضًا إلى مناهج الإنشاء لكثرة ما

فيه من السجع والشواهد والأمثال) ، فجعل إفادة معاني الكلم هو الغرض الأول،

والإرشاد إلى مناهج الإنشاء أمرًا عرضيًّا وثانويًّا، ثم قال: (ولحسن ترتيبه يسهل

على الطالب الكشف منه على معاني الكلم؛ لكن ربما أبطأ به عن نوال (كذا)

المطلوب اقتصار المؤلف في الغالب على وضع الكلمات في التراكيب دون ذكر

معانيها صراحًا اعتمادًا على فهم المطالع، واستنباطه معنى الكلمة من الجملة، فلهذا

ربما يصح أن يقال: إنه كتاب مطالعة لا مراجعة، وههنا قارب الصواب، وهو أن

الكتاب إنما وضع لبيان التراكيب المختارة، والأساليب البليغة في جميع ضروب

القول ومناحيه، فهو كتاب دراسة ومطالعة حتمًا، وتدل خطبته على ذلك، فليرجع

إليها من شاء، وسننشر شيئًا من مختارات الكتاب في جزء آخر.

***

(أنيس الجليس)

هي - ولا أزيد القراء معرفة بها - المجلة النسائية العربية الوحيدة المعروفة

بحسن الاختيار للمواضيع الأدبية والتهذيبية الجديرة باطلاع السيدات عليها، وقد

دخلت في سنتها الرابعة، فنهنئ منشئتها الفاضلة البارعة ألكسندرة أفرينوه بنجاحها

ونرجو لمجلتها الغراء زيادة الاشتهار ودوام الانتشار.

_________

ص: 16

الكاتب: عبد العزيز محمد

الطريق القويم للتربية والتعليم [1]

(27)

من أراسم إلى هيلانة في 2 أغسطس سنة 185

أذكر أن رجلاً فاضلاً من أصدقائي كان قد وجد في نفسه انبعاثًا إلى التربية،

فأوجب عليها الاشتغال بها، ثم إنه انتُدِب لإدارة مدرسة كان غيره أنشأها، فألفى

نظام التأديب فيها بالغًا من الشدة غايتها؛ إذ رأى فيها أفرادًا من التلامذة يُخصون

بالعقوبة دون غيرهم، فيقضون ساعات الاستراحة في فنائها كل يوم جثيًّا أو قيمًا

في مواقف الجزاء، ولم يكن يعوزها شيء مما تشرف به من طرق العقاب

كالتكليف بمضاعف العمل والحبس والمنع من الخروج؛ لأنها كانت سائرة على

الأصول القديمة القويمة، فما لبث صديقي هذا أن أبطل كل ذلك النظام التعذيبي

دفعة واحدة لعلمه بأنه لا يرهب إلا الجبناء، ولا ينشأ عنه أثر للتهذيب في نفوس

المتعلمين، وقال للتلامذة: أنا أعلم من سيعاقبكم بعد الآن إن أنتم أسأتم؛ ذلك هو

وجدانكم الذي لا ينجو من سوط عذابه من أعفي من ضرب العصا.

كان شعار هذا المربي في تعليمه: (لا قلنسوة لعالم، ولا لحمار)[2] .

وكان التلامذة قبل وجوده في المدرسة لا يتسنى لهم أن يخطوا خطوة في

دهاليزها الطويلة وفي عرصاتها وقاعاتها الفسيحة إلا وهم مصطفون مثنى مثنى

تحت رعاية كبير لهم، كانوا يسمونه ضابط الرجالة تهكمًا به، ويكرهونه من

صميم أفئدتهم ولا يفترون عن مماحكته وابتلائه بضروب الحيل والخبث، فجمعهم

المعلم الجديد ليلقي عليهم نبأ عظيمًا، فقال لهم: اعلموا أنكم من الغد أحرار، لا

سيطرة لأحد عليكم، وأنه لن يرعاكم في سيركم وسيرتكم سوى عين الواجب الذي

تشعرون به. ولا أراني بعد هذا في حاجة إلى القول بأن كلاًّ منهم بمجرد سماعه

هذا التنبيه قد اعتبر طاعة النظام من أمس الأمور به وألزمها له.

وبينما كان في يوم من الأيام مجتازًا حديقة المدرسة بصر بتلميذ تسلق عريشة

كرم ممتد على جدار عتيق، يتدفق من فوقه ضوء الشمس، وأنشأ يأكل من قطوفه

أكلاً لمًّا، فتظاهر له بالغفلة عن فعله، ورجاه أن يلتمس له أمين المدرسة، فأتاه من

فوره يتبعه الغلام النهاب والريبة تدب إلى نفسه، فقال المدير للأمين: كيف يصح

أيها السيد أن لا يعطى هذا الغلام من الطعام كفايته؛ فإنه لم يكد يخرج من قاعة

المائدة حتى جاء إلى الكرم وطفق يجني قطوفه خلسة، فأرجو أن تأخذه الآن بنفسك

وترده إلى المطعم ليأكل ما يكفيه.

كان هذا المربي أقل الناس شبهًا بمديري المدارس، وكان من أجل ذلك

محبوبًا لتلامذته، فإني كثيرًا ما رثيت لحال معلم الأطفال الذي هو شهيد الشهداء

لمقتهم إياه مع إحسانه إليهم، وعلى كل حال لست أدري إن كنت مخطئًا في ذلك،

أو مصيبًا، وإني لا أخال الطفل كفورًا بنعمة معلميه؛ ولكنهم هم الذين أرادوا أن

يطعموه من باكورة العلم صابًا وعلقمًا، كيف لا وفي التعلم سعادة المتعلمين، وفي

التمرين والتدريب حياة لكل قوة من قوى الإنسان، ولا شيء إلا وهو يطلب الوجود

والظهور والنمو، وهكذا شأن التلميذ؛ وإنما القهر هو الذي يحيل فرحه إلى ترح،

ومرحه إلى خمود؛ فإنه يجيء إلى المدرسة وللحياة فيه دوي كدوي النحل، فيجد

مديرها عابس الوجه متمسكًا بالكتب، واثقًا بها ثقة الظالم الغاشم، فيا له من تنشيط

للأحداث وترغيب لهم في التعليم! !

