المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌غرة ذو القعدة - 1319ه - مجلة المنار - جـ ٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (4)

- ‌غرة ذو القعدة - 1318ه

- ‌فاتحة السنة الرابعة

- ‌الداء والدواء

- ‌رواية عربية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌انتقاد الأخلاق والعادات

- ‌ثناء

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تصحيح

- ‌من الإدارة

- ‌16 ذو القعدة - 1318ه

- ‌الفضائل والرذائل [

- ‌خطبة أساس البلاغة

- ‌قصيدة جحدر في الأسد

- ‌تقريظ المنار الأنورواقتراح طلاب الأزهر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مهاجر أزهري

- ‌عريضة استرحام مسلمي بنغالة

- ‌كتاب الأمير عبد الرحمن خان

- ‌غرة ذو الحجة - 1318ه

- ‌مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

- ‌مضار اللَّثْم والتقبيل

- ‌الحنين إلى الوطن

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌ إميل القرن التاسع عشر

- ‌ملكة الإنكليز

- ‌البدع والخرافات

- ‌تهنئة واستماحة

- ‌وسام الافتخار المرصع

- ‌غرة المحرم - 1319ه

- ‌الانتقاد

- ‌الطلاق في الإسلام [

- ‌الفقه الإسلامي

- ‌العشق وحرية العرب

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينيةفي فرنسا

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 المحرم - 1319ه

- ‌أسئلة دينية وأجوبتها

- ‌الشيعة وأهل السنةاختلافهما

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌استلفات لإزالة شبهة

- ‌تصحيح غلط

- ‌تنبيه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلام

- ‌غرة صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌إظهار المدفون من تمثال فرعون

- ‌طُرَف الأعراب ونوادرهم

- ‌أسباب الحرب الروسية العثمانية

- ‌الوفد الإسلامي إلى الصين

- ‌زيارة القبور والمدرس المغرور

- ‌16 صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌تعليم العربية في المدارستأخره في تقدمه

- ‌نوادر البخلاء

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الطاعون في الكاب والمسلمون

- ‌غرة ربيع الأول - 1319ه

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌مكتوب في حق مسلوب

- ‌للفيلسوف الإسلامي

- ‌للشاعر العصري

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مصاب الصحافةوفاة بشارة باشا تقلا

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌16 ربيع الأول - 1319ه

- ‌التقليد

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌قسم الموالد والمواسم

- ‌غرة ربيع الثاني - 1319ه

- ‌التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

- ‌مدرسة خليل أغااحتفالها السنوي

- ‌المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادى الأول - 1319ه

- ‌علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلةشيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي [*]

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌عفة نساء العرب وبلاغتهن

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌تنبيه

- ‌إصلاح الطرق وأهلها

- ‌16 جمادى الأولى - 1319ه

- ‌وظائف علماء الدين

- ‌شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحيةوحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌التقاريظ

- ‌عيد الجلوس السلطاني

- ‌قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا

- ‌تعازٍ ووفيات

- ‌غرة جمادى الآخر - 1319ه

- ‌الرجال والنساء

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 جمادى الآخرة - 1319ه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌تهاني العلماء والأدباءلفضيلة مفتي الديار المصرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رجب - 1319ه

- ‌كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌ريشة صادق

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌رزء عظيم إسلاميوفاة أمير الأفغان

- ‌سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي

- ‌عودة أحمد عرابي

- ‌من إدارة المنار

- ‌مفاسد لا موالد

- ‌16 رجب - 1319ه

- ‌الاستقلال والاتكال

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌تغزل النساء

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌من إدارة المنار

- ‌غرة شعبان - 1319ه

- ‌الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌رثاء الأمير عبد الرحمن خان

- ‌انتقاد المقتطفوكتاب القسطاس المستقيم

- ‌تصحيح

- ‌الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي

- ‌الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

- ‌16 شعبان - 1319ه

- ‌الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في بلاد سيرالونمدرسة إسلامية في فوله

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رمضان - 1319ه

- ‌فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

- ‌السياسة والساسة

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌نساء المسلمين [

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1319ه

- ‌السياسة والساسةمن نحن ومن غيرنا

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌أخبار

- ‌16 شوال - 1319ه

- ‌حياة أمة بعد موتها

- ‌الأمراء والحكامبلاء الأمة بهم

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

- ‌نساء المسلمين

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌غرة ذو القعدة - 1319ه

- ‌نساء المسلمين وتربية الدينورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مؤتمر التربية والتعليم في الهند

- ‌العربية الفصحى والعامية المصريةمناظرة

- ‌وصف الشام

- ‌16 ذو القعدة - 1319ه

- ‌الخمر أم الخبائث

- ‌حرمة الخمر [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌نساء المسلمين

- ‌مدرسة محمد علي الصناعية

- ‌الدول في سلطنة مراكش

- ‌الرقص والعفة والحجاب

- ‌الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات

- ‌غرة ذو الحجة - 1319ه

- ‌إصلاح الدولة العلية

- ‌الإسلام والمسلمون

- ‌خبر سلمان الفارسي وإسلامه

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌سوانح وبوارح

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز

- ‌خاتمة السنة الرابعة

الفصل: ‌غرة ذو القعدة - 1319ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والصلاة والسلام على سيدنا

محمد، وعلى كل عبد مصطفى.

وبعد، فإن المنار يدخل بهذا الجزء في العام الرابع من حياته وقد نما النمو

الطبيعي المقدَّر له من أول نشأته، وساعد حركة الإصلاح بصوته الضعيف، ولقي

صاحبه من الألاقي بعض لقي الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا

والله مع الصابرين.

من كان الله معه لا يضره كيد الكائدين، ولا يُحبط عمله إرجاف المرجفين،

وإن عظمت مظاهرهم وألقابهم، وعلت منازلهم وأحسابهم، بل جرت سنته تعالى

في خلقه بأن الضعيف ينتصر بالحق على القوي، والرشيد يغلب بالصدق والثبات

على الغويّ {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً

وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .

ما لقيتْ دعوة الحق من المعارضة بعض ما لقيت من الانتشار، ولا صادفت

من التدسية والإخفاء مثلما صادفت من التزكية والاشتهار، وما كان إلا ما كان في

الحسبان، وليس في الإمكان أبدع مما كان، ومن حاول الخروج بالكون عن سنته،

وتكليف عالم الاجتماع ما ليس في طبيعته، كان جديرًا بالخذلان، وبذلك خاب فلان

وفلان، وخفي هذا على بعض الناس فكانوا من القانطين، وضل آخرون في فهم

قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .

الحق ثقيل ولا سيما على المبطلين، والجدُّ مملول ولا سيما من الهازلين؛

ولذلك أشار علينا بعض الناصحين من محبي الإصلاح بأن نضم إلى المقالات

الإصلاحية والعلمية شيئًا من النبذ الأدبية، وأن نضيف إلى انتقاد التقاليد والعادات

بعض الأخبار والملح والفكاهات؛ لأن هذا أدعى إلى ترويح النفس، وتوفير الأنس

ولهذا وسَّعنا المجلة فزدنا في صفحاتها، ونوَّعنا موضوعاتها؛ ولكننا لم نزد في

الثمن، كما زدنا في المثمن؛ لأن بضاعة العلم والدين لا تزال عندنا على قلتها في

كساد، وبضاعة الشهوات واللذات في رواج وازدياد، فيسهل على أكثر المتعلمين

منا أن ينفقوا البِدَر في سبيل الهوى، ويصعب عليهم أن يبذلوا النزر اليسير في

سبيل الهدى، فما بالك بغيرهم الخالي من مثل غيرتهم، والمحروم من الشعور

بحميتهم (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون) ووفقهم لمعرفة أنفسهم ومن معهم

لعلهم يرشدون، اللهم و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .

...

...

...

... صاحب المنار ومحرره

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الداء والدواء

خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه بضروب من التكريم، خلقه

من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، خلقه جاهلاً لا يعلم شيئًا، ثم منحه

هدايات الحواس والعقل والنبوة، خلقه فقيرًا محتاجًا إلى كل شيء، وسخَّر له

بفضله كل شيء، فالأكوان تعمل به وهو يعمل في الأكوان، ويظهر ما انطوت

عليه من الإبداع والإتقان، مستعينًا بتلك الهدايات الموهوبة، على أعماله المكسوبة

حتى يصل كل من الإنسان والأكوان إلى ما أُعد له، ويبلغ الكتاب فيهما أجله،

وأعني بالكتاب كتاب الغيب المكنون، {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي

شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل: 65-66) .

جلَّت حكمة الله جعل حياة الإنسان الفردية مثالاً ونموذجًا لحياته القومية،

يرتقي الفرد منه بالتدريج ويتربى متأثرًا بحالة الأكوان، وما تعرضه عليه شؤون

أخيه الإنسان، فمنه ما ينمو ويرتقي باطراد، ومنه ما يعرض له المرض والفساد

فتوقف سيره قبل أن يتم دوره، فإما شقاء وارتقاء، وإما موتًا وفناءً، وكذلك الأمم

في أطوارها، والشعوب في أدوارها، وهذه قصصها وأخبارها، ما سعدوا إلا بما

كانوا يعملون، وما حل بهم الشقاء إلا بما كانوا يكسبون {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن

كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 33) .

استعان أناس بالحواس على الحسنات، واستعان بها آخرون على اجتراح

السيئات، ووصل قوم بالعقل إلى أحاسن الأعمال، واستعمله آخرون في سيئ

الفعال، واهتدى بالدين أمم إلى الصراط المستقيم، ووقع به آخرون في العذاب

الأليم {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ،

{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: 213) ،

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ

يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ

الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .

غرَّ أمةً ممن كان قبلنا دينهم، فحسبوا أن انتسابهم إليه هو كافلهم وضمينهم،

وناصرهم ومعينهم؛ فقصروا في الأعمال، واستبدلوا النقص بالكمال، فحل بهم

الخزي والنكال، وما أغنى عنهم الانتساب إلى الأنبياء، والاعتماد على الأصفياء،

والاستمداد من الأولياء، ولا أفادهم قولهم: نحن شعب الله، الذي فضَّله على العالمين

واصطفاه، وحملة كتابه التوراة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ

إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن

تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران:

23-

24) .

الغرور في الدين، هو الجرثومة التي تولدت منها جميع أمراض المسلمين،

كما حل بمن كان قبلهم، وحُذِّروا أن يكونوا مثلهم، فقد جاء في الحديث المتفق على

صحته: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) ، والمسلمون يعترفون

بهذا إجمالاً؛ ولكنهم ينكرونه عند التفصيل، فإذا عدَّدت لهم البدع والتقاليد التي

فتنوا بها، وحرَّفوا معاني كتاب الله تعالى وأوَّلوه برأيهم لترويجها، يلوون ألسنتهم

إنكارًا، ويُنغضون رؤوسهم إعراضًا وازورارًا، وإذا وصفت بهذا الغرور بعض

رجال الدين، من شيوخهم وآبائهم الميتين {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا

يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} (الأنفال: 6) .

هذا الغرور في الدين، الذي أصبنا به من بعد الخلفاء الراشدين، هو نقيض

الغرور الذي رُمي به الذين سبقونا بالإيمان، والذي قال فيه القرآن: {إِذْ يَقُولُ

المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} (الأنفال: 49) فإن ذلك

الغرور هو تصدي ثلاثمائة ونيف من المؤمنين، لزُهاء ألف من المشركين، من

ورائهم ألوف وزحوف من الفرسان، وليس وراء أولئك المؤمنين إلا النساء

والضعفاء والصبيان، وهذا الغرور هو خذلان ثلاثمائة مليون من المسلمين،

ووقوعهم بين أنياب الحوادث، ومخالب الكوارث، لا يحمون حقيقتهم، ولا

يدافعون عن حوزتهم؛ ولكنهم يستنجدون بالقبور ولا يُنجدون، ويستنصرون

بأرواح الموتى ولا يُنصرون {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ

ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .

تولدت جراثيم هذا الغرور بالدين في العصر الأول عندما فتح المسلمون البلاد

ودوَّخوا العباد، وجلسوا على كرسي السيادة، وضموا عليهم قطرَيْ السعادة،

فحسبوا أنهم غمروا بهذا الإنعام، لمجرد انتسابهم للإسلام، ثم دلهم القياس الفاسد

على أن هذا اللقب (مسلمون) يعطيهم سعادة الآخرة، كما أعطاهم سعادة الدنيا،

وكان لهم من الأحاديث الموضوعة وسوء فهم الصحيحة ما يؤيد القياس، ويمد

الوهم والالتباس، فقصروا فيما أمرهم الدين من الإصلاح للدنيا، كما قصروا في

عمل الصلاح للأخرى، فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ

القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117)[1] .

ويا ليتهم إذا عُذِّبوا بسلب سعادة الدنيا رجعوا إلى قياسهم، وخافوا أن يحرموا

سعادة الآخرة أيضًا إذا هم استرسلوا في هذا الغرور، ولم يخرجوا من هذا الديجور

ثم رجعوا إلى أنفسهم، وبحثوا عن أسباب سعادة سلفهم، وتبينوا أنها الأعمال، لا

الأماني والآمال، ثم استنوا بسنتهم، واستقاموا على طريقتهم، ولم يتكلوا على

شفاعتهم، ويجعلوها مناط سعادتهم، واعتبروا بقول خليل الرحمن عليه الصلاة

والسلام إذ قال لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} (الممتحنة: 4) وبما كان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه

أبي طالب، وبحديث الصحيحين: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل

عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال: (يا معشر قريش،

اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم

من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت

محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) نعم، وإن اعتقاد الخلف

أنهم يسعدون في الدنيا بأمداد سلفهم تكذيب للحس والعيان، واعتقاد أنهم بهم

ينجون في الآخرة إعراض عن السنة والقرآن، فالاحتجاج بعد هذا بقول فلان

وورد فلان جنون {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) .

ما وقف المسلمون بغرورهم في دينهم عند حد، بل عم عندهم كل شيء حتى

حكموه بالعلم الذي يرشد إليه، فجعلوه صادًّا عنه، وبالدنيا التي يأمر بعمرانها،

فحسبوه مؤذنًا بخرابها، وبالعقل الذي بُني عليه، فجعلوه عدوًّا له، ولما نزلت بهم

عقوبة غرورهم يئسوا من كل شيء أن ينالوه بأنفسهم، وسجلوا على أنفسهم هذا

اليأس وختموه بختم الدين وطبعوه بطابعه، حيث زعموا أنه من أشراط الساعة،

وأن الضعف إذا وقع بالمسلمين لا يرتفع إلا ما يكون من النهضة على يد المهدي

المنتظر القصيرة المدة؛ وإنما تكون بالخوارق والكرامات لا بالاستعداد والعصبية

القومية، ثم هي كإيماضة الخمود للذبال لا تلبث أن تزول سريعًا وتزول الدنيا في

أثرها بعد قليل، وقد مر في المنار تحقيق الحق في هذه التقاليد وبيان ضررها،

وأن الساعة مغيَّب عنا أمرها {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) .

فعلمنا مما تقدم أن أمراض المسلمين الاجتماعية التي جعلتهم وراء الأمم كلها

حتى التي كانوا يسودونها ترجع إلى داء واحد، وهو الغرور في دينهم وفهمه على

غير وجهه، وإن شفاء هذا الداء ليس بمحال ولا متعذر؛ وإنما المتعذر إصلاحهم مع

بقائه، وإن الدواء الذي يذهب به هو السير بالتربية والتعليم على سنن الكون وأصول

الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر المقالة، وإقناعهم بأن ارتقاء المسلمين بدينهم في

القرون الأولى لم يكن لسر خفي في الدين، ولا لحب الله تعالى لذوات الذين تسمَّوا

بالمسلمين؛ لأن الله منزه عن عشق الذوات والأعيان، وأفعاله لا تعلل بالأغراض

كأفعال الإنسان، وإنما ارتقوا به لأنه أرشدهم إلى سنن الارتقاء، وهداهم إلى الصفات

والأفعال التي بها السمو والاعتلاء، فهو كما تقدم هداية أُخذت على وجهها وحقيقتها،

فأدت إلى غايتها وأنتجت نتيجتها، فلما اختلفت الكيفية، انعكست القضية، كما

يهتدي بالحواس والعقل أقوام ويضل آخرون {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ

وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ

عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ

أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 22-23) .

أول أركان الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص الذي يصقل العقول من

صدأ الخرافات والأوهام، ويفك الإرادة من أسر الدجالين، ويعصم النفوس من حيل

المحتالين، ثم الإذعان بأن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فمن سار عليها

وصل ومن تنكبها هلك {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *

ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) حكم عام للآخرة والأولى، ثم

الاعتقاد بأن كل عمل ينافي مصلحة الأمة أو يحول دون منفعتها موجب لسخط الله

تعالى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم تصدي طائفة للاحتساب قولاً وعملاً والدعوة

إلى ما به حياة الأمة من علم وعمل ومباراتها للأمم العزيزة إلى غير ذلك مما فصَّلنا

القول فيه من قبل، وسنعيد البحث فيه إن شاء الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ

إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

ولنا الثقة بأن الكون وما فيه من الآيات، وما اكتشفه الناس من أسراره وما

يكتشفونه فيما هو آتٍ، كل ذلك خدمة لإظهار دين الفطرة على كل دين {وَلَتَعْلَمُنَّ

نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وإن دعوة الحق ستكون هي الفضلى، وطريقة

الإصلاح هي الطريقة المثلى؛ ولكن لا يمكن تعيين الزمن بالتحديد {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا

فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

شَهِيدٌ} (فصلت: 53)، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) ،

{لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67) .

_________

(1)

الأمم بالشرك إذا كانوا مصلحين، وهذا مشاهد وناهيك بالمسلمين واليابان.

ص: 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

القسم الديني [*]

القسم الثاني من الأمالي الدينية في النبوات

(الدرس الثامن عشر)

الحاجة إلى الوحي والنبوة

تكلمنا في العدد الماضي عن الوحي من حيث إضافته إلى الله تعالى وكونه

كلامه، والاستدلال على ذلك بالعقل والنقل على الوجه الذي كان عليه الصحابة

وأئمة السلف الصالحين رضي الله عنهم، ولذلك جعلناه في قسم (الإلهيات) ،

وكان مقتضى الترتيب المعقول أن يكون هذا المبحث برمته في قسم النبوات؛ لأن

النبوة إنما تكون بوحي الله وبكلامه، ونتكلم الآن عن الوحي من حيث حاجة البشر

إليه وحال من جاؤوا به.

المسألة (53) : الأرواح الخالدة

الاعتقاد بأن للبشر أرواحًا تبقى بعد الموت، ولها حياة أخرى بعد هذه الحياة

الدنيا هو الأساس الذي قام عليه بناء الدين المطلق، فلولاه لم يكن للدين معنى ولا

فائدة، بل لم يوجد أصلاً، وكل فائدة أفادها الدين للبشر من وثنيين وموحدين

فمصدرها هذا الاعتقاد، ما علّم قدماء المصريين صناعة البناء، وما يتبعها ويلزمها

من الهندسة وجر الأثقال، حتى بنوا مثل الأهرام وغير ذلك من العلوم والصناعات

إلا الاعتقاد بخلود النفس، وكذلك قل في الكلدانيين والصينيين والهنود واليونانيين

والرومانيين والفرس والإسرائيليين والعرب.

هذا الاعتقاد فطري في البشر، ولذلك وجد في كل جيل من أجيالهم في كل

طور من أطوارهم فليس هو من استنباط الأفكار، ولا من التخيلات والتصورات

فتتحكم فيه الأنظار، نعم لما ولع الناس بالعلوم النظرية ابتلوا بالتشكيك في كل

شيء، حتى في الوجدانيات والمحسوسات، ومنهم من أنكر الروح، ولكن هذا

الإنكار لم يلتفت إليه إلا نفر قليل من المستعبدين لنظرياتهم؛ لأنهم يقربون من

السفسطائية الذين أنكروا كل شيء حتى أنفسهم وحتى إنكارهم، وقد وُجد - والحمد

لله - من النظار من رد على منكري الروح بنظريات موجبة أقوى من نظرياتهم

السالبة، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك؛ لأننا نخاطب في دروسنا قومًا لم

يبتلوا بإنكار أنفسهم وأرواحهم.

هذه مقدمة تمهيدية لبيان الحاجة إلى الوحي وإرسال الرسل، ولا بد منها في

إثبات كون الوحي هو الذي يبين طرق السعادة في الحياة الآخرة، وهذا هو جزء

الغرض وتمامه أن نبين أننا محتاجون إلى الوحي في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة

جميعًا؛ لأننا نعتقد أن في اتباع الدين سعادة الدارين كما بيناه في المسألة الأولى من

الدرس الأول.

م (54) الحاجة إلى الوحي في الدنيا

لا نزاع في أن الإنسان خُلق ليعيش مجتمعًا، أو كما يقول الحكماء:

(الإنسان مدني بالطبع) ، ولم يعط من الإلهام الفطري ما يغنيه عن التعلم

والتربية بل خلقه الله محتاجًا لكل شيء وعاجزًا عن كل شيء بنفسه، ولذلك

أعطاه خالقه استعدادًا غير محدود، وجعل رغائبه وأمانيه غير محدودة، ابتلاه

بشهوات تسوقه إلى تحصيل رغائبه، وأعطاه قوى يستعين بها على ذلك ويدافع بها

من ينازعه أو يصده عنه، ولا شك أن هذه الرغائب والشهوات تكون مثارات

للتنازع بين ذويها؛ إذ ليس في فطرة الإنسان ولا في طبيعة الأكوان ما يوقف كل

إنسان عند حد من حظوظه لا يتعداه، نعم إن نوع الإنسان يتربى بالعلم؛ ولكن هذه

التربية ما كانت كافية له في جيل من أجياله للوقوف عند حد يعيِّن لكل فرد من

أفراده حقوقه وواجباته على وجه ملزم له بالوقوف عنده إلا بالدين، وكل دين

تصلح به شؤون البشر فهو حق منبعه الوحي الإلهي، وإن كنا نجهل مبدأ كل دين

عُرف في التاريخ أنه أحدث إصلاحًا، وكيفية طروء التحريف والتغيير عليه

حتى صار إصلاحه مشوبًا بإفساد.

يبلغ البشر بالاستفادة من التربية الكونية بالتدريج الطويل مبلغًا عظيمًا، ثم

يكونون على ما أوتوه من علم وحكمة أبعد عن التهذيب والإصلاح، وهم في

نهايتهم من أهل الدين في بدايتهم، وأعظم عبرة أمامنا الأمم الأوربية؛ فإن العلوم

الكونية قد ارتقت عندهم ارتقاء لم يُعْرَف له مثل في تاريخ الإنسان وقد صلح بها

وبما بقي من آثار الدين عندهم حالهم الدنيوي؛ ولكنهم لا يقاربون في هذا الصلاح

ما كان عليه المسلمون في العصر الأول عندما كان صلاحهم بالدين وحده غير

مدعوم بالعلوم الكونية والتربية العالمية، هل بلغ ملك أوربي في العدل والرحمة

وسائر الفضائل مبلغ أحد الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل الإسلام وحوشًا ضارية

يفترس بعضها بعضًا، فرباهم الدين على الكبر تربية تعجز عنها العلوم الكونية

بدون تعليم الوحي الصحيح، وإن مخضها الدهر بضع قرون، انظر إلى فظائع

أبناء القرن العشرين في الصين، وراجع تاريخ أهل القرن الأول من المسلمين،

انظر كيف ساوى عمر بن الخطاب بين صهر الرسول عليه الصلاة والسلام وابن

عمه وبين رجل من آحاد اليهود، وكيف أن دول أوروبا لا ترضى بمساواة أحقر

صعلوك من بلادها لأعظم أمير شرقي في الحقوق، انظر كيف افتتحت تلك الشراذم

من المسلمين بلاد الروم والفرس والفراعنة فكان أهلها راضين بحكمهم مفضلين لهم

على قومهم وأبناء ملتهم؛ حتى ترك معظمهم لغته ودينه طائعًا مختارًا من غير دعاة

تناديهم ولا مدارس تربيهم، وكيف أن الأوربيين يدخلون البلاد فلا يرون من أهلها

إلا كراهة ومقتًا يتضاعف ويزداد بازدياد أيام حكمهم، مع أنه ما تسنى لهم دخول

أرض إلا بعدما جار أهلها عن صراط الدين واستهانوا بالعدل، انظر كيف كان

المسلمون في بداوتهم يدخلون البلاد، فيطهرونها من الأرجاس الظاهرة والباطنة،

وكيف أن الأوربيين ما دخلوا قرية إلا وأفسدوا أخلاق أهلها وآدابهم بالخمر والفحش

والميسر ولا سعة معنا في هذا الدرس لتمام المقابلة بين مدنية المسلمين في القرن

الأول ومدنية أوروبا في القرن العشرين، أو القرن الخامس من قرون ترقيها في

الحضارة - سنبسط الكلام عن المدنيتين في غير هذه الدروس من أجزاء المنار

الآتية إن شاء الله تعالى.

نعم إن المسلمين انحرفوا عن صراط سلفهم فأدبهم الله تعالى بسلب كثير مما كان

أعطاهم، ولذلك ذهب بهاء دينهم قبل أن تكمل مدنيتهم المادية، ونرجو أن يكون ما

حل بهم من العقوبة كافيًا لإنابتهم ورجوعهم إلى رشدهم، وعند ذلك إذا قالوا يسمع

لهم، وإذا افتخروا يشهد العالم بصدقهم في فخارهم فهم الآن حجة من لا دين له على

كل دين؛ لأن دينهم إذا لم يكن طريقًا لسعادة الدنيا فلا يمكن أن يكون سواه، وإن

قررت القوة خلاف ما قررناه.

للكلام تتمة

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) ضاق هذا العدد عن نشر تفسير القرآن لفضيلة مفتي الديار المصرية.

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رواية عربية

أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي فقال: بلغني أنه

كان رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بن مالك فَتَّاكًا شجاعًا قد أغار على أهل

حجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه

بتلاعب جحدر به ويأمره بالاجتهاد في طلبه، فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى

فتية من بني يربوع فجعل لهم جُعْلاً عظيمًا إن هم قتلوا جحدرًا، أو أتوا به أسيرًا،

فانطلقوا حتى إذا كانوا قريبًا منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به

فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرة شدوه كتافًا وقدموا به على العامل،

فوجه به معهم إلى الحجاج فلما أُدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا

جحدر بن مالك. قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان وجفاء

السلطان وكَلَب الزمان. قال: وما الذي بلغ منك فجرأ جنانك؟ قال: لو بلاني

الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان، وبهم الفرسان، ولوجدني من أنصح

رعيته، وذلك أني ما لقيت فارسًا قط إلا وكنت عليه في نفسي مقتدرًا. قال له

الحجاج: إنا قاذفون بك في حائر فيه أسد عاقر ضار فإن هو قتلك كفانا مؤنتك،

وإن أنت قتلته خلينا سبيلك. قال: أصلح الله الأمير عظمت المنة وقويت المحنة.

قال الحجاج: فإنا لسنا تاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد. فأمر الحجاج فغُلت

يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن، فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة:

تحمل عني شعرًا. وأنشأ يقول:

تأوَّبني فبت لها كنيعًا

هموم لا تفارقني حوان [1]

هي العوَّاد لا عوَّاد قومي

أطلن عيادتي في ذا المكان

إذا ما قلت قد أجلين عني

ثنى ريعانهن عليَّ ثان [2]

فإن مقر منزلهن قلبي

فقد أنفهنه فالقلب آن [3]

أليس الله يعلم أن قلبي

يحبك أيها البرق اليماني

وأهوى أعيد إليك طرفي

على عدواء من شغل وشان [4]

ألا قد هاجني فازددت شوقًا

بكاء حمامتين تجاوبان

تجاوبتا بلحن أعجمي

على غصنين من غَرَب وبان

فقلت لصاحبي وكنت أحذو

ببعض الطير ماذا تحذوان

فقالا الدار جامعة قريبًا

فقلت بل أنتما متمنيان

فكان البان إن بانت سليمى

وفي الغرب اغتراب غير دان

أليس الليل يجمع أم عمرو

وإيانا فذاك بنا تداني

بلى وترى الهلال كما أراه

ويعلوها النهار كما علاني

فما بين التفرق غير سبع

بقين من المحرم أو ثمان

فيا أخوي من جشم بن سعد

أقلا اللوم إن لم تنفعاني

إذا جاوزتما سعفات حجر

وأودية اليماني فانعياني

إلى قوم إذا سمعوا بنعيي

بكى شبانهم وبكى الغواني

وقولا جحدر أمسى رهينًا

يحاذر وقع مصقول يماني

يحاذر صولة الحجاج ظلمًا

وما الحجاج ظلامًا لجان

ألم ترني عددت أخا حروب

إذا لم أجن كنت مِجنّ جان

فإن أهلك قرب فتى سيبكي

على مهذب رخص البنان

ولم أك ما قضيت ذنوب نفسي

ولا حق المهند والسنان

قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسد ضار عاتٍ يجر

على عجل، فأرسل به فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به، فجعل في حائر [5]

وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر، فأُتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى

عنقه، وأُعطي سيفًا، والحجاج وجلساؤه في منظرة لهم فلما نظر جحدر إلى الأسد

أنشأ يقول:

ليث وليث في مجال ضنك

كلاهما ذو أنف ومحك

وشدة في نفسه وفتك

إن يكشف الله قناع الشك

فهو أحق منزل بترك

فلما نظره الأسد زأر زأرةً شديدةً، وتمطى، وأقبل نحوه، فلما صار منه

على قيد رمح وثب وثبةً شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط

ذباب السيف لهواته، فخرَّ الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على

ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبَّر الحجاج والناس جميعًا وأكرم

جحدرًا وأحسن جائزته. وأخرجه ابن بكار في الموفقيات بطوله من طريق آخر

عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، ولجحدر في الأسد قصيدة

بديعة نذكرها في جزء آخر.

_________

(1)

تأوبني: أتاني ليلاً، وكنيعًا: من كنع إذا خضع ولان، والحواني: فُسر بأنه من الحين بالفتح، وهو الهلاك فهو إذن مقلوب أصله حوائن جمع حائنة، وهي النازلة المهلكة.

(2)

ريعان كل شيء: أوله.

(3)

أنفهه: أتعبه وأعياه، والآني: المتناهي الحرارة.

(4)

العُدَواء بضم ففتح: المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه، وعدواء الشغل: موانعه.

(5)

الحائر: شبه حوض يجمع فيه ماء المطر.

ص: 13

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

بين يدينا الآن 14 مصنفًا من المطبوعات الحديثة بعضها من المؤلفات القديمة

وبعضها من الحديثة، ولم نوفق لمطالعتها فننتقدها؛ ولكننا ننوه بها في الجملة

مكتفين بتصفح بعض صفحاتها.

(إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق)

كتاب جليل وسفر كبير ألفه السيد أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني أحد

مجتهدي القرن الثامن الهجري، وقد طبعته شركة طبع الكتب العربية في مطبعة

الآداب والمؤيد بالإتقان والنظافة المعهودين في الكتب التي تطبعها، الكتاب في

أصول العقائد، وقد اقتصر فيه على ما نطق به الكتاب والسنة غالبًا، وترك الخوض

في النظريات الفلسفية التي زادوها في علم عقائد الدين؛ ولكنه توسع كغيره فيما

توسع فيه المتكلمون كمسألة خلق الأفعال، ومسألة الصفات، ونقل كثيرًا من كلام

النظار، والمزية الكبرى التي امتاز بها كتابه على كتب العقائد المتداولة أنه لم

يتعصب لمذهب مخصوص، ولم يخف اللائمة في تقرير ما يعتقده إن كان مخالفًا

لما عليه الناس؛ لأنه آثر الحق على الخلق، وهو أقرب إلى أهل الأثر منه إلى

أهل النظر، وعهدنا بأكثر المتكلمين التقصير في علم الرواية، ويمكننا أن نقول:

ينبغي لكل مشتغل بعلم الدين الاطلاع على هذا الكتاب.

***

(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)

يذكرنا التنويه بهذا الكتاب كل مصنف تطبعه هذه الشركة؛ فإنه كان نادر

الوجود، وهو من أجلّ الكتب الإسلامية ومؤلفه العلامة شمس الدين محمد بن قيم

الجوزية وهو يُطلب كسابقه من إدارة المؤيد، ومن جميع المكاتب بمصر.

***

(الحديقة الفكرية في إثبات الله بالبراهين الطبيعية)

كتاب ألفه ونشره بالطبع حديثًا صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي فريد

وجدي واسمه يدل على موضوعه، بحث فيه مباحث دينية عصرية على طريقته

الجديدة في هذه المباحث، وتكلم فيه عن الإنسان والإيمان، وعن الإيمان في دور

الفطرة، ودور الفلسفة، ودور العلم، وانتقل من هذا إلى شُبه ملاحدة الماديين

وإبطالها، ثم عقد فصلاً آخر في المادة وما وراءها، وبيان انتهاء دور الإلحاد،

وأطال في هذا الفصل الكلام في مسألة استحضار الأرواح، ثم تكلم عن الإيمان في

الدور الرابع وهو رجوع الإنسان إلى دور الفطرة الأولى، وبيان أن الإسلام هو

دين الفطرة وهذا خاتمة الكتاب، أما طبعه فحسبنا أن نقول: إنه في مطبعة الترقي،

وعلى أحسن ورق فيها، وثمنه ثمانية قروش، فنحث القراء على الاطلاع عليه،

ولا سيما أبناء المدارس النظامية الذين يدرسون العلوم العصرية، ولعلنا نوفق للعود

إلى الكلام فيه بعد تمام مطالعته.

***

(تاريخ آداب اللغة العربية)

لما علم الكاتب الأديب محمد بك دياب المفتش الثاني للغة العربية في نظارة

المعارف أن بعض علماء ألمانيا عنوا بالتأليف في تاريخ آداب لغتنا الشريفة هزته

الأريحية العربية إلى إجابة اقتراح صديق له في تأليف هذا الكتاب تاريخ آداب اللغة

وقد أصدر منه بالطبع جزآن، طُبع أولهما في مطبعة جريدة الإسلام، والآخر في

مطبعة الترقي المتقنة، وفي كل جزء منهما ما لا يستغنى عن الوقوف عليه من

الفوائد، كالكلام في نشأة اللغة وترقيها، وتاريخ الكتابة العربية والخط وتاريخ

المصنفات، وتاريخ الفنون والإنشاء فهذه الموضوعات تفتح للمشتغلين بهذا الفن

أبوابًا واسعة في البحث والتحرير.

ولا يسلم الكتاب من نقد، لا سيما في المباحث المبتكرة فقد فتحته لهذا

الغرض، فجاء أمامي الكلام على كتاب (أساس البلاغة) للزمخشري فرأيت

المصنف ذهب في الكلام عليه مذهب من يرى أنه معجم من معاجم اللغة فإنه قال:

(والكتاب ليس قاصرًا على إفادة اللغة، بل يرشد أيضًا إلى مناهج الإنشاء لكثرة ما

فيه من السجع والشواهد والأمثال) ، فجعل إفادة معاني الكلم هو الغرض الأول،

والإرشاد إلى مناهج الإنشاء أمرًا عرضيًّا وثانويًّا، ثم قال: (ولحسن ترتيبه يسهل

على الطالب الكشف منه على معاني الكلم؛ لكن ربما أبطأ به عن نوال (كذا)

المطلوب اقتصار المؤلف في الغالب على وضع الكلمات في التراكيب دون ذكر

معانيها صراحًا اعتمادًا على فهم المطالع، واستنباطه معنى الكلمة من الجملة، فلهذا

ربما يصح أن يقال: إنه كتاب مطالعة لا مراجعة، وههنا قارب الصواب، وهو أن

الكتاب إنما وضع لبيان التراكيب المختارة، والأساليب البليغة في جميع ضروب

القول ومناحيه، فهو كتاب دراسة ومطالعة حتمًا، وتدل خطبته على ذلك، فليرجع

إليها من شاء، وسننشر شيئًا من مختارات الكتاب في جزء آخر.

***

(أنيس الجليس)

هي - ولا أزيد القراء معرفة بها - المجلة النسائية العربية الوحيدة المعروفة

بحسن الاختيار للمواضيع الأدبية والتهذيبية الجديرة باطلاع السيدات عليها، وقد

دخلت في سنتها الرابعة، فنهنئ منشئتها الفاضلة البارعة ألكسندرة أفرينوه بنجاحها

ونرجو لمجلتها الغراء زيادة الاشتهار ودوام الانتشار.

_________

ص: 16

الكاتب: عبد العزيز محمد

الطريق القويم للتربية والتعليم [1]

(27)

من أراسم إلى هيلانة في 2 أغسطس سنة 185

أذكر أن رجلاً فاضلاً من أصدقائي كان قد وجد في نفسه انبعاثًا إلى التربية،

فأوجب عليها الاشتغال بها، ثم إنه انتُدِب لإدارة مدرسة كان غيره أنشأها، فألفى

نظام التأديب فيها بالغًا من الشدة غايتها؛ إذ رأى فيها أفرادًا من التلامذة يُخصون

بالعقوبة دون غيرهم، فيقضون ساعات الاستراحة في فنائها كل يوم جثيًّا أو قيمًا

في مواقف الجزاء، ولم يكن يعوزها شيء مما تشرف به من طرق العقاب

كالتكليف بمضاعف العمل والحبس والمنع من الخروج؛ لأنها كانت سائرة على

الأصول القديمة القويمة، فما لبث صديقي هذا أن أبطل كل ذلك النظام التعذيبي

دفعة واحدة لعلمه بأنه لا يرهب إلا الجبناء، ولا ينشأ عنه أثر للتهذيب في نفوس

المتعلمين، وقال للتلامذة: أنا أعلم من سيعاقبكم بعد الآن إن أنتم أسأتم؛ ذلك هو

وجدانكم الذي لا ينجو من سوط عذابه من أعفي من ضرب العصا.

كان شعار هذا المربي في تعليمه: (لا قلنسوة لعالم، ولا لحمار)[2] .

وكان التلامذة قبل وجوده في المدرسة لا يتسنى لهم أن يخطوا خطوة في

دهاليزها الطويلة وفي عرصاتها وقاعاتها الفسيحة إلا وهم مصطفون مثنى مثنى

تحت رعاية كبير لهم، كانوا يسمونه ضابط الرجالة تهكمًا به، ويكرهونه من

صميم أفئدتهم ولا يفترون عن مماحكته وابتلائه بضروب الحيل والخبث، فجمعهم

المعلم الجديد ليلقي عليهم نبأ عظيمًا، فقال لهم: اعلموا أنكم من الغد أحرار، لا

سيطرة لأحد عليكم، وأنه لن يرعاكم في سيركم وسيرتكم سوى عين الواجب الذي

تشعرون به. ولا أراني بعد هذا في حاجة إلى القول بأن كلاًّ منهم بمجرد سماعه

هذا التنبيه قد اعتبر طاعة النظام من أمس الأمور به وألزمها له.

وبينما كان في يوم من الأيام مجتازًا حديقة المدرسة بصر بتلميذ تسلق عريشة

كرم ممتد على جدار عتيق، يتدفق من فوقه ضوء الشمس، وأنشأ يأكل من قطوفه

أكلاً لمًّا، فتظاهر له بالغفلة عن فعله، ورجاه أن يلتمس له أمين المدرسة، فأتاه من

فوره يتبعه الغلام النهاب والريبة تدب إلى نفسه، فقال المدير للأمين: كيف يصح

أيها السيد أن لا يعطى هذا الغلام من الطعام كفايته؛ فإنه لم يكد يخرج من قاعة

المائدة حتى جاء إلى الكرم وطفق يجني قطوفه خلسة، فأرجو أن تأخذه الآن بنفسك

وترده إلى المطعم ليأكل ما يكفيه.

كان هذا المربي أقل الناس شبهًا بمديري المدارس، وكان من أجل ذلك

محبوبًا لتلامذته، فإني كثيرًا ما رثيت لحال معلم الأطفال الذي هو شهيد الشهداء

لمقتهم إياه مع إحسانه إليهم، وعلى كل حال لست أدري إن كنت مخطئًا في ذلك،

أو مصيبًا، وإني لا أخال الطفل كفورًا بنعمة معلميه؛ ولكنهم هم الذين أرادوا أن

يطعموه من باكورة العلم صابًا وعلقمًا، كيف لا وفي التعلم سعادة المتعلمين، وفي

التمرين والتدريب حياة لكل قوة من قوى الإنسان، ولا شيء إلا وهو يطلب الوجود

والظهور والنمو، وهكذا شأن التلميذ؛ وإنما القهر هو الذي يحيل فرحه إلى ترح،

ومرحه إلى خمود؛ فإنه يجيء إلى المدرسة وللحياة فيه دوي كدوي النحل، فيجد

مديرها عابس الوجه متمسكًا بالكتب، واثقًا بها ثقة الظالم الغاشم، فيا له من تنشيط

للأحداث وترغيب لهم في التعليم! !

الكتاب الذي ينبغي أن يتعلم منه الحدث هو صحيفة الموجودات، والمدارس

خلو منها.

إنك إذا دخلت غرفة من غرف المدارس لا تجدين فيها سوى مكاتب ملطخة

بالمداد، ومقاعد من الخشب غير مستوية القوائم، وجدرانًا أربعة عارية من الزينة

وسقفًا مرفوعًا على خُشب غليظة خشنة، يمتد بينها نسيج العناكب التي هي

عوامل الضجر المحزنة، فإذا نظرت خارج تلك الغرفة من نوافذها المفتوحة رأيت

الطيور مطلقة السراح مغردة في الجو كأنها تسخر من التلامذة؛ فإن الكون

الخارجي كله أصوات وأضواء وأشكال وألوان تدعو الطفل إلى التعلم بواسطة

مشاعره، وأما هذه الغرفة فلا شيء فيها يستلفت نظره، فقلما يوجد فيها صورة

وشيء من خرائط تقويم البلدان، وما عساه يوجد من الصور فدميم قبيح، ومن

الخرائط فهو يشبه خط قدماء المصريين في غموضه وتجرده من الرونق وقصوره

عن تمام البيان، فأقسم بالله على المتولين أمر التربية أن يدخلوا في هذه المقابر

التي أعدوها للأحداث نفحة من نفحات العالم الخارجي، وشعاعًا من أشعة الحياة.

كل أمة تُعنى بالتربية حق العناية ينبغي أن لا تخلو مدرسة من مدارسها من

نظارة معظمة (ميكروسكوب) لمضاعفة أجرام الأشياء التي لا تُرى بمجرد النظر

ومن مِرْقَب (تلسكوب) تسهل به رؤية أشكال أقرب الكواكب إلى الأرض، ومن

كرة جوفاء تمثل في باطنها أقسام الدنيا (جيوراما) ، ومن مَرْبى للحيوانات

والنباتات المائية، ومرآة للصور الماثلة (أستيريوسكوب) ، وبالجملة يجب أن

يوجد فيها جميع الأدوات اللازمة لتحصيل معنى الكون وآياته الكبرى في أذهان

الناشئين.

اعلمي أن اللفظ والخط طريقتان قاصرتان جدًّا عن إيصال العلوم إلى نفس

الحدث، وأن اللازم له إنما هو رؤية الأشياء، فلمربيه توجيه فكره ولو قبل تعليمه

القراءة إلى أمور كثيرة لا تخرج بحال عن متناوله وإدراكه، ورأيي فيما عليه

المربون الآن هو أنهم يفرطون في التعجيل بتعليمه بعضًا من فروع العلم كان حقها

التأجيل، وفي تأجيل بعض آخر كان أولى بالتعجيل، وكان يجب عليهم في اختيار

العلوم وترتيبها أن يرجعوا إلى درس القوانين التي يجري عليها الإنسان في نمو

جسمه ونفسه وعقله.

قولهم: (لما يجيء وقتي) ، كلمة تصدق على معظم قوى الإنسان في ساعة

ما من عمره، فالطفل يدرك من الأشياء أبعادها وعلاماتها الظاهرة؛ ولكن عقله في

غاية القصور عن الإحاطة بما بينها من الروابط، فهو أشد قصورًا عن النفوذ فيما

تجري عليه من القوانين، وعن تتبع سلسلة الأسباب التي نشأت عنها خصوصًا،

واليافع يتأثر بالقضايا الشعرية وترتاح نفسه إليها، ولا يميل إلى القضايا المنطقية

والأصول الحكمية، ومن حاول استمالته إليها فقد عبث؛ والسبب في هذا أن

ضروب الاستعداد المناسبة لهذه العلوم العقلية لما توجد فيه، أو أنه لم يوجد منها إلا

جراثيمها، فالإدراك لفظ عام يدخل في مفهومه عدة قوى متمايزة كل التمايز لا تنمو

إلا بالتدريج، ولكل منها طور كمون، ثم تظهر تابعة في ذلك لجملة من الحوادث

تتغير بتغير الأشخاص وما يحيط بهم؛ ولكنها على التحقيق محدودة بنواميس الكون

والزمان، فأفكارنا ووجداناتنا لها أعمار كأعمارنا.

الشيء الواحد يقتضي أن يتعلمه الإنسان عدة مرات ومن وجوه مختلفة، خذي

لك مثلاً: الطفل لا يرى في الوردة بادئ بدء إلا وردة، ثم إذا نمت فيه قوة الإدراك

قليلاً انتزع من شكلها ولونها ورائحتها مثالاً عقليًّا ممتازًا يعرف به الوردة كلما

وقعت في يده، وهو في هذا الطور من الحياة لا يهتم بمرتبتها التي عينها لها علماء

النبات في ترتيبهم، ولا بتركيبها ومعيشتها، فتلك طائفة من الشؤون والأفكار يجب

على مربيه الاحتراس التام من الخوض معه فيها إذا كان يعنيه أن لا يُضل مدركته

وكذلك الشأن في جميع الموجودات.

إذا أردت أن أعلم (أميل) علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) مثلاً، وهو

العلم الذي يعتبره العارفون أبا العلوم، فإني أنبهه أولاً إلى ما يوجد في الأحجار،

بل في حصا الطرق من أشكال المخلوقات العضوية المنطبعة عليها؛ فإن حبه

للاستطلاع وميله للاستئثار بالمعرفة مع مساعدة الفرص يعودانه في أقرب وقت

على تمييز أهم العلامات التي توجد في دفائن الأرض من بقايا تلك المخلوقات،

فجميع ذلك مناسب لسنه أو قريب منه، ثم بعد ذلك ببضع سنين أدعوه إلى أن

يقيس ما يكون قد جمعه من هذه النموذجات بعضه ببعض، وأن يرتبها على حسب

ما بينها من التشابه، وفي هذا الوقت دون غيره أتلطف في تسريب معنى أطوار

الأرض وعهودها إلى ذهنه، وأقص عليه تاريخها مستعينًا بتلك الحصا والحجارة،

فقد قال شكسبير: (إن في الحجارة لموعظة وذكرى)، وأنا أقول: إن فيها ما هو

أسمى من ذلك، فهي وحي يعلمنا كيف خلقت الأرض، ثم إذا بلغ إميل الثامنة

عشرة أو التاسعة عشرة من عمره؛ أي: صار في سن يؤهله لفهم كل ما أقوله له

حق الفهم استعنت بعلم طبقات الأرض على تعليمه حكمة التاريخ، فهو أمثل مقدمة

لها.

فيما كاشفتك به من أفكاري هذه غناء عن تعريفك أننا لا ينبغي لنا في تعليم

إميل أن نعول على شيء من المؤلفات الموجودة، فالوجيزة منها والصغيرة والكتب

المدرسية التي بين أيدي الأطفال جميعها وضعت لغير الوجهة التي نقصدها؛ فإنها

مختصرات علمية توهم واضعوها أنها تكون ملائمة لإدراك الأحداث بسهولة

عباراتها، وليس العيب ههنا في شكل الكتب، وإنما هو في أصل وضعها؛ فإن

أول شيء يتسنى للطفل إدراكه من نظام الكون هو ما يدركه منه الإنسان في أول

نشأته قبل تقدم العلوم وتقسيمها، فالمعلمون لا يفتؤون ينسون أن التعاريف والتقاسيم

والقوانين لم توجد إلا بعد التجارب، كما أن علوم اللغة متأخرة عنها في الوجود،

وكذلك علوم الدين. ويغيب عن أذهانهم أن علوم الإنسان لم تتكون ألبتة بالصورة

التي يتعلمها عليها الأحداث الآن؛ فإن الإنسان لم يصل إلى إيجاد طائفة من العلم

محدودة إلا بالانتقال من حادثة جزئية إلى أخرى، ومن سلسلة من الحوادث مرتبطة

بعضها ببعض إلى غيرها، وبعد أن وجدت له طائفة منها نشأ يستنبط لها القوانين

التي تضبطها، ثم تفرعت دوحة المعارف وتمايزت فروعها وانفصل كل علم عن

الآخر.

فالجري في تعليم الطفل على غير هذه الطريقة قلب لنظام عقل الإنسان،

فالمعلمون إنما يلقون عليه نتائج العلوم وخلاصاتها قبل أن تؤسس قوته الحاكمة

بمبادئها، وتدعم بمقدماتها، فترينهم ينحدرون مرة واحدة من الذروة التي رقى إليها

العلم في عصرنا بعمل الأجيال الماضية إلى ما هو فيه من حضيض الجهل، والذي

يستحسن أولئك المعلمون تسميته مبادئ العلوم إنما هو في حق الطفل من ثمرات

العقل المبالغ في تحضيرها، ومن نتائج ربط الأشياء بعضها ببعض.

أنا لا أجري على هذه الطريقة في تعليم (أميل) فإني أود قبل أن أعلمه

تاريخ الموجودات أن أعرفه بما في الكون، فأجعل له به أنسًا بأن أوجه نظره إلى

حوادث الحرارة والوضوء والكهرباء قبل تعليمه قوانين علم الطبيعة، وأعلمه شيئًا

من أوصاف أشكال الأجرام السماوية ومواقعها من قبة الفلك قبل الخوض معه في

علم الهيئة، بل إن قصدي إلى أن أشرح له في المستقبل ما أعلمه من نواميس

الكون أقل بكثير منه إلى إيقاظ وجدان الملاحظة فيه؛ فإن تعليم الطفل ليس بشيء

يذكر، وإنما الأمر الخطير هو أن يؤتى وسيلة التعلم بنفسه وتحرك فيه دواعي

الإقبال عليه، فدروسي لإميل كلها لا يكون فيها إلا ما كان له شأن في تنبيه عقله

وتقويته؛ لأنه مرجع جميع علومنا على اختلافها.

قد رأيت مما قدمته لك أنه قد قضي عليك أن تكوني (لأميل) كتابًا يأخذ عنه

علمه، فلا تستعيني بشيء من صغار الكتب وموجزاتها ومختصراتها، وعليك أن

تلتمسي له أبسط المعاني وأليقها بحالة إدراكه مع التدرج في ذلك بحسب ارتقائه في

الفهم، وأن تجعلي تعليمك مطابقًا لأحوال سنه اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب من كتاب ‌

(أميل القرن التاسع عشر)

.

(2)

القلنسوة في نظام التعليم الأوروبي شارة العلماء ينالها من أتم دراسته وأدى الامتحان فيها.

ص: 19

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

وأما الفصل الخامس ففي التربية والحجاب، وأهم مسائله:

1-

قوله: إن الحجاب جعل المرأة في حكم القاصر لا تستطيع أن تباشر عملاً

ما بنفسها، مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شؤونها المعاشية بكفاءة مساوية

لكفاءة الرجل، وإن ضرره الأعظم أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها.

2-

وإنه ينبغي أن تربى كتربية الرجل في جسمها وآدابها وعقلها.

3-

وقوله: (متى انتهت تربية البنت باتخاذ ما يلزم من الوسائل لتنمية قواها

الجسمية وملكاتها العقلية وبلغت الخامسة عشرة من عمرها، ينبغي أن تطلق لها

الحرية في مخالطة الرجال؛ لأن قهر الإنسان لهواه وجعله تحت سلطان العقل

يستدعي قوة عظيمة في الإرادة، ولا توجد هذه القوة في الإرادة بإقامة الحوائل

المادية بينه وبين النقائص، ولا بمجرد حشو ذهنه بالقواعد الأدبية؛ وإنما تتولد

بالتعرض لملاقاة الحوادث والتعود على مغالبتها والتغلب عليها، فمزاولة الأعمال

ومشاهدة الحوادث واختبار الأمور ومخالطة الناس والاحتكاك بهم والتجارب كل هذه

الأشياء هي منابع للعلم والآداب الصحيحة، بها ترتقي النفوس الكريمة حتى تبلغ

أعلى الدرجات، وأمامها تنهزم النفوس الضعيفة وتهبط إلى أسفل الدركات) اهـ.

4-

وذكر قول معترض حض على النظر إلى مدنيتنا القديمة التي ذكر من

أصولها احتجاب النساء، وقال: إنها نفس الكمال: والرد عليه بوجوب أخذ الأهبة

لمقاومة سلطة العادات الموروثة إذا خشينا أن تسلبنا إرادتنا واختيارنا، وذلك

بالالتفات إلى المدنية الإسلامية، ووزنها بميزان العقل والتدبر في أسباب ارتقاء

الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، واستخلاص قاعدة من ذلك يمكننا أن نقيم عليه

بناء ننتفع به اليوم، أو في ما يستقبل من الزمان.

ثم ذكر ظهور الإسلام في جزيرة العرب وفتوحاته، وأخذ العلوم والصنائع

ممن فتح المسلمون بلادهم، وما كان من النهضة العلمية، وقال بعد ذلك ما نصه:

(على هذين الأساسين شيدت المدنية الإسلامية الأساس الديني الذي كوَّن من القبائل

العربية أمة واحدة خاضعة لحاكم واحد ولشرع واحد، والأساس العلمي الذي ارتقت

به عقول الأمة الإسلامية وآدابها إلى الحد الذي كان في استطاعتها أن تصل إليه في

ذلك العهد) ، ثم ذكر أن قوة العلم كانت ضعيفة في ذلك العصر وأكثر أصوله ظنية

وأن الفقهاء تغلبوا على رجال العلم ورموهم بالكفر والزندقة حتى نفر الناس من

دراسة العلم، قال: (ثم غلوا في دينهم وشطوا في رأيهم حتى قالوا في العلوم

الدينية نفسها: إنها لا بد أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. فقرروا أن ما

وضعه بعض الفقهاء هو الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه، وكأنهم رأوا

من قواعد الدين أن تُسد أبواب فضل الله على أهله أجمعين) ، ثم عقب هذا بكلمة

جليلة ذكر بعدها ما كان من ارتقاء العلم في أوربا وهي: (هذا النزاع الذي قام بين

أهل الدين وأهل العلم، ولا أقول: بين الدين والعلم لم يكن خاصًّا بالأمم الإسلامية،

بل وقع كذلك عند الأمم الأوربية) ، ثم ذكر بعض الاكتشافات الحديثة في العلم،

وتغلب أهله على رجال الدين واستنتج من ذلك قوله:

(فإذا كان التمدن الإسلامي بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصول

العلوم كما بيناه، فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدن كان (نموذج الكمال البشري)

يهمنا أن لا نبخس أسلافنا حقهم، ولا ننقص من شأنهم؛ ولكن يهمنا مع ذلك أن

لا نغش أنفسنا بأن نتخيل أنهم وصلوا إلى غاية من الكمال ليس وراءها غاية، نحن

طلاب حقيقة إذا عثرنا عليها جهرنا بها مهما تألم القراء من سماعها، لذلك نرى من

الواجب علينا أن نقول: إنه يجب على كل مسلم أن يدرس التمدن الإسلامي ويقف

على ظواهره وخفاياه؛ لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ويجب

عليه أن يعجب به؛ لأنه عمل انتفعت به الإنسانية وكمَّلت به ما كان ناقصًا منها في

بعض أدوارها؛ ولكن كثيرًا من ظواهر هذا التمدن لا يمكن أن يدخل في نظام

معيشتنا الاجتماعية الحالية) اهـ.

وقد بيَّن السبب في عدم هذا الإمكان من جهة العلوم الكونية قبله، وبين بعد

سبب ذلك من جهة النظامات السياسية، وانتقد السلطة المطلقة التي جرى عليها

الخلفاء والملوك، وما كان فيها من الاستبداد الذي ساعد عليه عدم تحديد الفقهاء

للعقوبات، بل تركوا أنواع التعزير مفوضة للحاكم، ثم بيَّن أنه لم يكن عندهم شيء

من العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى إن ابن خلدون لم يذكر في كتابه،

- وهو الكتاب الوحيد الذي وضع عند المسلمين في الأصول الاجتماعية - كلمة

واحدة في العائلة، ثم بين أن الحالة العائلية كانت خالية من كل نظام، ثم بيَّن ذلك من

جهة الآداب، فذكر أن المسلمين لم يأتوا للعالم بأصول جديدة فيها، وأما عملهم بها

فذكر أن التاريخ يشهد على أن كل عصر لا يخلو من الطيب والرديء، وأشار إلى

أهم ما يُنتقد على المسلمين كتمزيق الدولة العربية بالمنازعات الداخلية، وكشرب

بعض الأمراء والعظماء الخمر جهرًا في مجالس الجواري والقيان وغير ذلك، ثم قرر

بعد ذلك الرد على من قال: إن المدنية الإسلامية كانت (نموذج الكمال البشري) ،

وإن المسلمين كانوا حائزين جميع أنواع (الكمالات الأخلاقية الصحيحة) ، وقرر أن

الحجاب إذا كان عادة من عاداتهم التي لم تكن كلها كاملة فلا ينافي ذلك أنه لا يليق في

عصرنا، ثم قال ما نصه بالحرف: (وغني عن البيان أننا عند كلامنا على المدنية

الإسلامية لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنائع

والآداب والعادات التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها، ذلك لأن

عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية، فهو على ما به من

قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثرًا مناسبًا لدرجة عقول وآداب الأمم التي

سبقت، ثم حتم بوجوب بناء مدنيتنا على العلوم العصرية التي بنى عليها الأوربيون

مدنيتهم) .

والمسألة (5) من مهمات هذا الفصل البحث في زعم الذين يعترفون بتقدم

الغربيين علينا في الصنائع وإنكار تقدمهم في الآداب، ولم يُبق الإسهاب في المسألة

الرابعة مجالاً لتلخيص شيء منها، وإنما أطلت في هذه لأنها أهم مسائل الكتاب في

الحقيقة؛ ولأن الناس يلغطون فيها قولاً وكتابة على غير بصيرة، بل يكذبون على

المؤلف ويتهمونه بأنه طعن بالدين الإسلامي نفسه، وقال: إنه غير كاف لمدنية

المسلمين في هذا العصر. ونحو ذلك مما يرمي به من لا قيمة للصدق ولا للدين في

نفوسهم، نعم إن كلامه في هذا الموضوع لا يسلم من استدراك وانتقاد سنبينه في

بقية مقالاتنا في مدنية العرب، وأما خاتمة الكتاب فسنكتب عنها شيئًا في الجزء

الآتي إن شاء الله تعالى.

رأي الناس في الكتاب

ورأينا فيه

قلنا في تقريظ كتاب (تحرير المرأة) ما أعدنا معناه في تقريظ المرأة الجديدة

من أننا لم نر في مكتوب العصر شيئًا أثَّر في مسلمي مصر مثل هذين الكتابين،

وكنا قد استبشرنا لهذا التأثر لدلالته على أن في الأمة ذماء ورمقًا من الحياة يهيج

إحساسها للنفور من الضار في اعتقادهم، وإن لم يرتق إلى العناية بالنافع في الأخذ

به؛ ولكن هذا الاستبشار غير صافٍ من الكدورة، ولا محل هنا لبيان السبب في

ذلك؛ إذ لا يفي به إلا مقالة أو مقالات في شعور الأمة ووجدانها وتأثيره في أعمالها.

قلنا في الجزء الماضي: إن من الناس من قرَّظ كتاب المرأة الجديدة، ومن

انتقده، ونذكر ههنا أن المنتقدين هم الأكثرون بحسب ما يظهر لنا من كتابتهم في

الجرائد ومحاوراتهم في الأندية والسمار، يقول هؤلاء المنتقدون: إن هذا الكتاب

وسابقه ما أُلفا إلا لإقناع المسلمين بأن يعطوا نساءهم الحرية المطلقة بمعاشرة من

يردن من الرجال، وأن يكن كنساء الإفرنج مكشوفات الوجوه والرؤوس يختلفن إلى

الملاهي والمراقص، ويذهبن في التهتك كل مذهب. هذا ما يلهج به الجماهير

يتلقفه بعضهم من بعض وأكثرهم لم يقرأ الكتاب، ومنهم من يزيد على ذلك مسألة

المدنية الإسلامية والمدنية الغربية، وقد ذكرنا طعنهم فيها آنفًا.

إن كان الكتابان أُلفا لهاتين الغايتين، أو اشتملا عليها، فنحن وجميع المسلمين

بل وجميع العقلاء نقول: إنهما باطلان جديران بالمقت والرفض؛ لأن ذلك يجر إلى

فتنة في الأرض وفساد كبير، ويكون به خيار نسائنا في التهتك والتبذل أبعد غورًا

من شر نساء الإفرنج؛ لأن لهؤلاء من التربية والعلم الذي لم يصلن إليه إلا بعد عدة

قرون ما ليس لنا شيء منه، ونحن لما نبتدئ بالتربية ابتداء؛ ولكن هل الكتابان

كما يقولون؟ الجواب ما قلناه في تقريظ كتاب تحرير المرأة في العام الماضي من

أن المؤلف غالى في بيان مضار التشديد والمبالغة في الحجاب، وبالغ جدًّا في

جعل نجاح المسلمين متوقفًا على إزالة الحجاب المعهود في الأذهان، والموجود أثره

في الأعيان، بحيث إن هذه المغالاة والمبالغة المصوغة في قالب الأسلوب الكتابي

المؤثر تذهب بوجدان القارئ إلى وجوب تمزيق هذا الحجاب؛ لأنه لم يحجب إلا

العلوم والفضائل عن نصف الأمة.

وقد رأينا من أفاضل المعتدلين في الإنكار على كتاب المرأة الجديدة من قال: إن

هذا هو الضرر الحقيقي من قراءة الكتاب، وقال: إنني كنت أقرأه فأشعر بوجداني قد

تغير واعتقادي بوجوب بقاء الحجاب قد تزلزل واضطرب، فأترك القراءة ليثوب إليّ

وجداني الأول، ويسكن اعتقادي فيه، ثم أعود إليها. فقلت له: ربما تكون هذه

المغالاة مقصودة للمؤلف؛ لأن الداعي إلى شيء ينبغي له لأجل إرجاع من يدعوهم

إلى الاعتدال الذي هو الحق أن يقف على الطرف المقابل لما هم فيه، فإن كانوا في

جانب التفريط يقف في جانب الإفراط؛لينتهي التجاذب بينه وبينهم إلى الوسط، ولو

وقف في الوسط وجذبهم وجذبوه يخرج كل منهما عنه، أو يبقى في محله ولا فائدة في

ذلك، ومن هنا يقول الناس: لا بد من شيء من الباطل لأجل الوصول إلى الحق.

وقد قال الإمام الغزالي: إن وعد القرآن ووعيده مبني على هذه القاعدة فمثل قوله

تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) إنما يعالج الذين غلبت عليهم خشية الله،

والخوف من عذابه، وأفرطوا فيها حتى كادوا يقنطون من رحمته تعالى، وأما

الذين غلب عليهم التهاون وأدى بهم الإفراط في الرجاء إلى الغرور وكادوا يأمنون مكر

الله وعذابه وتجرؤوا على المعاصي، فيجب أن يُعالجوا بمثل قوله تعالى:

{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا

بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) وإذا ذكروا تلك الآية ذُكِّروا بمثل قوله

تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82)

وهكذا يجب أن يكون المرشد كالطبيب يعطي كل مريض ما مست إليه حاجته ويناسب

حاله.

ثم إن من فوائد هذه المبالغة أن أثارت أفكار الناس للبحث، وكل الباحثين أو

جلهم موافق له على سوء حالة المرأة المصرية والمسلمة، ووجوب تربيتها وتعليمها،

وقد كان المانع الأكبر منهما عند الجماهير هو الحجاب؛ ولكنهم يخالفونه في توقف

التربية والتعليم في كمالهما على تخفيف الحجاب أو منعه، فإذا انتهت هذه المناقشات

بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، ويكون

الفضل الأكبر في ذلك لقاسم بك يعترف له بعض المنصفين الآن، ويحفظه التاريخ

إلى آخر الزمان.

استفتاء البابلي في المرأة الجديدة

من أعجب ما أحدثه كتاب (المرأة الجديدة) في نفوس الناس أن محمد أفندي

عبده البابلي كتب إلى فضيلة مفتي الديار المصرية كتابًا مفتوحًا وزَّعه على الناس

ونشره في الجرائد يسأل فيه: (هل رفع الحجاب عن المرأة وإطلاقها في سبيل

حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب المرأة الجديدة يسمح به الشرع الشريف

أم لا؟) ، ثم طبع استلفاتًا إلى هذا الكتاب المفتوح، ووزَّعه في الأزقة والشوارع،

وأرسله إلى الجرائد قبل أن يرسله إلى فضيلة المفتي المخاطب به، حتى إن الإستاذ

المفتي لم يعلم به إلا بعد أن أطلعته أنا عليه، ونحن نجيب هذا السائل المستلفت

فنقول:

(1)

إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود في مثله، ولم يفهم أحد من

العقلاء معنى توزيع السؤال مطبوعًا على الناس، لا سيما قبل إيصاله إلى المسؤول

بل أنا في شك من إرساله إليه قياسًا على الاستلفات الذي رآه عندي لأول مرة،

ولا يقال: إن الغرض الفائدة؛ لأن الفائدة إنما تكون في الجواب، وربما كان أكثر

الذين وُزِّع عليهم الكتاب المفتوح والاستلفات من خالي الذهن عن كتاب المرأة

الجديدة، فيظهر أن للسائل غرضًا غير الإفادة.

(2)

لا يخفى على السائل وغيره أن الاستفتاء عن كتاب يستلزم أن يقرأ

المفتي ذلك الكتاب كله، وذلك تكليف الشطط؛ لأن أصحاب الأعمال الكثيرة كمفتي

القطر المصري يجب أن يختصر في الأسئلة التي تلقى إليهم؛ لأن كثرة أعمالهم لا

تسمح لهم بقراءة الأسئلة المطولة والجواب عنها الذي يستدعي التفصيل والتطويل

غالبًا، وإننا نعلم أن الأسئلة التي ترفع إلى شيخ الإسلام في دار الخلافة لا يكتفون

فيها بالاختصار حتى يذكرون الجواب، ويسألون عنه، فيكتب شيخ الإسلام كلمة

(أولور) إذا كان الجواب بالإيجاب، وكلمة (أولماز) إذا كان سلبًا.

والسائل يعلم أن مفتي الديار المصرية هو رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية

التي هي أعظم جمعية للمسلمين في البلاد العربية كلها، وهو أيضًا عضو عامل في

مجلس شورى القوانين، ومجلس الأوقاف الأعلى، وله أعمال أخرى في نظارة

الحقانية، وهو شيخ رواق الحنفية الذي هو أعظم رواق في الأزهر وناظر على

أوقاف كبيرة، وعضو في مجلس إدارة الأزهر، ويؤلف ويقرأ في الأزهر درسًا في

علم البلاغة، ودرسًا في تفسير القرآن الشريف، ولا يخفى ما يستلزمه هذا الدرس

من المطالعة والمراجعة، ويعلم أنه من الدقة في أعماله بحيث إذا رُفع إليه استفتاء من

المحاكم عن قتل جانٍ، يقرأ جميع أوراق القضية، وإن كانت تعد بالمئات، ويعلم

أيضًا أنه مقصود من الناس بقضاء المصالح، فلا يخلو يوم من عدة أشخاص يطلبون

منه قضاء مصالحهم، فهل مثل هذا يستفتى عن كتاب، ويكلَّف بقراءته ليبين رأيه

فيه؟ كلا، إنه يجب على شيخ الجامع الأزهر أن يؤلف بمعرفة المفتي ومساعدته

لجنة من العلماء لانتقاد الكتب التي تنشر بين المسلمين، يكون أفرادها من البارعين

في جميع الفنون، بحيث ينتقد كل صنف ما هو عالم به، ثم ينشر ذلك في الجرائد؛

فإن في الكتب المنسوبة للمتقدمين ما ينشر، وفيه من الإفساد في الدين والدنيا فوق ما

يتصوره كل منتقد على كتاب المرأة الجديدة.

(3)

إن الفتوى في الكتاب لا يمكن أن يفهمها أحد إلا إذا اطلع على السؤال،

والسؤال يدخل فيه الكتاب كله، فيحتاج كل من اطلع على الفتوى أن يقرأ الكتاب

أولاً، فإذا كان ضارًّا تكون الفتوى سببًا في إذاعة الضرر.

(4)

إذا أفتى مفتي الديار المصرية في الكتاب، فلا شك أن فتواه تكون

بمقتضى مذهب الحنفية الذي عينته الحكومة ليفتي به، فإذا لم توافق فتواه غرض

صاحب الكتاب يمكنه أن يقول كما قال في كتابيه: إن إصلاح شؤون المسلمين يتوقف

على عدم التقيد بقول إمام واحد، بل يجب أن ينظر في المصلحة وتطبق على قول

أي إمام، ولا يخفى أنه نقل عن بعض الأئمة في تحرير المرأة جواز كشف الوجه

والكفين، وجواز معاملة الرجال في غير خلوة، وهذا كل ما يطلبه من إبطال

الحجاب.

كل هذا يدلنا على أن السائل أخطأ في السؤال، وأنه لا يلقى جوابًا.

_________

ص: 26

الكاتب: محمد رشيد رضا

قسم‌

‌ الأحاديث الموضوعة

الموضوعات في العلماء والزهاد

ذكرنا في الجزأين 27 و 28 من السنة الماضية بعض الأحاديث الموضوعة

في تعظيم العلماء وإطرائهم، وبقي علينا بقية منها، وأن نذكر الأحاديث

الموضوعة في انتقادهم على عدم العمل، وانتقاد العباد بغير علم، وأكثر

الموضوعات في الإطراء وضعها علماء السوء لتعظيم أنفسهم على المتصوفة الذين

تخصهم العامة بالتعظيم والإكرام واعتقاد الولاية، وأكثر تلك الأحاديث الانتقادية

وضعها مدعو الإصلاح والولاية للحط من شأن العلماء الذين يظهر من عملهم أنهم

لا يريدون بعلمهم إلا المال والجاه، وهكذا كانت المحاسدة بين الفريقين إلا من

عصم ربك من المخلصين؛ ولكن الانتصار كان للعلماء إلا في الأزمنة التي ساد

فيها الجهل، وصار الأمراء كالعامة في اعتقاد جهلة مدعي الولاية أوالمتظاهرين

بالصلاح، وآل الأمر إلى مشاركة العلماء لهم في هذا الاعتقاد والتظاهر به؛ لئلا

يتهموا وتنحرف عنهم العامة، فيفوتهم الانتفاع منها، ولا تنس استثناء المخلصين،

وقليل ما هم.

فمن هذه الموضوعات حديث: (يكون في آخر الزمان علماء يُرَغِّبون الناس

في الآخرة ولا يرغبون، ويُزَهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينبسطون عند

الكبراء، وينقبضون عند الفقراء، وينهون عن غشيان الأمراء (أي: زيارتهم

والتردد عليهم) ولا ينتهون، أولئك الجبارون عند الرحمن) وفي إسناده نوح بن

أبي مريم أحد المشهورين بالكذب، ولا يغرنك كون مضمونه واقعًا الآن، فتستدل

به على صحته؛ فإنهم ما وضعوه إلا لواقع متحقق، وما كل صحيح المعنى يصح

رواية.

ومنها حديث: (يأتي على أمتي زمان يحسد الفقهاء بعضهم بعضًا، ويغار

بعضهم على بعض كتغاير التيوس) ، في إسناده متهم بالوضع، وإن صح معناه.

ومنها حديث: (من فتنة العَالِم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع) ، وهو

موضوع.

ومنها حديث: (هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشرار الشرار شرار

العلماء، وخيار الخيار خيار العلماء) ، لم يوجد وإن صح معناه.

ومنها حديث: (لا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض)، قالوا: إسناده

لا يصح.

ومنها حديث: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة

الأوثان) ، وهو موضوع، وقال ابن حبان: باطل. وفي إسناده من يتهم بالوضع،

وذكر له في اللآلئ المصنوعة طرقًا لا يصح منها شيء.

ومنها حديث: (المتعبد بغير فقه كالحمار في الطاحونة، ما اتخذ الله من ولي

جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه) ، قال ابن حجر: ليس بثابت. قلت: كانوا يحتجون به

على الجهال الأميين الذين يدَّعون الولاية، ويصدقهم العوام لتظاهرهم بالصلاح،

وما كان هؤلاء ينتهون عن دعواهم؛ لأن لهم من العامة قوة يغلبون بها الحق على

قاعدة بسمارك، وقد أنكر بالحديث أحد العلماء على أحد أدعياء الأولياء الجهلاء،

وكان لم يره، وبلغ الولي ذلك، فاتفق أن اجتمعا في مجلس مصادفة، فابتدر الولي

العالم بقوله: (اتخذني وعلمني) ، فعدها له الناس مكاشفة وزادوا به اعتقادًا؛ لأن

كرامة وهمية كهذه تهدم ألف قاعدة من قواعد العلم والدين، وهذا العلم الذي يسميه

الصوفية (اللدني) لا يتناول علوم الرواية والأحكام كالحديث والفقه واللغة كما بينه

الفقيه ابن حجر في الفتاوى الحديثية؛ ولذلك تجد أكابر الصوفية الصادقين يحتجون

بالأحاديث الموضوعة؛ إذ لم يكونوا من المحدثين؛ ولكن أين من يعقل ويفهم؟

ومنها حديث: (أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في

الدنيا فلم يطلبه، ورجل علم علمًا، فانتفع به من سمعه منه دونه) ، قال ابن

عساكر منكر.

ومنها حديث: (من نصح جاهلاً عاداه)، قالوا: لم يرد مرفوعًا، أي لم

ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كلام بعض السلف، أقول: إذا

أراد قائله بالجاهل الأحمقَ السفيهَ فله وجه، وأما إذا أراد غير العالم فهو خطأ

وضلال يقتضي ترك التعليم والنصيحة، وفي ذلك محو الدين بالمرة.

ومنها حديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا معشر العلماء إني لم أضع

علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم، قوموا فإني قد غفرت لكم) ، رواه ابن عدي عن واثلة

ابن الأسقع مرفوعًا، وقال: هذا منكر، لم يتابع عثمان بن عبد الرحمن القرشي عليه

الثقات. وله إسناد آخر عند ابن عدي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا، وقال: في

إسناده طلحة بن يزيد متروك، وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل.

ومنها حديث: (إن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي

فيه بين المشرق والمغرب، كما يضيء الكوكب الدري) ، رواه أبو نعيم والخطيب،

قال في الميزان: هذا خبر باطل.

ومنها حديث: (إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر،

فيأمر الله جبريل أن يأتيهم ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن

أصحاب الحديث، فيقول الله تعالى: ادخلوا الجنة على ما كان منكم طالما كنتم

تصلون على نبيي في دار الدنيا) ، قال الخطيب: موضوع، والحمل فيه على الرقي

يعني محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي، وقد ذكره الذهبي في الميزان، وقال: إنه

وضع هذا الحديث. أقول: حيَّا الله تعالى علماء الحديث.

ومنها حديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا

عالمًا) ، رواه ابن عبد البر وضعَّفه؛ ولكن قال صاحب الذيل: هو من أباطيل

إسحق الملطي. وقال في المقاصد: طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة

قادحة. وقال البيهقي: هو متن مشهور وليس له إسناد صحيح. أقول: وسبب

شهرته عناية العلماء بحفظ الأربعينات رجاء أن يكون ثابتًا في الواقع وإن لم يصح

سنده.

وقد ورد في العلماء والعباد أحاديث أخرى تكلم فيها بعض، واحتج بها

آخرون، منها حديث: (شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين

يأتون العلماء) ، روى ابن ماجه شطره الأول بسند ضعيف. وروي بلفظ (العلماء

أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل

فاحذروهم واعتزلوهم) ، قيل: هو موضوع وفي إسناده مجهول ومتروك. وتعقب

ذلك.

وما زال العلماء العاملون والصوفية المخلصون يحتجون بهذا الحديث، وما

ورد في معناه؛ لأنه مؤيد بسيرة السلف الصالح، وكانوا يتهمون كل عالم يغشى

مجالس الأمراء والسلاطين إلا إذا كان بمقدار ما يؤدي النصيحة الواجبة ولم يأخذ

من عطاياهم شيئًا، وإحياء علوم الدين طافح بآثار السلف في ذلك، وقد انقلب

الأمر الآن؛ فإننا نرى من الناس من يستدل على حسن حال المنتسبين إلى العلم

والصلاح بالقرب من الملوك والأمراء، وربما يعدون من كراماتهم ما يمنحونه من

الحلي والحلل الذهبية والفضية التي تسمى النياشين وكسوة الرتبة والتشريف، فلا

حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومنها حديث: (أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) ، رواه أحمد والطبراني،

والقراء: العلماء، والله أعلم.

_________

ص: 35

الكاتب: حافظ إبراهيم

‌انتقاد الأخلاق والعادات

لمعري العصر في فلسفة الشعر محمد أفندي حافظ إبراهيم

لحاظك والأيام جيش أحاربه

فهذي مواضيه وهذي كتائبه

وهمين ضاق القلب والصدر عنهما

غرام أعانيه وعيش أغالبه

وليل كمطل القوم كابدت طوله

وأيقنت أني لا محالة صاحبه

كأن دياجيه صحيفة ملحد

تخط بها أعماله ومثالبه

قريت به جيش الصبابة والأسى

وأنزلته صدرًا تداعت جوانبه

وعلمت نفسي كظم غيظي ولم أبح

بما فعلت بين الضلوع قواضبه

تماسكت حتى لو رأى القوم حالتي

رأوا رجلاً هانت عليه مصائبه

رجائي في قومي ضعيف كأنه

جنان وزير سودته مناصبه

ودائي كداء الدين عز دواؤه

وحظي كحظ الشرق نحس كواكبه

فياليت لي وجدان قومي فأرتضي

حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه

ينامون تحت الضيم والأرض رحبة

لمن بات يأبى جانب الذل جانبه

يضيق على السوري رحب بلاده

فيركب للأهوال ما هو راكبه

فما هي إلا أن تجشمه النوى

وما هو إلا أن تشد ركائبه

ويحرج بالرومي مذهب رزقه

فتفرج في عرض البلاد مذاهبه

أقاسم إن القوم ماتت قلوبهم

ولم يفقهوا في السِفْر ما أنت كاتبه

إلى اليوم لم يُرفع حجاب ضلالهم

فمن ذا تناديه ومن ذا تعاتبه

فلو أن شخصًا قام يدعو رجالهم

لوضع نقاب لاستقامت رغائبه

ولو خطرت في مصر حواء أمنا

يلوح محياها لنا ونراقبه

وفي يدها العذراء يسفر وجهها

تصافح منا من ترى وتخاطبه

وخلفهما موسى وعيسى وأحمد

وجيش من الأملاك ماجت مواكبه

وقالوا لنا رفع الحجاب محلل

لقلنا نعم حق ولكن نجانبه

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ثناء

قد حذت جريدة طرابلس حذو المنار بالكلام في الموضوعات، فاستحقت بذلك

الثناء.

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

ضاق هذا الجزء عن هذا الباب، وسنثبته في الجزء الآتي ويدخل فيه باقي

ترجمة ملكة الإنكليز وغير ذلك.

_________

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تصحيح

ذكرنا في الصفحة 862 من الجزء الماضي أن سعادتلو عبد الغني باشا العابد هو

شقيق صاحب العطوفة الشهير أحمد عزت بك العابد الكاتب الثاني لمولانا السلطان

الأعظم، وكان ذلك سبق قلم، والصواب أنه ابن عمه لا شقيقه.

_________

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌من الإدارة

من ينقصه شيء من أعداد سنة المنار الثالثة، أو فهرس المجلد الثاني، فليطلبه

يُرْسَل إليه، وأما فهرس المجلد الثالث فسيوزع مع الجزء الآتي إن شاء الله تعالى،

ونرجو من غيرة المشتركين الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك أن يتفضلوا بإرسالها،

ونخص بالذكر أهل تونس والجزائر ومراكش وجاوة والهند، ولهؤلاء الخيار في

إرسال القيمة حوالة على إدارة البوسطة، أو على أحد البنوك في القاهرة.

_________

ص: 40

الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى

‌الفضائل والرذائل [

1]

] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[2]

قالوا: للإنسان كمال مفروض عليه أن يسعى إليه. وقالوا: إنه عرضة لنقص

يجب عليه الترفع عنه. وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في

التلوث برذيلة من الرذائل. فما هي الفضائل؟ وما هي الرذائل؟

الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها

كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل؛

فإن من سجية كل منهما البذل في الحق والمنع إذا اقتضاها الحق، فكل يعرف حده

فيقف عنده، فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفَّاء لا

يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة

وفي طبيعته الإيثار بالرغائب، وهكذا إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب

من الصفات الفاضلة تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها

في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في

شخصين مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها،

ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة فيهما، وعلى هذا النحو يكون الأمر في

الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة

الاتحاد بين الآحاد تميل بكل منهما إلى الآخر، وتجذب الآخر إلى من يشاكله حتى

يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته

غاية واحدة.

مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع

الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله لا يتجاوزه بما يمس حقًّا للآخر، فبه

يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه

العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع وهو في

هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازًا عن

بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع حتى

يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد، والأفراد فيها كأعضاء تختلف

في الوظائف والأشكال؛ وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير

حظها من الوجود ليعود إليه نصيب من عملها الكلي، كما أودع الله في أعضاء

أبداننا وبنيتنا الشخصية، والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في

كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته كاليد بها البطش

والتناول وليس بها الإبصار، والعين بها الإبصار وتمييز الأشكال والألوان وليس

من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة وإن شئت قلت: الفضائل في عالم

الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام

الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحُفظت

النسبة بينه وبين الكواكب الأخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز

العليم؛ حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها، كذلك شأن الفضائل في

الاجتماع الإنساني بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود، ويثبت البقاء

النوعي إلى أن يأتي أمر الله.

أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارس والوازع، والجالب والدافع،

وجميع من يدبر أمورها، ويسوسها في شؤونها؛ إنما هم أفراد منها من هاماتها،

أو من لهازمها (من الأعلياء والأوساط بل وسائر الأطراف) ، ويكون كل واحد

منها قائمًا بحق الكل، ولا يختار مقصدًا يعاكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية

تميل به عن غاية الكل، ولا يهمل عملاً يتعلق بالأمة حتى يكون الجميع كالبنيان

المتين لا تزعزعه العواصف، ولا تدركه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة

قوة تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار فهي

الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق.

إن أمةً هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد،

فمثلهم في اختلاف الأعمال كمثل المتدابرين على محيط دائرة، يتفارقان في مبدأ

السير؛ ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مآخذهم لجلب منافعهم

كجاذبي طرف خيطة واحدة (حبل واحد) كل آخذ بطرف مع تعادل القوتين، ففي

جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر

فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك

الأفراد من هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم تكون كأنصاف دائرة مركزها

حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وأنهم في

جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه.

يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية، وتمتاز بالميل إليه عن

سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن نواله

إذا توافر للأمة حظها من هذه المزايا، فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة

أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن

فرد من أفرادها، فضلاً عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من

آلات عمله، وقطع سببًا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدًا من الآحاد، ولا

يزدري بعمله ويحسب الشخص من الأمة، وإن كان صغيرًا بمنزلة مسمار صغير

في آلة كبيرة لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه.

عليك أن تنظر في حقائق هذه الصفات الفاضلة لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر

الذي بيَّناه - التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام والعفة والسخاء

والقناعة والدماثة (لين الجانب) والوقار والتواضع وعظم الهمة والصبر والحلم

والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس) ، والنجدة والسماحة والصدق

والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد والعفو والرفق والمروءة والحمية

وحب العدالة والشفقة - أترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم، أو

غلبت في أفرادها يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام العام؟ هل يوجد مثار للخلاف

والتنافر بين عاقلين حُرين صادقين وفيَّين كريمين شجاعين رفيقين صابرين حليمين

متواضعين وَقُورين عفيفين رحيمين؟

أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتًا

لأحيتها، أو قفرًا لأنبتتها، أو جدبًا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله

عليها، ولا قامت لها من الوحدة سياجًا لا يُخرق وحرزًا منيعًا لا يُهتك، وإن أولى

الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: (إنما بعثت لأتمم مكارم

الأخلاق) ، الفضيلة حياة الأمم تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة وتحفظها

من الانحلال المؤدي إلى الزوال {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا

مُصْلِحُونَ} (هود: 117) .

أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس من طبيعتها التحليل والتفريق

بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) ، والبذاء (التطاول على الأعراض

بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام) ، والسفه والبله والطيش والتهور والجبن

والدناءة والجزع والحقد والحسد والكبرياء والعجب واللجاج والسخرية والغدر

والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان، ألقت

بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في

الوفاق؛ فإن طبيعة كل منهما، إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما

السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب لمن يشاركه في الجنسية أو الملية

أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل، والإنسان مجبول بالطبع على

النفرة ممن يتعدى على حقوقه، أو يمنعه حقًّا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين

سفيهين جبانين بخيلين (كل منهما يمنع الآخر حقه) شرهين حاقدين حاسدين

متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه) لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين،

هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته

قاضيًا بانتباذ كل من صاحبه، وإن لم تكن داعية؟ وكفى بخلقه وصفته باعثًا قويًّا

للتنابذ.

هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها، ونثرت أعضاءها، وبددتها

شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي أن تسطو على هذه الأمة

قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر؛ فإن حاجاتهم

في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، ولا بد من قوة خارجة

تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة، هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم

صار بأسهم بينهم شديدًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض

أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم ويفتخرون بالانتماء إليهم،

يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم،

ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحًا، وكل جليل منهم حقيرًا، إذا نطق أجنبي

بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم، ونفائس الحكم، وإذا غاص

أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق، وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه

من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف

ومن المحال أن يوجد بيننا خبير. ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب،

ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها، يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت

على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من

أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم وجمع كلمتهم،

ويقعدون له بكل سبيل يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار،

تراهم بتضارب أخلاقهم، وتعاكس أطوارهم، كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم

لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم،

فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه

الأخلاق يجعلهم منبعًا للشر، ومبعثًا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكَلِب أول

ما يبدأ بِعَضّ صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق أول ما يفتك بمربيه

ومهذبه، ثم يثني بطبيبه ومعالج دائه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من

نحو الجزام، والآكلة يمزقون الأمة قطعًا وجذاذات، بعدما يشوهون وجهها،

ويشوشون هيئتها، أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسايس؛ لتغلب النذالة

على سائر أوصافهم، فيتَنفَّجُون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلاً عن

عليتهم، وبهذا يمكِّنون الذلة في نفوسهم لمن دونهم، ويطبعونها على الخضوع

للغرباء، بل الأعداء الألداء من طبقة إلى طبقة، حتى تضمحل الأمة وتُنسخ هيئتها

وتفنى في أمة أو ملة أخرى سنة الله في تبدل الدول وفناء الأمم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ

إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) أعاذنا الله من هذه

العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من الصير إلى هذه النهاية.

بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتُمحَّص النفوس من الرذائل

حتى تستعد الجمعيات البشرية إلى الاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد، كل

مولود يولد على الفطرة، مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل

ينال كمال الفضيلة من آبائه وأسلافه؟ أنى يكون لهم حظ منها، وقد كانوا ناشئين

على مثل ما نشأ عليه وليدهم، يرشدنا رائد الحق إلى أن الاعتدال في أصول

الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل

بآثارها إنما يكون بالدين، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به، فيصيبوا حظًّا

وافرًا مما يرشدنا إليه، فيتمتعوا بحياة طيبة وعيشة مرضية، إلا إذا قام رؤساء

الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول

ودعوة الناس إلى العمل بها، وتنبيه الغافلين عن رعايتها، وتذكير الساهين عن

هديها، أما إذا أهمل خَدَمَة الدين وظائفهم، أو تهاونوا في تأدية أعمالها ضعف

اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية، وأظلمت البصائر

بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعاشية، ومال ميزان

الاختيار مع الهوى، فحشرت إلى الأنفس أوفاد الرذائل، فيحق على الناس كلمة

العذاب، ويحل بهم من الشقاء ما أشرنا إليه سابقًا.

هذه علل الخراب في كل أمة، ولقد ظهر أثرها في أمم لا تحصى عددًا من

بداية كون الإنسان إلى الآن، ولم يزل آثار بعضها يشهد على ما فتكت به الرذائل

بعدما بدَّلوا وغيّروا كما في طائفة (الدهيرومنك) من سكنة الأقطار الهندية

المعروفين عند الأوربيين بطائفة (ياريا) {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ

كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} (الروم: 42) فالدين هو السائق إلى السعادة في الدنيا

كما يسوق إليها في الآخرة.

تقلب قلب الدهر على بعض طوائف من المسلمين في أقطار مختلفة من

الأرض، وسلبهم تيجان عزهم، وألقاها على هامات قوم آخرين، واليوم ينازع

طوائف أخرى، ولا نخاله يتغلب عليهم، فكشف هذا عن نوع من الضعف، ولا

يكون ناشئًا إلا عن شيء من الإهمال في اتباع أوامر الشرع الإسلامي ونواهيه

بحكم قول الله في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد يكون ذلك وربما لا ينكر الآن أن كثيرًا من عامة المسلمين وإن

صحت عقائدهم من حيث ما تعلق به الاعتقاد، إلا أنهم لا ينهجون في بعض

أعمالهم منهاج الشريعة الغراء، وهذا مما يُحْدِث ضعفًا في الأمة بقدر الميل عن

جادة الاعتدال في الفضائل والأعمال {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) .

إلا أن المسلمين لم يزالوا على أصول الفضائل الموروثة عن أسلافهم، ولهم

حسن الإذعان لما جاء به شرعهم، وكتاب الله متلوّ على ألسنتهم وسنة نبيهم

يتناقلونها رواية ودراية وسير الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مرسومة على

صفحات نفوس الخاصة منهم، فليس ما طرأ على بعضهم من الغفلة عن متابعة

الشرع وما تسبب عنه من الضعف في القوة إلا عرضًا لا يبقى، وحالاً لا يدوم.

انظر نظرة إنصاف إلى ما أودعته آيات القرآن من غرر الفضائل وكرائم

الشيم، وإلى حرص المسلمين على احترام كتابهم وتبجيله، تجد من نفسك حكمًا باتًّا

بأن علماء الديانة الإسلامية لو نشطوا لأداء وظائفهم المفروضة عليهم بحكم وراثتهم

لصاحب الشرع والمحتومة على ذمتهم بأمر الله الموجه إلى الذين يعقلونه وهم هم

في قوله الحق: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وبالحض الإلهي المفهوم من

قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} (التوبة: 122)(المؤمنين) {طَائِفَةٌ

لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) ولو قاموا يعظون العامة بما ينطق به القرآن ويُذَكِّرونهم بما

كان عليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الناهجون على سنته من

الأخلاق المحمودة والأعمال المبرورة؛ لرأيت الأمة الإسلامية ناشطة من عقالها

متضافرة على إعادة مجدها وصيانة ولايتها العامة من الضعف، وبيضة دينها من

الصدع كل ذلك في أقرب وقت، ولن تكون إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.

ولا ريب أن الراسخين في العلم من أهل الدين الإسلامي يعلمون أن ما أصيب

به المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة إنما هو مما امتحنهم الله به جزاء على بعض

ما فرطوا، وليس للناس على الله حجة، فالرجاء في هممهم وغيرتهم الدينية

وحميتهم الملية أن يوجهوا العناية إلى رتق الفتق قبل اتساعه، ومداواة العلة قبل

استحكامها، فَيُذَكِّروا أبناء الملة بأحكام الله، ويحكموا بينهم روابط الأخوة والألفة

كما أمر الله في كتابه وعلى لسان نبيه، ويبذلوا الجهد لمحو اليأس والقنوط الذي

ملك أفئدة البعض منهم، ويقنعوهم بأنه لا ييأس من لطف إلا الذين في قلوبهم

مرض، وفي عقائدهم زيغ، ويسيروا بهم في سبيل يجمع كلمتهم ويوحد وجهتهم

ويقوي فيهم إباءة الضيم والنفرة من الذل، ويحرك فيهم روح الأنفة حتى لا تسمح

نفس أحدهم أن يأتي الدنية في دينه، ويكشفوا لهم حقيقة وعد الله ووعده الحق في

قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .

_________

(1)

مقالة من العروة الوثقى والعنوان لنا.

(2)

(الذاريات: 55) .

ص: 41

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورات بين المصلح والمقلد

أصل الجفر ومعناه، إضافته إلى الشيعة، إنكار نسبته لجعفر الصادق،

الرواية والمروي، الباطنية وعصمة آل البيت وعبادتهم، ادّعاء الحاكم الألوهية،

المتكلمون وردهم على المعتزلة دون الباطنية ونحوهم، سبب الجدل بين الفقهاء،

المنار والعلماء والأولياء، إسناد الجفر إلى سيدنا علي ورده، معنى الجفر

وموضوعه، ملحمة ابن عربي، التصوير والصور، صدق الجفر والملاحم وكذبها،

الجفر والأمراء والملوك، الزايرجة والرمل والمندل والبروج.

المحاورة الخامسة

الجفر والزايرجة

لما عاد الشيخ المقلد والشاب المصلح إلى المحاورة، والمضي في المباحثة

والمناظرة، بدأ الأول بإعادة الشكر والثناء على الثاني لإهدائه مقدمة ابن خلدون

وإظهار الاغتباط بها وقال:

المقلد: إنني نظرت في فهرس المقدمة قبل المطالعة فرأيت ذكر الجفر

والزايرجة، فكان هذان البحثان أول شيء قرأته في هذا الكتاب؛ ليكون لي منهما

مادة من جنس مادتك أناظرك بها، فأما الجفر فألفيت مؤلفها يميل إلى إنكاره،

ويذكر أن هارون بن سعيد العجلي رأس الزيدية - فرقة من الشيعة - هو الذي يروي

كتاب الجفر عن جعفر الصادق رضي الله عنه، وأنه كان مبينًا لما سيقع لأهل

البيت على العموم، ولبعض الأشخاص على الخصوص بحسب ما أعطاهم الكشف

الذي يقع لمثلهم من الأولياء، قال: وكان مكتوبًا عند جعفر في جلد ثور صغير،

فرواه عنه هارون العجلي وكتبه وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه؛ لأن الجفر

في اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم علمًا على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه

تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق، وبعد

هذا أنكر ابن خلدون صحة الرواية في ذلك مع أنه أثبت الكرامة لجعفر وآله عليهم

الرضوان، ولا إخال إلا أنك تبعت هذا الرجل في إنكار الجفر، وإن كان عدم

صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي في الواقع ونفس الأمر، وأما كلامه

في الزايرجة فلا أخفي عنك أنني لم أفهمه.

المصلح: إنني أود لو تطَّلع على كل ما اطَّلعت أنا عليه مما نتكلم فيه لما في

ذلك من الاقتصاد في زمن المناظرة، ومن سهولة الإقناع والاقتناع، ولا يختلجن

في نفسك أنني أقلد ابن خلدون أو غيره في شيء مما أقول؛ وإنما أطَّلِع على ما

نقله هو وغيره، وأعتقد ما يترجح عندي بعد النظر الطويل، وأما قولك: إن عدم

صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي فلعلك تريد به أن عدم العلم بصحتها لا

يقتضي أن المروي غير واقع لجواز وقوعه مع عدم تصدي الثقات لنقله وروايته؛

ولكن لا يسعك أن تنكر أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا

بالرواية الصحيحة، فإذا لم توجد لا يسمح لنا الدين ولا العقل أن نقول بثبوته، وإذا

أنكرناه بناء على أن الأصل عدمه لا نُعذل ولا نُلام فكيف إذا وجد من التهم ما يقتضي

الإنكار، وهو ما يقصه علينا التاريخ من سيرة فرق الشيعة المنتحلين لهذه البدع، لا

سيما في عهد العبيديين الذين روجوا مذهب الباطنية الذي زلزل دين الإسلام زلزالاً،

وخرج بمسلمي الشيعة من الاعتقاد بعصمة آل البيت وإلحاقهم في ذلك بالأنبياء إلى

عبادتهم والقول بألوهيتهم فإذا كان شاعر المعز يقول في مظلته:

أمديرها من حيث دار لشد ما

زاحمت تحت ركابه جبريلا

ويقول:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

فإن الحاكم لا يزال يُعبد إلى اليوم، وكل ما قرأته عليك في وصف الله تعالى

من رسالة دين الدروز في محاورتنا الماضية؛ فإنهم يريدون به الحاكم العبيدي،

وكذلك النصيرية يعبدونه، وهم أشد الناس عناية بتعرف علم الغيب من الجفر

والنجوم.

المقلد: إني لأعجب لعلمائنا من المتكلمين والفقهاء كيف يسكتون عن هؤلاء

الضالين المضلين، ولا يزال يرد الأولون على المعتزلة، وقد انقرضوا وانقرض

مذهبهم، ويرد الفقهاء بعضهم على بعض وكلهم من أهل السنة والجماعة.

