المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر - مجلة المنار - جـ ٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (4)

- ‌غرة ذو القعدة - 1318ه

- ‌فاتحة السنة الرابعة

- ‌الداء والدواء

- ‌رواية عربية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌انتقاد الأخلاق والعادات

- ‌ثناء

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تصحيح

- ‌من الإدارة

- ‌16 ذو القعدة - 1318ه

- ‌الفضائل والرذائل [

- ‌خطبة أساس البلاغة

- ‌قصيدة جحدر في الأسد

- ‌تقريظ المنار الأنورواقتراح طلاب الأزهر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مهاجر أزهري

- ‌عريضة استرحام مسلمي بنغالة

- ‌كتاب الأمير عبد الرحمن خان

- ‌غرة ذو الحجة - 1318ه

- ‌مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

- ‌مضار اللَّثْم والتقبيل

- ‌الحنين إلى الوطن

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌ إميل القرن التاسع عشر

- ‌ملكة الإنكليز

- ‌البدع والخرافات

- ‌تهنئة واستماحة

- ‌وسام الافتخار المرصع

- ‌غرة المحرم - 1319ه

- ‌الانتقاد

- ‌الطلاق في الإسلام [

- ‌الفقه الإسلامي

- ‌العشق وحرية العرب

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينيةفي فرنسا

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 المحرم - 1319ه

- ‌أسئلة دينية وأجوبتها

- ‌الشيعة وأهل السنةاختلافهما

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌استلفات لإزالة شبهة

- ‌تصحيح غلط

- ‌تنبيه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلام

- ‌غرة صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌إظهار المدفون من تمثال فرعون

- ‌طُرَف الأعراب ونوادرهم

- ‌أسباب الحرب الروسية العثمانية

- ‌الوفد الإسلامي إلى الصين

- ‌زيارة القبور والمدرس المغرور

- ‌16 صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌تعليم العربية في المدارستأخره في تقدمه

- ‌نوادر البخلاء

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الطاعون في الكاب والمسلمون

- ‌غرة ربيع الأول - 1319ه

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌مكتوب في حق مسلوب

- ‌للفيلسوف الإسلامي

- ‌للشاعر العصري

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مصاب الصحافةوفاة بشارة باشا تقلا

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌16 ربيع الأول - 1319ه

- ‌التقليد

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌قسم الموالد والمواسم

- ‌غرة ربيع الثاني - 1319ه

- ‌التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

- ‌مدرسة خليل أغااحتفالها السنوي

- ‌المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادى الأول - 1319ه

- ‌علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلةشيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي [*]

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌عفة نساء العرب وبلاغتهن

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌تنبيه

- ‌إصلاح الطرق وأهلها

- ‌16 جمادى الأولى - 1319ه

- ‌وظائف علماء الدين

- ‌شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحيةوحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌التقاريظ

- ‌عيد الجلوس السلطاني

- ‌قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا

- ‌تعازٍ ووفيات

- ‌غرة جمادى الآخر - 1319ه

- ‌الرجال والنساء

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 جمادى الآخرة - 1319ه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌تهاني العلماء والأدباءلفضيلة مفتي الديار المصرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رجب - 1319ه

- ‌كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌ريشة صادق

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌رزء عظيم إسلاميوفاة أمير الأفغان

- ‌سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي

- ‌عودة أحمد عرابي

- ‌من إدارة المنار

- ‌مفاسد لا موالد

- ‌16 رجب - 1319ه

- ‌الاستقلال والاتكال

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌تغزل النساء

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌من إدارة المنار

- ‌غرة شعبان - 1319ه

- ‌الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌رثاء الأمير عبد الرحمن خان

- ‌انتقاد المقتطفوكتاب القسطاس المستقيم

- ‌تصحيح

- ‌الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي

- ‌الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

- ‌16 شعبان - 1319ه

- ‌الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في بلاد سيرالونمدرسة إسلامية في فوله

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رمضان - 1319ه

- ‌فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

- ‌السياسة والساسة

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌نساء المسلمين [

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1319ه

- ‌السياسة والساسةمن نحن ومن غيرنا

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌أخبار

- ‌16 شوال - 1319ه

- ‌حياة أمة بعد موتها

- ‌الأمراء والحكامبلاء الأمة بهم

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

- ‌نساء المسلمين

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌غرة ذو القعدة - 1319ه

- ‌نساء المسلمين وتربية الدينورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مؤتمر التربية والتعليم في الهند