الكتاب الذي ينبغي أن يتعلم منه الحدث هو صحيفة الموجودات، والمدارس

خلو منها.

إنك إذا دخلت غرفة من غرف المدارس لا تجدين فيها سوى مكاتب ملطخة

بالمداد، ومقاعد من الخشب غير مستوية القوائم، وجدرانًا أربعة عارية من الزينة

وسقفًا مرفوعًا على خُشب غليظة خشنة، يمتد بينها نسيج العناكب التي هي

عوامل الضجر المحزنة، فإذا نظرت خارج تلك الغرفة من نوافذها المفتوحة رأيت

الطيور مطلقة السراح مغردة في الجو كأنها تسخر من التلامذة؛ فإن الكون

الخارجي كله أصوات وأضواء وأشكال وألوان تدعو الطفل إلى التعلم بواسطة

مشاعره، وأما هذه الغرفة فلا شيء فيها يستلفت نظره، فقلما يوجد فيها صورة

وشيء من خرائط تقويم البلدان، وما عساه يوجد من الصور فدميم قبيح، ومن

الخرائط فهو يشبه خط قدماء المصريين في غموضه وتجرده من الرونق وقصوره

عن تمام البيان، فأقسم بالله على المتولين أمر التربية أن يدخلوا في هذه المقابر

التي أعدوها للأحداث نفحة من نفحات العالم الخارجي، وشعاعًا من أشعة الحياة.

كل أمة تُعنى بالتربية حق العناية ينبغي أن لا تخلو مدرسة من مدارسها من

نظارة معظمة (ميكروسكوب) لمضاعفة أجرام الأشياء التي لا تُرى بمجرد النظر

ومن مِرْقَب (تلسكوب) تسهل به رؤية أشكال أقرب الكواكب إلى الأرض، ومن

كرة جوفاء تمثل في باطنها أقسام الدنيا (جيوراما) ، ومن مَرْبى للحيوانات

والنباتات المائية، ومرآة للصور الماثلة (أستيريوسكوب) ، وبالجملة يجب أن

يوجد فيها جميع الأدوات اللازمة لتحصيل معنى الكون وآياته الكبرى في أذهان

الناشئين.

اعلمي أن اللفظ والخط طريقتان قاصرتان جدًّا عن إيصال العلوم إلى نفس

الحدث، وأن اللازم له إنما هو رؤية الأشياء، فلمربيه توجيه فكره ولو قبل تعليمه

القراءة إلى أمور كثيرة لا تخرج بحال عن متناوله وإدراكه، ورأيي فيما عليه

المربون الآن هو أنهم يفرطون في التعجيل بتعليمه بعضًا من فروع العلم كان حقها

التأجيل، وفي تأجيل بعض آخر كان أولى بالتعجيل، وكان يجب عليهم في اختيار

العلوم وترتيبها أن يرجعوا إلى درس القوانين التي يجري عليها الإنسان في نمو

جسمه ونفسه وعقله.

قولهم: (لما يجيء وقتي) ، كلمة تصدق على معظم قوى الإنسان في ساعة

ما من عمره، فالطفل يدرك من الأشياء أبعادها وعلاماتها الظاهرة؛ ولكن عقله في

غاية القصور عن الإحاطة بما بينها من الروابط، فهو أشد قصورًا عن النفوذ فيما

تجري عليه من القوانين، وعن تتبع سلسلة الأسباب التي نشأت عنها خصوصًا،

واليافع يتأثر بالقضايا الشعرية وترتاح نفسه إليها، ولا يميل إلى القضايا المنطقية

والأصول الحكمية، ومن حاول استمالته إليها فقد عبث؛ والسبب في هذا أن

ضروب الاستعداد المناسبة لهذه العلوم العقلية لما توجد فيه، أو أنه لم يوجد منها إلا

جراثيمها، فالإدراك لفظ عام يدخل في مفهومه عدة قوى متمايزة كل التمايز لا تنمو

إلا بالتدريج، ولكل منها طور كمون، ثم تظهر تابعة في ذلك لجملة من الحوادث

تتغير بتغير الأشخاص وما يحيط بهم؛ ولكنها على التحقيق محدودة بنواميس الكون

والزمان، فأفكارنا ووجداناتنا لها أعمار كأعمارنا.

الشيء الواحد يقتضي أن يتعلمه الإنسان عدة مرات ومن وجوه مختلفة، خذي

لك مثلاً: الطفل لا يرى في الوردة بادئ بدء إلا وردة، ثم إذا نمت فيه قوة الإدراك

قليلاً انتزع من شكلها ولونها ورائحتها مثالاً عقليًّا ممتازًا يعرف به الوردة كلما

وقعت في يده، وهو في هذا الطور من الحياة لا يهتم بمرتبتها التي عينها لها علماء

النبات في ترتيبهم، ولا بتركيبها ومعيشتها، فتلك طائفة من الشؤون والأفكار يجب

على مربيه الاحتراس التام من الخوض معه فيها إذا كان يعنيه أن لا يُضل مدركته

وكذلك الشأن في جميع الموجودات.