المصلح: إن أكثر ما تراه من الجدل والرد والإنكار من العلماء بعضهم على

بعض ناشئ عن الأهواء؛ فإن المعتزلة هم السبب في وجود علم الكلام، خاضوا

في أمور لم يخض فيها السلف الصالح فانبرى آخرون لمناضلتهم، وبعد ذلك

تداعت دعائم العلم والنظر، ولما يبق للمقلد من المتأخرين إلا حكاية ألفاظ المتقدمين

وإن ذهبت فائدتها بذهاب وقتها، والاكتفاء بالسكوت عن البدع والضلالات التي

حدثت بعد أولئك الأئمة كالأشعري وأصحابه وتكفير من يسأل عنها وتضليله، إلا

أن تنشر وتُلوَّن بلون الدين، ويوجد لها أتباع وأنصار كبدع أهل الطريق، فحينئذ

يناضلون عنها بالتحريف والتأويل، ويعكسون الحكم فيرمون منكرها بالكفر أو

التضليل، كما هو مشاهد في كل جيل وقبيل، وأما الفقهاء فقد بيَّن حجة الإسلام

الغزالي في كتاب العلم من إحياء علوم الدين أن السبب في مجادلاتهم ومناضلاتهم

هو التزلف إلى الأمراء والخلفاء، والتزاحم على منصب القضاء، ولذلك تجد

الوطيس لم يحم إلا بين الحنفية والشافعية؛ لأن المناصب كانت محصورة فيهم،

على أن الحكم عليهم بالسكوت لا يصح على عمومه، فلا بد في كل عصر من فرد

أو أفراد ينصرون الحق ويخذلون الباطل؛ ولكن غلبة الجهل على الأمة تسوّل لها

الباطل وتزينه في نفوسها فتعمى عن الحق ولا تبصره، وقد نُشر في الجزء الثالث

من منار السنة الثالثة نبذة في حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم نقل فيها

عن الفقيه ابن حجر الهيتمي أن الاشتغال بالروحانيات هو الذي أضل الحاكم

العبيدي حتى ادَّعى الألوهية وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة، فأحب أن تقرأ تلك

النبذة.

المقلد: إن المنار جريدة ضارة تهين العلماء، وتنكر الأولياء، فلا أحب أن

أراها، بل أحمد الله أنني لم أطلع عليها قط.

المصلح: سبحان الله، كيف يصح لك وأنت من أهل علم الدين أن تحكم على

ما لم تر، والله يأمرك أن تتبين وتتثبت فيما يجيئك من الأنباء عن الفساق الذين

يغتابون الناس، ويسعون بينهم بالنميمة، لا توجد عندنا جريدة تُعلي من قدر

العلماء كالمنار؛ لأنها تجعل في أيديهم زمام الأمة، وتنيط بهم أمر إصلاحها،

وإرجاعها إلى مجدها الأول بإصلاح التربية والتعليم، ولا يذمه منهم إلا من يشعر

من نفسه بالقصور عن القيام بشيء من هذا الإصلاح، وأما الأولياء فالمنار لا

ينكرهم؛ وإنما ينهى عن إطرائهم والغلو فيهم بأن يُدْعَون مع الله تعالى، ويطلب

منهم ما لا يطلب إلا منه سبحانه، ولولا خشية الخروج عن موضوعنا لقرأت لك

بعض كلامه في ذلك.

المقلد: كنت أسمع أن الجفر مأخوذ عن سيدنا علي كرم الله وجهه، وينسبون

للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس سره جفرًا يسمونه الشجرة النعمانية،

ويقولون: إنه يحتوي على جميع الحوادث العظيمة إلى يوم القيامة.

المصلح: نعم إن من الناس من يزعم ما ذكرت كالجرجاني، وقال ابن طلحة:

الجفر والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي وهو يخطب على المنبر في

الكوفة؛ والآخر أسرَّ به إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتدوينه فكتبه علي

حروفًا متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر فاشتهر بين الناس؛ لأنه وجد فيه ما

جرى للأولين والآخرين. أقول: وكانوا يزعمون أن الجفر إخبار عن المغيبات

صريحة أو رموزًا، ولما أرادوا أن يجعلوه علمًا أدخلوه في علم الحرف والعدد الذي

هو بعد الروحانيات في المرتبة، واختلفوا في وضعه وتكسيره فمنهم من كسره

بالتكسير الصغير، وزعموا أنه جعفر الصادق، ومنهم من يضعه بالتكسير المتوسط

وهو الذي توضع به الأوفاق الحرفية، ومنهم من يضعه بطريق التركيب الحرفي

أو العددي، ومن الناس من خلط بين الجفر والتنجيم وسمى كل ما كتب في الملاحم

والحدثان جفرًا، وإن كان مبنيًّا على القرانات.

ومنهم من يعتقد أن الجفر لا يكون إلا عن كشف، وأن الرموز الحرفية والعددية

وغيرها لم يضعها الشيخ محيي الدين بن عربي في جفره، إلا لأجل الإبهام لكيلا يطلع

الناس على الغيب، فتفسد شؤونهم، وقد اطلعت أنا على الشجرة النعمانية، فإذا هي

رموز لا يُفهم منها شيء، وبالجملة لم يثبت أن لهذا الجفر أصلاً علميًّا يُرجع إليه في

معرفة الغيب، وإلا لارتقى وتسنى تحصيله لكل أحد، ولم يعط الله تعالى علم الغيب

لأحد إلا ما أخبر به بعض الأنبياء عليهم السلام من أحوال الآخرة والملائكة والجن مما

ثبت في الوحي فنصدق بالقطعي منه إيمانًا وتسليمًا، نعم لا ننكر أن في الناس محدَّثين

وملهمين يخبرون بشيء أن سيقع فيقع كما قالوا، لكن هذا نادر ومخصوص

بالجزئيات، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى

مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) .

المقلد: رأيت في مقدمة ابن خلدون أنه وقف على ملحمة منسوبة لابن

العربي الحاتمي الذي هو الشيخ الأكبر فيها أوفاق عددية، ورموز ملغوزة، وأشكال

حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة، وتماثيل من حيوانات غريبة، وقد أنكرها ابن

خلدون، وقال: الغالب إنها غير صحيحة؛ لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة

ولا غيرها، وكان الأولى أن ينكر نسبها للشيخ الأكبر لوجود الصور والتماثيل فيها؛

لأن التصوير حرام يجل عنه ولي من أكابر الأولياء.

المصلح: ربما يعتقد ابن عربي وابن خلدون أن الصور المحرمة هي ما لها

علاقة بالدين كصور الأنبياء والأولياء؛ لأنها ربما تُعَظَّم تعظيمًا دينيًّا، فتكون أوثانًا

تعبد عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فالنهي عن التصوير كالنهي عن بناء القبور

وتشريفها واتخاذ المساجد عليها، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين، فقد لعن النبي

صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بها، وأما الصور التي لا علاقة لها بالدين ولا

هي مظنة التعظيم فلا تدخل في علة النهي، أما قرأت في صحيح البخاري وغيره

حديث القرام (الستار) المصور الذي كان عند عائشة رضي الله عنها، وكيف أمر

النبي صلى الله عليه وسلم بهتكه؛ لأنه كان منصوبًا كالصور التي كانت تُعْبَد في

الكعبة وطمسها، ثم لما زالت صفة التعظيم باتخاذ القرام وسادة كان عليه السلام

يتكئ عليها مع بقاء الصور فيها.

المقلد: هذا تعليل مخالف لكلام الفقهاء، وأُجِلُّ الشيخ الأكبر عن القول به.

المصلح: أما علمت أن الشيخ الأكبر غير مقلد للفقهاء ولا لغيرهم، وأنه

صرح في فاتحة الفتوحات بأنه لا يتقيد بمذهب سني ولا معتزلي ولا غير ذلك،

وصرح بأن ليس كل ما يقوله المعتزلي باطلاً

إلخ، وعلم أن بعض الناس ينسبه

إلى مذهب ابن حزم الظاهري فأنكر ذلك وأنشد:

ويعزوني إلى قول ابن حزم

ولست أقول ما قال ابن حزم

المقلد: لقد صح من أخبار الجفر شيء كثير، وذلك كقول الشيخ الأكبر في

الشجرة النعمانية على ما يقولون: (إذا دخل س في ش ظهر قبر محيي الدين)

وقد كان كذلك؛ فإن السلطان سليمًا هو الذي أظهر قبر الشيخ عندما دخل الشام وبناه

وأجرى عليه الأوقاف.

المصلح: يوجد في هذه الجفور الرمزية وغير الرمزية أخبار تقع، وقد

رأيت في جفر منسوب إلى الإمام علي كرم الله وجهه (ويل للإسكندرية من

الأساطيل البحرية) ، وفي موضع آخر (ويل للقاهرة من العاهرة) ، وذلك أن من

يخبر بأشياء كثيرة من شأنها أن تقع لا بد أن يصدق بعضها، ولو كان الجفر حقًّا

لوقع كل ما أخبر به، وأما الرموز فمجال التضليل فيها واسع وميدانه فسيح؛ لأن

هذه الحروف تصدق على أشياء كثيرة وتنطبق عليها من غير أن تكون موضوعة

لها، ولم يوضع ذلك إلا لخداع الأمراء والملوك لابتزاز أموالهم وابتغاء الزلفى

عندهم، وما أراك إلا قد قرأت قصة الدانيالي في مقدمة ابن خلدون [1] ، وما ذكره

عن ملحمة الباجريقي الصوفي [2] ، وقد ذكرت لك من قبل أن كلمة تصدق تخدع

الجهلاء، فيظنون أن الكلام كله صحيح.

المقلد: نعم قرأت ذلك، وإني أخبرك بخبر من هذا القبيل جرى لصاحبي

الشيخ المصري العالم بالزايرجة والحرف؛ ولكنه من الأسرار التي لا أسمح لك أن

تذكرها عني، ذلك أن الأمير.. . تنازع هو وحرمه في أمر ذي بال لا ينبغي

التصريح به، وإنما يقال في الجملة: إنه ارتكب ما يوجب حدًّا شديدًا، فعاقبته عليه

بجناية ساءته وإن كانت خيرًا له، وأنكرت عليه أن العقوبة من قِبَلَها، فاستحضر

الشيخ ليكشف له الحقيقة بالزايرجة، فلما وقف على القصة بالإجمال والتمويه علم

أن المصلحة والمنفعة في تبرئة الحرم المصون مما يتهمها به الأمير، فزعم بعد

إعماله وحسابه أن الأمر جاء من طبيعته لا من قبلها وانصرف بمال كثير.

المصلح: انظر إلى أمراء المشرق وملوكه الذين تروج عندهم هذه

الخزعبلات كيف يزدادون تعاسة وشقاء عامًا بعد عام، فمستقبلهم دائمًا شر من

ماضيهم، وانظر إلى ملوك أوروبا الذين يستعدون للمستقبل بما تعطيهم العلوم

الصحيحة وسنن الكون كيف يزدادون قوة وعزة وارتقاء.

المقلد: هل الرمل من قبيل الزايرجة والجفر؟ فإني أراك درست هذه الأشياء.

المصلح: الزايرجة ضرب من أعمال الحساب وتكسير الحروف يُقصد به

معرفة الغيب، وعدَّه ابن خلدون من فروع السيمياء، والرمل من قبيل الزايرجة،

قال ابن خلدون: استنبطه قوم من عامة المنجمين وسموه خط الرمل نسبة إلى المادة

التي يضعون فيها عملهم، وفصل القول في محصول صناعتهم الباطلة، ولعلك

قرأته فهو صناعة، والغيب لا يمكن أن يعرف بصناعة، ومن آية بطلان هذا العمل

أنه لا يروج إلا في سوق الجهالة كما قال ابن خلدون في أهله وهو: (ولقد نجد في

المدن صنفًا من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه

فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه، فتغدو عليهم

وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم

في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل،

ويسمونه المنجم، وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب، ونظر في المرايا

والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في

الشريعة من ذم ذلك، وأن البشر محجوبون عن الغيب)

إلخ ما قرأت، وأنت

ترى أنهم زادوا في هذا الزمان أمورًا أخرى كالنظر في ورق اللعب، والنظر في

الكف، ومن ذلك كتاب البروج لأبي معشر وغيره يحسبون اسم الرجل واسم أمه

بالجُمَّل، ويسقطون من المجموع اثني عشر مرة بعد أخرى حتى لا يبقى إلا اثنا

عشر أو دونها، فينظرون في الباب الذي يوافق العدد الباقي، ويتعرفون منه تاريخ

ذلك الرجل في جميع شؤونه، وحسبك في فساد هذا أن المتفقين في اسم الأب والأم

تكون شؤونهم متحدة، وإننا لنشاهد فيهم السعيد والشقي والغني والفقير والمالك

والمملوك فحسبنا يا مولاي بحثًا في هذا الهذيان، ولنتكلم في الجد الذي هو أصل

موضوعنا، فقبل الشيخ منه ذلك، وانصرفا على موعد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

قال ابن خلدون: حكى المؤرخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيام المقتدر (الخليفة) وراق ذكي يعرف بالدانيالي يبل الأوراق، ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة، ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريده منهم من

الدنيا، وأنه وضع في بعض دفاتره م مكررة ثلاث مرات، وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر فقال له: هذا كناية عنك، وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما يرضاه ويناله من الدولة ونصب لذلك علامات يموه بها عليه، فبذل له ما أغناه به، ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً، فجاءه بأوراق مثلها، وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها، وأنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء، وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدنيا في أيامه، وأوقف مفلحًا على هذه الأوراق، وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النوع مما وقع، ومما لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأُعجب به مفلح ووقف عليه المقتدر، واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سببًا لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز اهـ.

(2)

وقال قبل ذلك: ووقفت بالمشرق أيضًا على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي، وكلها ألغاز بالحروف، وذكر منها أبيات منها بعد ذكر رجل يسمى الأعرج الكلبي يأتي من المشرق:

إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من الـ

ـزلزال ما زال حاء غير مقتطن

طاء وظاء وعين كلهم حبسوا هلكًا وينفق أموالاً بلا ثمن

ثم ساق حكاية الدانيالي وقال:

والظاهر أن هذا الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع، ولقد سألت عنها أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفًا بطرائقهم فقال: (كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية، وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف يومئ إلى رجال معينين عنده ويلغز عليهم بحروف بعينها في ضمنها لمن يراه منهم، وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها، فتنوقلت عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة وهو أمر ممتنع؛ إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف

قبله ويوضع له، وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه) ، فرأيت من كلام هذا الرجل الفاضل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 51

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خطبة أساس البلاغة

(خير منطوق به أمام كل كلام، وأفضل مصدَّر به كل كتاب، حمد الله

تعالى ومدحه بما تمدّح به نفسه في كتابه الكريم، وقرآنه المجيد، من صفاته

المجراة على اسمه لا على جهة الإيضاح والتفصلة، ولا على سبيل الإبانة والتفرقة؛

إذ ليس بالمشارك في اسمه المبارك {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ

وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) وإنما هي تماجيد لذاته المكونة

لجميع الذوات، لا استعانة ثم بالأسباب، ولا استظهار بالأدوات، وأولى ما قُفّي به

حمد الله الصلاة على النبي العربي المستل من سلالة عدنان، المفضل باللسان،

الذي استخزنه الله الفصاحة والبيان، وعلى عترته وصحابته مَدَارِهِ العرب وفحولها

وغرر بني معد وحجولها.

هذا - ولما أنزل الله كتابه مختصًّا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي

تقطعت عليها أعناق العتاق السبق، وَوَنَت عنها خُطا الجياد القرَّح، كان الموفق

من العلماء الأعلام أنصار ملة الإسلام، الذابّين عن بيضة الحنيفية البيضاء

المبرهنين على ما كان من العرب العرباء، حين تحدوا به من الأعراض عن

المعارضة بأسلات ألسنتهم، والفزع إلى المقارعة بأسنة أسلهم، من كانت مطامح

نظره، ومطارح فكره، الجهات التي توصل إلى تبين مراسم البلغاء، والعثور

على مناظم الفصحاء، والمخايرة بين متداولات ألفاظهم، ومتعاورات أقوالهم،

والمعايرة بين ما انتقوا منها وانتخلوا، وما انتفوا عنه فلم يتقبلوا، وما استركوا

واستنزلوا، وما استفصحوا واستجزلوا، والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه

الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم

احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حَظِيّ، وفهمه فيه جاحظيّ.

وإلى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير إليه محمود بن عمر الزمخشري عفا

الله عنه في تصنيف كتاب (أساس البلاغة) وهو كتاب لم تزل نعام القلوب إليه

زفافة، ورياح الآمال حوله هفافة، وعيون الأفاضل نحوه روامق، وألسنتهم بتمنيه

نواطق، فلبَّت له العربية وما فصح من لغاتها، وملح من بلاغاتها، وما سمع من

الأعراب في بواديها، ومن خطباء الحلل في نواديها، ومن قراضبة نجد في أكلائها

ومراتعها، ومن سماسرة تهامة في أسواقها ومجامعها، وما تراجزت به السقاة على

أفواه قُلُبها، وتساجعت به الرعاة على شفاه علَبها، وما تقارضته شعراء قيس

وتميم في ساعات المماتنة، وتزاملت به سفراء ثقيف وهذيل في أيام المفاتنة، وما

طولع في بطون الكتب ومتون الدفاتر من روائع ألفاظ مفتَّنة، وجوامع كلم في

أحشائها مجتنة.

ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى

تحت استعمالات المفلقين، أو ما جاز وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها من التراكيب

التي تملح وتحسن، ولا تنقبض عنها الألسن، لجريها رسلات على الأسلات،

ومرورها عذبات على العذبات، ومنها التوقيف، على مناهج التركيب والتأليف،

وتعريف مدارج التركيب والترصيف، بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددًا،

ومتناظمة لا طرائق قِدَدًا، مع الاستكثار من نوابغ الكلم الهادية إلى مراشد حر

المنطق، الدالة على ضالة المنطيق المفلق، ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب

الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة والكناية عن التصريح.

فمن حصل هذه الخصائص، وكان له حظ من الإعراب الذي هو ميزان

أوضاع العربية ومقياسها، ومعيار حكمة الواضع وقسطاسها، وأصاب ذروًا من

علم المعاني، وحظي برَسٍّ من علم البيان، وكانت له قبل ذلك كله قريحة صحيحة

وسليقة سليمة، فحُل نثره، وجزل شعره، ولم يطل عليه أن يناهز المقدمين،

ويخاطر المقرمين، وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولاً، وأسهله متناولاً،

يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير

أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا

بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه، والله سبحانه وتعالى

الموفق لإفادة أفاضل المسلمين، ولما يتصل برضا رب العالمين.

(المنار)

نشرنا هذه الخطبة لتكون هادية لطلاب البلاغة إلى منهاجها ومرشدة مريدي

الفصاحة إلى ينابيعها وأثباجها، ولم نفسر ألفاظها الغريبة، ونشرح مغازيها العجيبة

لنبعث همة التلامذة إلى المراجعة والمكاشفة، ونحملهم على المباحثة والمشارفة،

وننصح لهم أن يحفظوها، ثم يقلدوها ويحتذوها، فهكذا فليكتب الكاتبون، وهكذا

فليسمع الساجعون، وإلا فلا.

_________

ص: 61

الكاتب: جحدر

‌قصيدة جحدر في الأسد

ذكرنا في الجزء الماضي أن جحدرًا لما قتل الأسد أنشد قصيدةً، وهذه هي:

يا جمل إنك لو رأيت بسالتي

في يوم هيج مردف وعجاج [1]

وتقدمي لليث أرسف نحوه

عنى أكابره عن الإخراج [2]

جهم كأن جبينه لما بدا

طبق الرحا متفجر الأثباج [3]

يرنو بناظرتين يحسب فيهما

من ظن خالهما شعاع سراج

شَثن براثنه كأن نيوبه

زرق المعاول أو شباة زِجاج [4]

وكأنما خيطت عليه عباءة

برقاء أو خَلَق من الديباج [5]

قرنان محتضَران قد ربَّتهما

أم المنية غير ذات نتاج [6]

وعلمت أني إن أبيت نزالة

إني من الحجاج لست بناج

فمشيت أرفل في الحديد مكبلاً

بالموت نفسي عند ذاك أناجي

والناس منهم شامت وعصابة

عبراتهم لي بالحلوق شواجي

ففلقت هامته فخرّ كأنه

أطم تقوض مائل الأبراج [7]

ثم انثنيت وفي قميصي شاهد

مما جرى من شاخب الأوداج

أيقنت أني ذو حفاظ ماجد

من نسل أملاك ذوي أتواج [8]

فلئن قذفت إلى المنية عامدًا

إني لخيرك بعد ذاك لراج

علم النساء بأنني لا أنثني

إذ لا يثقن بغيرة الأزواج

_________

(1)

المردف: من أردف القوم إذا دهمهم.

(2)

الرسف والرسفان مشي المقيد.

(3)

الجهم: بالفتح الوجه الغليظ المجتمع في سماجة، ويقال: جهم ككتف وجهيم كأمير، وصاحبه أجهم ويوصف به الأسد، والثبج: مجرى الماء ووسط الشيء ومعظمه وأعلاه، ومن الحيوان ما بين الكاهل إلى الظهر ويختلف الاستعمال، يقال: ركب ثبج البحر أي معظمه، والجمع أثباج وثبوج.

(4)

الشثن: الغليظ، والمعاول جمع معول كمنبر: الفأس العظيمة ينقر بها الصخر، ووصفها بالزرقة كما يصفون النصل إذا كان صافيًا، والشباة: الحد، والزجاج بالكسر جمع زج، وهو بالضم: الحديدة في أسفل الرمح.

(5)

البرقاء: اللامعة، أو التي اجتمع فيها بياض وسواد أو صفرة، والخلق: العتيق.

(6)

يعني بالقرنين نفسه والأسد.

(7)

الأطم: بضمتين الحصن، والأبراج: هنا الأركان.

(8)

جملة أيقنت جواب (لو رأيت) في البيت الأول، والأملاك: الملوك، والأتواج، التيجان، والخطاب في البيت بعده للحجاج.

ص: 64

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المنار الأنور

واقتراح طلاب الأزهر

جاءنا من بعض المشتغلين بعلم الأدب في الجامع الأزهر تحت هذا العنوان ما

يأتي:

حضرة مولانا الأستاذ

إني إذا كتبت إليك فإنما أهدي لبحرك دُرَّه، ولغيثك قطره، وأقدم لك بعض

ما اقتبسته منك، فلو كنتُ خطيب إياد، أو ابن زياد، أو الكاتب الذي تعقد ذؤابة

قلمه بالسماك ونجمه، وتسير معانيه كالفلك الدوار بما فيه، وأتيت بما فات الأوائل،

ولم تستطعه الأواخر، لقلت: إن لساني في بيانك شحذته، وقلمي من بنانك أخذته،

على أنَّا قد آوينا منك إلى ركن شديد، وهيهات أن نستضيء بغير المنار أو نهتدي

بغير الرشيد.

وتالله إني لا أجد عبارة أصوّر بها ما في القلوب من إطلاعكم الحق مطالعه،

وإلزامكم الباطل مضاجعه، وتقدم المنار حتى دخل في السنة الرابعة؛ فإن التصوير

شيء ما ألفناه، والتعبير عن الوجدان مثال ما احتذيناه، ومنا من يخال أنه

كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه.

فإذا كان المنار قد حمل إلى الأقطار نفحة سارت بها الرياح، وطلع على أهلها

طلوع الصباح، فلينهج لأهل الأزهر منهاجًا في الأدب يسلكونه، وليضع لهم مثالاً في

الإصلاح يحتذونه، حتى يكون تصوير الشعور عندنا من الشعائر، ونقتدر على

وصف جليات الظواهر وخفيات الضمائر، فنكون من حملة الأقلام، وتؤدي بدايتنا

إلى الغاية المطلوبة والسلام.

...

...

...

...

محمد سعيد الرافعي

(المنار)

نشكر للكاتب الأديب حسن ظنه بنا، ولولا شغفنا باشتغال الأزهريين بالكتابة

والأدب، واغتباطنا بما نراه من نجابتهم لما خالفنا سنتنا بنشر هذا التقريظ.

أما المنهاج الذي أقترحه فأحيله وإخوانه المشتغلين بالأدب على قراءة خطبة

أساس البلاغة المنشورة في هذا الجزء، واتباع ما ترشد إليه، وأزيدهم الحث على

مطالعة كتاب الأغاني وكتاب نهج البلاغة والجزء الثالث من إحياء علوم الدين، إن

لم يطالعوا الكتاب كله، ثم العمل بكتابة المقالات في الموضوعات المختلفة

وتعريضها للانتقاد فمن لا يَنتقد ولا يُنتقد، ولا يناظر الفضلاء ويساجل الأدباء، لا

يسلم من الخطأ والخطل، ولا يتنبه لتجنب الزيغ والزلل، وإن شئت فقل: لا يكمل

له علم ولا عمل، وإننا نقترح عليهم أن يتناظروا في المواضيع الآتية:

1-

هل غاية طلب العلم تحصيل ملكة الفهم، أم تحصيل ملكة العلم؟

2-

فوائد قراءة الحواشي ومضارها.

3-

هل يُطلب من علماء الدين معرفة علوم الكون ولو إلمامًا أم لا؟

4-

هل يجب على علماء الكلام استبدال الرد على فلاسفة هذا العصر ومبتدعته

بالرد على قدماء الفلاسفة والمبتدعة الذين انقرضوا أم لا؟

5-

هل انتشر الدين الإسلامي بكونه حقًّا يلائم حال البشر أم بالقوة والسيف؟

6-

هل أفادت الجرائد البلاد العربية أم أضرت بها؟

7-

هل نفع الشرقيين دخول الأجانب بلاد الشرق أم أضر بها؟

فهذه سبعة مواضيع متى رأينا أقلامهم تجول فيها نقترح عليهم غيرها،

والمنار مستعد لنشر مناظراتهم بشرط الاختصار في النبذ، وإن تعددت في موضوع

واحد، والنزاهة التامة في التخاطب.

(س) من حضرة القانوني البارع صاحب الإمضاء بحروفه:

لا أرى ختم الكتابة بحرف أو حرفين من اسم صاحبها لا يُفهم أو لا يُفهمان،

ولا أرى لذلك معنًى عامًّا ذا شأن في كل الأحوال، فكثيرًا إن لم يكن في الأغلب

يختتم الكاتب كتابته بحرف أو حرفين من اسمه إن لم يبالغ في التستر والتخفي،

فلا يرمز حتى ولا بما يعرف بالنقطة.

لماذا؟ هذا لا يبغى ولا نريد أن تكون العلة عيبًا في الكتابة لوجه من الوجوه

التي ترمي إليها؛ فإن الكاتب لا يقصد لنفسه هذا العيب حتى يضطر إلى التخفي

عن معرفة الناس، أو لا يرضاه لنفسه فيعمل، وإن عمل فما أنا بالمعترض عليه هنا

لرمزه أو لعدم الرمز مطلقًا، وإنما لكتابته مع ذلك، وإنما الذي أعنيه بإنكاره إخفاء

نفسه مطلقًا صاحب الكتابة التي لا عيب فيها مطلقًا، بل التي هي مفيدة، وأوجه

الإفادة كثيرة، وهذا هو الأغلب في ما أراه من الكتابات ذات إخفاء الاسم كله، أو إلا

ما هو في حكم الكل.

هذا تعجب مني، لذلك طلبت إليَّ نفسي مني مرات إظهاره، وعلى لسان

مناركم الوضَّاح لأهتدي منه إلى الحقيقة، فلعلي مخطئ إلى أن أنفذت الإرادة هذه

المرَّة، وحسبكم اختياري لكم وما أنتم بأولي الحاجة وعليكم السلام في الأول، وفي

الختام، 23 فبراير سنة 1901

...

...

...

...

...

كتبه

...

...

...

...

... مراد فرج

...

...

...

...

... المحامي بمصر

جواب المنار

من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد كأساتذة المدارس وبعض

الموظفين، ومن الناس من لا يحب إظهار اسمه إذا كتب، إما ترفعًا؛ لأن الجرائد لم

تزل غير مقدورة قدرها عندنا، وإما خوفًا من الحكم على كلامه بما يعتقد الناس من

مشربه؛ لأن الأكثرين يعرفون حق القول وباطله بقائله لا بذاته، ويريد هؤلاء أن

يعودوا الناس على خلاف ذلك، ومن هؤلاء من يرمز إلى اسمه بالحروف أو يختار

لقبًا مصنوعًا يُعرف بهذا أو ذاك بين خاصته وتلك فائدة خاصة، وللرمز فوائد

أخرى عامة منها: عدم اشتباه الكاتبين الذين لا يصرحون بأسمائهم لا سيما إذا

تكررت الكتابة في موضوعات مختلفة، ومنها أن يميز الناس بين المقالات فيعرفوا

رأي صاحب هذا الرمز من رأي غيره ويعرفوا مقصده وغرضه، فيقبلون عليه أو

يعرضون عنه، واعتبر ذلك بمقالات (أسباب ونتائج) ، ومقالات (حكم ومواعظ)

التي نشرت في المؤيد من بضع سنين، فقد عُرف صاحبها بسداد الرأي حتى

اعتنى الفاضل محمد علي كامل صاحب دار الترقي وبجمعها وطبعها لتعم فائدتها،

وإن قيل: إن العناوين في مثل هذا كافية للتمييز ومعرفة وحدة المصدر أو تعدده.

فنقول: إن العناوين مباحة لكل أحد، ولا يكاد يتفق كاتبان على رمز واحد لاسمهما،

وإن الكاتب الواحد يكتب في مواضيع مختلفة لا يصح أن يلتزم لها عنوانًا واحدًا،

ومن الفائدة في الرمز سهولة التعريف عند إرادته، فإذا قلت لك: إن ما كان يكتب

في المؤيد منذ سنتين بإمضاء (م ر) هو لي، والمراد بالحرفين محمد رشيد أمكنك

أن تتذكرها إن كنت قرأتها، ولا يمكنني أن أعرفها بعناوينها.

_________

ص: 65

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(الحيوان والإنسان أو خاتمة رسائل إخوان الصفا)

هذه الرسائل مشهورة عند أهل العلم والاطلاع، فمنهم من يتنافس فيها لما

احتوت عليه من الفلسفة والتصوف وغرائب العلوم، ومنهم من يحظر النظر فيها

لذلك، وقلّ من يعرف مؤلفيها وهم على ما نُقل عن أبي حيان التوحيدي: زيد ابن

رفاعة، وأبو سليمان محمد بن مشعر البستي، وأبو حسن علي بن هارون الزنجاني،

وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي وآخرون، ومرادهم بتأليفها إلباس الفلسفة لباس

الدين؛ ليقبلها أو يقبل عليها منكروها من جماهير المسلمين، وأسلوبهم في كتابتها

غريب تلذ قراءته، وتستملح عبارته، وعذرهم في هذا الطريق الوعر، والمركب

الخشن، أنهم فُتنوا بفلسفة اليونان، ورأوا أنه لا بد منها للإنسان، ورأوا المسلمين

يناصبون المشتغلين بها ويناهضونهم، ويضللونهم ويكفرونهم، وحسبوا أن هذا

الملك لا يُعارض، وصاحبه ينهض ولا يُناهض، فخاب الأمل، وحبط العمل،

وكانوا عند تأليف رسائلهم بثوها في الوراقين، لتنتشر بسرعة في العالمين، وربما

كانوا في أنفسهم مخلصين؛ ولكن ما عتَّم أن عتمت، وبطنت عقيب أن ظهرت،

إلى أن أحيت الطباعة رفاتها، والأمور مرهونة بأوقاتها.

طُبعت الرسائل في الهند فراجت حتى لا تكاد توجد نسخها، وطُبع منها في

مصر الجزء الأول، ولم يتسن لطابعه إتمامها، وفي هذه الأيام تصدى النشيط

الفاضل، محمد علي أفندي كامل، لطبع الجزء الأخير الذي هو زبدة الرسائل

وخاتمتها في مطبعة دار الترقي المتقنة بشكل لطيف، على ورق نظيف.

وهذا الجزء يصف تداعي الحيوانات على الإنسان، لدى ملك الجان، وما

جرى بينهم من المحاورات، والمناظرات والمجادلات، ونتيجة ذلك حكم ملك الجان

بأن تكون أنواع الحيوان، في تصرف الإنسان، فنحث أهل العلم والفضل،

وذوي الذكاء والنبل، على الاطلاع على هذا الأسلوب الساحر، مما ترك الأول

للآخر، ولكن رأينا أن لا تُحتذى هذه الرسائل بمزج الفلسفة بالدين، فذلك مضيعة

للأمرين.

***

(تاريخ دولة آل سلجوق)

من إنشاء الشهير عماد الدين محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني، واختصره

الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني رحمهما الله تعالى، والكتاب كله سجع

مما يسمونه السهل الممتنع، والوقوف على تاريخ هذه الدولة الإسلامية العظيمة لا

يستغني عنه من يهمه الوقوف على شؤون المسلمين ومعرفة أحوالهم الاجتماعية،

وقد طُبع على نفقة شركة طبع الكتب العربية في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا

على ورق جيد وثمنه عشرة قروش أميرية.

***

(تتمة البيان في تاريخ الأفغان)

كان السيد جمال الدين الأفغاني الفيلسوف الإسلامي الشهير كتب رسائل سماها

(البيان في الإنكليز والأفغان) كان لها وقع شديد في البلاد الإنكليزية عندما نُشرت

في الجرائد المصرية التي أنشأها تلامذة السيد في مصر بإرشاده، وردَّت عليها

الجرائد الإنكليزية معظمة شأن السيد معجبة به، ولم يكن قد اشتهر اسمه في أوربا

فتصدى هو للرد عليها؛ حتى إن المستر غلادستون اضطر إلى الرد على السيد

بنفسه، ثم سأل السيد تلامذته أن يملي عليهم تاريخ الأفغان فأملى عليهم مقالات

نشرت في جريدة مصر التي كانت يصدرها في الإسكندرية فقيد الأدب والصحافة

أديب بك إسحاق، وسمى مجموعها تتمة البيان في الإنكليز والأفغان، وذكر فيها

محاربة الإنكليز للأفغان والاستيلاء على بلادهم، ثم إخراج الأفغان لهم منها بالقوة

وفيها ذكر أصل الأفغان وتاريخهم وعاداتهم وسائر شؤونهم، وقد عثر على هذا

التاريخ الأديب النشيط علي أفندي يوسف الكريدلي صاحب ومحرر جريدة العلم

العثماني، وطبعه في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا على ورق جيد وصدَّره برسم

أمير الأفغان الحالي الأمير عبد الرحمن وأهداه إياه، وفيه أيضًا رسم السيد جمال

الدين، وثمن النسخة منه خمسة قروش أميرية، ويباع في جميع المكاتب الشهيرة

في القاهرة.

***

(وردة)

أسطورة علمية تاريخية تمثل أخلاق المصريين وعاداتهم في عهد رمسيس

الثاني، وترسم للقارئ نظام حكومتهم وما وصلوا إليه من التقدم في العلوم والمعارف،

أبرزها من الآثار القديمة وأوراق البردي الدكتور جورج إيبرس الألماني، ونقلها إلى

العربية صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الغراء

ونابغي الناشئة المصرية في هذا العصر، وقد كان سبقه إلى تعريبها من حيث لا يعلم

الدكتور العالم الشهير يعقوب أفندي صروف محرر مجلة المقتطف، ولم يطبعها؛

لأنه لم يستأذن بطبعها من مؤلفها؛ ولكن محمد أفندي مسعود استأذن قبل أن يُعَرِّب،

وقد طُبع الجزء الأول منها وهو يزيد على ثلاثمائة صفحة بالحرف الصغير، وتُطلب

من مُعَرِّبها في إدارة المؤيد بمصر، فنحث جميع القراء على مطالعتها.

***

(تنبيه مهم جدًّا)

لدينا مقالة لفضيلة مفتي الديار المصرية في أعظم شبهة على الدين في كتب

المسلمين، وهي مسألة الغرانيق، وتفسير الآية التي استدل بها عليها، وستنشر في

باب التفسير من الجزء الآتي.

_________

ص: 69

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مهاجر أزهري

من أيام جاء إلى محل الإفتاء في الجامع الأزهر رجل إنكليزي اسمه المستر

هستنج، وطلب مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار

المصرية، وعند مقابلته ابتدره بقوله: جئت ثلاث مرات لمقابلة حضرتكم فلم

أجدكم هنا وهذه الرابعة، والغرض أن أعرض لكم أن لي أملاكًا في جهة ممباسة

في أفريقة سكانها مسلمون؛ لكنهم لا يعرفون من دينهم إلا قليلاً، ولما علموا

برحلتي هذه إلى مصر طلبوا مني قبل السفر أن أحضر لهم عالمًا دينيًّا يعلمهم أحكام

دينهم، قال: ويمكنني أن أساعد من يسافر معي لهذه الغاية بأن أنقله على نفقتي من

ساحل زنجبار إلى المحل الذي نقصده، وأتكفل هناك بنفقة أكله وأعطيه بيتًا يسكنه،

وعليه أن ينفق على نفسه من هنا إلى ساحل زنجبار، ولا بد له هناك من الإقامة

زمنًا يتعلم فيه لغة القوم ليتمكن من إرشادهم. فعهد إليه فضيلة المفتي أن يراجعه

بعد أيام في ذلك.

وقد وقع هذا الطلب على الأستاذ وقعًا شديدًا لعلمه بأن العلماء المتخرجين من

الأزهر يأبون الوظائف في بلاد السودان بالرواتب الكثيرة؛ ولأنه إذا لم يوجد في

الأزهر وهو أكبر المدارس الإسلامية وأشهرها من يسهل عليه أن يهاجر إلى الله

تعالى لمجرد الإرشاد ونشر الدين، فذاك أكبر عار على هذه المدرسة، بل على

المسلمين كلهم الذين نشر أسلافهم الدين في كل مكان، ثم هو الآن يضمحل

ويتلاشى ولا يغار عليه أحد من علمائه الذين لا عمل لهم إلا قراءة علومه، فرأى

بعض الحاضرين أثر الحيرة في الأمر باديًا على الأستاذ، فقال له: أنا أعرف رجلاً

من النابغين في الأزهر المتصدرين لامتحان التدريس أرجو أن يقبل الهجرة لهذه

الخدمة الإسلامية، وهو الشيخ محمود عزوز. وكان الأمر كذلك.

وفي أثناء هذه المدة تقدم الشيخ محمود هذا للامتحان فنجح فيه، وأعطي

درجة العالمية من الدرجة الثالثة بالاستحقاق كما علمناه من المصدر الصحيح، وقد

استحضره فضيلة المفتي وذكَّره بسيرة سلف الأمة وكبار الأئمة رضي الله تعالى

عنهم، وكيف كانوا يهاجرون لأجل حديث واحد يتلقونه أو نشر للدين عند قوم

يقبلونه، ودعاه إلى الرحلة لممباسة ابتغاء وجه الله تعالى، وثقة بوعده، فلبى

وأجاب، ثم عرض الأستاذ المفتي خبره على ولي النعم مولانا الخديو المعظم وذكر

لسموه ما رآه من إخلاصه فسُرَّ حفظه الله سرورًا عظيمًا، وجادت مكارمه بمبلغ من

المال إعانة له على سعيه المشكور كما هو دأبه في تعضيد كل عمل ينفع الدين

والأمة، ويقال: إن المبلغ الذي أعطي له مائة جنيه جزى الله تعالى سموه أفضل

الجزاء.

ثم إن فضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر أعطى لحضرة الشيخ محمود

المذكور منشورًا يخاطب به مسلمي البلاد التي يهاجر إليها، يوصيهم فيه بالثقة

بحامل المنشور والاعتماد عليه في فهم الدين وتلقي أحكامه الشريفة النافعة، وقد

سافر بالفعل في ليلة الثلاثاء الماضية، وودعه في محطة مصر كثيرون من إخوانه

الأزهريين وغيرهم، وزوَّده أكابر شيوخه في الأزهر الشريف بالدعوات الصالحة،

وكان نسي أخذ إجازة السفر، فكتب صاحب السعادة محافظ العاصمة رسالة برقية

إلى محافظة السويس بالوصية به، وإعطائه باسبورت السفر، فنسأل الله تعالى أن

يُسَهِّل أمره، وينفع به، ويجعل رحلته فاتحة خير وقدوة صالحة للأزهريين،

فيوفقون للانتشار في الأرض لنشر الدين آمين.

_________

ص: 72

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عريضة استرحام مسلمي بنغالة

نشرت جريدة وطن الهندية صورة عريضة عن لسان مسلمي أيالة بنغالة في

غربي الهند الذين يبلغون زهاء أربعين مليونًا (كذا) إلى مولانا السلطان الأعظم

عبد الحميد خان يطلبون فيها أمرين جليلين، أحدهما: تعيين قنصل للدولة العلية في

مدينة كلكتة عاصمة هذه الأيالة يمثل الدولة العلية في عظمتها، والخلافة الإسلامية

في جدتها، ويرجع إليه المسلمون في الشؤون التي تقوي الرابطة بينهم وبين

مسلمي السلطنة العثمانية، ويفضون إليه بالحقوق والمصالح المتعلقة بخليفتهم،

ومن ذلك أنهم جمعوا مبلغًا عظيمًا لإعانة سكة حديد الحجاز، ويحتاجون إلى من

يرشدهم إلى كيفية إرساله، وذكروا من فوائد هذا الأمر امتداد التجارة العثمانية؛

لاعتقادهم أن ما يتجر به في بلادهم من الطرابيش ونحوها هو من بلاد الدولة ومنه

فائدة لها.

والأمر الثاني: أن يصدر أمره المطاع بإدخال لغة مسلمي الهند (الأوردو) في

دار الفنون التي أسست في دار الخلافة الإسلامية يوم عيد الجلوس الفضي، وجعلها

من اللغات التي تُعَلَّم جبرًا لا اختيارًا، وذكر في العريضة بعض فوائد رابطة اللغة

وهي فوق ما ذكر، ثم التمست جريدة وطن من أصحاب الجرائد الإسلامية الشهيرة

في مصر والشام ودار السعادة أن يضموا أصواتهم إلى صوت صاحبها بهذا الطلب

إن استحسنوه، وذكرت المنار فيما ذكرته منها.

ونحن نستحسن هذا الطلب ونقول:إن منافعه جليلة جدًّا في كلا الأمرين؛ أما

تعيين قنصل للدولة في كلكتة كما عينت في بومباي وكراش بندر ومدراس مما لا

تُقَدَّر منافعه إذا كان أولئك القناصل من الرجال الأكفاء الذين يقدرون سلطة الدولة

العلية الروحية قدرها، ويعرفون كيف يستفيدون منها، وحسبك ما جاء في عريضة

الاسترحام من أهل بنغالة نساء ورجالاً وأطفالاً يعتقدون أن للسلطان عبد الحميد خان

سلطة غيبية وراء الطبيعة والأسباب، فيتوسلون إلى الله عند الحاجة لدفع ضر أو

لجلب خير باسمه الشريف؛ وذلك لأنهم يعتقدون أن ما يقرؤونه في الجرائد التركية

والعربية من مدائحه وفضائله وفواضله ومعارفه وعوارفه وصلاحه وإصلاحه، وكل

ذلك من خوارق العادات الدالة على أنه (ولي من أولياء الله تعالى جعله الله في هذا

الحين رحمة للعالمين) واستخدام هذا الاعتقاد بالحكمة له شأن لا يكتنه الفكر كنهه،

وأما تعلم لغة الأوردو فمن الضروري أن تعلم أيضًا في مصر والشام ومراكش لأفراد

كثيرين يكونون وصلة بين الشعوب الإسلامية في الجملة، أما الاتصال الحقيقي الذي

يرجوه طلاب الوحدة الإسلامية فلن يكون إلا بتعميم اللغة العربية كما بيناه في المجلد

الأول من المنار.

_________

ص: 74

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الأمير عبد الرحمن خان

نقلت الجرائد الهندية فصولاً ضافية من تاريخ حياة الأمير عبد الرحمن خان

الذي ألفه بلغة (البشتو) ؛ أي: لسان الأفغان، وتُرجم إلى الإنجليزية و (الأوردو)

فأحببنا تعريبها ملخصة، وإثباتها على صفحات المنار تفكهة للقراء الكرام، ولما

انطوت عليه من الكلمات الحماسية والإشارات السياسية سيما أن الكلمة إذا صدرت

من محلها وأربابها كان لها من الامتزاج بأجزاء النفوس والوقع على الأسماع ما لا

يكون لغيرها، وقد اعترف بفضل هذا الأمير وسياسته وشدة تيقظه جميع الدول

الغربية (والفضل ما شهدت به الأعداء) ، نشرت تلك الجرائد نقلاً عن الكتاب

المذكور ما تعريبه:

إن أطواري وشؤوني التي جبلت عليها لا تلائم كثيرًا مما عليه بعض ملوك

زماني؛ وذلك لأن أحدهم إنما همه التمتع بالملاذ ولبس التاج، والقناعة من الملك

بالتحية والألقاب، وإناطة مهام السلطنة بالوزراء والولاة، وإغفال أمور الرعية

والاحتجاب عنهم، وأما أنا فلست ممن يغتر بتلك الترهات والخزعبلات، ويلقي

بزمام مملكته إلى غيره، ويقنع من الملك بالاسم واللقب بعد أن كنت أعلم أن الأمة

إنما ولتني أمرها لما تعلمه في من الكفاءة والسهر على مصالحها، والذب عن

حوزتها، فأنا المسؤول عن ذلك لا غيري؛ إذ كل راعٍ مسؤول عن رعيته، فلهذا لا

أَكِل أمرًا من الأمور إلى أحد من أمرائي وأركان دولتي، بل أنا الذي أدير شؤون

المملكة وأحكم نظامها وأشيد دعائمها؛ وإنما عمالي وأمرائي آلة أديرها بيدي كيف

أردت وشئت.

وإن بعض الملوك يرى أن مباشرة الأعمال باليد والمشي على الأقدام مخل

بآداب الملوك، وعندي أن مباشرة أمور الرعية والمشي في مصالحها والتردد إلى

المحال المقدسة كالجوامع والزيارات ومجالس العلم، والذهاب إلى بعض المحاكم

والدوائر ولو سعيًا على الأقدام مما يكتب في صحائف حسنات الملوك، ويحيي به

ذكرهم بعد موتهم، وكيف أستنكف عن ذلك وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة

والسلام لا يستنكفون عنه؟ وهذا سيد البشر قد كان يعين أهله في أمور المنزل، فإذا

كنا مسلمين فلم لا نقتدي به وهو سيد الأولين والآخرين؟

ومن المعلوم أن كل إنسان ميال بالطبع إلى شيء تألفه نفسه في هذه العاجلة،

وأنا ميال إلى التعب والعناء فيما به قوام مملكتي، وأرى أن ذلك التعب هو في

الحقيقة عين الراحة، وقد تدربت عليه حتى صار لي طبعًا، ولهذا تراني مع ما

يعتورني من الأمراض والآلام الشديدة لا أنفك مصروف الأفكار والحواس إلى تدبير

أمور الأمة ورأب صدعها ولم شعثها، ولا أدع قلوب الناس معلقة بغيري، بل أنا

الذي أتصفح عرائضهم سطرًا سطرًا، فأوقع عليها بخط يدي، ولذلك لا يكاد يوجد

أحد من الأفغان إلا وعنده أوراق عليها كتابة قلمي، وقد أحطت علمًا بأحوال

رعيتي فقيرها وأميرها، فلا تخفى علي منهم خافية إلا ما تكن صدورهم وتنطوي

عليه قلوبهم.

وإن لي في كل بيت عينًا أبصر بها جميع أعمالهم وأطوارهم، وبابي مفتوح

وبري ممنوح للصادر والوارد، وإني مستعد لمواجهة كل أحد وقضاء حاجته وسماع

دعواه، ومن كانت له عندي حاجة ومنعه عن الحضور لدي عذر فليكتبها ويرسلها

إلي، وليجعل العنوان على الظرف هكذا يصل إلى الأمير؛ فإنه لا يتجرأ أحد على

فضها حتى أكون أنا الذي أفضها وأقرأها وأرد جوابها بيدي، ومن أراد مواجهتي

فصدَّه بعض الحاشية، فليكتب إلي بذلك، ويكاشف به بعض عيوني؛ أي:

(الشرطة السرية) ؛ فإني أعاقب له خصمه ولا عذر لمن يتأخر من رعيتي عن

مقابلتي لحاجة أو زيارة؛ فإني لا أحتجب عن أحد.

وتصب في معاملي أنواع الأسلحة الجديدة، وقصري مدجج بالأسلحة حتى

محل منامي وقاعة جلوسي، ويوجد تحت وسادتي مسدسان وذو شطوب يماني

وبندقيتان من الطراز الجديد، كل ذلك أعددته لطوارق الحدثان، ونوائب الزمان،

وفرسي الأدهم لا يزال أمام عيني مسرجًا ملجمًا عليه حقيبة مشحونة نضارًا أحمر،

وجنودي الجرارة أبناء الموت وليوث الحرب على أهبة وتعبئة مستعدة لأدنى إشارة

تصدر مني، وإني لأعلم أنه وإن كانت الكثرة تغلب الشجاعة، إلا أن القلة قد تغلب

الكثرة أيضًا إذا كان أمرها واحدًا ورأيها مجتمعًا، وإن الرجل الشجاع الحازم قادر

على التحفظ بما لديه والذب عن حماه، وشر الملوك من يكون طالعه على قومه

ورعيته مشؤومًا، فلا أحب أن أكون ذلك الرجل، وقد كان يخطر في بالي أن أتخلى

عن الملك وأنزوي في بعض الكهوف والمغائر لإعداد الزاد ليوم لا ينفع فيه مال ولا

بنون، وأدع قومي يخوضون غمار الفتن ويصطلون أوزار الحروب ويتساقون

كؤوس المنون؛ ولكني خشيت أن يسألني رافع السماء وباسط الأرض عندما أوقف

بين يديه وحيدًا فريدًا: لماذا أغفلت أمور عبادي ونمت عن إصلاح شؤونهم؟ فهذا

الذي يصدني عن ذلك، ويحملني على رؤية مصالحهم قائمًا وقاعدًا ومتكئًا ومستلقيًا

على فراشي، وربما أخذتني السُنة والأوراق في يدي وعلى صدري وقد شغلت بذلك

عن جميع شؤوني الذاتية، وأصبحت لا أتمكن من الدخول إلى الحرم أكثر من مرتين

في العام بعد أن كنت أزورهن في الأسبوع مرتين، وإن لكل من ولدي نصر الله خان

وحبيب الله خان ثلاثة آلاف روبية في الشهر للنفقات الضرورية، وهذا علاوة على

ما هو مقرر لهما من المآكل والملابس، وما هو مرتب لحرمهما وحشمهما، وتبلغ

رواتب حرمي من خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف روبية في الشهر مع ما يلزمهن من

النفقات.

وإنه يسوءني ما أراه من تقدم الأمم الغربية، وتقاعس المسلمين عامة، وقومي

خاصة، وأود لو يستفيق المسلمون من سباتهم الذي أربى على سبات أصحاب أهل

الكهف، ويسترجعون أيامهم ويحافظون على مآثر أسلافهم ومفاخر آبائهم وأجدادهم

الذين وطَّدوا لهم الملك ودوَّخوا لهم البلدان، وهيهات هيهات ذلك؛ لأن الداء إذا

أعضل عز دواؤه.

بيد أني لا آلو جهدًا في إحكام دعائم مملكتي وإصلاح شؤونها وتربية الأمة

الأفغانية، وإني لأعلم أن بعض الناس يتربصون بي الدوائر ويتمنون لي الحمام

الذي لا بد منه، ويرون حياتي شجًى في حلوقهم، وقذًى في عيونهم، وما أظن أن

أحدًا من الملوك نعته ألسنة الجرائد مرارًا وهو حي يرزق غيري اهـ.

هذا وإن الأمير يحيا كل الليل في مصالح العباد، وسماع التواريخ وسير

الأوائل، وسياسات الملوك ومسامرة أرباب الفضل والكمال، ولا يزال هكذا إلى

الفجر، فيتوضأ ويصلي الصبح جماعة، ويقرأ ورده وما تيسر من كتاب الله المجيد

وهو مستقبل القبلة إلى ارتفاع الشمس، فيضطجع على سريره، وربما نام في

بعض الأحيان على كرسيه الجالس عليه أو على الحصير الذي هو مصلاه، فينام

إلى الساعة السابعة من النهار، ثم يهب من نومه فيدخل عليه الحكماء والأطباء

فيجسون نبضه، ثم يدخل مغتسله فيغتسل ويبدل ثيابه، ويشرب الشاي، ويتناول

ما تيسر من الطعام، ثم يدخل الأطباء فيجسون نبضه، ثم يدخل عليه وزراؤه

وأمراؤه وأرباب الحوائج، فيأمر وينهى ويقضي بما تقتضيه سياسته، وبعد

المغرب يدخل عليه سماره من الأمراء والعلماء وأرباب البيوتات وأهل الكمال في

كل فن على اختلاف طبقاتهم، ولا يخلو مجلسه من أعلى الناس إلى أدناهم حتى

(البنكية) وهم الذين يرفعون القاذورات من الكنف والشوارع، ولا يزال على ما

ذكر إلى الصبح، فيفعل ما فعل بالأمس وهلم جرًّا.

والأمير مسلم متمسك قوي الاعتقاد مثابر على العمل بالكتاب والسنة وأقوال

السلف والخلف؛ حتى إنه ليعتقد بوهميات الأمور؛ من ذلك ما حكاه في كتابه المتقدم

الذكر وترجمته:

(قد كنت في عنفوان الشباب أعتقد أن التمائم والعوذ لا تجدي شيئًا، وأظن

أن ما كتب في خواصها ترهات لا أصل لها، إلى أن هديت إلى تميمة كتبها بعض

الصلحاء بزعم أنها تقي من الرصاص فما صدَّقت بذلك، وظننت أنها حيلة ساسانية

ثم خطر لي أن أجربها، فربطتها في دراجة وأطلقت عليها الرصاص مرارًا

عديدة، وفي كل مرة تخطئه يدي حتى إن الرصاص كاد يحرق ريشها ولم يصبها،

فزال من فكري ما كنت أتوهمه، وربطت تلك التميمة بعضدي. وكان الأمير يقرأ

مرة في القرآن المجيد فبلغ قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا

يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) فكرر الآية مرارًا وأطال فيها

الفكر، ثم قال: عسى أن يرشدني ربي إلى عمل ينفعني في ذلك اليوم ويقيني حر

جهنم.

(المنار)

صريح هذا الكلام أن حكومة الأمير مطلقة مفوضة لإرادته؛ ولكنه يسلك بها

مسلك الإصلاح، فليست عيونه وجواسيسه لمصلحة شخصه؛ ولكنها لمصلحة البلاد

والأفغان قوم أشداء أولو عصبية، ولولا حزم الأمير واحتياطه لما تمكن من الإصلاح

الذي قام به؛ ولكنه إذا لم يؤسس حكومة شوروية يُخشى أن يزول من بعده هذا

الإصلاح وتُضعف أمته العصبيات والتحزبات المعهودة فيها.

وأما مسألة تميمة الرصاص فلعله أذاعها لييأس أعداؤه من اغتياله، وإلا فإن

التجربة برمي طائر الدراجة بالرصاصة وعدم إصابته غير كافية في إثبات منفعتها؛

لجواز أن يخطئ الرامي الجمل فما بالك بالطائر، وظاهر أن الاعتقاد بالتمائم ليس

من الدين كما بيناه في المجلد الثاني والثالث من المنار.

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

تمهيد، مصارعة الحق والباطل، رفع الإسلام مقام الأنبياء وحكمه بعصمتهم،

عيث عشاق الروايات وإفسادهم في الدين، الروايات واختلافها في مسألة الغرانيق،

مخالفة المحققين لها، الرجوع إلى أهل العلم الصحيح في إزالة الحيرة، الطعن في

رواية تفسير التمني بالقراءة، الطعن في حديث الغرانيق رواية، الطعن فيه دراية،

عصمة الأنبياء، الوجوه الدالة على بطلان حديث الغرانيق، تفسير الآيات على

الوجه الموافق لأسلوب القرآن وفيه المقابلة بين الآيات وآيات سورة آل عمران في

المحكمات والمتشابهات، التفسير الثاني، أماني الأنبياء، سنة الله فيهم وفي أقوامهم،

تأويل ثالث، وسواس الشيطان، اللغات في الغرنوق ومعانيه، عدم ملائمة معانيه

لوصف الآلهة، انتفاء نقل ذلك عن العرب، الجزم بأن الحديث من وضع الأعاجم.

***

حديث الغرانيق صار مشهورًا عند المتأخرين لوجوده في كثير من كتب

التفسير التي تتناولها الأيدي، ولو صح لكان أكبر شبهة على الدين؛ ولكن المقلد

البحت الذي لا نظر له لا يبالي بالشبه ويقبل كل نقل، وإن كان الفرع فيه ينفي

الأصل، وطلاب العَنَت يتشبثون بأهداب الشبه، فيجعلونها معاول تهدم الأركان

الثابتة، وتنفي القضايا المبرهنة، ولذلك كثر الطعن في هذه الأيام بدين الإسلام،

من دعاة النصرانية، وبعض المفتونين بالشبه المادية، وأقوى تكأة لهؤلاء الطاعنين

ما قاله بعض المفسرين في مسألة زيد وزينب، وفي مسألة الغرانيق، ومسألة

أخرى، ولما كان كشف الشبهات وتخليص الحق من شوائب الباطل على وجه تثق به

النفوس، وتطمئن إليه القلوب، من وظائف أئمة الدين، وأكابر العلماء الراسخين،

لجأ قوم إلى حكيم الإسلام في هذا العصر، وإمام المسلمين في كل بادية ومصر،

مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، في أن يجلي لهم الحق

في المسألة الأولى، فأجاب بما هو الحكمة وفصل الخطاب، ونشرناه في المنار،

ليشتهر في الأقطار، ثم سأله آخرون في هذه الأيام عن الثانية، فأجاب بما أزال

الالتباس، ومحص ما في صدور الناس.

جعل المسألة أولاً موضوع درس في الأزهر حضره الجماهير، والجم الغفير،

ثم كتبها لتُنشر في المنار، وتتناقل في الأمصار، وهاك ما جاء من فضيلته، بنصه

وعبارته:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي

أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا

يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ

بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ

اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى

تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: 52-55) .

قد يجد الباطل أنصارًا، فيتبوأ من نفوسهم دارًا، ويتخذ له منها قرارًا،

وتذهب على ذلك الأيام بعد الأيام، وتمضي عليه الأعوام إثر الأعوام، وهو يلعب

بأهله، ويغلب أهواءهم بحيله، حتى يقصروا نظرهم عليه، ولا يجدوا ملجأ منه

إلا إليه، فإذا أوتوا من ناحيته رضوا، وإذا عرض لهم الحق أعرضوا، ولا يزالون

كذلك إلا أن تنحل به عراهم وتفسد بعلله قواهم، والحق لا يزال يعرض نفسه،

يستخدم مرة لينه وأخرى بأسه، وهو الشاب الذي لا يهرم، والعامل الصبور الذي

لا يسأم؛ وإنما يُعرِض بوجهه عن الأغبياء، ويُولِّي ظهره الأشقياء، ثم لا ينفك

يرحمهم، ولا يبرح يتعهدهم، يسفر عليهم محيّاه، ويرسل إليهم أشعة من سناه،

فإذا وافاهم وقد وهنت مُنَنَهُم [1] ، ومَرهت عيونهم [2] ، وحلك ليلهم، واشتد خبلهم،

صاح بهم منه صائح، ورَمحهم من جنده رامح [3] ، فقِلق بالباطل مكانه، وزُلزلت

من حوله أركانه، وفزع يطلب النصير، وثار يلتمس المجير، فلا يجد إلا أسبابًا

تقطعت به، وأعضادًا فُتَّ فيها بسببه [4] ، وقد رنَّقَ قومه [5] ، وعبس يومه،

فيحملق إلى الحق يأخذه ببصره، ويستنزله بنظره، ولكن خاب الظن، وبطل الفن

ثم لا يلبث وهو الباطل أن يتحول عنده اليأس أملاً، ويجد من اليبس بللاً، فيظن

وهو هو أن الحق ناصره، وأن ستقوى به أواصره، فسيتنصر بجنده، ويطلب

النجدة من عنده، وأقرب ما يكون خصم إلى الهلكة إذا اطمأن إلى عدوه، وأمل

الخير في دنوه، هذا شأن الباطل وأهله، مع تقلبه في ملله ونحله.

يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهي (القرآن) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء

والمرسلين، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر في

الفضائل وصالح الأعمال، وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم، وما نسبه إليهم

المعتقدون بأديانهم، ولا يخفى على أحد من أهل النظر في هذا الدين القويم أنه قد

قرر عصمة الرسل كافة من الزلل والتبليغ والزيغ عن الوجهة التي وجه الله

وجوههم نحوها من قول أو عمل، وخصَّ خاتمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فوق

ذلك بمزايا فُصِّلت في ثنايا الكتاب العزيز.

عصمة الرسل في التبليغ عن الله أصل من أصول الإسلام، شهد به الكتاب

وأيدته السنة وأجمعت عليه الأمة، وما خالف فيه بعض الفرق فإنما هو في غير

الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه، ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان

حق لا يرتاب منه مليٌّ يفهم ما معنى الدين.

مع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانًا يعملون على هدمه وتوهين ركنه، أولئك

عشاق الروايات وعبدة النقل، نظروا نظرة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ

مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (الحج: 52) الآية، وفيما روي عن ابن عباس رضي الله

عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ، والأمنية القراءة؛ فعمي عليهم وجه التأويل الحق

على فرض صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في

زعمهم، فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختل طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق

في أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ، وأعرضوا

عنه وجفاه قومه وعشيرته؛ لعيبه أصنامهم، وزرايته على آلهتهم، أخذه الضجر من

إعراضهم ولحرصه على إسلامهم وتهالكه عليه تمنى أن لا ينزل عليه ما ينفرهم،

لعله يتخذ ذلك طريقًا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ما

تمناه حتى نزلت عليه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1) وهو في نادي

قومه.

وروي أنه كان في الصلاة وذلك التمني آخذ بنفسه، فطفق يقرأها فلما بلغ

قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: 20){أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) التي تمناها بأن وسوس له بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل

السهو والغلط فمدح تلك الأصنام، وذكر أن شفاعتهن ترتجى، فمنهم من قال: إنه

عندما بلغ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: 20) سها فقال: تلك الغرانيق العُلى

وإن شفاعتهن لترتجى، ومنهم من روى (الغرانقة العلى) ، ومنهم من روى (أن

شفاعتهن ترتجى) بدون ذكر الغرانقة والغرانيق، ومنهم من قال: إنه قال: (وإنها

لمع الغرانيق العلى) ومنهم من روى (وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن

لهي التي ترتجى) ففرح المشركون بذلك، وعندما سجد في آخر السورة سجدوا معه

جميعًا.

قال ابن حجر العسقلاني: وتعدد الطرق وصحة ثلاثة منها وإن كانت مرسلة

يدل على أن للواقعة أصلاً صحيحًا، وهذه الأسانيد الصحيحة - في رأيه - وإن

كانت مراسيل يحتج بها من يرى الاحتجاج بالحديث المرسل، بل ومن لا يراه

كذلك؛ لأنها متعددة يعضد بعضها بعضًا اهـ، ولولا خوف التطويل لأتيت بجميع

تلك الروايات ما صح عنده منها وما لم يصح، ولكن لا أرى حاجة إليه في مقالي

هذا.

روى ذلك ابن جرير الطبري وشايعه عليه كثير من المفسرين، وفي طباع

النفس أُلْف الغريب، والتهافت على العجيب، فولعوا بهذه التفاسير واتخذوها عقدة

إيمانهم حتى ظنوا - وبعض الظن إثم - أن لا معدل عنها، ولا سبيل في فهم الآية

سواها، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها، وذهب إليه الأئمة في بيانها،

حتى ثارت ثائرة الشبه هذه الأيام في نفوس كثير منهم، وهم يزعمون أنهم مسلمون،

وأحسوا أن ذلك الضرب من التفسير لا يتفق مع أصل العصمة في التبليغ، وأن

فيه من الحجة للعدو ما لا سبيل إلى دفعه فلجؤوا إلى أهل العلم الصحيح يلتمسون

منهم بيان المخرج مما سقطوا فيه، وتوهموا أنهم يقررون لهم ما ألفوا، ثم ينقذونهم

من الحيرة مع ثباتهم على ما حرَّفوا، ولكن ضل رأيهم، وخاب ظنهم، وسيقامون

على المنهج، ويرون الحق ناصعًا أبلج.

في صحيح البخاري: وقال ابن عباس في {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي

أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي

الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال: أمنيته قراءته (إلا أماني) يقرؤون ولا يكتبون.

اهـ. فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال) بعدما فسرها بالحديث رواية

عن ابن عباس، وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين، فما يدَّعيه الشراح أن

الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة، ثم حكايته تفسير

الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال) : يفيد أنه غير معتبر عنده.

وقال صاحب الإبريز: إن تفسير تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة

مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواها علي

ابن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس

وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث، وأن المحققين على تضعيفه

اهـ، هذا ما في الرواية عن ابن عباس، وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن

المحققين يضعفون راويها.

وأما قصة الغرانيق فمع ما فيها من الاختلاف الذي سبق ذكره جاء في تتميمها

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفطن لما ورد على لسانه، وأن جبريل جاءه بعد

ذلك فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين، قال له: ما جئتك بهاتين، فحزن لذلك

فأنزل الله عليه {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) الآيات تسلية له كما أنزل لذلك قوله:

{وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاّتَّخَذُوكَ

خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ

وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 73-75) وفي بعض

الروايات: أن حديث الغرانيق فشا في الناس حتى بلغ أرض الحبشة فساء ذلك

المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52)

الآية، قال القسطلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير

واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحاق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة اهـ

وكفى في إنكار حديث أن يقول فيه ابن إسحاق: إنه من وضع الزنادقة مع حال ابن

إسحاق المعروفة عند المحدثين.

وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا

رواه أحد بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون

بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ثم نقل عن أبي بكر ابن

العلاء ما يدل على سقم الرواية واضطراب الرواة فيها، وما يقضي عليها بالوهن

والسقوط عن درجة الاعتبار، وقال الإمام أبو بكر بن العربي - وكفى به حجة في

الرواية والتفسير -: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له.

قال القاضي عياض: والذي ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم

قرأ {وَالنَّجْمِ} (النجم: 1) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن

والإنس اهـ، وقد يكون ذلك لبلاغة السورة وشدة قرعها وعظم وقعها، ثم قال

القاضي: قد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم

ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة

غير الله وهو كفر، أو أن يتسود عليه الشيطان ويشبّه عليه القرآن حتى يجعل فيه

ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى

يُفهمه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم، أو يقول

ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل نفسه عمدًا، وذلك كفر أو سهو، وهو

معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم

من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدًا ولا سهوًا، أو أن يشبه عليه ما يلقيه

المَلَك مما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا

عمدًا ولا سهوًا ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ

الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} (الحاقة: 44-46) ،

وقال: {إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 75) .

(ووجه ثانٍ) : وهو استحالة هذه القصة نظرًا وعرفًا؛ وذلك أن هذا الكلام لو

كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل

التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين،

وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف

بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟

(ووجه ثالث) : أنه علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضَعَفَة

القلوب والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى

الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة [6] ،

وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه

القصة شيئًا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها

على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في

قصة الإسراء، قال: ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي

حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت [7] ، وما ورد عن معاند فيها كلمة، ولا عن

مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلها واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض

شياطين الإنس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على

ضعفاء المسلمين.

(ووجه رابع) : ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ

عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الإسراء: 73) الآيتان، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي

رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، ولولا أن ثبته لكاد يركن

إليهم شيئًا قليلاً، فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم

يركن إليه قليلاً فكيف كثيرًا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون

والافتراء بمدح آلهتهم وأنه صلى الله عليه وسلم قال: افتريت على الله وقلت ما

لم يقل، وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى

في الآية الأخرى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ

وَمَا يُضِلُّونَ إِلَاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} (النساء: 113) قال

القشيري: ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه

الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الأنباري:ما قارب رسول الله

ولا ركن. انتهى المطلوب من كلام القاضي رحمه الله، وقد أورد بعد ذلك كثيرًا من

القول في توهين الرواية وتكذيبها.

أما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رُويت مرسلة من ثلاث طرق على شرط

الصحيح، وأنه يحتج بها

إلخ ما سبق فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز: إن

العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين، فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها لا

يقبل على أي وجه جاء، وقد عدَّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من

الأخبار التي يجب القطع بكذبها، هذا لو فرض اتصال الحديث فما ظنك بالمراسيل؟

وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به فيما هو من قبيل الأعمال

وفروع الأحكام، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالرسل وما جاؤوا به فهي

هفوة من ابن حجر يغفر الله له.

هذا ما قاله الأئمة جزاهم الله خيرًا في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل

لها، ولا عبرة برأي من خالفهم، فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير وإن بلغ

أربابها من الشهرة ما بلغوه، وشهرة المبطل في بطله لا تنفخ القوة في قوله، ولا

تحمل على الأخذ برأيه.

تفسير الآيات

والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتمله ألفاظها وتدل عليه

عباراتها والله أعلم:

لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئًا من القرآن أن قوله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (الحج: 52) الآيات، يحكي قدرًا

قُدِّرَ للمرسلين كافة لا يعدونه، ولا يقفون دونه، ويصف شنشنة عُرفت فيهم وفي

أممهم، فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى أن جميع الأنبياء والمرسلين

قد سلط الشيطان عليهم، فخلط في الوحي المُنَزَّل إليهم؛ ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ

الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته

إلخ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في

اختصاص الله تعالى لأنبيائه، واختيارهم من خاصة أوليائه، فلندع هذا الهذيان

ولنعد إلى ما نحن بصدده.

ذكر الله لنبيه حالاً من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ليبين له سنته فيهم،

وذلك بعد أن قال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ

إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ

كَانَ نَكِيرِ} (الحج: 42-44) إلى آخر الآيات، ثم قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ

إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن

رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (الحج: 49-52)

إلخ، فالقصص السابق كان في تكذيب

الأمم لأنبيائهم، ثم تبعه الأمر الإلهي بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه:

إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعيم، وأما

الذين سعوا في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة ليحولوا عنها

الأنظار، ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله، ويعاجزوا

بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ أي: يسابقونهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن

القول، وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها كما يقع عادة من أهل الجدل

والمماحكة، هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم، وأعقب ذلك بما يفيد

أن ما ابتُلي به النبي صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات قد ابتُلي به

الأنبياء السابقون، فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل

والتحريف ويضادون أمانيه ويحولون بينه وبين ما يبتغي بما يلقون في سبيله من

العثرات، فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا يجب أن تفسر الآية

وذلك يكون على وجهين:

(الأول) : أن يكون تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة وهو معنى قد

يصح، وقد ورد استعمال اللفظ فيه، قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله

عنهما:

تمنى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حِمَام المقادر

وقال آخر:

تمنى كتاب الله أول ليله

تمنى داود الزبور على رسل

غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل المعنى المفهوم من

قولك: (ألقيت في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه، ولا يكون قد

أراده أو نسبت إليه ما لم يقله تعللاً بأن ذلك الحديث يؤدي إليه، ونسبة الإلقاء إلى

الشيطان؛ لأنه مثير الشبهات بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر

من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه ويكون المعنى: وما أرسلنا قبلك من رسول

ولا نبي إلا إذا حدَّث قومه عن ربه، أو تلا وحيًا أُنزل إليه فيه هدًى لهم قام في

وجهه مشاغبون يحوِّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه، ويقولون عليه ما لم يقله،

وينشرون ذلك بين الناس؛ ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق

ويبطل الباطل، ولا يزال الأنبياء يصبرون على ما كُذِّبوا وأوذوا، ويجاهدون في

الحق، ولا يعتدَّون بتعجيز المعجزين، ولا بهزء المستهزئين، إلى أن يظهر الحق

بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة، فينسخ الله تلك الشبهة، ويجتثها من

أصولها، ويثبت آياته ويقررها، وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث

من الطيب، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض - وهم ضعفاء العقول - بتلك الشبه

والوساوس، فينطلقون وراءها، ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة

فيتخذونها سندًا يعتمدون عليها في جدلهم، ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم،

ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلموا أنه الحق من ربك، فيصدِّقوا به

فتخبت وتطمئن له قلوبهم.

والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقر

بالعقل في قرارة اليقين، وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم،

وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين، وسواء

أرجعت الضمير في (أنه الحق) ، إلى ما جاءت به الآيات المحكمة من الهدى الإلهي

أو إلى القرآن وهو أجلها، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين.

هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا، وهم الذين هداهم الله إلى الصراط

المستقيم، ولم يجعل للوهم عليهم سلطانًا، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم، وأما

الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب، أو أهل العناد وزعماء الباطل

وقساة الطباع الذين لا تلين أفئدتهم، ولا تبش للحق قلوبهم، فأولئك لا يزالون في

ريب من الحق أو الكتاب لا تستقر عقولهم عليه، ولا يرجعون في متصرفات

شؤونهم إليه، حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقون حسابهم عند ربهم، أو إن

امتد بهم الزمن، ومادَّهم الأجل، فسيصيبهم {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: 55)

يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر، ويقذفون إلى مطارح الذل

وقرارات الشر، فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان

لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته.

ما أقرب هذه الآيات في مغازيها إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: {هُوَ

الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ

اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) وقد قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ

وَلَا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} (آل عمران: 10) ثم قال:

{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ} (آل عمران: 12)

إلخ الآيات، وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى، فالذين في قلوبهم

زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، والراسخون في العلم هم الذين

أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم فيقولون: آمنا به كل من

عند ربنا. فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم، وأولئك هم الذين

يفتنون بالتأويل، ويشتغلون بقالٍ وقيل، بما يلقي إليهم الشيطان، ويصرفهم عن

مرامي البيان، ويميل بهم عن محجة الفرقان، وما يتكئون عليه من الأموال

والأولاد لن يغني عنهم من الله شيئًا، فستوافيهم آجالهم، وتستقبلهم أعمالهم، فإن لم

يوافهم الأجل على فراشهم، فسيغلبون في هراشهم [8] .

وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم رفع الله

الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يستبقيه وما يذهب ببقائه،

وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران لا مدخل لها في آيات سورة الحج.

هذا هو الوجه الأول في تفسير آيات {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) إلى آخرها على

تقدير أن تمنَّى بمعنى قرأ، وأن الأمنية بمعنى القراءة والله أعلم.

(الوجه الثاني في تفسير الآيات)

إن التمني على معناه المعروف، وكذلك الأمنية وهي أفعولة بمعنى المنية

وجمعها أماني كما هو مشهور، قال أبو العباس أحمد بن يحيى: التمني حديث

النفس بما يكون وبما لا يكون، قال: والتمني سؤال الرب، وفي الحديث (إذا تمنى

أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه) وفي رواية فليكثر، قال ابن الأثير: التمني تشهي

حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. وقال أبو بكر:

تمنيت الشيء؛ أي: قدرته وأحببت أن يصير إلي. وكل ما قيل في معنى التمني

على هذا الوجه فهو يرجع إلى ما ذكرنا ويتبعه معنى الأمنية.

ما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قومًا إلى هدًى جديد، أو شرع سابق

شرعه لهم، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولاً، أو جاء به

غيره إن كان نبيًّا ليحمل الناس على اتِّباع من سبقه إلا وله أمنية في قومه، وهي

أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه، ويستشفوا ممن دائهم بدوائه، ويعصوا

أهواءهم بإجابة ندائه، وما من رسول إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته،

وتصديقهم برسالته - منه على طعامه الذي يطعم، وشرابه الذي يشرب، وسكنه الذي

يسكن إليه، ويغدو عنه ويروح عليه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك

في المقام الأعلى، والمكان الأسمى، قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى

آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف: 6) وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ

وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) وقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى

يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) وفي الآيات ما يطول سرده مما يدل على أمانيه

صلى الله عليه وسلم بهداية قومه وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه إلى نور ما جاء

به.

وما من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ألقى الشيطان في

سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات، ووسوس في صدور الناس،

وسلبهم الانتفاع بما وُهبوا من قوة العقل والإحساس، فثاروا في وجهه، وصدوه

عن قصده، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد

يقهرونه، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع

ضعيف الأنصار - ظنوا الحق من جانبهم، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما

عمد إليه فتنة لهم.

غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم، أو من المستضعفين

فيهم؛ ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان، وليكون الاختيار

المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله، ولكيلا يشارك الحق الباطل في

وسائله، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله، أنصار الباطل في كل زمان هم

أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور

بالزخارف، والزهو بكثرة المعارف، وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في

الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم، وتصرف نظرهم عن سبيل

رشدهم، فإذا دعا إلى الحق داعٍ عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفتن،

وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله بخلوصها من هذه الشواغل،

وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة، فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه

على دعوته قام أولئك المغرورون يقولون: {مَا نَرَاكَ إِلَاّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ

اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ

كَاذِبِينَ} (هود: 27) .

فإذا استدرجهم الله على سنته وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالاً، افتتن

الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم؛

ولكن الله غالب على أمره، فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات، ويرفع هذه

الموانع وتلك العقبات، ويهب السلطان لآياته فيحكمها، ويثبت دعائمها، وينشئ من

ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلتهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة

الشيطان هي السفلى، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي

الأَرْضِ} (الرعد: 17) .

وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين تسلية لنبينا

صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه، وعدٌ له بأن سيكمل له دينه، ويتم

عليه وعلى المؤمنين نعمته، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن

يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ

صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3) ، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ

وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ

الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:

214) هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية ويدل عليه ما سبق من الآيات ويرشد

إليه سياق القصص السابق في قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} (الحج: 42)

إلخ، وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى

الصحيح، وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز وإني أنقله بحروفه وما هو

بالبعيد عن هذا بكثير، قال بعد ذكر أماني الأنبياء في أممهم وطمعهم في إيمانهم،

وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه

الثاني:

(ثم الأمة تختلف كما قال تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن

كَفَرَ} (البقرة: 253) فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له

في الرسالة الموجبة لكفره، وكذا المؤمن أيضًا لا يخلو أيضًا من وساويس؛ لأنها

لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة وبحسب

المتعلقات، إذا تقرر هذا فمعنى تمنى أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير

والرشد والصلاح والنجاح، فهذه أمنية كل رسول ونبي، وإلقاء الشيطان فيها يكون

بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساويس الموجبة لكفر بعضهم، ويرحم الله

المؤمنين،فينسخ ذلك من قلوبهم ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة،

ويبقي ذلك عز وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به، فخرج من هذا أن

الوساويس تُلقى أولاً في قلوب الفريقين معًا غير أنها لا تدوم على المؤمنين وتدوم على

الكافرين) اهـ، وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه تتبين الأحق

بالترجيح.

لو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي، وانتقض الاعتماد

عليه كما قاله القاضي البيضاوي وغيره، ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في

المنسوخ يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية

وهو العصمة، وما يقال في المخرج عن ذلك ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل،

على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العُلى لم يرِد لا في نظمهم ولا في

خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريًا على ألسنتهم إلا ما جاء في

معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح، وهذا يدل على أن القصة من

اختراع الزنادقة كما قال ابن إسحاق، وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت، ولا

يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسمًا لطائر مائي أسود وأبيض،

أو هو اسم الكركي أو طائر يشبهه، والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسَمْوأل

وفردوس وقرطاس وعُلابط) معناه الشاب الأبيض الجميل، وتسمى الخصلة من

الشعر المفتلة الغرنوق، كما يسمى به ضرب من الشجر، ويطلق الغرنوق

والغرانق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات، ويقال: لِمَّة غُرانِقة

وغُرانِقِية؛ أي: ناعمة تفيئها الريح، أو الغرنوق: الناعم المستتر من النبات

إلخ

، ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام، حتى يُطلق عليها في فصيح القول

الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام، فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات

الأعاجم ومختلقات الملبسين ممن لا يميز بين حر الكلام، وما استعبد منه لضعفاء

الأحلام، فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية، عما تقتضيه الدراية، {رَبَّنَا لَا

تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) .

***

(الحديث المرسل) هو الذي سقط من سنده من بعد التنابعيي، والجمهور

يتوقفون عن الاحتجاج به لجواز أن يكون الساقط غير الصحابي.

_________

(1)

المنن: جمع منة بالضم، وهي القوة.

(2)

مرهت العين: خلت من الكحل أو فسدت لتركه.

(3)

رمحه: طعنه بالرمح، والرامح ذو الرمح.

(4)

الفت: الدق والكسر بالأصابع ويقولون (فت في عضده) إذا كسر قوته وفرق عنه أنصاره.

(5)

رنق القوم بالمكان (بتشديد النون) : أقاموا، وفي الأمر خلطوا، والطائر خفق بجناحيه ورفرف ولم يطر.

(6)

الفينة: كالعيلة الساعة والحين.

(7)

التشغيب: تهييج الشر.

(8)

الهراش: المواثبة والمخاصمة، الحديث المرسل: هو الذي سقط من سنده من بعد التابعي، والجمهور يتوقفون عن الاحتجاج به لجواز أن يكون الساقط غير صحابي.

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مضار اللَّثْم والتقبيل

أمريكا مصدر العجائب، ومعدن الغرائب غير أن العجائب والغرائب فيها

فُقِدَتْ بتجاوزها حدود التواتر الصفات اللاصقة بالشواذ، والنوادر؛ لأنها حلت عند

أهلها محل الأشياء العادية عند غيرهم.

ومن أعجب ما أتحفتنا به من غرائبها ما قرره حاكم ولاية نيوجرزي إحدى

ولاياتها من منع أشهى الأشياء إلى الإنسان، وموضوع تغزل الشعراء في كل زمان

وأول ما ينبعث إليه بعامل الغريزة كل عاشق ولهان، وأقوى مؤكد للألفة في قلوب

الأحباب، وهو:(لثم الثغور أو رشف الرضاب) .

القارئ لهذا الخبر يحكم من أول وهلة أن الآمر بالمنع مصاب بخبل في عقله،

ولكن الأطباء أجمعوا على حسن صنعه؛ لأن جراثيم الأمراض المعدية كالحمى

الوافدة مثلاً مقرها المنخران والفم، فإذا لثم واحد آخر في ثغره وكان أحدهما

مصابًا بهذا الداء أصيب الثاني به في الحال بالعدوى من الأنف أو الفم، فالأولى

بمن يريد وقاية نفسه من الأمراض أن لا يعرك مارن أنفه بمارن أنف من يُقَبِّل ثغره

كما يفعل المتوحشون سكان بعض سواحل المحيط الهادي، بل يحسن به أن يصافح

من يريد السلام عليه باليد؛ فإن اليد خير وسيلة لتبادل التحية بين المهذبين.

ولا يخلو الحال من أن ينتقد قصار العقول على حاكم نيوجرزي؛ لكونه أصدر

قرارًا لا يمكنه القيام بالرقابة على تنفيذه، ويسخر به، والسخرية في مثل هذه

الأحوال أقرب ما يتدرع به الجهال؛ ولكن كم ألوف من المنشورات والقرارات التي

لو عمل بنصوصها لاتقيت المعاطب، ودُرئت المصائب لم تلبث ممثلة في حيز

خواطر الحكام إلا ريثما يجف مدادها، ثم اندرجت في طي النسيان ودخلت في خبر

كان.

فقرار حاكم نيوجرزي لم يكن والحالة هذه مظهرًا من مظاهر الجنون، ولا

عملاً قصد به مجرد التحكم في مرؤوسيه من الأهالي؛ إذ لم يسلم عقل عاقل أن

رجلاً تعهد إليه أمور ولاية بأسرها، وينقاد لأوامره جميع سكانها، يقضي شهورًا

وأيامًا في تشييد معالم قراره على أساسات متينة من الأسانيد العلمية بدون أن يأنس

ميلاً من الأهالي إلى إبطال عادة التقبيل الواضحة الأضرار بتأثيرها المادي في

صحة الإنسان.

فإن الرجل شاهد من القوم في إبان الأمر تذمرًا شديدًا من إبطال عادة قديمة

شائعة بينهم، وهي تقبيل الإنجيل بعد حلف اليمين أمام القضاة، وتتبع آثار

المناقشات التي قامت بين القضاة والشهود بسبب ما كان يراه الفريق الأول من

وجوب التقبيل، وما كان ينزع إليه الفريق الثاني من الامتناع عنه، واعتبر بما

جنح إليه الشهود من الإصرار على الإباء وتفضيلهم دفع الغرامة المقررة قانونًا في

مثل هذه الأحوال على تقبيل كتاب لمسته شفاه ألوف غيرهم من قبل، وليس

الغريب في الحادثة كلها تعنت فريقي القضاة والشهود وتمسكهما بما ذهب كل منهما

إليه، وإنما الغريب اتحاد السلالة السكسونية في النزعات والأميال؛ فإنه ما شاع

خبر الشروع في منع التقبيل بنيوجرزي، حتى قامت قيامة الميكروبيين في إنكلترا

وكندا وأستراليا ورفعوا أصواتهم مطالبين بمنع تقبيل الكتاب المقدس أمام القضاة،

وحدثت بينهم وبين هؤلاء حادثات أفضت إلى مثل النتيجة التي أدى الخلاف إليها

بين الفريقين في ولاية نيوجرزي.

وكما يعود إلى الأمريكيين الفضل في اقتراح إبطال تقبيل الإنجيل، يعود

إليهم فضل حل هذه المشكلة على أحسن الطرق، حيث قرروا تجليد هذا الكتاب

بمادة السلولوئيد (مادة من السلولوز القاعدة في تركيبها النثر والكافور) ، بدلاً عن

الجلد؛ لأنه بحالته الجديدة يمكن غسله وتطهيره بالمواد المطهرة عقب كل قبلة.

ولكن مسألة القبلة بوجه العموم كانت قد أخذت دورًا مهمًّا في المناقشات بين

الناس، واتسع خرقها، ولم يكن تجليد الإنجيل بالسلولوئيد حاسمًا لها؛ إذ تألفت في

الحال عصابة من الأهالي دعت نفسها (عصابة منع التقبيل) ، وسلمت مقاليد

زعامتها لأحد نطس الأطباء، فأثارت حربًا عوانًا على اللثم والتقبيل، وأبانت

بالبراهين القاطعة مقدار ضررهما بالصحة، ومن هذه الأدلة: أن اليابانيين يجهلون

عادة التقبيل، ولذا كانت جسومهم أبعد من جسوم غيرهم عن الأمراض، وقد

ناقضه في هذه الدعوى طبيب أمريكي عاش طويلاً بمدينة طوكيو عاصمة اليابان

حيث قال: إن اليابانيين لا يجهلون عادة التقبيل العامة في جميع الشعوب، وغاية

الأمر أن حكومتهم منعت من تقبيل الأطفال خوفًا من وصول الأمراض إليهم

بالعدوى.

ومهما يكن من الأمر فقد استدرجت العصابة إلى حزبها كبار الأطباء، وثقات

العلماء، وقرروا إصدار منشور ببيان ما يدعو إلى التخلي عن عادة التقبيل المضرة؛

فإن القبلة تنقسم إلى قسمين: قبلة يقصد بها مجرد الشهوة وهي لا يختلف اثنان في

ضررها، إذ امتزاج اللعابين بارتشاف الرضاب أقوى موصل للجراثيم من المريض

إلى السليم، وقبلة اصطلاحية وهي التي اتفق الناس عليها لإظهار شوق، أو

الاعتراف بصنيع حسن، وتكون عادة في الوجنة أو اليد، ولسنا نرى أن ترك أثر

من لعاب الفم قد يكون مشحونًا بجراثيم الأمراض المعدية عليهما يعد من مظاهرات

الشوق، أو دلائل الشكر إذا كان مصير ذلك الأثر أن يكون مركزًا تنبعث منه

جراثيم العدوى إلى الكثيرين بواسطة من وسائط الانتقال التي يضيق المقام عن

حصرها، ولذا ننصح القراء بترك تلك العادة القبيحة فوق ضررها، ونرجو أن

يقوم بيننا أمثال والي ولاية نيوجرزي؛ ليرشدونا إلى الصواب في أخص أمورنا

وأجلها وأنفعها لنا.

...

...

...

...

...

م. م

_________

ص: 100

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحنين إلى الوطن

قال في المسامرة: حدثنا أبو مصعب بن محمد بن مسعود الخشني الخطيب

الأديب قاضي كورة حيان بمسجد الأخضر بمدينة أشبيلية قال: لما حُملت نائلة بنت

الفرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه كرهت فراق أهلها، فقالت

لضب أخيها:

ألست ترى بالله يا ضب أنني

مرافقة نحو المدينة أركُبا

أما كان في أولاد عمرو بن عامر

لك الويل ما يغني الخباء المحجَّبا

أبى الله إلا أن أكون غريبة

بيثرب لا أم لدي ولا أبا

قال: وأنشدني ابن سكر بها بمسجد الشهداء:

ألا يا حبذا وطني وأهلي

وصحبى حين تذكرني الصحاب

بلاد من غرانقة كرام

بهم حلَّى تميمتي الشباب

وما عسل ببارد ماء مزنٍ

على ظمأ لشاربه يشاب

بأشهى من تلقيكم إلينا

فكيف لنا به ومتى الإياب

وأنشدتني خديجة بنت عبد الوهاب بن هبة الله الصوفي القصار قول

الأعرابية التي كان يهواها بعض خلفاء بني العباس، فتزوج بها، فلم يوافقها هواء

البلاد، فلم تزل تنحل وتعتل وتتأوه مع ما هي عليه من النعيم واللذة والأمر والنهي

فسألها عن شأنها فأخبرته بما تجد من الشوق إلى البراري، وأحاليب الرعاء،

وورود المياه التي تعودت، فبنى لها قصرًا على رأس البرية بشاطئ الدجلة سماه

المعشوق، يقابل مدينة سامرا من الجانب الآخر، وأمر بالأغنام والرعاء أن تسرح

بين يديها وتتراءى أمامها، فلم يزدها ذلك إلا اشتياقًا إلى وطنها، فمر بها يومًا في

قصرها من حيث لا تشعر بمكانه، فسمعها تنتحب وتبكي حتى ارتفع صوتها وعلا

شهيقها، وكبد الخليفة يتقطع رحمة فسمعها تقول:

وما ذنب أعرابية قذفت بها

صروف النوى من حيث لم تك ظنت

تمنت أحاليب الرعاة وخيمة

بنجد فلم يقض لها ما تمنت

إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه

وبرد حصاه آخر الليل حنت

لها أنة عند العشاء وأنة

سحيرًا ولولا أنَّتاها لجُنَّت

فخرج عليها الخليفة وقال: قد قضي ما تمنيت، فالحقي بأهلك من غير

طلاق، فما مر عليها وقت أسرَّ من ذلك، وسرى ماء في وجهها من حينها، فعجب

الخليفة، والتحقت بأهلها بجميع ما كان عندها في قصرها، وكان الخليفة يهواها

ويغشاها في أهلها إذا تصيد اهـ.

أقول: ومن هذا الباب قول بعضهم:

وحبَّب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

_________

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)

كتاب جديد ظهر في عالم الطباعة، جديد في وجوده، جديد في مباحثه

ومسائله، جديد في حكمته وفلسفته، وإرشاده وسياسته، حملت به فكرة عالم عامل،

ومحنك عاقل، حلب الدهر شطريه، وعرف ما له وما عليه، ولما تم حمله وأراد أن

يظهر في الوجود فضله، وضعته تلك الفكرة الوقَّادة، والقريحة النقادة، في أرض

الحرية، من هذه البلاد المصرية، فكانت جريدة المؤيد أول مهد له تمهد، ثم لم يلبث

أن تم فصاله، وظهر في إثر ولاده كماله، وتم له استقلاله، وعم القارئين نواله.

أطال هذا الرجل النظر في الاستبداد، فرأى أنه هو المخرب للبلاد، وتبصر

مليًّا في الاستعباد، فعلم أنه هو المهلك للعباد، فدرس من هذين الأمرَين الأمرَّين

طبائعهما، وتعرف مصارعهما، ثم أتحف ناشئة قومه بنتيجة علمه، وثمرة عقله

وفهمه، فوضع لهم بدر التمام، على طرف الثمام، وقرب إليهم ما كان على بعد

سنين وأعوام، فجعله على مسافة يوم وأيام.

يشتمل الكتاب على خطبة في سبب تأليفه وإهدائه للناشئة، ومقدمة في علم

السياسة والدعوة للكتابة في الاستبداد، ويليه فصول في تعريف الاستبداد وذويه،

والاستبداد والدين، والاستبداد والعلم، والاستبداد والمجد، والاستبداد والمال،

والاستبداد والأخلاق، والاستبداد والتربية، والاستبداد والترقي، والاستبداد

والتخلص منه، وفي هذا الفصل 25 بحثًا من أهم المباحث السياسية والاجتماعية

ذكرها المؤلف، (تذكرة للكُتَّاب ذوي الألباب، وتنشيطًا للنجباء على الخوض فيها

بترتيب) ، وهذا الفصل الأخير وما فيه مما لم يُنْشَر في المؤيد.

أشار المؤلف لاسمه برمز (الرحالة ك) ليحكم الناس على القول بذاته لذاته،

وللناس شغف بمعرفة الفضلاء النابغين من أمتهم، وحفظ أسمائهم وألقابهم في ألواح

القلوب ودفاتر التاريخ، فأما الذين يعرفون شخص الأستاذ الهمام السيد الشيخ

عبد الرحمن أفندي الكواكبي الحلبي وفضله، فيقولون: أجدر بهذا الكتاب أن يكون

له، وأما الذين لا يعرفونه فليحفظوا هذا الاسم الذي يطابق الرمز إلى أن يجيء يوم

يستبدل فيه هذا الرحالة التصريح، بالرمز والتلميح.

والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد بشكل كتاب (المرأة الجديدة) ،

وصفحاته 183، وثمنه خمسة قروش، ويباع في مكتبة الترقي، ومكتبة هندية،

ومكتبة الهلال، ومن يدفع سبعة قروش أميرية يرسل إليه الكتاب مضمونًا حيث

كان، والطلب يكون بهذا العنوان (القاهرة صندوق البوسطة نمرة 517 محمد

أفندي الوكيل) ، فنحث كل قارئ على قراءته، ونرجو من مؤلفه أن يكتب لنا كتابًا

آخر في المباحث 25 التي وضعها تذكرة للكتاب، فلا يوفيها حقها غيره.

***

(تنبيه الأفهام، إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام)

كتاب جديد اسمه يدل على شرف موضوعه وفائدة مباحثه، من إنشاء صديقنا

الكاتب الفاضل رفيق بك العظم الشهير بغيرته وإجادته بما لا يجيد فيه إلا الأقل من

كتابنا، والكتاب مؤلف من تسع مقالات، خمس منها نُشرت في مجلة الموسوعات،

فكانت في المكانة الأولى مما يُنشر فيها، وقد وُشِّي ذيل هذه المقالات بهوامش

زادت في فوائدها، وأجدر بالذين يبحثون في هذه الأيام عن المدنية الإسلامية كيف

كانت، ولم زالت، وكيف ينبغي أن تكون، وما النسبة بينها وبين المدنية الغربية أن

يقرؤوا هذه المقالات ويتدبروها، ويتوسعوا في مسائلها بحثًا وحوارًا وكتابة وخطابة

ودعوة إلى العمل وقيامًا به، وسنُتحف قراء المنار بشيء منها عند سنوح الفرصة،

وعسى أن يسبقونا إلى قراءتها برمتها، وهي تُطلب من صاحبها ومن مكتبة الترقي

وغيرها.

***

(دليل الحيران في الكشف عن آيات القرآن أو (ترتيب زيبا))

لا يوجد مسلم يشتغل بالكتابة والعلم إلا ويحتاج للمراجعة والكشف عن آيات

من القرآن في أوقات كثيرة، ومثل المسلمين من يشتغل بعلوم دينهم ولسانهم العربي،

فمن لم يكن حافظًا يُضيع وقتًا طويلاً في طلب كل آية يحتاج إلى الوقوف عليها؛

ولذلك مست الحاجة إلى طريقة تُسَهِّل المراجعة على طالبها، وقد سبق المتقدمون

إلى اتخاذ طرائق لم نعرف منها إلا ما عرفنا به الطبع فمنها كتاب (نجوم الفرقان

في أطراف القرآن) ، وهو يذكر جميع كلمات القرآن مرتبة على حروف المعجم،

ويذكر في جانب كل كلمة رقم السورة أو السور التي وقعت فيها، ورقم الآية أو

الآيات بالعدد، وقد طُبع في ألمانيا، وجعلت أرقامه إفرنجية، ومنها (ترتيب زيبا)

للحاج صالح ناظم ومعناه (الترتيب الجميل) ، وهو مرتب على حروف المعجم

بحسب أوائل الآيات غالبًا، فمتى عرفت أول الآية تكشف في فصل الحرف

المبدوءة به تجدها، وقد جعل الفصول لأكثر الحروف على أنواع؛ لكل كلمة مما

يكثر في الكلام نوع، فالآيات المبدوءة بكلمة (إن) نوع، والمبدوءة بكلمة (إذا)

نوع، والمبدوءة بأدوات الاستفهام على أنواع، وعلى ذلك فقس، وكان هذا الكتاب

قد طُبع في الآستانة العلية، ونفدت نسخه، فانبرى في هذه الأيام الفاضل الهمام

إبراهيم بك رمزي، فأعاد طبعه على نفقته في مطبعة التمدن المتقنة؛ ولكنه غير

اسمه بما ذكر في العنوان، وثمن النسخة منه 10 قروش، وهو يُطلب من المطبعة

المذكورة بجوار إدارة المؤيد بمصر.