- ‌العربية الفصحى والعامية المصريةمناظرة

- ‌وصف الشام

- ‌16 ذو القعدة - 1319ه

- ‌الخمر أم الخبائث

- ‌حرمة الخمر [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌نساء المسلمين

- ‌مدرسة محمد علي الصناعية

- ‌الدول في سلطنة مراكش

- ‌الرقص والعفة والحجاب

- ‌الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات

- ‌غرة ذو الحجة - 1319ه

- ‌إصلاح الدولة العلية

- ‌الإسلام والمسلمون

- ‌خبر سلمان الفارسي وإسلامه

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌سوانح وبوارح

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز

- ‌خاتمة السنة الرابعة

الفصل: الكاتب: عبد الرحمن شهبندر

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر

‌التقليد

خطاب ألقاه في المدرسة الكلية الأميركانية في بيروت

الفاضل الأديب عبد الرحمن أفندي شهبندر

من تأمل هذا الوجود بعين الحكمة يعجب وتأخذه الحيرة لما يظهر له مما يطرأ

على الأمم من التغيرات والتقلبات: فبينما هو ينظر في باب من أبواب التاريخ إلى

ما وصلت إليه الأمة المصرية مثلاً أيام الفراعنة من العظمة والمجد المؤثل - يرى في

باب آخر أن هذه العظمة قد انتقلت، وهذا المجد قد زال وأصبحت تلك الأمة في

قبضة أمة أخرى تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء الهوى، وما قيل عن المصريين

يقال عن الكلدانيين والآشوريين والبابليين واليونان والرومان، أمم زالت وآثارها

تشهد لها بأن ذكرها لن يزول، ولعمري لو نظر أحدنا إلى (ممفس) أيام مجدها، أو

إلى (نينوه) أيام عزها، أو إلى (أثينا) أيام حكمتها، أو إلى (رومية) أيام

سطوتها - لكذَّب التاريخ فيما يدعيه من زوال تلك المدنية، ولظن أنها لا تزال مخيمة

بتلك الربوع لا تؤثر فيها عوامل الزمان، ولا تزعزعها طوارق الحدثان. ولو قال

أحد اليوم أن مدنية الإنكليز مثلاً ستزول يومًا ما، حتى لو ذهب أحدنا إلى لندن لرآها

أثرًا بعد عين، ولرأى (وستمنسترها) كهيكل عظمي في مدينة أموات لكذَّبناه ونسبناه

للجنون. لكن من تدبر نواميس الكون وقاس الحال بالماضي وحكم الماضي بالحال

عرف أن ذلك من الممكنات، وما أرانا إياه التاريخ إثباتًا لهذه الحقيقة يكفي لمن ألقى

السمع وهو شهيد.

لكن ما هي تلك النواميس وما الذي يحفظ المدنية وما الذي يذهبها؟ هذه أسئلة

صعبة جدًّا لا يمكننا أن نجيب عنها كلها في هذه المدة القصيرة، بل يكفي أن نقول:

إن حكمة التاريخ وعلم العمران أفادانا أن للكون نظامًا بديعًا وسننًا محكمة استخرج

الغربيون أكثرها واستعملوها في حفظ حياتهم، ونحن عن ذلك لاهون مع إننا

باستخراجها واستعمالها أولى لما يتلى كل يوم فوق رؤوسنا {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ

سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ

خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .

فمن هذه السنن أن الأمة متى فسدت آدابها وأخلاقها فسد عمرانها؛ لأن الآداب

والأخلاق هي الرابطة في الاجتماع البشري، ومتى انحلت هذه الرابطة انحلت

عراه، ولنا في المصريين والرومان أعظم شاهد، فقد أجمع علماء التاريخ على أن

من أعظم الأسباب في زوال دولتيهما فساد العائلة، وسوء التربية وانتشار الفجور

والعياذ بالله تعالى.

ومنها - وهو قريب من الأول - أن ظلم الدولة مؤذن بخرابها لما له من تثبيط

الهمم عن الأعمال ومتى توقف عمل الأمة وحركتها تأخر عمرانها.

قال العلامة ابن خلدون: (إن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم

في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم

وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك،

والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال) .