إذا أردت أن أعلم (أميل) علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) مثلاً، وهو

العلم الذي يعتبره العارفون أبا العلوم، فإني أنبهه أولاً إلى ما يوجد في الأحجار،

بل في حصا الطرق من أشكال المخلوقات العضوية المنطبعة عليها؛ فإن حبه

للاستطلاع وميله للاستئثار بالمعرفة مع مساعدة الفرص يعودانه في أقرب وقت

على تمييز أهم العلامات التي توجد في دفائن الأرض من بقايا تلك المخلوقات،

فجميع ذلك مناسب لسنه أو قريب منه، ثم بعد ذلك ببضع سنين أدعوه إلى أن

يقيس ما يكون قد جمعه من هذه النموذجات بعضه ببعض، وأن يرتبها على حسب

ما بينها من التشابه، وفي هذا الوقت دون غيره أتلطف في تسريب معنى أطوار

الأرض وعهودها إلى ذهنه، وأقص عليه تاريخها مستعينًا بتلك الحصا والحجارة،

فقد قال شكسبير: (إن في الحجارة لموعظة وذكرى)، وأنا أقول: إن فيها ما هو

أسمى من ذلك، فهي وحي يعلمنا كيف خلقت الأرض، ثم إذا بلغ إميل الثامنة

عشرة أو التاسعة عشرة من عمره؛ أي: صار في سن يؤهله لفهم كل ما أقوله له

حق الفهم استعنت بعلم طبقات الأرض على تعليمه حكمة التاريخ، فهو أمثل مقدمة

لها.

فيما كاشفتك به من أفكاري هذه غناء عن تعريفك أننا لا ينبغي لنا في تعليم

إميل أن نعول على شيء من المؤلفات الموجودة، فالوجيزة منها والصغيرة والكتب

المدرسية التي بين أيدي الأطفال جميعها وضعت لغير الوجهة التي نقصدها؛ فإنها

مختصرات علمية توهم واضعوها أنها تكون ملائمة لإدراك الأحداث بسهولة

عباراتها، وليس العيب ههنا في شكل الكتب، وإنما هو في أصل وضعها؛ فإن

أول شيء يتسنى للطفل إدراكه من نظام الكون هو ما يدركه منه الإنسان في أول

نشأته قبل تقدم العلوم وتقسيمها، فالمعلمون لا يفتؤون ينسون أن التعاريف والتقاسيم

والقوانين لم توجد إلا بعد التجارب، كما أن علوم اللغة متأخرة عنها في الوجود،

وكذلك علوم الدين. ويغيب عن أذهانهم أن علوم الإنسان لم تتكون ألبتة بالصورة

التي يتعلمها عليها الأحداث الآن؛ فإن الإنسان لم يصل إلى إيجاد طائفة من العلم

محدودة إلا بالانتقال من حادثة جزئية إلى أخرى، ومن سلسلة من الحوادث مرتبطة

بعضها ببعض إلى غيرها، وبعد أن وجدت له طائفة منها نشأ يستنبط لها القوانين

التي تضبطها، ثم تفرعت دوحة المعارف وتمايزت فروعها وانفصل كل علم عن

الآخر.

فالجري في تعليم الطفل على غير هذه الطريقة قلب لنظام عقل الإنسان،

فالمعلمون إنما يلقون عليه نتائج العلوم وخلاصاتها قبل أن تؤسس قوته الحاكمة

بمبادئها، وتدعم بمقدماتها، فترينهم ينحدرون مرة واحدة من الذروة التي رقى إليها

العلم في عصرنا بعمل الأجيال الماضية إلى ما هو فيه من حضيض الجهل، والذي

يستحسن أولئك المعلمون تسميته مبادئ العلوم إنما هو في حق الطفل من ثمرات

العقل المبالغ في تحضيرها، ومن نتائج ربط الأشياء بعضها ببعض.

أنا لا أجري على هذه الطريقة في تعليم (أميل) فإني أود قبل أن أعلمه

تاريخ الموجودات أن أعرفه بما في الكون، فأجعل له به أنسًا بأن أوجه نظره إلى

حوادث الحرارة والوضوء والكهرباء قبل تعليمه قوانين علم الطبيعة، وأعلمه شيئًا

من أوصاف أشكال الأجرام السماوية ومواقعها من قبة الفلك قبل الخوض معه في

علم الهيئة، بل إن قصدي إلى أن أشرح له في المستقبل ما أعلمه من نواميس

الكون أقل بكثير منه إلى إيقاظ وجدان الملاحظة فيه؛ فإن تعليم الطفل ليس بشيء

يذكر، وإنما الأمر الخطير هو أن يؤتى وسيلة التعلم بنفسه وتحرك فيه دواعي

الإقبال عليه، فدروسي لإميل كلها لا يكون فيها إلا ما كان له شأن في تنبيه عقله

وتقويته؛ لأنه مرجع جميع علومنا على اختلافها.

قد رأيت مما قدمته لك أنه قد قضي عليك أن تكوني (لأميل) كتابًا يأخذ عنه

علمه، فلا تستعيني بشيء من صغار الكتب وموجزاتها ومختصراتها، وعليك أن

تلتمسي له أبسط المعاني وأليقها بحالة إدراكه مع التدرج في ذلك بحسب ارتقائه في

الفهم، وأن تجعلي تعليمك مطابقًا لأحوال سنه اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب من كتاب ‌

(أميل القرن التاسع عشر)

.

(2)

القلنسوة في نظام التعليم الأوروبي شارة العلماء ينالها من أتم دراسته وأدى الامتحان فيها.

ص: 19

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

وأما الفصل الخامس ففي التربية والحجاب، وأهم مسائله:

1-

قوله: إن الحجاب جعل المرأة في حكم القاصر لا تستطيع أن تباشر عملاً

ما بنفسها، مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شؤونها المعاشية بكفاءة مساوية

لكفاءة الرجل، وإن ضرره الأعظم أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها.

2-

وإنه ينبغي أن تربى كتربية الرجل في جسمها وآدابها وعقلها.