_________

ص: 105

الكاتب: عبد العزيز محمد

التعليم الفطري والمدارس [1]

(المكتوب 48) من أراسم إلى هيلانة في 15 أغسطس سنة 185.

لو أني عُهِدَ إليّ ببناء مدرسة كبرى للناشئين في أمة من الأمم العظيمة،

لبذلت وسعي في أن أبث في جدرانها من العلم روحًا وعقلاً.

ذلك لأن القائمين على التعليم لم يزالوا في سبات من الغفلة عما كان لمعاهدة

التربية من التأثير في خيال المتعلمين خصوصًا في سنيهم الأولى، ولقد كان القدماء

أنفذ منا إدراكًا في سر التعليم بالمشاهدة، وجروا في ذلك على نواميس الفطرة

الإنسانية الحقة.

ليست المعابد والبِيع عند جميع الأمم إلا مدارس اتخذها الكهنة والقسيسون في

الأديان القديمة والحديثة صحفًا لمجموع عقائدهم ومذاهبهم، بما وجدوه لذلك من

الوسائل الكبرى في فن العمارة، ونحت التماثيل، وصناعة التصوير، وبقاء

العبادات إلى الآن يدلنا على درجة انتقاش الرموز والصور الاعتقادية في أذهان

العامة؛ فإن مخترعات الخيال التي يبرزها الرسم للوجود الخارجي في صور فخيمة

تبقى شائعة بين الناس بعد فناء الفكرة التي أنتجتها بعدة قرون، يشهد لذلك بقاء

مظاهر المعتقدات الجمادية، مع أن الأمم قد كفت من عهد بعيد عن توهم أنها لا

تزال على عادتها في عبادتها.

إذا كنا قد رفعنا هياكل للآلهة الباطلة كالحرب والروع والظفر بالأعداء وجميع

بلايا الإنسان ومصائبه، فما لنا لا نرفع للعلم هيكلاً؟ وأي كلفة في هذا العمل على

أمة عظيمة؟ لا يقال: إن أول عائق دونه هو قلة المال وغلاء المواد اللازمة

لإقامته؛ لأني أرى أننا في غنى عن الذهب والمرمر والخشب النفيس، وفي مقدورنا

أن لا نتعرض في إنشائه لشيء من صنوبر لبنان، ولا من نفائس المعادن التي تم بها

العظم والجلال لهيكل سليمان؛ فإن في الجبس، بل في الورق المقوى غناء عن ذلك

كله في سبيل التربية، إذا وجد له أناس صُنُع اليدين يهيئونه ويستخدمونه في الدلالة

على المعاني، وقد أصبح اليوم من الميسور تحصيل أهم مثل الأشياء الخلقية

والصناعية بنفقات زهيدة، وذلك بفضل ما اخترع من إفراغ صب المواد في

القواليب، وإن فيما يوجد بمعاهد التمثيل عندنا من تماثيل الزينة وصورها لبرهانًا

ناطقًا بأن في قدرة المصور أن ينقل الرائي إلى رومة [2] وأثينا [3] ومنفيس [4] ببعض

جولات يتحرك بها قلمه، وبشيء من المغالطات البصرية؛ لأنه متى أتقن تمثيل ما

يمثله من الأشياء في شكله ولونه، كاد أن يُحْدِث في الخيال ما يُحْدِثه أصله من الأثر،

فلا عبرة بالمادة، وبما يُتخذ من الوسائل لبث الروح فيها ما دامت الصورة تنبه

المشاعر وتؤدي إلى العقل معنى صحيحًا لما يُراد تعريفه إياه.

كل دين إذا استكنهناه رأيناه يرجع إلى فهم ما ذهب إليه أربابه من الآراء في

خلق العالم ونظامه؛ لكن فهم هذه الآراء هو في الغالب غاية في الصعوبة، وإنه

لولا الاستعانة بالرموز في إدراكها لنبت عنها عقول الكافة نبوًّا كليًّا، وأما الهيكل

الذي أقصد رفعه للعلم، فهو معرض تتجلى فيه الحوادث على الناشئين، بل هو

تاريخ حي محسوس للعالم الذي يعيشون فيه مواده كلها موجودة؛ لكنها متفرقة فيما

عندنا من المتاحف والمكتبات والمجموعات، ونحن عنها غافلون، فليس من الحق أن

يُكَلَّف اليافع بالتماسها في أماكنها؛ لأن ما في هذه الأماكن من العظام النخرة،

والحيوانات المصبرة، وجذاذ الأوثان المكسرة؛ إنما يفيد العلماء، وأما الأحداث

فاللازم لإفادتهم إيجاد مشهد تجتمع لهم فيه المُثل الحية الكبرى للإنسان وغيره من

المخلوقات على صورة جاذبة لنفوسهم.

هذه معارضنا العامة التي تقام في باريس ولوندرة قد تعلم منها الجهلة (وهم

في كل أمة سوادها الأعظم) من مناشئ الصناعة وتوزع الأجيال على سطح

الأرض، وأحوال الترقي في الأمم المختلفة أكثر مما يتعلمونه من جميع الكتب التي

وضعت في التدبير السياسي وتقويم البلدان، فكيف إذا عزَّزت مشاهدة الأشياء،

وكملت بتعليم خاص؟ تلك المعارض لا يتسنى إقامتها مسانهة، وهي فوق ذلك لا

تحتوي إلا على طائفة من الوقائع والأمور المخصوصة، وإذا كنت قد نوهت بها؛

فإنما قصدت بذلك أن أبين لك ما يعود على الأحداث من الفائدة، إذا أقيم لهم معهد

آخر للعلوم تمثل لهم فيه صورها.

أصبح علم الكرة الأرضية خلوًا مما يستميل نفوس المتعلمين مورثًا للسآمة

والضجر بمين ما رسمناه له من الخرائط وألفناه فيه من الكتب، أفلا يكون الحال

على خلاف ذلك لو أن هذه الخرائط استعيضت بقماش تصور عليه الأرض وما

فيها تصويرًا إذا جال النور في أرجائه ضاعف مغالطة بصر الطفل، فخيَّل له أنه

على الجانب الآخر للمحيط مثلاً؟ وليس يلزم لذلك إلا مصور صادق في عزيمته

باذل نفسه من أجل البلوغ إلى غايته.

قام بفكر أمريكي شجاع اسمه جون بانفارد يومًا من الأيام أن يصور مجرى

نهر المسيسبي [5] ، فركبه وحده في قارب مكشوف مصرًّا على إنفاذ فكره، غير مبالٍ

بما كان يعترضه من الصعوبات الكثيرة، ويعتريه من الآلام الشديدة، فيبست يداه

وخشنتا بسبب استعمال المجذاف، واحترق جلده بحر الشمس، فصار عما قليل

كواحد من هنود أمريكا في لونه، وقضى أسابيع كاملة، بل شهورًا لم يصادف فيها

إنسانًا يكلمه، ولم يكن له رفيق سوى قرينته، بلى كانت هذه الرفيقة تتكلم بأعلى

صوت كلامًا حقًّا لا خطأ فيه يُفْهِم بعض طيور النهر والأجمة، وكان يخرج في كل

مساء من قاربه إلى البر ويوقد نارًا، فيشوي عليها ما يصطاده، ثم يرقد ملتفًّا في

غطائه مكفئًا فوقه القارب؛ ليكون له جُنة دون الحيوانات الوحشية، وسقفًا يقيه طل

الليل، وكان عند شروق الشمس يهب من نومه ويمضي عامة يومه في اجتياز

النهر من شاطئ إلى آخر على التوالي طلبًا لمنظر جديد، فكان يسترعي طرفه في

مكان خليج عميق، وفي آخر أسراب من الطيور، وتستلفته في ثالث جزيرة

صغيرة علتها خضرة نضرة، وهو لا يفتر عن تسويد ما يلاحظه فلم يغادر شيئًا مما

يستحق التصوير إلا رسمه خطفًا واختلاسًا، ولما فرغ من تقييد إشاراته وملاحظاته

اتخذ له في المدينة المسماة لويسفيل بولاية كنتوكي [6] بيتًا من الخشب، حيث أنشأ

يصور ما قيده على القماش وما كان أطوله، فقد بلغ ذرعه ثلاثة أميال.

لا شك في أن ذلك المصور كان أهلاً لأن يأتي بطرفة من الطرف، وإن كان

رسم مناظر المسيسبي ليس في الحقيقة إلا حكاية صادقة لسفره خطها قلم الرسم خطًّا

بطيئًا، ونحن على كل حال نرجو الله سبحانه أن يقيض لنا من يحتذي مثال جون

بانفارد من المصورين، وأن يهبهم من الإقدام والإخلاص للعمل ما وهبه؛ فإنه لو

تحقق ذلك لأصبحنا بسطح الكرة التي نسكنها أعلم مما نحن الآن بكثير.

وليت شعري: أي مانع يحول دون إنفاذ عمل كهذا يكون تاريخًا للأرض ومن

يقطنها من الأمم؟ ربما قيل: إن ذلك هو ما يقتضيه من إنفاق المال الكثير. فأقول:

هذا مُسَلَّم؛ ولكنا ننفق في تبديل سلاح بآخر، أو طريقة من طرق القتال بغيرها أو

في بناء بارجة، أو إقامة حكومة جديدة متوسطة مدة بقائها ثمانية عشر شهرًا على

الأكثر - أضعاف ما تقتضيه منا طريقة التربية المؤسَّسة على نواميس الفطرة

الإنسانية.

لا شأن لنا في ذلك، وعلينا التسليم والامتثال؛ فإن هيكلاً كالذي وصفته

تتجلى فيه الوقائع والمعاني إنما هو صورة من صور الخيال لا وجود له في الخارج

ولن يوجد بلا شك، فيجب علينا إذن بناؤه في المستقبل في ذهن (إميل) بمواد

أخرى اهـ.

(المنار)

إن ما قاله المؤلف في الأديان غير مُسَلَّم على إطلاقه، ويظهر أنه لم يطلع على

الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة، والمرشد إلى سنن الفطرة في التربية والتعليم،

وإن كان يستنير بأشعة شمسه من حيث لا يشعر.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

مُعَرَّب من باب الولد من كتاب‌

‌ إميل القرن التاسع عشر

.

(2)

رومة هي عاصمة إيتاليا الآن وكانت في غابر الأزمان عاصمة مملكة الرومانيين، ثم عاصمة لولايات السلطنة الروحية، ومقرًّا للبابا كما أنها مقره الآن.

(3)

أثينا هي مدينة شهيرة من القدم في بلاد اليونان، وهي الآن قاعدة حكومة تلك البلاد.

(4)

منفيس مدينة كانت عاصمة لمصر في الأزمان الغابرة أطلالها قريبة من القاهرة.

(5)

المسيسبي نهر عظيم في أمريكا الشمالية يصب في خليج المكسيك بالقرب من مدينة نوفل أورليانس وطوله 5500كيلو متر.

(6)

كنتوكي هي إحدى الولايات المتحدة بأمريكا الجنوبية سكانها 1855450 نفسًا وعاصمتها فرنكفورت.

ص: 108

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ملكة الإنكليز

تقدم في الجزء الثاني والثلاثين من السنة الثالثة ذكر مولد هذه الملكة العاهلة

ونشأتها وجلوسها وتتويجها وزواجها، ونلم هنا بباقي سيرتها.

أخلاقها ودينها:

تقدم في مطاوي الكلام ما يُشْعِر بدماثة أخلاق الملكة فيكتوريا وتهذيبها،

ويُؤْثَر عنها شدة التمسك في مذهبها البروتستانتي؛ ولكنها كانت تُظهر الاستياء من

التحامل على رعاياها الكاثوليك، ومما يُؤثر عنها في المحافظة على يوم الأحد أن

أحد الوزارء أراد أن يعرض عليها أوراقًا ذات بال في مساء السبت، فرأى الوقت

يضيق عن النظر فيها، فاستأذنها بأن يحضر لعرضها في صباح اليوم التالي فقالت:

إن غدًا الأحد يا حضرة اللورد. فقال: إن مصلحة البلاد لا تسمح بالتأجيل.

قالت: إذن لا بأس. وفي صبيحة ذلك اليوم حضر ذلك الوزير سماع الوعظ في

الكنيسة مع الملكة كعادة أمثاله، وكان الوعظ في (الواجب على المسيحي يوم الأحد)

فلما انتهى قالت الملكة للوزير: (هل أعجبك الوعظ؟) قال: كثيرًا يا جلالة

الملكة. قالت: (لا أخفي عنك أنني أنا التي أوعزت إلى الخطيب بهذا الموضوع

فعسى أن يؤثر كلامه فينا) ، ثم أمرته أن يحضر في اليوم التالي لعرض الأوراق

ففعل، ويُؤثر عنها أنها قالت: (إن السر في عظمة إنكلترا هو الكتاب المقدس.

وقالت: إن التجارة وحدها لا تجعل الأمة عظيمة وسعيدة، وإنكلترا إنما بلغت ما

بلغت من العظمة والسعادة بمعرفة الإله الحقيقي)

نعم إن الإنكليز أشد تمسكًا بالدين، وأقل تعصبًا على المخالفين من جيرانهم

الفرنساويين، ولذلك تقدموا عليهم؛ ولكن البوير أشد تدينًا من الإنكليز؛ ولذلك

انتصروا عليهم وقاووهم إلى الآن، ولا يزال الحرب بينهما سجالاً مع أنهم في الإنكليز

كالشامة في جلد البعير، فليعتبر شبان المصريين الذين يتوهمون أن المدنية إنما تكون

بالكفر والتعطيل، واتباع الشهوات البهيمية، والغرور بالزخارف الظاهرية.

سياستها:

الممالك إنما تنهض وترتقي برجالها ووزرائها المسؤولين المحنكين، ودولة

إنكلترا أغنى الدول بالساسة، وقد رزقت الملكة فيكتوريا بأنصار منهم نهضوا

بالبلاد في عهدها نهوض الأسود وهم: واللورد ملبرن، والسر روبرت بيل، واللورد

جون رسل، واللورد بامرستون، واللورد بيكنسفيلد، وأرل دربي، وأرل إبردين،

والمستر غلادستون، واللورد روزبري، واللورد سالسبري، هؤلاء هم الذين تولوا

الوزارة الكبرى على عهدها، ولهم من سائر الوزراء والنواب والحكام أعوان

وأنصار على شاكلتهم؛ لأنهم نتائج تعليم وتربية واحدة، ويظن كثيرون أن الملكة

لم تكن إلا آلة صماء لا عمل لها بذاتها، ولا إرادة لها في حكومتها، والصواب أنها

كانت تنظر الأشياء الكلية وتبدي رأيها فيها، ومن الشواهد على هذا أن اللورد

ملبرن حاول إقناعها بالأدلة الخطابية بأن تُصَدِّق على مشروع مهم، وكان يخاف أن

لا ينجح في ذلك، فنوه بأمر المشروع ما شاء أن ينوه، وقال: إنه يا جلالة الملكة

عظيم الأهمية. فقالت له: (إن أعظم المسائل وأهمها عندي الآن هو أمر التوقيع

على مشروع لم أقتنع به) .

وقد اتسع عمران الدولة البريطانية على عهدها، فقد كانت مساحة البلاد

الإنكليزية ومستعمراتها يوم تولت عليها 8329000 ميل مربع، وعدد سكانها

168 مليونًا، وما تولت عنها إلا ومساحتها تزيد على 11250000 ميل مربع،

وسكانها يزيدون على 400 مليون، وكان دخل الحكومة الإنكليزية حين وُليت 50

مليون جنيه من بلادها، و25 مليونًا من الهند، وبلغ قبل أن وَلَّت 120 مليونًا من

بريطانيا وحدها، ونحو 70 مليونًا من الهند، وثلاثين من أستراليا و20 مليونًا من

سائر المستعمرات.

وكان للملكة نفوذ شخصي عظيم في أوربا لكونها امرأة، ولكبر سنها،

ولوشيجة الرحم المشتبكة بينها وبين أعظم ملوك الأرض كعاهل الألمان، وقيصر

الروس، فكانت تحل بكتاب تخطه بيمينها ما لا تحله النفاثات في عقد السياسة منه

بواقع الرجال، ولذلك يُظن أن بريطانيا قد فقدت بفقدها شمس المجد ونجم السعد،

وأنها لن تكون بعدها كما كانت، والله علام الغيوب.

* * *

(تهنئة واستماحة) : نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك وبمناسبة العيد

وترك عمال المطبعة العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة

فنرجوهم السماح.

(وسام الافتخار المرصع) أنعم مولانا السلطان الأعظم أيده الله تعالى على

أخلص المخلصين لذاته الكريمة عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي

الشأن الذي هو جدير به، فنهنئ عطوفته بذلك.

_________

ص: 113

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البدع والخرافات

والتقاليد والعادات

السنيون والشيعة في حمص

كتب إلينا الأديب المهذب الحاج محمد طه السكاف الحمصي رسالةً مطولةً

يشرح فيها أمورًا تقع في بعض القرى التابعة لحمص من الخلاف والنزاع والتفرّق

والشقاق بين الفريقين الذين يدعون أهل السنة، والذين يدعون الشيعة، وذكر

بعض المسائل الخلافية التي يكثرون فيها الجدال والمراء كمسح الرجلين في

الوضوء، والمتعة، والمفاضلة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن أعجب

ما ذكره قوله: إن العلماء في حمص يُكَفِّرُون الشيعة بمسألة مسح الرجلين، ويمنعون

الناس من أكل ذبائحهم مع أنها مسألة اجتهادية، ويشهد لمذهب الشيعة فيها ظاهر

القرآن؛ فإن إعراب {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة: 6) على قراءة

النصب بالعطف على المحل، أقرب من إعرابها على قراءة الجر بأن الأرجل

مجرورة بالمجاورة، بل هذا غير معروف عن العرب في مثل هذا التركيب، ولا

ينافي صحة المسح ثبوت الغسل في السنة؛ فإنه مسح وزيادة، ولذلك أرجحه بالعمل

مع الاعتقاد بمقابله، وعهدنا بالعلماء الراسخين أنهم يتوقفون عن تكفير من يخالفهم

في الأصول الدينية إذا كان متأولاً، وإن كان مما يكفرون به غير المتأول.

وذكر الكاتب مسألة فظيعة جدًّا، وهي أن رجلين أحدهما الملازم مصطفى أغا

والثاني أحمد بن علي الداغستاني شتماه ولعناه وضرباه على وجهه بالنعال، حتى

كاد يموت؛ ذلك بأنهما اتهماه ببغض سيدنا الصِّدِّيق رضي الله عنه وشتمه، وما كان

الصديق شتامًا ولا لعانًا ولا معتديًا ولا راميًا للناس بالبهتان، وقد كانا سألاه عن

الصديق فذكره بالخير واستمطر له الرضوان من الرحمن، فلم يعبآ بقوله، ولكن بما

نم عليه الفاسقون، ثم إنه ثبتت براءته عند القاضي الشرعي بعدما لبث في السجن

سبعة عشر يومًا.

هؤلاء الناس يزعمون أنهم على هدى الإسلام، وسنة النبي عليه الصلاة

والسلام، الذي أُمر أن يخاطب عبادة الأصنام، بمثل {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ

فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لَاّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24-

25) ولولا هذه الطريقة الإلهية المثلى لما أَلَّفْتَ قلوبهم

{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ

حَكِيمٌ} (الأنفال: 63) .

هؤلاء المتحمسون المتعصبون وأمثالهم هم الذين فرَّقوا كلمة هذا الدين،

وجعلوا أهله شيعًا حتى صار بأسهم بينهم شديدًا، وذهبت ريحهم، وخبت

مصابيحهم، وتقوضت صياصيهم، وتمكن العدو من نواصيهم، وذاقوا مرارة

الخلاف، وآن لهم أن يعودوا إلى الائتلاف، فعسى أن يكون العلماء أول من يسعى

بجمع كلمة المسلمين ووحدتهم.

***

بعض البدع في زيارة قبور الأولياء

قال العلامة الآلوسي في باب الإشارة من تفسير سورة النور ما نصه: قوله

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا

عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء

أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه

بالاستئناس؛ فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره

ذلك. واطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله

تعالى أسرارهم، فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من

الأدب، ويجمع حواسه، ويعتمد بقلبه طالبًا الإذن، ويجعل شيخه واسطة بينه وبين

الولي المَزُور في ذلك، فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني

فليدخل وإلا فليرجع. وهذا هو المعنيُّ بأدب الزيارة عندهم، ولم نجد ذلك عن أحد

من السلف الصالح، والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي

أحدهم: أأدخل يا أمير المؤمنين، أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.

أو نحو ذلك، ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين، وهو

أيضًا مما لم نعرفه عن أحد من السلف، ولا ذكره فقهاؤنا، وما أظنه إلا بدعة، ولا

يعد فاعله إلا مضحكة للعقلاء، وكون المَزُور حيًّا في قبره لا يستدعي الاستئذان في

الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور،

كما يتأدب معه حيًّا كما لا يخفى.

وقد رأيت بعد كتابتي هذه في (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم)

صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه: قال بعضهم: وينبغي

أن يقف - يعني الزائر - بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء.

انتهى، وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى.

ومنه يُعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم

مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى، فاحفظ ذاك، والله يعصمنا من البدع

وإياك اهـ.

***

الموالد

جاء في جريدة الوطن الغراء تحت هذا العنوان ما نصه:

حضرات القراء أو المشتركين من عوام المسلمين وعلمائهم وفقرائهم

وأغنيائهم، لا تتوهموا أني مسيحي أو إسرائيلي أو بوذي، لا وشرف الإسلام وذويه

ما أنا إلا رجلاً مسلمًا (كذا) أبًا وأمًّا وجدودًا، قد كنت في شبيبتي جاهلاً،

والشباب جنون لا أدري ما هو الدين ولا ما هي الفضيلة، كنت أغضب إذا أرشد

العالم إلى الحقيقة، وأجاري الجهلاء في تسميته (فيلسوف) أي: غير مسلم حسب

زعمهم، مع أن المعنى بضد ذلك، وأفرح وينتعش فؤادي من خزعبلات الجهلاء

التي ما أضر العوام إلا الإصغاء إليها، ولا أوقف الدين في أحرج المواقف إلا

تقاعس العلماء وتركهم هؤلاء الجهلاء يخوضون صفوف الدين، ويهددون حصونه

بترهاتهم الكاذبة حتى مَنَّ الله عليّ بذرة من العقل، وأبلغني من العمر التاسعة

والعشرين، وأرشدني إلى الطريق القويم، فذهبت إلى طنطا في المولد الرحبي هذا

العام، ونظرت الموكب الذي يقوم به رجال الطرق والأشاير نظرة أفقدت حواسي

من شر ما لاقيته من الخرافات التي أفضت بالدين الإسلامي في البلاد المصرية إلى

هذه الدرجة، لقيت اللصوص والمتفقهين يذكرون الله بألسنتهم وعيونهم تتغازل مع

النساء، وأفواههم ترسل واسع التقبيل إليهن.

لقيت الفقهاء يرتلون آيات القرآن في الطريق، لقيت الطبل والزمر يشنفان

الآذان، لقيت المغنيين ينشدون (عزيز حبك) ، و (كان عقلك فين) ، لقيت

النساء حاملات أولادهن على أكفهن خلف المواكب يزغرتن كأن السيد يزف للختان

أو للتأهيل.

هل أصل الموكب يا حضرات العلماء كان كما نراه الآن؟ وهل كانت هذه

الخرافات موجودة فيه في الزمن السابق، أم كان بخلاف ذلك؟ وهل هذه البدع من

ضمن واجبات الدين والسيد محتاج إليها أم لا؟ أسئلة نوجهها إلى حضراتهم

ونرجوهم الإجابة عليها، وعن الباعث لتغاضيهم عن إبطال هذه العادات الخبيثة

حتى نكتفي مؤنة تضاحك الغير علينا ولهم جزيل الفضل اهـ بحروفه.

...

...

...

... إسماعيل يسري

...

...

...

...

...

بالقرشية

***

النعل المعبودة

إن في مقام الشيخ الكلشني المشهور بالولاية نعلاً عتيقة منسوبة لهذا الشيخ،

يعتقد عوام المصريين أن فيها سرًّا عجيبًا، وهي أن نقاعتها تطفئ نار العشق، وتُبَرِّد

حرارة الغرام، وأنها على العاشقين برد وسلام، وأن لها فوائد أخرى، وهي دائمًا

منقوعة في الماء، فيأتي النساء والرجال ويشربون من مائها للتبرك به، ومن كانت

تتهم زوجها أو غير زوجها ممن يهمها شأنهم بالعشق تسقيه شيئًا من هذا الماء ولو

بحيلة لا يشعر بها، كأن تجعل الماء الذي تجتلبه من نقاعة النعل في سقائه أو

تمزجه بشرابه، سمعت هذا من كثيرين، وسأقصد مشاهدته بنفسي إن شاء الله

تعالى، أما كون هذه عبادة فسيأتي بعد.

_________

ص: 116

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تهنئة واستماحة

نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك، وبمناسبة العيد وترك عمال المطبعة

العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة، فنرجوهم السماح.

_________

ص: 116

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وسام الافتخار المرصع

أنعم مولانا السلطان الأعظم أيّده الله تعالى على أخلص المخلصين لذاته الكريمة

عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي الشأن، الذي هو جدير به، فنهنئ

عطوفته بذلك.

_________

ص: 116

الكاتب: محمد عبده

‌الانتقاد

من مقالات مولانا الأستاذ الحكيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده

مفتي الديار المصرية

ما وعظك مثل لائم، وما قوَّمك مثل مقاوم

الانتقاد نفثة من الروح الإلهي في صدور البشر تظهر في مناطقهم سوقًا

للناقص إلى الكمال، وتنبيهًا يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به،

الانتقاد قاصف من اللائمة تتنفس عنه القلوب، وتنفتق به الألسنة لتقريع الناقصين

في أعمالهم، ودفع طلاب الكمال إلى منتهى ما يمكن لهم

جعل الله للحياة قوامًا

وقوام الحياة بالإدراك

إنما الإنسان كون عقلي، سلطان وجوده العقل، فإن صلح السلطان ونفذ حكمه

صلح ذلك الكون وتم أمره، إن الله لم يهمل العقل من ناصرين عزيزين حاذقين

أحدهما له والثاني له وعليه، أما الأول فما قرن الله به من غريزة الميل للأفضل،

والاصطفاء للأمثل، وأما الثاني فما ألزمه الصانع من الانقباض عن الدون،

والنفور عن منازل الهون، فذاك يحدوه وهذا يسوقه، وذاك يزين له الطلب، وهذا

يزعجه إلى الهرب، وكل منازل العقل صعود إلا أدناها فعجز يقف بأهله على

شفير العدم، وكل منزلة بعد الأدنى دنو من الكمال، غير أن ما يسمو إليه العقل،

أشبه بما ينبسط إليه الوجود، يمتد إلى غير نهاية، ويرتفع دون الوقوف عند غاية،

فليس يصل منتجع الكمال إلى مقام إلا ويرمي بطرفه إلى أبعد منه، ومساقط العجز

وبيئة المقام كثيرة الآلام، تستوكرها أفاعي الهموم، وغائلات الغموم، وقد جعلها

الله من وراء العقل كلما التفت إليه راعه هول منظرها فتحفز عنها، إلى منجاة منها،

ولا يزال يزجيه الخوف وتطير به الرغبة حتى يدنو من رفرف السعادة الأعلى.

ولكن كلال البصائر البشرية قد يقف بها عند مظاهر غرارة، وظواهر ختارة

فتخالها طلبتها، وتحسبها منيتها، ولا تدري أن بها هلكتها وفيها منيتها، فمثلها مثل

الطير ينظر إلى الحب المنثور وَيَغْبَى عن الفخ المنصوب، فإذا سقط للالتقاط وقع

في يد الحابل، أو مثل المفترس يلوح له لائح الفريسة ولا يشعر بما أعد له صائده،

فإذا وثب عليها أتاه الصائد من مقتله، وأعجله عن مأكله.

لهذا وكَّل الله بالعقل منبهًا لا يغفل، وحسيبًا لا يمهل، وكالئًا لا ينام، يزعج

الواقف، ويحثحث المتريث، ويمسك الراجف، ما سكن ساكن إلى حال، ولا قنع

قانع بمنال، إلا هتف به: إن ما تطلب أمامك. ولا أوغل موغل فيما لا ينفعه، ولا

أوضع موضع إلى ما يضره إلا صاح به: تعست الجدود، وأضرعت الخدود،

فخفض من سيرك، وقوّم من سيرك وإلا فالذل مقيلك، والهلكة مصيرك. ذلك

الواعظ الحكيم والمؤدب العليم هو (الانتقاد) ينبث في الفؤاد، ثم يتجلى في البيان

على أسلة اللسان، فيفقهه العالمون، ولا يهمله العاملون {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ

النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) أودع في كل ناطق بصرًا بشأن غيره أشد إحاطة

من بصره بشأن نفسه، ومكَّن كلاًّ من تمييز أحوال الآخر حسنها من قبيحها،

وفسادها من صحيحها، ثم دفعه للنطق بما ألهمه، والقضاء بما أحكمه فكان لكل

إنسان أبصار بعدد الناظرين إليه، والعارفين بما عليه عمله، كلها كبصره تريه

الخير فيطلبه، وتكشف له الشر فيجتنبه، وجعل الله الناقدين أقسامًا، فمنهم ناظر

إلى الفضل لا يعدوه فهو يذكر المنقبة، ويغض عن المثلبة، ومن هذا القسم

المفرطون في الوفاء من الأصدقاء، ومنهم رقباء النقائص وجواسيس العيوب

يروون المساءات، ويسكتون عن الحسنات.

وفيهم الحسَّاد، وأهل الأحقاد، ومنهم ناظرون بالعينين، عارفون بالوجهين،

يذكرون للكمال نبله، ويلزمون النقص ويله وهؤلاء في أعلى المنازل، وفيهم

الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، ومن الناقدين

فاسقون يكتمون ما يعرفون، ويهرفون بما لا يعلمون، وهم في أخس المنازل، وليس

في الناس إلا من تجتمع هذه الأقسام له أو عليه، وما جعل الله بشرًا يسلم منها،

ويحرم من بعضها، فكأنها التي قال فيها:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} (مريم: 71)

وكلها صدى صوت الكمال الإلهي الأعلى ينادي الكاملين أن يستزيدوا، والناقصين أن

يستجيدوا.

هل لجاحد أن يصغِّر قدر هذا الحسيب على أي وجه كان حسابه؟ أو لجاهل

أن ينكر حكمة الله في تقييضه لنا؟ أو لواهم أن يذهب إلى أنه ليس من نظام

الفطرة؟ وإني أحيلك على خواطر نفسك إذا بلغك وأنت غربي مثلاً أن ملك الصين

غدر بأحد أوليائه، أو استصفى أموال رعيته، أو كلفهم ما لا يطيقون احتماله، أو

أهمل في مصلحة بلاده، حتى تجرأ عليها أعداؤها، أو جَبُن عن دفع حادث ألمّ به

وكان يستطيع دفعه، ألا ترى من قلبك امتعاضًا عليه ومن نفسك إزراءً بعمله،

وفي لسانك لهجة بلومه وهو منك على بعد المشرقين؟ ولئن وصلت إليك روايات

عدله ورعايته حقوق بلاده، وحفظه لذمامه وجدت إليه من فؤادك ميلاً، ومن رأيك

لعمله استحسانًا، ومن لسانك عليه ثناءً.

ولو شئت حاكمتك إلى مذاهب ميلك عندما تنظر في تاريخ لمن سبقك؛ فإن

مثَّل لك النظر فضلاً في سيرة، أو خزية في جريرة، ألست تجد من ميلك انبساطًا

إلى فواضل الغرر، وانقباضًا عن مخازي العرر، ثم انطلاقًا إلى نشر ما وجدت،

ثم رأيت عضدًا منك لأحدهما كأنه قائم يستنصر فأنت تنصره، وتغيظًا على الآخر

كأنما يدعوك لعونه فأنت تخذله.

لا جرم أن النقد نائرة غريزية تقدح شررها على السابقين واللاحقين، وكل

نقد فحشوه لوم، حتى ما كان منه قاصرًا عند بث المحمدة والإقرار بالفضيلة؛ فإن

حمد الكامل عذل للناقص على التقصير، وإزعاج للمحمود وزجر له عن ملابسة

الإعياء، فكأني وصاحب الثناء يقول: ألا أيها القاعدون انهضوا، ويا أيها

المبرزون اركضوا، واحذروا الوقفة فإنها بداية القهقرى، تلك أقلام الحق، في

ألسنة الخلق، لا يصم عن ندائها إلا أصم، ولا يغبى عن إنذارها إلا أيهم.

على ذلك قام النظام الإنساني فلولا الانتقاد ما شب علم عن نشأته، ولا امتد

ملك عن منبِته، أترى لو أغفل العلماء نقد الآراء وأهملوا البحث في وجوه المزاعم

أكانت تتسع دائرة العلم، وتتجلى الحقائق للفهم، ويعلم المحق من المبطل؟ أو لو

أغمض الأعداء والأولياء عن سياسة السائس، وتدبير الحاكم، وهجروا النظر في

قوة الملك، ولم يقرعوا كل عمل بمقارع النقد، أكانت تستقيم محجة، وتعتدل حجة

وتعظم قوة؟ كلا بل كان يتحكم الغرور، وتتحكم الغفلة، ويعود الصواب خطلاً

والنظام خللاً، تلك سنة الله في الأولين، وهي كذلك في الآخرين.

فالمغبوط في حاله من يستمع قول اللائمين، ويستطلع خواطر المعترضين،

ويتصفح وجوه المنكرين، ذلك روح الحياة فيه يطلب حاجاته، ويتحفظ من آفاته،

وليس فيما يملك الحازمون أنفس لديهم، من الإنحاء عليهم، بما ينبههم إذا غفلوا،

ويعلمهم إذا جهلوا، ويهديهم إذا ضلوا، وينعشهم إذا زلوا، وكما توجد نفائس

الإرشاد هذه عند الأولياء، توجد عند الأعداء، بل هي عند هؤلاء أجود، فإنهم

يرفعون للمعايب أعلامًا بينة حتى لا تعود فيها شبهة لناظر، وأحجى بالعقل أن لا

يمج من الانتقاد شيئًا حتى أكاذيب أهل الضغينة، ورجوم ذوي السخيمة على

مخالفتها للحقيقة؛ فإن أباطيل اللوم تكون للعقل بمنزلة المسالح تقام في الثغور زمن

السلم حذرًا مما عساه يطرقها من عدوان المغيرين عليها، وأقل ما يكون من العاقل

فيها أن يقول: قيل فينا ولم نعمل فكيف بنا لو عملنا؟ فهي إن لم تهده إلى مطلب

ضل عنه، ولم تَرُّد إليه فائتًا كان ينفلت منه، فقد تحفظه من السقوط فيما يجعل

الكذب صدقًا والباطل حقًّا، فمن فسق لسانه، وخالف بيانه جنانه، وجاء يغير

الحق في ثلب غيره، فقد أفسد نفسه لصلاح عدوه، ولله ما يقول بعض الصوفية:

جزى الله الأعداء عنا كل خير فلولاهم ما نزلنا منازل القرب، ولا حللنا حظائر

القدس.

هذا وقد كفر قوم نعمة الانتقاد فظنوا الله فيه عبثًا - نعوذ بالله - فوقروا عنه

آذانهم، وعطَّلوا من ناحيته سمعهم، وجعلوا أصابعهم في صماليخهم [1] ، من صواعق

زجره، وقواصف نهيه وأمره، وضربوا بينهم وبين أهل النقد حجبًا، وأقاموا دونهم

أستارًا، وخيل لهم الجهل أن صممهم عنه يقيهم منه، وأن قبوعهم في أُهُب الغفلة [2]

يدرأ عنهم سهام اللوائم، كأنهم لا يعلمون أن ذلك وقوع في أشد مما خافوا، واندفاع

إلى شر مما رهبوا، فمثلهم كمثل بعض الطيور إذا رأى الصائد غمس رأسه في الماء

ظنًّا منه أنه متى أغمض عن طالبه أغمض الطالب عنه، فيكون بذلك قد يسر للصائد

صيده، وسهل عليه كيده.

ومن ثم تجدهم في عمى عن شؤونهم، وتخبط في أعمالهم قد لزموا خطة من

الهون لو أبصر عقلهم بعض أطرافها لماتوا جزعًا من هول ما فيها، كل ذلك وأسلات

الألسن وأسنة الأقلام لا تألو في تقريعهم، بل وصوت الحق الصريح يناديهم من

عمائق ضمائرهم، بئس ما اشتريتم لأنفسكم لو كنتم تعلمون. وليُّهم عاتب، وعدوهم

عائب، وهم في غفلة من هذا، بل لا يشعرون.

أولئك الذين ختم الله على سمعهم، وطبع على قلوبهم فمرقوا من ناموس

الفطرة الإلهية فهم أموات الأرواح، مضطربو الأشباح، ولا تنشق عنهم قبور

الخمول حتى ينشرهم الله في حياة أخرى يخضعون فيها للأحكام الكونية، ويعملون

على السنن الإلهية، فلينتظروا إنا معهم من المنتظرين.

_________

(1)

الصماليخ: ج صملاخ وصملوخ، وهو داخل خرق الأذن ويطلق على وسخها.

(2)

الأُهُب بضمتين جمع إهاب ككتاب، وهو الجلد الذي لم يدبغ أو أعم.

ص: 121

الكاتب: أحد علماء حلب

‌الطلاق في الإسلام [

1]

إن إباحة تفارق الزوجين هي نقطة متوسطة بين التغالي في الإطلاق

الموجودة في الزنا الذي هو صحبة ساعة، وبين التغالي في القيد الذي هو التزام

عدم انفكاك الاقتران مدى العمر، وحد وسط بين طرفي الإفراط والتفريط كما هو

مشرب المنهج الإسلامي في كل الأمور، وفيه تسهيل للزواج والمناكحات الرادعة

عن الالتجاء للزنا يستصعب الزواج إذا لم يمكن الفراق، وإننا لا ننكر ما في

التفارق من المضار التي ربما تحدث عنه؛ ولكنها لا ترجح عما فيه من المنافع

التي تستلزمه عند الموازنة الصحيحة، ولا يخفى أن ما تساوى طرفاه نفعًا وضررًا

فالشأن فيه الإباحة التي هي الأصل في كل أمر، وجانب الإطلاق مرجح عن جانب

القيد إذا تساويا.

هذا وإن الطلاق كذلك إذا لم يكن لعذر، أو إلجاء ضرورة فليس بمباح تمامًا

كسائر المباحات في الشرع الإسلامي، بل هو من قسم المكروهات التي لا

يستحسنها الشرع الإسلامي، ويُعتبر الطلاق شأن السفهاء؛ لأن الشرع الإسلامي

ينهى عن الجفاء بكل أنواعه، ويحث على الشفقة والإنصاف والمروءة وحفظ الوداد

والعهد، وإنما الطلاق لا بأس به إذا لم يمس بشيء من هذه المذكورات؛ أي: إذا لم

يكن فيه مخالفة للإنصاف والمروءة

إلخ، فلا يكون الطلاق حينئذ إلا كناية عن

فَرَج، ومخرج من ضنك المعيشة التي ربما تحدث بين الزوجين، ولا مناص عنه إلا

بافتراقهما واستغناء كل منهما عن الآخر، أو استعواضه من هو خير له منه؛ إذ

ربما يبقيان على كره منهما أو أحدهما، فيكون نكد العيش الدائم لولا الطلاق.

أترى إذا كان الرجل عنينًا والمرأة شابة حسناء، وصار هو يحب الانفراد

والانزواء، وصارت هي تميل لإتيان ما تأتي النساء، ولم يكن لأحدهما حاجة

بالآخر، فعلام نلزمها بالتزام ما لا يلزمهما من الحجر الدائم عن مبتغاها؟ أرأيت

إذا تباغضا لأسباب ما؛ فعلام نلزم كلاًّ منهما بالتزام صحبة بغيضة مدى عمره؟

أرأيت إذا علم الرجل أن امرأته زانية وأراد أن يفارقها بدون أن يفضحها، ويثبت

عليها ما يخل بشرفها، أرأيت إذا عجز عن إثبات ما علمه من إتيانها الزنا فكيف

نجبره على هذا الضيم؟ ولقد رأينا كثيرًا في بلادنا ممن يتدينون بتحريم المفارقة

بدون ثبوت الزنا، يعلمون الزنا من نسائهم ولا يقدرون على إثبات ما علموه،

فيمكثون على هذا الضيم مدى عمرهم، كاتمين غيظهم بالرغم عنهم، فلمثل هذه

الحكم إباحة الطلاق لا لأجل محض الشهوة.

ولذلك لا ترى من أهل الإسلام المتربين على فضائل الأخلاق الإسلامية من

يطلق زوجته لغير عذر مقبول من مثل هذه الأعذار، فإن قيل: (فعلى هذا ينبغي أن

يكون إبطال عقد الزواج متوقفًا على رضا كل من الطرفين معًا كسائر العقود، أو بيد

كل منهما؛ فأيهما لم يطب عيشه لدى صاحبه يفارقه، لا أن يكون الرجل هو المالك

لذلك دون المرأة) فنقول: ليست أصول تفارق الزوجين في نظام الإسلام كما يتوهمه

الغالط، بل إن تفارق الزوجين إما أن يكون بإبطال عقد الزوجية وفسخ المقاولة بحيث

يرد كل منهما ما تملكه بالعقد، فتسترد المرأة ما ملكته للرجل من إباحة نفسها له دومًا

واختصاصه بها، ويسترد الرجل ما جعل لها من المال بمقابلة هذه الإباحة الدائمة كله

أو بعضه بحسب ما يتراضيان عليه حين التفاسخ، فهذا التفارق بالتفاسخ يتوقف على

رضاء الطرفين كسائر العقود ويسمى هذا النوع بالخلع أو المخالعة، وإما أن يكون

تفارق الزوجين على صورة الطلاق، وهي أن يترك الرجل حق استباحته الدائمة

للمرأة مع استكمال المرأة كل ما جعل وشرط لها من المال والنقد، فهذا أمر موكول

للزوج إلا إذا شرط في أصل عقد الزواج بينهما أن يكون للمرأة أيضًا حق تطليق

نفسها من الزوج، فيراعى هذا الشرط.

وحينئذ متى شاءت طلقت نفسها واستردت تمليك بُضعها الدائم لزوجها بدون

أن يسترد هو شيئًا، أو أن يمتنع عن تأدية ما شرط لها حين العقد، وبذلك تعلم أن

أصول المفارقة بين الزوجين منظور فيها لصورة أصل عقد الازدواج وصورة

نقضه وانفكاكه، وأن ما شرط في أصل العقد مرعي وليس للزوج إلا الرجحانية

على المرأة بأنه إذا لم يشترط في العقد شيء كان أمر الطلاق بيده دونها، وحيث

كان هذا أمرًا معلومًا مشهورًا بين سائر أفراد الملة الإسلامية، فيمكن لكل امرأة أن

تشترط في زواجها أن يكون أمر طلاقها بيدها، فتساوي الرجل في هذا الاستحقاق؛

وإنما كان أكثر النساء لا يشترطن ذلك لعدم الثقة منهن أن يتثبتن كتثبت الرجال

على محافظة بقاء الزوجية؛ لأنهن بمقتضى تركيبهن الطبيعي أقل احتمالاً وتصبرًا

وأشد خفة وطيشًا من الرجال، وأسرع تأثرًا بالغضب لرقة بشرتهن ونقاوة عصبهن،

وكثيرًا ما يستفزهن الغضب من سبب جزئي لإيقاع الطلاق بدون استيجاب السبب

له، فيوقعن الطلاق في حال استيلاء الحدة عليهن، ثم يندمن على ما فرط منهن،

فلو اُشترط الطلاق لهن دائمًا لفشا وقوعه، وكثر توقعه، مع أن كثرة وقوعه بغير

السبب الداعي يستوجب الندامة، وكثرة توقعه مخل بانتظام الراحة والتئام الألفة

الروحية، وهو متوقع من جانبهن أكثر من توقعه من جانب الرجال.

ولذلك كانت الأرجحية للرجل على المرأة في الطلاق بأن الأصل فيه أن يكون

بيده دونها إذا جرى العقد على غير اشتراط شيء، وللمرأة ما يقابل هذه الرجحانية

التي للرجل، وهي كون المهر الذي هو كالثمن يلزم من جانبه لها لا من جانبها له،

وكذلك كل ما يقضي لها من النفقة أسوة أمثالها والمصارف البيتية عائدة عليه دون

أن تكلف هي بأدنى شيء، حتى إن عليها أن يقدم لها الطعام مطبوخًا مهيئًا بدون

أن تتكلف بطبخه، وليس له أن يكلفها بشيء من الخدم الشاقة أو السافلة مع أنه

مكلف بتكبد المشاق في سبيل الكسب لأجل النفقة عليها إلا إن سامحته ببعض نفقتها

أو سايرته بالتزام ما لا يلزمها من بعض خدمتها، وعليه كل نفقة ما يولد لهما من

الأولاد حتى ليس له أن يجبرها على إرضاع ولدها، بل عليه أن يستأجر له

مرضعًا غيرها إذا امتنعت هي عن إرضاعه.

ولا يخفى أن الأرجحية التي أعطيت للمرأة هي الأنسب بضعفها، والأرجحية

التي أعطيت للرجال هي الأنسب بقوة تثبتهم، لا سيما وأنه قد دفع المهر الأول،

ثم يلزمه عند المفارقة دفع المهر المؤخر، فقل أن يسمح الرجل بتضييع هذه

الأموال التي يدفعها في المهر الأول والمهر الثاني بدون سبب ملجئ وداع قوي،

وحيث كان الأصل في نظام الزوجية أن يدفع الرجل للمرأة ما يرضيها من المهر

أسوة أمثالها، وأن يشترط لها عند المفارقة مهرًا ثانيًا كان الأصل في المفارقة التي

تقتضي خسارته في هذه الأموال دونها أن تكون موكولة إليه، ولا يخفى على

المنصف المتبصر مناسبة الأصلين في الجانبين ولياقتهما بحال الطرفين، فلا يقال:

لماذا لم يكن الأصل في الزواج أن يكون المهر من المرأة والرجحانية لها في أمر

المفارقة؟ أو أن يكون بدون مهر ولا رجحانية لأحدهما على الآخر في شأن الطلاق،

بل أي منهما أراد الطلاق أوقعه؛ لأن المرأة إذا ملكت أمر الطلاق كذلك أكثرت

إيقاعه رغمًا عن الزوج، وليس كذلك الرجل، ولذلك لا تكاد ترى من يطلق زوجته

إلا بعد نفورها، وطلبها الطلاق، أو تسببها له، كما أن الرجل بحسب ما فيه من

زيادة الاستعداد الطبيعي للكسب ينبغي أن يكون هو المعيل للمرأة، فلذلك كان عليه

المهر والنفقة.

نعم قد يكون الأنسب بحال الطرفين بالنسبة لبعض الأفراد مخالفة هذا الأصل،

وحينئذ يمكن الجري على خلافه بواسطة الاشتراط؛ وإنما كان هذا الأصل بالنظر

لما هو الأصلح بالنسبة لحال الأكثر، ثم إن من لم تشترط الطلاق لنفسها، ولا

يمكنها مفارقة زوجها عن أمرها إذا ظلمها حقها بعدم إيفاء ما يترتب عليه لها، أو

كلفها فوق ما يترتب له عليها ترفع أمرها للحاكم، فينهى الزوج، فإن لم ينته يجبره

على طلاقها، أو يفرق بينهما مع تغريم الرجل كل ما أعطاه وشرطه لها حين العقد،

فيكون حكمها كحكم من اشترطت الطلاق لنفسها فلا يتمكن الرجل من ظلم المرأة،

ولا المرأة من ظلم الرجل ولا يجبران على ضيم بكل حال، ثم إنهما مهما تفارقا

فلهما أن يتلافيا ما فرط منهما ويتراجعا اهـ. بالحرف.

(المنار)

نشرنا المقالة بحروفها على ما فيها من الخطأ اللغوي لما هي عليه من الصواب

والسداد في المعنى والإبانة عن محاسن الحنيفية السمحة. لله در كاتبها الفاضل، وقد

كنا نتذاكر في مسألة الطلاق مع صاحب الدولة رياض باشا فقال: زاد علينا الإفرنج

المنتقدون في التوسع بالطلاق؛ حتى قرروا أخيرًا أن يستقل به كل من الرجل والمرأة

بعدما كان مشروطًا عندهم باتفاقهما.

_________

(1)

المقالة لأحد علماء حلب وجاءت في رسالة مكاتب المؤيد في الآستانة العلية.

ص: 127

الكاتب: كمال الدين المرغناني

‌الفقه الإسلامي

كتب بعض الشيوخ من أهل العلم الواقفين على أحوال العصر المتألمين من

تأخر المسلمين وضعفهم مكتوبًا مطولاً إلى صديق له في القاهرة ينتقد فيه كتب العلم

الإسلامية كلها، ويبرِّئ الدين من الفنون المنسوبة إليه كالكلام وأصول الفقه وفروعه،

ويقول: إنها كلها علوم ضارة ذهبت ببساطة الدين وسهولته، وشغلت عن علوم

الدنيا التي تعطي أصحابها القوة والعزة. فكتب إليه صديقه وهو من الكتاب الفضلاء

الباحثين في الشؤون الإسلامية مكتوبًا رد فيه بعض ما جاء في المكتوب، وسلَّم

بالبعض، فأحببنا أن يطلع علماؤنا لا سيما أهل الأزهر الشريف على بعض ما يدور

بين نبهاء المسلمين من البحث؛ ليعلموا بالإجمال أن صراخنا ونداءنا إياهم طالبين

إصلاح كتب التعليم وطريقته في غاية الاعتدال، فاخترنا الجواب؛ لأن صاحبه لم

يغلُ فيه غُلوّ الأول في الإنكار، وإن كان لا يخلو مما ينكره عليه الفقهاء وها هو

بحروفه:

كتابك أيها الفاضل ينبئ عن توغل الفكر في مرامي بعيدة مدى الغاية، وما

استخرجه من الحقائق من خبايا التاريخ أمور يوافقك على بعضها أخوك، وبعضها

نظريات تحتاج إلى دقيق تأمل ويضيق عن الإلمام بأطراف المناقشة فيها هذا الكتاب،

فأرى إرجاءها إلى فرصة الاجتماع - إذا تيسّر - أَوْلى.

وإنما هناك مسألة أحب أن لا يفوتني الآن النظر فيها رغبة في تعديل ما في

نفسك من جهتها وإيقافًا لك على فكري الصراح فيها، عسانا نجمع طرفي الرأي

إلى دائرة واحدة نتلاقى فيها عند نقطة الحقيقة التي لا خلاف فيها.

ذهبت إلى أن علم الفروع إنما هو مجموع قوانين وضعها البلخية والكرخية

إلخ من سميت، وأن هذه القوانين ليست من علوم الدين، وربما حملتها على محمل ما

سردت من العلوم التي رأيتها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، وأرى في هذا مغالاة

في الفكر فيها نظر يظهر لك ظهورًا جليًّا فيما يلي:

أنا أعتقد وأنت تعتقد أن لا بد لكل أمة قذفت بنفسها إلى مضمار الحياة من

قانون جامع لجزئيات الحوادث تحفظ به نظامها، وتمهد سبل الترقي لمجتمعها،

والإسلام وإن جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية والحياة الاجتماعية، إلا أن ما

جاء به إنما هو قواعد كلية، وليس من شأنه وشأن الأديان عامة أن تحيط

بالجزئيات التي لا تتناهى في جانب الترقي والاجتماع؛ وإنما كانت الإحاطة

بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل من الأمة؛ في وضعها عند الحاجة،

وإرجاعها إلى تلك القواعد والأصول على طرق معروفة اصطلح عليها علماء

الأصول من المسلمين، وقد فعل علماؤنا ما يجب عليهم من هذا القبيل وأحاطوا

بكثير من الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم منها من تحديد

بعض العقوبات، وترتيب المحاكمات، والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق

الشخصية تفريقًا يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة خصمًا

وحكمًا فيها في آن واحد، ولهذا أسباب كثيرة لا يسهل بيانها إلا بعد معاناة صعوبة

الاستقصاء، وليس هذا محله.

هذا والحق أولى أن يقال ويتبع، ومثلك أيها الصديق مَنِ انقاد للحق وظَاهَرَ

أهله؛ فإن علماءنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين يكاد

لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها، إلا أنه مشوش بكثرة ما

اختلفوا فيه حتى على المسألة الواحدة، ومنشأ هذا على ما أرى انفراد الآحاد

بالتشريع [1] حتى من المخرجين والمرجحين، بحيث يجوز الواحد منهم ما يمنعه

الآخر وبالعكس، وسببه التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى

يتناولها من شاء، ومن ليس بمعصوم من الأفراد، وهي السلطة العظيمة التي لم

تسلمها أمة متمدنة قبل المسلمين للآحاد منفردين قط؛ وإنما كانت تُسَلَّم إلى ثقات كل

أمة مجتمعين لا منفردين.

لو فهم المسلمون منذ استفحل أمرهم وعظمت للقوانين الجامعة لفروع

الحوادث حاجتهم معنى ما يسمى عند علمائهم الإجماع، وأن من قواعد دينهم الكلية

التكافل العام على مصالحهم العامة، وأن كل مصالحهم في الحقيقة إنما هي مرتبطة

بأُسّ المصالح وحياة الوجود ألا وهو القانون الكافل لراحة الجميع وسعادتهم -

لاستفادوا من هذا إلى الآن فوائد لا يستقصيها العقل، ولما تركوا أمر القوانين

فوضى لا يعتمد فيه إلا على قال فلان وأفتى بخلافه فلان، بل لكانوا عهدوا بتفريع

الأحكام واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس

الحاجة في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان.

ولكن لمّا لم يفهموا هذه القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين؛ هل

يجوز تركهم هملاً؟ كلا لا يجوز. إذن فوضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع الذي

ذهبت إلى أنه مجموع قوانين وضعها فلان وفلان لازم، وهم المتفضلون ودهماء

المسلمين هم الملومون.

ولا يخفى على فهمك أن تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد ليس فيه من

حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما شاء من

الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك، وهو الأحوط أيضًا في الدين

والدنيا، والفرق بين ما يضعه الواحد وبين ما يضعه الجمع عظيم جدًّا لا يخفى

على بصير؛ إذ إن ما يشعر به الواحد في نفسه من الحاجة أو يبلغه من العلم قد

يشعر الآخر بخلافه أو يحيط بما لا يحيط به ذاك، ولا تتمحص حقيقة الحاجة

العامة إلا باشتراك جماعة عظيمة بمثل هذا الشعور، واحتكاك الأفكار بطول

التجارب لهذا، ولكي يعلِّمنا الله سبحانه وتعالى فائدة تبادل الفكر وأصول الشورى

خصوصًا في المصالح العامة - أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باستشارة

أصحابه بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) أي: في

الشأن، وهذا أمر، والأصل فيه الوجوب كما قرره الأصوليون، ويتلو هذا في مرتبة

التعليم حديث التأبير المشهور وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبروا فأنتم

أدرى بأمر دنياكم) .

من هذا نعلم الفرق بين ما تمحصه العقول من الأمور ذات الشأن فلا تصدر

إلا عن علم الجميع بمصلحتهم عامة، وعلم كل فرد بمصلحته المستمدة من تلك

خاصة، فما بالك به في التشريع خصوصًا، وأن الإجماع فيه يدعو إلى ارتباط

الأحكام برباط الاتفاق عليها من جمهور المتشرعين، والعمل بها عند سائر الناس،

ويندفع بهذا خطر الفوضى القانونية التي يتخبط فيها المسلمون منذ أجيال كثيرة؛

لكثرة الخلاف بين الأئمة والمخرجين من علماء كل مذهب على مسائل المعاملات،

فضلاً عن العبادات، وما أراني إلا معترفًا لك بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام

المعاملات بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت، وباضطراب

اعتقادك بفوائدها نوهت.

وأما ما قلته من أن علم الفروع ليس من علوم الدين، وإنما هو مجموع

قوانين وضعها المتقدمون، فليس ذلك كذلك، بل رأيي فيه أنه من علوم الدين

باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه داخل تحت

حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث حدثت بعد

للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين.

والذي أراه أن إطلاق علم الدين على الفروع لازم من لوازم البقاء والاستمرار

لأحكام الإسلام، وباعث على احترام هذا العلم احترامًا ينفع المسلمين كما ينفع كل

أمة تحترم الشرائع والقوانين، وإذا حملته على محمل ما ذكرته من العلوم من حيث

كونك تراها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، فيكفي في تعديل فكرك من هذا

القبيل إمعان نظرك فيما سبق بسطه لديك لتعلم - وأنت أعلم به - مني أن مسوغ

الاجتهاد الذي هو تشريع في الفروع ميسور لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة

الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من العصور، ومنه يتضح لديك تيسر جعل

الفروع موافقة لحالة كل زمان ومكان إذا نهض أهل العلم والفضل للنظر في هذا

الأمر، وشرعوا بوضع كتب خاصة بأحكام المعاملات يتفق على اعتبارها دستورًا

للعمل جمهور أهل المذاهب، وهذا وإن كان يتوقف على ما يسمونه التلفيق إلا أنه

لا يمنع من التوفيق؛ لأن التلفيق جائز عند فقهائنا في العبادات فما بالك به في

المعاملات.

لا جرم أن علماءنا في هذا بين أمرين كلاهما لا يمنع من تحرير علم الفروع

وجعله صالحًا لحالة الزمان والمكان؛ وذلك أنهم إما أن يعتبروا أن كل ما حرَّره

الأئمة وقرروه هو من الدين الذي هو حق لا ريب فيه، فيلزمهم في هذه الحالة

التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة

لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب خاص ليس فيه أدنى شائبة من

مثارات الخلاف؛ ليكون أشبه بقانون عام شامل لسائر حاجات الاجتماع يعمل به

المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما حرره الأئمة من الدين، بل

يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة اختلافهم في الأحكام منعًا

وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال يجوز لهم الاجتهاد كما

جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا في العصر مراعى

فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع فيها الآن من ضروريات

الحياة الاجتماعية، وعليها بُني ترقي الحكومات والأمم الغربية ترقيًا لم تكن تحلم

به الأمم من قبل، لا سيما وأن الذي جوَّز للسلف التوسع في الأمور السياسية عندما

مست الحاجة إليها حتى وضعوا لها كتبًا خاصة مستندة إلى أصول الشريعة كالأحكام

السلطانية والخراج وغيرها، يجوز للخلف التوسع فيما تمس إليه الحاجة الآن

وتقتضي التوسع فيه حالة الزمان.

على أن الشعور بالحاجة إلى إصلاح أمر القوانين الاجتماعية عند المسلمين قد

دب في العقلاء دبيب البرء في الأطراف، ولا بد أن يعم سائر الجسم، فنرجو الله

سبحانه وتعالى أن ينبه علماءنا الكرام إلى تلافي أمر هذه الحاجة صونًا لعلم الفروع

من أن يُهْجَر، وحرصًا على علوم الشريعة من أن تصبح العناية بها أقل من العناية

بالقوانين الوضعية التي ألجأت الحاجة بعض الحكومات الإسلامية إلى استعمالها

دون القوانين الأساسية، ويراها بعضهم أجمع لحاجات الاجتماع، وهي وإن لم تكن

كذلك ألبتة إلا أنها بسلامتها من مثارات الاختلاف وتقيد الحاكم والمحكوم بقيود

خاصة منها لا تترك مجالاً للرأي، ومكانًا للقيل والقال - قد جعلت الرغبة إليها أميل

والطريق إلى انتظام الشؤون العامة بها أسد.

هذا فكري في النقطة التي اخترت أن أتجاذب وإياك أطراف البحث فيها الآن،

وقد رأيت ما احتاج إليه النظر فيها من التطويل الممل، فلو تناول البحث سائر ما

في كتابك لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير، فالله نسأل أن يوفقنا وإياك لخدمة الأمة

والدين ويجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم آمين.

(المنار) :

إن كثرة الخلاف في الفقه، والاضطراب في التصحيح والترجيح المؤدي إلى

الاختلاف في الفتوى والقضاء، وما في هذا من الضرر واختلال المصالح، ثم ما

في كتب الفقه من الصعوبة في الترتيب والتبويب، كل ذلك أشعر المسلمين من

زمن بعيد إلى الحاجة إلى إصلاح كتب الفقه ووضع كتاب، أو كتب في الأقوال

السديدة التي تنطبق على مصلحة الأمة في هذا العصر على وجه قريب التناول

سهل الفهم، ثم قوي الفكر في الإصلاح حتى انتهى إلى القول بأن كتب الفقه التي

بين أيدينا مضرة، وأن أكثر ما فيها من مخترعات عقول الناس الذين أكثرهم من

الأعاجم، كما جاء في كتاب الشيخ المردود عليه بهذا الجواب.

وأكثر المعتدلين في الشرق والغرب على الوجه الأول، وقد كتب إلينا بعض

الفضلاء في الجزائر من مدة بما يأتي:

رأيت مقالة تناسب مشرب مجلتكم المفيدة، فأحببت أن أبعث بها إليكم

لتدرجوها فيها إن شئتم بعد تمهيد ترتبط به:

في الجزء الثاني صفحة 24 من رحلة العلامة الشهير المرحوم الشيخ أبي

سالم عبد الله العياشي المسماة بماء الموائد المطبوعة في حاضرة فاس أواسط جمادى

الثانية عام 1316 ما نصه:

(إني كنت أود لو أن الله قيض لهذه الأمة من يجمع أربعة من محققي علماء

كل مذهب من هذه المذاهب الأربعة الموجودة، ويختار لكل واحد جماعة من أهل

مذهبه يستعين بهم في المطالعة وتحقيق ما يشكل عليه من فروع الديانات، فيأمر

الأربعة بالاجتماع في محل واحد في وقت مخصوص من ليل أو نهار بقصد تأليف

ديوان في فروع الفقه، ويتخذ لهم كُتَّابًا مهرة يستعينون بهم، ويجري على الجميع من

الجرايات ما يكون سببًا لفراغ بالهم لما هم بصدده، وبعد مراجعة كل واحد منهم مع

أصحابه ما يحتاج إليه من كتب مذهبه في المحل الذي يؤلفون فيه - يجتمعون،

فيتتبعون فروع الديانات الجزئيات من أول مسألة مدونة في الفقه على قدر طاقتهم

إلى آخرها، فيذكر كل واحد مشهور مذهبه في كل نازلة، فإذا علموا مشهور

المذاهب في كل مسألة مسألة نظر من تصدى للكتابة والتأليف عندهم إلى المسائل

المتفق عليها بينهم، فأثبتها ولا يحكي شيئًا من الخلاف فيها، ثم المسائل المختلف

فيها يقتصر فيها على قول ثلاثة منهم إن اجتمعوا، ويحذف قول الرابع، ثم إن قال

اثنان بقول واثنان بقول جعلها ذات قولين مشهورين، ثم إن تباينت آراؤهم في

النازلة وهو قليل حكاها بلا تشهير، وتكون مسألة خلاف ويقدم ما كان منها مستندًا

إلى كتاب، ثم ما استند إلى سنة، ثم ما استند إلى أثر صحابي قوي، ثم ما أخذ من

الاجتهاد، فإذا أُلِّف الديوان على هذا الوصف، وحمل الناس على اتِّباعه - كان أقرب

لضبط الانتشار الواقع الآن، وكثرة الخلاف الواقع بين أهل المذاهب والتعصبات

الفاحشة المؤدية إلى تضليل بعضهم بعضًا

إلخ، انتهى ما تعلق بنقله الغرض

بنصه وفصه.

...

...

...

... كمال الدين المرغناني

من الجزائر في 23 من شوال سنة 1318

(المنار)

أما رأينا في الفقه فموافق لما جاء في المحاورة بين المصلح والمقلد، وقد

ضاق عنها هذا الجزء وما قبله، وستُنشر في الجزء الآتي إن شاء الله.

_________

(1)

حيثما جاء التشريع هنا فالمراد به التفريع فاحترس.

ص: 132

الكاتب: محمد رشيد رضا

(الدرس 19)

الحاجة إلى الوحي والنبوة

بيَّنا وجه حاجة الإنسان إلى الوحي لسعادته في الحياة الدنيا، من حيث إنه

نوع اجتماعي أودع في طبيعة أفراده من الرغائب والحظوظ ما يقتضي التباين

والتنازع، كما أُودِع فيها من حب الاجتماع والعجز عن تحصيل معظم ما تطالبها به

الفطرة ما يدعو إلى التعاون، الذي يعارضه التخالف والتغابن، ولا يتم للنوع

ارتقاؤه - بل ولا بقاؤه - مع هذه الغرائز المتعارضة؛ فمن ثَمَّ كان محتاجًا إلى إرشاد

يوافق بين آثار هذه الغرائز وعوارضها، بما يذهب بتعارضها، ويعرف كل فرد من

الأفراد حدّه، ويجعل له من نفسه وازعًا يوقفه عنده، ولم تكمل له هذه الحاجة إلا

بالدين.

ويرد على هذا القول ثلاث شبهات إحداها: أن الإنسان لا يتربى إلا بالكون وما

يعرض عليه من شؤونه وأطواره، فالذي تثبت له الوقائع الكونية أنه ضار يرغب

عنه ويجتنبه، والذي تثبت له أنه نافع يرغب فيه ويجتلبه، ولذلك لم تنتفع الأمم

والشعوب بهدي الأديان، إلا بمقدار ما أعدتها له الأكوان، وقد أجبنا عن هذه الشبهة

في الدرس السابق من غير أن نقررها، ولم يكن الجواب ناقضًا لمسألة الاستعداد، فقد

ورد أن الأنبياء أُمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وما منح الله تعالى الإنسان

الدين إلا بعدما ارتقى استعداده لفهمه {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ

وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213)

إلخ.

وقد ارتقى هدي الدين وإرشاده بارتقاء الإنسان حتى كمل بالإسلام على ما

بينه أستاذنا الأكبر في رسالته، وسيرتقي أهله وهم العالم الإنساني كله بالنسبة إلى

الدعوة حتى يفهموه حق فهمه، وذلك بعدما ترتقي علوم الفطرة والطبيعة أكمل

ارتقاء كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ

الحَقُّ} (فصلت: 53) .

الشبهة الثانية: هي أن الحكماء والعقلاء يمكنهم أن يضعوا للناس قوانين

وحدودًا تغنيهم عن الوحي والشرائع السماوية، والجواب عنها أنه إذا فرض أن في

استطاعة الحكماء أن يستقلوا بهذا الوضع، فهل في استطاعتهم أن يحملوا الناس

جميعًا على قبوله والعمل به بغير وازع الدين؟ فإن قيل: إن الحكماء يضعون

القوانين والحكام يلزمون الناس بالعمل بها؛ نقول:

لا ترجع الأنفس عن غيها

ما لم يكن منها لها زاجر

والوازع الدين وازع نفسي؛ لأن مبدأ الدين من الإلهامات الفطرية في نفوس

البشر، وأما وازع القوة فلا سلطان له إلا على الظواهر، فمتى أمن أهل البغي

والتعدي من اطِّلاع الحاكمين يرتكبون ما شاء البغي، ويجترحون ما أحبت الشهوة من

التعدي على الأموال والأعراض وراء الحجب والأستار، وحيث لا تمتد أعين

الشهداء ولا تصل معارف القضاة والأمراء، ثم إن القضاة والحكام أنفسهم إذا كانوا

على غير دين ينتهكون الحرمات، ويقترفون السيئات، ويساعدون الجناة ويشاركون

الجباة.

والحاصل أن الإنسان لا يستغني في حياته الاجتماعية عن حدود عادلة يقف

أفراده عندها في معاملتهم ومعاشرتهم، وأن هذه الحدود لا تُحْتَرم ويوقف عندها،

إلا إذا كانت على موافقتها للمصلحة العامة مضافة إلى تلك السلطة الغيبية التي فُطِر

الناس على الاعتقاد بها والخضوع لها، وهذا عين حاجتهم إلى الوحي لسعادة الدنيا،

وقد تقدم المثال العملي في إثبات هذه النظرية في الدرس السابق.

الشبهة الثالثة: لقائل أن يقول: إن أمم أوربا التي تحكم بالقوانين الوضعية،

هي أسعد من الأمة الإسلامية، وإن الحكومات الإسلامية التي أخذت ببعض هذه

القوانين كمصر والدولة العلية أحسن حالاً ممن لم يأخذ بشيء منها كحكومة مراكش.

والجواب يعرف مما كتبناه في الدرس الماضي من المقابلة بين المسلمين في

نشأتهم الأولى، وبين الأوربيين في نهايتهم، مع أنهم لم يمرقوا كلهم من الدين الذي

بني على وجوب طاعة الحكام، وقد صرحنا مرارًا أن المسلمين صاروا حجة على

دينهم، بل قلنا في المقابلة المذكورة: إنهم حجة من لا دين له على كل دين.

(المسألة 56) :

الحاجة إلى الوحي لسعادة الآخرة: خلق الله للإنسان حواس ومشاعر،

ووهبه عقلاً وفكرًا يهتدي به إلى مصالحه ومنافعه في الدنيا كما قال: {أَعْطَى كُلَّ

شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) وعلمنا أن هذه المواهب لم تكن كافية له

لسعادته الدنيوية، لولا الدين؛ فما بالك بحياته الأخرى الغيبية التي يقصر عن

تناولها حسه، ولا يحيط بشيء من كنهها عقله، وإنما يشعر بها وجدانه شعورًا

مجملاً مبهمًا؟ وقد بيَّن أستاذنا في (رسالة التوحيد) هذا الشعور أحسن

بيان، واستنتج منه وجه الحاجة إلى الوحي بأجلى برهان، والأفضل أن نقتبسه

بلفظه ومعناه؛ لئلا يضيع شيء من فحواه، قال حفظه الله:

اتفقت كلمة البشر موحدين ووثنيين مليين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم وزن

على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء،

وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في

تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق

الاستدلال عليه؛ فمِن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومِن

ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال:

إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذتها، أو ما به

شقوتها. ومنهم من رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية،

وكان اختلاف المذاهب في كنه السعادة والشقاء الأخرويين وفيما هو متاع الحياة

الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم، وتضارب آراء الأمم

فيه قديمًا وحديثًا مما لا تكاد تحصى وجوهه.

هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة المنبث في جميع الأنفس عالمها

وجاهلها، وحشيها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن

يكون ضلة عقلية أو نزغة وهمية؛ وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا

النوع، فكما أُلْهِم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا، وإن

شذ أفراد منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى

أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا أن لا

وجود للعالم إلا في اختراع الخيال، وأنهم شاكون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن

شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما

ركن الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول، وأشعرت

النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان

ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقيًا في طور آخر،

وإن لم يدرك كنهه، ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء يُشْعِر كل نفس أنها

مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة شيقة إلى لذائذ غير

محدودة، ولا واقفة عند غاية مهيئة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب

والغايات، معرضة لآلام من الشهوات، ونزعات الأهواء، ونزوات الأمراض على

الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عد

ولا تنتهي عند حد، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع إنما

قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل الجزاف،

فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن

يكون بقاؤه قاصرًا على أيام أو سنين معدودات.

شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي وما عسى أن تكون عليه

متى وصلت إليه، وكيف الاهتداء وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز الدليل؟

شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم يكفنا

في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد وقضاء

الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان،

وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب لا ندري

متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة لا نعلم متى ننتهي إليها.

هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم

بما في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد معالم نهتدي بها إلى الغائب؟

وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها،

وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها؛ ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما

أعد له فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه أو إلى

معرفة بيد من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى

اليقين بمناطها من الاعتقادات والأعمال وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في

غاية الغموض بالنسبة إليك؟ كلا، فإن الصلة بين العالمين تكون منقطعةً إلا فيك

أنت، فالنظر في المعلومات الحاضرة، لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم

المستقبلة.

أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد

والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب

للتراسل، أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدلها بمحض فضله بعض

من يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ

بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون

سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته

وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه،

ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين نهاية الشاهد، وبداية الغائب،

فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها،

ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته

الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قُدِّر أن يكون له مدخل في سعادتهم

الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه

بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة

تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم ما هو مناط سعادتهم

وشقائهم في ذلك الكون المُغَيَّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق

ضمائرهم في إجماله، وتدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة

وباطنة، ثم تؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات حتى تقوم بهم الحجة ويتم

الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين؟

لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد

على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرًا ولا جليلاً من خلقه

يكونون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام

المواهب التي اختص بها غيره أن ينقذه من حيرته ويخلصه من التخبط في أهم

حياتيه، والضلال في أفضل حاليه.

يقول قائل: ولِم لمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها

الانقياد إلى العمل وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا

النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل

والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنساني، ذلك النوع على ما به وما دخل

في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب

الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه، وأن

يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات

لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيوانًا آخر كالنحل والنمل، أو ملكًا من الملائكة

ليس من سكان هذه الأرض) اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 140

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العشق وحرية العرب

دخل يزيد بن معاوية على أبيه في أيام حكمه مستأذنًا بقتل أبي دَهْبَل وهب بن

زمعة الجمحي؛ لأنه أكثر التغزل في أخته عاتكة، واشتهر بعشقها، وسارت

بأشعاره الركبان، وتغنى بها الناس، فقال معاوية: وماذا قال؟ فأنشده يزيد أبياتًا من

قصيدة أبي دهبل النونية وهي:

طال ليلي وبت كالمجنون

ومللت الثواء في جيرون

وأطلت المقام بالشام حتى

ظن أهلي مرجمات الظنون

فبكت خشيت التفرق جُمْل

كبكاء القرين إثر القرين

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ

اص ميزت من جوهر مكنون

وإذا ما نسبتها لم تجدها

في سناء من المكارم دون

فلما أنشد هذا البيت وما قبله، قال له معاوية في إثر كل واحد منهما: هي كذلك

يا بني، ولقد صدق. فلما أنشد:

ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ

راء تمشي في مرمر مسنون

قال معاوية: كذب في هذه يا بني. وبعد البيت:

قبة من مراجل ضربوها

عند برد الشتاء في قيطون

عن يساري إذا دخلت من البا

ب وإن كنت خارجًا عن يميني

ولقد قلت إذ تطاول سقمي

وتقلبت ليلتي في فنون

ليت شعري أمن هوى طار نومي

أم براني الباري قصير الجفون

وهذا البيت من الحسن بالمكان الذي تراه.

وعزم معاوية أن يكلم أبا دهبل في الأمر، فتربص به حلمه حتى إذا كان في

يوم جمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل، فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل

الخروج فامنعه واردده إلي، وجعل الناس يسلمون وينصرفون، فقام أبو دهبل

ينصرف، فناداه معاوية: يا أبا دهبل إلي. فلما دنا إليه أجلسه حتى خلا به، ثم قال

له: ما كنت ظننت أن في قريش أشعر منك حيث تقول: (ولقد قلت إذ تطاول

سقمي) إلى آخر البيتين، غير أنك قلت: هي (زهراء) - البيت والذي بعده -،

والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت، وأي

شيء زدت في قدرها؟ ولقد أسأت في قولك: (ثم خاصرتها) البيت. فقال: والله يا

أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قيل على لساني. فقال له معاوية: أما من جهتي فلا

خوف عليك؛ لأنني أعلم صيانة ابنتي نفسها، وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن

يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه، وكل من لم يجز، وإنما أكره لك جوار

يزيد، وأخاف عليك وثباته، فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك. فحذر أبو دهبل

وخرج إلى مكة. ويقال: إن معاوية أراد ذلك لتنقضي المقالة عن ابنته.

أما سبب عشق أبي دهبل لعاتكة فقد روي فيه أنها لما حجت نزلت من مكة

بذي طوى، فبينما هي ذات يوم جالسة في وقت الهاجرة، وقد اشتد الحر وانقطع

الطريق، أمرت جواريها فرفعت الستر وهي جالسة في مجلسها، وعليها شفوف لها

(ثياب رقيقة) تنظر إلى الطريق، فمر أبو دهبل فوقف طويلاً ينظر إليها، ويمتع

نظره بمحاسنها وهي غافلة عنه، فلما فطنت له شتمته، وأمرت بإرخاء الستر،

فقال:

إني دعاني الحين فاقتادني

حتى رأيت الظبي بالباب

يا حسنه إذا سبني مدبرًا

مستترًا عني بجلباب

سبحان من وقفها حسرة

صبَّت على القلب بأوصاب

يذود عني إن تطلبتها

أب لها ليس بوهاب

أحلها قصرًا منيع الذُّرى

يُحمى بأبواب وحجاب

ثم أنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه، فشاعت بمكة وتناشدها الناس،

وغنى بها المغنون، وسمعتها عاتكة إنشادًا وغناءً، فضحكت وأعجبتها، وبعثت إليه

بكسوة، وجرت الرسل بينهما، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام، فكان

ينزل قريبًا منها، وكانت تتعاهده بالبر واللطف حتى وردت دمشق وورد معها،

فانقطعت عن لقائه في بيت الإمارة والملك، ولم يعد يراها، فمرض مرضًا طويلاً

وأنشد القصيدة النونية المذكورة آنفًا.

ولما عاد إلى مكة خوفًا من يزيد كان يكاتب عاتكة، وبينما معاوية ذات يوم

في مجلسه؛ إذ جاءه خصي له، فقال: يا أمير المؤمنين لقد سقط إلى عاتكة اليوم

كتاب فلما قرأته بكت، ثم أخذته فوضعته تحت مصلاها وما زالت خائرة النفس منذ

اليوم.فقال له: اذهب فالطف بها حتى تحتال على أخذ الكتاب. ففعل الخصي وأتى

بالكتاب وإذا فيه:

أعاتك هلا إذا بخلت فلا تَرَيْ

لذي صبوة زلفى لديك ولا يُرقى

رردت فؤادًا قد تولى به الهوى

وسكنت عينًا لا تملُّ ولا ترقا

ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى

ولم أر يومًا منك جودًا ولا صدقا

أتنسين أيامي بربعك مدنفًا

صريعًا بأرض الشام ذا جسد ملقى

وليس صديقي يرتضى لوصية

وأدعو لدائي بالشراب فما أسقى

وأكبر همي أن أرى لك مرسلاً

فطول نهاري جالس أرقب الطرقا

فوا كبدي إذ ليس لي منك مجلس

فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى

رأيتك تزدادين للصب غلظة

ويزداد قلبي كل يوم لكم عشقا

فلما قرأه معاوية بعث إلى ابنه يزيد، فأتى ووجده مطرقًا فقال له: ما هذا

الأمر؟ فقال: أمر أقلقني وأمضني وما أدري ما أعمل في شأنه. قال: وما هو؟

قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهذه الأبيات إلى أختك عاتكة، فلم تزل باكية فما

ترى فيه؟ قال: الأمر هين، عبد من عبيدك يكمن له في أزقة مكة فيريحنا منه.

فقال معاوية: أفٍ لك، والله إن تقتل رجلاً من قريش هذا حاله صدَّق الناس قوله،

وجعلونا أحدوثة أبدًا. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إنه قال قصيدة أخرى تناشدها

أهل مكة وسارت حتى بلغتني وأوجعتني وحملتني على ما أشرت به. فقال:

ما هي؟ فأنشد:

ألا لا تقل مهلاً فقد ذهب المهل

وما كان من يَلْحى محبًّا له عقل

لقد كان في حولين حالا ولم أزر

هواي وإن خُوِّفْتُ عن حبها شغل

حمى الملك الجبار عني لقاءها

فمن دونها تخشى المتالف والقتل

فلا خير في حب يخاف وباله

ولا في حبيب لا يكون له وصل

فوا كبدي إني اشتهرت بحبها

ولم يك فيما بيننا ساعة بذل

ويا عجبًا أني أكاتم حبها

وقد شاع حتى قطعت دونها السبل

فقال معاوية: قد والله رفهت عني؛ لأني أرى أنه يشكو عدم الوصل فالخطب

فيه يسير، قم عني. فقام يزيد، وحج معاوية في تلك السنة، ولما انقضت أيام الحج

كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعراءهم وكتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم

ففرق الصِّلات الجزيلة، فلما قبض أبو دهبل صلته وقام ينصرف، دعا به معاوية،

فرجع إليه فقال له: يا أبا دهبل، ما لي رأيت يزيد ساخطًا عليك في قواريض تأتيه

عنك، وشعر لا تزال تنطق به، وأنفذته إلى أخصامنا وموالينا؟ فطفق أبو دهبل

يعتذر ويحلف أنه مكذوب عليه، فقال له معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك

عندنا فهل تأهلت؟ قال: لا. قال: فأي بنات عمك أحب إليك؟ قال: فلانة. قال:

زوجتكها وأصدقتها ألفي دينار، وأمرت لك بألف دينار أخرى. فلما قبضها، قال:

إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو لي عما مضى، فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق

مني فقد أبحت به دمي، وفلانة التي زوجتنيها طالق ألبتة. فسُرَّ معاوية بذلك،

وضمن له رضا يزيد عنه ووعده بإدرار ما وصله به في كل سنة، وانصرف إلى

دمشق، قالوا: ولم يحج معاوية في تلك السنة إلا لأجل ذلك.

(المنار)

في القصة فوائد لمن يتأمل ويستفيد منها حرية العرب، وتساهلهم في العشق

وغيره مع أولادهم وغير أولادهم، وفي لوازمه ما لم ينتهك العرض وتُلْمَس العفة

وتبتذل الصيانة على أن العشق والعفة لا ينفكان في قرن كما سنبينه، ألم تر إلى

معاوية كيف أجاب يزيد حين قال له: إن أبا دهبل يقول في ابنتك:

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ

اص ميزت من جوهر مكنون

بقوله: لقد صدق يا بني إنها لكذلك. ثم لما قال له: إنه قال: (ثم خاصرتها)

البيت: قال لقد كذب. ألم تر أنه لم يعاتب ابنته، ولم ينصحها؛ لأنه يعلم أن العشق

طور من أطوار النفس يغري به العذل والتثريب، ولا ينجع فيه الوعظ والتأديب؟

ألم تر أنه قال لأبي دهبل: (أما من جهتي فلا خوف عليك؛ لأني أعلم صيانة

ابنتي نفسها وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن يقولوا النسيب)

إلخ.

ومنها الطريقة المثلى في تربية الفتيان والفتيات في طور العشق والحب، إذا

علم الجاهل الأخرق أن ولده عشق وساءه ذلك وخشي مغبته يبادر إلى إطفاء لوعته

باللوم والتعنيف، والعذل والتوبيخ، وذم المحبوب، وانتحال المثالب والعيوب،

وما هذا اللوم إلا عين الإغراء، وما ذلك الإطفاء إلا إضرام وإذكاء.

كالذي طأطأ الشهاب ليطفى

وهو أدنى له إلى التضريم

والعليم الحليم يبادر إلى قطع الصلات، وإبطال المعاملات، بخفي العمل،

ولطائف الحيل، كما فعل معاوية في إخراج أبي دهبل من الشام أولاً، ثم في

تزويجه وإكرامه بحيث ألجأه إلى أن يعطي العهد من نفسه على ترك التشبيب

بعاتكة، ويؤيد ذلك بإبانة زوجه وإباحة دمه من غير أن تعلم عاتكة بذلك.

ومنها: الفرق بين حلم معاوية، وسفه يزيد وميله إلى الظلم وسفك الدم،

وكيف صده أبوه عن اغتيال أبي دهبل بقوله: إن في ذلك إثباتًا للتهمة واشتهارًا

بالفضيحة، ولم يأته من قبل الدين وحرمة الدماء المعصومة، والظاهر أنه كان يعلم

أن ما قاله له هو الذي يؤثر فيه.

ومنها: الحرية العامة عند العرب يومئذ، فقد كانوا يتغنون بشعر يشبب فيه

ببنت أمير المؤمنين من غير مؤاخذة ولا نكير، ولا توقع مؤاخذة، ولا خوف

عقوبة.

ومن وجوه الاعتبار: الفرق بين عظمة الملوك وتجبرهم اليوم، وبساطتهم

يومئذ.

***

العشق والعفة

العشق - كما قلنا - حليف العفة وقرينها، وحب الفساد المقلوب لا يسمى

عشقًا، وقد كان أبو دهبل عفيفًا نزيهًا، وعاتكة أعف وأنزه، روي أنه خرج يريد

الغزو فلما كان بجيرون جاءته امرأة، فأعطته كتابًا فقالت له: اقرأ لي هذا الكتاب.

فقرأه لها ثم ذهبت فدخلت قصرًا، ثم خرجت إليه فقالت: لو تبلغت القصر فقرأت

الكتاب على امرأة كان لك فيه أجر إن شاء الله؛ فإنه من غائب لها يعنيها أمره. فبلغ

معها القصر، فلما دخلا إذا فيه جوارٍ كثيرة فأغلقن عليه القصر، وإذا فيه امرأة

وضيئة، فراودته عن نفسه، فأبى فأمرت به فحبس في بيت من القصر، وكان يُطعم

ويُسقى قليلاً حتى ضعف وكاد يموت، ثم دعته إلى نفسها، فقال: لا يكون ذلك أبدًا؛

ولكني أتزوجك. قالت: نعم. فتزوجها، فأمرت به فأحسن إليه حتى رجعت إليه

نفسه، فأقام معها زمانًا طويلاً لا تدعه يخرج، حتى يئس منه أهله وولده، وتزوج

بنوه وبناته، وتقاسموا ماله، وأقامت زوجه تبكي عليه حتى عمشت ولم تقاسمهم

ماله، ثم إنه قال لامرأته الجديدة: إنك قد أثمت فيَّ وفي ولدي وأهلي، فأذني لي

أطالعهم وأعود إليك. فأخذت عليه أيمانًا أن لا يقيم إلا سنة حتى يعود إليها، فخرج

من عندها بمال كثير حتى قدم على أهله، فرأى حال زوجه وما صار إليه ولده،

وجاء إليه ولده فقال: والله ما بيني وبينكم عمل، أنتم قد ورثتموني وأنا حي، فهو

حظكم، والله لا يشرك زوجي فيما قدمت به أحد، ثم قال لها: شأنك به فهو لك كله.

ولما حان الأجل وأراد الخروج إلى الجديدة جاءه خبر موتها فأقام.

ومن حديث العفة وأخبار أبي دهبل أنه كان يهوى امرأةً جزلةً يجتمع إليها

الرجال للمحادثة وإنشاء الشعر، وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع

إليها، وكانت هي أيضًا محبةً له، وكانت توصيه بحفظ ما بينهما وكتمانه، فضمن

لها ذلك، واتصل الوداد بينهما، فوقفت عليه زوجه وكانت غيورًا عليه، فدست إلى

عمرة امرأة داهية من عجائز قومها، فجاءتها فحادثتها طويلاً، ثم قالت لها في عرض

حديثها: إني لأعجب لك كيف لا تتزوجين بأبي دهبل مع ما بينكما؟ قالت: وأي

شيء يكون بيني وبين أبي دهبل؟ فتضاحكت وقالت: أتسترين عني شيئًا قد تحدثت

به أشراف قريش في مجالسها وسوقة أهل الحجاز في أسواقها، والسقاة في مواردها؟

فما يتدافع اثنان أنه يهواك وتهوينه. فوثبت عمرة عن مجلسها، واحتجبت، ومنعت

كل من كان يجالسها من المصير إليها، وجاء أبو دهبل على عادته فحجبته، وأرسلت

إليه بما كره، فقال في ذلك شعرًا كثيرًا منه:

يلومونني في غير ذنب جنيته

وغيري في الذنب الذي كان ألوم

أَمِنَّا أناسًا كنت تأتمنينهم

فزادوا علينا في الحديث وأوهموا

وقالوا لنا ما لم نقل ثم كثروا

علينا وباحوا بالذي كنت أكتم

ومنها البيت التي يتمثل به وهو:

أليس عجيبًا أن نكون ببلدة

كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلم

ويروى (أليس عظيمًا) ومن شعره اللطيف في ذلك:

تطاول هذا الليل ما يتبلج

وأعيت غواشي عبرتي ما تفرّج

وبت كئيبًا ما أنام كأنما

خلال ضلوعي جمرة تتوهج

فطورًا أمنّي النفس من عَمْرَةَ المنى

وطورًا إذا ما لج بي العشق أنشج

لقد قطع الواشون ما كان بيننا

ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج

أخطط في ظهر الحصير كأنني

أسير يخاف القتل ولهان مفلج

فانظر كيف أن عمرة ما كانت ترى مجلسها معه ومع الأدباء لامسًا للعفة، ولا

ماسًّا بالصيانة، حتى علمت أن الناس يتحدثون بأن الأمر خرج عن المعتاد،

ويرون أن لها شأنًا مع بعض الأفراد، فضربت دون زوارها الحجاب، ومنعت

الهوى أن يدخل عليها من الطاق أو الباب، وكان بنو جمح يزعمون أن أبا دهبل

تزوج بعمرة، ويزعم غيرهم أنه لم يصل إليها، ولم يزن هو ولا هي بكلمة قبيحة.

كان أبو دهبل من سادات بني جمح وأشرافهم، وكان جميلاً ظريفًا وشاعرًا

عفيفًا، وكان يحمل الحمالات ويعطي الفقراء ويُقري الضيوف، ومات في سنة ثلاث

وستين.

_________

ص: 147

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(المرأة في الإسلام)

مجلة علمية تهذيبية تبحث في ترقية شأن المرأة في الإسلام، صدرت في

أوائل شهر ذي الحجة الماضي لمنشئها الفاضل إبراهيم بك رمزي، وهي تصدر

في الشهر مرتين في 16 صفحة كبيرة، وقيمة الاشتراك 30 قرشًا تُدفع سلفًا، وقد

بيَّن في العدد الأول منها المباحث الكلية التي وضعت المجلة لها وهي:

1-

المرأة واستعدادها وحقوقها الشرعية ومكانتها البيتية والاجتماعية.

2-

تدبير المنزل والتربية.

و3- الأخلاق والعادات.

و4- سير شهيرات النساء.

5-

أخبار النساء.

6-

العائلة وتكوينها وحقوق وواجبات أفرادها من زوج وزوجة وآباء وأبناء،

فنسأل الله تعالى أن يوفقه للصواب فيما يكتب وينفع به.

ولا شك أن هذه الحركة المحمودة والعناية بشأن النساء هو أثر من آثار

الصيحة الشديدة، والصاخة القوية التي صدرت من حضرة الفاضل قاسم بك أمين،

ولو أنه خاطب الناس بما يعرفون ويألفون لما أحدث أثرًا ولا حرك قلمًا ولا فكرًا

وحركة الفكر تتقدم العمل دائمًا، وهو الذي يُظهر للناس النافع والضار، وبه تتم

السعادة، ويبلغ الإنسان مراده.

***

(مجلة المجلات العربية)

صدر العدد الأول من مجلة بهذا الاسم شهرية علمية صناعية أدبية سياسية

ذات 24 صفحة، لصاحبها الهمام محمود بك نسيب، وقيمة الاشتراك فيها سبعون

قرشًا أميريًّا في السنة، وقد صدر منها العدد الأول مزينًا برسم سمو الخديو المعظم،

وفي الأخبار السياسية رسم ولي عهد مملكة الإنجليز، وذكر الاحتفال به في

بورسعيد، وفي باب أشهر الحوادث وأعظم الرجال رسم يوسفُ (فردي) الموسيقي

الإيطالي الشهير الذي مات من عهد قريب وترجمته، إلى غير ذلك من الفوائد

والأخبار العلمية والتاريخية، فنرحب بهذه الرفيقة الجديدة أيضًا، ونسأل الله لها

التوفيق والانتشار.

_________

ص: 156

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينية

في فرنسا

اتفق لي أنني عندما زرت في العيد صاحب الفضيلة الأستاذ شيخ الجامع

الأزهر المعظم حدثته بالجمعيات الدينية الأوربية، لا سيما الفرنسوية كالجزويت

والفرير، وذكرت له أولاً ما كان من معاداة رجال الدين المسيحي للعلم في العصور

التي يسمونها المظلمة، وكيف انقلب الحال بعدما ظفر رجال العلم، وسُلبت السلطة

السياسية من البابا، فصارت أَزِمَّة العلوم بأيدي الجمعيات الدينية، حتى إن

الجزويت الذين هم أشد الفرق تعصبًا للدين هم الذين غيَّروا نظام التعليم في أوربا

فارتقى بسعيهم إلى الدرجة التي هو فيها، وذكرت لفضيلته ثروة جمعية الجزويت

ومسالكها في التعليم الديني والدنيوي، وأن غايتها هي وأمثالها إرجاع السلطة

السياسية لرجال الدين كما كانت، وأنها تعلم كما يعلم كل بصير بأحوال الكون أنه

لا يمكن أن يكون مثل هذا الانقلاب إلا بالعلوم العصرية والثروة المالية التي هي

حليفة العلم، وانتقلت من هذا إلى بيان كون الديانة المسيحية ليست ديانة سلطة

بخلاف الديانة الإسلامية التي يجب فيها أن يكون الخليفة فيمن دونه من الحكام

عالمين بالدين في كلام طويل نتيجته أن حفظ الدين الإسلامي وحفظ كرامة أهله

وإعادة سلطته يحتاج فيه إلى العلوم الكونية والجمعيات المالية، وأن هذا ما يدعو

إليه المنار.

لم تمض على حديثنا أيام حتى جاءتنا البرقيات، ثم الجرائد بخبر معارضة

الحكومة الفرنسوية للجمعيات الدينية ورجال الدين عامة، واتهامها إياهم بالسياسة

وعداوة الحكومة الجمهورية، والسعي التمهيدي في نكث فتلها وحل عراها، وقد

اقترحت الحكومة على مجلس البرلمان أن يصدق على قانون قدمته له، ملخصه على

ما في رسالة المؤيد الأغر:

إنه يجب على كل جمعية دينية أن تعرض قانونها على الحكومة، وتأخذ منها

إجازة رسمية وإلا فإنها تنحل وتبطل، وإنه لا يجوز لأعضاء الجمعيات التي تنحل

أن يزاولوا صناعة التعليم مطلقًا، وإِنْ في مدارس الجمعيات المأذونة. وإن

الحكومة تستولي على ما تملك الجمعية المنحلة من عقار ونحوه وتبيعه، وتنشئ بثمنه

صندوق إعانة لعملة الشيوخ والمتقاعدين، وقد قدرت الحكومة قيمة ما للجمعيات

غير المأذونة من ذلك بمليار فرنك (ألف مليون فرنك) فهاج ذلك الاشتراكيين،

وطفقوا يقولون: إن من الجناية على الأمة أن يحتكر صنف من الناس هذا المال

الكثير، ويكنزه ويحول بين الناس وبين استثماره والانتفاع به.

وقد صدَّق المجلس على هذا القانون بعد مناقشات أثبت فيها الموافقون

للمعارضين - وهم الأقل - أن الرهبان يعلّمون الشعب في مدارسهم وكنائسهم أن

الحكومة الجمهورية حكومة فساد واختلاس وقرارة أقذار، وأنه يجب تقويض

أساسها، ومن الشواهد التي أوردها الباحثون على ذلك أن الموسيو لايك أظهر أن

الكتب التي يتعلم بها تلامذة المدارس الدينية تحرف الكلم بما تقلب به الحقائق ليوافق

مشربها، ومنها أن الموسيو برجو لما كان رئيسًا لِلَجْنَةِ جوائز تلامذة المدارس في

المعرض أرادوا منح الجائزة الكبرى لأكثر التلامذة مهارة، فوجدوا أن الذين

يستحقونها هم تلامذة مدارس الفرير؛ ولكنهم وجدوا في كتاباتهم دلائل كثيرة على

بغضهم للحكومة الجمهورية ونظاماتها، واعتبارهم من يخالفهم في المذهب من سائر

الناس أعداء لهم، فلذلك حُرم من هذه الجائزة تلامذتهم في أوربا، وأعطيت لتلامذتهم

في الشرق؛ لأنه لم يوجد في كتاباتهم مثل ذلك، ومنها أنهم يعلِّمون النساء في أوقات

الاعتراف تعليمًا مخلاًّ بالآداب؛ كالكذب على الزوج لإخفاء ما يأتينه من البهتان بين

أيديهن وأرجلهن، كأن تقول المرأة لزوجها: ما زنيت. وتنوي في نفسها تتمة للقول

مثل: لأقول لك، وتقول: ما سرقت، وتنوي: قبل ولادتي أو نحو ذلك، إلى غير

ذلك من الشواهد.