ومنها أيضًا أن الأمة التي تنزوي عن الأمم الأخرى لاعتقادها أنها أعظم منها

علمًا وأدبًا وفضيلة ونسبًا تصبح وراء تلك الأمم؛ إذ تقدُّم العمران يتوقف على

المباراة والمسابقة ولا نجاح بدونهما، فالصينيون لما اعتقدوا أنهم أفضل الأمم نسبًا

لاتصالهم بالآلهة واتصال غيرهم بالشياطين، وأن بلادهم أخصب البلاد وأجملها،

وأن عوائدهم أفضل العوائد، وأن لا علم إلا عندهم وأن الحكمة لم تتخطَّ سدهم

وشطوطهم وأن.. . وأن.. . قطعوا علائقهم مع غيرهم احتقارًا لهم، فكانت

النتيجة أن بقي عمرانهم تقريبًا على ما كان عليه منذ ألفي سنة، إن لم نقل قد تأخر

فأخنى عليهم الدهر بأن أرسل عليهم من اليابان وأوربا صرصرًا قوضت أركان

مجدهم، واقتلعت جذور عزمهم، وما سيصيبهم أعظم وكل آتٍ قريب.

هذا قليل من كثير أوردناه برهانًا لقولنا إن للكون نظامًا بديعًا وسننًا محكمة،

وأهم منه بالنسبة للمشرق موضوعنا (التقليد) وقبل الخوض فيه نقول: إن بعض

العلماء أطلق هذه الكلمة على بعض الأعمال الخارجة عن الإرادة يعملها المرء بعد

أن يحركه بمثلها محرك آخر، كما إذا نظرنا إلى أحد يتثاءب أو يتلجلج في كلامه،

فربما نقلده بلا شعور منا، إلا أن هذا النوع غير داخل في بحثنا؛ فإننا إنما نبحث في

التقليد الإرادي وتأثيره في العمران، وهو غريزي في الإنسان وعليه بني الاجتماع

البشري، فمن الحقائق التي لا مشاحة في حقيقتها أن الطفل مطبوع على تقليد غيره

فحركاته تكون في أول الأمر غير مضبوطة ولا متناسبة؛ ولكن كلما تقدم في

السن نراه يجتهد أن يأتي بحركات مرضعته ووالديه، فيظهر أول الضبط والتناسب

في عمله، والأمم المتوحشة والتي حظها من المدنية قليل تشبه الطفل بذلك، قال

ماسون: (بينا نرى الكاريين لا يأتون بجديد نراهم ميالين إلى التقليد أكثر من

الصينيين) وذكر (موات) أن الأندمانيزيين إذا سُئلوا سؤالاً أعادوا لفظه كالببغاء

من غير جواب، والأعجب أن الفارانيين مع إحكامهم التقليد، إذا ترك لهم عمل

ولو كان بسيطًا جدًّا خبطوا فيه خبط عشواء، والجامدون في هذه البلاد يشبهون

هؤلاء المتوحشين بميلهم إلى التقليد الأعمى؛ فإنهم إذا رأوا أحدًا يجتهد بجديد من

الأعمال النافعة أو استخراج معنى من كتب الدين هزءوا به قائلين: من أين لنا أن

نأتي بأعمال كهذه ومن منا قادر على فهم تلك الكتب، دع عنك ذلك للمتقدمين فزمان

الاجتهاد قد زال وما علينا إلا التقليد؟

هذا يدلنا على أن التقليد من طبيعة الإنسان ويدلنا أيضًا على أن ما يشغل

العقول القاصرة من الصور العقلية للحركات الخارجة أو لغيرها يسوق أصحاب هذه

العقول صاغرين للإتيان بمثلها، وربما يصير ذلك بعد قليل شبيهًا بالحركات

الطبيعية البدنية الخارجة عن الإرادة كحركات المعدة في الهضم والرئتين في التنفس

والقلب في الدورة الدموية، والسبب في ذلك أن قليل التصور ساقط النتيجة لا

يستطيع الاجتهاد بأكثر المسائل، فيستنتج أنه غير قادر على الاجتهاد مطلقًا والجامد

يتجنبه لما فيه من الاشتغال العقلي فهو عدو كل حركة ولو قيل (الحركة بركة) .