3-

وقوله: (متى انتهت تربية البنت باتخاذ ما يلزم من الوسائل لتنمية قواها

الجسمية وملكاتها العقلية وبلغت الخامسة عشرة من عمرها، ينبغي أن تطلق لها

الحرية في مخالطة الرجال؛ لأن قهر الإنسان لهواه وجعله تحت سلطان العقل

يستدعي قوة عظيمة في الإرادة، ولا توجد هذه القوة في الإرادة بإقامة الحوائل

المادية بينه وبين النقائص، ولا بمجرد حشو ذهنه بالقواعد الأدبية؛ وإنما تتولد

بالتعرض لملاقاة الحوادث والتعود على مغالبتها والتغلب عليها، فمزاولة الأعمال

ومشاهدة الحوادث واختبار الأمور ومخالطة الناس والاحتكاك بهم والتجارب كل هذه

الأشياء هي منابع للعلم والآداب الصحيحة، بها ترتقي النفوس الكريمة حتى تبلغ

أعلى الدرجات، وأمامها تنهزم النفوس الضعيفة وتهبط إلى أسفل الدركات) اهـ.

4-

وذكر قول معترض حض على النظر إلى مدنيتنا القديمة التي ذكر من

أصولها احتجاب النساء، وقال: إنها نفس الكمال: والرد عليه بوجوب أخذ الأهبة

لمقاومة سلطة العادات الموروثة إذا خشينا أن تسلبنا إرادتنا واختيارنا، وذلك

بالالتفات إلى المدنية الإسلامية، ووزنها بميزان العقل والتدبر في أسباب ارتقاء

الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، واستخلاص قاعدة من ذلك يمكننا أن نقيم عليه

بناء ننتفع به اليوم، أو في ما يستقبل من الزمان.

ثم ذكر ظهور الإسلام في جزيرة العرب وفتوحاته، وأخذ العلوم والصنائع

ممن فتح المسلمون بلادهم، وما كان من النهضة العلمية، وقال بعد ذلك ما نصه:

(على هذين الأساسين شيدت المدنية الإسلامية الأساس الديني الذي كوَّن من القبائل

العربية أمة واحدة خاضعة لحاكم واحد ولشرع واحد، والأساس العلمي الذي ارتقت

به عقول الأمة الإسلامية وآدابها إلى الحد الذي كان في استطاعتها أن تصل إليه في

ذلك العهد) ، ثم ذكر أن قوة العلم كانت ضعيفة في ذلك العصر وأكثر أصوله ظنية

وأن الفقهاء تغلبوا على رجال العلم ورموهم بالكفر والزندقة حتى نفر الناس من

دراسة العلم، قال: (ثم غلوا في دينهم وشطوا في رأيهم حتى قالوا في العلوم

الدينية نفسها: إنها لا بد أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. فقرروا أن ما

وضعه بعض الفقهاء هو الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه، وكأنهم رأوا

من قواعد الدين أن تُسد أبواب فضل الله على أهله أجمعين) ، ثم عقب هذا بكلمة

جليلة ذكر بعدها ما كان من ارتقاء العلم في أوربا وهي: (هذا النزاع الذي قام بين

أهل الدين وأهل العلم، ولا أقول: بين الدين والعلم لم يكن خاصًّا بالأمم الإسلامية،

بل وقع كذلك عند الأمم الأوربية) ، ثم ذكر بعض الاكتشافات الحديثة في العلم،

وتغلب أهله على رجال الدين واستنتج من ذلك قوله:

(فإذا كان التمدن الإسلامي بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصول

العلوم كما بيناه، فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدن كان (نموذج الكمال البشري)

يهمنا أن لا نبخس أسلافنا حقهم، ولا ننقص من شأنهم؛ ولكن يهمنا مع ذلك أن

لا نغش أنفسنا بأن نتخيل أنهم وصلوا إلى غاية من الكمال ليس وراءها غاية، نحن

طلاب حقيقة إذا عثرنا عليها جهرنا بها مهما تألم القراء من سماعها، لذلك نرى من

الواجب علينا أن نقول: إنه يجب على كل مسلم أن يدرس التمدن الإسلامي ويقف

على ظواهره وخفاياه؛ لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ويجب

عليه أن يعجب به؛ لأنه عمل انتفعت به الإنسانية وكمَّلت به ما كان ناقصًا منها في

بعض أدوارها؛ ولكن كثيرًا من ظواهر هذا التمدن لا يمكن أن يدخل في نظام

معيشتنا الاجتماعية الحالية) اهـ.

وقد بيَّن السبب في عدم هذا الإمكان من جهة العلوم الكونية قبله، وبين بعد

سبب ذلك من جهة النظامات السياسية، وانتقد السلطة المطلقة التي جرى عليها

الخلفاء والملوك، وما كان فيها من الاستبداد الذي ساعد عليه عدم تحديد الفقهاء

للعقوبات، بل تركوا أنواع التعزير مفوضة للحاكم، ثم بيَّن أنه لم يكن عندهم شيء

من العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى إن ابن خلدون لم يذكر في كتابه،

- وهو الكتاب الوحيد الذي وضع عند المسلمين في الأصول الاجتماعية - كلمة

واحدة في العائلة، ثم بين أن الحالة العائلية كانت خالية من كل نظام، ثم بيَّن ذلك من

جهة الآداب، فذكر أن المسلمين لم يأتوا للعالم بأصول جديدة فيها، وأما عملهم بها

فذكر أن التاريخ يشهد على أن كل عصر لا يخلو من الطيب والرديء، وأشار إلى

أهم ما يُنتقد على المسلمين كتمزيق الدولة العربية بالمنازعات الداخلية، وكشرب

بعض الأمراء والعظماء الخمر جهرًا في مجالس الجواري والقيان وغير ذلك، ثم قرر

بعد ذلك الرد على من قال: إن المدنية الإسلامية كانت (نموذج الكمال البشري) ،

وإن المسلمين كانوا حائزين جميع أنواع (الكمالات الأخلاقية الصحيحة) ، وقرر أن

الحجاب إذا كان عادة من عاداتهم التي لم تكن كلها كاملة فلا ينافي ذلك أنه لا يليق في

عصرنا، ثم قال ما نصه بالحرف: (وغني عن البيان أننا عند كلامنا على المدنية

الإسلامية لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنائع

والآداب والعادات التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها، ذلك لأن

عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية، فهو على ما به من

قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثرًا مناسبًا لدرجة عقول وآداب الأمم التي

سبقت، ثم حتم بوجوب بناء مدنيتنا على العلوم العصرية التي بنى عليها الأوربيون

مدنيتهم) .