وقد تقرر الآن أن تعليم جميع الجمعيات الدينية لا بد أن يكون تحت مراقبة

الحكومة، ولا شك أن خوف الحكومة في محله، وأن هذه الجمعيات تنوي الانقلاب

الذي حذرته الحكومة، وهي سائرة إليه من طريقته المثلى، وهي طريقة التربية

والتعليم. فليعتبر رجال الشرق عامة وعلماء المسلمين خاصة الذين فقدوا كل شيء

وما بقي عندهم إلا حثالة ما أُلِّف من قبلهم من الكتب يتلهون أو يتعيشون بالبحث في

أساليبها وترديد ألفاظها، ولا يخطر على بالهم السعي في دوامها وحفظ كرامة أهلها

فضلاً عن السعي بالارتقاء وإعادة أحكام الدين ومجده السالف، ومن ينبههم على

ذلك يتخذونه عدوًّا ويمضغون لحمه بالغيبة ويسلطون عليه عقارب السعاية؛ وإنما

يبحثون عن حتفهم بظلفهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

_________

ص: 157

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(العام الجديد)

هذا اليوم فاتحة سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة الشريفة، نسأله تعالى

أن يجعله عام إصلاح وفلاح للأمة، ويهنئ أهله بكشف الغمة.

***

(الأعياد والمواسم)

كان الشهر المنصرم شهر أعياد ومواسم لجميع الملل، عيد الأضحى الكبير

للمسلمين، وعيد الفصح الكبير للنصارى، وعيد الفطر لليهود، وموسم شم النسيم

المشترك بين جميع الطوائف والملل من سكان القطر المصري، نسأله تعالى أن يديم

النعمة والسرور على الجميع في ظل الحضرة الخديوية الظليل.

***

(تركيا الفتاة)

أكثرت الجرائد في هذه الأيام من الكلام في الحزب الذي يسمونه تركيا الفتاة،

فأعلاها مكانة يطعن فيه وبعضها يدافع عنه، والصواب أن هذا الحزب ليس له شأن

في العالم إلا بسؤال مولانا السلطان عنه واهتمامه بشأنه، فإن أهمله أُهمل وأُغفل،

وما دام يبالي به ويحزبه أمره؛ فشأنه كبير لا تؤثر فيه الجرائد ولا يزعزعه الكلام،

وإنما تأثير الجرائد في المابين فالمدح والقدح عاملان متساويان في التأثير هناك، بل

ربما كان القدح والذم أشد تأثيرًا في الاهتمام به.

أما صاحب الدولة محمود باشا داماد ونجلاه الأميران النجيبان فليسا من حزب

تركيا الفتاة؛ ولكن لهم شأن مخصوص بهم.

وقد انتقدنا على جريدة مصباح الشرق الغراء بعض ما كتبته في أسباب الحرب

الروسية العثمانية، والقانون الأساسي من الوجه التاريخي، وسننشر ذلك في العدد

الآتي إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 160

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورات بين المصلح والمقلد

المحاورة السادسة

الاجتهاد والتقليد

لما عاد الشيخ والشاب للمباحثة، والمثافنة للمنافثة، قال الأول:

المقلد: إنني من يوم سمعت منك تلك الكلمة الغريبة، وأنا لا أنفكّ مشتغلاً

بالمطالعة في باب الاجتهاد من كتب الأصول استعدادًا لهذا اليوم، وأعني بالكلمة ما

لم تنسه من قولك: إن فيما قالوه عن المهدي كلمة إصلاح وهي إبطال المذاهب وجعل

المسلمين على طريقة واحدة كما هو أصل الإسلام، وإنني أعتقد كما يعتقد كل من

يعرف الإسلام وعلومه أنه لولا الأئمة الأربعة لضاع الدين بالمرة، وأن لهم رضي

الله تعالى عنهم المنة في عنق كل مسلم إلى يوم القيامة، وأن الخروج عن مذاهبهم

مروق من الدين، والعياذ بالله تعالى.

المصلح: لا أنازعك في مدح الأئمة رضي الله تعالى عنهم، ولا أنكر شيئًا

من فضلهم؛ ولكنني أقول كلمة تعرف بها بطلان قولك الأخير، وهي أن الإسلام

قبلهم كان خيرًا من زمنهم، وكان في زمنهم الذي لم يقلدهم فيه إلا قليل من الناس

خيرًا منه فيما بعده من الأزمنة التي أقامهم الناس فيها مقام الأنبياء، بل إن من

أتباعهم من قدمهم عليهم عند تعارض كلامهم مع الحديث الصحيح؛ فإنهم يردون

كلام النبي المعصوم مع اعتقادهم صحة سنده لقول نقل عن إمامهم، ويتعللون

باحتمالات ضعيفة كقولهم: يحتمل أن يكون الحديث نسخ، ويحتمل أن عند إمامنا

حديثًا آخر يعارضه، ولا شك أن هؤلاء المقلدين قد خرجوا بغلوهم في التقليد عن

التقليد؛ لأنهم لو قلدوا الأئمة في آدابهم وسيرتهم وتمسكهم بما صح عندهم من السنة

لما ردوا كلام المعصوم لكلام غير المعصوم الذي يجوز عليه الخطأ والجهل بالحكم،

وكانوا يأمرون بأن يترك قولهم إذا خالف الحديث، بل تسلق هؤلاء الغالون بمثل

ذلك إلى القرآن نفسه وهو المتواتر القطعي والإمام المبين، وتجرأ بعضهم على

تقرير قاعدة البابوات في الإسلام، وهي أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ دينه من الكتاب؛

لأنه لا يفهمه، وإنما يفهمه رجال الدين، فيجب عليه أن يأخذ بكل ما قالوا وإن

خالف الكتاب، ولا يجوز له أن يأخذ بالكتاب إذا خالف ما قالوا، بل لا يجوز له أن

يتصدى لفهم أحكام دينه منه مطلقًا، ومثل هذا ما قال بعض فقهائنا قال: لا يجوز

لأحد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ لأن الله قال كذا، ولأن رسوله قال كذا، بل

لأن فلانًا الفقيه قال كذا، وهذا مصداق قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لتتبعن

سنن الذين من قبلكم

) الحديث، وفي آخره قالوا: يا رسول الله، اليهود

والنصارى؟ قال: (فمن؟) .

المقلد: ليس كل ما فعله اليهود والنصارى باطلاً، فيكون اتباعهم فيه باطلاً،

على أن الاتباع المذموم هو ما كان عن قصد، ولم يقصد المسلمين قط اتباع البابوات

وغيرهم من النصارى؛ وإنما اتبعوا في ذلك الدليل الذي قام عندهم على وجوب

التقليد على من يعجز عن الاجتهاد، ومن كان عاجزًا لا يجوز له أن يتحكم بفهمه

الضعيف، بل عليه أن يأخذ بأقوال الثقات الذين يثق بفهمهم الدين حق فهمه.

المصلح: المذموم في ذاته يذم فاعله مطلقًا، فإن افتحره افتحارًا كان الذم

عليه وحده، وإن سنه واتبعه عليه غيره فعليه إثمه وإثم من عمل به، وإن كان فيه

مقلدًا فهو أخسّ، وأحرى بالتعس، ولا أطيل الآن فيما أخذه المسلمون عمن سبقهم؛

فإنه يشغلنا الآن عن جوهر البحث، وإنما أقدم لك مسائل في بحث التقليد تكون

مقدمات للأصل الذي أريد تقريره في الوحدة الإسلامية ونسبة المذاهب إليها فأقول:

المقدمة الأولى: إن العلوم الكسبية التي توجد بوجود الحاجة إليها تنقسم

مسائلها إلى قسمين: قسم يسهل فهمه من دليله أو بدليله على كل واحد من الناس،

وقسم يعسر أخذه من الدليل على الأكثرين وينهض به في كل عصر أفراد مجتهدون

يتفرغون له، ويستقلون ببيانه، ويتبعهم من يحتاج إلى ذلك من سائر الناس، ولم

يوجد علم من العلوم الحقيقية تعلو جميع مسائله عن تناول عقول الدهماء، ويستقل

بها أفراد من وقت من الأوقات ويعجز سائر البشر عنها، ومتى وُجد العلم في أمة

فإنه ينمو ويكمل بالتدريج، وسنة الله تعالى في ذلك أن المتأخر يكون أرقى من

المتقدم؛ لأن بداية الآخر من نهاية الأول ما لم يطرأ على الأمة من الأمراض

الاجتماعية ما يوقف سير العلم فيها.

وفي هذه الحالة لا يقال: إن سنة الله تبدلت أو بطلت؛ لأن سنة الله تعالى في

المرضى غير سنته في الأصحاء، فإننا إذا غرسنا شجرة أو وُلد لنا ولد، ومر عليه

في طور النمو زمن ولم ينم فيه؛ لا يصح لنا أن نستدل بذلك على إنكار سنة النمو في

النبات والحيوان، بل علينا أن نبحث عن مرضه الذي عارض النمو ونعالجه ليعود

إلى الأصل.

المقلد: من أين جئت بهذه القاعدة التي لا تنطبق على علم الدين؛ فإنني لم

أرها في كتاب ولا سمعتها من أحد من مشايخنا، وما أراك إلا مفتحرًا لها فإن لم

يكن لك فيها نقل صحيح لا أسلم لك بها.

المصلح: إنني أخذت هذه القاعدة من الوجود وهو أرشد المعلمين، وقد

سلمت لي من قبل أن العلم الصحيح هو ما يشهد له الوجود، ولا يستثنى من هذه

القاعدة إلا العلوم المعدودة المسائل، المحدودة الدلائل إذا استقصيت مسائلها، أو

أُحصِيَ منها قدر تتعذر الزيادة عليه، وذلك كاللغة فإننا إذا أحصينا مفردات لغة قوم

أو أحصينا بعضها وانقرضت الأمة بعد ذلك، يتعذر على المتأخر أن يزيد على

المتقدم الذي أحصى، فإذا قلت: إن علم الدين من هذا القبيل. فقد منعت الاجتهاد

على الأولين والآخرين إلا ما يتعلق بنقل الدين عمن جاء به وهو الشارع صلى الله

عليه وسلم، ومنعت التقليد أيضًا؛ لأن الراوي لا يسمى مقلدًا لمن روى هو عنه؛

لأن التقليد هو أخذك بقول غيرك أو رأيه لذاته لا لمعرفة دليله بحيث لو رجع

لرجعت.

المقلد: لا أقول: إن جميع مسائل الدين مروية عن الشارع بالتفصيل،

والمروي إنما هو الأصول الكلية وبعض الجزئيات، والاجتهاد يكون باستنباط سائر

الجزئيات بالقياس وغيره، وبفهم النصوص والتمييز بين ما يصح الاحتجاج به وما

لا يصح، وبوجوه الترجيح عند التعارض، وغير ذلك مما هو مشروح في علم

الأصول.

المصلح: إذن تصدق قاعدتي في علم الدين، فالمسائل التي يسهل على كل

أحد فهمها بدليلها هي ما نُقل عن الشارع، لا سيما إذا كان النقل بالعمل أو بين

إجماله بالعمل، وأدلة هذه المسائل هي كونها مروية عن الشارع؛ لأن جميع ما ورد

عنه يجب أن يؤخذ بالتسليم من كل من اعتقد بالرسالة، ويبقى التفاضل بين

العارفين بهذه المسائل والأحكام في الفقه بها بمعرفة حكمها وأسرارها، وسأبين

منزلة هذه المسائل من الدين، ومنزلة ما يؤخذ من استنباط المجتهدين، بعد بيان

المقدمات التي بدأت بها.

المقلد: إذا تسنى لكل أحد أن يفهم ما نقل من الدين عن الشارع بالعمل ككيفية

الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات، فلا يتسنى لهم أن يفهموا ما نقل بالقول إلا

بواسطة المجتهد.

المصلح: إن من المقدمات التي أردت سردها ما هو جواب عن قولك هذا،

وليكن (المقدمة الثانية) وهي أن فهم القرآن والسنة أسهل من فهم كتب الفقهاء؛

لأن كلامهما عربي مبين، وأسلوبهما فصيح لا شائبة للعجمة فيه، فمن تعلم العربية

ووقف على مفرداتها وأساليبها لا يعاني في فهمها عشر معشار ما يعانيه في فهم

كتب الفقهاء لاختلاف أساليبهم وبعدها في الأكثر عن أسلوب اللغة الفصيح، ولكثرة

اصطلاحاتهم وخلافاتهم، ولاضطراب الكثير منهم في الفهم، ومن ينكر أن الله

تعالى أعلم بدينه من الفقهاء، وأقدر على بيان ما علمه منهم، أو ينكر أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم أعلم بمراد الله من سائر خلقه وأقدر على بيان ما علمه، وأنه

قام حق القيام بأمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن

لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) .

المقلد: إن المجتهدين بيَّنوا مراد الله ورسوله لمن لم يستطع فهم كلامهما،

والفقهاء بيَّنوا مراد المجتهدين لمن لم يستطع فهم كلامهم.

المصلح: لقد أكثرت الوسائط وغفلت عن قولي الأول، وهو أن الله ورسوله

أقدر على البيان ممن عداها، وأن القول بأن بيان الرسول لم يكن كافيًا للأمة قول

بأنه لم يبلِّغ رسالة ربه؛ ومن يقول بهذا؟ أما تعلم العربية فمن أسهل الأمور على كل

عاقل، ألم يهد لك كيف نبغ فيها الأعاجم عندما كانت داعية الدين سائقة لهم إليها؟

وهل هي إلا لغة من أحسن اللغات أو أحسنها، وإننا نرى الأطفال يتعلمون في

المدارس عدة من اللغات التي هي دون العربية في التهذيب وسلامة الذوق وسهولة

النطق.

المقلد: إن أذهان الناس وعقولهم في هذا الزمان أضعف مما كانت عليه في

أزمنة المجتهدين ومَن بعدهم كالزمخشري والشيخ عبد القاهر الجرجاني والسكاكي

وأضرابهم، والدليل على هذا أن أحدنا يمكث في الجامع الأزهر عشرين سنة، ولا

يقدر أن يفهم من كلامهم حق الفهم إلا ما تلقاه عن المشايخ الذين تلقفوه عمن قبلهم.

المصلح: بعيشك لا تلجئني إلى التكرار في القول، فقد قلت لك آنفًا: إن هذا

مرض اجتماعي عارض يجب أن نعالجه، ومتى أصبنا علاجه الحقيقي يزول

وتظهر في أبناء عصرنا سنة الله في ترقي الإنسان كما هي ظاهرة في غيرنا من

الأمم الذين يرتقون في لغتهم وجميع علومهم، وإن خمس سنين كافية لأن يتعلم

الطالب العربية فيخرج كاتبًا وخطيبًا يفهم جميع كلام البلغاء إذا وجد من يعرف

طريقة التعليم المثلى، ولكن أهل الأزهر لا يعرفون هذه الطريقة ولا يقبلون من

يعرفها من غيرهم، وإذا لم تصدِّقوا فجربوا، وأنا الذي أقوم بذلك أو أدلكم على من

يقوم به.

المقلد: إني لا أستطيع أن أنكر عليك ذلك، ولا أن أسلم لك به فدعنا منه،

واذكر لي بقية مقدماتك، فإني أراك تخلق لي مسائل غير ما أتعبت نفسي في مطالعته

عدة أشهر، وأرجو أن تجيء مناسبة في النتيجة.

المصلح: (المقدمة الثالثة) : لو أن أكثر الناس يعجزون عن فهم الدين مما

يبلغ الرسول من كتاب يكتب ويتلى وسنة يعمل بها، لما كلفهم الله به.

(المقدمة الرابعة) : إن الله أمر الناس بأن يكونوا على بصيرة في دينهم فقال:

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)

(المقدمة الخامسة) : إن الله تعالى ذم التقليد، ونعى على أهله ووبخهم في

آيات منها قوله تعالى بعد الاحتجاج على المشركين وبيان أنه لا حجة لهم: {بَلْ

قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ

فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *

قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: 22-24) فقد احتج على المقلدين بأنه يجب عليهم النظر واتباع ما هو

أهدى، ولم يعذرهم بالتقليد، فدل على أنه غير مقبول عنده، ولو كان التقليد عذرًا

لأحد لكان جميع الكفار والمشركين معذورين عند الله تعالى في عدم اتباع الحق

بحجة أنهم ليس لهم نظر يميزون به بينه وبين الباطل.

المقلد: إن التقليد ليس عذرًا في أصول الدين وعقائده بخلاف الفروع.

المصلح: إن فهم فروع الدين بأدلتها أسهل من فهم أصوله وعقائده بالبرهان؛

لأن أدلة الفروع هو نقلها بطريقة تثق بها النفس، ولكن العقائد لا بد فيها من

براهين عقلية، فكيف يكلفهم بالشاق ويعذرهم بما لا مشقة فيه، نعم إن استنباط

المسائل النادرة بالقياس والرأي أصعب من فهم العقيدة ببرهانها؛ ولكن هذه المسائل

مما يعذر الفقهاء الجاهل بها إذا لم يرعها في عمله وسيأتي بيان ذلك، وأنت تعلم أن

ما علم من الدين بالضرورة من مسائل الأعمال حكمه حكم العقائد كالصلاة بالكيفية

المعروفة وعدد ركعاتها، وكالصوم والزكاة والحج، وكل هذا منقول بالعمل تواترًا لا

كلفة على أحد في فهمه، وإنما موضع البحث في المسائل الشاذة والنادرة.

(المقدمة السادسة) : إن الله تعالى أيد الأنبياء بالآيات الدالة على صدقهم؛

ليكون متبعهم على بصيرة وبينة في دينه، ولم يؤيد المجتهدين بمثل ذلك فمن أخذ

بقولهم لا يكون على بصيرة، ومن كان كذلك فهو على غير سبيل الرسول بحكم

النص.

(المقدمة السابعة) : إننا نهينا عن السؤال عما لم يبين لنا، قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)

وفي صحيح مسلم: خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: (يا أيها

الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل - هو الأقرع بن حابس -: أَكُلَّ

عام يا رسول الله؟ فسكت عليه الصلاة والسلام، حتى قالها ثلاثًا، فقال صلى الله

تعالى عليه وسلم: (لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما

تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا

منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) وذكر ابن حبان أن الآية نزلت لذلك،

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن الله قد فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد

حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير

نسيان فلا تسألوا عنها) رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه،

وأورده النووي في الأربعين وحسنه، وصححه ابن الصلاح، ورواه آخرون.

كل هذا كان قبل إكمال الدين، أفلا يكون بعد إكماله آكد وأولى؟ ولكننا لم نمتثل

كل هذه الأوامر والنواهي، وأنشأنا نفرض مسائل ونخترع لها أحكامًا نستدل عليها

بضروب من الآراء والأقيسة الخفية أو غير الخفية، وهي تتعلق بأمور العبادات التي

لا مجال للعقل فيها، فوسَّعنا الدين بذلك، وجعلناه أضعاف ما جاء به الرسول صلى

الله عليه وسلم، وأوقعنا المسلمين في الحرج والعسر المنفيين بنص القرآن، ولا حجة

لنا في هذا إلا تقليد بعض الفقهاء الذين فرضتم علينا اتباع ما يقولون، وإن خالف

صريحًا ما يقول الله ورسوله.

المقلد: أعوذ بالله، أعوذ بالله، ما أراك يا هذا إلا ظاهريًّا تنكر القياس، وهو

من أصول الدين وتزعم أن الأئمة زادوا في الدين ما ليس منه.

المصلح: مهلاً مهلاً ! أنا لا أنكر القياس بالمرة؛ ولكنني أقول كما قالوا: إن

الأمور التعبدية لا قياس فيها، وأقول: إن العبادات كلها قد تمت وكملت في عهد

النبي صلى الله عليه وسلم كالعقائد، فليس لأحد أن يزيد في الدين شيئًا يتعلق

بالعبادة، كما لا يزيد شيئًا يتعلق بالعقائد؛ لأن الاعتقادات والعبادات هي الدين الذي

قال الله تعالى فيه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وأما القياس والرأي الذي تسميه الحنفية استحسانًا

فينبغي أن يكون مخصوصًا فيما يختلف باختلاف الزمان والمكان كالمعاملات

والأقضية، وأما الاعتقاد والعبادة اللذان يرضاهما الله تعالى فلا يختلفان باختلاف

الزمان وهذه هي.

(المقدمة الثامنة) مما أردت تقديمه على بيان رأيي في الوحدة الإسلامية مع

احترام الأئمة والاعتراف بفضلهم والاهتداء بهديهم.

(المقدمة التاسعة) : هي أن الأئمة أنفسهم نهوا عن التقليد، وحرموه،

وسأتلو عليك أقوالهم فيه، وأما النتيجة فهي

المقلد: أنظرني فقد كَلَّ ذهني، وسمعت ما لم يكن يخطر لي ببال، أنظرني

حتى أرجع إلى تفسير الآيات التي أوردتها، وشروح الأحاديث التي سردتها،

وسأعود إليك قبل عيد الأضحى لإتمام المناظرة، وإن كان الوقت قصيرًا، وكان

في عزمي أن أقضي أيام العيد في الأرياف.

المصلح: لك ذلك، وإنني أنتقد على الناس لا سيما الوجهاء منهم مغادرة بيوتهم

في أيام العيد الذي يُستحب فيه الفرح والسرور مع الأهل والأقارب، إلا من كان

أهله خارج مصر، وكان موظفًا يتربص مثل هذه الفرصة لزيارتهم. ثم انصرفا

على أن يعودا عن قريب.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 161

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة دينية وأجوبتها

فضل سيدنا محمد على سائر الأنبياء

(س) : حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المنار الأغر

رجل يدَّعي بأنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن نبينا

محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله حقًّا، وخاتم الأنبياء صدقًا؛ لكنه لا يصدق

بأنه سيد الأنبياء والمرسلين إلا بالدليل القطعي الذي لا شبهة فيه، وهو كتاب الله

عز وجل.

وإذ كانت جريدتكم الغراء هي الوحيدة في خدمة الدين والملة لزم ترقيمه

لحضرتكم راجيًا إيضاح الحجة القوية قطعًا لألسنة المعارضين من أمثال ذلك الغر

الجهول، وخدمة للدين القويم، وأن يكون ذلك إن استحسنتم مسطورًا على صفحات

جريدتكم الغراء؛ إذ فيه هدى لقوم لا يشعرون.

...

...

...

...

...

... كاتبه

...

...

...

...

عبد المجيد محمد

...

...

...

...

...

... بمصر

ج (المنار)

ليس في القرآن نص صريح في تفضيل سيدنا محمد على سائر الأنبياء عليه

وعليهم الصلاة والسلام بلفظ السيادة أو التفضيل، وذكر اسمه الصريح، ولكن فيه

آيات كثيرة صريحة في معنى التفضيل لا تنطبق على غيره عليه الصلاة والسلام،

والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة وأشهرها حديث: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا

فخر، وما من نبي؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) وفي رواية للبخاري وغيره:

(أنا سيد الناس يوم القيامة) نعم هذه الأحاديث لا تفيد القطع؛ لأنها رواية آحاد

غير متواترة، إلا أن من لا شبهة له في روايتها يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم

قالها، ومتى صدَّق بالرواية تعين عليه الإيمان بمضمونها؛ لأن دلالتها قطعية لا

تحتمل التأويل.

أما الآيات التي استدلوا بها على تفضيله عليه أفضل الصلاة والسلام فكثيرة،

منها آية العهد والميثاق وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم

مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ

أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) ولم يجئ رسول يصدق عليه ما ذكر غير محمد صلى الله

عليه وسلم، ومن ثم اتفقوا على أنه هو، ومنها الآيات الدالة على عموم بعثته

وكونه خاتم النبيين ورحمة للعالمين كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ

بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28)، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وقوله:{وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:

40) وأحسن بيان لوجه التفضيل من كونه خاتم النبيين ما جاء في رسالة التوحيد

لفضيلة مفتي الديار المصرية لهذا العهد؛ فإنه بيَّن أن الأديان ارتقت بارتقاء البشر،

وأن الأديان السابقة إنما منحها الله تعالى لنوع الإنسان عندما كان النوع في أوائل

طور التمييز، وأنه لما بلغ رشده منح الإسلام الذي هو دين الفطرة ومبدأ المدنية

الكاملة.

وأما وجه التفضيل من كونه دينًا عامًّا باقيًا ما بقي العالم فلا أراه يحتاج

إلى بيان، ولا يلتفت إلى دعوى المسيحيين أن دينهم عام؛ فإن الإنجيل الذي في

أيديهم ينطق بلسان السيد المسيح عليه الصلاة والسلام بقوله: (لم أبعث إلا إلى

خراف إسرائيل الضالة) وهو حصر لا ينافيه قول إنجيل يوحنا: (واكرزوا

بالإنجيل في الخليقة كلها) ؛ لأن اللام في الخليقة لا يصح أن تكون للاستغراق؛

لأنه يدخل فيها حينئذ الحيوان الأعجم والنبات والجماد، فيتعين أن تكون للعهد ولا

معهود إلا (خراف إسرائيل الضالة) ، وبهذا يرتفع التناقض، ومنها قوله تعالى:

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) الآية، وتفضيل الأمة

يستلزم تفضيل نبيها؛ لأن خيريتها ما جاءتها إلا من هدايته، ومن كانت هدايته

خيرًا كان خيرًا وأفضل، ومنها قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى

بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) فقد قالوا: إن هذا

البعض هو محمد صلى الله عليه وسلم، نعم إن اللفظ ليس نصًّا معينًا؛ ولكن

القرائن الحالية الوجودية تعينه، والمقام يحتمل التطويل وفي هذا القدر كفاية، والله

أعلم.

_________

ص: 177

الكاتب: مهذب الدين بن منير الطرابلسي

‌الشيعة وأهل السنة

اختلافهما

كان الشيخ مهذب الدين بن منير الطرابلسي شيعيًّا أديبًا وشاعرًا بليغًا، وكان

هاجر إلى بغداد لمدح الشريف الموسوي نقيب الطالبيين والاتصال به، فلما جاء

بغداد أرسل إلى الشريف هدية مع مملوكه، بل معشوقه (تتر) الذي سارت

الركبان بغرامه فيه، فجعل الشريف الغلام من الهدية فكاد يُجن ابن منير، وأرسل

إلى الشريف وإلى تتر هذه القصيدة:

عذَّبت طرفي بالسهر

وأذبت قلبي بالفكر

ومزجت صفو مودتي

من بعد بُعدك بالكدر

ومنحت جثماني الضنى

وكحلت جفني بالسهر

وجفوت صبًّا ما له

عن حسن وجهك مصطبر

يا قلب ويحك كم تخا

دع بالغرور وكم تُغَر

وإلامَ تكلف بالأغنّ

من الظباء وبالأغر

ريم يُفَوِّقُ إن رما

ك بسهم ناظره النظر

تركتك أعين تُرْكها

من بأسهن على خطر

ورمت فأَصْمَتْ عن قسـ

ـيٍّ لا يُناط بها وتر

جرحتك جرحًا لا يُخَيَّـ

ـط بالخيوط ولا الإبر

تلهو وتلعب بالعقو

ل عيون أبناء الخزر

فكأنهن صوالج وكأنهن لها أُكر

تخفي الهوى وتسرّه

وخفيُّ سرك قد ظهر

أفهل لوجدك من مدى

يُفْضَى إليه فينتظر

نفسي الفداء لشادن

أنا من هواه على خطر

رشأ تحاوله الخوا

طر إن تثنى أو خطر

عذل العذول وما رآ

هـ فحين عاينه عَذر

قمر يزيّن ضوء صبـ

ـح جبينه ليل الشعر

تُدمي اللواحظ خدَّه

فيرى لها فيه أثر

هو كالهلال ملثمًا

والبدر حسنًا إن سفر

ويلاه ما أحلاه في

قلبي الشقيّ وما أمر

نومي المحرم بعده

وربيع لذاتي صفر

***

بالمشعرين وبالصفا

والبيت أقسم والحجر

وبمن سعى فيه وطا

ف به ولبى واعتمر

لَئِنِ الشريف الموسوي

بن الشريف أبي مضر

أبدى الجحود ولم يرد

إليَّ مملوكي تتر

واليت آل أمية الطـ

ـهرالميامين الغرر

وجحدت بيعة حيدر

وعدلت عنه إلى عمر

وإذا جرى ذكر الصحا

بة بين قوم واشتهر

قلت المقدم شيخ تيـ

ـم ثم صاحبه عمر

ما سل قطُّ ظِبًى على

آل النبي ولا شهر

كلا ولا صد البتو

ل عن التراث ولا زجر

وأثابها الحسنى وما

شق الكتاب ولا بقر

وبكيت عثمان الشهيـ

ـد بكاء نسوان الحضر

وشرحتُ حسن صلاته

جنح الظلام المعتكر

وقرأت من أوراق مصـ

ـحفه البراءة والزمر

ورثيت طلحة والزبيـ

ـر بكل شعر مبتكر

وأزور قبرهما وأز

جر من لحاني أو زجر

وأقول أم المؤمنيـ

ـن عقوقها إحدى الكُبَرْ

رَكِبَتْ على جمل لتصـ

ـبح من بنيها في زُمر

وأتت لتصلح بين جيـ

ـش المسلمين على غَرَر

فأتى أبو حسن وسل

حسامه وسطا وكر

وأذاق إخوته الرَّدى

وبعير أمهم عقر

ما ضره لو كان كفَّ

وعف عنهم إذ قَدَر

وأقول إن إمامكم

ولّى بصفِّين وفر

وأقول إن أخطا معا

ويةٌ فما أخطا القدر

هذا ولم يغدر معاو

يةٌ ولا عمرو مكر

بطل بسوءته يقا

تل لا بصارمه الذَّكر

وجنيت من رُطب النوا

صب ما تَتَمَّر واختمر

وأقول ذنب الخارجـ

ـين على عليٍّ مغتفر

لا ثائر لقتالهم

في النهروان ولا أثر

والأشعريُّ بما يؤ

ول إليه أمرهما شعر

قال انصبوا لي منبرًا

فأنا البريء من الخطر

فعلا وقال خلعت صا

حبكم وأوجز واختصر

وأقول إن يزيد ما

شرب الخمور ولا فجر

ولجيشه بالكف عن

أبناء فاطمة أمر

والشِّمرُ ما قتل الحسيـ

ـن ولا ابن سعد ما غدر

وحلقت في عشر المحرَّ

م ما استطال من الشعَر

ونويت صوم نهاره

وصيام أيام أُخر

ولبست فيه أَجَلَّ ثَوْ

بٍ للملابس يُدَّخر

وسهرت في طبخ الحبو

ب من العشاء إلى السحر

وغدوت مكتحلاً أصا

فح من لقيت من البشر

ووقفت في وسط الطريـ

ـق أقص شارب من عبر

وأكلت جرجير البقو

ل بلحم جونيّ الجفر

وجعلتها خير المآ

كل والفواكه والخضر

وغسلت رجلي كله

ومسحت خفي في السفر

وأمين أجهر بالصلا

ة بها كمن قبلي جهر

وأسن تسنيم القبو

ر لكل قبر يحتفر

وإذا جرى ذكر الغديـ

ـرأقول ما صح الخبر

وسكنت جلّق واقتديـ

ـت بهم وإن كانوا بقر

وأقول مثل مقالهم

بالفاشريَّا قد فشر

مصطيحتي مكسورة

وفطيرتي فيها قصر

بقر ترى برئيسهم

طيش الظليم إذا نفر

وخفيفهم مستثقل

وصواب قولهم هذر

وطباعهم كجبالهم

خبثت وقدت من حجر

ما يدرك التشبيب تغـ

ـريد البلابل في السحر

وأقول في يوم تحا

ر له البصائر والبصر

والصحف ينشر طيها

والنار ترمي بالشرر

هذا الشريف أضلني

بعد الهداية والنظر

ما لي مضل في الورى

إلا الشريف أبو مضر

فيقال خذ بيد الشريـ

ـف فمستقركما سقر

لواحة تسطو فما

تبقي عليه ولا تذر

والله يغفر للمسي

ء إذا تنصل واعتذر

فاخش الإله بسوء فعـ

ـلك واحتذر كل الحذر

وإليكها

بدوية

رقت لرقتها الحضر

شامية لو شامها

قس الفصاحة لافتخر

وروى وأيقن أنني

بحر وألفاظي درر

حبرتها فغدت كزهـ

ـر الروض باكَرَه المطر

وإلى الشريف بعثتها

لما قراها وانبهر

رد الغلام وما استمرّ

على الجحود ولا أصرّ

وأثابني

وجزيته

شكرًا وقال لقد صبر

(المنار)

لا يخفى أن بعض ما قال لا خلاف فيه، وبعضه عادي محض.

_________

ص: 183

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(دائرة المعارف)

صدر المجلد الحادي عشر من هذا الكتاب المفيد، أو كما عرَّفه واضعه الأول

بقوله: (قاموس عام لكل فن ومطلب) ، ويبتدئ الجزء الحادي عشر بلفظ الصُّلبَة

من حرف الصاد، وينتهي بالكلام على الدولة العثمانية من حرف العين، والكلام

في الدولة يبتدئ من الصفحة 717 وينتهي بالصفحة 752، وهذا ما عدا تراجم

السلاطين؛ فإن ترجمة كل سلطان مذكورة على حدتها بحسب الحروف.

وفي هذا المجلد من مباحث العلوم: الكلام على الصوت والطيف الشمسي،

ومن مباحث الصناعة أشرفها - أعني - صناعة الطباعة، ويسهل على الذكي أن

يعرف أكثر ما فيه من المباحث والتراجم، والكلام على الحيوان والنبات والبلاد

بالتفكر فيما بين الصاد مع اللام، وبين العين مع الثاء من الأسماء، فنشكر لصديقنا

العالم الفاضل سليمان أفندي البستاني عنايته بإتمام هذا العمل النافع، ولمساعديه

الفاضلين نجيب أفندي، ونسيب أفندي البستاني، ونحث أهل العلم وأنصاره على

إسعادهم بالإقبال على الكتاب.

***

(ميزان الجواهر في عجائب هذا الكون الباهر)

كتاب جديد التأليف والطبع، بل والأسلوب والوضع، وهل هو كتاب توحيد

وتنزيه، أم كتاب أخلاق وآداب، أم كتاب فكاهة ونزاهة، أم كتاب طبيعة ونبات،

أم هو تفسير آيات بينات؟ من قرأ وصف، ومن ذاق عرف، مؤلف الكتاب

صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري معلم البلاغة والإنشاء في المدرسة

الخديوية، وقد حذا به حذوًا يحكي أسلوب (رسائل إخوان الصفا) المشهورة في

مزج العلوم الكونية بالآيات القرآنية، والمؤاخاة بين المنازع الفلسفية والمشارع

الدينية، إلا أنه نزهه من الحكايات الخرافية، والسفسطات النظرية، ولم يقصد من

الكتاب تحرير فن مخصوص ببيان مسائله، وتحرير دلائله؛ وإنما هو أفكوهة

علمية دينية فيه فائدتان لصنفين من الناس: صنف عكف على فنون العربية والفقه

ومثل السنوسية والجوهرة من كتب العقائد، فهو يتوهم أن علوم الكون بعيدة عن

الدين ومذاهبه، وصنف اشتغل بمبادئ الفنون العصرية على الطريقة الأوربية التي

لا تستلفت الذهن من الصنعة إلى الصانع، ولا تعرج بعقله من الكون إلى المكون،

فهذا الكتاب يهديه إلى ذلك، وقد سبق الإمام الغزالي إلى هذه الطريقة في كتاب

التفكر من الإحياء، واستن صاحبنا بسنته، هذا ما لاح لي من مطالعة صفحات منه

متفرقة ومطالعة خاتمته، وقد التزم طبع الكتاب صديقنا الأستاذ المرشد، والمسلم

الموحد الشيخ علي أبو النور الجربي، ووكل أمر نشره إلى مريده الفاضل عبد

الحميد بك الطوبجي ويُطلب منهما، ومن المطبعة المتوسطة، ومن مكتبة المدارس

بالصليبة، وثمنه عشرة قروش.

***

(تقويم المؤيد لسنة 1319)

ما زال الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود يزيد هذا التقويم إتقانًا عامًا فعامًا،

وهذه سنته الرابعة قد زادت على السنة الماضية في كل ضرب من ضروب الزيادة،

زيادة الصفحات، وزيادة السطور فيها، وزيادة المواضيع العلمية والأدبية،

وزيادة الجودة في الورق والتجليد، ومن لطيف اختراع واضعه أن اتفق مع بعض

كبار التجار الذين يحتاج كل أحد إلى سلعهم على أن يبيعوا من عنده هذا التقويم

بأقل مما يبيعون من سائر الناس بمقدار مخصوص في المائة، بأن وضع في كل

نسخة من التقويم أوراقًا تقدم إلى المحل التجاري، فتكون المراعاة بها، وبهذا

الاختراع يكون التقويم كالقراطيس المالية المضمونة الربح، وقد اشتهر التقويم عند

جميع طبقات الناس، وصار سمير الأدباء في السهر، ورفيقهم في السفر، وهو

جدير بذلك.

***

(دعاوى وضع اليد)

جرت سنة الارتقاء في العلم بأن يتولد من العلم الواحد عند اتساع دائرته علوم

متعددة تُفرد بالتأليف؛ ليسهل على طلابها الإحاطة بها وإحصاء جزئياتها، فقد كان

علم الطب والعلاج علمًا واحدًا، ثم انقسم إلى علوم متعددة كعلم وظائف الأعضاء،

وعلم التشريح بأقسامه، وعلم الصيدلة

إلخ، بل أفرد علماؤه الأمراض العصبية

بالتأليف، وكذلك أمراض العيون وأمراض الأذن، بل وأمراض الأظافر، وكذلك

كان علم العربية واحدًا، ثم انقسم إلى نحو وصرف واشتقاق ووضع

إلخ، ومن

الارتقاء في علم الحقوق والتأليف فيه بالعربية ما نراه يظهر من المؤلفات من

فروعه، ومن ذلك كتاب المحاماة الشهير لسعادة أحمد فتحي بك زغلول رئيس

محكمة مصر، وكتاب (دعاوى وضع اليد) الذي نشره من أيام المحامي البارع

والقانوني الشهير مراد أفندي فرج أحد المحامين في محكمة الاستئناف بمصر، ولم

تسمح لنا الشواغل بمطالعته؛ ولكن اجتهاد مؤلفه في فنه، وانصراف همته إلى

التأليف في هذا النوع بخصوصه يعطياننا أملاً ورجاء في توفية الموضوع حقه.

***

(احتجاب)

رسالة لطيفة في حكم احتجاب النساء في الشريعة الإسلامية، ألّفها باللغة

التركية العلامة الشيخ عبد الله جمال الدين أفندي قاضي مصر السابق، تغمّده الله

تعالى برحمته، وعرَّبها الأديب الفاضل الشهير بلقب (أصمعي) بإذن المؤلف،

وطبعها بإذن ورثته، ويظهر من مقدمة الرسالة أن المؤلف كانت تحدثه نفسه

بوضعها من زمن بعيد، ثم قويت العزيمة عندما رأى رسائل تدعي (أن أسباب

تأخر الإسلام في الترقي العصري والمدنية هو بقاء نساء الإسلام أسيرات في أيدي

الرجال المتحكمين عليهن وعدم خلاصهن من قيود التستر والحجاب) ، هو إذن يرد

على أصحاب تلك الرسائل؛ ولكن يا له من ردٍّ أدبي نزيه، وكيف لا وهو لمن

يصح أن يكون في آدابه قدوة في عصره لكل فقيه؟ وقد أورد في الرسالة على

اختصارها زبدة ما قاله المفسرون والفقهاء وشراح الحديث في وجوب عفة النساء

وتحجبهن، ولولا أن الجرائد اليومية سبقتنا إلى نشره لأوردنا شيئًا منه، وقد

راجت الرسالة حتى إن ناشرها أخبرنا بأن نسخها نفدت، وما ذلك إلا لشهرة مؤلفها

بالفضل، رحمه الله تعالى وجزاه على حسن نيته خير الجزاء.

_________

ص: 188

الكاتب: محمد رشيد رضا

أسباب الحروب الروسية العثمانية

إن مقاصد أوربا في الممالك الشرقية عامة، والدولة العلية خاصة معلومة

للقراء، بل لم تعد تخفى على طبقة من طبقات الناس، وأشهر تَعِلاّتهم في الافتئات

على الدولة والتعدي على حقوقها الخاصة حماية النصارى، ووقايتهم من الظلم رغبة

في إصلاح شؤونهم، وشغفًا بالإصلاح العام، وكان من تقاليد الروسية التي وضعها

بطرس الأكبر أنه يجب أن لا تمر عشرون سنة من غير حرب تضرم نارها بأسلوب

من أساليب تلك التعلة؛ ولكن القيصر الحالي والقيصر الذي قبله علما أن غنائم

الحرب غالية الثمن، مغبون فيها الغالب والمغلوب، فكانا قيصرا هدون وسلام.

ولقد جرت الحرب الأخيرة بين الدولتين على أصل تلك التعلة التقليدية،

وذلك أنها هزت سلاسل جمعياتها الدينية الثوروية السرية، فاهتزت، وحملتها على

إشعال نيران الثورة في بلاد الصقالبة ففعلت، فكان رجال الجمعية يضرمون النار

ويصيحون: الحريق الحريق، إن الدولة العثمانية متعصبة تحاول أن تحرقنا

وتجعلنا رمادًا. وأنشأ القيصر يتوجع لأوربا مما أثرت في وجدانه الشفقة والرأفة

وعاطفة الرحمة، يحرك أشجانها، ويخرج أضغانها، حتى أقنعها بأنه لا بد من

تأديب الدولة العثمانية بحرب، فأرادت الدول العظام أن تكون الحرب سياسية؛

لتكون منفعتها لهم عمومية، فأجمعوا كيدهم بعد تشاور في الأمر على أن يغتالوا

استقلال الدولة، ويفتئتوا عليها في إدارة بلادها الداخلية بأن يكون سفراؤهم

ووكلاؤهم وقناصلهم مسيطرين على الولاة والحكام في العاصمة وسائر البلاد،

وبذلك يمتلكونها من غير أرواح تزهق، ولا أموال تنفق، ولا سيوف تسل، ولا

نفوس تسيل.

فكان أولاً ما كان من مؤتمر الآستانة الباحث في فتنة البوسنة والهرسك

والبلغار وتقديم تلك اللائحة التي جاء في الفصل الرابع عشر منها ما نصه نقلاً عن

مجموعة الجوائب:

(تجري الإصلاحات بإعانة قوة كافية من العساكر حتى لا يقع اضطراب

ونظارة إجرائها تكون لجمعية مختلطة من الأجانب، وأعضاؤها يكلفون جمعية

أخرى لتلاحظ الإجراء من قريب، بحيث إنه في ظرف شهر من السنة يتم

الانتخاب والإدارة ونظارة الأحكام، واختلاط هذه الجمعية يكون من وكلاء الدول

العظام وأعضاء يرسلهم الباب العالي وأعيان النصارى، ويجوز أن تضم إلى ذلك

وكلاء أرباب ديون الدولة العثمانية، وتستعين هذه الجمعية المكلفة بالنظر والإجراء

بجمع من الضباط مركب من متطوعي الدول الحائدة تحت أمر الوالي الذي صرح

في الفصل الأول باشتراط كونه نصرانيًّا، لابسين لباس الترك؛ أي: كسردار

الجيش المصري وضباطه الإنكليز ومصروفهم على بيت مال الولاية، وهذا الجمع

من المتطوعين تؤيد به فرقة الضبطية الأهلية) اهـ.

ولقد كان رجال الدولة العلية يعرفون أن وكلاء الدول في تلك الولايات

سيكونون كما كانوا بعد في تكريت، فكان من البديهي أن لا يبيعوا استقلال دولتهم

لأوربا، وأن لا يعطوها إياها غنيمة باردة؛ ولذلك لم يقبلوا هذا، وما كان هو

المفضي للحرب حتمًا؛ ولكن المفضي إليها هو رفض البروتوكول الذي وقع عليه

وكلاء الدول الست في لندره القاضي على استقلال الدولة كلها قضاءً حتمًا، الذي جاء

فيه ما نصه نقلاً عن الجوائب أيضًا:

(قام بخاطر الدول أن لها أسبابًا تحملها على أن ترجو أن الباب العالي

يستفيد من هذه الفترة الحاضرة، فيبذل همته في اتخاذ الوسائل التي يحصل بها

تحسين أحوال النصارى التي اتفقت الدول على وجوبها لأجل بقاء السلامة

والطمأنينة بأوربا، فإذا أخذت في هذا المشروع يكون معلومًا عنده أن شرفه ونفعه

أيضًا يوجبان المحافظة عليه بالوفاء والإخلاص والإنجاز، فمن رأي الدول والحالة

هذه أن تكون مراقبة بواسطة سفرائها بالآستانة وعمالها في الولايات للمنوال الذي

ينجز به مواعيد الدولة العثمانية، فإذا خابت آمالها مرة أخرى، ولم تحسِّن حال

رعية السلطان على وجه يمنع من إعادة الارتباكات التي تتعاقب في الشرق، وتكدر

موارد السلم فيه، ترى من الصواب أن تعلن أن مثل هذه الأمور لا يوافق مصلحتها

ومصلحة أوربا عمومًا، ففي مثل هذه الحالة تستبقي لنفسها أن تنظر بالاتفاق في

اتخاذ الوسائل التي تراها الأصلح لتأمين خير النصارى، ولإبقاء السلم عمومًا)

انتهى المراد منه، ولم نذكر ما يتعلق بالولايات التي كانت ثائرة كالجبل الأسود

والصرب والبوسنة والهرسك

إلخ، وليس وراء هذه المراقبة والسيطرة إلا أن

تحتل كل دولة ولاية تنفذ فيها الأحكام تنفيذًا؛ ولذلك قامت قيامة الدولة العلية عندما

بُلِّغت هذا البروتوكول.

أود أن أشرف على الغيب ساعة من زمان، فأعرف ما يجول في خواطر

القراء عندما يطَّلعون على هذه الجملة الوجيزة، وماذا يرتؤون من الصواب أن

تجاب به الدول، وليعلم من لم يكن عالمًا أن الدولة العلية كانت حينئذ مشتغلة بحشر

العسكر وتعبئة الجيوش مجاوبة للروسية، وأنها تعلم أن الحرب واقعة لا محالة إلا

أن ترضخ للدول صاغرة، وتسلم قيادها إليهن تسليمًا.

أليست الطريقة المثلى أن تقنع الدولة الدول بأنها عازمة عزمًا صحيحًا على

إصلاح عامّ تساوي فيه بين النصارى وغيرهم من رعاياها، وتقوم فعلاً بمبادئ

الإصلاح بصورة مقنعة؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيبهن بأنه لا يمكن لها أن

تساوي بين المسلمين والنصارى كما يوهمه كلام اللائم؟ وهل كانت تنجو بهذا من

الحرب؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيب مطالبهن وتحكِّمهن في استقلالها،

وتوليهن إدارة بلادها كلها أو بعضها؟ ذهبت جريدة مصباح الشرق الغراء إلى أن

وعد الدولة للدول بإجراء الإصلاح في رعاياها بالمساواة في الحقوق التي وضع لها

القانون الأساسي كان نزغة من نزغات مدحت باشا المضرة، وأن رفض مطالب

الدول أيضًا مما انفرد به هو ومن أغواهم كوكيل الأرمن، والصواب أن هذا

الرفض كان إجماعيًّا، وأن العلماء والصفتة كانوا أشد طلبًا للحرب ممن عداهم،

وأن مدحت باشا كان أشد توقيًا وتحريًا في الموضوع من سائر رجال الدولة كما

تنطق به المداولات التي وصفها المصباح بالأفن والخطأ والخطل، كما يُعلم مما

نورده في الجزء الآتي بيانًا للحقائق التاريخية، لا انتصارًا لمدحت ولا للذين

يسمون أنفسهم (رون ترك) فإن المنار معروف بمقتهم والرد عليهم منذ أنشئ.

لها بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 192

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسلمون في أفريقيا

قرأنا في جريدة الإكلير فصلاً طويلاً مدبجًا بيراع الموسيو أندره مافيل يتعلق

بأحوال مسلمي المستعمرات الفرنسوية وغيرهم من الوثنيين القاطنين في تلك

الأراضي.

وقد خبط هذا الكاتب خبط عشواء في بعض المسائل الإسلامية ظنًّا منه أن

عقيدة المسلم الأبيض تختلف عن عقيدة المسلم الأسود، وحيث إنه أجنبي عن الدين

الحنيف فلا لوم عليه إذا غلط في بعض أموره؛ وإنما اللوم عليه في تعرضه لما لا

يعنيه ولما لا معرفة له به، ونحن نأخذ من كلامه بعض فقرات؛ ليعلم القارئ اللبيب

ما وصلت إليه أحوال الإسلام في أفريقيا الفرنسوية.

قال: إن المسألة الإسلامية تهم جدًّا مستقبل أفريقيا الفرنسوية؛ ولذلك يتعين

علينا النظر فيها بكل تدقيق والبحث عن شؤونها إفرادًا وإجمالاً.

ولا ريب أن الإسلام انتشر منذ عدة سنين انتشارًا عظيمًا في مستعمراتنا في

أفريقيا، فإذا ذهبت إلى هناك أخبرك الأهالي أنه منذ عشر سنوات كانت الناحية

الفلانية والمقاطعة الفلانية تعبد الأوثان، أما الآن فقد صار الجميع مسلمين، ولا

ريب أن تقدمًا مثل هذا يجب الاعتناء به والنظر إليه، وإذا نظرنا إلى حال الوثنيين

فلا نجدهم إلا أقوامًا سقطوا في هوة البهيمية؛ لأنهم لا خلاق لهم، وليس فيهم من

اشتم رائحة المدنية إلا الذين كانوا في البلاد الواسعة التي انتشرت فيها الوثنية (كذا)

مثل الأشانتي ، والداهومي، ولسوء الحظ فإن مدنيتهم ممزوجة بعادات بربرية

وأمور وحشية مثل ذبح البشر، وتقديمهم ضحايا للأوثان.

على أن مدنية هؤلاء الأقوام لا يمكن بوجه من الوجوه أن تقاس بمدنية الإسلام

في وادي النيجر؛ فإنها لمعت كالشهب وأنارت أفكار أصحاب هذا الدين وأخرجتهم من

هوة الخشونة التي كانوا فيها قبل أن يعتنقوا هذا الدين الإسلامي، فإذا تقرر أن

العنصر الإسلامي هو من العناصر الموجبة للحضارة والمدنية، فيتعين علينا أن لا

نجعل في سبيل تقدمه العثرات، ولا أن نعارضه في شيء، وعلى فرض أننا قصدنا

معارضته والوقوف دون تقدمه فإن جميع مساعينا تذهب سدى؛ لأنه يستحيل علينا أن

نقف دون أمواجه العظيمة المتعالية كالجبال والمتدفقة كالسيول، وعندي أننا إذا

حاولنا ذلك كنا غير عادلين من جهة مسلمينا السودانيين لا سيما إذا أسأنا فيهم الظن؛

لأننا نراهم من أشد رعايانا خضوعًا، ومن أعظمهم غيرة وحمية، أما رأيتم كيف أن

السنغاليين الذين هم من أخلص رعايانا وأتباعنا فتحوا بإرادتنا غربي السودان؟ أليس

هؤلاء القوم من المسلمين الذين استلمنا زمام أمورهم، وجعلناهم فرنسويين مثلنا؟

ولما حاربنا رباحًا أتوا بأعمال خطيرة، وأبلوا بلاء حسنًا، مع أن رباحًا وجماعته من

المسلمين مثلهم، ومن كان في ريب مما نقول فليسأل القومندان جانتيل عن حسن

سلوكهم، وصدق إخلاصهم، وما أبدوه من دلائل الشهامة والغيرة، ولا أظن أن

أولياء أمورنا يحاولون نشر المسيحية في أفريقيا؛ لأن هذه الديانة لا سوق لرواجها

هناك، وإننا في تلك البلاد في موقف مشرف على ثلاث ديانات: الإسلامية،

والمسيحية، والوثنية، والغلبة في ذلك للإسلامية، ولا أمل لي أن الوثنيين يتقدمون

في مستعمراتنا الإفريقية؛ فإن تمدنهم امتزج بالمسكرات، وما رأيت في حياتي شعبًا

ابتلاه الله بالمسكرات مثل هذا الشعب الدنيء، فقد رأيت أفرادهم في بمبوك ،

ومالنكس يشربون أقداح الأبسنت القتالة كما نشرب نحن الحليب، وذلك مما تقشعر

منه فرائص الإنسانية.

أما في شاطئ العاج فالمسكر شائع بين أهل الوثن الذين يصرفون منه كميات

وافرة، ومن النادر أن لا ترى عند الوثنيين ميلاً لأكل البشر، ففي الكنج يفاخرون

بأكل الناس، وهذا الأمر شائع وذائع هناك رغمًا عن حلول عساكرنا، ورغمًا عن

أوامرنا ومقاومتنا لمثل هذه العادات القبيحة، وأنا أراهن بأنك لا تمشي نحو 50

كيلو متر عن بلدة ليبرفيل حتى تشاهد أكل لحوم الناس شائعًا، فلا تكاد تدخل بيتًا

من بيوت الوثنيين وتكشف الأغطية عن طواجنه في المطابخ حتى تراها ملأى

باللحوم البشرية التي تعد عشاء للعيلة، ومثل ذلك يقال في الشعوب الساكنة في

جهات جنوب السودان على حدود ليباديا مما لا يمكن الإقلاع عنه إلا بعد مر السنين

الطوال.

أما أنا فعندي أن أعظم شيء تخفق له القلوب جزعًا وحنانًا مرأى البشر

يذبحون ضحايا للأوثان بسيوف الجهالة والحمق تبعًا لعادات قبيحة، يتعين علينا

إبطالها مهما كلفنا أمرها، وهذه العادات ناشئة عن اعتقاداتهم الدينية وعقولهم

القاصرة، فالمالنكس مثلاً وهم قبائل وثنية لا يعتقدون بشيء إلا بالشيطان، فهم

يقولون: إنه قادر على كل شيء، وعندهم أن هذا الخبيث؛ أي: الشيطان يترصدهم

ويراقب أعمالهم وحركاتهم، فهو يكمن أحيانًا بين الأدغال، وفي الجبال ويطوف

فيها، ويختبئ أيضًا في الجنائن والبيوت، وفي الليل يخرج منها ويطوف لأجل الأذى

والأعمال الفظيعة، والوثنية في شاطئ العاج والداهومي منشورة جدًّا، وأهلها

يعبدون الوجوه الممسوخة وتماثيل الحيوانات، وفي أحد الأيام كنت بينهم، فكان ذلك

اليوم أثقل على قلبي من عبادة الوثن؛ فإني شاهدت الأهالي يصبغون وجوههم بلون

أصفر احترامًا لأصنامهم، وكان ذلك اليوم عيدًا عندهم، أما عندي فكان يوم بؤس،

وكل أهل الوثن يتطيرون بالنحوس، وعندهم أن الإنسان غير مخير في عمله، فهو

يرتكب أعظم الفظائع بما قدرته عليه آلهته.

أما الدين الإسلامي الذي نحسبه بعيدًا عنا وننفر منه بحكم العادة، فيجب علينا

اعتباره وإنزاله في منزلته؛ لأنه دين يعلم أصحابه عبادة الله تعالى، وله جاذبية

تستميل الناس إليه، فهو إذن مالك زمام أفريقيا بأسرها، وعدا عن ذلك فإن كيفية

التدين فيه لها عند شعوب أفريقيا احترام عظيم لو نظرناه - نحن الإفرنج - لما مكثنا

غير مكترثين به، إلى أن قال: فيجب علينا والحالة هذه أن نعيش بما أمكن من

المسالمة وحسن المجاملة مع أهل الإسلام، وأن نحترم دينهم فإنهم يسرّون منا

سرورًا عظيمًا، ولو راجعنا أغلاطنا الماضية منذ فتحنا أفريقيا علمنا حق العلم بأننا

كنا غير عادلين مع المسلمين، ولا ريب أن الاستمرار على عدم العدل يقوض

أركان ملكنا في تلك البلاد، على أن الدين الإسلامي وتعاليمه ليست من التعاليم التي

تهددنا بالخطر والخوف، فإن المسلم رقيق الجانب، أنيس المعشر، يبدي سلامه

بلطف وابتسامة، فهو في كل الوجوه أفضل من سواه، وإننا لنخطئ جدًّا إذا اعتقدنا

بأن هؤلاء المسلمين ينهضون يومًا لأجل الجهاد بقتالنا، فقد مضى في أفريقيا

الغربية زمن الحاج عمر ومحمد وغيرهما.

هذا بعض مما قاله هذا الكاتب المجيد، وقد قابل في آخر كلامه بين الإسلام

والمسيحية، وأظهر أن نشر الإسلامية هناك أسهل بكثير من نشر المسيحية، ثم

ختم كلامه بحض أهل البعثات المسيحية على الذهاب إلى البلدان الوثنية لأجل

إدخال العقائد المسيحية في عقولهم، وقد أبدى للمبعوثين ملاحظات كثيرة، ونبههم

إلى أن لا يدخلوا البلدان الإسلامية؛ لأنه يستحيل أن مسلمًا يخرج من دينه ليعتنق

دينًا آخر اهـ.

...

...

...

...

...

بيروت

_________

ص: 196

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استلفات لإزالة شبهة

جاء في العدد 150 من جريدة مصباح الشرق الغراء في سيرة سقراط

الفيلسوف اليوناني هذه الجملة بنصها: (ولسنا نقول: إن في قدرة كل إنسان أن

يصل إلى درجة سقراط في الجمع بين القول والفعل على حسب أصول الفضيلة، تلك

عليا مراتب الأنبياء) ، ولا يخفى ما يتبادر منها إلى الفهم من إلحاق سقراط بأصحاب

المراتب العليا من الأنبياء كأولي العزم وتفضيله على من سواهم من الأنبياء عليهم

الصلاة والسلام، مما يمتنع أن يكون مرادًا لسعادة صاحب المصباح المنير، فنرجو

من سعادته كتابة ما يرفع الوهم ويزيل الالتباس عن قراء جريدته.

_________

ص: 200

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تصحيح غلط

كلما أجلنا الطرف فيما طُبع من المنار نرى فيه أغلاط طبع مدركة بالطبع

كلفظة (مخازن) في السطر العاشر من الصفحة 124 من الجزء الرابع،

وصوابها (مخازي) ، ومثل لفظ (هي) الذي سقط من السطر التاسع عشر من

الصفحة 166 من هذا الجزء، ومحله قبل الكلمة الأخيرة، ومثل (المقدمة السابعة)

في السطر الأول من الصفحة 170، و (المقدمة الثامنة) من السطر الثالث منها،

وصوابه يُعرف من ترتيب العدد قبله، فليصحِّح مثل هذا من تنبه له.

_________

ص: 200

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنبيه

لا بد أن تثقل أقوال المصلح في المحاورة المنشورة في هذا الجزء، والتي

ستُنشر فيما بعده على بعض أهل العلم؛ ولكننا نرى حججه قوية، فمن كان عنده رد

أقوى من ردّ محاوره المقلد، فليتفضل علينا به لننشره لتحرير البحث.

_________

ص: 200

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين على الإسلام

اطَّلعنا على صحيفة كبيرة لأحد المشتغلين بقراءة الكتب التي نشرتها البعثات

النصرانية في الطعن بدين الإسلام، يسأل فيها كاتبها كشف شبهات علقت في ذهنه

في مطالعة تلك الكتب، ومن الواجب أن نجيب عن هذه الشبهات؛ لأن المدافعة

عن الدين أهم ما أنشئ له المنار؛ ولكن سنتنا التي جرينا عليها من أول يوم هي

مسالمة المخالفين لنا في الدين لا سيما المسيحيين، بل السعي في إزالة الأحقاد،

والاتفاق على ما فيه نجاح البلاد، ونود أن لا يطعن أحد في دين الآخر لا قولاً ولا

كتابة؛ ولكن المسيحيين لا يوافقوننا على هذا كما يوافقنا المسلمون؛ ولذلك نراهم

يعقدون الجمعيات للطعن اللساني في الإسلام، وينشرون الجرائد (كراية صهيون)

ويؤلفون الكتب للطعن الكتابي، وإننا نصبر على هذا التعدي، ونكتفي بكشف

شبهات السائلين من أهل ديننا مع مراعاة الأدب فنقول:

إننا قد عجبنا لهذا المسلم المطالع كتب المسيحيين، كيف اكتفى بمطالعتها من

غير أن يطالع الكتب الإسلامية التي تقابلها بالمثل وتدفع شبهاتها وتورد عليها ما لا

دافع له، ككتاب (إظهار الحق) ، وكتاب (السيف الصقيل) وغيرها؟ فأول

جواب نجيبه به أن عليه أن يطالع تلك الكتب، وبعد مطالعتها والموازنة بينها وبين

كتب المسيحيين التي طالعها يسأل عما يشتبه عليه إن بقيت له شبهة؛ لأن الجريدة

التي طلب أن تنشر فيها الأجوبة عن شبهاته لا يمكنها استيفاء الكلام في مواضيعها؛

لأنها تستلزم الطعن الذي تتحاماه، خلافًا لما جاء في آخر صحيفته، ثم إن شبهاته

تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

(أحدها) : مخالفة بعض نصوص الدين الإسلامي لما ورد في كتب اليهود

والنصارى.

(ثانيها) : ورود أشياء في القرآن لم ترد في تلك الكتب، وإن تعجب،

فعجب اشتباه هذا المسلم في هذا النوع؛ فإن السكوت عن الشيء لا يُعد إنكارًا له،

فكيف يشتبه بما يعتقد أن الله أخبر به؛ لأن أولئك المؤرخين لم يذكروه؟ ! !

(ثالثها) : ورود أشياء في الكتاب والسنة مخالفة للواقع، أو لما ثبت في

العلوم الحديثة بزعم من تلقى عنهم، وإننا نجيب عن القسمين الأول والثالث،

وحسبنا في الجواب عن الثاني ما ذكرنا من أنه لا وجه للاشتباه به، ونبدأ الجواب

بمسألة وجيزة في اعتقاد المسلمين بالتوراة والإنجيل فنقول:

إن السائل يحتج على كون التوراة والإنجيل من عند الله تعالى بالقرآن تبعًا

لدعاة النصرانية، الذين ولع بسماع كلامهم وقراءة كتبهم، ولعمري إنه لا تقوم على

ذلك حجة إلا شهادة القرآن، فشهادة القرآن حجة على أن الله تعالى شرع على لسان

موسى عليه السلام شريعة سماها التوراة، وهذه الشهادة شبهة على القرآن؛ لأنها

شهادة بحقية شيء يشهد العقل والعلم والوجود ببطلانه، بل يشهد هو ببطلان نفسه،

أما شهادته ببطلان نفسه فبما فيه من التناقض والتعارض، وأما شهادة العقل والعلم

والوجود فبمخالفة تلك الكتب التي تسمى عند القوم توراة لها، وإذا أراد السائل أن

يعرف هذا تفصيلاً فليطالع ما كتب فيه من الإنسكلوبيديا الفرنسوية الكبرى وغيرها

من الكتب التي ألفها علماء أوروبا، ومثل إظهار الحق من كتب المسلمين.

وأما الجواب عن هذه الشبهة الذي يُظهر صحة شهادة القرآن، فهو أن التوراة

التي يشهد لها القرآن هي كتاب شريعة وأحكام، لا كتاب تاريخ مقتبس من

ميثولوجيا الآشوريين والكلدانيين وغيرهم، فنبالي بتكذيب علم الجيولوجيا وعلم

الآثار العادية له، أو موافقة هذا لبعض ما ورد فيه، ولا تاريخ طبيعي فنبالي

بتكذيب ما ثبت بالتجارب الوجودية من مخالفته كثبوت كون الحيات لا تأكل التراب،

وإن جاء في سفر التكوين أن الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) ،

فضلاً عما فيه من نسبة ما لا يليق بالله إليه تعالى ككونه ندم على خلق الإنسان

ونحو ذلك، فالتوراة حق، وهي الشرائع والأحكام التي كان يحكم بها موسى ومن

بعده من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وأحبارهم كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا

التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ

وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44) ولم يشهد القرآن لهذه الكتب الكثيرة التاريخية التي

منها ما لم يُعلم مؤلفه وكاتبه، وكلها كتب بعد موسى صاحب التوراة بزمن طويل،

وبهذا الجواب تصح شهادة القرآن وتبطل أسئلة المشتبه في الخلاف التاريخي بين

القرآن وكتاب حزقيال وأشعيا ودانيال وغيرهم؛ لأن هذه الكتب لم يشهد لها

القرآن.

ولا تغترن بتسمية القوم لجميع كتب العهد بالتوراة، فذلك اصطلاح جرى

على سبيل التغليب، بل إننا نرى النصارى كثيرًا ما يسمون مجموع كتب العهدين

العتيق والجديد التوراة عندما تكون مجتمعة.

وأما الإنجيل فهو في اعتقاد المسلمين ما أوحاه الله تعالى إلى السيد المسيح

عليه الصلاة والسلام من المواعظ والحكم والأحكام، وكان يعظ به ويُعَلِّم الناس،

وما زاد على ذلك من هذه الكتب التي يسمونها إنجيلاً فهو في نظر المسلمين من

التاريخ، إن كان خبرًا وإن كان حكمًا أو عقيدة فهو لمن قاله، وأنت تعلم أن

النصارى يسمون مجموع كتب العهد الجديد إنجيلاً، ويعترفون بأنها كُتبت بعد

المسيح بأزمنة مختلفة، وليس لها ولا لكتب العهد العتيق أسانيد يحتجون بها.

والقرآن يشهد على النصارى بأنهم لم يحفظوا جميع ما وعظهم به المسيح من

الوحي المسمى بالإنجيل حيث قال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ

فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) والإنجيل يطلق على بعض ذلك الوحي،

كما يُطلق لفظ القرآن أو قرآن على بعضه، تقول: كان فلان يقرأ القرآن، ومثل

هذا الاستعمال معروف حتى في الكتاب والسنة، وكان القرآن يسمى قرآنًا قبل تمام

نزوله.

ولما كانت أحكام التوراة وحكم الإنجيل موجودة عند اليهود والنصارى بلا

شبهة، كان القرآن يحتج عليهم بعدم إقامتها ولا يمنع من هذا الاحتجاج مزجهم إياها

بالتاريخ؛ ولكن هذا المزج هو السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا

تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم) ؛ أي: عندما يعرضون عليكم شيئًا من كتبهم؛ وذلك لأنه

ليس عندنا فرقان نميز به بين الأحكام الأصلية الموحى بها، وبين ما مُزج بها في

التأليف، نعم إننا نرجح بعقولنا أن الأحكام المسندة إلى سيدنا موسى في سفر الخروج

وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية كلها أو جلها من التوراة؛ لأنها إن لم تكن هي

فأين هي؟ ونرجح مثل ذلك في وعظ المسيح على الجبل كما في تاريخ إنجيل مَتَّى

وغير ذلك من المواعظ كما رجح بعض العلماء في أوربا والشرق أن جزءًا كبيرًا من

الإنجيل الحقيقي دخل في كتاب أشعيا، وأما الأخبار التي عند القوم فما خالف منها

القرآن نقطع بكذبه ولا غرو، فالله يصدق والمؤرخون يكذبون، وهو معنى قوله

تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) وإننا نكتفي الآن بهذا القدر وموعدنا الجزء الآتي، وإن كان للسائل

شبهة فيما كتبنا فليكتب إلينا نزيده إيضاحًا، وكنا نحب أن يجيئنا إلى إدارة المنار،

ويأخذ الأجوبة الشفاهية؛ لأن حرية اللسان أكبر من حرية القلم، ولولا أن فقهاءنا

يحكمون بكفر من يعلم أن مسلمًا شاكًّا في دينه، وهو قادر على إزالة شكه ولم يفعل

لما كتبنا شيئًا مما كتبنا؛ لأننا خطباء وفاق ووئام، وطلاب مودة والتئام، ولكن ديننا

أوجب علينا هذا لا سيما وأن السائل كتم اسمه، وطلب أن يجاب في المنار فتعين

علينا ذلك.

_________

ص: 179

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السخاء والبخل

خلق الله الإنسان يمقت الرذيلة بالطبع، ويُزري بالمتلبس بها، ويحب

الفضيلة ويلهج بإطراء صاحبها، وإذا استقرينا سجايا الإنسان وما قاله ويقوله الناس

في الفضلاء من الثناء والمدح، وما رموا به الرذلاء من سهام الذم والقدح، يتسنى

لنا أن نحكم بأن السخاء أرفع الفضائل منزلة في القلوب، وأعلاها وقعًا في النفوس،

وأبعدها طيرانًا في جو الخيال، وأبدعها افتنانًا في فنون السحر الحلال، وأكثرها

دورانًا في الشعر، وأقواها سلطانًا على الفكر، وأحسنها تصريفًا للأقلام، وتسخيرًا

للعقول والأحلام، وأن الأسخياء أشرف الناس عنصرًا، وأكرمهم جوهرًا، وأطيبهم

نفوسًا، وأضوأهم شموسًا، وأعزهم نفرًا، وأبقاهم أثرًا، وأوسعهم صيتًا وذكرًا،

وأسمعهم حمدًا وشكرًا، وإن شئت حكمت بأنهم أوسع الناس وجودًا، كما أنهم

أوسعهم جودًا، ونحكم بضد ذلك كله، وبضد ما لم نحكه من نعوتهم وصفاتهم،

وآياتهم وكراماتهم، على أضدادهم البخلاء، وبضدها تتميز الأشياء.

ما هو السخاء؟ وبم تعرف الأسخياء؟ وما هو البخل؟ وبم تتميز البخلاء؟

وهل يشتبه الضدان فنحتاج إلى التعريف والفرقة، أو يتشابه المتباينان فنزيل بينهما

بالإبانة والتفصلة؟ نعم إن أكثر الناس لا يفقهون تحديد صفة السخاء والجود،

وصفة البخل والشح، بل ولا يميزون بين الأسخياء والبخلاء تمييزًا حقيقيًّا، فكثيرًا

ما يَسِمُون السخي الكريم، بسمة البخيل اللئيم، وأكثر من هذا أنهم يُسَمُّون الأشحة

اللؤماء، أجاود كرماء، وهذا مما يثير دفائن العجب من النفوس، ويستخرج بقايا

الدهشة من أعماق القلوب؛ لأن المعهود في الإنسان أنه يغفل عما لا شأن له عنده،

ولا مكانة له من نفسه، ويحيط علمًا بدقائق الأمور، ويكتنه خفايا الشؤون، إذا كان

لها سلطان قوي على روحه، وتأثير مؤلم أو ملائم في وجدانه، حيث الداعية إلى

العلم، والباعث إلى الفقه والفهم، وقد أشرنا إلى مكانة الأسخياء الشريفة العليا،

ومنزلة البخلاء الدنيئة السفلى.

أستغفر الله: لقد ظلمت الإنسان؛ إذ ألصقت بمجموعه أو جميعه ما هو خاص

بالشعوب الجاهلة، والأمم التي ضعف في أفرادها معنى الإنسانية، ونزلت عن

مراتب المدنية، فامتلخت أحلامهم، وسادت أوهامهم، يحكمون بالنظرة الحمقى لا

يسبرون الأغوار، ولا يغوصون البحار، فأنى يظفرون بدرر الحقائق، ويقفون

على خفيات الدقائق.

من هو السخي عند هؤلاء؟ ، وبم يعرفون السخاء؟ ، السخاء عندهم هو

التمتع بالمال، ولو بما زاد على قدر الحال، أكل وشرب، ولهو ولعب، وأثاث

ورياش، وسرير وفراش، وخيول ومركبات، ومراكب ذهبيات، واستطابة

الألوان، للوجوه والأعيان، واستعداد في كل آن، لإطعام من يلمّ من الإخوان،

ممن على شاكلة السخي في وظائفه ورتبه، أو على مقربة منه في فضته وذهبه،

وفاتهم أن هؤلاء هم الذين قال في مثلهم القرآن: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم

مُّجْرِمُونَ} (المرسلات: 46) والسخاء محمود عند الله، ممدوح عند الناس

فكيف يكون صاحبه مجرمًا؟

ومن الأسخياء، في عرف هؤلاء الأغبياء من يُهْدِي ليُهْدَى، ويُعْطَى أكثر مما

أعطى، إن لم يكن من نوع ما بذله وجنسه، فمما هو أنفس في نفسه، فإن لم

يتقاض طعامًا بطعام، ويتبادل مُدامًا بمدام، فهو يشتري الجاه العريض الطويل،

بالعرض النزر القليل، فدرهمه دينار، كما هو شأن دهاقين التجار، ومن يقول

فيمن يطعمك قليلاً من اللحم، أو يُهدِي إليك منًا أو منوين من السمن، ليستخدم

جاهك عند الحكام في الحصول على رتبة أو وسام، أو في دفع مظلمة نزلت به

بوادرها، أو الاستعانة على غنيمة ترجى غاياتها وأواخرها -: إن هذا جواد كريم،

وسخي عظيم؟ أليس قد قال تعالى: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) وهل

ينهى الله تعالى عن الجود والكرم وهو الجواد الكريم؟

أرأيتك هذا استسمنت وَرَمه، واستغزرت ديمه، هل أهدى وبذل، إلا لذلك

الأمل، فهو مكتسب يستدر أخلافًا، ودائن يأكل الربا أضعافًا، أما كان لولا هذا

العطاء، لهذا الجزاء، يبذل بدَرَ الدنانير، وهو صاغر حقير، يطيل مع التنفس

إحصاءها وعدَّها، ويرجو على الحرص قبولها ويخشى ردَّها، ويرى لآخذها -

وهي روحه - من الفضل عليه، مثلما رأى له بالهدية والدعوة من الفضل عليك،

نعم إنه دعا أو أهدى وهو يعلم أنه يربح بذلك امتلاك قلبك (أولاً) وامتلاك قلوب

الناس الذين يرونه بذلك جوادًا كريمًا (ثانيًا) وإعدادك لقضاء حوائجه (ثالثًا) وفي

هذا الثالث من التوفير ما أشرنا إليه آنفًا، فهو على كونه يمن ليستكثر ويأكل الربا

أضعافًا مضاعفة غاش طامع، وراشٍ مخادع، ولو علم حاجتك إلى صلة منه ليس

لها منك عائد، ولا تأتي بشيء من هذه الفوائد، لما قابلك إلا بالرد، ولما وصلك

إلا بالإعراض والصد، فما بالك إذا كان يَدُعُّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين،

ويمنع الماعون، ويشكو حرصه الجيران والأقربون، ولا يؤدي الزكاة الشرعية،

ولا يساعد الجمعيات الخيرية، ولا يعضد المشروعات العلمية والعملية.

ومن الناس من لا يَعُدّ مثل هذا في الأسخياء، ويرى أن السخي الكريم هو

الذي يرمي بالمال هكذا وهكذا، يضرب به في كل فج وينفقه في كل سبيل، في

سبيل الله تارة، وفي سبيل الشيطان تارة أو تارات، متبعًا في ذلك خطرات الوساوس

ونزعات الهواجس، ولا ينافي ذلك عندهم تعديه على حقوق الناس، وأكله

أموالهم بالباطل كأنواع الرشوة وضروب الضرائب إن كان حاكمًا أو زعيمًا، أو

صاحب مكانة من الأمراء المستبدين، والسلاطين الجائرين، وكأنواع الاحتيال

والتزوير إن كان من غيرهم، يقولون: فلان لا يُضام؛ لأنه من الكرام، لا يُرَدُّ

سائله، ولا يمنع أحدًا نائله، قد أغنى زيدًا، فصار له يدًا وأيدًا، (أي قوة) وعمر

بيت عمرو، بعدما هدمه الفقر، فجعله من أنصاره، يستعين به على أوطاره وتبرع

على جمعية كذا بمبلغ من النقود، في يوم احتفالها المشهود، وقد عيَّن لعدة من

الجرائد الوطنية والأجنبية، رواتب شهرية أو سنوية، إعانة لأصحابها على إذاعة

المعارف الرافعة، ونشر الأفكار النافعة، فهي دائمًا تعطر المشام بعرف نشره وتشنف

الآذان بحلي ذكره، فإن قيل: إنه إنما يبذل لجرائد الكدية التي ليس لها رأي ولا

مذهب، ولا لها مشرع ولا مشرب، إلا جمع المال بالإطراء والمدح، أو بالإزراء

والقدح، ولا يشترك بجريدة لا يرجو منها الثناء، ولا يخاف منها الإزراء يحار

المنصف فلا يحير جوابًا، ويكذب المتعسف في التشيع له كِذَّابًا، وقد يفضي السرف

والمخيلة بهذا الصنف من المغرمين بالإنفاق، لاقتطاف ثمار التعظيم والتبجيل من

جنات النفاق، إلى أسوأ حالات الفقر والإملاق، وذلك إذا قصرت يد سلطتهم،

وخضدت شوكة سطوتهم، أو كسدت أسواق حيلتهم، ونضب معين ثروتهم، ثم لا

يجدون ممن اصطفوهم صانع معروف، ولا باذل آحاد من تلك الألوف؛ لأنهم لا

يصطفون كريمًا شكورًا {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ

كَفُوراً} (الإسراء: 27) .

للكلام بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 201

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورة السابعة بين المصلح والمقلد

الاجتهاد والوحدة الإسلامية

قد كان كلام الشاب المصلح في المجلس الماضي مؤلمًا للشيخ المقلد؛ لأنه لم

يكن في حسبانه أن يتعدى البحث إلى ما تعدى إليه، فلم يغب إلا يومًا واحدًا راجع

فيه الآيات والأحاديث التي أوردها الشاب في الاستدلال على مقدماته، وعاد في

مساء اليوم الثاني وملامح الامتعاض والتبرم بادية على وجهه وقال في أول كلامه:

المقلد: لقد اهتديت إلى ما يبطل رأيك في أن الاختلاف في المذاهب كان

سببًا في ضعف الأمة، وهو أن المذاهب كانت أيام كانت الأمة في ريعان شبابها

وكمال قوتها، وكذلك نرى الأمم الأوربية في قوة وبأس شديد وهي مختلفة في الدين

ومتفرقة إلى مذاهب، وإذا بطل هذا الرأي تبطل نتيجته وهي الوحدة في الدين

على رأيك، ونكفى مؤنة الخوض في ذلك وما تبعه من فتح باب الاجتهاد الذي

يؤدي إلى تطويل، وقال وقيل، فقد راجعت الآيات والأحاديث التي ذكرتها في

مجلسنا الماضي، وظهر لي وجوه للنزاع في دلالتها على مرادك فهل لك في إقفال

هذا الباب؟

المصلح: من شأن المرض أن يطرأ في إبان الصحة، وكم من مرض تتولد

جراثيمه في طور الحداثة أو الشباب، فتدافعها قوة المزاج زمنًا، ثم تتغلب عليها

في طور آخر، إما بنفسها وإما بمساعدة جراثيم مرض آخر، وهذه القاعدة مشاهدة

في الأشخاص عند علماء الطب، وفي الأمم عند علماء الاجتماع، وإن شئت

فصَّلت لك القول في هذا تفصيلاً، ولو كنت مطلعًا على التاريخ لكفيتني ذلك؛ فإن

فتنة التتار التي هي أشد صدمة زلزلت القوة الإسلامية، لم تكن إلا بسبب تعصب

الشافعية والحنفية، وأما أوربا فقد أخذت حظها من ضعف التفرق في الدين أيام

كانت تُحَكِّم الدين في السياسة، وقد عالجت هذا الضعف بالفصل بين السياسة

والدين، فليس له الآن شأن في سياستها وأحكامها إلا الاستعانة بدعاته على

الاستعمار في الشرق وأفريقيا، وما زال رجال السياسة يطاردون رجال الدين،

ويغضون من صوتهم في عدة ممالك، أما قرأت في الجرائد ما حصل أخيرًا في

أسبانيا وفرنسا وغيرهما؟ فهل يروق في نظرك أن تحذو الحكومات الإسلامية في

هذا حذو الحكومات الأوربية؟ أما أنها ستفعل ولو بعد حين إلا أن تبادروا وأنتم

رجال الدين بالإصلاح الديني الذي تسير به سنن الشريعة على سنن الطبيعة؛ فإن

الله أقام سنن الطبيعة بالاضطرار عنا، ووكَّل إلينا إقامة سنن الشريعة بالاختيار منا

فإذا لم نوفق باختيارنا بين السنتين يثبت الاضطراري، ويبطل الاختياري {فَأَقِمْ

وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ

القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا تَكُونُوا

مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) ففي هذه الآيات الكريمة أهم أركان الإصلاح الديني الذي نطلبه

وكما لاحت لك وجوه للمناقشة في مقدماتي السابقة - بعد انصرافك من مجلسنا

السابق - لاحت لي أيضًا مسائل ومقدمات أخرى إذا أذنت لي سردتها عليك.

المقلد: قد عِيل صبري من المقدمات والمناقشات فيها، وأحب أن أقف على

مقصدك أولاً، فاذكره لي وانتظر في سائر مسائلك المناسبات.

المصلح: أحسن علماء المناظرة صنعًا باصطلاحهم على ترك البحث عن

مقدمات الدلائل لما يستلزمه من انتشار البحث وذهابه إلى غير غاية، وأحب أن

تسمح لي بذكر مقدمتين ذهلت عنهما في مجلسنا السابق ولا بد منهما وهما:

(المقدمة العاشرة) : إن الشارع لم يسلك في بيان الأحكام الدينية مسلك

الفلاسفة وعلماء النظر في وضع الحدود الجامعة المانعة لمسائل علومهم؛ وإنما بيَّن

الأحكام العملية بالعمل، وما بيَّنه بالقول وكَّله إلى أفهام المخاطبين وعرفهم، ولذلك

قال: الحلال بيِّن والحرام بيِّن. وما احتيج في العمل به إلى اجتهاد ورأي وكَّله إلى

اجتهادهم ورأيهم كاستقبال القبلة في السفر، وكان الصحابة والتابعون على هذا حتى

حدثت المذاهب، فأخذ بعض المجتهدين بإطلاقات الشارع في بعض الأحكام،

ووضعوا الحدود والتعريفات المنطقية للبعض الآخر، وكان هذا التحديد أعظم

أسباب الخلاف في المذاهب؛ ولكن لم يلزم أحد من الأئمة بأن يأخذوا بتحديده ولم

يحكم بخطأ من خالفه فيه لعلمهم بأن الشارع فوَّض ذلك إلى أفهام الناس، ووسَّع

الأمر فيه توسيعًا، وأنه لو سلك مسلك الفلاسفة في التحديد لأوقع الناس في الحرج،

ولما صح أن يكون دينه دين الفطرة، ولا أن يكون عامًّا، ولا أن يظهر في أمة

أمية، ولا أن توصف شريعته بالحنيفية السمحة، بل كان دينًا خاصًّا بطائفة من

أهل الفلسفة النظرية، وهكذا جعله علماء المسلمين بعد الصدر الأول، إذا تكلموا

في توحيد الله تعالى يذكرون الكم المتصل والكم المنفصل، ويذكرون الجوهر

والعرض والدور والتسلسل، وإذا تكلموا في الأحكام يذكرون الحدود الجامعة المانعة،

ويكثرون من التقسيم واختراع الأقسام الفرضية التي تمضي الأعمار ولا تقع، بل

يذكرون المحال أيضًا، حتى قال بعض علماء الحنفية: يحتاج من يريد أن يكون

فقيهًا حنيفيًّا إلى الانقطاع لمدارسة الفقه عشرين سنة على الأقل. وأنت تعلم أن هذه

المدة هي مدة التشريع، وفيها نزل الدين كله عقائده وأخلاقه وآدابه وسياسته

وإرادته وأحكامه، ولم تكن المدة كلها ولا عُشْرها مصروفة لبيان الأحكام الظاهرة

التي يسمونها الآن فقهًا.

ويشهد لهذه القاعدة إجازة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المختلفين في فهم

إطلاق النصوص فيما يتعلق بأعمالهم الشخصية، روى النسائي عن طارق (أن

رجلاً أجنب، فلم يصلّ فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال:

(أصبت) فأجنب رجل فتيمم وصلى، فأتاه فقال نحو ما قال للآخر (أصبت) .

وروى البخاري عن عمران بن حصين أنه قال للرجل الذي اعتزل فلم يصل في

القوم: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك

بالصعيد فإنه يكفيك. وأجاز عمرو بن العاص فيما فهم من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) من جواز التيمم للجنب إذا خاف على نفسه

من البرد. والمروي عن عمر وابنه وابن مسعود أن الجنب لا يتيمم. لأنهم كانوا

يفهمون من قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) أنها الجس باليد،

والآثار في هذا كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك عن التابعين والأئمة

المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين.

كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى الوضوء من الفصد والحجامة والرعاف

فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال:

كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب، وكان الإمام مالك أفتى

هارون الرشيد بأنه لا وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى يومًا بعد الحجامة، وصلى

خلفه الإمام أبو يوسف ولم يعد، واغتسل أبو يوسف في الحمام، وبعد صلاة الجمعة

أخبر أنه كان في بئر الحمام فأرة ميتة فلم يعد، وقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل

المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا. والفقهاء من المتأخرين يُرْجِعُون هذا إلى

قواعدهم المنتزعة كجواز التقليد بعد الوقوع، ومنهم من يؤول ذلك بتغير الاجتهاد

ولو ساعة من زمان، ومن ذلك خلافهم في أن العبرة برأي المأموم، وأنت تعرف

هذا تفصيلاً فلا حاجة إلى الإطالة به.

(المقدمة الحادية عشرة) : إن أصول الدين الأساسية هي العقائد الصحيحة

وتهذيب الأخلاق وأدب النفس وعبادة الله تعالى على الوجه الذي بينه وارتضاه،

والقواعد العامة للمعاملات بين الناس كحفظ الدماء والأعراض والأموال، وكل هذه

الأصول قد كملت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك نزل عليه في حجة

الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) فأما العقائد والعبادات فقد كملت بالتفصيل بحيث لا تقبل الزيادة ولا

النقص، ومن يزيد فيها أو ينقص منها فهو مغير للإسلام وآتٍ بدين جديد، وأما

أحكام المعاملات فبعد تقرير أصول الفضائل كوجوب العدل في الأحكام والمساواة

في الحقوق، وتحريم البغي والاعتداء والغش والخيانة وحد الحدود لبعض الجرائم،

وبعد وضع قاعدة الشورى فوَّض الشارع الأمر في جزئيات الأحكام إلى أولي الأمر

من العلماء والحكام الذين يجب شرعًا أن يكونوا من أهل العلم والعدل يقررون

بالمشاورة ما هو الأصلح للأمة بحسب الزمان، وكان الصحابة عليهم الرضوان

يفهمون هذا من غير نص عليه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما يُعلم من

حديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن، فإنه هو الذي قال ابتداءً أنه يحكم برأيه فيما

لا يجد فيه نصًّا في الكتاب ولا في السنة، وأجازه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،

بل نقل أنهم كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به، وإن خالف السنة

المتبعة كأنهم يرون أن الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة، لا بجزئيات الأحكام

وفروعها، أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس

رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله

عليه وسلم، وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، فقال عمر: إن الناس قد

استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. ومن قضاء النبي

صلى الله تعالى عليه وسلم بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى

عنهما قال: طلق ركانة امرأته ثلاثًا في مجلس، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها؟) قال: طلقتها ثلاثًا، قال: (في

مجلس واحد) قال: نعم. قال: (فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت) فراجعها.

والشواهد على هذا كثيرة، والحنفية لاحظوا هذا، فقدموا القياس الجلي على خبر

الواحد، والرأي الذي يسمونه الاستحسان مقدم عندهم على القياس والمراد

بالاستحسان ما ثبت أن فيه المصلحة للأمة، هكذا أفهمه خلافًا لما قاله المتأخرون من

فقهائهم: إنه قياس خفي. وإنما قالوا هذا؛ فرارًا من تشنيع المحدثين وسائر العلماء

عليهم بزيادة أصل في الدين، وبتقديم الرأي على السنة، ولو كان قياسًا لما شنعوا

عليهم بالرأي، ولما صح تقديمه وهو خفي على القياس الجلي، وكان الأولى أن

يحتجوا عليه بعمل عمر وإجازة الصحابة له رضي الله تعالى عنهم.

المقلد: لا أستطيع السكوت لك على هذه، فقد غلوت فيها غلوًّا كبيرًا، وقد

أوَّل الفقهاء حديث عمر رضي الله عنه وأجابوا عنه بعدة أجوبة، قال العلامة

السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ، فكانوا أولاً يصدقون في إرادة

التأكيد لديانتهم، فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع

الثلاث. وأجاب ابن حجر وغيره بأن الأحسن أن يقال: إنه ظهر لعمر ناسخ.

المصلح: لِمَ لَمْ تذكر رد ابن حجر على السبكي وأنت مطلع عليه؟ أتريد أن

تختلبني بكثرة التأويل؟ ألم يرد عليه بأن مذهبهم تصديق مدعي التأكيد وإن بلغ في

الفسوق ما بلغ؟ وأما قولهم باحتمال الناسخ فينافيه لفظ (فلو أمضيناه عليهم) ؛ لأنه

صريح في أنه رأي واجتهاد كما يدل قول ابن عباس في أول الحديث، على أن الحكم

الأول كان سنة متبعة، أو إجماعًا لا خلاف فيه، وأصرح منه في هذا حديث

طاووس عند أبي داود والبيهقي، وهو أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء. كان كثير

السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن

يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر

وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: (بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل

أن يدخل بها جعلوها واحدة، إلى أن قال: فلما رأى - أي عمر - الناس قد تبايعوا

فيها قال: أجيزوهن - أي الثلاث - عليهم) ، فقولهما:(جعلوها) دليل على أنه

إجماع، وقول عمر:(أجيزوهن) يفيد أنه اجتهاد منه كما تدل عليه أيضًا عبارة

السبكي، ولا التفات إلى التقييد بغير المدخول بها لجواز أن السؤال لواقعة كانت

كذلك، بدليل حديث ركانة في المدخول بها، وإطلاق الحديث الصحيح، وما زعمه

بعضهم من أن حديث طاوس لا يدل على أن الجاعل هو النبي صلى الله تعالى

عليه وسلم، وأنه يحتمل أن ذلك لم يقع إلا في الأطراف النائية فيجتهد فيها من

أوتي علمًا، فهو زعم سخيف واحتمال ضعيف؛ لأن اللفظ يأبى قبوله، وحديث

ركانة يقوض أركانه وأصوله، وليس عندهم لفظ أظهر في دعوى الإجماع منه.

المقلد - بحدة وغضب -: هل أداك اجتهادك إلى القول بأن عمر رضي الله

تعالى عنه قدم رأيه واجتهاده على السنة والإجماع؟ لقد راودتني نفسي أن أترك

الكلام معك؛ ولكن لا بد لي من سبر غورك، واستخراج كل ما في صدرك،

والوقوف على ما تتخيله من الإصلاح في الدين، وجمع كلمة المسلمين، وما أرى

هذا الإصلاح إلا نار سعير، سيكون لها فتنة في الأرض وفساد كبير.

المصلح وادعًا ساكنًا: استوقف سربك، واستفت قلبك، واترك المقلدين

المؤولين سدى، وافتح عينيك تجد على النار هدى، واعلم أنني لم أقل عن عمر من

نفسي شيئًا، وإنما هو قول ابن عباس الذي صحت روايته وأخذ به الأئمة الأربعة

وغيرهم، وأما تأويل الفقهاء فسببه أنهم وضعوا أصولاً وقواعد أسندوها إلى أئمتهم،

وحكَّموها في الكتاب والسنة وهدي الصحابة كأنها فروع لأصولهم، والأمر عندي

بخلاف ذلك، وكذلك كان عند الأئمة رحمهم الله تعالى، وما أكثر هذه الأصول إلا

قواعد نظرية استنبطها الأصوليون من أقوال أئمتهم، وطبقوها على مذاهبهم إلا ما

نُقل عن الإمام الشافعي الواضع الأول للأصول، ويعجبني ما قاله العلامة ولي الله

الدهلوي في هذا المقام.

المقلد: قله لي إن كان مختصرًا، وأرشدني إلى الكتاب الذي يوجد فيه إن

كان مطولاً.

المصلح: إنه مختصر وأخذ رسالة من مكتبته وقرأ ما نصه:

(واعلم أني وجدت أكثرهم يزعمون أن بناء الخلاف بين أبي حنيفة

والشافعي رحمهما الله تعالى على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه؛

وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم، وعندي أن المسألة القائلة بأن

الخاص مبين ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة نسخ، وأن العام قطعي كالخاص، وأن

لا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب

الرأي، وأن لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلاً، وأن موجب الأمر هو

الوجوب ألبتة، وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة، وأنها لا تصح بها

رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه، وأنه ليست المحافظة عليها والتكلف في جواب ما

يرد عليها من صنائع المتقدمين في استنباطهم كما يفعله البزدوي وغيره - أحق من

المحافظة على خلافها والجواب عما يرد عليه.

مثاله: أنهم أصلَّوا أن الخاص مبيِّن فلا يلحقه البيان، وخرَّجوه من صنيع

الأوائل في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (الحج: 77) ، وقوله صلى الله

عليه وآله وسلم: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)

وحيث لم يقولوا بفرضية الاطمئنان لم يجعلوا الحديث بيانًا للآية، فورد عليهم

صنيعهم في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (المائدة: 6) ومسحه صلى الله

عليه وآله وسلم على ناصيته حيث جعلوه بيانًا، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي

فَاجْلِدُوا} (النور: 2) الآية، وقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (المائدة: 38) الآية، وقوله تعالى:{حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة: 230)

وما لحقه من البيان بعد ذلك، فتكلفوا للجواب كما هو مذكور في كتبهم، وأنهم

أصلَّوا أن العام قطعي كالخاص، وخرَّجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى:

{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: 20) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) حيث لم يجعلوه مخصصًا، وفي قوله صلى الله عليه

وآله وسلم: (فيما سقت العيون العشر) الحديث، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

(ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) حيث لم يخصوه به ونحو ذلك من المواد

ثم ورد عليهم قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} (البقرة: 196) وإنما هو

الشاة فما فوق ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتكلفوا في الجواب، وأصلَّوا

أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب الرأي، وخرَّجوه من صنيعهم

في ترك حديث المصراة، ثم ورد عليهم حديث القهقهة، وحديث عدم فساد الصوم

بالأكل ناسيًا فتكلفوا في الجواب، وأمثال ما ذكرنا كثير لا يخفى على المتتبع،

ومن لم يتتبع لا تكفيه الإطالة فضلاً عن الإشارة) اهـ، وظاهر أن أكثر القواعد

إنما وضعت لتصحيح كلام الأئمة، وردَّ كل حزب على مخالفه والاعتذار عن ترك

العمل بالكتاب والسنة، فهذه هي أصول فقه مقلديك، فهل يصح أن نسلم بجميعها؟

المقلد: إن هذا الرجل عالم أصولي؛ ولكنه متعصب على الحنفية.

المصلح: هو حنفي الأصل؛ ولكنه أعمل نظره بالإنصاف، ولم يجمد على

التقليد الأعمى، فانفتح له باب العلم، فكان عالمًا أصوليًّا بصيرًا في دينه، ورسالته

هذه اسمها (الإنصاف في أسباب الخلاف) .

المقلد: كلما عزمت على ترك البحث في مقدماتك تجيئني بنغمة جديدة تفسخ

العزيمة، وقد طال المجلس فلا أسمح لك ولا لنفسي بكلام قبل بيان مقصدك،

والإفصاح عن نتيجة مقدماتك بعد إبطال الثقة بعلمي الفروع والأصول، وهل هي

إلا الفوضوية الدينية التي قلت من قبل أنك لا تريدها.

المصلح: أريد أن يكون المسلمون على ما كان عليه أهل الصدر الأول في

زمن الراشدين الذين أمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتمسك بسنته

وسنتهم، والعض عليها بالنواجذ، وترك كل ما أُحْدِثَ في الدين مما يخالف

طريقتهم كما قال: (وإياكم ومحدثات الأمور) الحديث، فأما العقائد فالقرآن برهان

على نفسه، وعلى رسالة من جاء به، ويضاف إليه سيرة النبي عليه السلام في

أخلاقه وآدابه وعلمه وعمله.

كفاك بالعلم في الأمي معجزة

في الجاهلية والتأديب في اليتم

ومتى ثبتت النبوة والقرآن فإننا نأخذ عقائدنا من القرآن من غير فلسفة فيها،

ونستدل عليها بالطريقة التي سلكها في الاستدلال؛ فإن الذين أرادوا معرفة الله

تعالى بالعقل وحده كفلاسفة اليونان زلوا وضلوا، وبهذا نفهم معنى كون الإسلام دين

الفطرة، وأنه لا يمكن أن يخالف في أحكامه أحكام الخليقة، ولا في سنته سنن

الطبيعة؛ لأن كلاًّ من الله تعالى كما تشير إليه الآية السابقة، ونعذر من خالفنا فيما

لا إجماع على أنه كفر لا يعد صاحبه من المسلمين حتى يفيء، وأما الأخلاق

والآداب فحسبنا ما في الكتاب والسنة من بنائهما على قاعدة الاعتدال ولا نلتفت إلى

إفراط بعض المتصوفة في الروحانيات والغلو في الزهد والتواضع والسخاء؛ حتى

انتهوا إلى الكسل والذل وإهانة النفس وتعذيبها والإسراف بإنفاق كل ما تصل إليه

اليد ونحو ذلك، فالقرآن ينادي بلسان عربي مبين بالأمر بالعمل وبعزة النفس

وكرامتها بالاقتصاد، كما لا نلتفت إلى تفريط بعض المتفقهة الذين لم يجعلوا للروح

حظًّا في عملهم.