التقليد من حيث هو أنواع متعددة، والذي يهمنا منها هنا نوعان: التقليد في

العوائد، والتقليد في العلم، وهما يشبهان السلطة الشرعية، فكما أن هذه ضرورية

للعمران كذلك ذانك، إذ هما قانونه المعنوي وكما أن هذه السلطة الشرعية كثيرًا ما

يُساء استعمالها فبدلاً من أن تكون مدبرة عادلة تكون مستبدة ظالمة، كذلك ذانك

والمقصود من سوء استعمالهما أن يصبحا عبئًا ثقيلاً على عاتق الأمة، وحاجزًا

منيعًا دون بلوغها ما أصبح لها لازمًا ضروريًّا، وعلى هذا الأخير بنيت موضوعي

وإليه وجهت خاطري لما له من التأثير السيئ في البلاد. والتقليد الأعمى في

العوائد يظهر عندنا كثيرًا أيام الأعراس أيام يعرض جهاز العروس في الأسواق

محمولاً في العربات، أو موضوعًا على رؤوس الرجال - أيام يفتح العروس أبوابه

ويمد الموائد ويحشد الجموع التي يكاد ضجيجها يصل إلى السماء - أيام يصرف

الألوف على الأزياء المضرة بالصحة! يفعل ذلك كله لئلا يقال: إنه لم يقم

بالفروض، ولو كان كما يقول المثل (يبيع الماعون قيامًا بالقانون)(استحسان) .

أما مجالسنا فهي مظهر التكلف، وإذا نظرنا إلى أكثرها ماذا نرى؟ تالله لا

نرى إلا أناسًا جالسين وعلائم السآمة تلوح على وجوههم، إذا تكلم أحدهم فإنما

يتكلم ليقال عنه إنه مسرور وغالبًا يكونون صامتين كالأصنام، لا لبكم بل لأن

أفكارهم مصروفة إلى الخزعبلات، هذا يفكر في قلة أدب الحاضرين؛ لأنه لما خرج

من المجلس لغرض له وعاد لم يقوموا له وذاك يبحث في سوء معاملتهم له؛ لأنهم لم

يضعوه في صدر المجلس، هذا يقول في نفسه: إن صاحب البيت لم يستقبلني

استقبالاً لائقًا بي، فياليتني لم أدخل بيته، وذاك ينتقده أنه لم يسرع بتقديم الأركيلة

(الشيشة) والسيكارات، هذا يشتم الخادم في نفسه؛ لأنه أعطى فلانًا القهوة قبله،

وذاك يتألم من سيده لأنه لم يقل له: شرفتم، بعد أن شربها، هذا وهذا.. . كل منهم

يفكر في هذه الترهات ويخوض في هذه الجهالات؛ حتى إننا كثيرًا ما كنا نسمع من

يخرج من مجالس كهذه يقسم الأيمان المغلظة أنه لن يحضر اجتماعًا بعدها أبدًا

(تصفيق) .

أي مقابلة بين مجلس كهذا، ومجلس لا يدخله إلا من صفت قلوبهم وراق

ودهم: يعرفون معنى الصحبة، ويقدرون فائدة الاجتماع حق قدرها، هذا يأتي بنكتة

فيقابله الحاضرون بالسرور، وذاك يلقي فائدة فيتلقونها بالحبور، حدائق أفكارهم لا

تأتي إلا بيانع الثمر، وبحار أبحاثهم لا تجود إلا بأثمن الدُّرر، يعلمون أن المقصود

من الاجتماع التعارف ومبادلة الأفكار، لا تناول القهوة واستعمال السيكار

(استحسان) .

كل منا ذاق لذة ما نسميه (ساعات الصُّدَف) وود لو تكون كل أيامه مثلها،

وأحس بمجالس (الكُلف) وما لها من الأضرار، فطنطنة عود يسمعها المرء وهو مار

في الشارع ربما تفوق لذتها لذة ما كان يحضره من المجالس الموسيقية، ويصرف

دراهمه لسماعها؛ والسبب في ذلك ما قال المستر هربرت سبنسر وهو أنه كلما

ازداد التكلف المحيط بالاجتماعات نقص السرور الحاصل منها؛ لأنه لا يمكن القيام

بواجباتها الأساسية كلها، فكيف بالتكلفات الزائدة المضرة؟

وما قيل عن المجالس يقال عن الولائم، ويزيد في الفتق هنا أمر المأكول.