والمسألة (5) من مهمات هذا الفصل البحث في زعم الذين يعترفون بتقدم

الغربيين علينا في الصنائع وإنكار تقدمهم في الآداب، ولم يُبق الإسهاب في المسألة

الرابعة مجالاً لتلخيص شيء منها، وإنما أطلت في هذه لأنها أهم مسائل الكتاب في

الحقيقة؛ ولأن الناس يلغطون فيها قولاً وكتابة على غير بصيرة، بل يكذبون على

المؤلف ويتهمونه بأنه طعن بالدين الإسلامي نفسه، وقال: إنه غير كاف لمدنية

المسلمين في هذا العصر. ونحو ذلك مما يرمي به من لا قيمة للصدق ولا للدين في

نفوسهم، نعم إن كلامه في هذا الموضوع لا يسلم من استدراك وانتقاد سنبينه في

بقية مقالاتنا في مدنية العرب، وأما خاتمة الكتاب فسنكتب عنها شيئًا في الجزء

الآتي إن شاء الله تعالى.

رأي الناس في الكتاب

ورأينا فيه

قلنا في تقريظ كتاب (تحرير المرأة) ما أعدنا معناه في تقريظ المرأة الجديدة

من أننا لم نر في مكتوب العصر شيئًا أثَّر في مسلمي مصر مثل هذين الكتابين،

وكنا قد استبشرنا لهذا التأثر لدلالته على أن في الأمة ذماء ورمقًا من الحياة يهيج

إحساسها للنفور من الضار في اعتقادهم، وإن لم يرتق إلى العناية بالنافع في الأخذ

به؛ ولكن هذا الاستبشار غير صافٍ من الكدورة، ولا محل هنا لبيان السبب في

ذلك؛ إذ لا يفي به إلا مقالة أو مقالات في شعور الأمة ووجدانها وتأثيره في أعمالها.

قلنا في الجزء الماضي: إن من الناس من قرَّظ كتاب المرأة الجديدة، ومن

انتقده، ونذكر ههنا أن المنتقدين هم الأكثرون بحسب ما يظهر لنا من كتابتهم في

الجرائد ومحاوراتهم في الأندية والسمار، يقول هؤلاء المنتقدون: إن هذا الكتاب

وسابقه ما أُلفا إلا لإقناع المسلمين بأن يعطوا نساءهم الحرية المطلقة بمعاشرة من

يردن من الرجال، وأن يكن كنساء الإفرنج مكشوفات الوجوه والرؤوس يختلفن إلى

الملاهي والمراقص، ويذهبن في التهتك كل مذهب. هذا ما يلهج به الجماهير

يتلقفه بعضهم من بعض وأكثرهم لم يقرأ الكتاب، ومنهم من يزيد على ذلك مسألة

المدنية الإسلامية والمدنية الغربية، وقد ذكرنا طعنهم فيها آنفًا.

إن كان الكتابان أُلفا لهاتين الغايتين، أو اشتملا عليها، فنحن وجميع المسلمين

بل وجميع العقلاء نقول: إنهما باطلان جديران بالمقت والرفض؛ لأن ذلك يجر إلى

فتنة في الأرض وفساد كبير، ويكون به خيار نسائنا في التهتك والتبذل أبعد غورًا

من شر نساء الإفرنج؛ لأن لهؤلاء من التربية والعلم الذي لم يصلن إليه إلا بعد عدة

قرون ما ليس لنا شيء منه، ونحن لما نبتدئ بالتربية ابتداء؛ ولكن هل الكتابان

كما يقولون؟ الجواب ما قلناه في تقريظ كتاب تحرير المرأة في العام الماضي من

أن المؤلف غالى في بيان مضار التشديد والمبالغة في الحجاب، وبالغ جدًّا في

جعل نجاح المسلمين متوقفًا على إزالة الحجاب المعهود في الأذهان، والموجود أثره

في الأعيان، بحيث إن هذه المغالاة والمبالغة المصوغة في قالب الأسلوب الكتابي

المؤثر تذهب بوجدان القارئ إلى وجوب تمزيق هذا الحجاب؛ لأنه لم يحجب إلا

العلوم والفضائل عن نصف الأمة.

وقد رأينا من أفاضل المعتدلين في الإنكار على كتاب المرأة الجديدة من قال: إن

هذا هو الضرر الحقيقي من قراءة الكتاب، وقال: إنني كنت أقرأه فأشعر بوجداني قد

تغير واعتقادي بوجوب بقاء الحجاب قد تزلزل واضطرب، فأترك القراءة ليثوب إليّ

وجداني الأول، ويسكن اعتقادي فيه، ثم أعود إليها. فقلت له: ربما تكون هذه

المغالاة مقصودة للمؤلف؛ لأن الداعي إلى شيء ينبغي له لأجل إرجاع من يدعوهم

إلى الاعتدال الذي هو الحق أن يقف على الطرف المقابل لما هم فيه، فإن كانوا في

جانب التفريط يقف في جانب الإفراط؛لينتهي التجاذب بينه وبينهم إلى الوسط، ولو

وقف في الوسط وجذبهم وجذبوه يخرج كل منهما عنه، أو يبقى في محله ولا فائدة في

ذلك، ومن هنا يقول الناس: لا بد من شيء من الباطل لأجل الوصول إلى الحق.

وقد قال الإمام الغزالي: إن وعد القرآن ووعيده مبني على هذه القاعدة فمثل قوله

تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) إنما يعالج الذين غلبت عليهم خشية الله،

والخوف من عذابه، وأفرطوا فيها حتى كادوا يقنطون من رحمته تعالى، وأما

الذين غلب عليهم التهاون وأدى بهم الإفراط في الرجاء إلى الغرور وكادوا يأمنون مكر

الله وعذابه وتجرؤوا على المعاصي، فيجب أن يُعالجوا بمثل قوله تعالى:

{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا

بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) وإذا ذكروا تلك الآية ذُكِّروا بمثل قوله

تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82)

وهكذا يجب أن يكون المرشد كالطبيب يعطي كل مريض ما مست إليه حاجته ويناسب

حاله.