وأما العبادات فما بينته السنة بالعمل، وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق

حتى صار معلومًا من الدين بالضرورة هو الذي يجب أن يأخذ به كل مسلم، وما

اختلفوا فيه منه كالجهر بالبسملة أو قراءتها ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه

وعدم ذلك، وكتكبيرات صلاة العيد فهو غير واجب، وإن عدَّ بعضه الفقهاء واجبًا

وهو على التخيير، فمن ترجح عنده شيء بدليل أو بموافقة لحاله أخذ به، ولا

يجب عليه البحث عن وجوه الترجيح؛ لأن اختلاف المسلمين فيه عملاً دله على أنه

ليس من ضروريات الدين وفرائضه، ولا يعيب من خالفه بما ترجح عنده من فعل

أو ترك؛ لأنه على التخيير، وما كان مثل صلاة العيد والوتر فالأول أن يتبع المأموم

فيه الإمام، وأن لا تتعدد الأئمة في مسجد واحد في وقت واحد لأجل الخلاف، نفعل

ما ثبت عنهم فعله، ونترك ما ثبت عنهم تركه، ونتخير فيما اختلف فيه النقل مع

الاحتياط وعدم الميل مع الهوى، ونسكت عما سكتوا عنه فلا نُجري فيه قياسًا، ولا

نُعمل فيه، رأيًا وكيف نزيد عليهم وهم خيار الأمة، وقد أحسن الإمام مالك وأصاب

في الاحتجاج بعمل أهل المدينة لعهده، وكذلك يعمل كل أحد بما صح عنده من

الأحاديث القولية، ولا يجعل ذلك مثارًا للخلاف في الدين؛ لأنه من قسم المخير فيه

ولو كان محتمًا لما ترك العمل به الصحابة والتابعون، ولو عملوا به لكان ثابتًا

بالعمل، وقد تقدم حكمه.

المقلد: إن عندي موعدًا قرب وقته، وأحب أن أنصرف الآن، وأعود غدًا

إن شاء الله تعالى. وانصرفا على ذلك.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 205

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

(1)

من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: هل الاجتهاد

المطلق فرض عين على كل مسلم ومسلمة؟ أم فرض كفاية؟ أم لا هذا ولا ذاك؟

وما هو الدليل النقلي الذي لا يحتمل التأويل؟

(ج) الاجتهاد المطلق الذي يستعد ذووه لمعرفة الأحكام الشرعية في كل

باب فرض كفاية؛ لأن المصلحة تقوم فيه بالبعض، ومن الحرج الشديد أن يُكَلَّف

به أحد، وقد اشترطوا في القاضي والمفتي الاجتهاد؛ لأن وظيفة الأول الحكم،

ووظيفة الثاني البيان لما يعرض من الأقضية والمسائل التي لا نص فيها، فلا بد

أن يكونا قادرين على استنباط الأحكام لئلا تتعطل المصالح، وهذا واضح لا غبار

عليه، وترون الكلام في الموضوع مفصلاً في محاورات المصلح والمقلد، فتتبعوها

إلى آخرها، وإن رأيتم فيما كُتب إلى الآن بعض إجمال أو شذوذ عما عرف عن

الفقهاء في بعض الجزئيات، هذا إن كنتم تريدون بالدليل الدليل في المسألة كما هو

الظاهر، وإن كنتم تريدون مطلق الدليل النقلي الذي يفيد القطع، فهو ما كان نصًّا

في معناه لا يحتمل غيره متواترًا في لفظه كالقرآن.

***

(2)

ومنه: من الذي قال من المجتهدين أو المقلدين بحرمة أو كراهة تعلم

العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية وبالإجمال كافة العلوم المجردة من الإلحاد سواء

كانت عصرية أو غير عصرية؟ وهل إذا قصَّر بعض علماء المسلمين في عدم

تعلم وتعليم هذه العلوم ينسب ذلك التقصير إلى علم الفروع الفقهية؟ أم إلى نفس

ذلك المقصر؟ وما هو الدليل؟

(ج) لمَّا حدث في المسلمين علم الكلام والجدل في الدين مقته وذمه غير

واحد من الأئمة المجتهدين كما رأيتم في الجزء 22 من منار السنة الماضية، ولمَّا

ظهرت الفلسفة اليونانية فيهم ومزجوها بمباحث العقائد كان بعض العلماء يقول

بوجوب تعلمها للمدافعة عن العقائد، وبعضهم يحرِّم ذلك ويقول: لا حاجة إليها في

إثبات العقائد، حتى كان في الفقهاء من حرَّم المنطق، ولا يمكن حصر هؤلاء

بأسمائهم ولا حاجة إليه، وحسبك ما قاله الإمام حجة الإسلام في العلوم التي ليست

بشرعية - أي: لم تؤخذ عن الأنبياء عليهم السلام قال رحمه الله تعالى:

(فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم،

وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب،

وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس فريضة، أما فرض

الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا [1] كالطب؛ إذ هو ضروري

في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري

في المعاملات وقسمة الوصايا

والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل

البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين [2]، ولا يتعجب من قولنا:

إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض

الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة [3] ؛ فإنه لو خلا البلد

من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك؛ فإن الذي أنزل

الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض

للهلاك بإهماله.

وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير

ذلك مما يستغنى؛ ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه [4] ، وأما المذموم منه

فعلم السحر والطلسمات، وعلم الشعبذة والتلبيسات [5] ، وأما المباح منه فالعلم

بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار [6] وما يجري مجراه) اهـ.

ومنه يعلم أن المقصِّر في العلوم النافعة تبعة تقصيره عليه.

***

(3)

ومنه: هل أحكام الفروع الفقهية في المذاهب الأربعة أو غيرها من

مذاهب المجتهدين أصلح في العمل لنظام المجتمع أم القوانين الوضعية؟ وما هو

الدليل؟ .

(ج) الأصلح لنظام المجتمع ما قام به العدل والمساواة بين الناس في

الحقوق، والأحكام الفقهية تفضل القوانين عندنا معشر المسلمين، وهي أصلح

لمجتمعنا من القوانين؛ لاعتقادنا بوجوب العمل بها، فهي مصحوبة بقوة تنفيذية في

قلب الإنسان، ووازع نفسي يحمله على مراعاتها سرًّا وجهرًا؛ ولكن اتباع مذهب

واحد فيه حرج وإخلال بالمصلحة في بعض المسائل، كما أن الخلاف وتعدد

الأقوال ينافي المصلحة، ولا تقوم مصلحة المسلمين بهذه الأحكام إلا إذا أُلِّف كتاب

منقح خالٍ من الحشو والتعقيد والخلاف يفي بحاجة الأمة، ويؤخذ من كتب جميع

الأئمة على ما بيناه في مقدمة تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح

المحاكم الشرعية المنشورة في المجلد الثاني من المنار.

(4)

ومنه: هل تلقين العهود وسلوك طريق الآخرة والإرشاد إليها وزيارة

الصالحين الأحياء والميتين مشروع أم منكر؟

(ج) الظاهر أنكم تريدون بتلقين العهود ما عليه القوم الذين يُسَمَّون أهل

الطريق، وهو أمر لم تَرِدْ به سنة صحيحة، وأما ما كان مثل مبايعة النبي صلى

الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات فلا وجه للسؤال عنه، وأما سلوك طريق

الآخرة فإن كان بالعمل بالكتاب والسنة والاهتداء بهدي الراشدين، فهو الدين القيم،

والإرشاد إليه واجب بما أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه،

وما زاد على ذلك فهو منكر وشرع لم يأذن به الله، وأما زيارة الصالحين الأحياء

فهي تدخل في عموم الأمر بالبر والصلة والحب في الله كما تدخل زيارة قبور

الميتين في عموم حديث (فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فزيارتها على هذا الوجه

مشروعة، وما يزيده الجهال من تقبيل الأعتاب والطواف والاستعانة على قضاء

الحاجات فهو من البدع المنكرة، كما فصلناه مرارًا في المنار.

_________

(1)

يدخل في هذا الضابط الهندسة والميكانيكا؛ لأن الآلات الحربية والصناعية لا تقوم بدونهما في هذا العصر، وعلم تقويم البلدان لضرورته في الأعمال الحربية وغيرها، وعلم الكيمياء لتوقف تركيب الأدوية عليه الآن، وعلم الطبيعة لتوقف الصنائع عليه كالوابورات البرية والبحرية، وغير ذلك من العلوم التي يسمونها عصرية لقيام مدنية هذا العصر بها، وبتركها ضعف المسلمون وصاروا عيالاً على خصمائهم الطامعين في بلادهم.

(2)

إنما يصح هذا إذا وفى ذلك الواحد بحاجة البلد، وأما إذا لم يوف بها فلا تسقط االفريضة بالواحد، بل بما تقوم به المصلحة.

(3)

إنما عَدَّ الحجامة فريضة بسبب اعتقاد أطباء زمانه، وعدم الاستغناء عنها، وكذلك كان، وأما اليوم فلا.

(4)

ومثل هذا علم الجيولوجيا ونحوه من الفنون التي لا تتوقف عليها مصالح البشر؛ ولكنها مزيد كمال في العلم.

(5)

عَدَّه السحر علمًا يفيد أنه ليس من خوارق العادات، وهو ما يدل عليه القرآن، ومعنى كونه مذمومًا أنه محرم لما فيه من خداع الناس وإيذائهم بالخداع والتمويه وبعض الأعمال الخفية أسبابها عنهم.

(6)

إنما يكون العلم بالأشعار والأخبار مباحًا إذا كان الغرض منها التسلي والتفكه، وأما إذا قصد بالأشعار تعلم البلاغة وضبط اللغة، وأريد بالأخبار الاحتجاج بها في السياسة التي منبعها التاريخ ونحوها؛ فإنهما يكونان من الفرائض حينئذ.

ص: 221

الكاتب: الشيخ محمد إسماعيل

‌إظهار المدفون من تمثال فرعون

لحضرة الفاضل الشيخ محمد إسماعيل

وكيل المجلة في ملوي

في ضواحي بلدتنا (ملوي) قرية تبعد عنها نحو ساعة تدعى الأشمونين،

وكانت تسمى قديمًا (هرموبوليس) وهي من أشهر مدن الفراعنة التي اتخذوها

عاصمة لملكهم في بعض الأزمان الغابرة، وفيها الآن من المباني العتيقة والآثار

القديمة ما يشهد بسابق حضارتها التي كانت عليها، ومدنيتها الفائقة التي حُفِظَتْ

بحفظ آثارها المخبوءة في بطون آكامها وأطلالها الدارسة التي يبلغ مقدار مساحتها

1200 فدان، وهي على ما هي عليه الآن من الخراب والعفاء لا تزال مطمح

أنظار السائحين الباحثين عن الآثار على اختلاف نحلهم ومللهم، وما زالت الأيام

تُظْهِر بعض تلك الآثار التي تبهر العقل، وتأخذ بالألباب، وفي هذه الأيام عثر

بعض مستخرجي السماد (السباخ) في أثناء حفرهم على أعظم تمثال وأجلّ أثر،

ألا وهو تمثال الملك منفتاح، أو منفطا الأول الذي يقول بعضهم: إنه فرعون موسى.

عُثر عليه في بعض آكام تلك القرية، وهو مصنوع من حجر الجرانيت الأحمر،

موضوع على قاعدتين إحداهما متصلة به وهي من نوع حجره، والأخرى منفصلة

عنه، وهي من الحجر الأبيض مزينة بالكتابة والنقوش، ومقدار ارتفاعه يبلغ خمسة

أمتار، موليًا وجهه شطر المشرق، مقدمًا رجله اليسرى، ومؤخرًا اليمنى، قابضًا

على ملف من الورق مكتوب عليه اسمه وألقابه الملوكية، وعلى جنبه الأيسر قد

رسمت صورة ولده (سيني الثاني) المكتوب عنه أنه ولي عهده ورئيس الكتاب

وقائد جيوش أبيه الملك منفتاح، وعلى كتفه راية العدل مكتوب عليها (الحق) ،

وهذا التمثال يمثل الملك وهو مؤتزر بجلد النمر تحت سرته، قد كتب على ظهره

ما معناه: الذهب الإبريز ابن الشمس، الثور الأعظم، مالك التاجين، صاحب

البرين - أي: الوجه القبلي والبحري - وقد فسر بعض رجال الآثار تقديم رجله

اليسرى وتأخير اليمنى بالخضوع والخشوع للآلهة، وأرى أن هذا التفسير ربما كان

بعيدًا عن الإصابة، فإني أول ما رمقته بنظري وكان معي بعض الأذكياء فهمت أن

ذلك منه رمز إلى الشجاعة والإقدام، وإنه لدى الإمعان يظهر جليًّا أنه كمن يريد

البراز، فهو يتحفز للوثبة بحالة تدل على الكبر والإعجاب، لا الخشوع والخضوع

ولقد راجعت التاريخ فإذا به يقول ما نصه: (منفتاح أو منفطا الأول هو الذي

كان في أيامه خروج بني إسرائيل من مصر تحت رئاسة موسى عليه السلام، ولم

يرث عن أبيه سوى الكبرياء والعظمة، وأجمع المؤرخون على أن قسوته كانت

سببًا في قصر أجله، وعدم طول بقائه في ملكه) اهـ بالحرف.

إن آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

فسبحان الذي نجَّاه ببدنه ليكون آية لمن خلفه، وأظهر تمثاله الآن عبرة لمن

بعده، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

هذا وما انتشر نبأ اكتشافه بين الناس حتى هرع الكثيرون منهم على اختلاف

نزعاتهم لمشاهدته؛ حتى إنه لا يخلو وقت من ازدحام الوافدين عليه، وكل معجب

بحسن وضعه ونسق هندامه، مما يدل صراحة على ما كان بمصر من العلوم

والصنائع

في الغابرين الأوليـ

ـن من القرون لنا بصائر

وهو لعمر الحق جدير بأن يؤمه محبو الآثار، وذوو الشغف بصنائع الأقدمين،

غير أننا نأسف على ما أصابه أثناء استخراجه حيث أفلتت ضربة من أحد الحفار

أصابت تاجه من أعلى فكسرت قطعة صغيرة منه، كما أنه حينما أرادوا إنزاله من

أعلى القاعدة التي كان واقفًا عليها انصدع فخذه فانكسر، لكن بغير انفصال، ولم

يُخِلّ هذا ولا ذاك بحسن التمثال وجميل شكله، هذا وقد شاهدنا بعد انصرافنا من

هذا المشهد تمثالاً آخر قريبًا منه؛ لكنه أكبر جِرْمًا ومقطوع الرأس وبعض الصدر،

وهو على هيئة شخصه جالس على كرسي، ويقال: إن رجال الآثار كابدوا المشقات

في استخراجه فأعياهم.

ثم عرَّج بنا الخرِّيت الذي استصحبناه معنا إلى مسجد هناك قديم، قد تداعت

حيطانه، وخر سقفه، ولم يبق منه غير عُمُد من الرخام قائمة، وهي على طول

عهدها لم يطرأ عليها ما يذهب برونقها، فضلاً عن ما حواه هذا المسجد أيضًا من

الآثار التي قل أن يوجد نظيرها، فزادنا منظره على هذه الحالة أسفًا على أسف، ولم

نقدر أن نمسك ألسنتنا عن الحوقلة، اللهم إلا بالترحم على السلف الصالح الذين بذلوا

كل مرتخص وغالٍ في فتح البلاد، وشيَّدوا للإسلام فيها أرفع عماد، كما أننا لم نملك

خواطرنا التي أخذت تلوم مصلحة آثار الأوقاف التي تركت هذا المسجد وما حواه في

قرية لم يزل أهلها يضيِّعون ما ادخره الأقدمون لجهلهم، مما لو كان لدى غيرهم

لعضوا عليه بالنواجذ، لعلمهم أن ذلك أعلى وأغلى قيمة من الركاز، ولقد شاهدت

بعض أعمدة هذا المسجد ملقاة خارجة عنه على طلل بالٍ، بحيث لا يُؤْمَن ضياعها؛

فلذلك نستلفت أنظار حكومتنا إلى مكافأة من يعثر على الآثار بعد التحري والوقوف

على أنه هو العاثر الحقيقي على ذلك، فقد نما إلينا أن بعض الفلاحين يعثر على شيء

من ذلك، فيخبر أولي الشأن الذين يرفعون الخبر إلى الحكومة، ثم تُصْرَف المكافأة

إلى غير مستحقها، فيشكو الأخير سوء حظه، ويندب سوء حاله، ويأخذ على نفسه

العهود أنه لو عثر على مثل هذا مرة ثانية ليهشمنه وليكسرنه انتقامًا لنفسه من ضياع

أتعابه سدى.

هذا وقد علمت أخيرًا أنه ظهر وراء الحفرة التي كان بها التمثال هيكل منقوش

على جداره (صورة سيتي) بن منفتاح على هيئته التي تولى فيها الملك بعد أبيه

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ

مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر:

82) .

_________

ص: 225

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌طُرَف الأعراب ونوادرهم

أبو النجم الفضل بن قُدامة العجلي الراجز من فحول المتقدمين في الإسلام

يتمثل بكلامه وهو الذي يقول:

أنا أبو النجم وشعري شعري

لله در ما يجن صدري

وفد على هشام بن عبد الملك وقد طعن في السن، فقال له هشام: حدثني يا أبا

النجم. فقال: أعَنِّي أم عن غيري؟ فقال: بل عنك. فأنشأ يحدثه وهو يضحك

وصار يختلف إليه، وكان طرده هشام حين أنشده أرجوزته التي يمثلون في الكلام

على الفصاحة بمطلعها (الحمد لله العلي الأجلل) وفيه مخالفة القاعدة الصرفية في

الإدغام. وذلك أنه لما بلغ أطرف تشبيه فيها وهو (والشمس في الأفق كعين

الأحول) فطن قبل أن ينطق بالكلمة الأخيرة؛ لأن هشامًا كان أحول، فلم يقلها فلما

وقف، قال هشام: أجز. فقالها، فطرده.

وضاق صدر هشام في ليلة، فقال لأحد الخدم: اطلب لي محدثًا أعرابيًّا

شاعرًا، فخرج الخادم إلى المسجد، فإذا هو بأبي النجم وكان ينام فيه بعد طرده،

فضربه برجله وقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: إنني أعرابي غريب. فقال:

إياك أبغي، هل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله. فانطلق به حتى أدخله القصر،

وأغلق الباب، فظن أبو النجم الشر والانتقام، ثم مضى به فأدخله على هشام، فإذا

هو في بيت صغير، والشمع يزهر بين يديه، وإذا هو قد ضرب بينه وبين نسائه

سترًا رقيقًا، فلما رآه هشام قال: أبو النجم؟ قال: نعم، طريد أمير المؤمنين.

فأذن له بالجلوس، وسأله عن منزله ومبيته مباسطة، ثم قال له: ما لك من الولد؟

قال: ثلاث بنات وبُني اسمه شيبان. فقال: هل أخرجت من بناتك أحدًا؟ قال:

نعم، زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة. قال: وما أوصيت به

الأولى؟ فقال:

أوصيت من (بَرَّة) قلبًا حُرَّا

بالكلب خيرًا والحماة شرا

لا تسأمي ضربًا لها وجرَّا

حتى ترى حلو الحياة مرَّا

وإن كستك ذهبًا ودرَّا

والحي عميهم بشر طرَّا

فضحك هشام وقال: فما قلت للأخرى؟ قال: قلت:

سبي الحماة وابهتي عليها

وإن دنت فازدلفي إليها

وأوجعي بالنهز ركبتيها

ومرفقيها واضربي جنبيها

وظاهري النَّذر لها عليها

لا تخبر الدهر بها ابنتيها [1]

فضحك هشام حتى سقط على قفاه وقال: ويحك ما هذه وصية يعقوب عليه

السلام ولده. فقال: ولا أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين. قال: فما قلت للثالثة؟ قال:

قلت:

أوصيك يا بنتي فإني ذاهب

أوصيك أن تحمدك الأقارب

والجار والضيف الكريم الساغب

لا يرجع المسكين وهو خائب

ولا تني أظفارك السلاهب

لهن في وجه الحماة كاتب [2]

والزوج إن الزوج بئس الصاحب

قال: وكيف قلت هذا ولم تتزوج؟ وأي شيء قلت في تأخر تزويجها؟ قال:

قلت:

كأن ظلَاّمة أخت شيبانْ

يتيمة ووالداها حيانْ

الرأس قمل كله وصيبان

وليس في الساقين إلا خيطان

تلك التي يفزع منها الشيطان

فضحك هشام حتى ضحكت النساء لضحكه، وأمر له بثلاثمائة دينار، وقال:

اجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين.

_________

(1)

المظاهرة: المعاونة، والنذر معروف، وبمعنى الإنذار.

(2)

تني: تقصر، والسلاهب: الطوال.

ص: 229

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسباب الحرب الروسية العثمانية

- تتمة

عُلم مما نشرناه في الجزء الماضي أن الدول الأوربية اغتنمت فرصة إشعال

روسيا الفتنة في بلاد البلقان العثمانية لأن تجعل لها حقًّا رسميًّا في زلزلة استقلال

الدولة العلية بمشاركتها في أحكامها وإدارتها، ولو في بعض الولايات، وأن تُصَدِّق

الدولة على ذلك؛ لتقوم الحجة عليها في كل آن، وأن هذا هو السبب في رفض

مطالب المؤتمر، وقد كان مدحت باشا أبصر رجال الدولة بعاقبة الحرب التي تتوقع

من رفضها، كما كان أعلمهم بضرر قبولها، وإننا ننشر المذاكرة والمشاورة في هذا

الأمر مما كتبته الجوائب عن المجلس الأميّ الذي أمر به مولانا السلطان يومئذ وهو:

(قال مدحت باشا: إذا رفضنا مطالب الدول أدى ذلك إلى فسخ المؤتمر،

فربما يعلن بعض الدول بحربنا، والمترجح عندي أن دولتي إنكلترا وفرنسا يبقيان

على الحيادة، أما الروسية التي هي أصل اقتراح هذه المطالب، فيُحتمل أنها تجري

إيجابها علينا بالسيف، وأما أوستريا فحيث إن من رعيتها 17000000 من

الصقالبة، فمن الصعب علينا أن نجزم بما يتأتى لها أن تفعله، فإذا كان سكانها من

المجر يتساهلون معها، فلا يبعد أنها تتحد مع الروسية وتعلن بمحاربتنا، فيمكنها

والحالة هذه أن تستولي على بوسنة وهرسك إلى مدة غير معلومة، أما سكان

الصرب والمملكتين (الأفلاق والبغدان) والجبل الأسود فالأقرب إلى المعقول أنهم

يكونون أضدادًا لنا، فليس من المحتمل أن نتكل على مساعدة أحد من الخارج، فإذا

اعتبرتم هذا كله فلا نخفي على أنفسنا أن أحوالنا في بحران.

فقال صبحي باشا: إن الصقالبة من سكان أوستريا ليس عندهم من القوة ما

يكون به خطر علينا. فطلب مدحت باشا أن يعرف على الحقيقة ما هي قوة الدولة

العلية، فقال بعض العلماء: إن ما يلزم للمملكة أن تفعله هو أن تتكل على المولى

سبحانه وتعالى، وتُقبل على الحرب.

فقال مدحت باشا: إذا رمنا الإعلان بالحرب لزمنا بالضرورة أن تكون لنا قوةً

عسكرية مكافئة، فإذا غلطت في ذكر مقدار قوتنا العسكرية، فناظر الحربية الحاضر

الآن بيننا ينبهني على غلطي، فأقول: إن عدد عساكرنا الآن يبلغ من 500000 إلى

600000 وبحمده تعالى وبعناية مولانا وسلطاننا المعظم قد أمدَّت هؤلاء العسكر

بالسلاح الكافي، فصاروا مستعدين للقتال، وقد أوصينا من أميركا على مقدار وافر

من قراطيس البارود؛ ولكن إذا صار الإعلان بالحرب يحتمل أن يقع القبض عليها

قبل وصولها إلى الآستانة، ولا يخفى عليكم أيضًا أنَّا الآن لا درهم لنا ولا دينار،

وأبواب الصيارفة وأصحاب المعاملات المالية مقفولة دوننا (كذا في الأصل

والصواب مقفلة) ولا يمكننا إبقاء جيش بدون دراهم.

فقال رءوف بك (ابن المرحوم رفعت باشا) : نعم إن لنا من الأسباب ما

يخيفنا من الحرب؛ ولكن إذا قبلنا لائحة المؤتمر لم يبق ريب في انقلاب السلطنة،

فالحرب كداء الحمى يمكن لنا أن نتخلص من رزئه؛ ولكن لائحة المؤتمر كداء

الرئة عاقبته القبر لا محالة، فغاية ما يلزمنا فعله هو أن نلبس الصوف ونوقد

الشمع الأحمر ونغالب العدو.

فقال مدحت باشا: إن قوائمنا (أوراق) المالية في بخس، ويحتمل أنها تزيد

بخسًا، وقد عهد أنه أتى على فرنسا زمان بلغت فيه قيمة الحذاء إلى 27000 فرنك

(سبعة وعشرين ألفًا) فمن ذا الذي يدري ما يصيبنا إذا أقدمنا على الحرب،

فيحتمل أنه بعد مدة قصيرة يعوزنا القوت، فتتمنى الناس أن نكون قد قبلنا

اقتراحات المؤتمر.

فقال محمد رشدي باشا (الصدر الأسبق) : إن ما قاله جناب الصدر الأعظم

صحيح، إلا أن قبول اقتراحات المؤتمر يحرم سلطنتنا السنية من الاستقلال،

والحرمان من الاستقلال يشبه الاضمحلال.

فقال شيخ الإسلام: إني على رأي الصدر الأعظم؛ ولكني أرى أن رفض

الاقتراحات أولى. فقال شيخ الإسلام السابق: إن الواجب علينا واضح جلي، وهو

رفض هذه الاقتراحات؛ لأنها تسلب منا الاستقلال.

فقال عابدين بك (مدير البورس) : إن أربعين مليونًا من العثمانيين يختارون

الحرب على ضياع حقوقهم وشرفهم، فَأْمرونا بالقتال فإنا مطيعون.

فقال الصدر: إن كنت قد اطلعت على أفكار أهل المجلس أيقنت بأنهم يرون

أن قبول اقتراحات المؤتمر يحرم الدولة العلية من الاستقلال. فأجاب سائر الأعضاء

بقولهم (نعم نعم) هذا رأيهم. ثم قال عدة من العلماء: هل تداخلنا نحن في حقوق

دول أوروبا الذين لهم رعايا من المسلمين، فكيف يمكننا أن نسمح لهم بأن يتداخلوا في

مصالح دولتنا؟ فقال مدحت باشا: يبعد عن التصور أننا إذا رفضنا هذه الاقتراحات

يكون ذلك باعثًا على حرب عمومية، ولكن ينبغي لنا أن نعلم أن الأفكار العمومية في

أوربا كلها ضدنا، والأفكار العمومية هي أقوى شيء في أيامنا هذه كما لا يخفى. فقال

جميل باشا: إذا حامينا عن شرفنا فإن الأفكار العمومية تميل إلينا. فقال عابدين بك:

إننا نفتخر بأن نفكر بأن جوابنا السلبي يوجب سفر ستة سفراء من الآستانة في آن

واحد، فهو يذكرنا فخر الملة العثمانية ومجدها، فقد عزمنا على أن نجاوب هؤلاء

السفر جوابًا واحدًا. ثم قال البعض: نعم إن تهييج الأفكار العمومية مما يُتأسف منه؛

ولكن ماذا نفعل بعدما أخبرنا الدول بالصدق عن مقاصدنا، وحقيقة شأننا في هذه المدة

الأخيرة الطويلة فرفضوا رأينا وعولوا على رأيهم، فإذا توكلنا على الله تعالى وحامينا

عن شرفنا واستقلاليتنا، فلنا أمل في أن أفكار عموم الناس في نهاية الأمر تكون معنا

لا علينا، وخصوصًا أن القانون الأساسي الجديد قد شمل غير المسلمين من رعية

دولتنا بالحقوق التي شمل بها المسلمين سواء. فقال صوا باشا: إذا كان سفر سفراء

الدول الست في آن واحد من شأنه أن يهيج علينا الأفكار العمومية يلزم أن لا يبرح من

بالنا أن هذه الوسيلة هي الوسيلة الوحيدة لصون شرف السلطنة العثمانية، وكل

العثمانيين يعنيهم هذا الأمر، ويهمهم، فإن اخترنا الموت على إهانة شرفنا، فالأفكار

العمومية في أوربا تثني على اختيارنا، ولا شك أن الأفكار العمومية في أوربا أقوى

من دولها.

فقال مدحت باشا: لا ريب في أن شرف الأهالي منوط بشرف الدولة،

فالدولة العلية إن لم تعرف كيف تحافظ على استقلاليتها فلا تستحق أن تسمى مملكة.

فقال ياور باشا (ناظر البوسطة والتلغراف) : لو فرض أن تلك المطالب اقترحت

على شخص لكان يرفضها لا محالة، فكيف لا ترفضها مملكة.

ثم ألقى وكيل بطرك الأرمن الكاثوليك مقالة طويلة في عدم لزوم قبول

اقتراحات المؤتمر، ثم قال حاخام الإسرائيليين: إن أبناء ملتي عازمون على أن

يبذلوا أرواحهم للمحافظة على استقلال السلطنة العثمانية. (سرور من الحاضرين

عمومًا) ، ثم قال يانقوسكياديس أفندي - أحد أعضاء شورى الدولة وهو من طائفة

الأروام -: كلنا نفتخر بأن نكون من رعية سلطان شمل قومه بقانون أساسي، كالذي

أنعم علينا به مولانا السلطان المعظم، وإنا مستعدون لأن نموت محافظة على هذا

القانون وبحب وطننا [1] . ثم قال الصدر الأعظم (إذ ذاك مدحت باشا) : المملكة

التي تنعم على رعاياها بالحرية والاستقلالية جديرة بأن تطلب لنفسها أيضًا الحرية

والاستقلالية. ثم قال محمد رشدي باشا: إن القانون الأساسي وإن كان قد نُشر

أخيرًا إلا أن مولانا السلطان المعظم وعد بامتيازات عظيمة في الخط الهمايوني الذي

أصدره يوم جلوسه على سرير السلطنة السنية، وكان صدوره قبل عقد المؤتمر

فالفضل في إصدار هذا القانون عائد إلى مولانا السلطان، وليس هو من تشدد

المؤتمر على مولانا [2] .

ثم قال وكيل بطرك الروم الأرثوذكسيين: إنني أستحسن ما قاله صوا باشا

بالنيابة عن أبناء ملتي. ثم قال وكيل البروتستانط: إن القانون الأساسي شمل سائر

الرعايا بحقوق واحدة، فكلنا عثمانيون، وكلنا نكره تداخل الأجانب، وقد صدق

الصدر الأعظم في قوله: إن هذه المسألة خطيرة لا يلزم إنهاؤها على عجل، فيُحتمل

أنه يوجد سبيل لإصلاحها بدون قتال، والظاهر أن الأولى أن نترك لمجلس الوكلاء

أن ينهي هذه المسألة لصون شرفنا بأنفسنا. (ضحك في المجلس) ، ثم صرخ أحد

الحاضرين قائلاً: نعم إنا نحافظ على شرفنا بأنفسنا، فقد مضت تلك الأيام التي كنا

نوكِّل فيها وكلاءنا - أي: الوزراء - بأن يحافظوا على شرفنا. ثم قال حالت باشا -

ناظر التجارة إذ ذاك -: أنا أيضًا مستعد لأن أحافظ على شرفنا؛ ولكن مرادي

أن لا يقترن ذلك بسفك دم، فينبغي لنا أن نسعى في إصلاح هذه المسألة بدون

حرب، فالأولى عدم الإعلان بالحرب بالمرة. وعند ذلك حصلت ضجة في

المجلس، فصرخ السامعون قائلين:(غير ممكن غير ممكن لا بد من الحرب) ،

ثم قال وكيل بطرك الأرمن: غير واجب على الأرمن أن يصرخوا بمتابعة بقية

الرعايا العثمانية في جميع مقاصدهم؛ فإن البطرك الآن منحرف المزاج؛ لكنه

أرسلني لأقول: إن الأرمن كانوا دائمًا صادقين في طاعة الدولة العلية في الأيام

السالفة، فهم عازمون على أن يبقوا كما كانوا وهم يَدْعُون الآن بقية أبناء الوطن

لأن يتحدوا معهم للمحاماة عن شرف السلطنة واستقلاليتها. (أظهر المجلس سرورهم

من هذا المقال) .

ثم قال الصدر الأعظم: هل لي أن أفهم مما ذكرتموه أنكم رفضتم مطالب

المؤتمر، وهي تشكيل لجنة مختلطة كيفما كان تشكيلها؟ (صراخ من أهل المجلس:

نعم نعم) قال: وترفضون الاقتراحات المعتدلة التي عرضها السفراء؟ وهل

تنبذون بدون شرط سائر المطالب المختلفة التي عرضها علينا المؤتمر؟ وهل أنتم

عازمون وجازمون بهذا الرفض، وإن كان رفضكم هذا كما لا يخفى عليكم يوجب

سفر السفراء من الآستانة؟ فقال أهل المجلس: (نعم نعم قد رفضناها)، ثم قال:

(من كان يخالفنا في هذا الرأي فليقم عن كرسيه؟) فلم يقم أحد، ثم قال إبراهيم

باشا: لا يوجد أحد على غير هذا الرأي سواء كان في هذا المجلس أو في خارجه.

ثم قال فائق باشا: (دلاسد طلياني الأصل) : أنا على رأي المجلس، ولكن لا

بأس في أن أذكركم أن رفض مطلبين من مطالب المؤتمر يكون سببًا في سفك الدماء،

أما إذا قبلنا فإنا نكون في السلم، (فحصل ضجة في المجلس) .

ثم قال الصدر الأعظم: إذا أردنا المصالحة والاتفاق مع مرخصي المؤتمر؛

فإن ذلك من شأنه أن يقذف بنا في مهواة، والله أعلم أن يقذف بنا، فالظاهر أن

الحرب أولى، ومع هذا فإني أدعوكم لأن تترووا في قبول بقية مطالب المؤتمر،

أما المطلبان الأخيران فالأرجح رفضهما، فقال سيدنا شيخ الإسلام: (إن لائحة

المؤتمر كلها خطر على بلادنا فعلينا الآن أن نرفض المطلبين الأهمين) .

ثم بعد مذاكرة قصيرة في عرض القانون الأساسي على الدول قال محمود

باشا الداماد: علينا أن نرفض المطلبين الأهمين من مطالب المؤتمر، فإذا كانت

الدول بعد ذلك تريد أن تعرض علينا سائر المطالب على صورة أخرى أمكننا أن

نجتمع مرة أخرى في هذا المجلس، ثم خُتمت الجلسة بعد أن استقر الرأي على

رفض اقتراحات المؤتمر بأسرها) اهـ.

هذه هي مداولات (المجلس الأمي) الذي اجتمع قبل مجلس المبعوثان للنظر

فيما يتعلق بشأن لائحة المؤتمر والحرب التي تتوقع من رفضها، وقد ذهب مصباح

الشرق الأغر إلى أن مدحت باشا هو الذي كان مصممًا على رفض مطالب الدول

التي يرى المصباح أن الصواب في قبولها، وأنه هو الذي أوحى إلى أهل المجلس

وجوب رفضها، وقد رأيت أن مدحت باشا كان أصوب أهل المجلس رأيًا، وأشدهم

حذرًا، وأبعدهم في العواقب خطرًا، ويليه في الحذر حالت باشا، ثم وكيل دولة

البروتستانت، وأنه لم يجنح أحد إلى قبول سيطرة الدول على الدولة العلية

ومراقبتهم أحكامها التي تتضمنها المطالب، إلا ذلك الطلياني المسمى فائق باشا،

وأن سائر أهل المجلس كانوا متفقين على تفضيل الحرب على قبول مطالب الدول،

فإذا كانوا يعتقدون أن الصواب في قبول ذلك، وأنه هو الذي ينجي الدولة ويرضي

السلطان، فهل يتصور أن جميع أولئك الوزراء والعلماء والوجهاء ورؤساء الأديان

وهم خاصة المملكة قدموا طاعة هوى مدحت باشا على استقلال عقولهم وأفكارهم،

وعلى مرضاة الهمم وموافقة سلطانهم ونجاة أوطانهم؟ إن كان هذا صحيحًا فهو دليل

على أنه لم يكن في الدولة إلا رجل واحد شرير هو مدحت باشا، وكل من عداه فهو

عدم، وأن أمة هذا شأنها وهؤلاء رؤساؤها وقادتها لا يمكن أن تستقل مع عدم

مراقبة أعدائها وسيطرتهم عليها، فكيف إذا كانت تحت مراقبتهم! ! !

_________

(1)

أنت ترى أن المسيحيين وحاخام اليهود ما نطقوا إلا بعدما رأوا إجماع أهل المجلس على رفض الاقتراحات، فما كان عن رأي وصدق فهو من أثر القانون الأساسي، وما كان غير ذلك فهو مصانعة لئلا يُتهموا بأن لهم ضلعًا مع أوربا التي تدعي الانتصار لهم.

(2)

أراد رشدي باشا نفي تهمة كانت تلعب بالنفوس، وهي أن السلطان أعلن القانون الأساسي لخداع أوربا والتمويه عليها بإرضاء النصارى؛ لتكف عن التعرض للدولة.

ص: 231

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الوفد الإسلامي إلى الصين

قال صديقنا الفاضل الكامل محمود بك سالم عندما حدثت فتنة أوربا مع الصين:

إن هذه الفتنة وتحرّش أوربا بالصين مما يظهر مكانة مسلمي الصين العالية،

ورفعة شأنهم وقوتهم المادية والأدبية. أو ما هذا معناه. وما زالت الأيام تُظهر

صدق قوله؛ حتى رأينا مُسَعِّر نار هذه الفتنة عاهل الألمان، وداهية أوربا في هذا

الزمان، قد قدّر هذه القوة قدرها، وأراد الاستفادة منها بصديقه السلطان الأعظم

للمسلمين الذي يعترف له مسلمو الصين بالخلافة الدينية، ويخطبون باسمه على

منابرهم، فطلب منه أن يرسل وفدًا إسلاميًّا تكون وظيفته الظاهرة العمومية نهي

مسلمي الصين الأشداء الأغنياء أن يساعدوا الثوار الصينيين على المسيحيين،

وفائدته الخصوصية الخفية إعلام أولئك المسلمين بأن عاهل الألمان صديق خليفتهم

وحليفه؛ لتستفيد ألمانيا بذلك مثلما كانت تستفيد إنكلترا في الهند من قبل؛ فإنها ما

رسخت قدمها في تلك الممالك إلا بنفوذ الدولة العلية الديني، حيث كانت تقنع

مسلمي الهند بأنها حليفة الدولة العلية.

أجاب مولانا السلطان أيده الله تعالى دعوة العاهل غليوم، وأرسل وفدًا مؤلفًا

من ستة نفر، منهم عالمان من علماء الآستانة، ورئيسه من قواد الجيش العثماني،

وسيكون هذا الوفد آلة بيد الألمان الذاهبين؛ لأنه لا يعرف اللغة الصينية، فالألمان

هم الذين يبلغونه ويبلغون عنه، ولهذا نُقل إلينا أن الروسية كان مستاءة معارضة

في إرسال هذا الوفد، وقد مر منذ أيام من السويس بلَّغه الله السلامة، وجعل رحلته

مفيدة نافعة في تخفيف الشر واستبدال الخير به.

_________

ص: 238

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌زيارة القبور والمدرس المغرور

حدَّثنا غير واحد عن شيخ يقرأ كتاب (الدر المختار) درسًا أنه بلغ من أيام

الكلام على زيارة القبور من كتاب الجنائز، فخبط في الكلام خبط عشواء في

مدلهمة ظلماء؛ إذ أنشأ يأوِّل للعوام ما يأتونه من البدع والمنكرات عند زيارة قبور

الصالحين، من ذلك أنه أوَّل دعاءهم إياهم في المساجد لقضاء الحوائج، ودفع

المكاره، واستعانتهم بهم في المهمات، وإن كانت من الموبقات، بأن هذا من باب

طلب الدعاء منهم. قال: (كأنهم يقولون: نحن ندعو الله تعالى وندعوكم لأن تدعو

معنا) . ولو كان كل عامي فقيهًا بحيل الحنفية، وقاضيًا في المحكمة الشرعية،

لأمكنه أن يهتدي إلى هذا التأويل، عندما يضل سواء السبيل، وإن لم يعتقد بقلبه،

أنه ينفعه عند ربه، لأنه تعالى يقول:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18)

ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولم يرد في الكتاب، ولا

في السنة، ولا في سيرة سلف الأمة أن الدعاء يطلب من الموتى، وحديث البخاري

في الاستسقاء بالعباس حجة على بطلانه.

وإذا علم القراء أن هذا المدرس هو الذي دارت بيننا وبينه المناظرة في هذا

الموضوع في المسجد الحسيني المنشورة في العدد الخامس من المجلد الثاني،

وتذكَّروا أن مبدأ المناظرة أن الشيخ المدرس عندما رأى الزائرين يطوفون بقفص

قبر سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان، ويقبِّلونه قرأ قوله تعالى: {مَا هَذِهِ

التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم؛ لعجبوا من تلوّن

الشيخ ومخاطبته كل أحد بما يظن أنه يقبله ليعظم في نفسه ويكبر في عينه، وإذا

علموا بعد هذا أنه كان رئيس محفل ماسوني يزول ذلك العجب؛ لأن الناس لا

يعجبون من ألوان الحرباء. وإذا علموا أنه هو الذي كتب في المؤيد يذم علوم

الحساب والهندسة وتقويم البلدان، وجعل توقيعه (ثابت بن منصور) وتذكروا

كيف فنَّد مزاعمه أحد المجاورين - يعلمون درجته في العلم، وأنه فيه غير ثابت ولا

منصور، بل لو علم حاضرو درسه كل ما تقدم لما اكتفى بعض نبهاء الطلاب بالرد

عليه في وجهه.

وقد كتبنا هذه الكلمات تنبيهًا له على قدر نفسه، ونهيًا له عن المنكر من غير

تصريح باسمه، عساه ينتهي عن ذلك التدليس، ويترك ذياك التلبيس، ويأخذ

بطريقة السلف الصالحين، ويترك الخوض بأهل الحق واليقين؛ فإنهم لهم الثابتون

المنصورون {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا

تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .

_________

ص: 239

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السخاء والبخل

- تتمة

أَتَعَجَّبُ من ضلال عامة الناس في فهم حقيقة السخيّ، على ما له من نفوسهم

القدر العليّ، وإلباسهم البخلاء الشحاح، لبوس أهل الجود والسماح، أليس هذا

الخطأ من أهل العلم والأدب أجدر بنبث بئار العجب، بعدما رفع الله تعالى في

القرآن من ذكر أهل البر والإحسان، وجعل بذل المال في سبيله آية الإيمان،

وإمساكه آية الكفر والخسران؟ اقرأ إن شئت قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي

يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الماعون: 1- 3)، وقوله جل علاه: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ

الزَّكَاةَ} (فصلت: 6-7) وارجع إلى سورة الحجرات، واتل ما ورد في

الأعراب من الآيات، فقد بينت حقيقة المؤمنين بعد إنكار دعوى الإيمان على

أولئك المسلمين، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ

لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .

وناهيك بما ورد من الوعيد الشديد لمن يكنز المال، ووعد المتصدقين بمضاعفة

الأعمال، وبعدما جعل الشرع في أموال المسلمين وكسبهم من حرث ونسل وتجارة

ذلك الحق المعلوم، وفرض عليهم القيام بالنفقات الضرورية على من يعجز عن كسب

يذهب بضرورته، ويسدُّ من خلته، سواء كان من المسلمين، أم كان من الذميين،

وما هذا الإلزام بالبذل، إلا لتزكية النفس من رذيلة البخل، وتعويدها على الجود،

مما يسمح به الوجود، وقد ورد في معنى هذه الآيات أحاديث كثيرة من أشدها وعيدًا

حديث البخاري في الأدب، والترمذي في صحيحه وهو: (خصلتان لا يجتمعان في

مؤمن: البخل، وسوء الخلق) وفي رواية لغيرهما:(البخل والكذب) وحديث ابن

أبي شيبة وهناد والنسائي والحاكم والبيهقي وهو: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب

عبد أبدًا) .

هذا شأن السخاء والبخل في نظر الدين، وما سلم رجال الدين معه من

الخلاف في تعريفهما عندما أنشؤوا يضعون الحدود الجامعة المانعة للاصطلاحات

الشرعية لبعد العهد باللغة وما يتبادر منها، فقالت طائفة: إن البخل هو منع الواجب

من نحو زكاة ونفقة قريب. وهدم بعضهم هذا الحد قائلاً: إن الذي يعطي عياله ما

يفرضه القاضي من النفقة، ثم يضايقهم في لقمة زادوها، أو ثمرة من ماله أكلوها

يُعَدُّ بخيلاً، ومن كان بين يديه طعام فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه فهو

بخيل، وكذلك من يَرُدَّ اللحم إلى القصَّاب، والخبز إلى الخباز لنقصان حبة أو

نصف حبة يوصف بالبخل كما وصفوا مروان بن أبي حفصة.

وقال قوم: إن البخيل من يستصعب العطية في نفسه، وردّ هذا القول لإطلاق

لفظ العطية؛ فإن السخي الجواد قد يصعب عليه أن يبذل جميع ما يملك أو ما هو

في أشد الحاجة لنحو وفاء دين أو نفقة من تجب عليه نفقته، بل السخي الحقيقي

يستصعب وضع المال في غير موضعه، وإعطاءه لغير مستحقه كمن يعلم أنه ينفقه

في معصية، أو يستعين به على مفسدة.

واختلفت أقوالهم في السخاء والجود، فقال بعضهم: هو عطاء بلا مَنّ،

وإسعاف من غير رؤية. وهو قول غير مرضي؛ لأن البخيل قد يعطي لغرض من

الأغراض التي شرحناها في النبذة الأولى، ولا يمن لئلا يحبط عمله ويخيب سعيه

وقد يُسْعِف ولا يرى نفسه مُسْعِفًا لعلمه بأنه يمنُّ ليستكثر، ويُسْعِف لِيُسْعَف، وقيل:

هو العطاء من غير مسألة. وهو كما ترى. وفصل القشيري في رسالته بين

السخاء والجود، وفصل بينهما وبين البخل نقلاً عن أستاذه الدَّقاق، فقال: من

أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه

شيئًا فهو صاحب جود، ومن لم يبذل شيئًا فهو صاحب بخل. وهو قول مردود

غير محيط الحدود، وقيل: الجود: بذل الموجود. وهو قول من لا يميز في العطاء

بين التبذير والسخاء.

والحد الصحيح الذي يشهد له النص الصريح، هو أن السخاء أريحية،

وصفة نفسية، تقف بصاحبها في وسط، بين تفريط القبض وإفراط البسط، بحيث

يبذل المال بارتياح، إذا حَسُنَ في الشرع والعقل البذل والسماح، فإن بذل بغير

ارتياح فهو متكلف محمود؛ لأنه يربي نفسه على الجود، ولا يلبث أن يزول

التكلف فيكون سخيًّا، وتأنس نفسه بالبذل فيكون جوادًا حقيقيًّا، والبخل كيفية من

كيفيات النفس الخبيثة، وخلق من أخلاقها الرديئة، إذا عرض لصاحبه موجب البذل

في معروف، أو إغاثة ملهوف، أو مساعدة جمعية خيرية، أنشئت للمنافع الملية -

ينقبض صدره، وينقبض لصدره كفه، فيبخل بالدرهم والدينار، ويجود بالتعلات

ويسخو بالأعذار.

فمن أعذار البخلاء، الإحالة على المشيئة والقضاء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا

رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ويقولون: لو أراد الله بهؤلاء الفقراء خيرًا لأعطاهم،

ولو اقتضت حكمته أن يكونوا أغنياء لأغناهم. ولا يقولون: إن الله تعالى فضلنا

عليهم، فَلْنُفْض بشيء من فضل نعمه إليهم، وجعل بعضنا لبعض فتنة، فلنصبر

على منحتهم النوال كما صبروا على المحنة، وحسبنا أن اليد العليا خير من اليد

السفلى.

ومن أعذارهم أن أكثر السائلين، يظهرون على الغني بأخلاق المساكين،

فصلتهم ليست من البر، ولا يعود على المرء منها أجر، ومن أعذارهم أن إنفاق

المال في غير مقابلة عمل يغري الناس بالبطالة والكسل؛ ولذلك يذمه الأوربيون

وهم في ذلك محقون، وبذل المال وإمساكه هو سبب خسراننا وفلاحهم، وعلة

خذلاننا ونجاحهم.

فإن قيل لهؤلاء وأولئك: إن كنتم صادقين في اعتذاركم، وممسكين لما ذكرتم

من تعلاتكم وأعذاركم، ومُسْتَنين بسنة الأوربيين؛ لأنهم في نظركم من المصيبين،

وليست أيديكم بسلاسل البخل مغلولة، ولإبداء الشح الذميم مشلولة، فامسكوا عن

السائلين، وامنعوا الكسالى والبطَّالين، فالشريعة قد ذمت السؤال، وورد: إن الله

يكره العبد البطَّال؛ ولكن ما تقولون في العجزة والضعفاء، واليتامى والفقراء؟ هل

تجدون لكم عذرًا في تركهم سدى، أو تجدون على نار تقليد الأوربيين هدى؟ وما

تقولون في الإنفاق على المدارس العلمية، والجمعيات الدينية، التي بها نجح

الأوربيون، لا بالبخل والشح كما تزعمون؟ فلماذا لا تتلون فيها تلوهم، ولا

تحذون حذوهم؟ ألم يأتكم في كل يوم أنباء بذلهم الألوف والملايين على معاهد العلم

والصناعة والدين [1] ؟

ولا تحسبن أيها القارئ الكريم، الذي لم يكتنه خُلق الشَّحَاح اللئيم، أن هذه

الحجج الناصعة، والبراهين القاطعة، تقطع لسانه أو تمحو بهتانه، فتكون للسانه

خير عقال، وتحل يديه من السلاسل والأغلال، كلا إنه بعد بيان الآيات، ليتعذر

بعدم الثقة بالجمعيات، فإن كانت مؤسسة لإعانة العجزة والبائسين، يقول: إنما نحن

في حاجة إلى تربية أولاد الفقراء والمساكين. وإن كان من موضوعها التربية الملية

يقول: نحن أحوج إلى المدارس الصناعية، وإن كان من موضوعها ذلك، وقيل له:

إنه لا يتم إلا بمساعدة أمثالك. يقول: ليس عندنا استعداد للقيام بما يكون به الإسعاد

ولا يسمع لمن يقول: يجب إذن أن نسعى في إيجاد ذلك الاستعداد، ولا يتم ذلك إلا

بالبذل والإمداد؛ لأنه يرى أن إضاعة المال أن يدخل في غير الصندوق، أو يخرج

لغير الاستغلال، ويصح أن يقال في هؤلاء الأشحاء، ما قيل في الجبناء؛ لأن

الجبن والشح من جب واحد.

يرى الجبناء أن الجبن حزم

وتلك خديعة الطبع اللئيم

وأختم القول بأنه لا عذر لمسلم في دينه، ولا لوطني في وطنه، ولا لإنسان

في إنسانيته أن يرى أمته تتلاشى وتنحلّ، وملته تذوب وتضمحل، وهو يعلم أن

حياة الأمم في هذا العصر بالمال؛ لأنه هو الذي يرقي العلوم والفنون، وهو الذي

يربي النفوس والأخلاق، وهو الذي يوجد الصناعة، وينمي التجارة ويثمر الزراعة

وهو الذي ينهض بالدولة ويعطيها القوة والصولة، بل هو كل شيء؛ إذ لا يتم

بدونه شيء، يعلم هذا كله ثم لا يجود لإنقاذها بشيء من فضل ماله، لا سيما في

هذه البلاد المصرية، وفيها مثل الجمعية الخيرية، القائمة على خير أساس، ينفع

البلاد والناس، ومثل جمعية العروة الوثقى وجمعية المساعي المشكورة، وغيرهما

من الجمعيات الدينية الأدبية كجمعية شمس الإسلام، وجمعية مكارم الأخلاق،

وجمعية شمس المكارم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليساعد هذه الجمعيات

كلها أو بعضها، أو ما يوافق مشربه منها بحسب الاستطاعة {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن

سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ

اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .

_________

(1)

آخر أنباء المنح الكبيرة نبأ المثري الكبير كارنجي الإسكتلندي الذي وهب مدارس وطنه مليوني جنيه، وثروة هذا الرجل تقدر بخمسين مليون جنيه، ولم ننس ذلك اليوناني العظيم الذي توفي في السنة الماضية عن مليوني جنيه اكتسبها من القطر المصري، وأوصى بثلاثين ألف جنيه؛ منها ألف جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية بمصر، وهي هبة لم تر مثلها الجمعية من أغنياء المسلمين، ولو كان في مصر ألف كريم كهذا اليوناني (ليلا بوبلو) يُعَضِّدون هذه الجمعية لأنشئت في القطر مدارس صناعية، بل ومدرسة كلية تكون منبعًا لنهضة جديدة، ومن العار على كل غني في مصر أن لا يكون لهذه الجمعية مثل هذه المدارس، ولو شئنا أن نسرد ما نشرته الجرائد العربية لا سيما المقتطف من أخبار الهبات العلمية في أميركا وأوربا لاحتجنا إلى عدة مقالات.

ص: 241

الكاتب: محمد رشيد رضا

الدرس العشرون

الوحي وأقسامه

م (60) إمكان الوحي:

تقدم أن إثبات النبوة يتوقف على إثبات كون الإنسان مركبًا من جسد وروح،

وأن الروح ليست من عالم الملك المادي المشهود؛ وإنما هي من ملكوت أعلى

مغيب بحقيقته عنا، وقد عرفنا أرواحنا بآثارها، لا بكنهها وأسرارها، وكما يمتاز

أفراد من الناس بالقوة الجثمانية على سائر أهل قطرهم، أو على سائر الناس

كقيصر روسيا السابق إسكندر الثالث الذي كانت تلين في يديه المعادن، حتى إن

كان ليغمز الريال الروسي من وسطه بأصبعه، فيصير مجوفا كالفنجانة، ويضع

فيه زهرة ويعطيها لإحدى عقائل النساء في مجلسه ذاك، كذلك يكون لبعض

الأناسي قوة روحانية يفوقون فيها سائر البشر، فإذا كان من أثر القوة الجسدية ما

ذكرنا عن قيصر روسيا السابق؛ فإن من آثار قوة الروح في البشر ما هو أظهر من

ذلك وأبعد في التفاوت بين أفراد الناس.

آثار القوة الروحية سعة العقل والعرفان وشدة العزيمة والإرادة المساعدة على

العمل بما يحيط به العقل من المعرفة بالمصالح، حتى إننا نرى الرجل الواحد يحيي

أمة أو أممًا بعد مماته، ويجمع شملها بعد شتاتها، ويعمل ما تعجز عنه الملايين

كعمل السلطان صلاح الدين، في قهر ملوك أوربا وإعادة سلطة المسلمين، وكعمل

بسمرك في الوحدة الألمانية، وواشنطون في تحرير البلاد الأميركانية، حتى إن

بعض أهل الزيغ والجحود توهموا أن ما أعطيه الأنبياء من سياسة البشر وإصلاح

شؤونهم وتقويم مدنيتهم هو نحو ما ذكرنا عن هؤلاء الملوك والسياسيين، وما أبعد

ما يتوهمون؛ فإن هؤلاء الرجال ظهروا في أمم لها أديان تهديها، وشرائع وقوانين

تحكم بها، وجيوش منظمة تحمي حقيقتها، وتدافع عن حوزتها؛ ولكنها أساءت

استعمالها، أو رزئت بإهمالها، فأرشدوها إلى الانتفاع بما وهبت فعملت بإرشادهم

وأسعدوها بالرأي الصحيح فسعدت بإسعادهم، فأين هذا من حال الأنبياء

والمرسلين، الذين بُعثوا في أقوام وثنيين، يدعونهم إلى ترك ما هم عليه من

الاعتقادات، ونبذ ما ألفوه من التقاليد والعادات، ولم يكن لهم في إبان ظهورهم قوة

مُلك يعتمدون عليها، ولا شرائع يقتبسون منها، وهل قياس هؤلاء بأولئك، إلا

كقياس الحدادين بالملائك، وإنما ضربنا بهم المثل لبعد المسافة بينهم وبين سائر

الناس، كما أن المسافة بينهم وبين الأنبياء في البعد على نحو تلك النسبة أو أبعد

منها.

م (61) ضروب الوحي وأنواعه:

الوحي في اللغة اختصاصك أحدًا بكلام، أو إعلام تخفيه عن غيره، وأصله

الإشارة السريعة كما قال الراغب. ووحي الله إلى الأنبياء عبارة عما يختصهم به من

المعارف التي يريد أن يعملوا بها، وأن يبلغوها الناس للاهتداء بها؛ بحيث يكونون

على بينة من ربهم، وثقة تامة بأن ذلك من لدنه سبحانه وتعالى، ولا يعلم كنه

الوحي وحقيقته إلا من اختصهم الله تعالى به. وقصارى ما يصل إليه علمنا أن

نعرف بالدليل أنهم صادقون في دعوى الوحي وتبليغنا عن العليم الحكيم الرحمن

الرحيم ما مست حاجتنا إليه، وسبق التنبيه عليه، وأن نفهم ما ورد عنهم في ذلك

الوحي من بيانه، ورسومه وأقسامه.

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ

يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51) فالآية

الشريفة ناطقة بأن طرق كلام الله لأنبيائه ثلاثة: أحدها: الوحي بلا واسطة، وقد

غلَّب هذا الإطلاق في العرف والاصطلاح؛ وإنما تكون للنبي تلك الأنواع أو بعضها

بالقوة الروحانية الفائقة التي فطره الله تعالى عليها.

من وظيفة تلك القوة وآثارها تمزيق الحجب المادية التي حجبت الروح عن

معالمها، وكسر المقاطر الحسية [1] التي عاقتها عن العروج إلى عالمها، فتعرج

بإذن الله تعالى إلى الملكوت، وتتصل بمن شاء الله تعالى من عماره المقربين،

تتصل بالمَلَك المسمى بروح القدس والروح الأمين {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ

أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ

عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) .

يتلقى النبي بهذا العروج الروحاني عن الله تعالى من المعارف التي لا ينالها

الناس بكسبهم ما هم في أشد الحاجة إليه في نظام جمعياتهم، وإصلاح أحوال

معيشتهم؛ ولتطهير عقولهم من أدران الشرك والجهل بالله تعالى، وتنظيف نفوسهم

من لوث الأخلاق الذميمة والسجايا الرديئة، وتحليتهم بالعقائد الحقة والأخلاق

الفاضلة والآداب الصحيحة والعبادات البدنية المرضية التي تمدّ العقائد والأخلاق

والآداب، وتُسْتَمَدُّ منها؛ لأنها كالبريد بين العقل والنفس، وبين الجسد والحس.

وهذا التلقي قد يكون بالإلهام، وعبرت عنه الآية بالوحي المطلق، وهذا الحرف

مستعمل في القرآن بمعنى الإلهام كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ

اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً} (النحل: 68)

إلخ، وقال جل ذكره: {وَأَوْحَيْنَا

إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية، وليس كل موحى إليه بالإلهام

الصحيح نبيًّا مرسلاً، بل النبي هو الموحى إليه بالدين الذي يُرشد به الناس،

وكذلك يقال في مكالمة المَلَك التي وقعت للسيدة مريم عليها السلام، وهي ليست

بنبية على الصحيح الذي عليه الجمهور، والرؤيا الصادقة من هذا القسم، وكانت

أول وحي نبينا عليه الصلاة والسلام كما ورد في حديث البخاري المشهور، وأدخل

بعضهم الإلقاء في القلب في معنى وحي الإلهام، واستدلوا عليه بقول عبيد ابن

الأبرص:

وأوحى إليّ الله أن قد تآمروا

بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي

نعم إنه يريد بالوحي أن الله خلق في قلبه علمًا بذلك لا يعرف مصدره، وهذا

هو الإلهام. ولكن ورد في الحديث ذكر الإلقاء والنفث في الروع مضافًا إلى روح

القدس، فيدل على أنه يكون من القسم الثالث وهو الوحي بواسطة الرسول، والكل

وحي، وهذا الأول ما يكون بغير واسطة.

هذا النوع من التلقي عن الله تعالى يحصل في روح النبي دفعة واحدة من

غير أن تكون الروح متعلقة بشيء من الأشياء التي تشغلها عن الحس؛ لتجتمع

الهمة ويتم الانسلاخ عن العالم المادي، والاتصال بالعالم الروحاني، وهو الوحي

بدون واسطة مطلقًا، وأما النوع الثاني فهو ما يقيض فيه للنبي ما تتعلق به نفسه

ويشتغل به حسه، حتى تجتمع الهمة ويصح توجه الروح وتبلغ الكمال في قوتها

العقلية، بعد الانقطاع عن الشواغل الكونية، فيكون ذلك حجابًا له بين عالم الغيب

وعالم الشهادة، ويأتيه الوحي من وراء هذا الحجاب، ومن ذلك النار التي رآها

موسى عليه السلام في الشجرة فطار إليها لبه، وعلق بها قلبه، وانحصرت في

مشكاتها روحه، فكان منها فتوحه، وجاءه منها العلم والحكم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى

تَكْلِيماً} (النساء: 164) وكل كلامه تعالى يسمى وحيًا، ولذلك قال عز وجل:

{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (طه: 13) .

وبقي التلقي عن الله تعالى بواسطة المَلَك المسمى بالروح، وهو القسم الثالث

المُعَبَّر عنه في الآية بقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ} (الشورى: 51)

إلى النبي ويُعَلِّمه بما يلقيه في قلبه بإذنه تعالى ما يشاء سبحانه أن يوحيه كما قال:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ} (الشعراء: 193-

194) فهذه الآية تدل على أن المَلَك يُلْقِي ما يريد الله إلقاءه للنبي في القلب، فهو

خطاب للروح لما يكون بينهما من الاتصال، وقد ورد في الصحيح أن المَلَك كان

يتمثل بهيئة الإنسان ويؤيده قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً

سَوِياًّ} (مريم: 17) وهل يكون كلامه حينئذ ككلام البشر كما في حديث الإيمان

والإسلام والإحسان، أم هو مناجاة روحية على كل حال كما هو ظاهر قوله تعالى:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أم يكون تارة

هكذا، وتارة كذلك؟ الله ورسوله أعلم.

م (62) الوقوف عند النصوص:

علينا أن نفهم النصوص وما لنا أن نزيد فيها ولا ننقص منها؛ لأن هذا مما لا

يُعْرَف إلا بالقياس، ولا مجال في حقيقته للعقل ولا للحواس، وما اختلف المختلفون

وفرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا همُّ كل فرقة الرد على الأخرى، إلا لتسمية هذا الوحي

بأنواعه كلام الله تعالى، وإيحائه تكليم الله عز وجل، ولو لم يرد إلا لفظ الوحي

والإيحاء، والتعليم والإنباء، كقوله تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} (النساء: 113) وقوله تبارك اسمه: {نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: 3) لما

كان لهم أن يقولوا ما قالوه في الصفة النفسية والصفة اللفظية، ولا أن يثبتوا له

سبحانه صوتًا وحروفًا إلى غير ذلك مما نمسك عن الخوض فيه عملاً بهدي

الراشدين، وفي الحديث الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أحيانًا

كصوت السلسلة على الصفوان) ، ولعل ذلك حجاب كنار موسى، وقد علمنا من

الآية أن القرآن الكريم أطلق لفظ التكليم على الوحي الذي بمعنى الإلهام، ورؤى

المنام، والذي بواسطة الحجاب، والذي بواسطة الروح الذي ينزل على القلب،

وظواهر الآيات تنأى بك عن قياس التمثيل، وتربأ بنفسك عن القال والقيل، والله

يقول الحق وهو يهدي السبيل.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المقاطر: جمع مقطرة، وهي خشبة فيها ثقوب توضع فيها أرجل المحبوسين.

ص: 251

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة والأجوبة الدينية

(1)

من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: من أين أخذتم

وتأخذون الأحكام التي أجبتم وتجيبون بها على أسئلتنا عدا ما نقلتموه عن الغزالي؟

أهي باجتهاد منكم خاصة أم من مذاهب الأئمة المجتهدين أم خليط من هذا وذاك؟

اهـ بنصه.

(ج) لا نكتب جوابًا على إطلاقه إلا إذا قام عندنا دليل على صحته توصلنا

إليه ببحثنا واجتهادنا، ولم نكتب جوابًا مخالفًا لمذاهب الأئمة المجتهدين.

***

(2)

ومنه: هل يصح للمناظر أن يستدل بأقوال الأصوليين والمتكلمين

والمحدِّثين والمفسرين والفقهاء المجتهدين والصوفية طبقة بعد أخرى؟ أم لا بد أن

يكون الدليل من الكتاب والسنة ليس إلا؟ وهل الإجماع والقياس من أصول الدين

كالكتاب والسنة في الاستدلال أم لا؟ وهل الآحاد لا يجوز العمل والاستدلال

بروايتها إذا ثبتت صحتها؟ وإلا فما الفائدة منها؟ اهـ بنصه.

(ج) إنما يستدل المناظر بما تقوم به الحجة على خصمه، فمن كان يناظر

من يحتج بكلام هؤلاء العلماء، يصح له أن يحتج عليه بكلامهم لأجل الإلزام كما

هو معلوم من فن المناظرة، وأما الإجماع والقياس فالجماهير يعدونهما من أصول

الاستدلال في الفقه على خلاف ترونه في محاورات المصلح والمقلد الآتية، وبهذا

تعلمون أنهما ليسا محل وفاق كالكتاب والسنة، وأما أحاديث الآحاد الصحيحة فيحتج

بها في كل ما يُكتفى فيه بالظن كالأحكام، وأما ما يُطلب فيه القطع كالاعتقادات فلا

يُستدل عليه بالآحاد، هذا ما اتفقوا عليه في جملته. وفي التفاصيل والجزئيات

خلاف الحنفية في ترك أحاديث الآحاد التي تخالف القياس الجلي.

***

(3)

ومنه: ما نقلتموه عن الغزالي من تقسيم العلوم إلى محمود ومذموم

ليس غرضنا؛ وإنما مرادنا هل قال أحد من المجتهدين بمنع تعلم وتعليم العلوم

النافعة في الدنيا والآخرة الخالية من الإلحاد والمفسدة، حتى يمكن أن يقال: إن

مذاهبهم فيها ما يمنع الترقي المادي والمعنوي؟ وهل علم الكلام وعلم التصوف

وتدوينهما فنًّا مستقلاًّ كغيرهما من العلوم الحادثة بحدوث الإسلام على ما ذهب إليه

أئمة الهدى، ومصابيح الدجى من جمهور أهل السنة والجماعة يُعَدُّ مفسدة في الدين

والدنيا؟ وإذا كان كذلك فما حكم من عمل بهما من المسلمين؟ وإلا فما معنى انتقاد

تدوينهما والأخذ بأحكامهما؟ اهـ بنصه.

(ج) ما كان يخطر في بالنا أن أحدًا يسأل السؤال الأول، فكيف يسأله من

يُعلم من توقيع مكاتبيه أنه (خادم العلوم والآداب) ، وكيف يمنع مجتهد في العلم

تعليم ما ينفع في الدنيا والآخرة ولا ضرر فيه مطلقًا! ! ! أما العلوم النافعة في

الدين فهي علوم المجتهدين الذين تعنيهم، وأما العلوم الكونية التي يرجى أن ترتقي

بها مدنية المسلمين وترتقي دنياهم فلم تنتشر فيهم إلا بعد الأئمة الأربعة، وقد شنَّ

الغارة على أصحابها علماء مذاهبهم وذموا علومهم وحرموها، ورموا المشتغلين بها

بالكفر والإلحاد كابن سينا وابن رشد والفارابي والغزالي وكمال الدين بن معية

وأضرابهم.

وما زالوا يطاردونهم ويستعينون بالأمراء عليهم حتى اضمحلوا وتلاشت

علومهم، ثم عادوا إلى الاعتراف بفضل بعضهم كالإمام الغزالي الذي حكموا بإحراق

كتابه (إحياء علوم الدين) في الشرق والغرب حتى كان يُحرق في أسواق القاهرة

أكداسًا أكداسًا، وما أجمعوا على فضله بعد موته إلا لأنه زهد في الدنيا، وقضى

سائر عمره في التأليف في الأخلاق والرقائق، وقد كان من تأثير هذه الغارة أن

المسلمين تركوا تلك العلوم حتى الطب منها، وقد شكا الغزالي في إحيائه من فقد

الأطباء المسلمين، ومما كذَّب به مزاعم الفقهاء الذين يزعمون أنهم يشتغلون بدقائق

الفقه؛ لأنه فرض كفاية أنهم لو كانوا صادقين لأحيوا فن الطب؛ لأنه من فروض

الكفايات المتروكة بخلاف الفقه، ولا يزال فقهاؤنا إلى اليوم يذمون علوم الدنيا مع

علمهم بأن الدين لا يحفظ إلا بالدنيا، وأن القوة فيها موقوفة في هذا العصر على هذه

العلوم والفنون.

ولعل السائل لم ينس المقالات التي كتبت في المؤيد منذ نحو سنة في ذم الحساب

والهندسة وتقويم البلدان، فالمنتقدون في هذا المقام ينتقدون أمثال هؤلاء الذين يعتقد

عامة المسلمين أنهم حفظة الدين، لا أنهم ينتقدون الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي

وأحمد رضي الله تعالى عنهم.

وأما علم الكلام فقد حدث في الملة على عهد الأئمة، فحرَّموه وذمَّوه، وقد

نقلنا أقوالهم في ذلك في المسألة (52) من الدرس السابع عشر من الأمالي الدينية

المنشور في الجزء الأخير من مجلد المنار الثالث، وقد جمعنا ثمة بين أقوالهم،

وبين ما ذهب إليه الخلف من استحسان علم الكلام والقول بلزومه، فراجعه.

وأما علم التصوف فهو على قسمين: القسم الأول ما يتكلمون فيه على تهذيب

الأخلاق وتأديب النفوس بآداب الدين، ومحاسبتها على الإخلاص لله تعالى،

ومطالبتها بكمال التوحيد الذي لا يشهد صاحبه فعلاً لغير الله تعالى، ويرى الخلق

مسخرين في قبضته، مع عدم الغفلة عن الأسباب التي اقتضتها الحكمة وتم بها

النظام، وهذا هو لباب الشريعة، ورجاله رجال الرسالة القشيرية وأضرابهم رضي

الله تعالى عنهم، وكان هؤلاء على طريقة الصحابة والتابعين في أخلاقهم وآدابهم

وزادوا عليهم الكتابة والتأليف - ونعمت الزيادة - والمبالغة في ترك الدنيا وذمها

زهدًا فيها، وقد كان لهذا أثر بيّن في كسل المسلمين وتقاعدهم عن الترقي في الدنيا،

وقد بيَّنا عذرهم في بعض ما كتبنا، ولعلنا نذكره في المنار بعد، وهذا القسم من

التصوف يسمونه التخلق.

والقسم الثاني: يسمونه التحقيق، وعلمه علم الأسرار، ويتكلمون فيه عن

الأذواق والمواجد، وعما وراء الحس من عوالم الغيب، وعن الذات الإلهية

والصفات العلية ووحدة الوجود، وهنالك المهامه الفيح، والجبال الشاهقة، والبحار

المغرقة التي تاه فيها الأدلاء، وغرق فيها الملاحون، وكان التأليف فيها طامة

كبرى ومصيبة عظمى، ولقد كان الشيوخ الأجلاء يُنْكِرُون الكلام فيها، فما بالك

بالتأليف حتى إن الأستاذ الجنيد أفتى مع الفقهاء بقتل الحلاج، أما منبع هذه الطريقة

فهو الصين، ثم انتشرت في الهند، وانتقلت وساوسها إلى اليونان، ولما امتدت

الفتوحات الإسلامية، وامتزج المسلمون بجميع أمم الأرض مزجوا علومهم بما

أخذوه عن تلك الأمم، وصبغوه بصبغة الدين، ولوَّنوه وذهبوا فيه مذاهب شتى،

وكان أشد تلك المذاهب فتكًا في الإسلام مذهب الباطنية وله شُعَب وفروع، وقد راج

كثير من مسائله على كثيرين من أهل السنة باسم هذا القسم الثاني من التصوف،

وقد شرحنا هذا في أجزاء من المنار وسنفصله بعد تفصيلاً، وقد شن الغارة

المتكلمون والفقهاء على أهل هذا القسم من المتصوفة، وأفتوا بكفرهم، وساعدهم

عليهم الأمراء بالقتل والنفي، وأتذكر أنهم سلخوا جلود عدد كبير منهم في مصر

القاهرة في يوم مشهود، وربما أُخذ البريء بجريرة الأثيم، وقُتل الصادق بذنب

المارق.

والحاصل أن الميزان الذي يُعرف به الحق والباطل والراجح في دين الله

والمرجوح هو كتاب الله المعصوم والسنة النبوية الشريفة المبينة له، وسيرة أهل

الصدر الأول العاملين به على أكمل الوجوه، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويُردّ عليه،

إلا المعصوم كما نُقل عن الإمام مالك رضي الله عنه.

وقد طال الكلام وسنجيب على بقية الأسئلة التي تفيد الأمة في الجزء الآتي

إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 256

الكاتب: عبد العزيز محمد

التربية والتعليم

بالفانوس السحري والتمثيل والمعارض [1]

(المكتوب 29) من هيلانة إلى أراسم في 3 فبراير سنة 185

لقد وهمت أيها العزيز في دعوى أن ذلك الهيكل الذي تمنيت إقامته للعلم لا

يوجد ولن يوجد؛ فإنه موجود بالفعل في سايدنهام [2] على غاية القرب من لوندرة،

واسمه القصر البلوري، وفي نيتي أن أزوره أنا وأميل متى أمكنتني الفرص،

وصار في سن يؤهله لإدراك ما فيه من مواد التعليم، نعم إني لست على يقين من

مطابقة طريقة بنائه لآرائك تمام المطابقة؛ ولكن أقل ما فيه على ما سمعته عنه أن

القصد من إنشائه موافق لقصدك، وقد يدهشك أن تعلم أن ليس للحكومة يد في بناء

هذا القصر العامي - وإنما أصفه بذلك؛ لأن المقصود الأصلي من إقامته إنما هو

تربي طبقات العامة - فإن كل ما فيه من البساتين الواسعة، والبناء البلوري،

والآثار القديمة، والتماثيل وجمل الأشياء المفيدة ملك لجماعة من المتساهمين، وقد

عهد برفعه إلى مشاهير العلماء والصناع والأثريين، فكانوا يباشرون بأنفسهم إفراغ

المواد في القواليب، وتحصيل مُثل الأشياء؛ ذلك لأن الإنكليز إذا قصدوا تحقيق

غرض مفيد أو إنشاء معهد جديد لمنفعة عامة اعتمدوا على أنفسهم بسبب ما آتتهم

ضروب الحرية، ووسائل العمل الذاتية من قوة العزيمة وشدة البأس غير راجين

من الحكومة مساعدة مالية ولا قولية، لعلمهم أن العمر ينقضي دون الوصول إلى ما

يرجون، فهم متى أرادوا أقاموا تماثيل لعظمائهم، ورفعوا هياكل لفكرة يبديها

الواحد منهم.

أراك تشكو من عدم وجود معاهد للتمثيل عندنا خالصة للأطفال، فاعلم أن

لأطفال الإنكليز واحدًا منها؛ ذلك أنك في صبيحة عيد الميلاد تجد معظم تلك المعاهد

كأنها قد انفكت عن الاختصاص بالروايات الجدية والهزلية، ولا يقبل فيها من

الكبار إلا من كان مولعًا بسماع الأساطير، كأسطورة إهاب الحمار [3] وأسطورة

الأصيبع، فكل واحد منها يصح أن يعنون بمعهد الرؤوس الشقر؛ لأن الأطفال في

شهرين أو ثلاثة من السنة يكونون هم المتصرفين في اختيار نوع الآلاهي العامة،

والمتمتعين بكل ما في المعاهد من المقاعد المخملة والموسيقى وضروب الغرور

والفتنة، ويؤكد لي الناس هنا أن كثيرًا من تلك المشاهد يحصل فيه التمثيل مرتين

في اليوم، إحداهما بعد الظهر لمن يتعجل في النوم من الأطفال الذين لا يقوون على

السهر، والثانية في العشي لليافعين والآباء والأمهات وللشيوخ الذين حفظوا للشباب

في ناحية من أذهانهم شعاعًا من ضيائه، ولمعة من بهائه، وينبغي على ذلك أن

أول شرط يلزم تحقيقه في النظارة أن يكونوا صبيانًا أو مستصبين، وإلا فكيف

يروقهم سماع ما يروى هنالك من أقاصيص الجن، وما يتمثل من الأضاحيك؟ نعم

إن مواضيع تلك الألاهي البهجة هي في الجملة غاية في الابتذال، وإنك لتأسف

على ما يضيع في سبيل تربية الإدراك بهذه الأماكن من نفقات الزينة والثياب،

وغيرها من عتار التمثيل؛ لأن ما يحصل فيها من تغيير المناظر قلما يفيد إلا إثارة

وجدان الإعجاب والدهشة؛ ولكن ما أشد ما يبديه الأطفال عندها من دلائل الفرح

المنبعث عن السذاجة، وما أبلغ ما يظهر من تشوفهم إليها، وأعظم ما يكون من

بريق أبصارهم وحملقتها بسبب استغرابها والافتتان بها، خصوصًا إذا جاء دور

ذلك المنظر المعروف المسمى منظر الانقلاب والتحول، فلشد ما تخفق القلوب

هنالك خفة ومرحًا.

ومهما كان في تلك المرائي من الابتذال فلا ينبغي أن يستخف بما يتجلى للأطفال

فيها من تلك القصور المسحورة، وأمطار العسجد والشرر والأنوار المشتملة على

جميع ما يرى في الفجر القطبي من الألوان المتباينة، والجزر السعيدة (الجزائر

الخالدات) والنساء العائشة في السحب، وفي الأشجار والأزهار؛ وبالجملة لا تصح

الاستهانة بتلك المخترعات الخيالية العامية التي تمثل في أضاحيك المناظر، فأينما

طار بنا الخيال وإن على أجنحة من الورق المقوى ولم يرفعنا إلا قليلاً؛ فإنه يفكنا

ساعات مما يبهظنا من أغلال العوائد والحاجات، تلك المناظر الغرارة لن تنفك أن

تكون محبوبة للعامة والأطفال؛ لأنها تفتح جزءًا من أبواب الكمال المطلق البالغ

أقصى غاياته.

لما رأيتني لا أملك الآن الذهاب بأميل إلى القصر البلوري، ولا إلى معهد

التمثيل عولت على الاستعانة بآلة يطاف بها هنا في المدن والقرى، وهي الفانوس

السحري وكأني بك تضحك من ذلك؛ ولكن أي مانع يمنع من أن تكون تلك الآلة

المستعملة لتحصيل اللذة والإعجاب من وسائل التعليم أيضًا، فليس ذنبًا للفانوس

السحري أنه قلما استعمل إلا لتمثيل الصور المضحكة الغريبة في دارة مضيئة، بل

إنه لا يكون إلا مفيدًا إذا قصد به الجد، ولو أن العلماء تفضلوا على المصورين

بإرشادهم إلى ما يختارون من مواضيع العمل، وإلى طريقة التصوير على الزجاج

لأدى الفريقان للأطفال فيما أرى فوائد، وقد سمعت أن المتولين أمر التربية في

إنكلترا سبقوا إلى اتخاذ هذه الطريقة في بعض المدارس لتأدية شيء من معاني علم

الفلك وتقويم البلدان والتاريخ إلى عقول الناشئين.

أنت تعلم أن علماء الفلك قد رسموا صور الأجرام السماوية الكبرى،

وخططوا آثار ذوات الذنب والشهب والخسوف والكسوف، أو انتزعوا صورها بآلة

التصوير (الفتوغراف) فلو أننا أردنا أن نجعل الفانوس السحري الذي هو الآن

مشهد الأوهام والمغالطات مشهدًا للحقائق أيضًا، كفانا في ذلك أن ننسخ على زجاجة

رسوم السماء وما فيها مصورة على الحالة القطرية تصويرًا مضبوطًا.

إذا كان المراد تمثيل الأرض في هذه الآلة، فلست على يقين من صلاحيتها

لتحصيل صور جميع ما فيها من سلاسل الجبال الكبرى، ومجاري الأنهار العظمى

ومجاهل الصحاري المريعة، وشكل السواحل الوعرة المغمورة بالمحيط، ولا حيلة

لنا في ذلك، فعلينا أن نكتفي بمبلغ طاقتنا من تصويرها فيها، على أن الطفل

يروقه نظر الأشياء تفصيلاً أكثر من النظر إليها جملة، فهو إذا نظر إلى صور

الأقاليم وهيئاتها؛ فإنما يلتمس أثرًا يريعه ويدهشه كصخرة غريبة الشكل، أو نبات

أجنبي، أو حيوان عجيب، أو إنسان مغاير لنا بلون جسمه.

وأما التاريخ؛ فلا شك في صلاحية الفانوس السحري لتعليمه؛ فإنه يتأتى به

إحضار خيالات من يتحدث عنهم من الماضين، فلا مانع من أن ترسم على صفحته

صور الشجعان الغابرين بزيهم وبزتهم، وصنوف ما وجد من الصور الغريبة كأبي

الهول، والثيران ذات الأجنحة وذات الرؤوس الإنسانية واللحى السوداء،

والجنيات، والآلهة، وغيرها من الصور الخرافية؛ لأنها إذا خرجت من الليل فلا

عجب أن تعود إليه.

أنا لسوء حظي لست عالمة ولا مصورة؛ ولكني أرسم رسمًا مناسبًا لحالتي،

وكنت أرى منك أحيانًا استحسان رسومي الكثيرة الألوان، نعم إني لا أحسن طريقة

التصوير على الزجاج؛ فإنها حرفة تُتعلم وكمال سأفتخر بأن يكون (أميل) هو

صاحب الفضل علي في كسبه وأصعب عليَّ في ذلك فيما أرى؛ إنما هو الحصول

على مُثُل متقنة؛ لأني إخال أن الواجب على المربي أن يكون دقيقًا فيما يعلمه الطفل

وأكره أن لا أبرز الأشياء لولدي في صورها الصحيحة، وقد وعدني الدكتور

وارنجتون - وهو موافق لي في كثير من أفكاري - أن ينتقي لي من لندره صورًا

منتزعة بآلة التصوير (الفتوغراف) أو رسومًا أُخذت من علماء الطبيعة وعلماء

الآثار والسياح، وأنا بفضل معونته على أمل من إنشاء مشهدي الصغير عما قليل

اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب من كتاب ‌

(أميل القرن التاسع عشر)

.

(2)

سايدنهام: قرية من قرى إنكلترا واقعة على بعد ثمان كليومترات من لوندرة بني فيها القصر البلوري للمعرض العام الذي أقيم في سنة 1851.

(3)

أسطورة إهاب الحمار هي من أساطير شار برولت الذي سبق التنويه بذكره في المكتوب (25) وملخصها أن ملكًا كانت له زوجة يحبها جدًّا، ورزقت منه ببنت فائقة الجمال، ثم مرضت وعند احتضارها استحلفته أن لا يتزوج إلا بمن تكون أجمل منها، فلم يجد في عقائل مملكته من تحقق فيها الشرط إلا بنته، فأفضى إليها بميله إلى تزوجها، فأنكرت عليه الأمر، فصمم فاشتكت إلى جنيتها، فأرشدتها إلى أن تطلب منه حلة كالزمن في لونه، فاستصنعها لها، فأوعزت إليها بطلب آخر كلون القمر، فما كان أقرب من تقديمها لها، ثم بثالثة كلون الشمس فكان ما طلبت، وكان لأبيها حمار يحبه كثيرًا؛ لأنه كان يجد تحته كل يوم مقدارًا وافرًا من النقود، فلما أعيت الحيلة تلك الأميرة، وظنت أن لا خلاص لها امتلأ قلبها حزنًا، فأوحت إليها الجنية بأن تطلب إهاب الحمار (جلده) ، فقُدِّم لها بعد استغراب، فزادها ذلك جزعًا، فقالت لها الجنية: كفي فهذا وقت خلاصك، فالبسي إهاب الحمار وأخرجي فإنه لا يشعر بك أحد، وسأتبعك بحليك وحللك أينما قصدت، فخرجت في ذلك الإهاب، وساحت في الأرض فدخلت مملكة أخرى، فاستخدمتها زوجة مزارع في رعاية الديكة وكنس معلف الخنازير لرفاهة حالتها وقذارتها، فرآها ابن ملك تلك الجهة من خصاص كوخها وقد تعرت من إهاب الحمار ولبست حلة من حللها، ففتن بها وذهب إلى أهله مدنفًا سقيمًا وحار الأطباء في أمره،

وقالوا: إنه لا مرض به إلا الفكر، وبعد إلحاح من والديه طلب أن الخادمة التي تلبس إهاب الحمار تصنع له قرصًا، ففعلت ودست فيه خاتمها؛ لأنها قد فهمت حقيقة الأمر، فلما تناول الخاتم في فمه قال لوالديه: إني أريد أن أتزوج بصاحبة هذا الخاتم، فنودي في المدينة بأن أية فتاة يوافقها الخاتم الذي في بيت الملك تكون زوجةً لولي عهده، وكانت نتيجة ذلك أن تزوجت به وعاشا في نعيم ورغد، وأسطورة الأصيبع تقدم تلخيصها في هامش مكتوب 25 (راجع ص 814 مجلد 3) .

ص: 261

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تعليم العربية في المدارس

تأخره في تقدمه

أحسب الناس أن تقدم اللغة العربية بلغ من النجاح أن يُمتحن في فنونها مائتان

وخمسون طالبًا وأربعة نفر، فلا يخيب منهم إلا الأربعة والباقون نجحوا في

امتحانها؛ وأنها قد بلغت نصابها واسترجعت شبابها؟ كلا إن الناس متعجبون من

نتيجة الامتحان في هذا العام لا معجبون، وإنهم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم

فيه مختلفون، وإننا نشير إلى الحقيقة بمجمل من القول.

من المعلوم لأكثر الناس أن التلامذة لم يسألوا في هذه السنة إلا ثلاث مسائل

سهلة جدًّا، وكانوا يسألون في كل عام عشرة مسائل دقيقة كالألغاز ربما لا تخطر

في بال عالم؛ ولذلك كان الناس يشكون مع التلامذة من الإفراط في التشديد

بالامتحان، وكأن سكرتير المعارف المستر دنلوب أراد أن يزيل شكواهم، فأفرط

في التساهل حتى جعل الشكوى أعم وأكثر، ورجال لجنة الامتحان مستسلمون

لأمره، وإرادتهم فانية في إرادته.

والمتبادر أن المنوط بهم أمر الامتحان كانوا عازمين على جعل الامتحان في

هذا العام كما كان في العام الماضي لولا السكرتير، وإن أول من خضع للأمر مع

علمه بعدم كفاية المسائل الثلاث هو الشيخ ذو المكانة الأولى في اللجنة، والذي كان

يرجى أن يكون أعز أنصار اللغة العربية، ويقال: إن شابًّا من اللجنة تربى تربية

إنكليزية عارض في ذلك، ودافع عن اللغة العربية، أما حجة الشيخ في امتثال

الأمر فهي أن صيغة الأمر عند علماء الأصول حقيقة في الوجوب مجاز في غيره،

وأما حجة الشاب فهي أن هذا اجتهاد من السكرتير في المصلحة، وأن تقرير مسائل

الامتحان موكول إلى اجتهاد اللجنة؛ لأنها أعرف بالمصلحة، والمجتهد لا يقلد

مجتهدًا، وللشيخ في دفع هذا أنه لا بد من تنفيذ الأمر على ظاهره؛ لأن الاجتهاد لا

يصح أن يعارض النص كما هو مبيَّن في علم الأصول، وللشاب أن يقول في دفع

الدفع أنه يمكننا التوفيق بين أمر السكرتير وبين المصلحة بأن نضع ثلاث مسائل

جديدة تتضمن العشر، وبذلك نسلم من المخالفة ومن الغش في العمل، وينطبق قوله

هذا على قواعد الأصول، لقولهم بتأويل نصوص الكتاب والسنة إذا خالفت المعقول،

إلا أن يعود الشيخ فيدعي أن اجتهاده موافق لاجتهاد السكرتير في الاكتفاء بثلاث

مسائل بديهية عن عشرة عويصة؛ ولكن للشاب الحجة عليه بأنه كان مقررًا للعشر في

كل عام، فليس الانقلاب الآن عن اجتهاد؛ وإنما هو عن استسلام.

ويظهر أن سائر الأعضاء كانوا منقادين مع ذلك الشيخ الكبير إلى العمل

بظاهر الأمر من غير بحث في موافقته للمصلحة التي أنيطت بهم، كأنه أمر منزل

ونص قاطع لا يحتمل التأويل، ولولا ذلك لم يُنَفَّذْ ولكنه نُفِّذ كما يعلم من جميع

التلامذة، وهذا الاستسلام مبني على أنهم يعتقدون أن السكرتير أمر بما أمر وهو

عالم بأنه خلاف المصلحة فهم في الحقيقة خاضعون لما يظنون أنه يهواه ويميل إليه،

ولو كانوا يعتقدون أنه يقصد من الأمر بتيسير الامتحان المصلحة؛ ولكنه بالغ في

التيسير حتى صار مفسدة لراجعوه وبيَّنوا له الحد الوسط، ولو فعلوا ذلك بالاتفاق

لما خالفهم، وإن كان يُقصد إماتة اللغة العربية كما يقول الناس.

التربية الإنكليزية

سيقول الذين يسيئون الظن بالإنكليز عامة، وبالمستر دنلوب خاصة،

ويتهمونهم بالسعي في إماتة اللغة العربية؛ لأنها لغة الدين الإسلامي: ما بال هذا

الشاب هو الذي تصدى للمدافعة عن اللغة العربية، مع أنه لا يتميز على الأستاذ إلا

بكونه تربى وتعلم في البلاد الإنكليزية، والإنكليز لا يُعَلِّمون المصريين في بلادهم

إلا ليستعينوا بهم على تنفيذ مقاصدهم في مصر؟ وللإنكليز أن يجيبوا هؤلاء بقولهم:

إن الذي نعلمه ونربيه لا يخلو من أحد حالين: إما أن يتعلم منا كيف يخدم بلاده

ويعلي شأن أمته؛ لأننا نحب ذلك، أو لا نعارض فيه، وإما أن يأخذ عنا من

الاستقلال في الفكر وفي الإرادة ما يمكنه أن يجاهدنا به في ميدان الحياة، فإذن لا

نجاح لكم إلا بالتربية الإنكليزية، لا سيما إذا ترشح لها الخيار منكم.

كلمتا اللورد كرومر

وحكمدار الهند

أما الدليل على ترجيح الشطر الأول فهو ما قاله الفيكونت كرومر وكيل دولتنا

عندكم في تقريره عن مصر، وما قاله حكمدار الهند في خطبته في كلية عليكدة،

أما الأول فقد قال بعد الحث على التعليم الصناعي، وتعليم البنات، وموافقة شورى

القوانين على توسيع نطاق المدارس الأهلية ما ترجمته:

(من الشواذ الكثيرة في هذا القطر، بل من أغربها أن الشبان المصريين

يهتمون الآن بتعلم اللغة الإنكليزية أكثر مما يهتم الإنكليز بتعليمهم إياها؛ وسبب ذلك

واضح، وهو أن المصريين عمومًا يحسبون أن حصولهم على وظائف الحكومة

يكون أسهل عليهم وهم يعرفون الإنكليزية منه وهم يجهلونها، والمرجح أنهم

مصيبون في ذلك إلى حد محدود، أما الإنكليز الذين يعرفون أحوال المصريين وما

يحتاجون إليه، فينظرون إلى هذه المسألة من وجه تعليمي ولا رغبة لهم في جعل

البلاد إنكليزية، بل يودون الاقتصار من تعليم الإنكليزية والفرنساوية على ما تمس

إليه الحاجة ويفيد المصريين أنفسهم، ولا يضلهم الرأي السطحي وهو أن درس

الفرنساوية والإنكليزية يتضمن إيجاد الأميال السياسية؛ لأن هذا الرأي خطأ في

الغالب على ما أرى) .

إلى أن قال:

(ويظهر من آخر إحصاء أن الذين يتعلمون لغات أجنبية في المدارس التي

تحت إدارة نظارة المعارف العمومية هم 5835 ذكورًا وإناثًا، ومن هؤلاء 4984؛

أي: 85 في المائة يتعلمون اللغة الإنكليزية، ولا بد من تعليم هؤلاء بلغة أجنبية،

ومن أسباب ذلك أنه ليس في العربية كتب للتعليم في العلوم التي يتعلمها التلامذة؛

ولكن التوسع فيه وراء هذا الحد غير محمود العاقبة؛ ولذلك أحذر بكل جهدي من

جعل اللغات الأجنبية مما يعلم في الكتاتيب، ويجب أن يبقى التعليم الآن باللغة

العربية وحدها، وخلاصة القول في هذا الموضوع أن اجتهاد الذين يهمهم أمر

التعليم في هذا القطر يجب أن يكون مصروفًا بنوع خاص إلى إصلاح التعليم

الصناعي وتوسيع نطاقه، وإلى تعليم البنات وترقية التعليم الابتدائي بواسطة

الكتاتيب حتى يرتفع مقياس المعرفة في البلاد كلها؛ إذ لا يخفى أن الإحصاء

الأخير دل على 89.5 في المائة من ذكور المصريين، و 99.7 في المائة من

إناثهم لا يعرفون القراءة والكتابة) اهـ.

وأما الثاني فقد قال في خطابه: وها نحن أولاء قد فتحنا باب القرن العشرين

وكيفما تكون النتائج والتقلبات التي تظهر في هذا القرن، فلا خلاف في أنه سيكون

مملوءًا بالحركة العلمية، مفعمًا بأنوار العلوم والمعارف، ومثل الذي يوجد في هذا

القرن بغير تربية مثل الفارس الأعزل في القرون الوسطى التي لم يكن للإنسان فيها

أنفع من سلاحه مدافعًا عن حقوقه، أو حافظًا لكيان وجوده؛ ولذلك أرى أن أحسن

سياسة ترقى بالأمة المحكومة إلى طريق الفلاح هي سياسة تساعدها على حفظ

كيانها بين تيارات المنافسات، وازدحام الأقدام في عالم المباراة، ولهذا ينشرح

صدر كل حاكم في الهند حينما يرى المسلمين فيها من سنيين وشيعيين على حد

سواء آخذين بأهداب العلم في سبيل التعليم والتربية، وأنهم جاوزوا نقطة الابتداء

في وقت تقدمهم به منافسوهم في حلبة هذا السباق، نعم يمكن للمسلمين أن يسابقوا

غيرهم إذا هم تعلموا كيف يسابقون، وهو ما عرفوه مرة قبل هذا الوقت في أيام

كان فيها للمسلمين السطوة والسلطان، وكان قضاتهم يحكمون بالعدل بين الناس،

وفلاسفتهم وأئمتهم يؤلفون الكتب النفيسة، إلا أن طريقة السباق القديمة أصبحت

اليوم متأخرة، ويحتاج الإنسان إلى حركة أخف وأنشط من الأولى، فيلزمكم أن

تذهبوا إلى المدارس، فتُلقنوا عن الأساتذة الماهرين في الصناعة الحديثة كيف

تكون خفة الأقدام، ودقة السيقان اللازمة للمسابقة في مستقبل الأيام، وإنني أعتقد

بناءً على ذلك أن المرحوم السير سيد أحمد خان ومن ساعدوه في هذه النهضة لم

يبرهنا على صدق وطنيتهم وحميتهم فقط، بل برهنوا أيضًا على أنهم نظروا نظرة

سياسية دقيقة، وعرفوا أن الواسطة الوحيدة والعلاج الناجع الذي يعيد للمسلمين

شيئًا من سابق مجدهم هو العلم والتربية، ولو كنت أميرًا من أمراء المسلمين، أو

غنيًّا من أغنيائهم لما أضعت خمس دقائق تمر علي لا أفكر بها في أية وسيلة أفيد

بها أبناء ملتي، وأرقي بواسطتها إخواني المسلمين في هذه الديار، وكنت أحصر

مساعيَّ في التعليم والتربية، أجل في التعليم والتربية لا سواهما.

وكون هذه خطتكم هو مما لا مُشَاحَّةَ فيه كما سمعت اليوم من الخطبة التي

تليت أمامي، فأنتم تقولون فيها أنه لا أمل لكم في إعادة شيء من ماضي مجدكم

وعزكم إلا بضم العلوم العصرية إلى علومكم، حقًّا لقد أصبتم كبد الحقيقة، تمسكوا

بدينكم الذي اجتمعت فيه أصول الرفعة والشرف ومنابع الحقيقة، واجعلوا ذلك

أساسًا لتربيتكم وتعليمكم؛ لأن التربية بغير أساس ديني كبنيان القصور على الهواء،

وإن كان أولاد المدارس الابتدائية والعالية صغار السن لا يدركون معنى هذه

الحقيقة، هكذا تمسكوا بهذا المبدأ وهذه القواعد حتى تجنوا ثمرة شجرة التربية التي

كانت نامية أحسن نمو في الحدائق الشرقية، والآن صارت تنمو في الغربية اهـ

المراد منه، ومما تقدم يعلم أن جُلّ بلاء المسلمين من أنفسهم.