أعرف رجلاً كان يحب أن يدعو صديقًا له؛ ولكن منعه من ذلك أنه لا يقدر أن يقدم

له أربعة وعشرين نوعًا من المأكول، والأعجب أننا صرنا بالتكلف المضر والتقليد

الأعمى إذا أردنا أن ندعو صديقًا لنا دعونا كل من نريد أن نوفيه ما له من يدٍ

كدعوة ماضية، أو قضاء مصلحة، ولو لم يكن بينهما مودة، وهذا نتيجة حالتنا

الحاضرة؛ لأن الكلفة توجب علينا أن يكون المدعوون جمعًا كي يخف المصرف،

ولو لم يحصل المقصود (استحسان) .

ولو أردنا أن نعدِّد ما يجري على المائدة، وكيف أن أحد المدعوين إذا شبع لا

يقدر أن يقوم حتى يشبع البقية لئلا يقوموا معه وهم جياع - لطال بنا الكلام وأدى إلى

غير ما كنا نتوخاه من الاختصار، ولهذه المجالس والدعوات أضرار كثيرة لا

ينبغي أن نتركها كلها:

منها الإسراف الذي يؤدي إلى الخراب، فالرجل المتوسط الحال إذا أراد أن

يقوم بواجبات الاجتماعات فلم يأخذ بيتًا إلا في أحسن بقعة من البلد، ولم يضع فيه

إلا أثمن الأثاث، ولم يلبس إلا آخر زي ولم.. . ولم.. . يصبح وبساطه الثرى

فتحزُّ الدموع في جلباب خده ولكن لا ينفعه البكاء.

ومنها تخفيف المعاشرة الصحيحة التي هي ضرورية للعمران؛ لأن من أراد

أن يمدَّ رجليه على قدر لحافه ينبغي له أن يقل من الاجتماعات ما أمكن، وإلا

يصبح معدمًا كما قدمنا، ومنها أن هذه الحالة توجب للذين لا يتحملون تكاليفها أن

يميلوا إلى بعض العوائد المضرة كالجلوس في القهاوي، وصرف الأوقات في لعب

الورق والبلياردو؛ لأن المرء إذا فقد شيئًا يسُرُّه لا بد له من شيء يقوم مقامه.

وما قيل عن الأعراس والمجالس والولائم يقال عن الأزياء، إلا أن الوقت لا

يساعدنا أن نبحث فيها؛ لأن عندنا ما هو أهم منها وهو التقليد في العلم.

الباحث في علم الاستقراء يرى أن من أعظم الأسباب التي تمنع من تصحيح

الأفكار: التقليد في العلم، قام أرسطو في القرن الرابع قبل المسيح وأسس فلسفة بناها

على ما بلغ إليه من العلم، ثم مضت بعد ذلك مئات من السنين والناس تحذو أثره

حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، فلم يأتوا بجديد، بل ربما تأخروا عنه حتى

ظهرت الأمة العربية للوجود، وقام أساطينها ينتقدون هذه الحالة وفي مقدمتهم

الحكيم الفارابي يبين لنا أن كون أرسطو شيخ الفلسفة لا يوجب علينا أن نسلم كلامه

تسليمًا أعمى، بل ينبغي أن نبحث فيه: فما وافق منه العقل قبلناه، وما خالفه نبذناه.

وما كادت تنتشر أمثال هذه الأفكار في الأمة حتى كشفت الحكمة الشرقية جلبابها،

وبرزت الآيات العربية من حجابها، ثم أصابنا ما أصابنا مما يطول شرحه،

فانتقضت الأحوال، وأصبح سوق العلم عندنا كاسدًا وما لنا اليوم إلا أن نقول:

هل الدهر إلا ليلة ونهارها

وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

وكان الغربيون رأوا فضل العلم عند الشرقيين، فأخذوا يجدون السير في

طلبه؛ لكنهم لمَّا حصلوا على بعض العلوم وأكثرها لأرسطو لم يخرجوا عن نطاقها

بل ربما كانوا يمسخون أكثرها وظهور (السكولمن) ومباحثهم العقيمة كقولهم: كم

عدد الملائكة الذين يمكن أن يُرفعوا على رأس إبرة واحدة؟ تشهد لما قدمناه، وهكذا

بقي الحال عندهم تقليدًا أعمى لرجل لا يفهمون جل كلامه، حتى قام فرانسيز

بيكون في أواخر القرن الساس عشر للميلاد وبيَّن في طريقته الجديدة - كمن سبقه

من حكماء العرب - أنه ينبغي لنا أن لا نأخذ قولاً إلا بعد البحث فيه، فكانت نتيجة

أعماله أن أظهر الغربيون في ثلاثة قرون من آثار العمران ما لم يسبقهم إليه أحد،

نعم لا ننكر أنه حصل بعد ذلك شيء من التقليد المضر كرفض الإنكليز تطعيم

الجدري لما اخترعه (جِنَّر) لاعتقادهم أنه يخالف إرادة الباري تعالى، إلا أننا نرى

حكومتهم بُعيد ذلك كافأته بمقدار ثلاثين ألف ليرة.

أما نحن الآن فكأننا خُلقنا للتقليد، فإنه يظهر في عوائدنا كما قدمنا، في

زراعتنا، في صناعتنا، في تجارتنا، في كل شيء حتى في أمور الاعتقاد.

أذكر قصة أخبرني إياها أحد محترمي الفرنجة مثلاً للتقليد في المشرق، وهي

أن أحد فلاحي هذه البلاد كان إذا أراد أن يحمل البطيخ يضعه في أحد جانبي

الشريجة [1] ويضع في الجانب الآخر حجرًا للموازنة، فقيل له يومًا أن يُقَسِّم البطيح

إلى قسمين، ويضعهما في الجانبين بدلاً من حمل الحجر؛ لأنه يتعب الدابة بلا

فائدة، فشكر النصيحة للناصح؛ ولكنه لم يقم بواجبها؛ لأن التقليد احتوى عليه

فصده عن الطاعة، والجهالة استحوذت عليه فصرفته عن الرشد، ومر في اليوم

الثاني وقد أعاد ما تعود عليه فقيل له ما قيل أولاً، فقال: هيك عيش أبي وجدي

(تصفيق) .

لو بعثر من في القبور من أجدادنا لما رأوا في زراعتنا جديدًا، ولو عرضت

عليهم صناعتنا لرأونا أضعناها، وأسقطنا جاهها، ولو قام اليوم أحد ليبدي رأيًا،

أو يصلح فاسدًا لقال له المتعصبون: القديم على قدمه ذاك الزمان قد تصرم، وقد

كفانا عناء البحث الأولون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا

حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104)(استحسان) .

والذي يزيد في الوهن أن شبان بلادنا الذين يتخرجون في مدارس الأجانب،

أو يتعلمون لغاتهم يخرجون من تقليد ويدخلون في تقليد، يصبحون وأوقاتهم

تصرف في (البالوات والتياترات) وأموالهم تضاع في المقامرة وعقولهم في

المسكرات، لا مقصد لهم من اللغات الأجنبية إلا أن يعتاضوا بسلامها عن السلام

العربي بقولهم مثلاً (بونجور)(استحسان) .

في صدورهم تلتهب نار البغضاء للآباء لأنهم آباء، وفي قلوبهم تغلي مراجل

العداوة للقديم لأنه قديم، قد هزءوا بالجديد لا لأنهم يبغضون التقليد، بل لأنهم

مقلدون، والأعجب أنني أعرف رجلاً قرأ ترجمة دارون فما فهم منها إلا أنه ينكر

الباري تعالى، فتمسك بهذا الرأي وصُمَّت أذنه عن سماع ما يخالفه، يا سبحان الله

كيف يجوز أن يُسمى هؤلاء بشرًا والبشرية منهم في نفور؟ ! {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي

الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ

وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)(تصفيق) .

تالله هذه حال تترقرق لها العبرات، وتُقَضّ لها المضاجع [2] وما من أحد

ينظر إليها إلا ويستوبل عاقبتها [3] ، غيرنا يجتهد كل يوم بتحسين حاله، ونحن

بالترهات مستمسكون، وقد ضربت لنا الأمثال (فما لنا عن التذكرة معرضين) .

_________

(1)

الشريجة: جوالق كالخرج يُنسج من سعف النخل يُحمل فيه البطيخ.

(2)

أقض المضجع: خشُن، والمراد لازمه، وهو عدم استطابة النوم، ويقال: أقض الله فراشه، وأصل أقض: كان فيه القضض، وهو الحصى، وأقضه: جعله فيه.

(3)

استوبل المكان: استوخمه ولم يوافق صحته، ولم أرهم استعملوه في المعاني.

ص: 321