ثم إن من فوائد هذه المبالغة أن أثارت أفكار الناس للبحث، وكل الباحثين أو

جلهم موافق له على سوء حالة المرأة المصرية والمسلمة، ووجوب تربيتها وتعليمها،

وقد كان المانع الأكبر منهما عند الجماهير هو الحجاب؛ ولكنهم يخالفونه في توقف

التربية والتعليم في كمالهما على تخفيف الحجاب أو منعه، فإذا انتهت هذه المناقشات

بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، ويكون

الفضل الأكبر في ذلك لقاسم بك يعترف له بعض المنصفين الآن، ويحفظه التاريخ

إلى آخر الزمان.

استفتاء البابلي في المرأة الجديدة

من أعجب ما أحدثه كتاب (المرأة الجديدة) في نفوس الناس أن محمد أفندي

عبده البابلي كتب إلى فضيلة مفتي الديار المصرية كتابًا مفتوحًا وزَّعه على الناس

ونشره في الجرائد يسأل فيه: (هل رفع الحجاب عن المرأة وإطلاقها في سبيل

حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب المرأة الجديدة يسمح به الشرع الشريف

أم لا؟) ، ثم طبع استلفاتًا إلى هذا الكتاب المفتوح، ووزَّعه في الأزقة والشوارع،

وأرسله إلى الجرائد قبل أن يرسله إلى فضيلة المفتي المخاطب به، حتى إن الإستاذ

المفتي لم يعلم به إلا بعد أن أطلعته أنا عليه، ونحن نجيب هذا السائل المستلفت

فنقول:

(1)

إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود في مثله، ولم يفهم أحد من

العقلاء معنى توزيع السؤال مطبوعًا على الناس، لا سيما قبل إيصاله إلى المسؤول

بل أنا في شك من إرساله إليه قياسًا على الاستلفات الذي رآه عندي لأول مرة،

ولا يقال: إن الغرض الفائدة؛ لأن الفائدة إنما تكون في الجواب، وربما كان أكثر

الذين وُزِّع عليهم الكتاب المفتوح والاستلفات من خالي الذهن عن كتاب المرأة

الجديدة، فيظهر أن للسائل غرضًا غير الإفادة.

(2)

لا يخفى على السائل وغيره أن الاستفتاء عن كتاب يستلزم أن يقرأ

المفتي ذلك الكتاب كله، وذلك تكليف الشطط؛ لأن أصحاب الأعمال الكثيرة كمفتي

القطر المصري يجب أن يختصر في الأسئلة التي تلقى إليهم؛ لأن كثرة أعمالهم لا

تسمح لهم بقراءة الأسئلة المطولة والجواب عنها الذي يستدعي التفصيل والتطويل

غالبًا، وإننا نعلم أن الأسئلة التي ترفع إلى شيخ الإسلام في دار الخلافة لا يكتفون

فيها بالاختصار حتى يذكرون الجواب، ويسألون عنه، فيكتب شيخ الإسلام كلمة

(أولور) إذا كان الجواب بالإيجاب، وكلمة (أولماز) إذا كان سلبًا.

والسائل يعلم أن مفتي الديار المصرية هو رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية

التي هي أعظم جمعية للمسلمين في البلاد العربية كلها، وهو أيضًا عضو عامل في

مجلس شورى القوانين، ومجلس الأوقاف الأعلى، وله أعمال أخرى في نظارة

الحقانية، وهو شيخ رواق الحنفية الذي هو أعظم رواق في الأزهر وناظر على

أوقاف كبيرة، وعضو في مجلس إدارة الأزهر، ويؤلف ويقرأ في الأزهر درسًا في

علم البلاغة، ودرسًا في تفسير القرآن الشريف، ولا يخفى ما يستلزمه هذا الدرس

من المطالعة والمراجعة، ويعلم أنه من الدقة في أعماله بحيث إذا رُفع إليه استفتاء من

المحاكم عن قتل جانٍ، يقرأ جميع أوراق القضية، وإن كانت تعد بالمئات، ويعلم

أيضًا أنه مقصود من الناس بقضاء المصالح، فلا يخلو يوم من عدة أشخاص يطلبون

منه قضاء مصالحهم، فهل مثل هذا يستفتى عن كتاب، ويكلَّف بقراءته ليبين رأيه

فيه؟ كلا، إنه يجب على شيخ الجامع الأزهر أن يؤلف بمعرفة المفتي ومساعدته

لجنة من العلماء لانتقاد الكتب التي تنشر بين المسلمين، يكون أفرادها من البارعين

في جميع الفنون، بحيث ينتقد كل صنف ما هو عالم به، ثم ينشر ذلك في الجرائد؛

فإن في الكتب المنسوبة للمتقدمين ما ينشر، وفيه من الإفساد في الدين والدنيا فوق ما

يتصوره كل منتقد على كتاب المرأة الجديدة.

(3)

إن الفتوى في الكتاب لا يمكن أن يفهمها أحد إلا إذا اطلع على السؤال،

والسؤال يدخل فيه الكتاب كله، فيحتاج كل من اطلع على الفتوى أن يقرأ الكتاب

أولاً، فإذا كان ضارًّا تكون الفتوى سببًا في إذاعة الضرر.

(4)

إذا أفتى مفتي الديار المصرية في الكتاب، فلا شك أن فتواه تكون

بمقتضى مذهب الحنفية الذي عينته الحكومة ليفتي به، فإذا لم توافق فتواه غرض

صاحب الكتاب يمكنه أن يقول كما قال في كتابيه: إن إصلاح شؤون المسلمين يتوقف

على عدم التقيد بقول إمام واحد، بل يجب أن ينظر في المصلحة وتطبق على قول

أي إمام، ولا يخفى أنه نقل عن بعض الأئمة في تحرير المرأة جواز كشف الوجه

والكفين، وجواز معاملة الرجال في غير خلوة، وهذا كل ما يطلبه من إبطال

الحجاب.