_________

ص: 266

الكاتب: محمد رشيد رضا

هدايا وتقاريظ

(الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية)

كان شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى مجدد علم الدين،

ومحيي السُّنة في أول القرن الثامن للهجرة الشريفة، وكان قد بعد عهد المسلمين

بأخذ أحكام دينهم من الكتاب والسنة، كما كان سلفهم في القرون الثلاثة، فأراد

الرجوع بهم إلى ذلك فألَّف في أهم المسائل كتبًا ورسائل يستمد فيها من ذلك الينبوع

الأعظم، ويذكر أحيانًا خلاف الأئمة المشهورين، ومن أعظم تصانيفه فائدة رسالة

الحسبة، أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي رسالة تبلغ زهاء 100

صفحة، وقد طُبعت في مطبعة المؤيد على أجود ورق، فينبغي أن يطَّلع على هذه

الرسالة كل مسلم؛ لأن ركن الحسبة هو الركن الذي يحفظ سائر الأركان الإسلامية،

وإهمال الأمر والنهي هو الذي أضاع الدين، ولو أقيم لقام عليه بناؤه إلى يوم الدين.

***

(معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول)

وهذه الرسالة للإمام ابن تيمية أيضًا، وهي من أحسن ما كتبه، ومن أحسن ما

خدم به الإسلام، وقد تعرض فيها للرد على الذين حكَّموا أهواءهم في الدين من

الفلاسفة وبعض المتصوفة وغيرهم من الفرق الذين لم يرضهم أخذ الدين ببساطته

التي كان عليها في عهد السلف الصالح رضي الله عنهم، كما أقام الحجة على من لم

يرض الإسلام دينًا بالمرة، فنحث كل مسلم قارئ على مطالعتها.

***

(المظالم المشتركة)

طُبعت رسالة المعارج المنوَّه بها آنفًا في مطبعة المؤيد، وطُبع معها في الذيل

رسالة المظالم المشتركة، أي: التي تُطلب من الشركاء، وقد بين حكمها وكيفية

مراعاة العدل فيها بالنسبة للطالب والمطلوب، ولا يستغني المتدين المبتلى بهذه

المظالم من الاطلاع على هذه الرسالة، والمشتغلون بالعلم الإسلامي أحوج الناس

إلى الوقوف عليها، جزى الله مؤلف هذه الرسائل وناشرها خيرًا.

***

(كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة ومعرفة جيد الأعراض من رديها

وغشوش المدلسين فيها)

من يطلع على اسم الكتاب أو يسمع به، يظن قبل العلم بمؤلفه أنه من وضع

المتأخرين؛ لأن جهل الأكثرين منا بتاريخ سلفنا يوهمهم أنه لم يكن للتجارة عند

السلف من الشأن ما يحملهم على التأليف فيها؛ ولكن الكتاب من تأليف الشيخ أبي

الفضل جعفر بن علي الدمشقي من علماء القرون المتوسطة، وقد وجد في أحد نسخ

الكتاب أنه تم في سنة 570، والظاهر أن هذا تاريخ تأليفه لا نسخه، وفي الكتاب

فوائد اقتصادية نافعة، ويُعْرَف منه تاريخ التجارة وحالها في تلك الأيام، فنحث

القراء على مطالعته.

***

(السياسة الشرعية في حقوق الراعي وسعادة الرعية)

كتاب وجيز ألفه بالتركية العلامة الشهير جمال الدين أفندي قاضي مصر

السابق تغمده الله برحمته، ونشره بالعربية بإذن الورثة الأديب الملقب بأصمعي،

والكتاب مشتمل على مسائل نافعة، ومباحث مفيدة في مشروعية السياسة، وأداء

الأمانة، واختيار العمال، والاستشارة، والقضاء، والإمارات والمصالح المرسلة،

ويتلو هذا فصل في الحقوق العمومية، يتكلم فيه عن الحبس والعقوبات والعمل

بالقرائن وبالفراسة، وأقسام المتهمين وعن الرشوة والسعاية، ويتكلم في فصل آخر

عن شروط الإمامة، وفي فصل آخر عن المشورة وتنظيمات أوربا، وفي فصل

آخر عن العدل والظلم، وفي فصل آخر عن الولايات والوزارات والحرب، وفي

فصل آخر عن الفضائل والرذائل، وفي فصل آخر عن تأثير الدين في الأخلاق،

ويلي ذلك فصول في الوعظ، وفي الإنسان، وفي السياسة، وفي طبائع البشر،

وفي أسباب ضعف الحكومات الإسلامية وانحطاطها، وفي الخلفاء الأمويين

والعباسيين والفاطميين، وفصل فيما أنتج اختلاف العلماء على الأمة وعدم

اجتماعهم على مصلحتها وما فيه نجاحها.

ومما نذكره مع الشكر لله تعالى، ثم للمؤلف أن في الكتاب اقتباسًا كثيرًا من

مجلتنا المنار، لا سيما في هذه الفصول الأخيرة؛ فإن معظمها مأخوذ بحذافيره من

مجلد السنة الأولى، وحسبنا حجة على المقلدين والموسوسين أن مثل هذا العالم

الكبير موافق لنا في رأينا، لا سيما في العلماء واختلافهم وعدم تكاتفهم على ما ينفع

الملة والدين، والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا في مطبة دار الترقي العامرة، وثمنه

خمسة قروش أميرية، وهو ثمن بخس، ويباع في مكتبة الترقي ومكتبة الشعب في

شارع محمد علي وغيرهما.

***

(فصل الخطاب في المرأة والحجاب)

مصنف جديد ظهر في هذه الأيام لحضرة الفاضل محمد طلعت بك حرب،

وضعه للرد على كتاب (المرأة الجديدة) كما ألَّف كتاب (تربية المرأة والحجاب)

للرد على كتاب (تحرير المرأة) ، وقد سلك في هذا المصنف مسلك الإلزام،

فعرَّب بعض ما كان كتبه الفاضل قاسم بك أمين في المدافعة عن الحجاب ردًّا على

الدوق داركور الفرنسوي، واحتج من جهة الدين برسالة الاحتجاب التي ألفها قاضي

مصر السابق، ثم بجملة من شرح نهج البلاغة لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ

محمد عبده مفتي الديار المصرية، ثم بنبذ من ثلاثة أجزاء من المنار.

وبعد أن ذكر حكم المنار بغلو قاسم بك أمين في مسألة الحجاب واعتذاره عنه

بأنه إفراط في مقابلة التفريط في التشدد بالحجاب، حتى جعل مانعًا من العلم، وأن

غرضه الرجوع إلى الاعتدال وقوله - أي المنار -: فإذا انتهت هذه المناقشات

بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، قال:

(هذا ما قاله حضرة صاحب المنار، وهو أحسن اعتذار يقدم من صديق لصديقه بما

ربما لم يكن في الحسبان، أو يخطر له على بال، فما داعية التحير والاختباط إذن

والمسألة بسيطة قد حلها أئمة الدين، والمغترفون من بحرهم - حتى الذين يقدِّس

رأيهم محرر المرأة - أعظم حل وأسهله) .

ثم أورد من مؤلف قاسم بك في الرد على الدوق داركور نبذًا في فضائل

الحجاب ومحاسنه وضرر التبرج والتهتك لم يأت بمثلها أحد ممن رد على كتابيه،

وفيها من التأثير في التنفير عما عليه نساء الإفرنج، والترغيب في الصيانة والعفاف

المقرونين بالحجاب، ما لم يوجد ما يقاربه في كلام مناقشيه، فدلنا هذا على أن

قاسمًا من أعلم الناس بمنافع الحجاب الشرعي، وبمضار الغلو فيه، وأنه يخاطب

كل قوم غلوا في طرف بالمبالغة في الطرف الآخر، فلما رأى الإفرنج يذمون

الإسلام والمسلمين لأجل الحجاب ألف كتابًا في منافعه بلغتهم ألقمهم فيه الحجر، ولم

يشرح فيه ما يعتقده من مبالغة المسلمين فيه، وجعلهم الجهل ضربة لازب على

النساء لأجله؛ ولكنه بيَّن هذا وبالغ فيه، بل تغالى للمسلمين ولم يذكر لهم شيئًا من

منافع الحجاب التي يعلمها ليرجعهم إلى الحد الوسط وهو الحجاب الشرعي الذي

يقطع السبيل على الفساق الذين يجنون على العفة في الخلوات، ويهتكون حرمة

الصيانة من وراء الأستار، ولا يقطع على النساء طريق التربية والتعليم اللذين

يصلن بهما إلى الكمال الممكن لهن، والاستقلال في شؤون الحياة، وبهذا تبين أن

اعتذارنا، بل بياننا قد أصاب كبد الحقيقة.

والقول الفصل: إنه يجب العناية بتربية النساء وتعليمهن، وإننا في التربية

النفسية أحوج، وإن أفضل سجايا النفس - لا سيما في النساء - العفة والصيانة،

وإنه لا يتم ذلك إلا بالتربية الدينية، وإن التربية قوامها وملاكها القدوة بالمعاشرة،

فإذا كان من يُراد تربيته يعاشر فاسدي الآداب والأخلاق يتربى على مثل ما هم عليه،

وإن أكثر بلادنا مبتلون بهذا الفساد نساءً ورجالاً، والنتيجة الصحيحة أنه يجب

حجب البنات اللائي يُراد تربيتهن عن النساء بقدر الإمكان، فما بالك بالرجال،

ومتى عمت التربية الصحيحة، أو غُلِّبت يكون لها حكم آخر، فليعمل لكل وقت ما

يصلح له العاملون {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 3) .

***

(رحلة الصيف)

تشرف بالسفر مع حاشية الجناب العالي الخديوي إلى أوروبا في العام الماضي

صديقنا الأديب الفاضل عزتلو لبيب بك البتنوني، وقد زار كثيرًا من العواصم

الشهيرة، وطاف كثيرًا من المعاهد، وشاهد أبدع المشاهد، وكتب فيما رآه واختبره

بنفسه رحلة مطولة أودعها من فنون الفوائد وصنوف الاعتبارات ولطائف الفكاهات

ما تصبو إليه كل نفس، ويود الاطلاع عليه السياسي والاجتماعي والعالم والأديب

والمؤرخ، وطبعها طبعًا متقنًا على ورق جيد، وأهدى نسخها إلى فقراء المسلمين

بتقديمها إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، فنحث أهل الفضل على مطالعتها لما فيها

من الفوائد التي يحن إليها كل ذي فضل، ونحث أهل الغيرة الإسلامية على اقتنائها

لما في ذلك من المساعدة على البر والإحسان، وهي تُباع في مكتبة الجمعية في قبة

الغوري، وفي جميع المكاتب الشهيرة، وسنتحف القراء ببعض فوائدها في جزء

آخر.

_________

ص: 272

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نوادر البخلاء

ذكَّرتنا مقالة السخاء والبخل بأن نورد بعض نوادر البخلاء على سبيل الفكاهة

والعبرة فنقول:

كان بالبصرة رجل موسر، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة ببيض [1] ،

فأكل منه فأكثر، وجعل يشرب الماء، فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل

يتلوَّى، فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب، فقال: لا بأس عليك تقيأ ما أكلت.

فقال: هَاهْ، أتقيأ طباهجة ببيض؟ الموت ولا ذلك.

وأقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس

الأعرابي، فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئًا؟ قال: نعم. فقرأ (والزيتون

وطور سنين) فقال: وأين التين؟ قال: هو تحت كسائك.

ودعا بعضهم أخًا له ولم يُطْعِمَه شيئًا، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه،

وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود، وقال: بحياتي أي صوت تشتهي أن

أسمعك؟ قال: صوت المِقْلَى [2] .

ويُحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل

نسيب له كان يعرفه عنه وقال له قائل: صف مائدته. فقال: هي فِتْر في فتر،

وصحافه منقورة من حب الخشخاش. قيل فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون.

قال: فما يأكل معه أحد؟ قال: بلى الذباب. فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به

وثوبك مخرق. قال: أنا والله ما أقدر على إبرة أخيطه بها، ولو ملك محمد بيتًا من

بغداد إلى النوبة مملوءًا إبرًا، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه

السلام يطلبون منه إبرة، ويسألونه إعارتهم إياها ليخيطوا بها قميص يوسف الذي

قُدَّ من دبر ما فعل.

ويقال: كان مروان بن أبي حفصة [3] لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم إليه [4] ،

فإذا قرم إليه أرسل غلامه فاشترى له رأسًا فأكله، فقيل له: نراك لا تأكل إلا

الرؤوس في الصيف والشتاء، فلم تختار ذلك؟ قال: نعم الرأس أعرف سعره فآمن

خيانة الغلام، ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل

منه إن مس عينًا أو أذنًا أو خدًّا وقفت على ذلك، وآكل منه ألوانًا؛ عينه لونًا، وأذنه

لونًا ولسانه لونًا، وغلصمته [5] لونًا، ودماغه لونًا، وأكفى مؤنة طبخه، فقد

اجتمعت لي فيه مرافق.

وخرج يومًا يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن

رجعت بالجائزة؟ فقال: إن أُعطيت مائة ألف أعطيتك درهمًا، فأُعطي ستين ألفًا،

فأعطاها أربعة دوانق.

واشترى مرة لحمًا بدرهم، فدعاه صديق له فرَدَّ اللحم إلى القصَّاب بنقصان

دانق، وقال: أكره الإسراف.

وكان للأعمش جار، وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت

فأكلت كسرة وملحًا [6] ، فيأبى عليه الأعمش، فعرض عليه ذات يوم، فوافق جوع

الأعمش، فقال: سر بنا. فدخل منزله، فقرب إليه كسرة وملحًا، فجاء سائل فقال

له رب المنزل: بورك فيك. فأعاد عليه المسألة، فقال له: بورك فيك. فلما سأل

الثالثة قال له: اذهب وإلا والله خرجت إليك بالعصا، قال: فناداه الأعمش، فقال:

اذهب ويحك، فلا والله ما رأيت أحدًا أصدق مواعيد منه، هو منذ مدة يدعوني على

كسرة وملح، فلا والله ما زادني عليهما.

_________

(1)

الطباهجة: اللحم يجعل قطعًا، ويشوى في الطنجير بأي دهن، فإذا طُبخ في الماء، ثم قلي سمي (قلية) .

(2)

المِقْلَى: معروفة ويريد بصوتها قلي اللحم لإطعامه.

(3)

هو الذي ذكرناه في مقالة السخاء والبخل، وسيأتي ذكر رده اللحم قريبًا.

(4)

قرم: اشتدت شهوته إلى أكل اللحم.

(5)

الغلصمة: رأس الحلقوم.

(6)

كانت هذه الكلمة تقال في الدعوة إلى الطعام ويذكر بدلها الآن (الشوربا) أو القهوة.

ص: 277

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية ندوة العلماء في الهند

حيَّا الله تعالى علماء الهند أحسن تحية، وأيد بسعيهم هذه الملة الإسلامية،

ووفق سائر علماء المسلمين لمثل ما وفَّقهم إليه من تأليف الجمعيات للبحث في

شؤون المسلمين، وتلافي ما نزل بهم من البلاء المبين، فقد سبقوا للدخول في

كثير من الجمعيات الإسلامية، ثم ألَّفوا جمعية خاصة بهم سموها ندوة العلماء، وقد

احتفلت في شهر رجب الماضي احتفالها السنوي في مدينة لاهور، ومن أهم ما بحثت

فيه تعيين جمعية مخصوصة لتأليف كتب نافعة في علم الموجودات على الطريقة

الحديثة، وفي الرد على فلاسفة هذا العصر فيما يخالفون فيه الإسلام، وقد أرسل

إلينا أحد العلماء الفضلاء كراسة مطبوعة باللغة الأوردية في شؤون الاحتفال

لم نظفر بمن يترجمها لنا.

وسنذكر في الجزء الآتي خطبة لأحد أصدقائنا من علماء بمبي تُليت في

الاحتفال.

_________

ص: 279

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الطاعون في الكاب والمسلمون

كُتب إلينا من الكاب أن الطاعون قد فتك بالناس فتكًا ذريعًا، لا سيما في

الجهة الجنوبية، وأن رجال الصحة من الإنكليز قد أساءوا معاملة المسلمين،

وصاروا يدمرون على بيوتهم لأخذ المرضى بالقوة، ويأخذون عن كل مريض 30

أو 40 جنيهًا، ويحرقون جميع متاع البيت حتى الكراسي، ويمنعونهم من تجهيز

الموتى ودفنهم على الطريقة الإسلامية، وقد أُرسل إلينا قطعة من جريدة إنكليزية

ملخص ما فيها أنه اجتمعت لجنة من المسلمين والإنكليز للبحث في ذلك رئيسها

المسلم الحاج محمد طالب، وأن اللجنة أقرت الحكومة الإنكليزية على عملها بأنه

غير مخالف للدين؛ ولكن المسلمين هناك ناقمون على محمد طالب هذا، وكتب

إلينا أنه احتج على جواز شق بطون المسلمين بأن جبريل شق بطن النبي صلى الله

عليه وسلم، فإن كان هذا صحيحًا فالرجل مجنون لا يعول على قوله، والظاهر أن

سبب الشكوى هو سوء معاملة صغار المأمورين للمسلمين، فعسى أن يلتفت كبارهم

إلى تلافي ذلك.

سكتنا عن (شبهات المسيحيين) ؛ لأن السائل جاءنا وأقنعناه بالقول.

_________

ص: 280

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورة الثامنة بين المصلح والمقلد

الاجتهاد والوحدة الإسلامية

علمنا من آخر المحاورة السابعة أن الشيخ المقلد ذهب قبل إتمام الحديث

لموعد كان بينه وبين آخر، وقال إنه يعود في الغد؛ ولكنه أبطأ وجاء بعد أيام

يصحبه شيخ آخر فاعتذر عن الإبطاء وقال:

المقلد: إن هذا الأستاذ - وذكر اسمه - صديقي منذ أيام المجاورة في الأزهر

وهو قاضي بلدنا الشرعي الآن، ولما جئت البلد في فرصة العيد ذكرت له ما دار

بيننا، فتمنى لو كان في القاهرة وشاركنا في المناظرة والبحث، وقد حضر في هذه

الأيام بإجازة، فجئت به عالمًا أن سَتُسَرُّ بمعرفته، ولا أقصد أن يساعدني عليك

لاحتمال أن يوافقك؛ فإنه حرّ في فكره ورأيته موافقًا لك في بعض ما نقلته له عنك

في مباحث الجمل والاستدلال بالحروف والإشارات.

المصلح: أهلاً وسهلا لقد شرفنا الأستاذ - وصافحه ثانيًا - وإنني أحب أن

يساعدنا في هذه المذاكرة على تحقيق الحق الذي هو ضالتنا المنشودة، وليس لأحد

منا حظ دنيوي في رأيه يخاف فواته إذا ظهر له بطلان الرأي، على أن المجتهد الذي

يتبع الدليل أينما ظهر ويأخذ الحكمة حيث وجدها لا يزداد بالمباحثة ومراجعة

المراجعين إلا نورًا على نور، وأما المقلد الذي يجني دائمًا على نور الفطرة الإلهية

التي من مقتضاها النظر والفكر والاستدلال ويحاول إطفاءه بما يلقيه عليه من رماد

التقليد تعظيمًا لأسماء من ينسب إليهم ذلك الرماد، فهو الذي يخاف المناظرين

وَيَفْرَقُ من المباحثين؛ لأنهم يمدون نور الفطرة بنور البرهان، فتتضاعف الأنوار

حتى يعشيه تألقها ويكاد يخطف بصره شعاعها، ويرى نفسه في عجز عن إطفائها،

وتتولاه الحيرة وتحيط به الغمة، وكيف حال من فقد السكينة والاطمئنان وجعل

خصمه السنة والقرآن.

المقلد: دعنا من التعريض والتلويح، بل من هذا التشنيع الصريح، فها أنا

ذا أناظرك بالدليل، لا بالقال والقيل، قررت أن الواجب على المسلمين بالنسبة

للأحكام العملية هو الأخذ بما أجمع عليه أهل الإسلام، وأنهم على التخيير فما

اختلف فيه يعمل كل أحد بما يرجح عنده

إلخ، فما تقول فيمن عرض له شيء

من ذلك وهو عامي لا يعرف الأقوال فيتخير فيها، ألا يجب عليه أن يسأل العلماء

ويأخذ بأقوالهم؟ سكتَّ عن هذه المسألة؛ لأنها حجة عليك في جواز التقليد.

المصلح: يمكن لهذا العامي أن يتبع سبيل عامة أهل الصدر الأول، فقد كان

من تعرض له مسألة لا يعرف حكم الله فيها يسأل من يظن أن عنده فيها شيئًا من

كتاب أو سنة، لا أنه يسأله عن رأيه الشخصي ويأخذ به من غير معرفة دليله

فيكون مقلدًا، ومثل هذا السؤال كان يقع من الخاصة أيضًا والمسئول فيه راوٍ، أو

منبه على مأخذ الحكم ووجه استنباطه، ولو كان كل سائل مقلدًا، وكل مسئول إمامًا

متبعًا لذاته لكان كل مجتهد مقلدًا، وكثير من الجاهلين أئمة ولا يقول بهذا أحد.

الزائر أو المقلد الثاني أو المناظر الثالث: على هذا يكون استدلال الأصوليين

بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) على

وجوب التقليد على العاجز عن الاجتهاد غير سديد.

المصلح: لا شك أنه استدلال عقيم لوجوه، منها أن السبب الخاص الذي

نزلت فيه الآية الكريمة لا يصح فيه التقليد، فتكون أمرًا به وإنما هي إزالة شبهة

بالتنبيه إلى أمر مقرر عندهم، وذلك أن مشركي العرب كانوا يقولون ما قص الله

عنهم بقوله: {إِنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ

لَغَافِلِينَ} (الأنعام: 156) وقوله:] لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [

أي لأننا أزكى فطرة، وأذكى فهمًا، وأقوى عزيمة، فلما نزل عليهم الكتاب كان من

شبههم على من نزل عليه صلى الله عليه وسلم أنه بشر يأكل الطعام ويمشي في

الأسواق، وأنه رجل مثلهم والآيات الحاكية هذا عنهم معروفة، فأجابهم عن هذه

الشبهة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن

كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7) يأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب هل كان الأنبياء

ملائكة أم رجالاً من البشر، وكون الأنبياء رجالاً أمر مجمع عليه عند أهل الكتاب،

ومنقول بالتواتر حتى عند غيرهم، فالسؤال عنه ليس أخذًا برأي من غير دليل فيكون

تقليدًا، ومنها: أن هذه المسألة اعتقادية لا عملية، وأنتم لا تقولون بوجوب التقليد في

أصول الإيمان؛ لأن المقلد لا يكون موقنًا ومن لا يقين له لا إيمان له؛ لأن الظن لا

يغني من الحق شيئًا في هذا المقام، ولو كان الآخذ بقول غيره في عقائد دينه وأصوله

معذورًا عند الله تعالى لكان جميع أهل الأديان معذورين وناجين، ولما وجب النظر في

دعوة نبي من الأنبياء إلا على المجتهدين، فإذا ظهر النبي في طور لجأت فيه الأمة

كلها إلى التقليد كما تحكمون أنتم وفقهاؤكم على هذه الأمة الإسلامية، تكون الأمة كلها

معذورة عند الله تعالى في رفض دعوته وعدم النظر فيها وهل يقول بهذا إلا مجنون.

المقلد: إنني سلَّمت لك من قبل أن التقليد في العقائد غير جائز.

المصلح: وأنا بينت لك أن فهم الأحكام أسهل من فهم العقائد.

الثالث: إن فرقًا بين المقلد في الكفر، وبين المقلد في الحق، فالثاني يعذره

الله تعالى؛ لأنه وافق الحق دون الأول.

المصلح: إن الله تعالى هو الحكم العدل القائم بالقسط، فإذا أمر بمقلدي

الوثنيين مثلاً إلى النار، وبمقلدي المسلمين إلى الجنة، وسأل الوثنيون مساواتهم

بأمثالهم من مقلدي المسلمين؛ لأن كلاًّ منهم غير مكلف بالنظر لمعرفة الحق، ألا

يكون طلبهم هذا عادلاً يتنزه الله تعالى عن منعهم إياه؟

الثالث: إنه تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) .

المصلح: معنى الآية الكريمة أنه ليس لأحد سلطان على الله تعالى، فيحاسبه

على أفعاله، بل هو صاحب السلطان الأكبر القائم على كل نفس بما كسبت، وليس

معناها أنه لا يعدل بين عباده فيما هم فيه سواء، وما أنبأنا الله تعالى بتبرؤ الأتباع

من المتبوعين والمرءوسين من الرؤساء في يوم القيامة، إلا ليكون ذلك عبرة لنا

وآية على أنه لا يعذر أحدًا باتِّباع من لم يأمره باتِّباعه، والآيات في هذا كثيرة

كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ

الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ

اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 166-167)

والآيات في هذا المعنى كثيرة.

الثالث: أتقول إن هذه الملايين من المسلمين المقلدين خالدون في النار، وأنهم

كالوثنيين سواء؟

المصلح: لا أقول هذا؛ ولكنني أقول: إن دعوة الإسلام لم تبلغهم كاملة،

فيجب تبليغهم إياها بالقرآن الكريم الذي بَلَّغ به النبي صلى الله عليه وسلم من قبلهم

من أولئك السلف الكرام، ومن اهتدى بهديهم الذين شادوا لنا ذلك المجد الكبير

بإرشاد القرآن وأضعناه بالإعراض عن القرآن احتجاجًا بتقليد فلان وفلان الذين

يتبرءون منا يوم القيامة قائلاً كل منهم كما يقول عيسى بن مريم عليه السلام: {مَا

قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (المائدة: 117) وسأورد بعض ما يؤثر عنهم في

النهي عن الأخذ بقولهم حتى في الفروع من غير معرفة دليلهم والاقتناع به، وعن

تقديم كلامهم على الحديث النبوي - بله القرآن العظيم - وما يؤثر أيضًا عن أكابر

العلماء الأعلام من بعدهم، وأرجو أن يكون في ذلك مقنع لكم فإنكم ألفتم الأخذ بكلام

الناس دون كلام الله ورسوله.

الثالث: ونحن يمكننا أن نورد لك من كلامهم، بل ما نقل فيه الإجماع ما

يقتضي القول بالتقليد، وهو منع التلفيق؛ فإن التلفيق لازم للتقليد، وقد نقل في

الدر المختار الإجماع على بطلانه، فأورد لنا قولاً بالإجماع على منع التقليد في

الفروع.

المقلد للثالث: إنه لم يتم كلامه الأول فيما يجب الأخذ به لأجل الوحدة

الإسلامية، فقد بقي عليه الكلام في قسم المعاملات الدنيوية والأحكام القضائية؛

وإنما مناقشتنا معه الآن في العبادات، وإن في كلامه قوة والحق يقال؛ ولكنه

يحتمل النقض والمعارضة، والمصيبة فينا أننا لم يسبق لنا بحث كثير في هذه

المواضيع لنستحضر النصوص فيها، وما كنت أظن أن مثله يشتغل بهذه المسائل،

فقد حضرت مجلسًا ضم جماعة من أكابر مشايخنا، وذكر فيه الذين يتكلمون في

الإصلاح، فرأيتهم متفقين على أن الذين يتكلمون في الإصلاح كلهم جاهلون بالدين

وغير مطلعين على علومه ولا متمسكين بأعماله، ولولا أنني اختبرت هذا الشاب

وألفيته متمسكًا بالدين أشد التمسك، محافظًا على الصلوات أتم المحافظة - لما

جاريته وقصدت سبر غوره، ولما احتملت منه ما احتملت من التهكم بالمقلدين

والإزراء بهم تلويحًا وتصريحًا مع أنني أعلم أنه يعتدني منهم؛ ولكنني أستغرب

كيف لم يهتد أحد من علماء الملة إلى هذا الرأي - إزالة الخلاف بالأخذ بالقرآن

والسنة العملية المتفق عليها - في كل هذه القرون، فهل علم صاحبنا ما جهله العلماء

بعد حدوث المذاهب، وهو زمن يزيد على ألف سنة؟

المصلح: أستحيي أن أعود إلى التشنيع على التقليد بعد الذي ذكرت من

التبرم من ذلك، وإن كنت أشاهد مصائبه تترشح من كل كلمة يقولها المقلد الذي

بطلت ثقته بفهمه وعقله، وما أحب أن أعتدك مقلدًا بحتًا بعدما عاهدتني على الأخذ

بالدليل، كيف صح لك الحكم بأنه لم يقل أحد من علماء الأمة بوجوب إزالة الخلاف

من المسلمين وإرجاعهم إلى ما يرشد إليه القرآن من الوحدة، والأخذ بالمتفق عليه،

وهل استقريت كل ما قاله العلماء الأعلام في كل فن من الفنون؟ إن هذا إلا كحكم

شيوخك بأن جميع المتكلمين بُعَداء عن الدين علمًا وعملاً.

هذا حجة الإسلام وعلم الأعلام الإمام الغزالي كان أعلم علماء التقليد وأقواهم

عارضة في الدفاع عن مذهب الشافعي وله في الخلاف مصنفات، وبعد أن بلغ

الكمال في الفروع والأصول والمعقول والمنقول، اهتدى إلى هذا الرأي فمهَّد له

بالإنحاء على العلماء المختلفين باللوم والتعنيف في كتابه (إحياء علوم الدين)

وسماهم علماء السوء، ثم صرح برأيه في كتابه (القسطاس المستقيم) وقد وقع

في يدي أمس فكان أول ما قرأته فيه هذا الموضوع، والكتاب موضوع في مناظرة

جرت بين الإمام وبين رجل من الباطنية الذين يقولون لا بد من إمام معصوم يتبع

في كل عصر.

المقلد الأول والثالث معًا: هل يوجد عندك هذا الكتاب هنا فتُسمعنا ذلك؟

المصلح: نعم، وأخذ كتابًا صغيرًا، وقرأ من أواخره ما يأتي:

القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات

فقال - أي مناظر الإمام الغزالي - كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟

قلت: إن أصغوا إليَّ رفعت الاختلاف بينهم بكتاب الله تعالى؛ ولكن لا حيلة في

إصغائهم؛ فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إلي

وكيف يجتمعون على الإصغاء وقد حُكم عليهم في الأزل بأنهم {لَا يَزَالُونَ

مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) وكون الخلاف

بينهم ضروريًّا تعرفه من كتاب (جواب مفصل الخلاف) وهو الفصول الاثنى

عشر، فقال: فلو أصغوا إليك كيف كنت تفعل؟

قلت: كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب الله تعالى إذ قال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ

الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} (الحديد: 25) الآية، وإنما

أنزل هذه الثلاث لأن الناس ثلاثة أصناف: عوام وهم أهل السلامة البله وهم

أهل الجنة، وخواص وهم أهل الذكاء والبصيرة، ويتولد بينهم طائفة هم أهل الجدل

والشغب، فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة.

أما الخواصّ فإني أعالجهم بأن أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها،

فيرتفع الخلاف بينهم على قرب، وهؤلاء قوم اجتمع فيهم ثلاث خصال (إحداها)

القريحة النافذة والفطنة القوية، وهذه عطية فطرية وغريزة جِبِلية لا يمكن كسبها،

و (الثانية) خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث مسموع - والتفت إلى

المقلدين قائلاً: انظرا كيف حكم حكمًا مطلقًا بأن خواص الناس لا يقلدون أحدًا - ثم

قرأ: فإن المقلد لا يصغي، والبليد وإن أصغى فلا يفهم (الثالثة) : أن يعتقد أني من

أهل البصيرة بالميزان، ومن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب لا يمكنه أن يتعلمه منك.

(والصنف الثاني البله وهم جميع العوام) وهؤلاء هم الذين لهم فطنة لفهم

الحقائق وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب، بل شغلتهم الصناعات

والحِرَف، وليس فيهم أيضًا داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع قصور

الفهم عنه، فهؤلاء لا يختلفون ولا يتخيرون بين الأئمة المختلفين، فأدعو هؤلاء

إلى الله بالموعظة، كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة، وأدعو أهل الشغب بالمجادلة

وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته عليك أولاً، فأقول

لهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي جاءه فقال علمني من غرائب

العلم، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس أهلاً لذلك فقال: (وماذا عملت

في رأس العلم) أي الإيمان والتقوى والاستعداد للآخرة (اذهب فأَحكِم رأس العلم،

ثم ارجع لأعلمك من غرائبه) فأقول للعامي: ليس الخوض في الاختلافات من عشك

فادرج فإياك أن تخوض فيه ، أو تصغي إليه فتهلك، فإنك إذا صرفت عمرك في

صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة، وقد صرفت عمرك في غير العلم ، فكيف

تكون من أهل العلم، ومن أهل الخوض فيه؟! فإياك ثم إياك أن تهلك نفسك فكل

كبيرة تجري على العامي أهون عليه من الخوض في العلم، فيكفر من حيث لا

يدري [1] .

(فإن قال: لا بد من دين أعتقده وأعمل به لأصل إلى المغفرة والناس

مختلفون في الأديان فبأي دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له: للدين

أصول وفروع والاختلاف إنما يقع فيهما، أما الأصول فليس عليك أن تعتقد فيها إلا

ما في القرآن؛ فإن الله لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه، فعليك أن تعتقد أن لا

إله إلى الله، وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله

شيء.. إلى جميع ما ورد في القرآن واتفق عليه الأئمة، فذلك كافٍ في صحة الدين

وإن تشابه عليك شيء فقل {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) واعتقد

كل ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة،

واعتقاد أنه ليس كمثله شيء، وبعد هذا لا تلتفت إلى القيل والقال؛ فإنك غير

مأمور به ولا هو على حد طاقتك، فإن أخذ يتحذلق ويقول: قد علمت أنه عالم من

القرآن؛ ولكني لا أعلم أنه عالم بالذات أو بعلم زائد عليه، وقد اختلف فيه

الأشعرية والمعتزلة - فقد خرج بهذا عن حد العوام، إذ العامي لا يلتفت قلبه إلى مثل

هذا ما لم يحركه شيطان الجدل؛ فإن الله لا يهلك قومًا إلا يؤتيهم الجدل، كذلك ورد

الخبر [2] ، وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم.

(هذا ما أعظ به في الأصول وهو الحوالة على كتاب الله (قال المصلح:

ولا تنسيا أن كلامه في العوام) فإن الله أنزل الكتاب والميزان والحديد وهؤلاء أهل

الحوالة على الكتاب، وأما الفروع فأقول: لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ

من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع،

وأن الكسب الحرام والمال الحرام والنميمة والزنا والسرقة والخيانة وغير ذلك من

المحظورات حرام والفرائض كلها واجبة، فإن فرغت من جميعها علمتك طريق

الخلاص من الخلاف، فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا فهو جدلي وليس

بعامي، ومتى تفرغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف؟ أفرأيت رفقاءك قد

فرغوا من جميع هذه ثم أخذ إشكال الخلاف بمخنقهم؟ هيهات ما أُشبِّه ضعف

عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف به على الموت وله علاج

متفق عليه بين الأطباء وهو يقول: قد اختلف الأطباء في بعض الأدوية أنها حارة

أو باردة، وربما افتقرت إليه يومًا فأنا لا أعالج نفسي حتى أجد من يعلمني رفع

الخلاف فيه.

نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها، وقال ها أنذا تشكل عليَّ

مسائل: فإني لا أدري أتوضأ من اللمس والقيء والرعاف وأنوي الصوم بالليل

في رمضان أو بالنهار إلى غير ذلك - فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق

الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط، وخذ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ من كل ما فيه

خلاف وانو الصوم بالليل في رمضان؛ فإن من لا يوجبه يستحبه، فإن قال: هو

ذا يثقل علي الاحتياط ويعرض لي مسائل تدور بين النفي والإثبات، وقال: لا

أدري أأقنت في الصبح أم لا، وأجهر بالتسمية أم لا؟ فأقول له: الآن اجتهد مع

نفسك، وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل عندك وصوابه أغلب على قلبك، كما لو كنت

مريضًا وفي البلد أطباء؛ فإنك تختار بعض الأطباء باجتهادك لا بهواك وطبعك،

فيكفيك مثل ذلك الاجتهاد في أمر دينك فمن غلب على ظنك أنه الأفضل، فاتبعه

فإن أصاب فيما قال عند الله فله في ذلك أجران، وإن أخطأ فله عند الله أجر واحد،

وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من اجتهد فأصاب فله أجران

ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد) ورد الله الأمر إلى أهل الاجتهاد فقال تعالى:

{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وارتضى الاجتهاد لأهله إذ قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم

تجد، قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد

رأيي) قال ذلك قبل أن أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له فيه.

وهنا التفت المصلح إلى المقلد وقال: أرأيت كيف وافق فهمي في الحديث فهم

الإمام الغزالي، إلا أنني خصصته بالأحكام القضائية دون الأمور التعبدية كما هو

ظاهر اللفظ، والغزالي عممه وسنعود إلى ذلك.

ثم مضى في القراءة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي وفق

رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله) ففهم من ذلك أنه مرضي من رسول الله

صلى الله عليه وسلم لمعاذ وغيره، كما قال الأعرابي: إني هلكت وأهلكت: واقعت

أهلي في رمضان، فقال:(أعتق رقبة) ففهم أن التركي والهندي لو جامع أيضًا

لزمه الإعتاق.

وهذا لأن الخلق ما كلفوا الصواب عند الله؛ فإن ذلك غير مقدور عليه ولا

تكليف بما لا يطاق، بل كلفوا بما يظنونه صوابًا، كما لم يُكلَّفوا الصلاة بثوب طاهر

بل بثوب يظنون أنه طاهر، فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم القضاء إذ نزع رسول

الله صلى الله عليه وسلم نعله في أثناء الصلاة لما أنبأه جبريل أن عليه قذرًا ولم يُعِدْ

الصلاة ولم يستأنف، وكذلك لم يكلف أن يصلي إلى القبلة، بل إلى جهة يظن أنها

القبلة بالاستدلال بالجبال والكواكب والشمس، فإن أصاب فله أجران وإلا فله أجر

واحد، ولم يُكلَّفوا أداء الزكاة إلى الفقير، بل إلى من ظنوا فقره؛ لأن ذلك لا

يعرف باطنه، ولم يكلف القضاة في سفك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون

صدقهم بل من يظنون صدقه، وإذا جاز سفك دم بظن يحتمل الخطأ، وهو ظن

صدق الشهود، فلم لا تجوز الصلاة بظن شهادة الأدلة عند الاجتهاد.

وليت شعري ماذا يقول رفقاؤك في هذا؟ يقولون: إذا اشتبهت عليه القبلة

يؤخر الصلاة حتى يسافر إلى الإمام ويسأله، أو يكلفه الإصابة التي لا يطيقها أو

يقول اجتهد لمن لا يمكنه الاجتهاد، إذ لا يعرف أدلة القبلة وكيفية الاستدلال

بالكواكب والجبال والرياح، قال: لا أشك في أنه يأذن له في الاجتهاد، ثم لا

يؤثمه إذ بذل كنه مجهوده وإن أخطأ أو صلى إلى غير القبلة، قلت: فإذا كان من

جعل القبلة خلفه معذورًا مأجورًا فلا يبعد أن يكون من أخطأ في سائر الاجتهادات

معذورًا، فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون: بعضهم مصيبون ما عند الله،

وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين، فمناصبهم متقاربة وليس لهم أن

يتعاندوا وأن يتعصب بعضهم مع بعض، لا سيما والمصيب لا يتعين وكل واحد

منهم يظن أنه مصيب كما لو كان اجتهد مسافران في القبلة فاختلفا في الاجتهاد

فحقهما أن يصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي غلبت على ظنه، وأن يكف إنكاره

وإعراضه واعتراضه على صاحبه؛ لأنه لم يكلف إلا استعمال موجب ظنه، أما

استقبال عين القبلة عند الله فلا يقدر عليه، وكذلك كان معاذ في اليمن يجتهد لا على

اعتقاد أنه لا يُتَصَور منه الخطأ؛ لكن على اعتقاد أنه إن أخطأ كان معذورًا، وهذا

لأن الأمور الوضعية الشرعية التي يُتَصَور أن تختلف بها الشرائع يقرب فيها

الشيء من نقيضه بعد كونه مظنونًا في سر الاستبصار، وأما ما لا تتغير فيه

الشرائع فليس فيه اختلاف. وحقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتِّباع السنة، وقد

ذكرته في الأصل العاشر من الأعمال الظاهرة من كتاب جواهر القرآن.

وأما الصنف الثالث، وهم أهل الجدل فإني أدعوهم بالتلطف إلى الحق،

وأعني بالتلطف أن لا أتعصب عليهم ولا أعنفهم، لكن أرفق وأجادل بالتي هي

أحسن، وكذلك أمر الله تعالى رسوله، ومعنى المجادلة بالأحسن أن آخذ الأصول

التي يسلمها الجدلي واستنتج منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذي أوردته في

كتاب الاقتصاد في الاعتقاد [3] وإلى ذلك الحد، فإن لم يقنعه ذلك لتشوفه بفطنته إلى

مزيد كشف، رقيته إلى تعليم الموازين، فإن لم يقنعه لبلادته وإصراره على تعصبه

ولجاجه وعناده عالجته بالحديد؛ فإن الله سبحانه جعل الحديد والميزان قريني

الكتاب ليُفهم منه أن جميع الخلائق لا يقومون بالقسط إلا بهذه الثلاث، فالكتاب

للعوام، والميزان للخواص، والحديد الذي فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من

الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولا يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم، وأنه لا

يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم دون أهل الجدل، وأعني بأهل الجدل طائفة

فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام؛ ولكن قياساتهم ناقصة إذ كانت الفطرة كاملة؛ لكن

في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد، فذلك يمنعهم عن إدراك الحق، وتكون هذه

الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا؛ لكن لم تهلكهم إلا كياستهم

الناقصة؛ فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة شر من البلاهة بكثير، وفي الخبر

(إن أكثر أهل الجنة البُلْهُ وإن عليين لذوي الألباب) .

ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون في آيات الله، وأولئك أصحاب النار

ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهؤلاء ينبغي أن يمنعوا من الجدال

بالسيف والسنان كما فعل عمر رضي الله عنه برجل إذ سأله عن آيتين متشابهتين

في كتاب الله تعالى فعلاه بالدرة، وكما قال مالك رضي الله عنه لما سئل عن

الاستواء على العرش، فقال: (الاستواء حق والإيمان به واجب والكيفية مجهولة

والسؤال عنه بدعة) وحسم بذلك باب الجدال، وكذلك فعل السلف كلهم، وفي

فتح باب الجدال ضرر عظيم على عباد الله تعالى، فهذا مذهبي في دعوة الناس إلى

الحق، وإخراجهم من ظلمات الضلال إلى نور الحق، وذلك بأن أدعو الخواص

إلى الحكمة بتعليم الميزان، حتى إذا تعلم الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد

بل على علوم كثيرة؛ فإن من معه ميزان فإنه يعرف به مقادير أعيان لا نهاية لها

كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا

لا نهاية له، ولولا اشتمال القرآن على الموازين لما صح تسمية القرآن نورًا؛ لأن

النور ما يبصر بنفسه ويبصر به غيره وهو نعت الميزان، ولَمَا صدق قوله: {وَلَا

رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59) فإن جميع العلوم غير

موجودة في القرآن بالتصريح، ولكن موجودة فيه بالقوة لما فيه من الموازين القسط

التي بها تفتح أبواب الحكمة التي لا نهاية لها، فبهذا أدعو الخواص ودعوت العوام

بالموعظة الحسنة بالإحالة على الكتاب، والاقتصار على ما فيه من الصفات الثابتة

لله تعالى، ودعوت أهل الجدل بالمجادلة التي هي أحسن، فمن أبى أعرضت عن

مخاطبته، وكففت شره ببأس السلطان والحديد المُنَزَّل مع الميزان.

فليت شعري الآن يا رفيقي بم يعالج أمامك هؤلاء الأصناف الثلاثة، أيعلم

العوامُ غريبَ العلم فيكلفهم ما لا يفهمون ويخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم،

أو يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالمحاجة ولم يقدر على ذلك رسول الله صلى

الله عليه وسلم مع كثرة محاجة الله تعالى في القرآن مع الكفار، فما أعظم قدرة

إمامك إذ صار أقدر من الله تعالى ومن رسوله، أو يدعو أهل البصيرة إلى تقليده،

وهم لا يقبلون قول الرسول صلى الله عيه وسلم بالتقليد، ولا يقنعون بقلب العصا

ثعبانًا، بل يقولون: هو فعل غريب ولكن من أين يلزم منه صدق فاعله، وفي

العالم من غرائب السحر والطلسمات ما تتحير فيه العقول، ولا يقوى على تمييز

المعجزة عن السحر والطلسم إلا من عرف جميعها وجملة أنواعها؛ ليعلم أن المعجز

خارج عنها، كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلام إذ كانوا من أئمة

السحرة، ومن الذي يقوى على ذلك؟ بل إن أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن

يعلموا صدقه من قوله، كما يعلم متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه في

قوله: إني حاسب، فهذه هي المعرفة اليقينية التي بها يقنع أولو الألباب وأهل

البصائر ولا يقنعون بغيرها ألبتة، وهم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول

صلى الله عليه وسلم، وصدق القرآن، وفهموا موازين القرآن كما ذكرت لك،

وأخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذكرته في كتاب (جواهر القرآن) فمن

أين يحتاجون إلى إمامك المعصوم، وما الذي حل من إشكالات الدين، وعن ماذا

كشف من غوامضه؟ قال الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن

دُونِهِ} (لقمان: 11) وقد سمعت الآن منهاجي في موازين العلوم، فأرني ماذا

اقتبسته من غوامض العلوم من إمامك إلى الآن، وما الذي يتعلمون منه، وليت شعري

ما الذي تعلمت من إمامك المعصوم أرني ما رأيتها:

ما يسدي بي رتسدي أوف

خرابن وقلب يارفوت

فليس الغرض من الدعوة إلى المائدة مجرد الدعوة دون الأكل والتناول منها،

وإني أراكم تدعون الناس إلى الإمام، ثم أرى المستجيب إمامك بعد الاستجابة على

جهله الذي كان قبله لم يحل له الإمام عقدًا، بل ربما عقد له حلاًّ ولم تفده استجابته

له علمًا، بل ربما زاد به طغيانًا وجهلاً، فقال: قد طالت صحبتي مع رفقائي؛

ولكن ما تعلمت منهم شيئًا إلا أنهم يقولون: عليك بمذهب التعليم، وإياك والرأي

والقياس فإنه متعارض مختلف، فقلت: فمن الغرائب أن يدعوا إلى التعليم، ثم لا

يشتغلوا بالتعليم، فقل لهم: قد دعوتموني إلى التعليم، فاستجبت فعلموني ما عندكم،

فقال: ما أراهم يزيدونني على هذا شيئًا، فقلت: فإني قائل أيضًا بالتعليم وبالإمام

ويبطلان الرأي والقياس، وأنا أزيدك على هذا - لو أطقت ترك التقليد - تعليم

غرائب العلوم وأسرار القرآن، فأستخرج لك منه مفاتيح العلوم كلها، كما استخرجت

منه موازين العلوم كلها على ما أشرت إلى انشعاب العلوم كلها منه في كتاب (جواهر

القرآن) لكني لست أدعو إلى إمام سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى كتاب

سوى القرآن فمنه أستخراج جميع أسرار العلوم وبرهاني على ذلك لساني وبياني،

وعليك إن شككت تجريبي وامتحاني، أفتراني أولى بأن يتعلم مني من رفقائك،

أم لا؟ اهـ.

المقلد والثالث: إن الإمام الغزالي أثبت التقليد، بل أوجبه على العوام، وفي

كلامه بعض إشكالات لم يبق في الوقت سعة للبحث فيها.

المصلح: سنبحث في هذا في مجلس آخر - إن شاء الله تعالى - وافترقوا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

من المصائب أن تفلسف المتكلمين في علم الكلام أخرجهم عن طريق القرآن في تقرير العقائد، وفسد التعليم بذلك حتى صار كل عامي يجادل في الله بغير علم ولا كتاب منير، ويخوض في القدر ويذهب مذهب الجبر ويكون في هذا أكثر جدلاً كلما كان أقرب من الشيوخ في العلم والطريق، فلا هو مجتهد يفهم ولا مقلد يسلم.

(2)

وكذلك وقع لهذه الأمة، ما زال يفتك فيها الجدل الذي أثاره الاختلاف حتى جعلها حرضًا.

(3)

المنار: كنت أتعجب من وضع كتاب الاقتصاد المذكور على طريقة المتكلمين بعدما وصل

الغزالي إلى الطريقة المثلى حتى رأيت سببه هنا، وهو مجادلة المتكلمين بما ألفوا.

ص: 281

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة والأجوبة الدينية

(1)

مجاور في الأزهر: ما معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ

إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فقد استشكل المفسرون في لام (ليعبدون) إذ لا

يصح أن تكون للتعليل؛ لأن أفعاله تعالى لا تُعلل ولا للغاية لأن أكثرهم لا يعبده،

وذهب بعضهم إلى أنها لام العاقبة والصيرورة وقال: إنه لا يلزم وقوع ما بعدها،

ومثّل لها بأنك إذا قلت بريت القلم لأكتب به ولم تكتب تكون صادقًا، وهذا إذا ظهر

بالنسبة إلى الناس، فليس بظاهر بالنسبة إلى الباري سبحانه وتعالى، وقال

البيضاوي: لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها جعل خلقهم مغيًّا بها

مغالبة في ذلك ولو حُمِلَ على ظاهره، مع أن الدليل يمنعه لنا في قوله تعالى:

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ} (الأعراف: 179) وقيل معناه

لنأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عبادًا اهـ. ولا تطمئن إليه النفس، فهل عندكم ما

أوضح من ذلك؟ اهـ بتصرف.

(ج) : اللام للغاية حتمًا، والآية حاكية عن طبيعة النوع الإنساني،

وشارحة لترقيه في الشعور الديني الذي أُلهمه بالفطرة، وتاريخ الإنسان يؤيد معناها

ويقاس به النوع الذي سماه الله بالجن؛ لأنه مجتن ومستتر عنا.

الشعور الفطري الذي أودعه الإنسان هو أن في الوجود سلطة وراء الطبيعة

يخضع لها ويعظمها وينيط بها كل حادث لم يقف على سببه، وهذا الخضوع

والتعظيم هو العبادة، وقد كان في أطوار الجهالة يضيف ما لا يعرف سببه إلى

مظهره، ويخضع لذلك المظهر، هذا النوع من الخضوع الذي قلنا إنه يسمى عبادة،

فعبد السحاب لأنه مظهر البرق والرعد والمطر، وعبد الثعابين لأن لها قوة في

الإعدام لم يكن يعرفها، وعبد بعض البشر لأنه ظهر على أيديهم أعمال غريبة لم

يقف على عللها وأسبابها، وكان يرتقي في مجموعه في هذه الاعتقادات تدريجًا،

وغاية ما ينتهي إليه بعد كمال العلم والمعرفة أن يعتقد أن مظاهر الأفعال الخارقة في

نظره أو بالنسبة له ولغيره هي كمظاهر الأفعال العادية مسخرة لقوة غيبية مطلقة

عرفت بآثارها لا بذاتها، وأن صاحب تلك القوة هو الله تعالى الذي لا يستحق

العبادة غيره فيعبده حينئذ وحده.

***

(2)

السيد عمر بن مبروك من تونس: عندنا ماجِل [1] في دارنا يجتمع فيه

ماء المطر من السطوح، فنستعمله في العادة والعبادة، وقد وقع فيه فرخ حمام ميت

وكان الوقت صيفًا، والماء فيه قليلاً، فتغير لونه وريحه وتعذر علينا إخراج

الفرخ منه، فتركنا استعماله حتى جاء الشتاء وامتلأ الماجل بالماء وزال التغير من

لونه ورائحته، وعاد زلالاً نقيًّا، فسألنا سادتنا الحنفية عنه فقالوا: لا بد من نزع

ماء الماجل كله، وسألنا سادتنا المالكية فقالوا: لا بد من إخراج الطير أو ما بقي

منه في الماء ليجوز استعماله في العادة والعبادة، وفي ذلك مشقة علينا كبيرة،

ونحن مضطرون لاستعمال هذا الماء، وقد قصدنا مذهب سادتنا الشافعية لعلنا نجد

فيه رحمة فأفيدونا يرحمكم الله.

(ج) : مذهب الشافعية أن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس إلا بتغير طعمه أو

لونه أو ريحه من النجاسة، فلو كان الماء متنجسًا لوقوع نجاسة فيه وهو قليل، ثم

زاد حتى بلغ قلتين يطهر، ولو كان الماء المتجدد متنجسًا أيضًا، بل ولو كان مائعًا

نجس العين، والقلتان خمسمائة رطل بغدادي، وتبلغ بالمساحة نحو ذراعًا وربعًا

مربعًا طولاً وعرضًا وعمقًا، ولا شك أن ماجلكم أوسع من ذلك فهو طاهر حتمًا،

هذا وإن الله تعالى أمرنا بإزالة النجاسة ليطهرنا لا ليعنتنا، وهو يريد بنا اليسر ولا

يريد بنا العسر، وما جعل علينا في الدين من حرج، والنجاسة التي نهينا عنها هي

القاذورات التي تنفر منها الطباع السليمة، فهل يعقل أن ماجلاً عظيمًا وحوضًا

كبيرًا فيه ماء صافٍ نقي لا تغير فيه يحكم عليه بالنجاسة لتدقيق بعض الفقهاء في

الحدود التي وضعوها للاصطلاحات الشرعة، ويلزم لهذا التدقيق إعنات أهل بيت

من المسلمين وإيقاعهم في الحرج والعسر اللذين نفاهما الله تعالى؟

***

(3)

الشيخ أحمد محمد الألفي من طوخ القراموص: ما الفرق بين العهد

الذي لقنه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات، وبين العهد الذي تناقله

أهل الطريق بالأسانيد الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أليسوا من

المؤمنين والمؤمنات حتى يفرق بينهم وبين غيرهم؟ وما هو دليل الخصوصية في

عمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ وهل لا تُعتبر هذه الأسانيد الصحيحة حجة

في النقل؟ اهـ بنصه.

(ج) : إن مبايعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات

التي ذكرناها في جواب سؤالكم الرابع من الأسئلة المنشورة في الجزء الثالث ليست

تلقين عهد كالعهد المعروف الآن بين أهل الطريق، أما مبايعة المؤمنين المشار إليها

في سورة الفتح، فهي أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لعمرة

الحديبية وصدَّه المشركون، وأرسل إليهم عثمان بن عفان إلى مكة يخبرهم أنهم

جاءوا عُمَّارًا لا مقاتلين، وشاع أنهم قتلوه عزم النبي عليه الصلاة والسلام على

مقاتلة القوم، وبايع أصحابه رضي الله تعالى عنهم على عدم الفرار وعلى الموت

(روايتان) وبلغ ذلك المشركين فخافوا، وانتهى الأمر بالصلح المشهور، وفي ذلك

نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10) وقوله

عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح: 18) .

وأما مبايعة المؤمنات فهي المشار إليها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا

جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَاّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} (الممتحنة: 12) الآية، ورد أنه عليه الصلاة والسلام بايع المؤمنين مثل هذه

المبايعة على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمَنْشَط والمَكْرَه وأُثرته عليهم،

وأن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يقولوا الحق حيث كانوا لا يخافون الحق في أن

هذه البيعة لازمة في عنق كل من يدخل الإسلام، وهي السمع والطاعة لله ولرسوله

وعدم عصيان أولي الأمر في معروف؛ ولكن هل لأحد من الناس أن يبايع الناس

على طاعته غير خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو إمام

المسلمين؟ كلا ومن يدعيه فعليه البيان.

ومشايخ الصوفية يُعَبِّرون عن الدخول في الطريق بلبس الخرقة، ويذكرون

لذلك في إجازاتهم سندًا ينتهي إلى الحسن البصري وأن عليًّا كرم الله وجهه ألبسه

الخرقة؛ ولذلك ترى الطرائق كلها تنتهي إلى سيدنا علي عليه الرضوان والسلام؛

ولكن أئمة علم الحديث قالوا: حديث إن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة

على الصورة المتعارفة باطل لا أصل له، قال الحافظ ابن حجر: لم يرد في خبر

صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألبس الخرقة

على الصورة المتعارفة بين الصوفية أحدًا من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه

بفعل ذلك، وكل ما يروى في ذلك صريحًا فهو باطل، وقال: من المفترى أن عليًّا

ألبس الخرقة الحسن البصري؛ فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا

فضلاً عن أن يلبسه الخرقة، قال في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة:

وقد صرح بمثل ما ذكره ابن حجر جماعة من الحفاظ كالدمياطي والذهبي وابن

حبان والعلائي والعراقي وابن ناصر.

ويا ليت السائل يذكر لنا العهد الذي قال إن أهل الطريق تناقلوه بالأسانيد

الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكر لنا الحفَّاظ الذين خرَّجوه.

***

(4)

هل تقولون في الروح الناطقة الإنسانية والكشف وكرامات الأولياء

في الحياة وبعد الموت بقول جمهور أهل السنة والجماعة؟ أم ما هو مذهبكم في

ذلك؟

(ج) أما الكرامات فليراجع السائل فيها كتبناه في المجلد الثاني من المنار

(صفحة 145 و401 و417 و449 و481 و545 و657) فقد أثبتنا ما يقوم عليه

الدليل من الكرامات، وأما الروح فنقول فيها ما أمر الله تعالى رسولَه صلى الله

عليه وسلم أن يقول وهو {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) وأما الأسئلة التي تتعلق بالاجتهاد والتقليد فمحاورات المصلح

والمقلد تبين ذلك مفصلاً تفصيلاً.

_________

(1)

الماجل في اللغة: كل ماء في أصل جبل أو وادٍ، ولعل أهل تونس يطلقونه على الصهريج.

ص: 302

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مكتوب في حق مسلوب

يظن الذين لا فضيلة لهم بأن العفة والشهامة والشمم والإباء وعزة النفس

والنجدة، وما أشبهها من السجايا الفاضلة - ألفاظ لا توجد إلا في القاموس، وهي من

لغو الكلام الذي لا يصدق على شيء، وقد جاءنا من مدة مكتوب من صديق نعرفه

من أفضل الفضلاء، وأئمة محاريب الإنشاء يحكي فيه عن شيء اتفق له وهو

صادق في جميع ما قال، وهاك مكتوبه معرفًا بقلم يحاكي قلمه:

سيدي رب الكمال

مذ أفكر في فتور المراسلة بيننا طول هذه المدة يعروني الخجل، ويؤثر في

نفسي أثرًا يذهب بالراحة والطمأنينة، ولا شيء أشد نكاية على الإنسان من مؤاخذة

نفسه له وعتاب ضميره الذي لا يعذر ولا يحابي.

ترى ما هو الحكم الذي تسجلونه عليّ، أو ما هي التهم التي توجهونها إلي

عندما تفكرون في انقطاع رسائلي عنكم كل هذه المدة؟ أما أنا فالله يعلم أنني بريء.

بينا أنا متألم من الجراح التي فتحتها في قلبي مصائب الوطن، إذ رأيتني الآن

مشغولاً بمحنة نفسي مضطربًا من النازلة الفادحة التي ألمَّت بي رأيتني أصارع

الظلمة وأواثب المعتدين، فلقد حُرمتُ من حقوقي، وهي بمثابة الشمس في الظهور

والنهار في الجلاء والوضوح، الحق أقول: لو كنت أدوس تحت قدمي الناموس

والحمية وسائر المزايا الإنسانية الشريفة في سبيل نيل المطالب الخسيسة، وتناول

الحظوظ الفانية، وأهين النفس في التزلف إلى أولئك الأسافل النازين على مراتب

العُلِّية [1] وذوي السبق والفضل، فألثم أرجلهم القذرة وأذيالهم النتنة وأيديهم الدنسة

وأضعها على الرأس تبجيلاً لهم وتفخيمًا، بل لو كنت أسلك في طلب حاجتي مسلك

التسول مبالغًا في الملق والتبصبص [2] محركًا بضراعتي عاطفة الحنان والشفقة

علي كما هو شأن أصحاب الدناءة الذين يحسبون أن هذا العمل هو مناط المجد،

وأقرب وسيلة لنيل الفخر والشرف، أو لو كنت أظهر الخضوع والتخشع إلى درجة

تحاكي العبادة لقوم هم أخبث من الشياطين لأجل جلب توجههم إليّ، وأُغرق في

مدح الفراعنة والملاعين حتى أصعد بهم من أرض البشرية إلى سماء الألوهية تقليدًا

لأولئك المداهنين المخذولين، ولا أربأ بنفسي عن عرض العبودية لهم بمثل قول

الشاعر:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

لو كنت آتي بشيء من ذلك لما رجعت بخيبة، ولما صادفت حرمانًا؛ لكنني

بحمد الله لم أدع عملاً كهذا يخلص إلى خاطري أو يحوك في نفسي، نعم أحببت أن

أعرض شيئًا من الآثار الأدبية التي تناسب عجزي وقصوري مؤملاً أن تكون خير

وسيلة للرقي، وأمثل طريق للسعادة، وكنت لا أظهر من كلمات التحسين والتحبيذ

المستخرجة من خزينة (آفرين) التي لا نفاد لها والتي شكا منها الشاعر نابي [3] .

لكن بعيشك قل لي هل استفدت من سعيي بطائل؟ وهل أثمر سوى الخيبة

والحرمان؟ وهل كانت بشاشتهم في وجهي سوى ضحك يدل على الاستهزاء

والسخرية بأوضح تعبير، إن أولئك الخَسَرة الذين سميتهم ظلمة قد غمطوا حقي

بغير مساغ مع أنهم - واحنقاه - يعترفون بذلك، يقولون لي: هكذا جرى فلا تتألم،

كما إذا ضربت أحدًا بلا ذنب ولا سبب وقلت له: لا تأس ولا تتكدر.

يا للعجب، هل أنا من قوم رزئوا بالعجز، وأصيبوا بكل ضروب المهانة

فأتحمل هذه الإهانة؟ هل أنا أسير الذلة أو ذليل المنة حتى أحني ظهري للاستخذاء؟

هل شأني شأن أولئك الأذلاء الذين رئموا للدناءة وألفوا المهانة حتى أراني أُوطأ

بأقدام المذلة ثم أعتد ذلك حسنًا جميلاً؟ ما هو السبب للإغضاء والتحمل؟ لست

عاجزًا ولا وضيعًا فأهضم الظلم وأغمض على القذى، لست خاليًا من العزة وعلو

الهمة فأحمل نفسي على الرضا وعدم المبالاة، لست من فاقدي العزيمة الذين

يستحوذ عليهم اليأس فيفرِّطوا في حقوقهم حتى أزج نفسي في زاوية الضعة

والخمول، فطرتي ليست ملوثة بالجبن والخور حتى أتهيب من ادعاء الحق،

طينتي لا يشوبها شيء من الخساسة والسفالة حتى أطأطئ عنقي لصفعة الإهانة، لا

يليق بالجريء الذي لا يهاب أن يعمل عمل الجبان العاجز حتى أسلك سبيل الدهان

والنفاق، فأسمي الباطل حقًّا والمنكر معروفًا، لا يحسن بذي الغيرة والحمية أن

تتحول حرارة غيرته وغليان حميته إلى برودة وخمول حتى أرى بعيني من يبتز

حقي، وينتهك حقيقتي، ثم أسكت كظيمًا، وأنكس مهضومًا، لا أرضى أن أكون

فاقد الشعور كالأموات، عديم التأثر كمن إيفت حواسه، أنا حي أشعر بحقوق

الأحياء، فأتألم من كل ما يصادم الحق ويمس الشرف، إنسان أنفر وأضطرب لكل

معاملة تنابذ الإنسانية وتحط من كرامتها.

واعجبًا! تسعى البهائم جهدها في صيانة فرائسها وحفظها من مخالب أعدائها

وأتقاعس أنا عن انتياش حقي من أيدي الظلمة المتغلبين، هل الإنسانية أحط شأنًا

من البهيمية أم الحق المقدس في نظري من محقرات الأمور والسفاسف التي لا يؤبه

لها؟

قسمًا بالقهار المنتقم لأجتهدن ولأثبتن في الدفاع عن الحق حتى آخر نفس من

حياتي، ولو اعترضت دوني شوامخ الجبال، وقام في وجهي سد من حديد

لأقتحمنها بعزم المتجلد وصبر المستميت، ما دمت أجد في لساني ذرابة، وأحس

من قلمي بمضاء، فلست بممسك لساني عن القول، ولا بوازعٍ قلمي عن العمل،

ما دام في قلبي صبر وفي عزمي قوة، فلا أحبس نفسي عن الكفاح، ولا أمنع

قدمي عن الإقدام، بل لو تمثلت في سبيل عزيمتي الأهوال، وكشرت لي عن

أنياب غوائلها الأغوال، وكل ما يسمونه خطرًا وهلكة - لَمَا صدني ذلك عن بلوغ

غايتي، ولما غشيني لأجله ونى ولا فتور.

قد كنت قلت قولاً وأقول الآن: (إن لدي من السآمة للحياة بقدر ما عند الناس

من الكراهة للموت) لتنغمس تلك الحياة المرة في بحار ظلمات العدم التي لا يدرك

قعرها، لتهْوِ في آخر دركات الجحيم، نعم ماذا يضر لو عجنت قبضة من تراب

الأرض بدم مظلوم أريق في سبيل نصرة الحق؛ لكن ليعلم الظالمون وليكونوا في

أمن من رؤية انتقالي من دار الدنيا قبل أن أعمل في تشهير قبائحهم، والإشادة

بمخازيهم وفضائحهم في أقطار العالم، وأصب على رؤوسهم - وسحقًا لها - سياط

المصائب، وأقذف عليهم صواعق البلاء، وأدعهم يئنون تحت أعبائها ويتململون

من مس آلامها.

لا جرم أن موقد نار الظلم، والعامل على تخريب البيوت لا تنام عنه العيون

{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .

يا سبحان الله! بينا أنا في صدد الاعتذار عن عدم كتابة رقيم إليك، وإذ

بالتأثر والامتعاض حفزني من حيث لا أشعر فَهِمْتُ في كل وادٍ، وتفننت في

أساليب الكلام، على أنه لا ينبغي العجب؛ فإن من كان مثل مخاطَبي في الاطلاع

على الخفايا والوقوف على الأسرار يجب أن لا أكتمه حديثًا، ولا أخفي عنه ما

يحوك في ثنيات النفس.

فهاك يا سيدي قصتي عرضتها على النظر الكريم، ويغلب على ظني أن

معذرتي عن تراخي مكاتبتي تتكفل بعفوكم؛ لأن قبول المعذرة من شأن الكرام،

وأرى أن أختم كلامي بعرض افتقاري إلى فوائدكم العلمية، وأود أن أكون ذا

نصيب منها مولاي.

_________

(1)

العلية: بالضم والكسر مع تشديد اللام المكسورة والياء: الأشراف والأعلياء.

(2)

التبصبص والبصبصة: تحريك الكلب ذنبه تقربًا للإنسان، ويطلق على التملق مطلقًا، وعند عامة المصريين النظر إلى النساء بشهوة والتعرض لمغازلتهن، وهو تجوُّز يليق بأولئك الأدنياء الذين هم أحقر من الكلاب.

(3)

نابي: أحد مشاهير شعراء الترك وحكمائهم والمقصود من شكايته قوله:

ارزان متاع نضل وهند باق نه رتبه كيم

بيك معرفت رمانه ده سر آفرينه در

أرباب دهر هر هنره آفرين ويرر

يارب لو آفرين نه توكنمز خزينه در

والمعنى: تأمل فيما آلت إليه أثمان المعارف والفضائل في هذا العصر، ترى الأديب يظهر ألف أثر فلا ينتقد عليه سوى (آفرين) واحدة، وهكذا أرباب العصر جميعهم يعطون في مقابل كل أثر أدبي آفرين آفرين، فيا عجبًا لخزينة آفرين كيف لا ينفذ مددها، ولا يفنى عددها، وآفرين كلمة استحسان تركية كمرحى في العربية.

ص: 307

الكاتب: أبو العلاء المعري

‌للفيلسوف الإسلامي

أبي العلاء المعري

إذا مدحوا آدميًّا مدحـ

ـت مولى الموالي ورب الأمم

وذاك الغني عن المادحين

ولكن لنفسي عقدت الذمم

له سجد الشامخ المشمخر

على ما بعرنينه من شمم

ومغفرة الله مرجوة

إذا حُبست أعظمي في الرِّمَم

مجاور قوم تمشَّى الفنا

ء ما بين أقدامهم والقِمم

فيا ليتني هامدًا لا أقوم

إذا نهضوا ينفضون اللِّمَم

ونادى المنادي على غفلة

فلم يبق في أذن من صمم

وجاءت صحائف قد ضُمّنت

كبائر آثامهم واللَّمم

فليت العقوبة تحريقة

فصاروا رمادًا بها أو حُمم [1]

رأيت بني الدهر في غفلة

وليست جهالتهم بالأَمم [2]

فنسك أناس لضعف العقول

ونسك أناس لبعد الهمم

_________

(1)

أي ياليتهم يُحرقون فيكونوا رمادًا أو فحمًا، ولا يكون عذابهم دائمًا.

(2)

الأمم - بالتحريك - القريب، أي أنهم عريقون في الجهالة، وبعيدو العهد بها.

ص: 312

الكاتب: حافظ إبراهيم

‌للشاعر العصري

المجيد

حافظ أفندي إبراهيم

هجعتَ يا طيرُ ولم أهجع

ما أنت إلا عاشق مُدَّعي

لو كنتَ ممن يعرفون الجوى

قضيت هذا الليل سهدًا معي

يا من تحاميتم سبيل الهوى

أعيذكم من قلق المضجع

وحسرة في النفس لو قسمت

على ذوات الطوق لم تسجع

ويا بني الشوق وأهل الأسى

ومن قضوا في هذه الأربع

عليكم من واجد مغرم

تحية الموجع للموجع

لله ما أقسى فؤاد الدجى

على فؤاد العاشق المولع

هذا غليظ لم يَرُضه الهوى

ما بين جَنْبَيْ أسود أسفع

وذاك في جنبي فتى مدنف

على سوى الرقة لم يطبع

وأغيدٍ أسكنته في الحشا

وقلت يا نفس به فاقنعي

نفاره أسرع من خاطري

وصده أقرب من مدمعي

وخده لا تنطفئ ناره

كأنما يقبس من أضلعي

تساءلتْ عني نجومُ الدجى

لما رأتني داني المصرع

قالت نرى في الأرض ذا لوعة

قد بات بين اليأس والمطمع

يئن كالمكبود أو كالذي

أصابه سهم ولم ينزع

إن كان في بدر الدجى هائمًا

أما لهذا البدر من مطلع

أو كان في ظبي الحمى مغرمًا

أما لهذا الظبي من مرتع

هيهات يا أنجم أن تعلمي

من ذا الذي أهواه أو تطمعي

_________

ص: 313

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(القسطاس المستقيم)

بحق لقّبت الأمة الإسلامية الإمام أبا حامد الغزالي بحجة الإسلام، فقد كان في

بدايته حجة المتكلمين والفقهاء المقلدين، وفي نهايته حجة الأئمة المجتهدين، بل

حجة العلم والدين ، ومن أجل ما كتبه في نهايته وأنفعه كتاب (القسطاس المستقيم)

وهو مصنف مختصر يشرح فيه مناظرة جرت بينه وبين رجل من أهل مذهب

التعليم الباطني الداعين إلى القول بالإمام المعصوم في كل عصر.

وقد جاء في رسالة المحاورة الثامنة بين المصلح والمقلد فصل من فصول هذا

الكتاب فكانت نموذجًا أغنانا عن التطويل في تقريظه، وفيه أن الموازين التي

تُعرف بها الحقائق ثلاثة في الجملة، وخمسة في التفصيل، وقد استخرجها كلها من

القرآن. وقد طبع هذا الكتاب من عهد قريب الفاضل المهذب الشيخ مصطفى

القباني الدمشقي بمطبعة الترقي الشهيرة، وأضاف إليه هوامش لإيضاح بعض

العبارات وتفسير بعض الكلمات، وذكر في أول الكتاب ترجمة الإمام الغزالي

رضي الله تعالى عنه ونفعنا به والمسلمين، وثمن الكتاب ثلاثة غروش أميرية،

وهو ثمن بخس بالنسبة إلى ورقه الحسن وطبعه الجيد، وأما بالنسبة إلى فوائده فلا

يوفيه حقه إلا من عمل بهديه القويم، ووزن بقسطاسه المستقيم، وهو يطلب من

مكتبة الترقي ومكتبة هندية ومكتبة جمالي وخانجي بالقرب من الأزهر.

***

(المرأة المسلمة)

كتاب جديد يقارب كتاب (المرأة الجديدة) في حجمه، ويخالفه في مباحثه غالبًا

لحضرة الكاتب الفاضل محمد فريد وجدي، وأكثر مباحثه في المرأة اجتماعية

نظرية يحتج عليها بما كتبه بعض علماء الغرب وفلاسفتهم في انتقاد تربية النساء،

وطرق تعليمهن والإفراط في حريتهن، ومعلوم أن طريقة العلماء والسياسيين

الأوربيين في الانتقاد أن يغلو كل فريق منهم في طرف يخالف فيه الآخر؛ لتظهر

خفايا الأمور للجمهور لأجل العمل بها عند ظهور بارقة الحقيقة بين تصادم الأفكار

وقدح زناد الأنظار، ومن أراد معرفة المرجح عندهم فلينظر إلى ما عليه العمل لا

إلى جمل في جريدة أو كتاب، وكذلك الحال عند كل أمة. فالحالة التي عليها نساؤنا

هي المرجحة عند مجموع أمتنا، وإن ذمها بعض العقلاء والفضلاء، ولن تتغير

حتى تتغير شؤون التربية وأحوال المعيشة والعلم بالمصلحة، وهذه الكتابات في

شأن النساء المهمل عندنا التي دفع الناس إلى الخوض فيها تأثير كتابي الفاضل قاسم

بك أمين ستكون من أسباب التغيير ولو بعد حين.

وكتاب (المرأة المسلمة) مؤلف من مقدمة وثلاثة عشر فصلاً وخاتمة،

لخص فيها جميع الفصول في تسع نظريات، وقد صدق وأنصف بتسميتها نظريات

وهي:

(1)

المرأة أضعف من الرجل جسمًا، وأقل منه قبولاً للعلم؛ لأن وظيفتها

الطبيعية تقتضي ذلك لا لأن تكون خاضعة للرجل.

(2)

كمال المرأة في موهبة روحانية مُتعت بها أكثر من الرجل، وهي

الشعور الدقيق والعواطف الرقيقة واستعدادها لتضحية نفسها في سبيل الخير، وهذه

المواهب إذا نمت فيها تكون لها مكانة تُحنى لها الرؤوس إجلالاً؛ ولكنها لا تنمو إلا

تحت قيادة الرجل ولو فاقته فيها واستطاعت أن تأسره بها؛ ولكنها لا تأسره بها لأنها

لو فعلت بطل مضاء سلاحها وزايلتها بهجة موهبتها، فتقع فيما لا ترضاه لنفسها.

(3)

إن هذا الكمال لا تناله المرأة إلا إذا كانت زوجة لرجل، وأمًّا لأطفال

تربيهم تربية صحيحة.

(4)

إن اشتغال المرأة بأشغال الرجال قتل لمواهبها، وإذهاب لبهجتها،

ومدعاة إلى هبوطها، ومفسدة لتركيبها، ومجلبة للخلل في أمتها، وإن عمل المرأة

الغربية خارج بيتها يعده علماء بلادها جرحًا داميًا في فؤاد الأمة، وأثر من آثار

أسر الرجال للمرأة ويعملون بكليتهم على تضييق دائرته.

(5)

إن الحجاب ضروري للنساء لصلاح النوع الإنساني كله على العموم،

وصلاحها على الخصوص؛ لأنه ضمانة استقلالها وكفالة حريتها لا علامة ذلها

وعنوان أسرها، وقلنا إنه لا يمنع كمالها بل يهيئه، وإنه وإن كان له شيء من

المضارّ كما هي طبيعة كل شيء؛ فإن مزاياه وفوائده لا تُقَدَّر، ومن أظهرها أن

يجبر المرأة إلى عدم تخطي دائرة وظيفتها الطبيعية التي فيها كل سعادتها ويوجهها

لتنمية خصيصتها السامية التي هي سلاحها الوحيد في هذه الحرب الحيوية.

(6)

المرأة في المدنية المادية ليست كاملة، ولا سائرة إلى الكمال.

(7)

إن طرق التعليم في كل ممالك أوروبا وأمريكا غير صالحة للنساء

بشهادة أصحابها أنفسهم.

(8)

إن تعاليم الديانة الإسلامية بالنسبة للمرأة موافقة لفطرتها تمام الموافقة

فهي كالقالب التام التركيب لجميع خصائصها وملكاتها، بمعنى أن تلك الخصائص

لو نمت على حسب تلك التعاليم لبلغت المرأة المسلمة أعلى شأو يمكنها أن تبلغه

بدون أن تتعدى حدودها الطبيعية.

(9)

لا ينقص المرأة المسلمة لكي تبلغ أكمل نقطة يمكن أن يناله جنسها إلا

تعلم مبادئ العلوم الضرورية ليس إلا.

هذا مجمل مسائل الكتاب، ويُطلب من مؤلفه ومن مطبعة الترقي

_________

ص: 314

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصاب الصحافة

وفاة بشارة باشا تقلا

في ليلة السبت الماضي (15 يونيو سنة 1901 - 28 صفر سنة 1391)

تقوَّض ركن الصحافة الركين، وَفَتَّ في عضدها المتين، حيث حل القضاء المبرم

ونزل القدر المحتم، فاختطف بشارة باشا تقلا صاحب جريدة الأهرام العربية،

وجريدة البراميد الفرنسوية، وهو في مستوى طور الكهولة ناهز الخمسين ولم

يبلغها، وقد تقدم هذا القضاء السماوي بعشرين يومًا إنذار مرضي حار نطس

الأطباء في معرفة حقيقته، ولم يهتدوا إلى طريقة معالجته، والأرجح أنه كان في

ذلك الدماغ الجوَّال، الذي كان كصاحبه لا يعرف الإعياء والكلال.

ورد الفقيد وادي النيل من لبنان مع أخيه الكاتب الشهير سليم بك تقلا منشئ

جريدة الأهرام، واشتغلا بالصحافة، وكانت أرضها مواتا فأحيتها همتهما، وغرسا

واستثمرا بجدهما وعزيمتهما، وقد كان سليم وبشارة يقتسمان التحرير والإدارة،

فلما اغتالت المنون أحد الفرقدين، نهض الآخر بالأمرين، وتقدمت الأهرام به

وتقدم بها فأصاب ثروة طائلة وجاهًا عريضًا، وما زال يرتقي في رتب الدولة

العلية ويتمتع برواتبها ويتحلى بوسامات الشرف منها حتى بلغ رتبة (روم إيلي

بكاربكي) التي لا يعلوها في الرتب الملكية إلا رتبة الوزارة، وتحلى بالوسام

المجيدي الأول، وكان محلًّى بوسامات دول أخرى، كوسام ليجون دونور

الفرنساوي من الدرجة الثالثة، ووسام سان استانس لاسي الروسي، ووسام

المخلص اليوناني من الدرجة الثانية، ووسام الافتخار التونسي وغير ذلك.

نجحت الأهرام في أول عهدها بمساعدة الحكومة المصرية لا سيما في أيام

وزارة دولتلو رياض باشا الذي لم تنجح جريدة من الجرائد الشهيرة الغنية بمصر إلا

بسعيه، حتى قيل إن الحكومة كانت تلزم الموظفين والوجهاء بالاشتراك، وتكلف

جباتها بتحصيل قيمة الاشتراك منهم، ثم لمَّا انقضى هذا الدور، وصار الناس

مختارين في الاشتراك استمر النجاح بسعي الفقيد الموافق لحالة البلاد الاجتماعية

والأدبية، وقلما ينجح عمل مخالف لاستعداد الناس إلا أن يكون بعد تأسيسه بزمن

طويل.

وقد احتُفل في مساء يوم السبت بجنازة الفقيد احتفالاً لائقًا بمقامه، مشى فيه

كثيرون من الوجهاء والفضلاء، ومنهم أصحاب الجرائد المصرية كلهم، وصُلِّي

عليه في كنيسة الروم الكاثوليك، ودفن في قرافتهم بمصر العتيقة وأبَّنه على القبر

كل من الأديب يوسف أفندي البستاني، والأصولي الفاضل نقولا بك توما، ورجع

المشيعون وهم يستمطرون له الرحمة، ويدعون لقرينته الفاضلة ولولده النجيب

بالعزاء والسلوة.

_________

ص: 317

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الواسطة والزيارة

أو ابن تيمية والسبكي

من المؤلفين مَنْ حظه كثرة النقول، وإن خالفت المعقول، وإرضاء العوام

ولو بما يضر الأنام، ومن الناس من يتحرى الهداية والإرشاد، وإن استُهدف لسهام

الانتقاد، وما تفرد أحد بالإمامة في عصر، وبرز على العلماء في قرية أو مصر،

إلا سلَّط عليه الحاسدون، وطعن فيه المعاصرون، ولقد كان الإمام أحمد بن تيمية

في عصره ناصر السُّنة، وخاذل البدعة، والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد

المجتهدين، وكان جرَّد حسام قلمه لمحاربة البدع والدعوة إلى مذهب السلف، لا

سيما فيما يتعلق بالعقائد وأصول الدين، فحمل عليه بعض علماء التقليد الذين يرون

معاشهم وجاههم بإرضاء العامة، فخاضوا فيه كما خاضوا في الأئمة من قبله،

ومضى الزمان على ذلك.

وقد انتدب بعض الفضلاء في هذه الأيام لإحياء مؤلفات هذا الإمام، فبدأ

بطبع رسالة (الواسطة) التي تحمي حقيقة التوحيد وتدعو الناس لأن يوجهوا وجوههم

في طلب حاجاتهم للذي فطر السموات والأرض، وأن لا يعبدوا غيره ولا يستعينوا

فيما وراء الأسباب التي سنها لهم إلا به، وأن لا يتخذوا غير دينه واسطة بينهم

وبينه؛ لأنه تعالى - كما قال - أقرب إليهم من حبل الوريد.

فرأى بعض المشايخ الذين يحبون الشهرة عند العوام، ويرون لهم في ذلك

منفعة وجاهًا أن ينتصر لهم فيما يأتونه في الأضرحة من البدع والمنكرات وطلب

الحاجات من غير الله تعالى بالرد على الإمام ابن تيمية، فسعى بنشر عدة رسائل

إحداها منسوبة للقاضي تقي الدين السبكي الشافعي الشهير، وكتب مقدمة لهذه

الرسائل جاء فيها بالتناقض، وأقام الحجة على نفسه فكان قاضيًا حكم على كلامه

وكلام السبكي بالإبطال، من حيث لم يفهم إلا أن يكون أراد أن يدلس على الناس

بالتمويه، وافتتح المقدمة بتشبيه مشهور انتحله لنفسه والأرجح أنه لم يفهمه؛ لأنه

استعمله في غير موضعه.

أما تناقضه وتهافته فهو أنه ذكر أولاً أنه لا شفاء لأحد من الأمراض الروحية

ولا سعادة له إلا باستعمال أدوية الدين، وهي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان

عليه السلف الصالح، وهذا ما يدعو إليه الإمام ابن تيمية ومن على شاكلته من أهل

الهدى، ثم أنشأ بعد هذا التمهيد يثبت لأجل الرد على ابن تيمية أن بين العباد وبين

ربهم واسطة تحجبهم عنه، ولا يمكن الوصول إلى مرضاته إلا بها وهي غير دينه

الذي شرعه لهداية الناس، ولما لم يجد لهذا دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا هدي

الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين حاول أن يثبته بالاحتمالات الخيالية، كاحتمال

أن لأرواح الأموات تأثيرًا وإمدادًا كما يقول بعض الفلاسفة، وذكر بعض كلمات من

شرح قصيدة ابن سينا الفيلسوف ومن غيرها، وحسب صاحب هذه المقدمة أنه

يدعو إلى كتاب مملوء بالموضوعات، أي بالكذب على رسول الله صلى الله عليه

وسلم، فإن كان لم يقرأه فهو شاهد زور، وإلا فهو لا يميز بين الصحيح والموضوع.

قال في الاستدلال على انتفاع العامة بالقبور والأضرحة: إن الإنسان يتأثر

بتصوراته. وهذا صحيح ولكن هذا التأثر وهمي يحصل للمعتقد بالشيء ولو كان

صنمًا، وينقل مثله عن عوام سائر الملل فهل يكون قوله هذا حجة على أن دين

الإسلام بنى عقائده وعباداته على أسس الأوهام؟ وزعم أن العامي لا يعتقد أن الولي

يؤثر أو ينفع؛ وإنما يعتقد أنه يدعو إلى الله تعالى معه فيكون الدعاء أرجى للقبول

وهذا الزعم منقوض بما يشاهد من العوام من طلب الحوائج من الجمادات، كباب

المتولي ونعل الكلشني وشجرة الحنفي وشجرات الست المنضورة التي تحبل العاقر

وغير ذلك، وجعلوا لكل ولي وظيفة: فبعضهم يشفي الأمراض المزمنة، وبعضهم

يشفي الرمد الحاد، وبعضهم يرد الأطفال التائهين إلى غير ذلك، على أن رسائله التي

نشرها لإرشاد المسلمين تصرِّح بأن الله وكل بقبور الأولياء ملائكة تقضي حاجات

زائريها، وأن بعضهم يخرج من قبره فيقضي الحاجة بنفسه، وهذا شيء لا يُعلم إلا

من الوحي، ولم يرد به كتاب منير ولا سنة صحيحة، وسنعود إلى تتمة الانتقاد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 318

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر

‌التقليد

خطاب ألقاه في المدرسة الكلية الأميركانية في بيروت

الفاضل الأديب عبد الرحمن أفندي شهبندر

من تأمل هذا الوجود بعين الحكمة يعجب وتأخذه الحيرة لما يظهر له مما يطرأ

على الأمم من التغيرات والتقلبات: فبينما هو ينظر في باب من أبواب التاريخ إلى

ما وصلت إليه الأمة المصرية مثلاً أيام الفراعنة من العظمة والمجد المؤثل - يرى في

باب آخر أن هذه العظمة قد انتقلت، وهذا المجد قد زال وأصبحت تلك الأمة في

قبضة أمة أخرى تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء الهوى، وما قيل عن المصريين

يقال عن الكلدانيين والآشوريين والبابليين واليونان والرومان، أمم زالت وآثارها

تشهد لها بأن ذكرها لن يزول، ولعمري لو نظر أحدنا إلى (ممفس) أيام مجدها، أو

إلى (نينوه) أيام عزها، أو إلى (أثينا) أيام حكمتها، أو إلى (رومية) أيام

سطوتها - لكذَّب التاريخ فيما يدعيه من زوال تلك المدنية، ولظن أنها لا تزال مخيمة

بتلك الربوع لا تؤثر فيها عوامل الزمان، ولا تزعزعها طوارق الحدثان. ولو قال

أحد اليوم أن مدنية الإنكليز مثلاً ستزول يومًا ما، حتى لو ذهب أحدنا إلى لندن لرآها

أثرًا بعد عين، ولرأى (وستمنسترها) كهيكل عظمي في مدينة أموات لكذَّبناه ونسبناه

للجنون. لكن من تدبر نواميس الكون وقاس الحال بالماضي وحكم الماضي بالحال

عرف أن ذلك من الممكنات، وما أرانا إياه التاريخ إثباتًا لهذه الحقيقة يكفي لمن ألقى

السمع وهو شهيد.

لكن ما هي تلك النواميس وما الذي يحفظ المدنية وما الذي يذهبها؟ هذه أسئلة

صعبة جدًّا لا يمكننا أن نجيب عنها كلها في هذه المدة القصيرة، بل يكفي أن نقول:

إن حكمة التاريخ وعلم العمران أفادانا أن للكون نظامًا بديعًا وسننًا محكمة استخرج

الغربيون أكثرها واستعملوها في حفظ حياتهم، ونحن عن ذلك لاهون مع إننا

باستخراجها واستعمالها أولى لما يتلى كل يوم فوق رؤوسنا {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ

سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ

خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .

فمن هذه السنن أن الأمة متى فسدت آدابها وأخلاقها فسد عمرانها؛ لأن الآداب

والأخلاق هي الرابطة في الاجتماع البشري، ومتى انحلت هذه الرابطة انحلت

عراه، ولنا في المصريين والرومان أعظم شاهد، فقد أجمع علماء التاريخ على أن

من أعظم الأسباب في زوال دولتيهما فساد العائلة، وسوء التربية وانتشار الفجور

والعياذ بالله تعالى.

ومنها - وهو قريب من الأول - أن ظلم الدولة مؤذن بخرابها لما له من تثبيط

الهمم عن الأعمال ومتى توقف عمل الأمة وحركتها تأخر عمرانها.

قال العلامة ابن خلدون: (إن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم

في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم

وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك،

والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال) .

ومنها أيضًا أن الأمة التي تنزوي عن الأمم الأخرى لاعتقادها أنها أعظم منها

علمًا وأدبًا وفضيلة ونسبًا تصبح وراء تلك الأمم؛ إذ تقدُّم العمران يتوقف على

المباراة والمسابقة ولا نجاح بدونهما، فالصينيون لما اعتقدوا أنهم أفضل الأمم نسبًا

لاتصالهم بالآلهة واتصال غيرهم بالشياطين، وأن بلادهم أخصب البلاد وأجملها،

وأن عوائدهم أفضل العوائد، وأن لا علم إلا عندهم وأن الحكمة لم تتخطَّ سدهم

وشطوطهم وأن.. . وأن.. . قطعوا علائقهم مع غيرهم احتقارًا لهم، فكانت

النتيجة أن بقي عمرانهم تقريبًا على ما كان عليه منذ ألفي سنة، إن لم نقل قد تأخر

فأخنى عليهم الدهر بأن أرسل عليهم من اليابان وأوربا صرصرًا قوضت أركان

مجدهم، واقتلعت جذور عزمهم، وما سيصيبهم أعظم وكل آتٍ قريب.

هذا قليل من كثير أوردناه برهانًا لقولنا إن للكون نظامًا بديعًا وسننًا محكمة،

وأهم منه بالنسبة للمشرق موضوعنا (التقليد) وقبل الخوض فيه نقول: إن بعض

العلماء أطلق هذه الكلمة على بعض الأعمال الخارجة عن الإرادة يعملها المرء بعد

أن يحركه بمثلها محرك آخر، كما إذا نظرنا إلى أحد يتثاءب أو يتلجلج في كلامه،

فربما نقلده بلا شعور منا، إلا أن هذا النوع غير داخل في بحثنا؛ فإننا إنما نبحث في

التقليد الإرادي وتأثيره في العمران، وهو غريزي في الإنسان وعليه بني الاجتماع

البشري، فمن الحقائق التي لا مشاحة في حقيقتها أن الطفل مطبوع على تقليد غيره

فحركاته تكون في أول الأمر غير مضبوطة ولا متناسبة؛ ولكن كلما تقدم في

السن نراه يجتهد أن يأتي بحركات مرضعته ووالديه، فيظهر أول الضبط والتناسب

في عمله، والأمم المتوحشة والتي حظها من المدنية قليل تشبه الطفل بذلك، قال

ماسون: (بينا نرى الكاريين لا يأتون بجديد نراهم ميالين إلى التقليد أكثر من

الصينيين) وذكر (موات) أن الأندمانيزيين إذا سُئلوا سؤالاً أعادوا لفظه كالببغاء

من غير جواب، والأعجب أن الفارانيين مع إحكامهم التقليد، إذا ترك لهم عمل

ولو كان بسيطًا جدًّا خبطوا فيه خبط عشواء، والجامدون في هذه البلاد يشبهون

هؤلاء المتوحشين بميلهم إلى التقليد الأعمى؛ فإنهم إذا رأوا أحدًا يجتهد بجديد من

الأعمال النافعة أو استخراج معنى من كتب الدين هزءوا به قائلين: من أين لنا أن

نأتي بأعمال كهذه ومن منا قادر على فهم تلك الكتب، دع عنك ذلك للمتقدمين فزمان

الاجتهاد قد زال وما علينا إلا التقليد؟

هذا يدلنا على أن التقليد من طبيعة الإنسان ويدلنا أيضًا على أن ما يشغل

العقول القاصرة من الصور العقلية للحركات الخارجة أو لغيرها يسوق أصحاب هذه

العقول صاغرين للإتيان بمثلها، وربما يصير ذلك بعد قليل شبيهًا بالحركات

الطبيعية البدنية الخارجة عن الإرادة كحركات المعدة في الهضم والرئتين في التنفس

والقلب في الدورة الدموية، والسبب في ذلك أن قليل التصور ساقط النتيجة لا

يستطيع الاجتهاد بأكثر المسائل، فيستنتج أنه غير قادر على الاجتهاد مطلقًا والجامد

يتجنبه لما فيه من الاشتغال العقلي فهو عدو كل حركة ولو قيل (الحركة بركة) .

التقليد من حيث هو أنواع متعددة، والذي يهمنا منها هنا نوعان: التقليد في

العوائد، والتقليد في العلم، وهما يشبهان السلطة الشرعية، فكما أن هذه ضرورية

للعمران كذلك ذانك، إذ هما قانونه المعنوي وكما أن هذه السلطة الشرعية كثيرًا ما

يُساء استعمالها فبدلاً من أن تكون مدبرة عادلة تكون مستبدة ظالمة، كذلك ذانك

والمقصود من سوء استعمالهما أن يصبحا عبئًا ثقيلاً على عاتق الأمة، وحاجزًا

منيعًا دون بلوغها ما أصبح لها لازمًا ضروريًّا، وعلى هذا الأخير بنيت موضوعي

وإليه وجهت خاطري لما له من التأثير السيئ في البلاد. والتقليد الأعمى في

العوائد يظهر عندنا كثيرًا أيام الأعراس أيام يعرض جهاز العروس في الأسواق

محمولاً في العربات، أو موضوعًا على رؤوس الرجال - أيام يفتح العروس أبوابه

ويمد الموائد ويحشد الجموع التي يكاد ضجيجها يصل إلى السماء - أيام يصرف

الألوف على الأزياء المضرة بالصحة! يفعل ذلك كله لئلا يقال: إنه لم يقم

بالفروض، ولو كان كما يقول المثل (يبيع الماعون قيامًا بالقانون)(استحسان) .

أما مجالسنا فهي مظهر التكلف، وإذا نظرنا إلى أكثرها ماذا نرى؟ تالله لا

نرى إلا أناسًا جالسين وعلائم السآمة تلوح على وجوههم، إذا تكلم أحدهم فإنما

يتكلم ليقال عنه إنه مسرور وغالبًا يكونون صامتين كالأصنام، لا لبكم بل لأن

أفكارهم مصروفة إلى الخزعبلات، هذا يفكر في قلة أدب الحاضرين؛ لأنه لما خرج

من المجلس لغرض له وعاد لم يقوموا له وذاك يبحث في سوء معاملتهم له؛ لأنهم لم

يضعوه في صدر المجلس، هذا يقول في نفسه: إن صاحب البيت لم يستقبلني

استقبالاً لائقًا بي، فياليتني لم أدخل بيته، وذاك ينتقده أنه لم يسرع بتقديم الأركيلة

(الشيشة) والسيكارات، هذا يشتم الخادم في نفسه؛ لأنه أعطى فلانًا القهوة قبله،

وذاك يتألم من سيده لأنه لم يقل له: شرفتم، بعد أن شربها، هذا وهذا.. . كل منهم

يفكر في هذه الترهات ويخوض في هذه الجهالات؛ حتى إننا كثيرًا ما كنا نسمع من

يخرج من مجالس كهذه يقسم الأيمان المغلظة أنه لن يحضر اجتماعًا بعدها أبدًا

(تصفيق) .

أي مقابلة بين مجلس كهذا، ومجلس لا يدخله إلا من صفت قلوبهم وراق

ودهم: يعرفون معنى الصحبة، ويقدرون فائدة الاجتماع حق قدرها، هذا يأتي بنكتة

فيقابله الحاضرون بالسرور، وذاك يلقي فائدة فيتلقونها بالحبور، حدائق أفكارهم لا

تأتي إلا بيانع الثمر، وبحار أبحاثهم لا تجود إلا بأثمن الدُّرر، يعلمون أن المقصود

من الاجتماع التعارف ومبادلة الأفكار، لا تناول القهوة واستعمال السيكار

(استحسان) .

كل منا ذاق لذة ما نسميه (ساعات الصُّدَف) وود لو تكون كل أيامه مثلها،

وأحس بمجالس (الكُلف) وما لها من الأضرار، فطنطنة عود يسمعها المرء وهو مار

في الشارع ربما تفوق لذتها لذة ما كان يحضره من المجالس الموسيقية، ويصرف

دراهمه لسماعها؛ والسبب في ذلك ما قال المستر هربرت سبنسر وهو أنه كلما

ازداد التكلف المحيط بالاجتماعات نقص السرور الحاصل منها؛ لأنه لا يمكن القيام

بواجباتها الأساسية كلها، فكيف بالتكلفات الزائدة المضرة؟

وما قيل عن المجالس يقال عن الولائم، ويزيد في الفتق هنا أمر المأكول.