كل هذا يدلنا على أن السائل أخطأ في السؤال، وأنه لا يلقى جوابًا.

_________

ص: 26

الكاتب: محمد رشيد رضا

قسم‌

‌ الأحاديث الموضوعة

الموضوعات في العلماء والزهاد

ذكرنا في الجزأين 27 و 28 من السنة الماضية بعض الأحاديث الموضوعة

في تعظيم العلماء وإطرائهم، وبقي علينا بقية منها، وأن نذكر الأحاديث

الموضوعة في انتقادهم على عدم العمل، وانتقاد العباد بغير علم، وأكثر

الموضوعات في الإطراء وضعها علماء السوء لتعظيم أنفسهم على المتصوفة الذين

تخصهم العامة بالتعظيم والإكرام واعتقاد الولاية، وأكثر تلك الأحاديث الانتقادية

وضعها مدعو الإصلاح والولاية للحط من شأن العلماء الذين يظهر من عملهم أنهم

لا يريدون بعلمهم إلا المال والجاه، وهكذا كانت المحاسدة بين الفريقين إلا من

عصم ربك من المخلصين؛ ولكن الانتصار كان للعلماء إلا في الأزمنة التي ساد

فيها الجهل، وصار الأمراء كالعامة في اعتقاد جهلة مدعي الولاية أوالمتظاهرين

بالصلاح، وآل الأمر إلى مشاركة العلماء لهم في هذا الاعتقاد والتظاهر به؛ لئلا

يتهموا وتنحرف عنهم العامة، فيفوتهم الانتفاع منها، ولا تنس استثناء المخلصين،

وقليل ما هم.

فمن هذه الموضوعات حديث: (يكون في آخر الزمان علماء يُرَغِّبون الناس

في الآخرة ولا يرغبون، ويُزَهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينبسطون عند

الكبراء، وينقبضون عند الفقراء، وينهون عن غشيان الأمراء (أي: زيارتهم

والتردد عليهم) ولا ينتهون، أولئك الجبارون عند الرحمن) وفي إسناده نوح بن

أبي مريم أحد المشهورين بالكذب، ولا يغرنك كون مضمونه واقعًا الآن، فتستدل

به على صحته؛ فإنهم ما وضعوه إلا لواقع متحقق، وما كل صحيح المعنى يصح

رواية.

ومنها حديث: (يأتي على أمتي زمان يحسد الفقهاء بعضهم بعضًا، ويغار

بعضهم على بعض كتغاير التيوس) ، في إسناده متهم بالوضع، وإن صح معناه.

ومنها حديث: (من فتنة العَالِم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع) ، وهو

موضوع.

ومنها حديث: (هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشرار الشرار شرار

العلماء، وخيار الخيار خيار العلماء) ، لم يوجد وإن صح معناه.

ومنها حديث: (لا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض)، قالوا: إسناده

لا يصح.

ومنها حديث: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة

الأوثان) ، وهو موضوع، وقال ابن حبان: باطل. وفي إسناده من يتهم بالوضع،

وذكر له في اللآلئ المصنوعة طرقًا لا يصح منها شيء.

ومنها حديث: (المتعبد بغير فقه كالحمار في الطاحونة، ما اتخذ الله من ولي

جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه) ، قال ابن حجر: ليس بثابت. قلت: كانوا يحتجون به

على الجهال الأميين الذين يدَّعون الولاية، ويصدقهم العوام لتظاهرهم بالصلاح،

وما كان هؤلاء ينتهون عن دعواهم؛ لأن لهم من العامة قوة يغلبون بها الحق على

قاعدة بسمارك، وقد أنكر بالحديث أحد العلماء على أحد أدعياء الأولياء الجهلاء،

وكان لم يره، وبلغ الولي ذلك، فاتفق أن اجتمعا في مجلس مصادفة، فابتدر الولي

العالم بقوله: (اتخذني وعلمني) ، فعدها له الناس مكاشفة وزادوا به اعتقادًا؛ لأن

كرامة وهمية كهذه تهدم ألف قاعدة من قواعد العلم والدين، وهذا العلم الذي يسميه

الصوفية (اللدني) لا يتناول علوم الرواية والأحكام كالحديث والفقه واللغة كما بينه

الفقيه ابن حجر في الفتاوى الحديثية؛ ولذلك تجد أكابر الصوفية الصادقين يحتجون

بالأحاديث الموضوعة؛ إذ لم يكونوا من المحدثين؛ ولكن أين من يعقل ويفهم؟

ومنها حديث: (أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في

الدنيا فلم يطلبه، ورجل علم علمًا، فانتفع به من سمعه منه دونه) ، قال ابن

عساكر منكر.

ومنها حديث: (من نصح جاهلاً عاداه)، قالوا: لم يرد مرفوعًا، أي لم

ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كلام بعض السلف، أقول: إذا

أراد قائله بالجاهل الأحمقَ السفيهَ فله وجه، وأما إذا أراد غير العالم فهو خطأ

وضلال يقتضي ترك التعليم والنصيحة، وفي ذلك محو الدين بالمرة.

ومنها حديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا معشر العلماء إني لم أضع

علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم، قوموا فإني قد غفرت لكم) ، رواه ابن عدي عن واثلة

ابن الأسقع مرفوعًا، وقال: هذا منكر، لم يتابع عثمان بن عبد الرحمن القرشي عليه

الثقات. وله إسناد آخر عند ابن عدي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا، وقال: في

إسناده طلحة بن يزيد متروك، وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل.

ومنها حديث: (إن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي

فيه بين المشرق والمغرب، كما يضيء الكوكب الدري) ، رواه أبو نعيم والخطيب،

قال في الميزان: هذا خبر باطل.