أعرف رجلاً كان يحب أن يدعو صديقًا له؛ ولكن منعه من ذلك أنه لا يقدر أن يقدم

له أربعة وعشرين نوعًا من المأكول، والأعجب أننا صرنا بالتكلف المضر والتقليد

الأعمى إذا أردنا أن ندعو صديقًا لنا دعونا كل من نريد أن نوفيه ما له من يدٍ

كدعوة ماضية، أو قضاء مصلحة، ولو لم يكن بينهما مودة، وهذا نتيجة حالتنا

الحاضرة؛ لأن الكلفة توجب علينا أن يكون المدعوون جمعًا كي يخف المصرف،

ولو لم يحصل المقصود (استحسان) .

ولو أردنا أن نعدِّد ما يجري على المائدة، وكيف أن أحد المدعوين إذا شبع لا

يقدر أن يقوم حتى يشبع البقية لئلا يقوموا معه وهم جياع - لطال بنا الكلام وأدى إلى

غير ما كنا نتوخاه من الاختصار، ولهذه المجالس والدعوات أضرار كثيرة لا

ينبغي أن نتركها كلها:

منها الإسراف الذي يؤدي إلى الخراب، فالرجل المتوسط الحال إذا أراد أن

يقوم بواجبات الاجتماعات فلم يأخذ بيتًا إلا في أحسن بقعة من البلد، ولم يضع فيه

إلا أثمن الأثاث، ولم يلبس إلا آخر زي ولم.. . ولم.. . يصبح وبساطه الثرى

فتحزُّ الدموع في جلباب خده ولكن لا ينفعه البكاء.

ومنها تخفيف المعاشرة الصحيحة التي هي ضرورية للعمران؛ لأن من أراد

أن يمدَّ رجليه على قدر لحافه ينبغي له أن يقل من الاجتماعات ما أمكن، وإلا

يصبح معدمًا كما قدمنا، ومنها أن هذه الحالة توجب للذين لا يتحملون تكاليفها أن

يميلوا إلى بعض العوائد المضرة كالجلوس في القهاوي، وصرف الأوقات في لعب

الورق والبلياردو؛ لأن المرء إذا فقد شيئًا يسُرُّه لا بد له من شيء يقوم مقامه.

وما قيل عن الأعراس والمجالس والولائم يقال عن الأزياء، إلا أن الوقت لا

يساعدنا أن نبحث فيها؛ لأن عندنا ما هو أهم منها وهو التقليد في العلم.

الباحث في علم الاستقراء يرى أن من أعظم الأسباب التي تمنع من تصحيح

الأفكار: التقليد في العلم، قام أرسطو في القرن الرابع قبل المسيح وأسس فلسفة بناها

على ما بلغ إليه من العلم، ثم مضت بعد ذلك مئات من السنين والناس تحذو أثره

حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، فلم يأتوا بجديد، بل ربما تأخروا عنه حتى

ظهرت الأمة العربية للوجود، وقام أساطينها ينتقدون هذه الحالة وفي مقدمتهم

الحكيم الفارابي يبين لنا أن كون أرسطو شيخ الفلسفة لا يوجب علينا أن نسلم كلامه

تسليمًا أعمى، بل ينبغي أن نبحث فيه: فما وافق منه العقل قبلناه، وما خالفه نبذناه.

وما كادت تنتشر أمثال هذه الأفكار في الأمة حتى كشفت الحكمة الشرقية جلبابها،

وبرزت الآيات العربية من حجابها، ثم أصابنا ما أصابنا مما يطول شرحه،

فانتقضت الأحوال، وأصبح سوق العلم عندنا كاسدًا وما لنا اليوم إلا أن نقول:

هل الدهر إلا ليلة ونهارها

وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

وكان الغربيون رأوا فضل العلم عند الشرقيين، فأخذوا يجدون السير في

طلبه؛ لكنهم لمَّا حصلوا على بعض العلوم وأكثرها لأرسطو لم يخرجوا عن نطاقها

بل ربما كانوا يمسخون أكثرها وظهور (السكولمن) ومباحثهم العقيمة كقولهم: كم

عدد الملائكة الذين يمكن أن يُرفعوا على رأس إبرة واحدة؟ تشهد لما قدمناه، وهكذا

بقي الحال عندهم تقليدًا أعمى لرجل لا يفهمون جل كلامه، حتى قام فرانسيز

بيكون في أواخر القرن الساس عشر للميلاد وبيَّن في طريقته الجديدة - كمن سبقه

من حكماء العرب - أنه ينبغي لنا أن لا نأخذ قولاً إلا بعد البحث فيه، فكانت نتيجة

أعماله أن أظهر الغربيون في ثلاثة قرون من آثار العمران ما لم يسبقهم إليه أحد،

نعم لا ننكر أنه حصل بعد ذلك شيء من التقليد المضر كرفض الإنكليز تطعيم

الجدري لما اخترعه (جِنَّر) لاعتقادهم أنه يخالف إرادة الباري تعالى، إلا أننا نرى

حكومتهم بُعيد ذلك كافأته بمقدار ثلاثين ألف ليرة.

أما نحن الآن فكأننا خُلقنا للتقليد، فإنه يظهر في عوائدنا كما قدمنا، في

زراعتنا، في صناعتنا، في تجارتنا، في كل شيء حتى في أمور الاعتقاد.

أذكر قصة أخبرني إياها أحد محترمي الفرنجة مثلاً للتقليد في المشرق، وهي

أن أحد فلاحي هذه البلاد كان إذا أراد أن يحمل البطيخ يضعه في أحد جانبي

الشريجة [1] ويضع في الجانب الآخر حجرًا للموازنة، فقيل له يومًا أن يُقَسِّم البطيح

إلى قسمين، ويضعهما في الجانبين بدلاً من حمل الحجر؛ لأنه يتعب الدابة بلا

فائدة، فشكر النصيحة للناصح؛ ولكنه لم يقم بواجبها؛ لأن التقليد احتوى عليه

فصده عن الطاعة، والجهالة استحوذت عليه فصرفته عن الرشد، ومر في اليوم

الثاني وقد أعاد ما تعود عليه فقيل له ما قيل أولاً، فقال: هيك عيش أبي وجدي

(تصفيق) .

لو بعثر من في القبور من أجدادنا لما رأوا في زراعتنا جديدًا، ولو عرضت

عليهم صناعتنا لرأونا أضعناها، وأسقطنا جاهها، ولو قام اليوم أحد ليبدي رأيًا،

أو يصلح فاسدًا لقال له المتعصبون: القديم على قدمه ذاك الزمان قد تصرم، وقد

كفانا عناء البحث الأولون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا

حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104)(استحسان) .

والذي يزيد في الوهن أن شبان بلادنا الذين يتخرجون في مدارس الأجانب،

أو يتعلمون لغاتهم يخرجون من تقليد ويدخلون في تقليد، يصبحون وأوقاتهم

تصرف في (البالوات والتياترات) وأموالهم تضاع في المقامرة وعقولهم في

المسكرات، لا مقصد لهم من اللغات الأجنبية إلا أن يعتاضوا بسلامها عن السلام

العربي بقولهم مثلاً (بونجور)(استحسان) .

في صدورهم تلتهب نار البغضاء للآباء لأنهم آباء، وفي قلوبهم تغلي مراجل

العداوة للقديم لأنه قديم، قد هزءوا بالجديد لا لأنهم يبغضون التقليد، بل لأنهم

مقلدون، والأعجب أنني أعرف رجلاً قرأ ترجمة دارون فما فهم منها إلا أنه ينكر

الباري تعالى، فتمسك بهذا الرأي وصُمَّت أذنه عن سماع ما يخالفه، يا سبحان الله

كيف يجوز أن يُسمى هؤلاء بشرًا والبشرية منهم في نفور؟ ! {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي

الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ

وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)(تصفيق) .

تالله هذه حال تترقرق لها العبرات، وتُقَضّ لها المضاجع [2] وما من أحد

ينظر إليها إلا ويستوبل عاقبتها [3] ، غيرنا يجتهد كل يوم بتحسين حاله، ونحن

بالترهات مستمسكون، وقد ضربت لنا الأمثال (فما لنا عن التذكرة معرضين) .

_________

(1)

الشريجة: جوالق كالخرج يُنسج من سعف النخل يُحمل فيه البطيخ.

(2)

أقض المضجع: خشُن، والمراد لازمه، وهو عدم استطابة النوم، ويقال: أقض الله فراشه، وأصل أقض: كان فيه القضض، وهو الحصى، وأقضه: جعله فيه.

(3)

استوبل المكان: استوخمه ولم يوافق صحته، ولم أرهم استعملوه في المعاني.

ص: 321

الكاتب: عبد العزيز محمد

تعليم معاهد الأرض للأطفال

وتمرين أيديهم على الأعمال [1]

(المكتوب 30) من هيلانة إلى أراسم في 12 فبراير 185

أحب أن أصف لك أميل، فأما صورته فقد عرفتها في الرسم الذي أرسلته

إليك منتزعًا بآلة داجير التصويرية (الفوتغرافية) وأما سيرته وأحواله فهي التي

أريد أن أحدثك عنها فأقول:

أرى له جراءةً على السير والتجوال لا توجد في أترابه، ففيه ما أظنك تسميه

بغريزة خرت الأرض [2] ، وقد بلغ تمكُّن هذه الغريزة من نفسه مبلغًا ما أراني فيه

قادرة على إضلاله، ولا هو يحتاج في الاهتداء إذا أنا أضللته إلى إلقاء الحصى

وفتات الخبز في الطرق لتكون كالصوى والأعلام [3] ؛ لأنه يهتدي بنفسه ولا يلبث

أن يميز بمهب الريح وحركة السحاب الجهة التي ينبغي أن يؤمها، وأرى أن الذي

أظهر هذا الاستعداد فيه هو ما استفاده بالعمل من صحبة (قوبيدون) فأنت تعلم أن

في عيني هذا الزنجي ورأسه بيت إبرة مغناطيسية.

لا أنكر أن مثل هذه العلوم من الأوليات، وذلك يؤكد وجوب أن يتعلمها

الأطفال، وكلامي في ذلك عن خبرة وتجربة فإنني تربيت في مدرسة داخلية كان

التلميذات فيها غافلات عما وراء المدرسة من شؤون الحياة ومتاعبها، وكنت بعد

ذلك إذا خرجت إلى المزارع والرياض لا أعرف الشمال من الجنوب، ولا أميز

بين الشرق والغرب، وأخجل ذلك الخجل الضار أن أسألك عنها خشية ظهورك

على جهلي، ولو كان هذا الجهل خاصًّا بمثلي لكان الخطب سهلاً، وأراني صادقة

إذا قلت إن كثيرًا من أهل النهاية في العلم ليسوا بأوسع علمًا مني ببعض مواضيع

مساحة الكرة الأرضية العملية، لا أدري هل كتب على أميل أن يكون سائحًا

وجوَّاب آفاق؛ ولكني أرى أن الناس محتاجون في جميع أطوار الحياة إلى معرفة

الجهات والأمكنة احتياجًا تختلف درجاته، فبعضهم أحوج إلى التوسع فيها من

بعض، وإن صدق النظر إذا تعزز بالتجارب كان الإنسان ركنًا من أركان الحرية.

يأكل أميل على المائدة كالإنكليز، أعني أنه يأخذ السكين بيده اليمنى،

والشوكة باليسرى يأكل بها، وقد أنكرت هذه العادة أولاً، ثم تبين لي أنها أسهل؛

فإن استعمال كلتا اليدين معًا يمكِّن من القطع والتناول أفضل تمكين، فالإنكليز عُسر

(جمع أعسر) في الأكل دون الأعمال الصناعية، ولست أدري ما هو عذرنا في

تمرين عضو من أعضائنا على العمل، فهل كانت أعضاؤنا زائدة عما نحتاج إليه

في استعمار الأرض ومقاومة ما يعترضنا من العقبات المادية في سبيل الحياة

فنستغني عن بعضها ونغفله؟

قرأت في ترجمة حياة جيمس وات المهندس الإنكليزي الشهير أنه كان يستعمل

في طفوليته أدوات والده النجار في اختراع لعب لنفسه، أو تحويلها من شكل إلى

شكل، ويقال إن هذا التمرن ساعده كثيرًا في تدريب يده على الصناعة، وقوّى ما

كان في نفسه من الاستعداد لعلم الميكانيكا حتى صار ملكة راسخة فيه، ولا أطمع

أن يكون أميل مخترعًا لآلات جديدة؛ ولكني أرغب أن يكون ماهرًا في تحريك

أصابعه، ولهذا لا أمنعه من تكسير لعبه ليرى ما في جوفها - كما يقول - إذا تعهد

لي بإرجاعها إلى أصلها.

على أنني لاحظت أمرًا أحب أن أعرضه عليك، وهو أن لعب الأطفال تكون

مناسبة لطبيعة البلاد التي ينشأون فيها، فأهل السواحل يلعب أطفالهم بما تحدثه في

نفوسهم صناعة الملاحة، وقد أجاب قوبيدون الذي هو كالقرد في الخفة والمهارة

رغبة أميل ورفيقيه فصنع لهم بسكينه مركبًا شراعيًّا صغيرًا أنزلوه في خليج الجبل

باحتفال حافل، فكان بذلك قدوة لهم في هذه الصناعة البحرية حتى أنهم أنشأوا لهم

أسطولاً مؤلفًا من طرادات وسفن من ذوات السارية، ومن ذوات الساريتين

وقوراب وزوارق، وبعض هذه السفن مسلح بمدفع من الخشب، فكأن لسان حالهم

يقول: ها نحن أولاء مستعدون، فليهاجمنا المهاجمون، وكنت إذا سُئلت عن قيمة

هذه الأشياء السابحة على وجه الماء أظهر ترجيح ما يصنعه الأطفال من سفن

اللعب على ما يبتاع من التجار من نوعها، وإن كان أحسن منها صنعًا.

القصص والأساطير وتربية

خيال الصغير

يحب أميل العمل ويميل إلى سماع القصص كما هو المعهود من مثله.

إنني موافقة لك في انتقاد توسع الناس بمخاطبة الأطفال بما يعلو إدراكهم

وأفهامهم، وهذا من آفات التربية التي يجب تجنبها وما أعظم الفوائد والمزايا التي

يستفيدها الأطفال من تعليم أمهاتهم الشفاهي إذا تجنبنها، أحدث عندي هذا الفكر

النظر في ما يُؤثر عن جميع الأمم قبل اختراع الكتابة والتصنيف مما كان الاعتماد

في حفظه على الذاكرة، قرأت في كتاب لا أذكر اسمه الآن أن بعض اليونانيين

كانوا يعارضون قدموس [4] في وضع الحروف الهجائية لهم محتجين بأن اعتياد

الناس على إثبات حوادث التاريخ في الألواح يضعف الذاكرة بالتدريج، وكان لهذه

المعارضة وجه، وهي تشبه المعارضات التي توجه حتى الآن إلى كل ضرب من

ضروب الارتقاء حيث ينتقل الإنسان من شيء إلى آخر.

نرى الأطفال قبل تعلم القراءة والكتابة ينتحلون كثيرًا من الأفكار والآراء،

فأهم شيء يبتدئ به المربي هو النظر في اختيار أمثل ما يودعه في نفوسهم من

المعارف، ثم في اختيار أمثل الطرق لإيصال ذلك إلى أذهانهم الخالية ونقشه في

ألواح نفوسهم الصقيلة، وكثيرًا ما خرجت مع أميل عن أساليب لغتي وقواعدها

لأجل ذلك، وما كان أشد اغتباطي وسروري عندما كنت أراه يلتفت إليّ لتكلمي

بلغته، والنجاح في هذا يتوقف على إخلاص القلب ونسيان النفس وهذان الأمران

إنما يحصلان بالرياضة والمزاولة على ما أرى.

من الثابت المقرر أن للأطفال شعرًا خاصًّا تعرفه الأمهات حق المعرفة؛

ولكننا نحكِّم فيه شعرنا وخيالنا، فكيف السبيل إلى حفظ هذه القوة الشعرية وبقاء

غضاضتها بحيث لا يسقط عبثنا بها زهرها، ولا يذويها ويذهب بنضرتها لإحلال

شعرنا محلها.

الدنيا مملوءة بالحكايات التي يُدَّعى أنها وضعت للأطفال، وأمثلها حكايات

(برولت) وأرى أن ما فيها من الصنعة والحذلقة يخرج بها عن مهد الطفولية إلى

مستوى الكهول ومرتبة الشيوخ، وأفعل الحكايات في استمالة أميل وتحريك رغبته

وميله ليس مما يعهد في الشعور العام والحسن المشترك، أعني مما يجول في أذهان

البالغين دون الولدان الذين في السادسة أو السابعة، فالحكايات الخرافية القديمة جدًّا

التي لم يجفف الدرس والصنعة ما فيها من معاني الشعر الفطرية هي التي تقع من

نفسه موقع القبول في مثل هذا السن.

فمن الحكايات المتداولة في البلد الذي نسكنه ما فيه ذكر المردة والأغوال

والجنيات والتنابيل (القصار جدًّا) وهو ما يذهب بنوم الأطفال في ليالي الشتاء،

ويجذبهم إلى السُّمَّار لسماع تلك القصص محدقين بأبصارهم إلى السامر، ولي أن

أعتقد أن هذه الحكايات هي مختزلة من أشعار وقصائد قديمة ضاع أصلها، وتناقلت

الناس ما بقي من معانيها مرضع عن مرضع، وأم عن أم، حتى انتهت إلينا في

شكل يخالف شكلها الأول قليلاً أو كثيرًا.

زعم عالم من كرنواي ألاقيه أحيانًا في منزل صديقنا الدكتور أن لديه وسيلة

يثق بأن تُوصل إلى معرفة أصل هذه الخرافات، ومناشئ تلك الحكايات، وما

فهمته عنه من هذه الوسيلة هو أنه يستعين على تلك المعرفة من حيث هو عالم

أثري بلحن تلك الحكايات وفحواها من حيث مشابهتها لما نخترعه من الحكايات

وعدم ذلك، فهو يرى أنه كلما كان معنى الحكاية بعيدا عن تصورنا واختراعنا

تكون أوغل في القدم، فإذا بحثنا في شأن الجنيات في هذه الحكايات نرى أن

الجنيات في الأعصر القديمة تُوصف بأنها مجردات منزوية عن الناس، شرسة

صعبة المراس، وقوى طبيعية رُفعت إلى مرتبة الآلهة وأُلبست شعار الدين، ثم ما

زالت تقرب من الناس وتتشكل بشكل الإنسان قرنًا بعد قرن وتأنس به حتى صارت

إناثًا يتزوج بها الرجال، ومما يروونه في هذا أن رجلاً تزوج بجنية وعاشا معًا

عمرًا طويلاً في كوخ، وقد كان من طول أنسه بها أن نسي كونها جنية، إلا أنها

فرت ذات ليلة متعلقة ببعض أشعة القمر. كذلك شأن المردة فإن هذه الكائنات

الوحشية المشوهة كانت تُعرف في الزمن القديم بأنها مثار الوساوس المخيفة،

والهواجس المفزعة، وبكرور الزمان ومرور الأيام اقتربت من الإنسان في أحوال

معيشته، وضعف سلطانها في نفسه، وتأثيرها في وهمه وخياله، وتحول الرعب

الذي كان مقرونًا بذكرها وتصورها إلى الضحك والسخرية، وهكذا تنتهي دولة

الخرافات وتزول.

لا ريب أنك واقف على قصة يعقوب مواثب المردة وقاتلهم الذي كان يعيش

في كورنواي على ما يروى في الأساطير، فأميل يحب سماع حديثي عن غزوات

هذا الشاب الشجاع ابن أحد الزارعين، وأشهر وقائعه التي سار بخبرها الركبان ما

يُروى أنها وقعت في جبل ميخائيل قديس إنكلترا، وهو صخرة تكاد تكون بإزاء

منزلنا، وكان المارد الذي يخطف الناس والبهائم قد تبوأها منزلاً، واتخذها مثوى

له، وقد كان أعظم خدمة قام بها حماة في عصور الهمجية - إن لم أكن واهمة -

هي مقاتلتهم وفتكهم بالسلبة والوحوش الضارية؛ فإنهم بذلك قد طهَّروا الأرض من

العتاة والبغاة الذين كانوا يعيثون فيها فسادًا، وبهذا الاعتبار نرى اليونانيين قد

أنصفوا برفع مكانة هرقل وتيزيه [5] وجعلهم من أنصاف الآلهة، وكذلك فعل

يعقوب بالمارد؛ فإنه هاجم المارد في مغارته وانتصر على تلك القوة الوحشية

الفاتكة بالحيلة، فكان جديرًا بأن يكون خلفًا لأولئك الشجعان الأقدمين.

إن لهذه الخرافات لفضلاً ولو ألغيت من التعليم الشفاهي لأسفت كثيرًا؛ فإن

أمام الطفل في هذا العصر الذي كله حقائق زمنًا طويلاً يتسنى فيه التحقق بأخلاقنا

وعوائدنا الحقيرة، فلنغتنم فرصة فجر حياة الطفل القصير الأمد الذي ترتاح فيه

نفسه للأحاديث الخرافية، وتتأثر بغرائب الأساطير لنودع فيها أنواع الوجدان

الأعلى، ونبعثها على حب الأعمال الجليلة والسجايا الفضلى؛ فإن طبع الطفل

يتكون وينشأ في قوالب المُثُل التي تكون لها مكانة في نفسه عندما يُلقى إليه خبرها

وتمثل له صورها، نعم إن أميل لن يكون قاتل مردة وأين المردة اليوم، ولكن

قصارى ما في قص هذه القصص عليه من الفائدة أنها تهز نفسه وتحرك أريحيته

بما فيها من ذكر غزوات عصر الأبطال، ولو كنت أجد منه انقباضًا وشكًّا عندما

أقص عليه تلك الوقائع التي أبالغ عن قصد وتعمد في إخلاص أبطالها، وعلو

نفوسهم وأمانتهم لساءني ذلك وأحزنني.

نحن في شؤون الحياة لا نزال دون غايات الكمال المبتغاة فيجب علينا - إن

لم أكن واهمة - أن نعجب بما يروى عن أولئك الأبطال من فضيلة الشجاعة، وإن

بعُد احتمال وقوعها حتى لا نكون في أسفل دركات الجبن.

في نفسي أمر أنا في أشد الحذر من الإفضاء به إلى أميل لسببين: أحدهما أنه

لا يفهمه، والثاني أنه يذهب بما لهذه الخرافات من الشأن الرفيع عنده، وهو أن

تلك المردة التي هو موضوع تلك الأساطير ليست سوى أشخاص هذه الصخور

الكثيرة في كورنواي، الحق أقول إن هذه الأجرام الصوانية الهائلة تحتمل في كل

يوم أقصى ما قدر في هذا العالم على كل قوة ذات مقاومة وحشية أن تحتمله، ذلك

أن تنبالاً كان يتسلق تلك الصخور العظيمة المحيطة بذلك المكان الذي يسمونه نهاية

الأرض End Land's وينقر بأداة من الحديد نقرة يضع فيها قرطاسًا من البارود ذا

فتيلة، ويشعل الفتيلة ويكر راجعًا، فيكون الانفجار ويتصدع الصخر وتتزلزل

الأرض ويضطرب البحر، وينيطون في الأساطير مثل هذا التزلزل والاضطراب

بسقوط المارد.

يتراءى لي أن محو الخيالات من أذهان الأطفال لا يفيد المربين شيئًا، فأين

تلك الحكايات والقصص الغريبة التي كان يفتن بها الأطفال لما فيها من السذاجة

والغرابة، لقد ضاعت ونُسيت وصار عصرنا هذا وهو عصر القصص والروايات

الخيالية أبعد الأعصر عن القصص والأساطير المذكورة؛ فإن القصص التي ندونها

في هذا العصر لا تمثل إلا الوقائع المعهود للناس نظيرها؛ لأننا لما كنا من أهل

الحقائق المعتمدين على الوقائع الثابتة، ومن سكان المدن الآهلة والحواضر البعيدة

عن الوهم والتخيل، كانت عنايتنا في التربية محصورة في إيداع جميع أذواقنا

ورغائبنا في نفوس أولادنا، أقول ما قلت لا لأنني أدَّعي الحكمة والفلسفة وأعوذ

بالله من دعوى الإشراف على الغيب والحكم على الاستقبال؛ ولكنني أسائل نفسي

عن حال هؤلاء الأطفال الذين صاروا شيوخًا وهم في سن اللبان، وقد قطعنا عليهم

طريق الوهم والخيال، فنحن نعلمهم قيمة الفضة وهم في طور يجهلون فيه الحسن

المطلق والجمال الذاتي، ومن العبث أن يقال إن ما تصفه لنا الأساطير من الأخلاق

الفاضلة والمزايا العظيمة لا أثر له في الوجود؛ فإن عدم وجود أولئك الرجال

والنساء الموصوفين بما ذكر من الأخلاق والمزايا في أنديتنا وسمَّارنا وعدم تجوالهم

في أسواقنا وشوارعنا يجب أن يكون من الأسباب التي تحملنا على عدم إخراجهم

وطردهم من جنة الطفولية حيث يتمتع الأطفال في عالم التصور والخيال،

فأستحلف القائمين بأمر التربية بالله تعالى أن يدعوا لهم متبوأ في البيوت.

وأما أنت يا عوالم الخيال، من الجنيات والأبطال التي هززت قلوبنا في

طور الطفولية، وحركت نفوسنا للخيرات والفضائل النفسية، بما كشفت من النقاب

عن وجه الكمال، وأبرزت من مظاهر الجمال والجلال، لا تزولي ولا تحتجبي عنا

في جو هذا العصر الوخيم، المثقل بضروب الحسبان والهموم، الذي شغلت أهله

الأغراض المادية، وطلب المنافع الجسمانية؛ فإننا نصغر ونحقر إذا صرفنا أولادنا

عن الاعتقاد بعظمتك الخيالية، التي علمتنا الحسن الذاتي، والعظمة الحقيقية.

أرى أن من الخطا أن تعاب هذه الخرافات ببعدها عن الحقيقة فإن هذا وإن

كان مذمومًا بالنسبة إلينا، إلا أنه يحمد بالنسبة إلى طور آخر من أطوال العمر،

فما يظهر لنا بعيدًا عن الحقيقة حقيقي في نظر الطفل، أخذت هذا الحكم من طبع

أميل الذي أتبجح بأني سبرته واختبرته، فهو على عدم سماعه شيئًا من الدين متدين

بطريقة خاصة به، وله قوة عجيبة في ابتداع الصور الخيالية التي يمتاز بها

الإنسان في طور الطفولية، وتضعف في سائر أطواره بالتدريج؛ فإنه يرى وراء

كل حادثة كونية كالمطر والريح وغروب الشمس قوة حية، بل ذاتًا مشخصة، فقد

فر منذ أيام من البستان مذعورًا؛ لأنه رأى سحابًا مركومًا ظهر في السماء بأشكال

غريبة، وقال لي إنه رأى فيه رأس شيخ ذي لحية بيضاء، أليس لمثل هذا التأثر

الناشئ من الخوف - خوف الإجلال والإعظام - الفضل في إدراك معنى الألوهية

الأول الذي فهمه الإنسان.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب من كتاب‌

‌ أميل القرن التاسع عشر

.

(2)

خرت الأرض: (كنصر) عرفها ولم تخْفَ عليه طرقها، ولعل لفظ (الخارطة) أو الخريطة مأخوذ منها.

(3)

تشير إلى أسطورة الأصيبع التي تقدمت في المكتوب 25 راجع (جزء 31 مجلد 3) .

(4)

قدموس: هو الرجل الفينيقي الذي أنشأ مدينة طيبة، ونقل الحروف الهجائية من مصر إلى بلاد اليونان.

(5)

هرقل أو هرقول اليوناني: هو كما في أساطير اليونان الخرافية (ميثولوجيا) ابن جوبتيتر (المشتري) كبير الآلهة من زوجه ألكمين، وأعظم الشجعان الذين كانوا يقتلون التنانين والضواري والأفاعي العظيمة، وتيزيه من شجعان اليونان المشهورين وهو ابن (أجيه) ملك أثينا قتل مينوتور، وهو - بحسب خرافاتهم - وحش نصفه آدمي ونصفه ثور، واشتهر في وقائع عصر الشجعان.

ص: 338

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر

اُحتفل بامتحان تلامذة مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية في مصر في مساء

يوم الجمعة الماضي احتفالاً شائقًا رأسه فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده

مفتي الديار المصرية ورئيس الجمعية، وحضره كثيرون من العلماء والوجهاء،

وافتتح الاحتفال بتلاوة أحد التلامذة آيات من القرآن الكريم بالتجويد والترتيل، ثم

أنشد طائفة من التلامذة أنشودة نوَّهوا فيها بفضل رجال الجمعية، ورحبوا

بالحاضرين وختموها بالدعاء لمولانا السلطان وللجناب العالي الخديوي، ثم وقف

تلميذ وتلا خطبة وجيزة بيَّن فيها الغرض من التربية والتعليم في مدارس هذه

الجمعية، وهو تكميل النفس والاستعداد للدخول في أبواب المعيشة وتفضيل

الصناعة والحِرف على غيرها، وتوجيه النفس لترقية كل تلميذ صناعة والده

وحرفته بما يكتسبه من العلم الذي كان والده محرومًا منه، ومعلوم أن جميع هؤلاء

التلامذة من أولاد الفقراء المحترفين تعلمهم الجمعية وتربيهم على نفقتها، ثم وقف

تلميذ آخر فأُعطي كتاب (الدروس الحكمية) ففتحه وقرأ منه نبذة جاءت أمامه

بالعرض من الدرس الذي يبين حاجة البشر إلى الدين، فأحسن القراءة وبيَّن معانيها

على وجه الصواب، فناقشه الأستاذ الرئيس في الفهم وسأله عن معنى الآية التي

افتتح بها الدرس، فأحسن في الإجابة والتفسير حتى أنه فسر ما لم يُذْكَر في الكتاب

من تتمة الآية الكريمة، ثم تكلم تلميذ آخر في حكم فريضة الزكاة وفوائدها للمزكي

وللفقراء وللهيئة الاجتماعية، ومن ذلك أنها العلاج الواقي من داء الفوضى

والاشتراك، وختم كلامه بقوله:(لا فوضوية في الإسلام) فصفق له الحاضرون

كما صفقوا لمن قبله ولمن بعده، ثم امتحن تلميذ آخر بإعراب جملة فيها تقدير دقيق

فأجاد في الإعراب، وأنبا عن فهم يحالف الصواب، وامتحن آخرون في الحساب

وفي الجغرافيا والرسم حيث رسم أحدهم خارطة أوربا وبين ممالكها وعواصمها،

وسأله الأستاذ الرئيس هل خطر لك أن تسافر إلى عاصمة من هذه العواصم، فقال:

نعم تمنيت أن أزور باريس، فسأله أن يبيِّن خطة السفر من القاهرة إلى باريس،

فبيَّنها أحسن بيان، وعرض بعض التلامذة على الحاضرين نموذجات من خطوطهم

ورسومهم في غاية الإتقان والجودة، وخطب آخرون من التلامذة في بيان فوائد

التربية والتعليم وفوائد الجمعيات الخيرية، ثم خُتم الامتحان كما بُدئ بترتيل أحد

التلامذة آيات من الكتاب العزيز.

وبعد هذا وقف مولانا الأستاذ رئيس الجمعية، وشكر للحاضرين عنايتهم

بحضور الاحتفال بامتحان أولاد الفقراء، ومشاهدة أثر تربيتهم، ثم تكلم في بيان

غرض الجمعية من تربية هؤلاء الأطفال الفقراء، وهو تهذيب نفوسهم ومساعدتهم

كل واحد منهم على إحياء صناعة والده وترقيتها، إلا أن يرى نفسه مستعدًّا لصناعة

أعلى منها وأرقى، وذكر أن الجمعية تساعد بالمال من يتخرج من مدارسها ويشتغل

بصناعة والده مدة سنة، وأنها تُعلِّم التلامذة بأنهم لوالديهم أولاً، ثم للأقربين، ثم

للأمة، وتُعلِّمهم احترام آباءهم وأمهاتهم، وتنزع من نفوسهم الميل إلى وظائف

الحكومة، وههنا انتقل الأستاذ لبيان مفاسد التربية في سائر المدارس وحال الذين

يتعلمون فيها وفي أوربا، وكيف يكون الإنسان بعد التعليم مشغولاً بالأماني الباطلة

التي لا تُدرك، محتقِرًا لوالديه وأهله وللناس، يقضي معظم أوقاته في الملاهي ومعاهد

البطالة واللغو في الغالب، ثم بيَّن وجه حاجة الأمة إلى تربية الطبقات الدنيا، وأنها

لا ترتقي ولا تسعد إلا بذلك؛ لأنهم هم الذين يقومون بمعظم الشؤون، وأكثر

الحرف التي لا يستغني عنها الخواص ولا يهنأ لهم عيش ما دام أصحابها فاسدي

التربية فاقدي الآداب، وقال إن جراثيم الخير التي تلقيها مدارس الجمعية في نفوس

التلامذة لا بد أن تنمو وتغلب على جراثيم الشر التي أصيبوا بها من البيئة (الوسط)

التي يعيشون فيها؛ لأن الحق دائمًا يغلب الباطل، والخير يصرع الشر، إلا إذا

اضمحل أنصار الحق ودعاة الخير، وضاعوا في كثرة الأشرار، قال: وربما

ينازعني بعض السامعين في هذه القاعدة مستدلاًّ باستحواذ الشرور على الناس،

وأكتفي بأن أجيب هؤلاء بكلمة واحدة وهي ائتوني بعشرة من دعاة الخير في القوم

الذين تحكمون بفسادهم، وتغلب جراثيم الشر فيهم على جراثيم الخير.

ثم ختم خطابه بتوزيع الجوائز على نجباء التلاميذ مبينًا أن لها مصدرين:

أحدهما أن اللجنة التي تألفت لإيجاد أثر يُخَلِّد ذكر المرحوم علي باشا مبارك لخدمته

المعارف كانت ارتأت أن تقيم له تمثالاً في نظارة المعارف، ثم رجعت عن هذا

الرأي؛ لأن معظم الأمة المصرية يُعِدُّ التماثيل إهانة لا تكريمًا، ويسمون التمثال

(الصورة المسخوطة) أي الممسوخة، وترجح للجنة أن تعطي هذه الدراهم للجمعية

الخيرية تستغلها وتجعل غلتها في كل سنة جوائز للنابغين من تلامذة مدارس

الجمعية الخيرية بشرط أن يؤلف أحد أعضاء الجمعية كتابًا في تاريخ علي باشا

ومآثره، ويُوزع مع الجوائز أيضًا، ويكون هذا أحسن ذكرى وأثر، قال: وقد

تأخر تأليف هذا الكتاب في هذه السنة، فرأينا من التعجيل بالبر أن توزع الجوائز،

وفي العام القابل يُوزع الكتاب - إن شاء الله تعالى - وهذا ما أصاب مدرسة القاهرة

من هذه الجائزة يعطى لأنبغ التلامذة في العربية، وأما المصدر الثاني فهو أن

الأستاذ الشيخ عبد الرحيم الدمرداش تبرع بعشرة جنيهات للجمعية شكرًا لله تعالى

على شفائه من مرض ألمَّ به، وجعلها دائمة في كل سنة.

ثم انفض الجمع وخرج القوم مسرورين بما شاهدوه من النجابة والنجاح الذي

كان فوق ما يؤملون.

_________

ص: 347

الكاتب: محمد رشيد رضا

عفو سمو الخديو

منذ ثلاثة أشهر ونيف عفا سمو الخديو المعظم عن حضرة الفاضل الشيخ

إبراهيم حرب الطرابلسي ورفيقيه الذين حكم عليهم في حادثة الأزهر المشهورة وفرُّوا.

_________

ص: 350

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(سكة الحديد الحجازية)

قد شُرع في مد قضبان الحديد بعد تسوية الأرض في القسم الأول من هذه السكة

التي هي أعظم مآثر مولانا الخليفة والسلطان الأعظم أيده الله تعالى وسدده، ويبتدئ

هذا القسم من (المزيريب) حيث منتهى السكة الحديدية بين بيروت والشام، وطوله

عشرون كيلو متر، وقد احتفل بذلك في المزيريب بحضور صاحب الدولة ناظم باشا

والي سوريا، وصاحب السعادة محمد فوزي باشا مدير إدارة لجنة السكة الحديدية في

ولاية سوريا وأحد أعضائها، ورائف باشا رئيس أركان الحرب في الفيلق السلطاني

الخامس، وذلك في يوم الاثنين ثامن ربيع الأول الأنور، وهو اليوم الذي وُلد فيه

النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم على القول الصحيح، فياله من فأل حسن يبشر

بالإتمام بالخير إن شاء الله تعالى.

***

(رزء علمي ديني)

في يوم الخميس ثالث ربيع الأول توفي إلى رحمة الله - تعالى - أحد أكابر

علماء الأزهر الشريف الأستاذ الشيخ محمد راضي الكبير مفتي ديوان الأوقاف،

وشيخ رواق البحاروة في الأزهر عن نحو خمسين سنة قضاها في التعلم، ثم التعليم

وخدمة الحكومة.

كان الفقيد مالكي المذهب، ثم تمذهب بمذهب الحنفية، وأتقن فقههم حتى عين

مفتيًا لمديرية الدقهلية، ثم مفتيًا لديوان الأوقاف، ومن مزاياه التي لا يشاركه فيها

إلا القليل أنه كان لا يخاف في الحق لومة لائم، فيصرح باعتقاده وإن خالف العامة

وأنكرته الجماهير، وله واقعة مشهورة في ذلك وهو أنه صرح بإنكار ما يأتيه

العامة من المنكرات عند قبور الصالحين مما هو مشهور، وأفضنا فيه مرارًا،

فاتخذ ذلك بعض الحسدة والجهال وسيلة للخوض فيه والسعاية للحكومة وسموه

وهابيًّا، وهم لا يدرون ما هو الوهابي؛ وإنما هي ألفاظ يرمونها من غير فهم ولا

عقل، فعزلته الحكومة بناء على هذه السعاية، ثم تبين أنه ما قال إلا الحق الذي هو

مذهب السلف ولباب الدين، فرقَّاه الجناب الخديوي - أعزه الله تعالى - وجعله مفتيًا

للأوقاف، وما زال مواظبًا على التدريس وإفادة الطلاب في الجامع الأزهر حتى

أصيب بالمرض الذي انتهى بوفاته، وقد شيعت جنازته بالاحتفال اللائق بفضله

تغمده الله برحمته وعزَّى آله وذويه بمصيبته.

_________

ص: 351

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الواسطة والزيارة

أو ابن تيمية والسبكي

ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المشايخ المغرمين بحب الشهرة سعى بنشر

رسائل في الواسطة الشخصية بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده، وكتب لذلك

مقدمة جاء فيها بالتهافت والتناقض كأنه لا يفهم ما يكتب، أو يتوهم أن الناس لا

يفهمون.

إذا كان يعتقد ما قاله في أول المقدمة من أن نجاة الأرواح إنما هي في اتباع

الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح من غير أدنى ملاحظة أو اعتراض واسترسال

مع العقل، فلماذا أَلصق بالدين ما لم يرد في كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من

الصحابة، ولا أئمة التابعين وتابعيهم من المجتهدين؛ وإنما هي نزغات عقلية

نُسبت إلى بعض العلماء لأجل ترويجها، على أن من نُسبت إليهم ليسوا بمعصومين

ولا هم ممن يجب اتباعهم لذاتهم؛ وإنما توزن أقوالهم وأفعالهم بميزان الشرع فما

رجح منها قُبل وما كان مرجوحًا تُرك ورُفض. هل جاء في كتاب الله أو سنة رسوله

صلى الله عليه وسلم أمر ببناء القبور وتشريفها واتخاذ القباب عليها، وجعلها في

المساجد والصلاة إليها، وطواف الناس بها كما يطوفون بالكعبة، أم ورد النهي

الصريح عن ذلك بما لا يحتمل التأويل؟ هل نُقل في حديث صحيح أو حسن أن أحدًا

من الصحابة رضي الله تعالى عنهم طلب من قبر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام

شيئًا مما يطلبه عامتنا اليوم من قبور المشايخ المشهورين بالولاية والصلاح، أو

طلبوا منه الدعاء بقضاء حاجاتهم كما يزعم صاحب المقدمة، أم قال أحد السلف

الصالح بذلك؟ كلا إن صاحب المقدمة لا يقدر على هذه الدعوى؛ ولكنه يزعم أن

بعض علماء القرون المتوسطة قال بذلك، والنجاة إنما هي في اتباع الكتاب والسنة

على ما كان عليه السلف الصالح، لا في اتباع هؤلاء الذين تدل رسائلهم التي نشرها

على أنهم قالوا ما قالوه بآرائهم؛ لأنهم لم يستدلوا عليه بما لا يصح الاستدلال به؛

ولأنهم لا يميزون بين الحديث الصحيح والموضوع؛ لأن رسائلهم هذه مملوءة - كما

قلنا - بالأحاديث الموضوعة والمنكرة.

والذي استقر عليه اجتهاد الإمام الغزالي بعدما خاض في الفلسفة والتصوف،

وتوسع في الفقه والجدل والكلام - أن السعادة في اتباع القرآن الكريم في العقائد، وما

أجمع عليه الأئمة في الأعمال والأخذ بالاحتياط فيما اختلفوا فيه، ودعوى أن بعض

الأموات يكونون واسطة بين الله وبين الناس يقضون حوائجهم بإذنه مما يتعلق

بالعقائد أولاً وبالذات، ثم بالعبادة، ولم تَرِد في كتاب ولا سنة ولا قول إمام مجتهد،

فالغزالي يحكم برفضها وإنكارها حتمًا، وإن صحت عنه تلك العبارة الفلسفية في

احتمال تأثير أرواح الموتى في عالم الشهادة، فهي ليست من الدين؛ وإنما هي من

النظريات الفلسفية، ولا بد أن يكون رجع عنها كما يفهم من كتابه (القسطاس

المستقيم) وغيره.

والذي روَّج غش أمثال هذه الرسائل من المصنفات في سوق العامة، وكثير

ممن يلبسون لباس الخاصة - هو التسليم لكل ما يُعَدُّ تعظيمًا للأنبياء والأولياء، وأخذه

بالقبول توهمًا منهم أن البحث فيه أو التوقف في قبوله يخل بالتعظيم، فما جاء في

المقدمة لهذا الشيخ الأزهري المقلد ما نصه نقلاً (لو وضع شَعْر رسول الله صلى

الله عليه وسلم أو سوطه أو عضادته على قبر عاصٍ أو مذنب لنجا ذلك المذنب

ببركات تلك الذخيرة من العذاب، وإن كان في دار إنسان أو بلد لا يصيب سكانها

بلاء، وإن لم يشعر بها صاحب الدار أو ساكن البلد؛ فإن اهتمام النبي صلى الله

عليه وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو له منسوب، ودفع المكاره

والعقوبات مفوض من الله تعالى إلى الملائكة، وكل ملك حريص على إسعاف ما

حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه من غيره، كما كان في حال حياته، فإن

تقرب الملائكة بروحه بعد موته أزيد من تقربهم بها في حال حياته) اهـ النقل.

ولكن هل يجوز لنا في تعظيم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أن نقول عليه

وعلى ملائكة الله تعالى ما لا نعلم؟ كلا إن في هذه العبارة مسائل:

(1)

من أين علم قائلها أن اهتمام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في

جوار الله تعالى مصروف إلى آثاره التي في الدنيا، أليس الأقرب أن يكون

مصروفًا إلى مناجاة الله تعالى والأنس بلقائه؟ .

(2)

إن النجاة في الآخرة منوطة بحسب ما جاء في الكتاب والسنة بالإيمان

الصحيح والعمل الصالح، وأمر العصاة مفوض إلى الله تعالى {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ

وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (آل عمران: 129) ولم يَرِد عنه صلى الله عليه وسلم أن

وضع السوط أو الشعر على القبر من أسباب النجاة، فهل يجوز لأحد أن يزيد في

دينه ما ليس منه بحجة التعظيم، أم يجب الوقوف عند حدود الشريعة في الأحكام،

وفي التعظيم نفسه أيضًا؟

(3)

لو كان وضع السوط أو الشعر على القبر منجيًا من العذاب لكان

الأجدر بذلك الاتصال به صلى الله عليه وسلم في دار الدنيا، وقد ورد في الصحيح

أن سعد بن معاذ الشهيد أحد أكابر الصحابة مات بين سَحر النبي ونَحره متكئًا على

صدره، ومع ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم بأن ضغط القبر كان عليه شديدًا.

(4)

أن البلاد التي فيها من شعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالآستانة

ومصر وغيرهما أُصيبت بأنواع من البلاء، بل إن المدينة المنورة التي فيها جسده

الشريف كله قد أصيبت بألوان من البلاء حتى إن الحرم الشريف نُهب وربطت فيه

الخيول.

وحسبنا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم ما علمنا الله ورسوله ككونه رحمة

للعالمين، وكونه على خلق عظيم إلى غير ذلك مما لا يحصى، ولكن أمثال هؤلاء

المؤلفين يقولون بألسنتهم ما ليس لهم به علم ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم،

فعلينا أن نعتمد في نجاتنا على تعليم الوحي من غير أن نزيد فيه بعقولنا وأهوائنا،

أو ننتقص منه بالتأويل والتحريف، ولو صح في معاني تلك العبارة شيء لا ينافيه

الواقع، ولا يصادمه الوجود لقبلناه على ظاهره وإلا وفقنا بينه وبين الواقع كما هي

القاعدة الشرعية، وعدم ورود ذلك لا ينافي كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في

أعلى مقام.

ومن أغرب مزاعم صاحب المقدمة وأفسد قياساته المساواة بين طلب المعونة

من الأحياء وطلبها من الأموات، فإذا كان لا يفرق بين الحي والميت، وقد فرق

بينهما الوجود والشرع والعقل، أفلا يجب عليه التفريق بين ما يطلب من الأحياء

من التعاون، وبين ما يطلب من الأموات: يطلب الأحياء بعضهم من بعض

التعاون على الأمور الكسبية بأسبابها التي قرنها الله تعالى بها وأمرهم بالتعاون

عليها في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) ويطلبون

من الأموات ما لا تناله يد الكاسب كجلب المصالح، أو درء المفاسد من غير أسبابها

التي قرنها الله تعالى بها، وهذا النوع مختص بالله تعالى لا يُستعان بغيره فيه كما لا

يُعبد غيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) يطلبون من

الأموات شفاء المرضى من غير معالجة، ودفع البلاء من غير سببه، يطلبون منهم

الانتقام من الأعداء الذين يعجزون عن الانتقام منهم، كتلك المرأة التي كانت تدعو

المتبولي بأن يُهْلِك الطبيب الذي عالج ابنها فمات عقيب معالجته، يطلبون منهم أن

يردوا عليهم من ضَلَّ وتاه من أولادهم، وما فَرّ أو سرق من مواشيهم، ويقدمون

لهم النذور لإرضائهم، يطلبون منهم، بل ومن قديسي النصارى (كمارجرجس)

أن يحبلوا العاقر

إلخ إلخ.

مثل هذه المطالب يعرفها الشيخ المقلد، صاحب المقدمة وكان يعدها وأمثالها

من الشرك كما سمعت ذلك منه بأذني، وقد كان في مجلس ثابت باشا في بعض

ليالي شهر رمضان، فذكروا الوهابية فانتصر لهم وشنَّع على الذين يُعَظِّمون القبور

ويطلبون منها ما يطلبون أقبح تشنيع رد عليه في المبالغة فيه الأستاذ الشيخ حمزة

فتح الله والناس يسمعون (فما عدا مما بدا) ؟

اعتذر هذا الشيخ المقلد في آخر مقدمته عن أكثر علماء هذا العصر فيما ينتقد

عليهم من ترك إرشاد العامة وإهمال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

بأنهم بإلقاء الدروس الشرعية في أكثر المساجد قائمون بذلك حق القيام، وهذا

اعتذار غير صحيح كان يجب أن يخجل من كتابته؛ فإن أكثر المساجد خالية من

الوعاظ والمرشدين، وقراءة بعض الكتب الصعبة للمجاورين في الأزهر وما قرب

منه كمسجد سيدنا الحسين ومسجد محمد بك وجامع المؤيد - لا تغني عن العامة شيئًا

لأنهم لا يقدرون على ترك أعمالهم في النهار والهجرة إلى هذه المساجد لأجل

سماعها، ولو قدروا لما فهموها، فإذا أراد العلماء إرشاد العامة وتعليمهم دينهم

فلينتشروا في جميع المساجد، وليعلموهم ما تمس إليه حاجتهم في وقت يتسنى لهم

الاجتماع فيه كما بين المغرب والعشاء.

ثم عقَّب اعتذاره عن أولئك العلماء، واستدل على طعنه وقدحه فيهم بدليلين،

بل بشبهتين سخيفتين (إحداهما) : أنهم لو كانوا مخلصين لكسيت أقوالهم جلباب

القبول، وهذا الدليل مردود عليه لوجوه، أحدها أن جهله بقبول إرشادهم لا يدل

على نفيه فمن المقرر عند العلماء أن عدم العلم بالشيء لا يقتضي عدم ذلك الشيء

في نفسه، ثانيها: أن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لم يتبعه أحد، ومنهم من

اتبعه النفر القليل كسيدنا نوح عليه السلام، ثالثها: أن سنة الله تعالى في قبول

الإرشاد أن يكون بالتدريج، وتعريضه بهم بأنهم أُذِلُّوا وأُهِينُوا، حجة عليه، فهل

جهل ما قاساه سيد المصلحين عليه الصلاة والسلام من النفي والطرد والسب

والضرب، وأن الناس لم يؤمنوا به بمجرد دعوته إلى الإيمان، ولو لقي دعاة

الإصلاح الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر عشر معشار ما لقيه المصلح

الأعظم صلى الله عليه وسلم لكان هذا الشيخ المقلد يستدل بذلك على كفرهم ويطفئ

نار حسده بالتشفي منهم؛ ولكن الله بفضله ورحمته أراد أن يؤيدهم ويؤيد بهم الدين

ولذلك يزيدهم رفعة وعزة على ممر الأيام والسنين، وذلك من رحمته وفضله

على المسلمين، وإذا أُنظر هذا الشيخ ومُدَّ في أجله فسيشاهد أثر أولئك المصلحين،

والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين.

(الشبهة الثانية) : قوله: (ولو صدق هؤلاء فيما يزعمون لقاموا بالنهي

عما أجمعت الأمة على إنكاره كالزنا وشرب الخمر والمجاهرة بها وترك الصلاة

والصوم)

إلخ، والجواب عنها أنهم ينهون عن هذه المحرمات العملية؛ ولكنهم

جعلوا جل عنايتهم في النهي عن المنكرات في العقائد والأخلاق؛ لأنها الأصل الذي

تبنى عليه الأعمال وإلى هذه الإشارة بحديث (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت

صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وكيف ينفع النهي

عن الأعمال مع وجود مثل هذه الرسائل التي نشرها، والمقدمة التي حبرها وفيها

السم الذي يميت خشية الله تعالى من القلوب، ويُغري الناس بالمعاصي اعتمادًا على

الوسطاء الذين ينجونهم في الآخرة، وإن أساءوا بترك الفرائض وارتكاب

المحرمات كما يقضون مصالحهم في الدنيا، وإن تركوا السعي والأسباب، نعم إن

العامة إذا رأوا كتابًا كتب عليه إنه للإمام فلان ومقدمته للإمام فلان يغترون بهذه

الألقاب الضخمة، ويأخذون ما فيها بالتسليم، فإذا رأوا فيها ما نصه: (الحديث

التاسع: من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة وصلَّى عليّ في بيت

المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه) يتوهمون أن هؤلاء الأئمة لا

ينسبون إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم يقله ويجيزونه وينصحون الناس

به، وبناء على هذا يعتقدون أن عمل فريضة عينية كالحج على المستطيع،

وواجب كفائي كالجهاد، وفعل آخر لم ترد به بخصوصه سنة - تسقط سائر الفرائض

عن الإنسان، بحيث لا يُسأل عنها، فإذا تسنى لأحد منهم ذلك، وأُمر بالصلاة

وبالصوم لا يبالي لأنه يعتقد أن الله تعالى لا يسأله عنهما، إذن فإن النهي عن هذه

الكتب، وعن الالتفات لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم أئمة مقدم على النهي عن الزنا

والخمر، وعلى الأمر بالصلاة والصوم، والحديث موضوع كما بيَّنه صاحب كتاب

(الصارم المنكى) وغيره، وفي هذه الكتب غير ذلك من الكذب على رسول الله

صلى الله عليه وسلم وإثمها على مؤلفيها وناشريها، وعلينا النهي عن الاغترار بها

والله الموفق.

_________

ص: 353

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قسم الموالد والمواسم

منعت الحكومة المصرية الناس في هذا العام من كثرة الاجتماع في الموالد،

حيث لم ترخص للبغايا وللراقصات ولباعة الحشيش وأضرابهم من نصب خيامهم

في معاهد الاحتفال بالموالد، والاحتراف بحرفهم الخسيسة الضارة خوفًا من انتشار

الوباء وسريان الطاعون، وكانت تصرِّح في الإجازات بإقامة هذه الموالد بوجوب

الاقتصار على إقامة الشعائر الدينية، وعجيب من حكومة إسلامية أن تسمي البدع

شعائر إسلامية سواء كان ذلك عن علم أو عن جهل فهي كما قال الشاعر:

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

نعم زعم بعض العلماء أن هذه البدعة حسنة إذا خلت من المحرمات

والمنكرات؛ ولكن لم يقل أحد بأنها من شعائر الدين، كيف وكلها من أوضاع

المتأخرين، وهي تزيد وتتجدد حينًا بعد حين، ولم يُعرف شيء منها عن السلف

الصالحين، وقد أعجبنا من رقعة الدعوة التي أرسلها إلينا صاحب السماحة السيد

توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق لحضور الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه

وسلم تصديرها بتسمية ذلك (عادةً) فحيَّا الله العلم والفهم.

_________

ص: 360

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورة التاسعة بين المصلح والمقلد

التقليد والتلفيق والإجماع

لمَّا ضم الشابَّ المصلح والشيخ المقلد المجلسُ التاسع ومعهما المقلد الثاني، أو

المناظر الثالث - ابتدأ المقلد الكلام فقال للمصلح: لم يبق إلا أن تبين لنا رأيك في

الوحدة الإسلامية بالنسبة للمعاملات والأحكام السياسية والقضائية، ونحن نجمع ما

عندنا من الانتقاد عليك، ثم نسرده سردًا.

الثالث: إنني لست على ثقة من حضور مجالسكم كلها، فلا بد من البحث في

كلام الإمام الغزالي السابق قبل أن يطول عليه الأمد؛ فإن هذا الإمام لم يحرِّم التقليد

كما حرمه صاحبنا؛ وإنما أباحه بالنسبة لمن عمل بالمُجْمَع عليه وعرضت له

مسائل مما اختلف فيه، فذهب إلى أن له الأخذ في ذلك بقول من يغلب على ظنه

أنه الأفضل، وهو قول لعلماء الأصول القائلين بالتقليد، وبعضهم يخالف فيه

ويقول بعدم اشتراطه لأن المقلد لا رأي له فيختار الأفضل.

المصلح: قد علمتم أنني أبديت رأيي في الوحدة الإسلامية وإنقاذ المسلمين من

ظلمات الاختلافات التي كانت أصل مرضهم وجرثومة دائهم قبل أن أطلع على كلام

الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى - فلست مقلدًا له فيه؛ ولكنني أحمد الله تعالى من

صميم قلبي على موافقة فهمي في الدين لفهم حجة الإسلام وعلم الأعلام، وقد علمتم

أنه اكتفى في جمع كلمة المسلمين بأن يأخذوا عقيدتهم من القرآن الكريم، وأن

يعملوا بما أجمعت عليه الأئمة وتلقته بالقبول الأمة، ولم يكلِّف العامة بأكثر من هذا

الذي جزم بأنه هو الدواء الذي لا يحتاجون سواه، ثم إنه فرض وجود رجل صالح

فرغ من حدود التقوى كلها بترك كل ما اتفقوا على وجوب تركه، وفعل كل ما

أجمعوا على طلب فعله عند الاستطاعة، وتحير في مسائل الخلاف التي تدور بين

النفي والإثبات، فحكم على هذا بأن ينظر في أقوال الأئمة وفي سيرهم، فمن عُلم

من سيرته أنه أعلم وأحكم، ومن دليله ومدلوله أنه أقوم وأسلم، يأخذ بقوله، وقد

سُمِّي هذا النظر اجتهادًا وهو كذلك، وإنما يسمى صاحبه - كما قال ولي الله

الدهلوي - المجتهد المنتسب لأنه سار في اجتهاده على طريقة غيره بعد العلم بها،

وكذلك كان أصحاب الأئمة المجتهدين كأبي يوسف ومحمد اجتهدوا على طريقة أبي

حنيفة ومنهاجه في الاستنباط ولم يقلدوه، على أن هذه المسائل الفرعية الخلافية التي

يُعذر الإنسان بجهلها، ويُعذر بالخطأ إذا هو اجتهد فيها فأخطأ على ما هو معروف

عند الجميع - لا يضر بالوحدة الإسلامية تقليد مثل ذلك الرجل الصالح فيها أي إمام

وإن لم ينظر في حاله ودليله؛ وإنما المضر هو تفريق المسلمين شيعًا وأحزابًا، يلتزم

كل حزب الأخذ بقول عالم يسميه إمامه ويقلده هو والمنتمين إليه في كل أقوالهم

وآرائهم، ويتعصب على الحزب الذي يأخذ بأقوال العالم الآخر وآرائه حتى يؤدي ذلك

إلى إهمال الكتاب والسنة، وما يثبت بالاختبار أن فيه مصلحة الأمة في سياستها

وأحكامها إلى آخر ما أطلنا القول فيه من قبل، وقد يسرت الأمر في هذه المسائل

الفرعية الخلافية فجعلت العامي فيها مخيرًا بشرط الاحتياط بقدر الإمكان وعدم اتباع

الهوى، والإمام الغزالي وإن قال بجواز تركها أيضًا؛ فإنه ضيَّق على من أراد العمل

بها وألزمه بضرب من الاجتهاد إن لم يكن ما يسمون صاحبه المجتهد المنتسب، فليكن

ما يسمونه (الاجتهاد في المذهب) نعم إنه فرض وجود مثل هذا فرضًا بكلمة (لو)

وأشار قبل ذلك إلى أنه لا يكاد يوجد حيث قال: (ومتى تفرَّغ العامي من هذا إلى

مواضع الخلاف؟)

الثالث: بقي في نفسي قول (الدر المختار) : إن الحكم الملفق باطل

بالإجماع، ومعلوم أنه لولا قول هؤلاء المجمعين بالتقليد لما كان لنفي التلفيق فيه

معنى، فهم إذن مجمعون على التقليد، فما وجه هذه المناقشة في شيء صح فيه

الإجماع؟

المصلح: يصح أن يكون منعهم التلفيق لمنع التقليد أي لا يصح التلفيق لأنه

تقليد، والتقليد باطل ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والجواب التحقيقي أن

دعوى الإجماع ممنوعة، وتجد ذكر الخلاف في أشهر كتبكم الأزهرية كحواشي

الأمير وحواشي الباجوري على جوهرة التوحيد للقاني، ومن العجيب أن ينقل

صاحب الدر هذا القول الذي لم يقل به أحد من أئمة مذهبه، وكيف يقولونه

والمذهب كله تلفيق لأنه مذهب ثلاثة أئمة، ومن آية عدم قول أئمة الحنفية بمنع

التلفيق أن مجتهدهم في القرون المتوسطة الكمال بن الهمام نسبه في تحريره إلى

متأخر وعنى به - كما قاله شارحه - القرافي المالكي، فلو كان في المسألة نص عن

أئمتهم وهو أعلم الناس بذلك لما اقتصر على نسبتها إلى رجل واحد من متأخري

المالكية إذ قال (وقَيَّدَه متأخر)

إلخ.

أما فتاواهم في التلفيق الصريح فهي كثيرة، ومن أشهرها وقف المنقول على

النفس الملفق من قول أبي يوسف بجواز الوقف على النفس دون المنقول، وقول

محمد بجواز وقف المنقول دون الوقف على النفس، وممن صرح بأن هذا تلفيق

الطرسوسي، وذكر أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب كذا في تنقيح

الحامدية لابن عابدين عمدتهم في المتأخرين، وفيه أيضًا بعد أن ذكر عن الشلبي أن

وقف الدراهم على النفس ملفق من قول أبي يوسف وزفر وأن الطرسوسي حشى

على جوازه ما نصه: ورأيت بخط شيخ مشايخنا ملا علي التركماني في مجموعته

الكبيرة عن خط الشيخ إبراهيم السؤالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن الشلبي ما

نصه: وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه، وأن الحكم ينفذ وعليه

العمل اهـ. أما الذي في المنية فهو أن الحكم بشهادة الفساق على الغائب ينفذ وإن

كان القائل بجواز الحكم على الغائب يمنع شهادة الفساق، وذكر ابن نجيم في رسالته

في بيع الوقف بغبن فاحش مثل ما في المنية عن البزازية وجزم بأن المذهب جواز

التلفيق حيث لم يكن فيه رجوع عما عمل فيه تقليدًا أو لازمه الإجماعي، أخذ من

إطلاقهم جواز تقليد غير من قلده في غير ما عمل به، فانظر أين تضع زعم

صاحب الدر المختار الإجماع على منع التلفيق.

الثالث: إن العلامة ابن عابدين قد رفع الإشكال عن شبهة التلفيق في مذهب

الحنفية بأن التلفيق الممنوع إنما هو ما كان من مذاهب متباينة، وأما إذا كان من

أقوال أهل المذهب الواحد فلا لأن أقوالهم مبنية على قواعد إمامهم أو مروية عنه.

المصلح: هذا تحكم لا يقبله عاقل؛ فإن القاعدة الواحدة لا يمكن أن تفيد

النقيضين، ولا يمكن أن يقول عاقل ولو مقلدًا بقولين متناقضين كما في مسألتنا التي

مثلنا بها - وقف المنقول على النفس - فإذا وجدنا روايتين متناقضتين عن إمام

نحكم بأنه رجع عن إحداهما إن كانت الرواية صحيحة فيهما، كما نحكم في

الحديثين المتناقضين بأن أحدهما منسوخ إذا لم يمكن الجمع، ولا جمع بين النقيضين،

وإنما يمكن الجمع بين المتخالفين بغير التناقض، قل لي أيها القاضي الفاضل أليس

اتفاق مثل أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله تعالى - في أصول الدين عقائده وأحكامه

أقرب من اتفاق أبي حنيفة مع صاحبيه أو أحد صاحبيه مع الآخر في هذه الفروع

الاجتهادية؟ فلماذا لا تجعلون أهل الدين الواحد كأهل المذهب الواحد، إن كان أهل

المذاهب يجتمعون في بعض القواعد، فأهل الدين يجتمعون في جميع الأصول

والعقائد.

المقلد: هل يمكن أن يكون صاحب الدر مخترعًا لدعوى الإجماع، أم لا بد

له من نقل؟

الثالث: حاش لله أن يقول هذا الفقيه العلامة من عند نفسه شيئًا، فلا بد أن

يكون ناقلاً.

المصلح: صدقت ليس لمثله أن يقول شيئًا؛ لأنه ملقد والمقلد لا علم له فيقول

وإنما ينقل قول غيره وفاقًا لحضرة القاضي، وقد نقل هذه المسألة عن العلامة قاسم

وهو نقلها عن توفيق الحكام، وسواء كان هو الذي قالها أم صاحب توفيق الحكام فهي

منقوضة، والخلاف في المسألة محكي والقائلون بالتلفيق كثيرون، وقد سمعتم ما نقله

الكمال عن القرافي المالكي، وإليكما ما في حاشية ابن عرفة المالكي على الشرح

الكبير عند قول المتن مبينًا ما به الفتوى وهو: وفيه أيضًا - أي في الشبرخيتي -

امتناع التلفيق، والذي سمعناه من شيخنا نقلاً عن شيخه الصغير وغيره الصحيح

جوازه وفيه فسحة.

المقلد: إنني والله لفي حيرة من الجراءة على دعوى الإجماع في مسائل فيها

مثل هذا الخلاف والترجيح.

المصلح: لو راجعت كتب الأصول وكتب السنة والخلاف وشروحها ورأيت

خلاف العلماء في الإجماع نفسه لفهمت حق الفهم قولي السابق: (وأما العبادات فما

بينته السنة بالعمل، وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق حتى صار معلومًا من

الدين بالضرورة هو الذي يجب أن يأخذ به كل مسلم) فإنني لم أذكر السُّنة العملية

عبثًا، وكيف وإنني أعرف كثيرًا من المسائل الخلافية ادَّعوا فيها الإجماع، وذلك

أن أحدهم يطلق هذا اللفظ على ما لا يُعلم فيه خلافًا، وهل يحيط أحد غير الله تعالى

بآراء الناس وأقوالهم في عصر من الأعصار.

وإنني أذكر لكم مجمل أقوال العلماء في الإجماع، وإذا اقتضت المناظرة

تفصيلاً فإنني أذكره في وقته، قال بعضهم: إن الإجماع غير ممكن، وقال آخرون:

إنه ممكن لكنه لا يقع، وقال غيرهم: إنه يقع ولكن لا سبيل إلى العلم به فنقله متعذر

وغير ممكن، وذهب آخرون إلى أن النقل ممكن؛ ولكنه لم يقع، وحسبكم من دعوى

القائلين بالوقوع مسألتنا، ثم اختلف العلماء في طريق نقل الإجماع ومتى يكون حجة

يجب العمل، فقال بعضهم لأنه تقبل فيه أخبار الآحاد، أي بل لا بد من التواتر،

ونسب هذا القول إلى الجمهور القاضي في التقريب والغزالي في كتبه، وقال بعضهم:

إنه ليس حجة بالمرة ولا دليل على حجيته من النقل ولا من العقل، وقال قوم منهم

الإمام الرازي والآمدي إنه حجة ظنية وذهب الأكثرون إلى أنه حجة قطعية على

خلاف لهم في الإجماع السكوتي والإجماع المسبوق بخلاف، وتسمية ما يقول به بعض

المجتهدين ويسكت عنه الآخرون، فلم يُنقل عنهم فيه خلاف ولا وفاق إجماعًا -

تساهل كبير، والكلام في هذا طويل ولا غرض لنا في الخلاف؛ وإنما غرضنا في

الوفاق. والذي اتفقوا عليه شيء واحد وهو أن الذي ينكر المُجْمَع عليه المعلوم من

الدين بالضرورة كافر خارج من جماعة المسلمين، ومن عداه مؤمن سواء وافق الأكثر

أو الأقل؛ فإن الحق ليس مع الأكثر دائمًا {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) .

المقلد: دعنا من بحث الإجماع الآن وعد بنا إلى الكلام في دعواك أن أمر

الإمام الغزالي للمتحير في الخلاف بتقليد من يرى أنه أفضل وصوابه أغلب يستلزم

الاجتهاد في المذهب على الأقل، وكيف يأمر العامي بهذا النوع من الاجتهاد وهو

يحظر عليه النظر في غريب العلم كما تكرر في قوله.

المصلح: إنه لم يأمر كل عامي بالاجتهاد في المذاهب، ولا بتقليد أربابها؛

وإنما أمر بذلك شخصًا مخصوصًا فرض أنه عرف أمور الدين المتفق عليها وعمل

بها، وعرض له بعض الفروع المختلف فيها، ومثل هذا إن وجد يسهل عليه ما

ذكرناه من معرفة أحوال الأئمة ودلائلهم في الفرع أو الفروع التي تعرض له.

الثالث: إن الإمام قال: (فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون بعضهم

مصيبون ما عند الله، وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين)

إلخ،

وهو قول جازم بالتقليد على إطلاقه.

المصلح: المسائل المُجْمَع عليها المنقولة بالعمل - ومنه عمل اللسان كقراءة

الفاتحة في الصلاة - لا اجتهاد فيها ولا تقليد؛ لأن التقليد فرع الاجتهاد، والمسائل

الاجتهادية في العبادات قد علمنا حكمها عنده، وهو أن الناس ليسوا ملزمين بالبحث

عنها، ولا بالعمل بها إلا مثل ذلك الصالح المفروض، وقد علمنا أنه يأمره بنوع

من الاجتهاد ليعرف الراجح والمرجوح، وقد قلت لك من عهد قريب أنه لا ضرر

في تقليده أي إمام بها إذ لا ضرر في ترك العمل بها بالمرة؛ ولكن الدين الإسلامي

يأمر أصحابه بأن يكونوا على بصيرة في دينهم، ومن يأخذ برأي إنسان وهو لا

يعرف من سيرته شيئًا ولا يدري من أين أخذ ذلك الرأي بالمرة فلا بصيرة له بالمرة

وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر

الناس، ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم، ويُلْزِم

الإمام أو السلطان سائل الناس بالعمل باجتهادهم على ما سنبينه تبيينًا، فإن أصاب

هؤلاء الحق والعدل فلهم أجران، وإن أخطأوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة

فلهم أجر واحد، ويُعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم.

الثالث: إن قولك في العبادات مبني على القول بتجزؤ الاجتهاد إذا اعتبرنا أن

الأخذ بقول الإمام بعد معرفة حاله والوقوف على دليله تقليد له.

المصلح: أنت تعلم أن القائلين بهذا كثيرون، ومنهم ابن الصلاح والنووي من

الشافعية.

المقلد: ادَّعى بعض علماء الأصول الإجماع على أنه لا يُشترط في التقليد

اعتقاد أفضلية إمامه على سائر الأئمة.

المصلح: دعوى الإجماع مجازفة كما علمت من سابق القول؛ وإنما غرَّ

صاحب هذه الدعوى أخذ الصحابة بعضهم عن بعض، مع وجود الأفضل كالخلفاء

الأربعة وقد قدمنا أن هذا الأخذ من باب الرواية لا من باب التقليد، على أن

المفاضلة بين الأئمة والعلماء لأجل الأخذ عنهم بمسألة من المسائل هي ليست بمعنى

المفاضلة بين الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة عليهم الرضوان، أي اعتقاد أن هذا

أفضل عند الله من ذاك؛ وإنما هي بمعنى أن هذا استوفى النظر في أدلة المسألة

بتحرٍّ واجتهاد أتم مما عند الآخر الذي ربما كان أفضل عند الله منه، وقد قالوا:

يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وإنني أعتقد أن أشد الأئمة الأربعة

اجتهادًا وأكثرهم صوابًا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأعتقد مع ذلك أن كل

واحد من الأئمة الثلاثة أصاب الحق في مسائل كثيرة مما خالفه فيه، فإذا عرضت

لي مسألة لم أهتد لطريق الاستدلال عليها من نفسي أنظر في أدلتهم وأعمل بما أراه

أرجح منها، فأكون من جهة مجتهدًا وعلى بصيرة من ديني؛ لأنني عملت كل ما

في إمكاني، ومن جهة أخرى مقلدًا لمن اهتديت بهديه في النظر، وسرت على

طريقه في الاستدلال، وليس هذا هو التقليد المذموم والضار.

المقلد: إن صدري يضيق من سماع الأدلة والحجج على ترك تقليد الأئمة

الذين سارت الأمة على اتَّباعهم لما أتوقعه من الفوضى في الدين بالنسبة لعامة

المسلمين، وأما العلماء فيسهل عليهم العمل بما تقول إذا أنصفوا وجدُّوا واجتهدوا.

المصلح: هل تظن أو تتوهم أن عامة المسلمين مقلدون للأئمة ومهتدون

بهديهم؟ إن كان يختلج هذا في نفسك فعاشرهم واختبرهم يتبين لك بطلانه، هؤلاء

العوام يقلد بعضهم بعضًا وأكثر ما بقي عندهم من معرفة أحكام الدين مجمع عليه،

والنادر من يعرف بعض الأحكام الخلافية معرفة ناقصة كالوسواس في النية، أي

عامي يعرف عقيدة أبي الحسن الأشعري أو أبي منصور الماتريدي ويعرف أحكام

مذهب أحد الأئمة الأربعة؟ ومن أين يعرفه وأنت لا تكاد ترى لهم معلمًا، ولا منهم

متعلمًا لا سيما النساء الذين هم نصف الأمة، أكثرهن لا يعرفن من العقائد إلا أن

الله تعالى واحد، وأنه في السماء، وأن النبي صعد إليه ورآه، وأن العَدويَّ يرد

الأطفال التائهين، إذا دُعِي واستغيث به، وأن أبا السعود الجارحي يشفي الأمراض

المعضلة التي تعجز عنها الأطباء، وأن السيدة نفيسة تشفي الرمد، وأن مغطس

الطشطوشي يشفي من الحميات، وأن المتبولي ينتقم بسرعة من عدو من يستغيث

به إلى غير ذلك مما تعرفه، وأما الأعمال فأكثرهن يصمن حتى في زمن الحيض،

وإذا وجد فيهن مصلية فإنما تحاكي بصلاتها صلاة أمها، وقد رأيت بعيني

وأخبرتني والدتي وعمتي عن بعض نساء العلماء أنهن يصلين مكشوفات الصدور

والرؤوس كلها، أو بعضها، وحاسرات عن السواعد! وهذا لا يصح في مذهب من

المذاهب.

إن العامة خلو من المذاهب ومن أسهل الأمور تلقينهم دين الحنيفية الذي ظهر

على كماله في الأمة الأمية، ولا يوجد مقلد للمذاهب الأربعة إلا المشتغلون بالعلم،

وقد أتعبوا أنفسهم وجعلوا الدين متعسرًا على العامة فتركوه، وعلى الحكام فأخذوا

بالقوانين، والذنب عليهم في الجميع.

المقلد: طال المجلس، وستبين لنا رأيك في المعاملات في المجلس الآتي إن

شاء الله تعالى، وانصرفوا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 361

الكاتب: محمد رشيد رضا

الدرس 29

الآيات البينات على صدق الوحي والنبوات

(المسألة 63) الآية أو المعجزة:

عبَّر القرآن الكريم عما أيَّد الله تعالى به الأنبياء لأجل إذعان الناس لهم

وقبولهم دعوتهم بالآيات، واصطلح المتكلمون على تسميتها معجزات، واختلفوا في

وجه دلالة المعجزة على صدق النبي الذي ظهرت على يديه هل هي عقلية أو عادية

أو وضعية؛ لأنها بمعنى قوله تعالى: صدق عبدي فيما يبلِّغ عني، ولا نبحث في

مثل هذه الخلافات النظرية؛ وإنما نقول: إن القصد منها الحمل على قبول الدعوة

والإذعان للرسالة عند استعداد الأمة لذلك، وإقامة الحجة البالغة على المعاندين

بحيث ينقطع لسان الاعتذار من أهل الجحود والإنكار.

وقد كان ما جاء به كل نبي كافيًا في هذا المقصد، فاهتدى بهديهم كثيرون من

المستعدين، وحقت الكلمة على المكابرين {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ

أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) فالآية أو المعجزة أمر يؤيد الله تعالى به نبيه،

ويخضع له به النفوس، وكان يختلف باختلاف الأمم ومعارفها ودرجات ارتقائها،

ومهما اختلفت الآيات وكثرت أفرادها؛ فإنها ترجع إلى نوعين آيات كونية آفاقية

وآيات علمية نفسية.

م (64) الآيات الكونية الآفاقية:

أودع الله في فطرة الإنسان الاعتقاد بقوة غيبية تعلو جميع القوى، وقدرة

علوية تفوق جميع القُدَر، وأودع في غريزته ميلاً لمعرفة الأشياء بعللها وأسبابها

والوقوف على مناشئها وآثارها، فإذا رأى شيئًا لا يعرف له سببًا طبيعيًّا، ولا منشأ

كسبيًّا، يحيله على تلك القوة الغيبية، والسلطة السماوية، ويعبد المظهر الذي قام

به ويخضع ويستخذي للرجل الذي برز على يده، وذلك الاعتقاد كان أصلاً للوثنية

ثم به جذب الإنسان إلى الإيمان عندما ارتقى إلى درجة يميز فيها بين مظاهر

الآيات والغرائب ومجاليها، وبين موجدها الحقيقي ومنشيها، ارتقى في الوثنية من

الخضوع والعبادة لأبسط المظاهر الطبيعية إلى عبادة أعظمها وأبدعها كالكواكب

والإنسان، ثم ارتقى من الوثنية إلى التوحيد عندما استعد في ارتقائه إلى فهمه كما

قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213) وهذا الارتقاء الذي غايته التوحيد هو الذي نطقت به

الآية الشريفة {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)

(راجع المنار ج 8 م4) .

لكن الذين يخضعون لمن تظهر على يديه أمور خارقة للعوائد المألوفة ومخالفة

للسنن المعروفة، لمجرد الجهل بمناشئها، وعدم نفوذ عقولهم إلى حقيقتها - يكونون

دائمًا عرضة للانخداع بشعوذة المشعوذين وحيل السحرة والدجالين، ومستعدين

للرجوع إلى الوثنية، وعبادة من ظهرت على يديه الخارقة الكونية، ألم تر إلى بني

إسرائيل حين أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم كيف قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل

لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: 138) ثم كيف اتخذوا العجل بأيديهم وعبدوه،

ثم إلى النصارى كيف عبدوا السيد المسيح عليه السلام، ولكن لا مَنْدُوحة عن هذا؛

لأن نظام الارتقاء الذي أقام الله فيه نوع الإنسان يقتضيه فإن الإنسان في تلك الأمم

لم يكن مرتقيًا إلى فهم البراهين على مسائل الاعتقاد، وفهم الحكمة من الشرائع

والأحكام الأدبية والعملية، والآيات الكونية التي أوتيها موسى وعيسى عليهما

الصلاة والسلام ليست براهين على ما يجب اعتقاده من تنزيه الله وتوحيده ومعنى

النبوة، وما يجب اعتقاده في النبي، ولا على منفعة الآداب والأحكام التي جاء بها

وموافقتها لمصلحة البشر؛ وإنما هي شيء تخضع له النفس وتستخذي أمام صاحبه

أو تحمله على ما يشابهه مما يسمع ويرى من السحرة والمشعوذين، أما الذي يصلح

برهانًا قاطعًا على صدق النبي لا يمكن لمن آمن بسببه أن يرجع عن الإيمان، فهو

النوع الثاني وهو الآيات النفسية والعلمية التي منحها الله تعالى للإنسان عندما ارتقى

ارتقاء يمكنه به فهمها.

م (65) الآيات النفسية العلمية:

هي ما تدل على صدق النبي دلالة حقيقية بالبرهان الذي يجزم العقل بأن

صاحبها مؤيد من الله تعالى، وموحى إليه ما بلَّغه ودعا إليه؛ لأنها عبارة عن كون

حال النبي وما جاء به يشهدان بأنهما لا يمكن أن يكونا إلا بإمداد إلهي ووحي

سماوي؛ لأنها كحجة من يدعي الطب ويستدل على دعواه بمعالجة المرضى

وشفائهم على يده، وبالإتيان بكتاب في الطب إذا عمل به الناس تذهب أمراضهم

وتحفظ صحتهم؛ ولكن مدعي الطب إذا استدل على صدقه بأنه يقلب العصا حية،

ويكشف حيلة مشعوذ يُري الناس الحبال والعصي حيَّات وثعابين، وفعل ذلك لم يكن

بين الدليل والمدلول اتصال يربط أحدهم بالآخر؛ وإنما خضع من خضع من الناس

لسيدنا موسى بما ظهر على يديه من الآيات الكونية لما رسخ في طباعهم من

الخضوع لكل ذي مظهر غريب يفوق إدراكهم؛ لأنها براهين أقنعت عقولهم بصدق

الدعوى التي قام بها ألا تراهم كيف حنُّوا إلى عبادة الأصنام، وطلبوا من موسى أن

يجعل لهم إلهًا مثلها، على أنهم لم يميزوا بينها وبين السحر إلا أن صاحبها غلب

السحرة، اللهم إلا السحرة أنفسهم فإنهم عرفوا الفرق بينها وبين ما جاءوا به من

التمويهات الصناعية والشعوذة التخييلية؛ ولذلك اختاروا القتل والصلب على

الرجوع عن الإيمان.

م (66) آية خاتم الأنبياء والمرسلين:

لما استعد النوع الإنساني إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان والتمييز بين

الخير والشر بالدليل والحجة، وكان لا بد له في هذا الطور من معلم ومرشد كما في

الأطوار الأخرى أرسل الله تعالى إليه رسولاً يهديه إلى طرق النظر والاستدلال،

ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى، وأن لا يأخذ شيئًا إلا بدليل

وبرهان يوصل إلى العلم القطعي فيما لا بد فيه من القطع، وإلى الظن الغالب فيما

تقوم المصلحة فيه بالاكتفاء بغلبة الظن، وكانت عمدة هذا الرسول عليه الصلاة

والسلام في الاستدلال على نبوته ورسالته نفسه وما جاء فيه من النور والهدى

كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب بما يبديه من العلم والعمل الناجح

فيها.

قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) فتحداهم في الآية بالإتيان بسورة هادية للناس كسور القرآن من

أميٍّ لم يتربَّ، ولم يتعلم شيئًا مثل النبي الذي جاء به، وقال تعالى: {يس *

وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يس: 1-4)

استدل بالقرآن الناطق بالحكمة، وبقيام من جاء به على صراط الاستقامة على أنه

مرسل من ربه لبيان الحق وهداية الخلق، وقال جل ذكره: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ

مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) احتج ههنا بنوع

من أنواع علوم القرآن وهو بيان سيرة المرسلين وما في صحفهم من النور والفرقان

وهذا شيء لم يكن يعرفه هو ولا قومه من العرب كما قال سبحانه بعد ذكر قصة

نوح {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا

فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ

الكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يُؤْمِنُونُ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا

إِلَاّ الكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَاّرْتَابَ

المُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَاّ

الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا

نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً

وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (العنكبوت: 47-52) .

سبق هذه الآيات الأمر بالإيمان بما أنزل على الأنبياء السابقين وأشار بقوله:

(وكذلك) إلى أن إنزال الكتاب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو من جنس

الإنزال على من قبله، وفي هذا حجة على أهل الكتاب، وبيَّن أنه لا يجحد بآيات

الله التي نصبها على صدق الرسالة إلا الذين صار الكفر صفة من صفاتهم الراسخة

وقفَّى هذا ببينات آية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنها كتاب العلم والهدى

من الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، وكون الكتاب بيِّن الصدق قاطع البرهان ناصع

البيان بالنسبة لمن أوتي العلم، ورزق الفهم فصار يميز بين الحق والباطل، ويزيل

بين النافع والضار، وإذا كان كذلك فلا ريب أنه لا يجحد به إلا المتوغلون في ظلم

النفس، العريقون في مكابرة العقل والحس، ثم ذكر طلب هؤلاء الكافرين بالنعم،

الخافرين للذمم، آية كونية آفاقية كالآيات التي خوفت بها الأمم من قبلهم حتى

انقادت واستسلمت، أو أُخذت وأُهلكت، وأمر نبيه بأن يجيب هؤلاء الأغبياء بأن

الآيات عند الله لا في أيدي الأنبياء، وأن حكمته تعالى في تربية الإنسان، اقتضت

بأن يكون هذا الطور طور البيان، وأنه صلى الله عليه وسلم ليس إلا نذيرًا مبينًا،

وهاديًا أمينًا، ثم نبههم تعالى على أن آيته - وهو النبي الأمي - كتاب يشتمل على

الرحمة التي تصلح بها قلوب العالمين، والذكرى التي تُزع النفوس عن الشر

وتحملها على الخير، بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين، ويحق الشقاء على

الجاحدين المعاندين، ثم أمره الله تعالى أن يكتفي بشهادة الله في كتابه بينه وبينهم،

حيث أقام الحجج البالغة على حقية ما جاء به وبطلان ما هم فيه، وبيَّن وهو عالم

الغيب والشهادة أن العاقبة الصالحة للذين يتقون {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ

أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (العنكبوت: 52) وكذلك كان، والحمد لله على نعمة

القرآن، وسيأتي تفصيل كون الإسلام برهان على نفسه وصدق من جاء به في

الكلام على رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

م (67) تعزيز الكلام بقول أحد الأئمة الأعلام:

لما ترك المسلمون أخذ الدين بالبرهان، كما يرشدهم إليه القرآن، وتركوا

النظر واطمأنوا لتقليد مَن غبر، صاروا يرتابون بكلام الأحياء، إذا لم يسند لبعض

الأموات من العلماء، وما ذكرناه من التفرقة بين الآية الكونية، والآية النفسية

العلمية، لا يوجد مثله في كتب العقائد المتداولة التي لم تنشر إلا والعلم قد طُوي

بساطه، والفهم قد انطمس صراطه، وصار الحق يُعرف بالرجال، والرجال

تُعرف بالموت والزوال، فرأينا أن نعززه بكلمة من كلام بعض المتقدمين، رحمة

بالمقلدين المساكين.

عقد حجة الإسلام الغزالي في كتاب (القسطاس المستقيم) فصلاً بيَّن فيه

الاستغناء بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلماء أمته عن إمام معصوم آخر،

ومعرفة صدقه بطريق أوضح من النظر في المعجزات وأوثق منه وسماه (طريق

العارفين) ومما جاء فيه أن مُنَاظِر الإمام الغزالي وهو رجل من الباطنية القائلين

بأن الحق لا يُعرف إلا بوجود إمام معصوم، قال له بعد ما أوضح له الموازين التي

جاء بها القرآن للتمييز بين الحق والباطل والخير والشر ما يأتي مع جوابه وهو:

لقد ساعدتني على أن التعليم حق، وأن الإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم،

واعترفت أن كل واحد لا يمكنه أن يأخذ العلم من النبي صلى الله عليه وسلم دون

معرفة الميزان، وأنه لا يمكنه معرفة تمام الميزان إلا منك فكأنك ادعيت الإمامة

لنفسك خاصة فما برهانك ومعجزتك؛ فإن إمامي إما أن يقيم معجزة، وإما أن يحتج

بالنص المتعاقب من آبائه إليه، فأين نصك وأين معجزتك؟ فقلت: أما قولك:

(إنك تدعي الإمامة لنفسك خاصة) فليس كذلك فإني أرجو أن يشاركني غيري في

هذه المعرفة فيمكن أن يُتعلم منه كما يُتعلم مني فلا أجعل التعليم وقفًا على نفسي،

وأما قولك: تدعي الإمامة لنفسك، فاعلم أن الإمام قد نعني به الذي يتعلم من الله

تعالى بواسطة جبريل، وهذا لا أدعيه لنفسي، وقد نعني به الذي يتعلم من الله بغير

جبريل، ومن جبريل بواسطة الرسول، ولهذا سُمي علي رضي الله عنه إمامًا؛

فإنه تعلم من الرسول لا من جبريل، وأنا بهذا المعنى أدعي الإمامة لنفسي، أما

برهاني عليه فأوضح من النص ومما تعتقده معجزة؛ فإن ثلاثة أنفس لو ادعوا

عندك أنهم يحفظون القرآن فقلت: ما برهانكم؟ فقال أحدهم: برهاني أنه نص

عليَّ الكسائي أستاذ المقرئين إذ نص على أستاذي وأستاذي نصَّ عليَّ، فكأن

الكسائي نص عليَّ، وقال الثاني: إني أقلب العصا حية، وقلب العصا حية، وقال

الثالث: برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين يديك من غير مصحف، فليت شعري

أي هذه البراهين أوضح عندك وقلبك بأيها أشد تصديقًا؟ فقال: بالذي قرأ القرآن

فهو غاية البراهين إذ لا يخالجني فيه ريب، أما نص أستاذه عليه ونص الكسائي

على أستاذه فيتصور أن تقع فيه أغاليط، لا سيما عند طول الأسفار، وأما قلب

العصا حية، فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس، وإن لم يكن تلبيسًا فغايته أنه فعل

عجيب، ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظًا للقرآن؟

قلت: فبرهاني إذن أيضًا أني كما عرفت هذه الموازين فقد عرّفت وأفهمت

وأزلت الشك عن قلبك في صحته، فيلزمك الإيمان بإمامتي كما أنك إذا تعلمت

الحساب من أستاذ حصل لك علم بالحساب، وعلم آخر ضروري بأن أستاذك

حاسب وعالم بالحساب كذلك فقد علمت من تعليمه علمه وصحة دعواه أيضًا في أنه

حاسب، وكذلك آمنت أنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق موسى عليه

السلام لا بشق القمر ولا بقلب العصا حية بمجردهما؛ فإن ذلك يتطرق إليه حينئذ

التباس كثير لا يوثق به، بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل؛ فإن

التعارض في عالم الحس والشهادة كثير جدًا؛ لكني تعلمت الموازين من القرآن، ثم

وزنت بها جميع المعارف الإلهية، بل أحوال المعاد وعذاب القبر وعذاب أهل

الفجور وثواب أهل الطاعة كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن، فوجدت جميعها

موافقة لها في القرآن، ولما في الأخبار فتيقنت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم

صادق، وأن القرآن حق وفعلت كما قال علي رضي الله عنه إذ قال: لا تعرف

الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله، فكانت معرفتي بصدق النبي ضرورية

كمعرفتك إذا رأيت رجلاً عربيًّا يناظر في مسألة من مسائل الفقه ويحسن فيها ويأتي

بالفقه الصحيح الصريح؛ فإنك لا تتمارى في أنه فقيه، ويقينك الحاصل به أوضح

من اليقين بقلب ألف عصا ثعابين؛ لأن ذلك يتطرق إليه احتمال السحر والتلبيس

والطلسم وغيرها. انتهى المراد منه، وقد حكم الإمام بعد ذلك بأن إيمان العوام

والمتكلمين ضعيف لأنهم لم يسلكوا هذه الطريقة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 371

الكاتب: محمد رشيد رضا

شبهات المسيحيين على الإسلام

وشبهات التاريخ على اليهودية والنصرانية

كتبنا نبذة معنونة بهذا العنوان في الجزء الخامس ذكرنا في فاتحتها أننا طلاب

مودة والتئام، لا عوامل نزاع وخصام، وأننا لا نود أن يطعن أحد من المسلمين

والنصارى في دين الآخر؛ لأن إظهار كل فريق محاسن دينه كافية في الدعوة إليه

من غير حاجة إلى الطعن، فقد قام الإسلام بهذه الآداب ونما نموًّا وانتشر انتشارًا

سريعًا لم يُعرف له نظير في التاريخ، وذكرنا أيضًا أن إخواننا المسلمين إذا وافقونا

على استعذاب هذا المشرب؛ فإن المسيحيين لا يوافقوننا عليه؛ لأنهم يؤلفون الكتب

والرسائل، وينشرون الجرائد للطعن في ديننا ويرسلونها إلينا للرد عليها.

وقد ألَّف بعض أدبائهم وعلماء دينهم (نقولا أفندي غبريل) كتابًا جديدًا في

الدعوة إلى النصرانية والطعن في الإسلام يتميز على الكتب الأخرى بالنزاهة والخلو

من الألفاظ التي تدعى شتمًا، وقد أهدانا هذا الكتاب لنتكلم عنه في المنار، ثم لقينا

وطالبنا بأن نكتب رأينا فيه وإن كان إبطالاً لدعاويه، ولقينا أيضًا بعض المبشرين

رفقاء المؤلف، وألح علينا بالكتابة إلحاحًا، وأكد القول بوجوبها تأكيدًا.

لا جرم أن المجادلة هي وظيفة هؤلاء التي يعيشون بها، فالبائع يطلب مشتريًا،

والمجادل يطلب مجادلاً؛ ولكن طلب الرد على الكتاب لم يقتصر على هؤلاء حتى قام

يطلبه منا بعض أصحاب الجرائد من المسيحيين كرصيفنا الفاضل صاحب السعادة

سليم باشا الحموي طلب ذلك منا قولاً وكتابة في جريدة الفلاح الغراء، ولا شك أننا إذا

كلنا لهؤلاء المؤلفين الصاع بالصاع بأن تجاوزنا حدود المدافعة إلى المهاجمة، يرون

شبرنا ذراعًا وذراعنا باعًا؛ فإنه إذا لم يثبت دين الفطرة لا يمكن أن يثبت دين، ولولا

أن الإسلام محجوب عن الأنظار بالمسلمين لأخذ به جميع عقلاء الأوربيين.

يتبين ذلك لمن نظر في الأديان الثلاثة من كتبها المقدسة، مع معرفة تواريخ

الذين جاءوا بتلك الكتب وسيرهم، وقد جرت لنا في هذا الموضوع محادثة مع أحد

علماء التاريخ المسيحيين الجغرافيين الذين لا يتعصبون في الحقيقة لدين، وكان

موضوع الكلام (من هو أعظم رجال التاريخ) وفرضنا أنفسنا غير معتقدين بدين،

فذكرت محمدًا وذكر موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام متفقين على أنهم أعاظم

الرجال، مختلفين في أعظمهم وأفضلهم بحسب حاله وأثره التاريخي.

فقلت إن موسى تربى في بيت أعظم ملك في العالم لذلك العهد على أنه ابنه،

فنشأ في مهد المُلك والسلطان، وأُشرب حب السيادة والحكم، وشاهد سير المدنية

والعلوم الكونية والسحرية، وأبصر فنون الصنائع، وتقلب في ظل القوانين

والشرائع، وأظهرت عزة المُلك ما اقتضاه مزاجه من الشجاعة والإقدام، ثم لما بلغ

أشده وصار لفرعون وآله عدوًّا وحزنًا علم أن له أمة مضطهدة مهانة على ما منحته

من ذكاء الفطرة والجد في العمل وكثرة النسل، فاتخذهم عصبية له، وحاول

تأسيس مُلك نزعت إليه نفسه لما أعطته التربية الملوكية، وظاهر فرعون وجالده

أولاً بالقوة التي كان يُستولى بها على النفوس، ويُستعبد بسلطانها الشعوب، وهي

قوة الأعمال الغريبة التي نشأ في حجرها، ثم خرج عليه بقوة العصبية كما عهد من

كثيرين في ممالك متعددة، وقد أعطانا التاريخ أن من الخارجين من يؤسس إمارة أو

مملكة في داخل المملكة التي يخرج على سلطانها، وموسى قد خرج من مصر

هاربًا بقومه من فرعون، أما عبور البحر وهي الغريبة التي لا يمكن أن تكون حيلة

ولا شعوذة ولا سحرًا ولا صناعة، فقد بيَّن بعض المؤرخين أن بني إسرائيل عبروا

البحر في نهاية الجَزْر من مكان قليل العمق، ولما عبر فرعون بالمصريين كانت

ثوائب المد قد أخذت بالزيادة والفيضان فغرقوا فيها، وقد جرى مثل هذا لنابليون

بونابرت فإنه عبر بعسكره البحر الأحمر في وقت الجزر إلى الشاطئ الثاني، ولمَّا

أراد الرجوع إلى شاطئ مصر كان المد قد ابتدأ، ولولا أنه أمر العسكر بأن يمسك

بعضهم ببعض حتى تغلب قوة المجموع قوة المد لغرقوا أجمعين، وما عدا هذا من

غرائب موسى ففي نقله إشكالات، وفي فهمه شبهات، وفي دلالته على نبوته

وكونه يتكلم عن الله تعالى نظر، فإذا اقتنع به بعض من مضى لا يمكن أن يقتنع به

من حضر، والشريعة التي جاء بها يشهد التاريخ بأن أكثرها موافق لشرائع

المصريين، وما بقي منها فلا يكثر على من تربى مثل تربيته، وأُعطي مثل ذكاء

قريحته.

وأما عيسى فهو رجل يهودي تربى على الشريعة الموسوية، وحكم بالقوانين

الرومانية، واطلع على الفلسفة اليونانية، فعرف مدنية ثلاث أمم كانوا أعظم أمم

الأرض مدنية، وأوسعها علمًا وحكمًا ولم يحمله شيء من ذلك على أن يشرع

شريعة جديدة، ولا أن ينشئ أمة، وإنما كان خطيبًا فصيحًا، وعلق بذهنه شيء

من إفراط بعض فلاسفة اليونان في الزهادة وترك الدنيا بالمرة، وإذلال النفس لأجل

نجاة الروح والدخول في ملكوت السماء، فطفق يخطب بذلك وتبعه بعض الفقراء

الذين وجدوا لهم بكلامه تعزية وسلوى، وطفقوا ينقلون عنه بعض الغرائب كما هو

المعهود من عامة الناس، وأن ما ينقل عنه من ذلك لا يبلغ عشر معشار ما ينقل

عن أحد أولياء المسلمين كالجيلي والبدوي، وأما كونه ولد من غير أب فهي دعوى

لا يمكن إثباتها إلا بثبوت دين الإسلام بالبرهان العقلي، لا بالغرائب وليس ذلك من

موضوعنا الآن، فالمؤرخ إذا أحسن الظن يقول: إن عيسى هو ابن يوسف النجار

زوج مريم، وهذه الزوجية لا ينكرها النصارى. فموسى كان له أثر عظيم؛ ولكن

عيسى لا يعرف له التاريخ أثر يذكر لا في العلم والإصلاح، ولا في المدنية، بل

إن تعاليمه ومواعظه تؤدي إلى فساد المدنية وخراب العمران والهبوط بالنوع

الإنساني من أُفُقه الأعلى إلى حضيض الحيوانية السفلى، لما فيها من تربية النفوس

على الذل والمهانة، والرضا بالخسف والهضيمة، والأمر بترك عمران الدنيا

وترقيتها لاعتقاد أن الجمل يدخل في سم الخياط ولا يدخل الغني ملكوت السموات،

ثم هي من جهة ثانية تعاليم إباحة؛ لأنها تُعَلِّم أن الذي يؤمن بصلب المسيسح لأجل

خلاصه هو الذي يختص بملكوت السماء، وتمحى جميع خطاياه، ومن اعتقد ذلك

يستبيح كل محظور ويتبع هواه، ومن جهة ثالثة نرى هذه التعاليم وثنية؛ لأنها

تأمر بعبادة البشر، وتطفئ نور العقل؛ لأنها تكلفه بأن يعتقد بثبوت ما يجزم بأنه

محال ككون الثلاثة واحدًا، والواحد ثلاثة، وتذهب باستقلال الفكر والإرادة إذ

تجعلها مقيدة بسلطة الرؤساء بمقتضى قاعدة أن ما يحلونه في الأرض يكون محلولاً

في السماء، وما يعقدونه في الأرض يكون معقودًا في السماء.