ومنها حديث: (إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر،

فيأمر الله جبريل أن يأتيهم ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن

أصحاب الحديث، فيقول الله تعالى: ادخلوا الجنة على ما كان منكم طالما كنتم

تصلون على نبيي في دار الدنيا) ، قال الخطيب: موضوع، والحمل فيه على الرقي

يعني محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي، وقد ذكره الذهبي في الميزان، وقال: إنه

وضع هذا الحديث. أقول: حيَّا الله تعالى علماء الحديث.

ومنها حديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا

عالمًا) ، رواه ابن عبد البر وضعَّفه؛ ولكن قال صاحب الذيل: هو من أباطيل

إسحق الملطي. وقال في المقاصد: طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة

قادحة. وقال البيهقي: هو متن مشهور وليس له إسناد صحيح. أقول: وسبب

شهرته عناية العلماء بحفظ الأربعينات رجاء أن يكون ثابتًا في الواقع وإن لم يصح

سنده.

وقد ورد في العلماء والعباد أحاديث أخرى تكلم فيها بعض، واحتج بها

آخرون، منها حديث: (شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين

يأتون العلماء) ، روى ابن ماجه شطره الأول بسند ضعيف. وروي بلفظ (العلماء

أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل

فاحذروهم واعتزلوهم) ، قيل: هو موضوع وفي إسناده مجهول ومتروك. وتعقب

ذلك.

وما زال العلماء العاملون والصوفية المخلصون يحتجون بهذا الحديث، وما

ورد في معناه؛ لأنه مؤيد بسيرة السلف الصالح، وكانوا يتهمون كل عالم يغشى

مجالس الأمراء والسلاطين إلا إذا كان بمقدار ما يؤدي النصيحة الواجبة ولم يأخذ

من عطاياهم شيئًا، وإحياء علوم الدين طافح بآثار السلف في ذلك، وقد انقلب

الأمر الآن؛ فإننا نرى من الناس من يستدل على حسن حال المنتسبين إلى العلم

والصلاح بالقرب من الملوك والأمراء، وربما يعدون من كراماتهم ما يمنحونه من

الحلي والحلل الذهبية والفضية التي تسمى النياشين وكسوة الرتبة والتشريف، فلا

حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومنها حديث: (أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) ، رواه أحمد والطبراني،

والقراء: العلماء، والله أعلم.

_________

ص: 35

الكاتب: حافظ إبراهيم

‌انتقاد الأخلاق والعادات

لمعري العصر في فلسفة الشعر محمد أفندي حافظ إبراهيم

لحاظك والأيام جيش أحاربه

فهذي مواضيه وهذي كتائبه

وهمين ضاق القلب والصدر عنهما

غرام أعانيه وعيش أغالبه

وليل كمطل القوم كابدت طوله

وأيقنت أني لا محالة صاحبه

كأن دياجيه صحيفة ملحد

تخط بها أعماله ومثالبه

قريت به جيش الصبابة والأسى

وأنزلته صدرًا تداعت جوانبه

وعلمت نفسي كظم غيظي ولم أبح

بما فعلت بين الضلوع قواضبه

تماسكت حتى لو رأى القوم حالتي

رأوا رجلاً هانت عليه مصائبه

رجائي في قومي ضعيف كأنه

جنان وزير سودته مناصبه

ودائي كداء الدين عز دواؤه

وحظي كحظ الشرق نحس كواكبه

فياليت لي وجدان قومي فأرتضي

حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه

ينامون تحت الضيم والأرض رحبة

لمن بات يأبى جانب الذل جانبه

يضيق على السوري رحب بلاده

فيركب للأهوال ما هو راكبه

فما هي إلا أن تجشمه النوى

وما هو إلا أن تشد ركائبه

ويحرج بالرومي مذهب رزقه

فتفرج في عرض البلاد مذاهبه

أقاسم إن القوم ماتت قلوبهم

ولم يفقهوا في السِفْر ما أنت كاتبه

إلى اليوم لم يُرفع حجاب ضلالهم

فمن ذا تناديه ومن ذا تعاتبه

فلو أن شخصًا قام يدعو رجالهم

لوضع نقاب لاستقامت رغائبه

ولو خطرت في مصر حواء أمنا

يلوح محياها لنا ونراقبه

وفي يدها العذراء يسفر وجهها

تصافح منا من ترى وتخاطبه

وخلفهما موسى وعيسى وأحمد

وجيش من الأملاك ماجت مواكبه

وقالوا لنا رفع الحجاب محلل

لقلنا نعم حق ولكن نجانبه

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ثناء

قد حذت جريدة طرابلس حذو المنار بالكلام في الموضوعات، فاستحقت بذلك

الثناء.

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

ضاق هذا الجزء عن هذا الباب، وسنثبته في الجزء الآتي ويدخل فيه باقي

ترجمة ملكة الإنكليز وغير ذلك.

_________

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تصحيح

ذكرنا في الصفحة 862 من الجزء الماضي أن سعادتلو عبد الغني باشا العابد هو

شقيق صاحب العطوفة الشهير أحمد عزت بك العابد الكاتب الثاني لمولانا السلطان

الأعظم، وكان ذلك سبق قلم، والصواب أنه ابن عمه لا شقيقه.

_________

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌من الإدارة

من ينقصه شيء من أعداد سنة المنار الثالثة، أو فهرس المجلد الثاني، فليطلبه

يُرْسَل إليه، وأما فهرس المجلد الثالث فسيوزع مع الجزء الآتي إن شاء الله تعالى،

ونرجو من غيرة المشتركين الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك أن يتفضلوا بإرسالها،

ونخص بالذكر أهل تونس والجزائر ومراكش وجاوة والهند، ولهؤلاء الخيار في

إرسال القيمة حوالة على إدارة البوسطة، أو على أحد البنوك في القاهرة.

_________

ص: 40