وأما زعم أن المدنية الأوربية مدنية مسيحية، فهو زعم منقوض بالبداهة؛

لأن هذه المدنية مادية مبنية على حب المال والسلطة والتغلب والعزة والكبرياء

والعظمة والتمتع بالشهوات، والتعاليم المسيحية تناقض هذا كله بإفراط بعيد، وما

وصل الأوربيون إلى ما وصلوا إليه إلا بعد ما نبذوا التعاليم المسيحية ظهريًّا، ولو

أن هذه المدنية من أثر التعليم المسيحي لنشأت عنه بقرب نشأته؛ ولكنها لم تظهر

إلا بعد بضع قرون من ظهوره، والنتيجة أن التاريخ لا يعرف للمسيح أثرًا في

الكون يجعله في رتبة الشارعين والمصلحين في الأمم.

وأما محمد عليه الصلاة والسلام فقد تربى يتيمًا في أمة وثنية أمية جاهلية،

ليس لها شرائع ولا قوانين ولا مدنية ولا وحدة قومية ولا معارف ولا صنائع،

وكان أعظم ارتقاء بلغته في عهده أن وجد بضعة نفر تعلموا الكتابة بسبب اختلاطهم

بالأمم الأخرى، ولم يكن هو منهم ولا السابقون إلى الإيمان به، ومع هذا أوجد أمة

ودينًا وشريعة وملكًا ومدنية في مدة قريبة لم يعهد مثلها في التاريخ.

علَّم الناس أن يبنوا عقائدهم على قواعد البراهين العقلية، وأن تكون آدابهم

وأخلاقهم على صراط الاعتدال، وأن يقوموا بحقوق الروح والجسد، وأن يراعوا

سنن الله في الخلق والأمم، وبيَّن لهم العبادات بآثارها في تزكية الروح وتطهيرها

ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما اشتُرط فيها من الخشوع

إلخ،

وأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وجعل المعاملات الدنيوية دائرة على درء

المصالح وجلب المنافع، وأطلق لهم حرية العقل والفكر، وساوى بينهم في الحقوق

لا فرق بين الملك الكبير والصعلوك الفقير ولا بين الرجل والمرأة، وأعطى المرأة

حرية التصرف في أملاكها، ووضع حدودًا عادلة لتحكم الرجال في النساء، وللرق،

ونقَّح نظام الحروب فمنع البغي والتمثيل بالقتلى وقتل من لا يقاتل كالنساء والشيوخ

والأطفال ورجال الدين

إلخ ما ذكرته لذلك المؤرخ المحقق، وسأفصل القول فيه

في دروس التوحيد الآتية إن شاء الله.

وقد أذعن لي ذلك الفاضل بأن محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم رجال

التاريخ، إلا أنه احتج عليّ بسوء حال المسلمين، وكونهم على خلاف ما ذكرت في

وصف الدين الإسلامي، فقلت له: إن بين الإسلام والمسلمين فرقًا كالفرق بين

المسيحية والمسيحيين أو أبعد، وحسبك أن المدنية الإسلامية ما وجدت إلا بالدين

الإسلامي - راجع مقالات مدنية العرب في مجلد المنار الثالث - وكانت تتقلص

عنهم كلما ابتدعوا في الدين، وانحرفوا عن صراطه حتى وصلوا إلى ما هم فيه

الآن، وأما المدنية الأوربية التي يسميها بعض الناس مسيحية فلم توجد إلا بعد ما

اتصل أهل أوربا بالمسلمين، وأخذوا كتبهم وترجموها وهم يزدادون ارتقاء في

مدنيتهم كلما ازدادوا بعدًا عن المسيحية، فقال: هذا مبالغة في الجانبين. وانفض

المجلس.

بقي أن ما تقدم من الشبه على نبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما الصلاة

والسلام يتناول أيضًا نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لا لأنه يرد على

دينه مثلما يرد على المعروف من دينهما، بل لأنه شهد لهما بالنبوة والهداية الإلهية

وقد ذكرنا الجواب عن ذلك في نبذة (شبهات المسيحيين على الإسلام) التي

نُشرت في الجزء الخامس من هذه السنة، ولو أنصف رجال الدين من اليهود

والنصارى لتمسكوا بذلك الجواب واتفقوا عليه؛ لأنه لا يدفع عنهم اعتراضات

علماء التاريخ والآثار العادية والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي والفلسفة وعلم الاجتماع

وعلم النفس إلا هو، وأما الجواب عن آية انفلاق البحر لسيدنا موسى فهو أن ما

ذكره بعض المؤرخين من حديث المد والجزر فهو احتمال يرجح عليه أخبار الوحي

الثابت بالبرهان الحقيقي الذي بيَّناه في درس التوحيد قبل هذه المقالة، وكذلك يقال

في سائر الآيات وما يرد عليها من الشبهات، وسنجيب عما ذكرناه من اعتراض

التاريخ على التعاليم المنسوبة إلى المسيح.

وحاصل ما نقوله الآن: إن إثبات الدين إما أن يكون بنقل الآيات الكونية

الخارقة للعادات المعروفة للناس، وفيه النظر الذي تقدم في درس التوحيد، وهو

أيضًا مشترك بين الجميع؛ لأن كل أمة تنقل عن شارعها مثل ذلك، فما يقال في نقل

هؤلاء يقال في نقل الآخرين، على أن نقل المسلمين أقرب إلى الصحة من نقل

غيرهم لوجوه كثيرة، منها أن العلم والتأليف والرواية اللسانية معروفة فيهم من

القرن الأول إلى الآن، ومنها أنه لم يغلب عليهم عدو حرَّق كتبهم وطمس معالم

الثقة بدينهم وتاريخهم، ومنها أنهم لم يُضطهدوا ويضطروا لكتم دينهم، فيقال إن

التلاعب حصل في إبان الكتمان، ومنها أنهم هم الذين اخترعوا وضع التاريخ

للرجال لأجل معرفة صحة الرواية من عدمها، ولم يكن لليهود ولا للنصارى مثل

هذه المزايا، وإما أن يكون بالآيات النفسية والعلمية وهذا لا يظهر في نبي كظهوره

بالنسبة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم كما بيناه في درس التوحيد المنشور في هذا

الجزء، وسنزيده بيانًا فيما سيأتي كما وعدنا، وحينئذ يكون البرهان الصحيح في

هذا الوقت على نبوة موسى وعيسى عليهما السلام شهادة نبينا لهما، وإن كان الله

تعالى أعطاهما في زمنيهما آيات تناسب حال الأمم فيهما، ولا يمكن أن تثبت الآن

بنفسها، ولذلك نرى كل من يتعلم ويعقل من المنتسبين إليهما ينبذها ظهريًّا،

ويحسبها شيئًا فريًّا، ولو عرف الإسلام حق المعرفة لقبله وقبلها على وجه معقول.

إذن: إن أفضل خدمة للدين المطلق أن يُعرف الإسلام حق المعرفة؛ لتعرف

اليهودية والنصرانية أيضًا على الوجه المقبول، وذلك بالتوفيق بين التوراة

والإنجيل والقرآن، كما وفقنا في الجزء الخامس لا بالاستدلال بالقرآن على صدق

التوراة والإنجيل، ثم الاستدلال بما يسمونه توراة من تلك الكتب الكثيرة التي أُلِّف

أكثرها بعد صاحب التوراة وبالكتب والرسائل الكثيرة التي يسمون مجموعها إنجيلاً

على تكذيب القرآن؛ لأن هذا الصنيع يعود على الموضوع بالنقض فيبطل الدليل

نفسه، وأقل ما يقال فيه (تعارَضا تساقَطا) وتكون النتيجة إبطال الجميع، أي أن

القرآن هو الدليل على صحة التوراة والإنجيل، والقرآن ليس من الله - بزعمهم -

فشهادته غير حق، ودلالته غير صحيحة، وسنعود إلى الكلام على كتاب (أبحاث

المجتهدين) وعلى جريدة بشائر السلام بما يؤلف بين الأديان، ويدعو إلى إزالة

الأضغان.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 379

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

جاء في جريدة (الحاضرة) التونسية الغراء تحت هذا العنوان ما نصه:

أخبرنا في العدد قبل هذا بوقوع الامتحان السنوي للمترشحين من طلبة الجامع

الأعظم لشهادة التطويع في العلوم التي حواها برنامجه، ووعدنا بإفاضة القول

والبيان في هذا المبحث العظيم الشأن، والآن وفاء بالوعد نقول:

إن ما للجامع الأعظم أم المدارس ودار العلوم الإسلامية، وكعبة الطالبين

بالمملكة التونسية وسائر الأقطار الشمالية الأفريقية من الأهمية يجعل كل فرد من

أفراد الجامعة الإسلامية دبت فيه بقية من الغيرة والحمية لا يفتر عن تحويل أنظاره

إلى ما فيه تعزيز شأنه، والاهتمام برفع مناره وتدعيم أركانه؛ ولذلك كانت دار

العلوم تلك محط رحال الأمة، ومتجه عناية الحكومات المتداولة على هذه الديار

حرصًا على ما يجتنيه شبان الطلبة من رياضها من الثمار المهمة، ولما أن الجامع

الأعظم أصبح من عهد قديم مستودع أسرار العلوم، وينبوع التحصيل في المنطوق

والمفهوم، فلا غرو أن اتجهت لعمرانه الأنظار، وأحله عقلاء الأمة وفطاحل

الرجال محلاًّ قصيًّا من الإجلال والاعتبار.

إذا تمهد ذلك نقول: لا مراء في أن المرء إنما يسعى جهده ويكابد الليالي

ويوالي الجد لغاية في النفس تنطبع في مرآة العقل، فتبقى به مدى الكد ثابتة

مرسومة يكرس لنيلها أوقاته، ويبذل في سبيل تحصيلها أنفس أنفاس حياته، فما

هي الغاية لطلبة العلم بجامع الزيتونة من يوم ولوجهم بابه وتراميهم على موارده

وأعتابه.

الغاية من ذلك ما جرت به سنن السلف من الجمع بين المنافع الدنيوية

والمثوبة الأخروية التي اقتضتها صبغة العلوم الدينية، ولهذه المميزات المتعارفة في

كل مدرسة خاصة بعلوم الدين كان أمراء هذا القطر يمدون الجامع برعاية من

صنوف العلماء القابضين على أزمة التدريس، ويفيضون عليهم من صنوف الإكرام

والعناية ما هو حقيق بهم وبأمثالهم، وما هو متعارف في سائر الممالك المنتظمة،

ولتلك الصبغة أيضًا يقتحم الشبان مشاق السفر وضروب التكاليف؛ ليكرعوا عن

مناهل التحصيل ما يعزز جانب العلم ويؤيده تأييدًا، ويوفرهم أجر الأخذ بناصره

وإعلاء مناره، ومن هذه الحيثية كان المنظور فيه في هذا التعليم الوجهة العلمية

بمعناها الأخص، أما المنافع الذاتية التي هي الشطر الثاني من تلك الغاية، فيراها

الطالب المنقطع لقراءة العلم من لوازم التحصيل والتهذيب، ومن الفوائد المنبعثة

طبعًا عن أشعة نور العرفان حتى أنه كان الفقيه البارع في علوم الشرع ليأبى أحيانًا

أن يقبل الخطة الشرعية - وأن كان من أهلها - حبًّا بتوسيع نطاق الاستكمال الذي

كان يراه غاية الآمال، ولكي لا يشغله عن ذلك شاغل الوظيفة، وهو الذي ينبغي أن

تتوجه إليه همم الرجال، وبذلك شعشعت أنوار العلوم، واستنارت بمشكاتها عقول

الطلبة لانحصارهم بين قراءة وإقراء، وإفادة واستفادة، فشيوخ الطلبة العليا من

أساتذتنا ما كانوا يأنفون من استكمال التحصيل في العلوم العليا كالفلسفة ومصطلح

الحديث والتفسير بالحضور لحلقات دروس جهابذة العلماء الأعلام، علمًا منهم أن

التقاعس عن الاستكمال نقيصة، والاعتماد على ما في الجراب خراب.

وهؤلاء طلبة الجامع الأعظم قد نقضوا بيومنا هذا تلك العهود، وخالفوا تلك

السنن حتى اضمحلت، أو كادت تضمحل آثار بعض العلوم، وأصبحت دروسها

دارسة كالتفسير والمعاني والبيان والأصول فما هو السبب؟ وإذا اتضحت الأسباب

والعلل فما هو الدواء لملاقاة هذه الحالة يا ترى؟

مَن أمعن النظر في أحوال الجامع الأعظم، وفي الأدوار التي تقلب فيها من

منذ عشرين سنة رآها منحدرة مع تيار التدلي المُشْعِر بتقويض أركان الهيئة العلمية

لأسباب، منها العدول عن ما جاء به نظام الجامع سنة 1291 القاضي بإقراء بعض

علوم استكمالية نافعة كالحساب والهندسة والتاريخ، وعدم التفات نظارة الجامع

لاستبقائها وإحيائها عملاً بنص القانون، الذي اقتضى إلحاقها بالترتيب العام لتحقق

النفع بها، فَعُدَّ ذلك التغافل قصورًا أو تقصيرًا من المنوط بهم إجراؤه، وعيبًا

وخللاً في مجموعة التعاليم والدروس، فكان ذلك من أسباب تغيير وتنقيح القانون

على معنى الإحياء لفنون اقتضت خطة الترقي مزاولتها، فلا يعقل في عصرنا هذا

أن تكون مدرسة كلية جامعة كالجامع الأعظم خلوًا من علم الحساب الذي يحتاجه

القاضي والفرضي والعدل حتى السوقة في معاملاتهم اليومية، فضلاً عن المناصب

الشرعية، فإذا فقد تدريسه بالجامع الأعظم الذي به يبتدئ الطالب دروسه غالبًا

وينتهي ضاعت عليه الفرصة لتحصيله، وربما تعطلت من أجل ذلك أو ضاعت

حقوق على أربابها كالماسح الذي لا يحسن المساحة إذا قسم أرضًا بين شركاء كانت

قسمته ضيزى غير عادلة، وعليه فنعت الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ

بالاستكمالية فيه تساهل يضيق المقام عن توضيحه؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به

فهو واجب، وأنت على علم من أن الحساب والجغرافية والتاريخ من متممات تربية

الطالب وتفقهه في أمور جامعته، ولولا ذلك لما اندرجت بمعلفة العلوم (كذا) فهي

بضاعتنا ردت إلينا.

ومن تلك الأسباب اغترار الطلبة بالإجازات والألقاب، وظنهم أن مَن حصل

على إجازة التطويع على مقتضى القانون انخرط لا محالة في سلك العلماء، ولو

كانت بضاعته من العلم مزجاة، أو كان لا يبلغ العشرين من عمره، فإذا زُجَّ به في

حلقة الامتحان، وفاز بتلك الشهادة بين الأقران، نبذ القراءة ظهريًّا، فتأهب لأخذ

مركزه من الهيئة التدريسية بتغيير سيره: يمشي في الأرض مرحًا مع تقيف وبطر

وتعبس وتقطب وتكهن وترهب، كأنما خُلعت عليه من العلوم خلعة الوحي الإلهية،

فيأنف من إلحاقه بالطلبة؛ ولذلك لا يحمل نفسه الأمَّارة بالسوء على استكمال

التحصيل، الذي هو بمعنى الكمال كفيل، فإذا انتصب للتدريس كان يخبط خبط

عشواء فلا يفيد الجليس، ولا يذكرنا بما عُهد في أمثاله من نثر الدر النفيس.

والذي يتراءى لنا من التمعن في هذه الأحوال، هو أن الداعي لهذه الحالة

(أولاً) عدم كفاءة القرار الصادر في شروط التطويع والتدريس، فقد اقتضى أن لا

يحصل على رتبة التطويع إلا من حصل على 45 عددًا في العلوم التي تُقْرَأ بالجامع

الأعظم، منها 24 عددًا وهو ما يقارب النصف تعتبر للعلوم التكميلية، بحيث كانت

هذه الموازنة راجحة على العلوم المقصودة بالذات من نظام التدريس مانعة من النبغ

فيها، و (ثانيًا) ما اعتاده المترشحون من تلخيص - إن لم نقل حفظ - أبواب الفقه

والنحو بحيث تعلق أمهات المسائل بأذهانهم، حتى إذا ما صادفهم بعضها في القرعة

فازوا وشعشعوا كشعلة من النار تهب عليها ريح فتثوى بحيث كان ذلك النجاح

الكاذب من باب التغرير بالنفس مانعًا من الترقي إلى درجات الكمال التي هي غاية

الآمال.

أما المبحث الأول فبيانه أن نصاب الأعداد المطلوبة لقبول التلميذ في رتبة

التطويع صورته والحالة هاته:

8 المقالة الفقهية إنشاء

...

6 سؤال الحساب

8 الدرس الشفاهي إلقاء

...

6 سؤال الهندسة

2 سؤال في الفقه

...

... 6 سؤال الجغرافية

3 سؤال في النحو

...

6 سؤال التاريخ

3 سؤال في الصرف

...

ــ

3 سؤال في البلاغة

...

24

3 سؤال في المنطق

...

ــ

ــ

...

...

... 54 جملة الأعداد

30

...

...

...

وأما المبحث الثاني فقد أنكر جمهور المشايخ المدرسين الواقفين على حقائق

التعليم تلك الطريقة التي لا تخول الطالب ملكة حقيقية في العلوم المطلوبة منه،

فالملكة عبارة عن مقدرة التلميذ على إدراك وفهم أو حل المسائل الفقهية أو غيرها

بكمال باعه، ومزيد اطِّلاعه ولا يخفى أن هذه الدرجة والنتيجة لا تُنال بالبراعة في

مجموعة العلوم وسائل كانت أو مقاصد، لا بحصر الجهد في دائرة معلومة من

المواد والآداب إذا صادفها الطالب قبل عالمًا متطوعًا، وإن أخطئ المرمى أجل

لفرصة أخرى فهو كراكب لجة إما وإما، ولا يخفى ما في هذه المخاطرة من

المخاتلة والتحيل لحمل النفس على غرورها والهيئة العلمية على التأخر، فالذي

ينبغي في ملاقاة هذه الحالة تنقيح القرار المشار إليه بأمور، (أولها) : أن لا يُقبل

في الامتحان من حصل على أقل من نصف الأعداد المشترطة للمقالة الفقهية،

ونصف العدد الذي جُعل للتدريس حيث كان عليهما مدار تحصيل الطالب (ثانيًا) :

أن ينقص من الأعداد المشترطة في الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ نصفها

واعتبار ذلك في سؤالات تقع في علم الأصول وعلم التوحيد، حيث كانت هذه

العلوم أعلق بموضوع التدريس، وأكثر مساسًا بالمقصود منه حتى لا تؤدي الإجازة

التي يحصل عليها التلميذ إلى جهله بما هو المقصود الأصلي من مساعيه، (ثالثًا) :

أن لا يُقبل في الامتحان من الطلبة إلا من أتى على كتب المرتبة الوسطى جميعًا

وهي الكتب المبينة بترتيب الجامع الأعظم الواقع سنة 1891: (رابعًا) : أن يناط

ترشيح الطلبة لهذا الامتحان بلجنة مؤلفة من المشايخ المدرسين العارفين بأحوال

التلامذة العلمية، وما تقتضيه الإجازة من شروط الأهلية والاستحقاق بحسب نظر

أولئك المشايخ وأمانتهم وديانتهم، وما تستدعيه من التحري الباعث للهمم على طلب

الكمال حتى يأمن ناموس التحصيل من آفات الصدف (خامسًا) أن يحجر على

من قبل في درجة التطويع الإقراء والانتصاب للتدريس ثلاثة أعوام في الأقل يتمكن

فيها من استكمال نصاب التدريس بالإقبال على علوم ربما لم يكن له إلمام بها، أو

من التطلع في العلوم التي لم يحصل منها إلا على معارف طفيفة، فيقوى ساعده

وتتوفر فائدة العلم ويتحقق النفع به حسًّا ومعنى.

هذا ما اقتضى المقام إيضاحه في هذا المبحث الدقيق والموضوع الجليل،

نعرضه على أنظار أرباب الحل والعقد، وأفهام السادة العلماء الأعلام، وأذواق

طلبة العلم على معنى خدمة ركاب العلم، وتعزيز جانب التحصيل الذي هو بكل

سعادة كفيل حرصًا على ناموس العلم وعمران الجامع الأعظم حتى يتخرج منه

رجال نهجوا على سنة السلف في اكتساب الكمال، ورفع منار المعارف في

الاستقبال، ونرجو من عنايتهم أن يرمقوه بعين الاعتبار، إعلاء لشأن الخدمة

العلمية في هذه الديار، وتخليدًا لجميل الذكر وحميد الآثار، انتهى.

(المنار)

إن ما يشكو منه عقلاء القطر التونسي بشأن جامع الزيتونة هو عين ما يشكو

منه علماء القطر المصري وغيرهم بشأن الجامع الأزهر، فَداء المسلمين واحد في

كل البلاد، أصلح الله الجميع، والتطويع هو الشهادة الابتدائية في عرفهم.

_________

ص: 387

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مدرسة خليل أغا

احتفالها السنوي

خليل أغا الحبشي يُعَدُّ في هذه البلاد من أشهر الرجال، وهو مولى أمين

بك التركي، ثم صار باش أغا والدة الخديوي إسماعيل باشا، والذي جعله من

أشهر الرجال - بل ومن أعظمهم - المدرسة التي أنشأها ووقف عليها أملاكه الواسعة

التي يمكن بريعها الكثير أن ترقى المدرسة عن الابتدائية، فتكون كلية جامعة تنبع

منها حياة العلوم كلها، والمدرسة الكلية أكبر حاجات المسلمين في هذا القطر، ولم

يبلغوا في الارتقاء مبلغًا يفي بهذه الحاجة، فقد تقاصرت عنها همم أفراد أمرائهم

ومجموع أغنيائهم. وإن الأمراء لينفقون على اللذات البهيمية، ويخسرون في

المضاربات وسائر أنواع الميسر ما يكفي لإنشاء عدة مدارس كلية، ولا يبعد أن

تكون حياة ذلك العبد من خدم نسائهم خيرًا للقطر وأهله من حياتهم أجمعين، وأما

الأغنياء فينفقون في كل عام على الأفراح والمآتم، وعلى تقليد الأمراء في الشهوات

والمآثم ما يسد بعضه مثل هذه الخلة أيضًا؛ ولكن مجموعهم يُفَضِّل الحياة

البهيمية على الحياة الإنسانية.

احتفل ديوان الأوقاف بمدرسة خليل أغا هذه الاحتفال السنوي المعتاد (في

يوم السبت 19 ربيع الأول الماضي) بحضور جمهور عظيم من العلماء والوجهاء

في مقدمتهم أصحاب الفضيلة قاضي مصر ومفتيها، وشيخ الجامع الأزهر، وصاحب

السعادة عبد الحليم باشا عاصم مدير الأوقاف العمومية، واُفتتح الاحتفال بترتيل أحد

التلامذة آيات من أول سورة الفتح ترتيلاً أخذ بمجامع القلوب، وتلاه طائفة من

التلامذة بإلقاء أنشودة في مدح العلم والثناء على مؤسس المدرسة رحمه الله تعالى،

والدعاء لمولانا السلطان الأعظم ومولانا الخديوي المعظم، وكان الإنشاد بالتوقيع

الموسيقي فأثر سماعه مع مشاهدة النظام العسكري في التلامذة تأثيرًا حسنًا وقام بعد

ذلك الفاضل الهمام حسن بك صبري مفتش المدرسة، فذكر ملخص تاريخ المدرسة

وما زاده فيها ديوان الأوقاف من الترقية، ومنه أنها أُسست سنة 1290هـ واشترط

أن يكون التعليم فيها مجانًا، وأن يعطى مئة يتيم من تلامذتها كسوتين في السنة،

وعشرة قروش في كل شهر وأدوات الدراسة، ويعطى مئتان من غير الأيتام كسوة

واحدة في السنة وأدوات التعليم، وأن صافي دخلها الآن يزيد على ثلاثة آلاف جنيه،

ثم طفق التلامذة يتحاورون مثنى وثلاث ورباع وخماس في فوائد التعليم ومهمات

مسائل الدين، ابتدأ أحدهم بتلاوة آيات تشتمل على النهي عن الشرك وموبقات

المعاصي، وتأمر بالعدل والقسط في الموازين وغير ذلك من الفضائل، وتلاه آخر

بآيات تناسبها، فتأثره آخر بآيات تنطق بإجابة الدعوة والدعاء بالرحمة، ثم عاد

الأول وتكلم بلسان التلامذة الصغار فأبان أن أمرهم ليس بأيديهم، وأنهم قذف بهم إلى

المدارس التي قُطع منها حبل الشرع، فتلاه الثاني بتلاوة آيات تبشر من آمن وعمل

الصالحات بسعادة الدنيا والآخرة، وتنذر من أعرض عن هدى القرآن بضنك العيش

في الدنيا، وعدم الاهتداء لطريق النجاة في الآخرة، فتعقبه الثالث يأمر بتسكين

الروع، والأخذ بأسباب التفقه في الدين والتعاون عليه

إلخ.

ثم نزل هؤلاء عن موقف التلامذة في الاحتفال، وتلاهم أربع فرق من

التلامذة، كل فرقة وقفت بترتيب ونظام تحت أَمرة من أمرات أربع مكتوب على

إحداها الصلاة، وعلى الأخريات الصوم والزكاة والحج، وتحاورت كل فرقة في

أسرار ركن من هذه الأركان الإسلامية بأحسن كلام، أعطى العِبْرَة وأخذ العَبْرَة إلا

أصحاب القلوب القاسية من ذكر الله (أولئك في ضلال مبين) وإذا وجدنا سعة في

بعض الأجزاء التالية؛ فإننا ننشر فيها ما قالوه ليكون نموذجًا لسائر المدارس

ومعلمي الدين، وبعد ذلك أُعيد النشيد الأول وخُتم الاحتفال بترتيل آي القرآن

العظيم، وكانت الموسيقى تعزف بأنغامها في كل فرصة بين قول وآخر، وكان

النظام كاملاً، والفضل في هذا لصاحب العزة حسن بك صبري، كما أن الفضل في

تلك المعارف الدينية للأستاذ الفاضل الشيخ حسن منصور الذي خسرته مدارس

الحكومة بقبول استقالته؛ ولكن لم تخسره مدارس الأمة ولله الحمد.

وقد انصرف المدعوون بعد أن تناولوا طعام الغداء النفيس، الذي عَدَّه لهم

ديوان المعارف عملاً بشرط الواقف رحمه الله تعالى.

_________

ص: 393

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي

جرت العادة بأن أصحاب الجرائد يزيدون في تحسينها كلما تسنى لهم سبب

من أسباب الترقي، ويزيدون مع ذلك قيمة الاشتراك فيها، ومنهم من يزيد في قيمة

الاشتراك من غير أن يزيد في التحسين، إذا علم بالاختبار بأن كسبه لا يفي بتعبه

وقد خالفنا نحن سنة القوم فزدنا في السنة الثالثة المنار تحسينًا في الورق والطبع

والتجليد، كما زدنا في مادته ولم نزد مع ذلك شيئًا في قيمة الاشتراك، وقد زدنا

مادته في هذه السنة الرابعة أيضًا، وأبقينا قيمة الاشتراك على حالها، على أن

بعض أنصار العلم رَغَّبوا إلينا أن نزيد فيها، وفي مقدمة هؤلاء الخطيب المحامي

الشهير عزتلو إسماعيل بك عاصم؛ ولكن من الناس من يصعب عليه أن يدفع قيمة

الاشتراك الأصلية وإن تحسنت المجلة وزادت نفقاتها، فيطلب الموظف والتاجر

والأستاذ وناظر المدرسة أن يعاملوا معاملة طلاب العلم الفقراء الذين لا كسب لهم،

فيدفعوا أربعين قرشًا، وقد علم بهذا بعض فضلاء أساتذة المدارس، فأشاروا علينا

بأن نساوي بين الناس كلهم في الاشتراك، إلا من نعلم فقره من طلاب العلم

بالاختبار؛ فإننا ننقص له من القيمة ما تسمح به النفس، فرأينا هذا من الصواب،

وأبطلنا امتياز التلامذة والطلاب، فمن شاء فليقبل ومن شاء فليرفض، وللمشتركين

القدماء من هؤلاء أن يدفعوا اشتراك السنة الحاضرة 40 غرشًا.

ثم إننا كنا أعلننا أننا نوزع مئات من الأعداد على الفقراء من طلاب العلم

الذين يروجون المنار، بعضها مجانًا وبعضها بنصف القيمة، وأن ذلك بمساعدة

أحد الفضلاء؛ ولكن هذه المساعدة قد بطلت من أول هذه السنة للمنار لعذر اقتضى

ذلك، ولم نر أحدًا ممن أُعطي المنار مجانًا سعى بترويجه، فاضطررنا لمنعه عنهم

إلا نفرًا من الفقراء الأذكياء الذين ينشرون مسائله، ويدعون إلى ما يدعو إليه.

ثم نُعْلِم القراء الكرام أن الجزء الحادي عشر سيصدر - إن شاء الله تعالى -

في غرة جمادى الأولى، والغرض الأول من هذا الإرجاء أننا نقصد أن يكون أول

سنة المنار شهر محرم الحرام، وهذا لا يكون إلا بتأخير عددين آخرين عن

موعدهما أيضًا، وسيكون ذلك بالتدريج لئلا يغيب المنار عن القراء زمنًا طويلاً.

ونرجو من غيرة المشتركين الكرام، لا سيما الذين عليهم بقايا من السنة

الثالثة، أو ما قبلها أن يتكرموا بإرسال القيمة حوالة على إدارة البريد، ونخص

بالذكر أهل الأرياف، وأهل تونس والجزائر ومراكش، ونحمد الله أن أكثر

المشتركين من كرام الناس وفضلائهم، وما كان يخطر بالبال أن بعضًا من الناس

الذين لا ذمة لهم ولا أمانة يشتركون بمجلة المنار، ثم يأكلون حقها؛ ولكن ذلك قد

كان وربما تضطرنا إلى ذكر بعضهم حوادث الزمان.

_________

ص: 396

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية ندوة العلماء في الهند

وعَدْنا في الجزء السابع بأن ننشر فيما يليه خطبة وجيزة لأحد أصدقائنا من

علماء بمبي، ولم تسمح لنا الفرصة إلا في هذا العدد، قال حفظه الله بعد البسملة

والحمدلة والصلاة:

(وبعدُ فلا يخفى على أخيار الأعلام من قادة الإسلام، وسادة دين خير

الأنام عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أن النداء الذي تنادي به ندوة العلماء - أنجح

الله مساعيها، وأصلح مراعيها - هو نفس النداء الذي يهتف به الإسلام منذ

قرون في جميع أقطار الأرض حيثما تتلى مثاني القرآن، وتُعلى شعائر الإيمان،

وأينما تولوا فثم وجه الله، وليس لندوة العلماء، أو لأية جمعية تشاركها في رابطة

الإسلام والغيرة والحمية الدينية إلا مقام مبلغ نداه، وحاكي صداه، اقرءوا الجرائد

والمجلات الإسلامية، وأصغوا إلى الأندية القومية، هل تسمعون صوتًا غير ما هو

بمنزلة القول الشارح لدعاء الإسلام وإن اختلفت العبارات، وتنوعت الاعتبارات،

فإن هي إلا تفاسير كلمة واحدة (الإصلاح الإصلاح يا أهل الصلاح والرشاد، لما

ظهر في البر والبحر من الفساد) ولم يزل الإسلام يدعو أهله بهذا الدعاء من يوم

زالت شمس دولته عن خط نصف نهارها، وأخذت هجمات الدوائر تنقص أرض

شوكته من أطرافها، وهبت دبائر الأدبار، فذهبت بمعظم الآثار، والبقية على

جرف هارٍ، فإنا لله.

كأن لم نكن فاتحي مصر قهرًا

وأسبانيا ثم ملك الهنود

ولم تك راياتنا خافقات

على كل بر وبحر مديد

ولم نملأ الأرض علمًا ونورًا

بإعلاء دين الرسول الأحيد

زرعنا الثرا إذ أسلنا

بها نفس كل كميٍّ شهيد

فواخيبتا حين حان الحصاد

غفلنا وراح العدى بالحصيد

وما زاد ما زاد في عدّنا

سوى نكسنا في انتقاص مزيد

ولا خير في عِدة لم يكن

لها عُدَّة ترتمي عن حدود

وحيث اشتد صياح الإسلام، بدعائه من سنين وأعوام، فربما أيقظ النُّوَّام،

ومنع السِّنة عن أعين النبهاء الأعلام، وحنَّت به قلوب الأحياء، لإحياء الربوع

والأحياء.

فيا رجال الأعيان وأعيان الرجال جُمع شملكم، وشمل الجمعَ فضلُكم أجيبوا

داعي الله، وشمِّروا عن سوق الجد لامتثال منطوق دعاء الإسلام ومفهومه،

وانتصبوا بصميم العزائم لمقاومة طوارق الأحداث، وأقيموا الوزن بالقسط لتثقيف

الأحداث، واتركوا مشاجراتكم التي أذهبت الأصول وأفسدت الفروع، وأذهبت

ريحنا وإلى الله المشتكى، أفلم يأن لكم أن تنتبهوا فَتُنَبِّهُوا، وتستريحوا فتريحوا من

رمضاء الفتنة الشعواء، التي تلعب بالبصر فيخبط خبط عشواء، وتستظلوا تحت

شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ألا وهو (الوفاق الوفاق) فعضوا

عليه بالنواجذ، وأحيوا به السنن والعلوم، وشقوا به عصا الشقاق المشوم؛ فإنه

أس كل بدعة وفساد، ورأس كل البلايا والأنكاد، ومادة كل شنيعة موخمة الأرواح

والأجساد، هيهات هيهات، لات حين اختلافات، فإلام التقاعد عن تدارك ما فات،

وحتام التناعس عن إعداد أسباب التحرز عما هو آت، ألا فخذوا حذركم،

وأصلحوا ذات بينكم، ووثقوا عرى الإخاء، واستووا على سفينة الولاء، فقد فار

تنور الشقاء، وأمسيتم لتفرق كلمتكم على شفا، فلا حول ولا.

إخواني! ليس هذا أوان القيل والقال، وتوسيع دائرة البحث والجدال،

فاتعظوا وعِظوا، وانشروا لبث النصائح، وحث القرائح، جرائد ومجلات،

فلعمري إنها من أسنى الوسائل لإضاءة النفوس بطرائف المعلومات، وأمضى

الذرائع لإنهاض الهمم القاعدة عن الترقيات، وظني أن بها ترقى من ترقى إلى

أعلى مدارج المدنية والتعليم في ذا العصر المدهش المعقول تجدد علومه وفنونه من

أقوام كانت في زوايا الخمول، ففاقت أقرانها حتى دان لها كل دانٍ وقاصٍ، وهان

لها كل عزيز وقَّاص {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: 6) {وَاتَّقُوا يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ

عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} (البقرة: 48) فرحم الله عبدًا تبصَّر فبصر، وتذكر فذكر،

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا

رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) وارض اللهم عن المؤمنين، وأنزل

السكينة عليهم وأثبهم فتحًا قريبًا، إن الله قريب من المحسنين، هذا والسلام على

من اتبع الهدى، والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه

أجمعين.

...

...

...

...

... ش. ا. ج

_________

ص: 398

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(امتحان التدريس في الأزهر)

بلغنا أن لجنة الامتحان قد غيَّرت منذ أيام طريقة المساواة السابقة، وطفقت تميز

بعض الممتحنين، فعزم بعضهم على ترك الامتحان، والمستقبل يكشف الحقيقة.

***

(شجرة الدر)

مجلة نسائية علمية أدبية فنية فكاهية تصدر في كل أول شهر إفرنجي باللغتين

التركية والعربية في ثغر الإسكندرية لمنشئتها الأديبة البارعة سعدية سعد الدين،

وقيمة الاشتراك فيها ستون غرشًا أميريًّا في القطر المصري، وعشرون فرنكًا في

خارجه وفي المجلة مباحث لطيفة ومراسلات نسائية، إذا تتابعت تكون باعثة

للرغبات في زيادة انتشارها الذي نرجوه لها.

_________

ص: 400

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلة

شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم

مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ [[*] .

الدين كما قالوا: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى ما فيه

صلاحهم ونجاحهم في الحال، وفلاحهم في المآل، فثمرته سعادة الدنيا والآخرة،

ولا تحصل هذه الثمرة إلا بالعمل به والاهتداء بهديه، ولا يكون العمل إلا عن علم

ولا الهُدى إلا بهَدي] فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى *

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [أي في الدنيا {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ

أَعْمَى} (طه: 123-124) عن طريق النجاة، والدنيا مزرعة الآخرة ففقد الثمرة

الأولى عنوان على فقد الثمرة الأخرى؛ لأنهما معلولان لعلة واحدة، أو مسببان عن

سبب واحد، وهو الدين.

الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تلقوا الدين من العليم الحكيم، وتصدَّوا لتعليمه

للناس بما عهد الله إليهم، فأقاموا البرهان وحاجوا أهل الزيغ والطغيان، حتى أوذوا

في الله فصبروا وسعد الناس بهديهم وإرشادهم في دنياهم، وسيسعدون به في

أخراهم، وعلماء الدين ورثة الأنبياء ونوابهم الذين يقومون بوظيفتهم؛ لأن الله أخذ

الميثاق على الذين أوتوا الكتاب من بعدهم كما أخذه عليهم (لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا

يكتمونه) فمنهم من وفَّى بالميثاق، ومنهم الذين نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به

ثمنًا قليلاً، ومنهم ما هو بين ذلك.

قد كان علماء سلفنا الصالح خيرًا من سلف سائر الأنبياء، حيث كنا بهم خير

أمة أخرجت للناس؛ لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرشدون إلى

مصالح الدنيا والآخرة، ثم حصل الفتور في العلم الذي هو روح الدين، وهو ما

يودع القلوب خشية الله تعالى، ويزع النفوس عن الشر، ويوجهها إلى الخير الذي

فيه سعادة الأمة في أفرادها ومجموعها، حتى قام بعض الأئمة كالإمام الغزالي يرمي

العلماء بالتقصير في علوم الدين، ويعذلهم على التوسع في علم الفقه الذي سمَّاه من

علوم الدنيا، ولقَّب العلماء المنصرفين في ذلك بعلماء السوء، وذكر أنهم يزعمون

بذلك إحياء فرض الكفاية ولو صدقوا لانصرف بعضهم لإحياء سائر العلوم التي

تنفع الأمة في الدنيا ولا بد منها، وهي من فروض الكفايات كعلم الطب، وقد أطال

في كتابه (إحياء علوم الدين) النعي عليهم والتنديد بهم حتى حملهم ذلك على

الطعن فيه بأنه أدخل الفلسفة في الدين وأحرقوا كتابه الإحياء في أسواق القاهرة

وغيرها، ثم كتبوه بماء الذهب وقالوا إنه أحسن كتاب أُلِّف في الإسلام وجرى على

خطة الغزالي في الانتقاد آخرون.

هذا ما كان في القرون المتوسطة إذ العلماء علماء، والمسلمون في عزهم

وسؤددهم يفوقون جميع الناس في العلوم والأعمال والقوة والثروة، وعلماؤنا اليوم

يعترفون بأن العلم والدين كانا في عصر الغزالي خيرًا مما صار إليه في القرن الذي

بعده، وأن التدلي فيهما سار بالتدريج إلى عصرنا هذا، فكل قرن دون ما قبله؛

ولكنهم إذا رُموا بالتقصير في الإرشاد إلى الدين والقيام بحقوقه كما رمى الغزالي

علماء عصره يكبر عليهم ذلك، وإن كانوا يفضلون أولئك العلماء على أنفسهم

ويرون غاية العلم فهم كلامهم.

ولا يطلق لقب علماء الدين على الذين عرفوا من دينهم ما يجب عليهم فقط؛

وإنما يُطلق على الذين عرفوا الفروض العينية والكفائية، وأحيوا سنة الرسل

بالتعليم والإرشاد والتبشير والإنذار لجميع الناس، ولا يكفي في هذا أن ينقطعوا عن

الناس في مكان واحد من البلد أو القطر يتدارسون فيه اصطلاحات بعض الفنون

وقواعدها مع من يحضرهم، ويَدَعُون سائر الأمة وشؤونها.

يُعرف الشيء بنتائجه وآثاره، كما يُعرف بمقدماته ومبادئه، وكما يُعرف

بذاته وكنهه، وقد تقدم أن نتيجة الدين وثمرته سعادة الدنيا والآخرة، فلو أن علماءه

قائمون بوظائفهم حق القيام بحسب ما تعطيهم وراثة النبوة لما سُلبت سعادة المسلمين

من أيديهم، ولما صاروا أعداء متخاذلين بعد أن كانوا إخوانًا في الدين، ولما تجرأ

المبتدعة والكفار على الطعن بدينهم ولم يجدوا منهم مدافعًا ولا معارضًا، ولا يحسن

أن نذكر أخبار بعض المرتدين مع بعض علماء الأزهر فما كل ما يُعْلَم يُقال، ولما

أصبح الجهل بالدين عامًّا في جميع طبقات الأمة من الحكام والأمراء إلى الصعاليك

والفقراء.

أصبحت شكوى المسلمين من سوء حالهم عامة؛ لأن سلطان الأجنبي أصبح

فيهم عامًّا، ولا خلاف بين عقلاء الباحثين في أن سبب ذلك هو الانحراف عن

صراط الدين ويدل على هذا قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ

سَبِيلاً} (النساء: 141) وقوله عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) وغير ذلك من الآيات فهل نكابر الحس ونقول إننا منصورون،

وأنه ليس للكافرين علينا سبيل ما بوجه من الوجوه كما يفيده وقوع النكرة في سياق

النفي؟ أم نقول إن الله تعالى يخلف وعده ولا يصدق كتابه؟ معاذ الله وحاش لله،

أم نقول إننا لسنا بمؤمنين؟ أم ماذا نقول؟

أهون هذه الأقوال صعب شديد، وليس لنا مندوحة عن القول الأخير مع

التأويل بأن نقول: إننا لسنا بمؤمنين الإيمان الكامل الذي يستولي على الأرواح

والنفوس، ويُثقف الأذهان والعقول، ويحمل على الأعمال النافعة التي تُثمر السعادة

والسيادة، ولكن لماذا تركنا الإيمان على هذا الوجه النافع المرضي لله تعالى.

هل تلقَّى أحد الإيمان على هذا الوجه ثم تركه؟ كلا إنما فُقِد منا هذا الإيمان

بفقد العلماء الذين يثبتونه في النفوس، ويودعونه في القلوب، فقد ورد في الحديث

(إن الله لا ينزع العلم من القلوب انتزاعًا؛ وإنما يذهب العلم بموت العلماء) .

يعتقد المسلمون كافة أن هذا البلاء الذي هم فيه لا ينكشف عنهم إلا بالرجوع

إلى دينهم على الوجه الذي يهدي إلى سعادة الدارين بالقيام بمصالح الروح والجسد،

والباحثون منهم في حيرة لا يدرون كيف يكون هذا الرجوع؟ وبماذا يكون؟ ولذلك

توجهت أنظارهم إلى العلماء؛ لأن هذا الذي يطلبونه لا يكون إلا بالهدي النبوي

الذي هو وظيفتهم ولكنهم أهملوها، ومطالبتهم بها تعظيم لشأنهم ورفع لمقامهم وثقة

كبرى بفضلهم، تحدث بهذا المحاورون والسامرون، وكتب في موضوعه الكاتبون

؛ ولكن أكثر العلماء عنه غافلون؛ لأنهم لا يبحثون في شؤون المسلمين الاجتماعية

ولا ينظرون في مصالحهم الملية، ولما ملأت الشكوى كل مكان، وكادت تصخ

منهم الآذان اعترف بحقيقتها منهم العقلاء المنصفون، وأنكرها المكابرون

المغرورون، فطفق علماء البلاد الهندية يؤلفون الجمعيات العلمية الدينية: للبحث

في هذه الشكوى، وتلافي هذه البلوى، ولم يتنبه في سائر البلاد إلا بعض أفراد لم

يظهر لهم عمل، يتعلق به الأمل.

أما هذه البلاد المصرية فقد اشتهر فيها مفتيها الأستاذ الشيخ محمد عبده بالغيرة

على الإسلام، والسعي في الإصلاح العلمي الديني في الأزهر الشريف وغيره

والدنيوي الملي في الحكومة والجمعية الخيرية الإسلامية التي هو رئيسها، وأكثر

العلماء لا يزالوا وادعين ساكنين، غارّين آمنين، محافظين على طريقتهم العتيقة

في مزاولة بعض الفنون العربية والشرعية؛ وإنما قلت بعضها لأن بعض المقاصد

مفقودة من الأزهر كالإنشاء والخطابة وعلم الأخلاق الدينية والتاريخ الإسلامي

بفروعه الكثيرة، ولهذا الجامع الشريف الفضل في حفظ ما حفظه من تلك الفنون

بالجملة، وإن لم يكن بالطريقة العلمية المقصودة إذ لولاه لتلاشى العلم الإسلامي من

هذه البلاد بالمرة؛ ولكنه لم يحفظها على كمالها كما كانت في القرون المتوسطة؛

وإنما حفظ رسومها وأنقاضها وله الفضل على كل حال، ونرجو له الرجوع إلى

أحسن مما كان.

نعلم مما تقدم أن عقلاء المسلمين يرون أن سعادته بعلمائهم إذا أصلحوا؛ لأنهم

كالقلب الذي يصلح بصلاحه الجسد كله كما ورد في الحديث، فلا يسرُّون بشيء

كسرورهم من توجه كبار العلماء إلى شؤون المسلمين العامة، ولهذا وقع الحديث

الذي دار بين صاحبي السماحة والفضيلة الشيخ جمال الدين أفندي شيخ الإسلام،

والشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية في دار السعادة أحسن موقع عند

جميع العقلاء والفضلاء؛ لأن اتفاق هذين الشيخين وهما أكبر علماء المسلمين على

أن صلاح حال المسلمين إنما يكون بسعي العلماء الموافق لحال الزمان، وبتطبيق

العلم على العمل ينهض من همتهم، ويُعَرِّفهم قيمة وظيفتهم العالية، ويحثهم على

القيام بها.

حديث شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

في العلم والعلماء

قال (المفتي بمناسبة كلام مع الشيخ) : إن كان للمسلمين شكوى مما يرونه

ماسًّا بشريعتهم، فأجدر بهم أن يشتكوا من أنفسهم لا ممن يعتدي عليهم.

الشيخ: لا ريب في ذلك فإن حياة كل أمة تقوم باستعدادها لكل زمان بما

يناسبه، ومن غالب الزمان غلبه الزمان؛ ولكنا نؤمل أن تتغير الحال ويتنبه

المسلمون لما فاتهم فيحصلوه، وذلك لا يكون إلا بهمة علمائهم وحملة شريعتهم.

المفتي: نعم ذلك لا يكون إلا بهمة علمائهم؛ ولكن العلماء في انصراف تام

عن شؤون العامة، وقد تركوا هم تلك الشؤون إلى الحكام، ووكلوا بعضها إلى

العامة أنفسهم، وجعلوا نصح العامة والخاصة أو الاشتغال بما يهيئ لذلك من العمل

مما لا يعني ولم تبق لأحد منهم علاقات مع العامة اللهم إلا أولئك القصاص الذين

يسمونهم وعاظًا أو مدرسي مساجد، وما هم من علم الدين وشؤون العامة على شيء

وهم يفسدون أكثر مما يصلحون.

الشيخ: لا شك أن أغلب المشتغلين بعلوم الدين تنقصهم الخبرة بأحوال الناس

ويفوتهم العلم بما عليه أهل العصر، ولو خبروا الزمان وأهله لأمكنهم أن يحموا

شرعهم ويعلوا شأن أهل ملتهم، مع أن العالم لا يكون عالمًا حتى يكون مع علمه

عارفًا، والعارف هو الذي يمكنه أن يوفق بين الشرع وبين ما ينفع الناس في كل

زمان بحسبه، ومن كان بارعًا في العلوم الدينية ولكن لا يعرف حال أهل عصره،

ولا يراقب أحكام زمانه فلا يسمى عالمًا؛ ولكنه يسمى متفننًا أعني أنه يعرف فن

النحو أو فن الفقه أو ما أشبه ذلك، ولا يسمى عالمًا على الحقيقة حتى يظهر أثر

علمه في قومه، ولا يظهر ذلك الأثر إلا بعد علمه بأحوالهم وإدراكه لحاجاتهم.

المفتي: ما تقوله سماحتكم هو المعروف عند الأولين من علمائنا، وقد جاء

في كثير من كتب السادة المالكية تعريف العالم بأنه العاكف على شأنه البصير بأهل

زمانه، وهو تعريف للعالم بالغاية من علمه، والعكوف على الشأن أن لا يضيع

العالم زمنه إلا فيما يفيده ويفيد العالم؛ لأن هذا هو شأن العالم الذي ينبغي أن يعكف

عليه؛ ولذلك اتبعه بالوصف الآخر، وهو البصر بأهل الزمان؛ لأن البصر بأهل

الزمان إنما يدخل في الغاية من العلم؛ لأنه وسيلة للتمكن من العمل به في أهل ذلك

الزمان، وكأن صاحب هذا التعريف يقول مَن فرَّط في شيء من زمنه، ولم

يستعمله فيما من شأنه أن يستعمله فيه، أو أساء استعماله بسبب جهله بأحوال هذا

الزمان، فهو ينثر المقال نثرًا لا يبالي كيف يقع، ولا يعرف هل يصفع عليه أو

يخضع له ويخشع، من كان كذلك فهو خارج عن مفهوم العالم لا ينطبق عليه

تعريفه، وغاية ما يمكن أن يصل إليه إن عرف شيئًا من العلم أن يسمى حافظًا.

الشيخ: نعم إن مما يؤسف عليه الأسف العظيم أن من كان من علماء

المسلمين على شيء من العلم؛ فإنما يُعَدُّ في الحقيقة متفننًا، ولا يصح أن يطلق

عليه اسم العالم، وبذلك بقيت الشريعة مدفونة في الكتب، وحرمت أرواح أهليها

من التمتع بآدابها، ثم تبسم قائلاً: ولعل الذي مال بحملة الشريعة إلى البعد عن

شؤون العامة هو أنهم أرادوا أن يخدموا أنفسهم خاصة دون الناس عامةً.

المفتي: وهل تُعِدُّ سماحتكم ذلك خدمة لأنفسهم مع ما تراهم فيه من الضعة

والخمول وحرمان أعاليهم من الحقوق التي يتمتع بها أسافل غيرهم، وفرار الدنيا

من وجوههم وهم أتعب الناس في طلبها، وبغضها لهم وهم أحرص الناس على

حبها، وإذا قنع أحدهم بشيء منها فهي وقفة العاجز لا قناعة العزيز، أفما كانوا

أعز وأكرم ومقامهم أسمى وأعلى لو كانوا علماء على النحو الذي عرفه أسلافنا.

الشيخ: صدقت فإن من أراد أن يخدم نفسه وجب عليه أن يخدم العامة

لاندراج المصلحة الخاصة في المصلحة العامة، فإذا ضاعت المصلحة العامة

ضاعت الخاصة أيضًا، وإذا حُفظت الأولى حُفظت الثانية.

المفتي: نعم يا مولاي هذه هي القاعدة الحقيقية؛ ولكن مدرسي كتب الفقه لا

يعتنون بتقريرها لطلبتهم، فهؤلاء الذين سمتهم سماحتكم متفننين لم يروا هذه

القضية فيما درسوا فلعل ذلك عذرهم فيما نسوا) اهـ بحروفه عن المؤيد.

الفائدة في هذا الحديث هي الإرشاد إلى العمل بالعلم ونفع الناس به، فمن كان

يصدق عليه من العلماء يُسرُّ به، ومن كان حجة عليه يستاء في نفسه؛ ولكنه لا

يُظهر الاستياء لئلا يكون مسجلاً على نفسه ذلك اللهم إلا أن يُغلب على أمره باعتقاد

أن الكلام ظاهر الانطباق عليه عند الناس لعلمهم بأنه لم يُحَصِّل من العلم إلا حفظ

بعض الاصطلاحات التي لا أثر لها في علمه، ولا يمكن أن ينفع بها الناس، أو

لحسد شديد لمن ظهر الحق على لسانه فهو يكابر الحق ويجادل فيه بعد ما تبين

وعلم أنه الحق وأن ما بعده هو الضلال.

نُشر الحديث في المؤيد، فذكر المقطم في العدد الذي صدر منه في اليوم

التالي لنشره أن العلماء في مصر عمومًا وعلماء الأزهر خصوصًا قد استاءوا منه،

ووقع عليهم كالصاعقة، فنشر المؤيد في اليوم الثالث مقالة لبعض العلماء يقيم

الحجة فيها على المقطم بأنه ليس من المعقول أن يعلم باستياء العلماء كلهم في مصر

صبيحة يوم واحد، فلم يجد المقطم جوابًا إلا أنه استنجد ببعض العلماء المتفننين

الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فكتب له نبذة بعد يومين يزعم

أنه بيَّن فيها استياء العلماء من حديث الشيخين كأنه حقيقة واقعة، أما السبب الذي

كتبه فهو مما يضحك الناس على حماقته، وقد خدم المقطم الإسلام بإظهار سخافته،

كأنه يقول هذه أفكار الذين يعارضون كلام الأئمة الراسخين، ولا ندري هل قصد

المقطم هذا أم لا؟

زعم ذلك المتفنن أن السبب في استياء العلماء المزعوم أنه يوجد فئة ذات عُدَّة

عظيمة يريدون إبطال مذهب أهل السنة، ورأوا أن يسقطوا العلماء من نظر العامة

ليتمكنوا من ذلك؛ لأن العلماء هم حراس السُّنة فهم دائمًا يذمون العلماء، وجاء كلام

الشيخين في ذم العلماء مؤيدًا لكلامهم! ! !

لعمري لا يقول هذا القول من بلغ أن يكون متفننًا أو حافظًا؛ وإنما هو كلام

غبي لم يفهم معنى الكلام، وإن كان لم يعزب عن أفهام العوام، الشيخان يحثان

العلماء على العمل بعلمهم، وأن لا يقتصروا على حفظ الاصطلاحات الفنية وهل

يمكن أن يحرسوا السنة إلا بهذا؟ هؤلاء البابية قد ألَّفوا كتابًا يريدون به إبطال

مذهب السنة، بل والإسلام كله، وقد نشروه حتى في الجامع الأزهر، فهل قام من

العلماء الذين سماهم أنصار السنة من حامى عن السنة إلا الأستاذ مفتي الديار

المصرية، الذي اتفق مع الأستاذ شيخ الجامع على تأديب ناشره، وغير هذا الفقير

الذي رد على كتابهم في المنار، وهؤلاء دعاة المسيحية ينشرون الكتب والجرائد

في الرد على الإسلام، وقد اشتغلت بشبههم الأذهان فهل تصدى هو أو غيره من

أهل الأزهر للرد عليهم؟ وهذه البدع والمنكرات فاشية فهل أنكرها منهم أحد.

يتخذ صاحب المقالة المقطمية اسم العلماء ترسًا يدافع به الحق الذي يكلفه

بالعمل، ويَعُدَّ هذا التكليف طعنًا بالعلماء جميعًا كأنه يحكم عليهم بأنه لا يوجد فيهم

عامل بعلمه خادم لدينه، ويسمي الذي يعلق آمال المسلمين بهم طاعنًا فيهم، ويزعم

أن الأولى تعليق الآمال بالحكام والأمراء وهو يعلم سلطة الأجانب عليهم، فنعوذ

بالله من الجهل ونعوذ بالله من الغش.

جعل الله علماء الدين الذين أورثهم الكتاب ليكونوا نوابًا عن الرسل في الهدى

والإرشاد على ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه لا يعمل به، ومقتصد يشتغل في إصلاح

نفسه والعمل بما وجب عليه، وسابق بالخيرات يعمل ويعلِّم الناس ويرشدهم إلى

الاهتداء به، هذا التفسير الذي اختاره العلامة البيضاوي وغيره، وهذا القسم الثالث

هو الذي تحيا به الملة وتُحفظ السنة وقد ضعف الإسلام والمسلمون بضعفه وكادوا

يتلاشون بتلاشيه، وكلام الشيخ والمفتي ينفخ روح الغيرة في القسم الأول والثاني؛

ليرتقوا إلى القسم الثالث، وكلام صاحب المقالة المقطمية يُسجل عليهم بأنهم من

القسم الأول أو الثاني ويسمي هذا نصرًا للسنة، وما هو إلا نصر للمقطم وتصديق

له بأن العلماء قد استاءوا من كلام الشيخين، ولعله هو الذي غشه أولاً وصدَّقه ثانيًا.

عهدنا بهذا المغرور أن يحرِّم نشر الآيات القرآنية في الجرائد، فلماذا ملأ

مقالته بالآيات التي حرَّفها عن مواضعها، ووضعها حيث شاء الهوى {يُحِلُّونَهُ

عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} (التوبة: 37) وعهدنا به يحرِّم الكتابة في الجرائد

الإسلامية، ولو لخدمة الملة الحنيفية والدولة العلية فكيف استحل أن يكتب في

جريدة يعتقد هو وأكثر قومه - إن لم نقل كلهم - بأنها ضد الدولة وغير خادمة للملة

ألم يجد جريدة يدافع فيها عن السنة والإسلام وعلمائه الأعلام إلا هذه الجريدة التي

لم تنشأ لهذا القصد، ولولا إرادة تأييد كلامها لما نشرت مقالته، لا نريد بهذا طعنًا

بالمقطم؛ وإنما نريد تفنيد هذا المغرور بما هو مسلَّم عنده، وسنبين وظائف العلماء

في الجزء الآتي وإلى الله تصير الأمور.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*)(فاطر: 32) .

ص: 401

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين على الإسلام

وحجج الإسلام على المسيحيين

نبذة ثالثة تابعة لما في الجزء الخامس والجزء العاشر

بيَّنا في الجزئين الخامس والعاشر المراد بالتوراة والإنجيل عند المسلمين،

وهما اللذان يشهد لهما القرآن الكريم، وبيَّنا أنه لا تنهض للمسيحيين حجة على

إثبات دينهم وكتابيهما، ونبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام، إلا من

القرآن ولا يكون القرآن حجة إلا إذا كان من عند الله تعالى، فعليهم أن يؤمنوا به

ويأخذوا بإصلاحه ليكونوا معنا موحدين لله تعالى، نعبده وحده من دون البشر

كالمسيح وغيره، وندعو سائر الوثنيين إلى هذا الإيمان الذي هو غاية ارتقاء العقل

البشري، وفيه السعادة والنجاة في الآخرة مع العمل الصالح الذي يستلزمه، وقد

بيَّنا بالدليل المعقول نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكون ما جاء به وحيًا في

درس التوحيد الذي نشر في الجزء الماضي وسنزيده بيانًا في الدروس الآتية إن

شاء الله تعالى، هؤلاء المبشرون يدعوننا إلى البحث في الدين، أو يدعوننا أن

نؤمن بأن بعض الأنبياء إله كامل وإنسان كامل، وأن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة

حقيقة، وإن كان العقل ينكر ذلك ويحيله وهو محل الإيمان، وأن ننكر بعض

الأنبياء ونجحد نبوته بالمرة وإن قام عليها أقوى البراهين، فإن كانوا يبحثون

لإظهار الحق لأجل اتباعه فليجعلوا العقل أصلاً ويحكِّموه في الدلائل، وإلا فبماذا

يميز بين الحق والباطل؟

إن قالوا: كتب الدين، نقول (أولاً) : بماذا تثبت هذه الكتب؟ فإن قالوا:

بالعقل، نقول: لزمكم أن العقل هو الأصل، ولا يتأتى أن يحكم بصحة كتاب يشتمل

على ما هو مستحيل عنده، و (ثانيًا) : إذا كانت كتب الأديان التي تناظرون فيها

متفقة فالدين واحد، وإلا فبماذا يرجح بعضها على بعض؟ أليس بالعقل الذي يبين

أيها أهدى وأنهض بما يحتاج إليه البشر من الدين.

للدين ثلاثة مقاصد: تصحيح العقائد التي بها كمال العقل، وتهذيب الأخلاق

التي بها كمال النفس، وحسن الأعمال التي تُناط بها المصالح والمنافع وبها كمال

الجسد، فإذا حكَّمنا عاقلاً لم يسبق له تقليد المسلمين ولا تقليد النصارى في الدين،

وكلَّفناه أن ينظر أي الدينين وفَّى هذه المقاصد الثلاثة حقها بحسب العقل السليم

فبماذا يحكم؟

يرى المسلمين مجمعين على أن العقائد لا بد أن تكون أدلتها يقينية؛ لأن

كتابهم يقول في الظن الذي هو دون مرتبة اليقين في العلم {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ

الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) ويقول في الذين احتجوا على شركهم بمشيئة الله

تعالى {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) ويقول {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:

111) ويقول عند ذكر الآيات التي يقيمها على العقائد إن {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ

لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4){إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه: 54)

أي العقول، ويرى المسيحيين مجمعين على أن أصل اعتقادهم فوق العقل، وأنه

يحكم باستحالته وعدم إمكان ثبوته، ولا شك أنه هذا العاقل يحكم بأن عقائد

المسلمين هي الحقة الصحيحة، ولا يلتفت إلى قول صاحب أبحاث المجتهدين

وغيره: إن ذلك بحث في كنه ذات الله تعالى، ولا يعرف كنه الله باتفاق المسلمين

وغيرهم؛ لأن فرقًا عظيمًا بين ما يثبته العقل بالدليل؛ ولكنه لا يعرف كنهه، وبين

ما ينفيه ويجزم بعدم إمكان تحققه، ومثال ذلك أننا نثبت المادة بصفاتها وخواصها

وآثارها، ولا نشك في وجودها؛ ولكننا لا نعرف كنه حقيقتها، بل لم يصل العقل

إلى معرفة كنه شيء من هذه المخلوقات؛ وإنما عرف الظواهر والصفات، كذلك

التوراة تصف الله تعالى بصفات يرفضها العقل كقوله في الباب السادس من سفر

التكوين (فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال: امحوا

عن وجه الأرض الإنسان الذي عملته) وهذا يدل على أنه كان جاهلاً وعاجزًا

تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ثم ينظر هذا العاقل والحكم العادل في المقصد الثاني، وهو تهذيب الأخلاق،

فيرى التعاليم الإسلامية فيه قائمة على أساس العدل والاعتدال من غير تفريط ولا

إفراط، مع استحباب العفو والصفح والإحسان لقول كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ

تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) فسَّر البيضاوي الفحشاء بالإفراط في قوة الشهوة

البهيمية، والمنكر بالإفراط في قوة الغضب الوحشية، وقوله: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ

لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (البقرة: 237) وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ

يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) إلى غير ذلك من

الآيات الكثيرة عامة وخاصة، ويرى التعاليم المسيحية مبنية على التفريط والإفراط

يقول كتابهم: (أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم) كما في إنجيل متَّى (5: 44)

وهذا إفراط في الحب لا يقدر عليه البشر؛ لأن قلوبهم ليست في أيديهم، ويقول في

إنجيل لوقا (19-27) : أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أحكم عليهم فائتوا بهم

إلى هنا واذبحوهم تحت أقدامي) وفي الباب 14 من إنجيل لوقا 25: (وقال لهم إن

كان أحد يأتي إليَّ، ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضًا،

فلا يصلح أن يكون لي تلميذًا) وهذا تفريط في الحب إفراط وغلو في البغض ومثل

هذا كثير، ولا شك أن هذا العاقل يحكم لدين الاعتدال على دين التفريط والإفراط؛

لأن الأول يرقي البشرية ويعزها كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) والآخر يدليها ويذلها كما قال: (من ضربك على خدك الأيمن

فأدر له الأيسر) وغير ذلك مما في معناه.

وأما المقصد الثالث، وهو الأعمال الحسنة التي ترقي النوع الإنساني في

روحه وجسده، فيرى أن في الإسلام كل عبادة منها مقرونة بفائدتها، ككون الصلاة

تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكون الصيام يفيد التقوى وكون العبادة في الجملة

ترضي الله تعالى لقوله: {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} (الممتحنة: 1) إلى غير ذلك مما

يزكي النفس ويرقي الروح، ولا يرى مثل هذا في كتب الآخرين، وإنما يرى في

التوراة - التي هي كتاب الأحكام المسيحية؛ ولكن المسيحيين يؤمنون بها قولاً لا

فعلاً - أن أحكام العبادات معللة بالحظوظ الدنيوية كقولها في الباب الرابع من سفر

التثنية (40: واحفظ فرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك

من بعدك) وكتعليل مشروعية الأعياد في الباب 23 من سفر الخروج من العدد 14-

16 بالحصاد والزراعة، وبالخروج من مصر، فأين هذا من بيان حكمة عيد الفطر

في قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) .

يرى أحكام المعاملات الإسلامية مبنية على أساس قاعدة درء المفاسد وجلب

المنافع باتفاق المسلمين، وأن كليات هذه الأحكام خمس يسمونها الكليات الخمس،

وهي حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، ويرى أن الشريعة الإسلامية

ساوت في الحقوق بين من يدين بها وغير من يدين بها ويراها تأمر بكشف أسرار

الكون واستخراج منافعه بمثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي

الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) ويرى التوراة والإنجيل لم يجمعا هذه

المنافع في أحكامها، بل يخالفانها كثيرًا، فالوصية التاسعة: (لا تشهد على قريبك

بالزور) فأين هذا التقييد بالقريب من أمر القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا

قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ

فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ

بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) وغير ذلك من الآيات، وفي الباب الرابع

عشر من سفر تثنية الاشتراع إباحة المسكر وسائر الشهوات على الإطلاق ونصه:

(وأنفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والمسكر، وكل ما تطلب

منك نفسك وكُلْ هناك أمام الرب وافرح أنت وبيتك) وفي الباب السادس من

إنجيل متى (25: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وتشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون)

وفي موضع آخر: (لا تشتغلوا من أجل الخبز الذي يفنى) يأمرهم بهذا مع أن

الخبز أهم المهمات عندهم حتى أمروا أن يطلبوه في صلاتهم بقوله: (خبزنا

بأكفافنا أعطنا اليوم) فما هذا التناقض.

لا تأمر هذه الكتب بترك الأعمال للدنيا فقط، بل ليس للأعمال الصالحة فيها

قيمة ولا منفعة مطلقًا قال بولس في رسالته إلى أهل رومية (14 - 4: أما الذي

يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين (5) وأما الذي لا

يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرِّر الفاجر فإيمانه يحسب له برًّا) هذا والله يقول في القرآن:

{لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى

وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ

بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ} (البقرة: 177)

الآية، فهل تنجح الأمم بهذه الأعمال أم بإيمان لا قيمة للعمل معه؟

وأثبت هذا المعنى بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية حيث

ذكر أن أعمال الناموس تحت لعنة، وأنه لا يتبرر أحد عند الله بالناموس، وأن

الناموس لا لزوم له بعد مجيء المسيح، والمسيح نفسه يقول: (ما جئت لأنقض

الناموس وإنما جئت لأتمم) ؛ ولكن المسيحيين عملوا بقول بولس فتركوا التوراة

وأحكامها بالمرة، وقد أباح لهم الرسل جميع المحرمات ما عدا الزنا والدم المسفوح

والمخنوق والمذبوح للأصنام (أعمال 15: 28 و29) وكأنهم رأوا أن شريعة

التوراة لا تصلح للبشر كما قال حزقيال في الباب العشرين عن الرب أنه لما غضب

على بني إسرائيل قال: (23 ورفعت أيضًا يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم

وأذريهم في الأراضي 24 لأنهم لم يصنعوا أحكامي، بل رفضوا فرائضي ونجسوا

سبوتي، وكانت عيونهم وراء أصنام آبائهم 25 وأعطيتهم أيضًا فرائض غير

صالحة وأحكامًا لا يحيون بها) وصرح حزقيال قبل هذا بأن بني إسرائيل عبدوا

الأصنام بعد ما أنجاهم الله من مصر، فليعتبر بهذا ذلك المبشر المسيحي، وذلك

اليهودي اللذان أنكرا عليَّ ما كتبته في العدد العاشر من طلب بني إسرائيل عبادة

الأصنام، وزعما أنه لم يقل بذلك إلا القرآن.

للكلام بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 411

الكاتب: ع. ز

‌لائحة الفقه الإسلامي [*]

لحضرة العالم الفاضل صاحب التوقيع

برح الخفاء وآن للحقائق أن يتبلج نورها، فقد مزَّقت عزائمُ المصلحين حجبَ

الأوهام، وأزالت غشاوة الأبصار، وللأطوار أدوار، وللأدوار أسرار، فسبحان

الظاهر الباطن.

إن لم يكن في كلماتي هذه براعة استهلال لمقصدي وفاتني منها النصيب

الذي يحرص عليه كتابنا القدماء ومقلدوهم في محامد خطبهم؛ فإن فيها من قوة

العزم في المقصد الإجمالي ما يعرب عنه بأجمع عبارة وأجمل إشارة.

كلامي الآن في الفقه الإسلامي حملني عليه سبب شريف ذلك أنني كتبت إلى

صديق لي فاضل مشرف على مطالع أنوار المعارف مكتوبًا مطولاً، عرضت له

فيه خلاصة نبذة من أفكاري بأننا إخوان سعي في سبيل إصلاح يهتم له الشاعرون

بالأحوال، وينكره الواقفون الذين تتجاذبهم الأهواء، ويتجاذبون الأدواء،

والمكتوب جاء فيه إنكار لكثير من العلوم التي يعتبرها المسلمون من العلوم النافعة

لهم في دينهم ودنياهم، وأعتبرها أنا بالعكس بما قام عندي من البرهان فأختار أن

يحاورني في قسم من أقسام المكتوب، فكتب إليّ جوابًا أفاض فيه من معارفه

الغزيرة ما تروى به الصدور، ونشر المنار الزاهر هذا الجواب لما احتوى من

حقائق العلم، وآيات الإشراف والإشراق، وإذ كان لي من الكلام في هذا الموضوع

ما لم يسعه مكتوبي الأول، ومن الجواب على رده ما يزيد المسألة وضوحًا أحببت

أن أكتب هذه الرسالة لصديقي نفع الله الأمة بفضله وعلو همته، على أن يكتفي إن

شاء بمطالعتها أو ينشرها في المنار - أدام الله إشراقه - إن شاء صاحبه العلامة.

كلامي في الفقه الإسلامي

الفقه الإسلامي يشتمل على قسمي العبادات والمعاملات كما يقولون، أما

العبادات فليس يخفى على أحد أنها أعمال خاصة أُمرنا أن نفعلها كما كان يفعلها

النبي وأصحابه الذين تعلموا منه، فهل التعاليم مختلفة بقدر ما اختلف هؤلاء الفقهاء

أم أراد هؤلاء أن يوهموا الملأ بما وسعته صدورهم من العلوم فتوسعوا

بالتفصيلات القولية والاصطلاحات المذهبية حتى كتبوا ألوفًا من الأوراق على

الصلاة مثلاً، ولئن سألتهم ليقولن إنها عماد الدين، وأن الاهتمام بتحرير علومها

ضروري، قل إن القرآن المجيد الذي فرضها لم يجئ فيه بشأنها أكثر من قوله:

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة: 43){وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 43)

{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} (فصلت: 37) ولم يجئ فيه بشأن الطهارة التي هي من

أجلها أكثر من الأمر بغسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس إذا أخرج الإنسان

فضلاته، وبالتيمم إذا لم يجد الماء وبالتطهر من الجنابة، وأن النبي صلى الله عليه

وسلم كان يُعَلِّم الصلاة للواحد من أصحابه في ساعة واحدة؛ لأنها أعمال محدودة

كالوقوف إلى جهة معينة، وقراءة كلمات سهلة وحني الظهر ووضع الجبهة على

الأرض! أعمال يتعلمها الصبي في ساعة، ويا عجبي للذين اختلفوا واستشهد كل

منهم بالأقوال، ألم يروا أنها حركات بدنية واستحضارات قلبية، شوهدت من النبي

صلى الله عليه وسلم يفعلها خمس مرات كل يوم نحو عشرين عامًا، ثم شاهدها من

أصحابه من لم يشاهدها منه وهلم جرا، ألم يكن في مشاهدة الفعل يتكرر آلافًا من

المرات غنية عن الأقوال؟ أم أراد بهم ربك اختلافًا فلم يزد الناس بيانهم إلا

إغماضًا وإعضالاً، اتلُ من أمثلة اختلافاتهم هذا المثال:

(في فتح القدير (1) ص (154) وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس

وآخر وقتها ما لم يغب الشفق وقال الشافعي رحمه الله: مقدار ما يصلي فيه ثلاث

ركعات لأن جبريل عليه السلام أمَّ في اليومين في وقت واحد، ولنا قوله عليه السلام:

(أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين يغيب الشفق) وما رواه كان

للتحرز عن الكراهة، ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة

رحمه الله وقالا هو الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول الشافعي رحمه الله

لقوله عليه السلام: (الشفق الحمرة) ولأبي حنيفة قوله عليه السلام: (وآخر وقت

المغرب إذا اسود الأفق) وما رواه موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما ذكره مالك

رحمه الله في الموطأ، وفيه اختلاف الصحابة اهـ) .

تراهم اختلفوا في تعيين الشفق، ورووا عن أبي حنيفة روايتين متباينتين

وأنت خبير أن هذا التفريق بين البياض والحمرة دقيق جدًّا إذا كان الجو صافيًا ولا

يمكن ألبتة إذا كان داجنًا، ثم ماذا جوابهم إذا سألهم أهل أرض تحجب فيها الغيوم

الشمس أكثر من نصف السنة عن أول وقت المغرب الذي عينوه بغروبها، وعن

آخره الذي عينوه بذلك البياض وتلك الحمرة، أفيقولون يقدر الوقت تقديرًا؟ فكيف

يقدر الوقت وبماذا؟ أبعدد الركعات كما قال الشافعي فكم معدل الركعات في النهار

والليلة، حتى نقدِّر أجزاءهما بعدد الركعات، ومن ذلك الذي يعمل هذا المعدل؟

وإليكم هذا أيضًا: يقولون في باب الصوم:

(لا عبرة باختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب وعليه

الفتوى) انظر معي في هذا القول الذي اتفقوا عليه وأفتوا به إلا أصحاب الشافعي،

فاسأل الذين يقرءونه فيعتبرونه دينًا: من ذلكم الذي يوصل خبر المغرب إلى

المشرق في أقل من ليلة حتى يلزمهم الصوم بيوم واحد؟ ثم كيف يصوم أهل

المغرب مثلاً برؤية أهل المشرق وبينهما اختلاف عظيم، فقد يكون ليل ناس نهار

آخرين؟

سامحني أيها الصديق بما تصديت له من حال أقوالهم في قسم العبادات فقد

دعت إلى هذه الإشارة ضرورة الكلام على كل ما سموه فقهًا، وسامحني أيضًا أن

أذكر شيئًا عما كتبوه في المناكحات التي عدوها في المعاملات، تلك المناكحات التي

يتعجب الإنسان من الأبواب التي فُتحت فيها، كحلف الإنسان بأنه يحرِّم فرج

امرأته على فرجه إذا كان الأمر كذا مما لا علاقة للزوجة به، وكإفتائهم وقضائهم

بأن هذا الفرج المحلوف عليه يُحرَّم إذا حنث الحالف، وإن لم يكن ثمة إرادة الفراق

وإليكم من عباراتهم في هذا الباب شيئًا من أشياء:

(لو قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثًا؛ لأن

نصف التطليقتين تطليقة، فإذا جمع بين ثلاثة أنصاف تكون ثلاث تطليقات

ضرورة، ولو قال أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقة، قيل يقع تطليقتان؛ لأنها طلقة

ونصف فيتكامل، وقيل يقع ثلاث تطليقات؛ لأن كل نصف يتكامل في نفسه

فتصير ثلاثًا)

هذا وأما ما كتبوه في الحقوق، وسموا مجموعه بالمعاملات فلا أنكر أنهم

أجادوا في بعضه بحسب أزمنتهم وأمكنتهم؛ وإنما الذي أنكره هو: (1) أنه يكفي

لزماننا ويغنينا عن غيره (2) وأنهم استفادوا كل ما كتبوه من الدين، ولا دخل

لعقولهم فيه (3) وأنه لا يغني عن غيره (4) وأنه لم يكن آلة بيد القضاة

والمفتين ومن في حكمهم يعبثون فيه كما شاءوا (5) وأنه ليس من المضر تقديسه

الذي جعلنا ينابذ بعضنا بعضًا من أجله، وتقديس المحاكم المنسوبة إليه التي كانت

ولا تزال بقاياها ميدانًا تتجلى فيه الغرائب.

هذا كله هو الذي أنكره إنكارًا مقرونًا بالدليل القاطع لمن شاء أن أذكره،

وليس بخافٍ (1) أن أزمنتهم غير زماننا الذي تغيرت فيه التجارة وأبوابها

وفروعها تغيرًا مهمًا (2) وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بتصريحه لمعاذ بن

جبل وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يعملا برأيهما إذا لم يجدا نصًّا - كفانا

مؤنة السلاسل التي ربط الناس بها أقوام كتبوا الكتب بأيديهم، ثم قالوا هذه من عند

الله (3) وأن هذه الأمم التي ليس عندها هذه الكتب قد أغناها الله بفضل عقولها في

تدبير التجارة والبيوع وعقد الشركات وإمضاء المعاهدات وإدارة المنافع العامة

وترتيب العقوبات وجباية الأموال وتنظيم الجيوش وإعداد ما يحفظ المجد ويعلي

الشأن في السلم والحروب (4) وأن هذه الأقوال المتضاربة المتعارضة ليس

لأكثرها من سبب إلا منافع القضاة ومن في حكمهم (5) وأن اعتناء كل طائفة

بمذهب واحد على ما فيه من تعدد المرجحين قد فرَّق كلمة المسلمين منذ زمن بعيد

حتى أوصلهم إلى هذه الحالة - وهل منكر لها؟ - بمقتضى السنة الإلهية. هذا ما

قلت زبدته وأعدته اليوم مع شيء من التفصيل، وأن الأخ حفظه الله ليعلم أن هذا

الموضوع لا يوفيه حقه من البيان إلا مئات من الأوراق وفي ذكائه وإمعانه وإمعان

الأذكياء غنية وكفاية.

...

...

...

...

ع. ز

(المنار)

للمقالة بقية، ومَن عنده جواب من الفقهاء فليرسله إلينا لننشره بعد إتمامها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) يراجع ما كُتب في الجزء الرابع تحت عنوان (الفقه الإسلامي) فهذا جوابه.

ص: 417

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة ديوان حافظ

أو الشعر وفنونه وتأثيره وفحوله

يعرف قراء المنار مكانة محمد حافظ أفندي إبراهيم في الشعر، وأنه يضرب

مع فحوله بكل سهم، ويسابق جياده في كل فج، ويمتاز على السابقين الأولين

بالمعاني التي جلتها الحضارة والمدنية، ويتقدم صفوف المتأخرين بالجزالة البدوية

ويودون لو تُخدم اللغة والآداب بطبع ديوانه، ونحن نبشرهم بأن الديوان كاد يتم

طبعه، ونتحفهم بمقدمته التي تشهد له بأنه ممن اتفقت لهم الإجادة في المنظوم

والمنثور، وهي - كما قال ابن خلدون - لا تتفق إلا للأقل، قال حافظ وأحسن ما

شاء هو وشاء الإحسان:

الشعر - وهو أحد توأمي اللغة العربية - علم وجد مع الشمس، لا تعرف الإنس

له واضعًا، قد كمن في نفوس البشر كمون الكهرباء في الأجسام، فلا يهتدي إلى

مكمنه الخاطر، ولا يعثر به الخيال إلا إذا أثارته حركة النفس، وهو من الكلام

بمنزلة الروح من الجسد، فلا بدع إذا عجز لسان الكون عن تعريف كنهه عجزه

عن إدراك كنه الروح.

ولقد عرَّفه بعضهم فقال: إنه نفثة روحانية تمتزج بأجزاء النفوس، ولا تحس

به منها غير النفوس الزكية. وقال آخر: إنه قول يصل إلى القلب بلا أذن.

ولم أعثر حتى اليوم على تعريف له شافٍ في كتب العرب والإفرنج، ومبلغ

القول فيه أنه ظرف الحكمة ومسرح الخيال ومغنى البلاغة وخدر الفصاحة ووعاء

الحقيقة، فلو أنهم سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانًا تشرف منه على الكون لما

اختارت غير بيت من الشعر [1] ، ولو لم تكن آيات الكتاب العزيز كلها ظروفًا

وأوعية للحقيقة لما وجد الملحدون السبيل إلى القول بأنه جاء على طريقة الشعر

وإن كان منثورًا.

وخير الشعر ما سبق دبيبه في النفس دبيب الغناء، ثم سبح بها في عالم

الخيال، فإن كان غزلاً مر بها على مسارح الظباء وكنس الآرام، وطاف بها على

أودية العشق والغرام، فأراها أسراب الأرواح ترفرف على نواحيها غاديات

رائحات في مروج الهوى، سائحات سارحات في رياض المنى، طائرات سابحات

في أجواء الهيام، حافات بأرواح أولئك الذين قضوا صرعى العيون، وشهداء

الجفون، وأراها جميلاً وهو يرنو إلى بثينته، والمجنون وهو يضرع ليلاه، ثم

ردها بعد ذلك وقد أذابها رقة وأسالها شوقًا، وإن كان حماسًا طار بها إلى مكامن

البلاء، ومساقط القضاء، يشق بها صفوف الحوادث، وكتائب الكوارث، حتى إذا

راضها على مصافحة الحمام، ومكافحة الأيام، انتقل بها إلى المعامع، فحبب إليها

لثم البتار، ومعانقة الخطَّار، وأراها عبد بني عبس وهو يسابق المنية إلى اختطاف

الأرواح وينادي:

لي النفوس وللطير اللحوم وللـ

ـوحش العظام وللخيالة السَّلَب

ثم ردها بعد ذلك، وهي تنظر إلى فرند القصاب، نظر المحب إلى لمي

الرُّضاب.

وإن كان فخرًا سما بها إلى عرش الجلال فأراها الشريف متربعًا في ناديه

يطالع في صحيفة أنسابه، وجريدة أحسابه، وهو يشتَمُّ من لحيته ريح الخلافة

ويخاطب بها صاحبها بقوله:

مهلاً أمير المؤمنين فإننا

في دوحة العلياء لا نتفرق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت

أبدًا كلانا في المفاخر معرق

إلا الخلافة ميزتك فإنني

أنا عاطل منها وأنت مطوق

وإن كان حكمة خرج بها عن ذلك العالم المجبول بالأذى، وآسى عندها بين

الوجود والعدم فروَّح عنها وهون عليها، ثم سرى بها من بيت العظة والاعتبار

وأراها شيخ المعرة وأبو الطيب بجانبه، يستصبح كل منهما بنوره صاحبه،

وأسمعها الأول وهو يقول:

ويدلني أن الممات فضيلة

كون الطريق إليه غير ميسر

والثاني وهو ينشد:

ألف هذا الهواء أوقع في الأنـ

ـفس إن الحِمام مر المذاق

والأسى قبل فرقة الروح عجز

والأسى لا يكون بعد الفراق

ثم ردها وهي تنظر إلى هذا الدهر وأبنائه نظر الممعود إلى غذائه.

وإن كان زاهدًا طرح عن منكبيها رداء الطمع، واستل من جنبيها خيوط

الجشع، وأراها الشيخ أبا العتاهية مضطجعًا في بيته، يتغنى ببيته:

الناس في غفلاتهم

ورحى المنية تطحن

ثم غادرها وهي تكتفي من دنياها بإحراز مسكة الحوباء، وتجتزئ منها بشربة

من الماء.

وإن كان مادحًا مثَّل لها الممدوح يسحب مطارف الحمد، ويجرَّ ذيول الثناء،

وقد كساه مادحه حلة لا تبلى وأحلّه المحلّ الذي لا ترقى إليه همة الزمان، وأراها

صاحب مسلم بن الوليد الذي يقول فيه:

موحِّد الرأي تنشق الظنون له

عن كل ملتبس فيها ومعقود

يلقى المنية في أمثال عدتها

كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود

وقد شفَّت له الآراء عن مواطن الصواب، وانشقَّت له حجب الظنون عن

مكامن الغيب ومثله لها في البيت الأول، وهو يسري ورأيه يضيء إضاءة الكهرباء

وفي البيت الثاني وهو يدفع الموت بالموت، ويدرأ الحتوف بالحتوف إذا شمر له

الموت عن ساعديه شمر، وإذا تنمر له الحِمام تنمر.

وإن كان استعطافًا مثّل لها النفس الموتورة، وهو يحلل من حقدها، ويقلم من

أظفار ضِغنها، وقد مال بها إلى جانب العفو والتجاوز، وأراها سيف الدولة في

ديوان إمرته، وأبو الطيب جالس بحضرته، ينشده قوله:

ترفق أيها المولى عليهم

فإن الرفق بالجاني عتاب

ولم تجهل أياديك البوادي

ولكن ربما خفي الصواب

وقد سكت عنه الغضب، وهبَّت من شمائله نسائم الرفق، وجال في محياه

ماء الصفح.

وإن كان وصفًا جسَّم لها الشيء الموصوف، حتى إنها لتكاد تهمُّ بلمسه،

وأثبت لها أن الشعر تصوير ناطق وأراها ذلك السيف الذي يقول فيه أبو الطيب:

سلَّه الركض بعد وهن بنجد

فتصدى للغيث أهل الحجاز

وهو يخطف البصر قبل اختطاف الهمام، ويلمع لمعان شقة البرق طارت في

الغمام، أو ذلك السيف الذي يقول فيه ابن دريد:

يُري المنايا حين تقفو إثره

في ظلم الأحشاء سبلاً لا تُرى

وهو كأنه سراج يضيء لعزريل فيهتدي به إلى مكامن الأرواح.

وإن كان تشبيهًا جلَّى لها وجه الشبه في مرآة الخيال، فأشكل عليها الأمر،

ولم تدر أيهما المشبه بالآخر، وأراها بزاة ابن المعتز التي يقول فيها:

وفتيان سروا والليل داج

وضوء الصبح متهم الطلوع

كأن بزاتهم أمراء جيش

على أكتافهم صدأ الدروع

وهي كأنها أولئك الأمراء، وأولئك الأمراء وهم كأنهم تلك البزاة.

ذلكم تأثير الشعر السري في النفوس، ولقد بلغ من تأثيره أن بيتًا منه أذكى

نار الحروب بين العرب والفرس، وهو قول ليلى بنت لكيز من قصيدة:

غَلَّلُوني قيَّدُوني ضربوا

ملمس العفة مني بالعصا

وإن بيتين منه أتيا على أمة بأسرها وهما قوله:

لا يغرنك ما ترى من أناس

إن تحت الضلوع داء دويّا

فضع السيف وارفع الصوت

حتى لا ترى فوق ظهرها أمويّا

وقد ترجل لبيت منه جيش بالأندلس وهو قول ابن هانئ:

من منكم الملك المطاع كأنه

تحت السوابغ تُبَّع في حِمْير

وبرز أحد ملوك الأندلس من خلف الستار حين سمع قول مادحه:

انظرونا نقتبس من نوركم

إنه من نور رب العالمين

البقية تأتي

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذه الجملة الأخيرة مقتبسة من كلام الأستاذ الشيخ محمد عبده.

ص: 422

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عفة نساء العرب وبلاغتهن

ذكَّرني بيت ليلى بنت لكيز الذي أورده محمد حافظ أفندي في مقدمة ديوانه أن

أُطرف القراء بخبر عفة هذه الفتاة، وقوة عزيمتها، وبلاغة قولها، وسحر بيانها،

وطالما كنت أحدِّث الإخوان بأن أبلغ بيت قالته العرب هو قول هذه الفتاة (غَلَّلُوني)

البيت، على أن البلاغة هي كما قال أستاذنا مفتي الديار المصرية هي أن يبلغ

المتكلم بكلامه ما يريد من التأثير في النفوس وإصابة موقع الوجدان منها.

ومجمل خبر الفتاة أن أباها وهو من بني وائل نزل في بعض منازل إياد

بالقرب من بلاد فارس، وكانت ليلى هذه بارعة الجمال، فتزلف بخبرها إلى ملك

الفرس رجل من تحوت إياد، على أن إيادًا كانوا مرذولين عند العرب لمجاورة

الأعاجم ومخالطتهم، فأخذها الملك من أبيها غصبًا، فبخلت عليه حتى برؤية

وجهها، فبذل لها في سبيل رؤيته ألوان المشتهيات، وروَّعها بضروب العقوبات،

فأبت عليه أن يراها، ثم خيَّرته بين أن يقتلها أو يعيدها لأبيها، فارتأى بعد ذلك أن

يفسد عفتها بالترف والنعيم، فكف عن مراودتها وأمر بأن ترفَّه وتغمر بالنعيم، وما

كان نعيم الأجنبي إلا بؤسًا عليها لعزة نفسها وأنفتها، ومن كلامها في تحريض

قومها على قتال الفرس وحماية عرضهم بإنقاذها:

ليت للبرّاق عينًا فترى

ما أُلاقي من بلاء وعنا

يا كليبًا وعقيلاً إخوتي

يا جنيدا أسعدوني بالبكا

عذبت أختكم يا ويلكم

بعذاب النُّكر صبحًا ومسا

غَلَّلُوني قَيَّدوني ضربوا

(ملمس العفة) مني بالعصا

يكذب الأعجم ما يقربني

ومعي بعض حشاشات الحيا

قَيِّدُوني غَلِّلُوني وافعلوا

كل ما شئتم جميعًا من بلا

فأنا كارهة بغيكم ويقين

الموت شيء يرتجى

يا بني كهلان يا أهل العلى

أتدلون علي الأعجما

يا إيادًا خسرت أيديكم

خالط المنظر من برد عمى

فاصطبار وعزاء حسنًا

كل نصر بعد ضر يرتجى

أصبحت ليلى يغلي كفها

مثل تغليل الملوك العظما

قل لعدنان هديتم شمروا

لبني مبغوض تشمير الوفا

واعقدوا الرايات في أقطارها

وأشهروا البيض وسيروا إلى الضحى

يا بني تغلب سيروا وانصروا

وذروا الغفلة عنكم والكرى

احذروا العار على أعقابكم

وعليكم ما بقيتم في الدُّنا

وقد كان لهذا ما كان من الحروب بين العرب والفرس، وانتهى الأمر بقتل

ملك الفرس وتخليص الفتاة، فليعتبر بهذه العفة والشهامة نساؤنا، بل وشبان

المصريين المتبجحون بأنهم أبناء عصر المدنية، وما بلغوا في الفضيلة بعض ما

بلغت تلك البدوية، قد أفسدت الشهوات بأسهم فمسنوا ومجنوا وتهتكوا حتى بلغنا

عن شاب من أذكيائهم أنه قال في بَغِيّ إنكليزية إنها حببت إليه بجمالها ودلالها

الاحتلال، وتلك نهاية التلاشي والانحلال.

_________

ص: 427

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة والأجوبة الدينية

(1)

من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: هل المحاورة بين

المصلح والمقلد حقيقية أم خيالية؟ فإن كانت خيالية هل يوضع الخيال موضع

اليقين في أمر من أمور الدين؟ وإن كانت حقيقية فمن المقلد ومن المجتهد ولما

يخفيان أنفسهما؟ وهل جُمِعَتْ في هذا المجتهد شروط الاجتهاد من الإسلام والعدالة

إلخ؟

(ج) ليراجع السائل جواب السؤال في الصفحة 68 من الجزء الثاني من

منار هذه السنة، فقد بيَّنا فيه أن من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد

كأساتذة المدارس، ومنهم من يخفي اسمه إذا كتب ليعلم الناس الحكم على القول

بذاته، ومعرفة الحق بنفسه دون قائله كما هو الواجب، ومنهم من يكتم اسمه لغير

ذلك ولا يتوقف عن قبول مثل هذا إلا من لا يستطيع فهم الحق بنفسه؛ وإنما هو

مفطور على التقليد بغير بصيرة، وليس المقصود من المحاورة حمل الناس على

العمل بقول أحد المتناظرين؛ وإنما المقصود بها فتح باب معرفة الحق بدليله لمن

هو أهل لذلك، هذا ما نجيب به على فرض أن المحاورة واقعة فعلاً، وإذا كانت

المحاورة غير واقعة، بل مفروضة، فأي حرج في بسط المسائل الدينية والعلمية

وشرحها بأسلوب السؤال والجواب والرد والاعتراض وهو أسهل الأساليب وأنفعها؟

ومن يتوهم أن هذا يحوِّل المسائل اليقينية إلى تصورات خيالية والبرهان هو

العمدة فيها؟ مثل هذا الوضع معهود من أكابر العلماء الذين يقلدهم السائل، ويقلد

من دونهم؛ ولكنه ذهل عن ذلك فكتاب (القسطاس المستقيم) للإمام الغزالي هو

بهذا الأسلوب، وكذلك مقامات الحريري وفيها ما لا يُحصى من أحكام الدين في

الفقه والآداب والمواعظ، وقد علم رحمه الله تعالى أن سيعترض عليه فقال في

خطبة المقامات:

(على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب المحابي،

لا أكاد أخلص من غُمْرٍ جاهل، أو ذي غِمر متجاهل، يضع مني لهذا الوضع،

ويندد بأنه من مناهي الشرع، إلى أن قال: فأيُّ حرج على من أنشأ ملحًا للتنبيه،

لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من

انتدب لتعليم، وهدى إلى صراط مستقيم)

إلخ.

وأما ما ذكره من شروط الاجتهاد التي وضعها المقلدون، فسيرى البحث فيها

في المحاورات إن شاء الله تعالى، وحسبه أن يعلم هنا أن إيراد المسائل بصورة

المناظرة لا يجعل اليقين خيالاً، وأنه لا حرج فيه، بل فيه أجر إحسان العمل

وتقريب العلم من الأفهام وهذه هي شبهته من تصوره أن المحاورة غير واقعة.

***

(2)

ومنه: هل يجوز لغير المجتهد أن يقلد المجتهد في معرفة الأحكام

الشرعية العملية من مذهبه؟

إلخ.

(ج) ذكرنا من قبل أن التقليد هو الأخذ برأي أحد من غير معرفة دليله،

فلا معنى للتقليد في المعرفة إلا أن يريد بالتقليد السير على طريقة المجتهد التي بنى

عليها مذهبه في الاستدلال والاستنباط، كما فعل أصحاب الإمام أبي حنيفة مثلاً،

ولا شك أن هذا جائز؛ لأنه تعلُّم وليس هو بتقليد، فسقط قوله في تتمة السؤال أن

الإمام أبا يوسف لم يدَّع مرتبة الاجتهاد المطلق، ولو لم يدعها لم يكن إمامًا يقتدى

به، إذ لا يقول أحد بتقليد المقلد، وقوله إن الوقت خلا عن المجتهد المطلق دعوى

لا دليل عليها، فهل عرف هو جميع المسلمين، وهم يعدون بمئات الملايين وتحقق

أن كل واحد منهم مقلد، وترون أجوبة بقية الأسئلة التي في ضمن هذا السؤال في

المحاورات؛ لأنها وفَّت هذا الموضوع حقه، والمعهود في الأسئلة والأجوبة التي

تنشر في الجرائد الاختصار، والملل والسآمة يتولدان من التكرار.

***

(3)

ما هي طريق الصوفية؟ ومن أهلها؟ وما أصولها وأركانها وشروطها

وآدابها وما حجتها على بحثها؟ وإذا جوَّزنا أن العهد الذي يتناقله أهل هذه الطريق

سلفًا وخلفًا لم يثبت بدليل صحيح، وأن حديث شداد بن أوس عن علي بن أبي

طالب رضي الله عنهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن أصحابه جماعة

وفرادى العهد الذي يتناقله القوم - لم يثبت عند حضرته، فكيف انخدع به أمثال

رجال الرسالة القشيرية، وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده كما ذكر المنار

نفسه في العدد الثامن من المجلد الثالث.

(ج) يراجع السائل العدد السابع والثلاثين من مجلد المنار الأول فإن فيه

مقالة طويلة في التصوف والصوفية، وكيف كانوا وكيف صاروا وفيها نقل عن

الرسالة القشيرية، وأما حديث شداد بن أوس فهو في تلقين كلمة التوحيد

وليست مختصة بالصوفية؛ وإنما هي عامة لكل مؤمن بالله ورسوله ولا حاجة في

إثبات تلقين كلمة التوحيد إلى تصحيح خبر شداد، أليس من التدليس - ولا أزيد

على هذا - أن يستدل على ما يتناقله أهل الطريق مما هو مختص بهم بحديث تلقين

النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلمة لا إله إلا الله لأصحابه؟ إن كانت هذه الكلمة

هي التصوف كله فكل المسلمين صوفية، وإن كان كل معناها كما يفهم الكثيرون أن

الذي خلق الخلق واحد لا شريك له في الإيجاد، فالناس كلهم صوفية أيضًا إلا أفراد

لا اعتداد بهم لقلتهم، كلا إن هذا اللقب كان يُطلق في عهد رجال الرسالة القشيرية

على الذين أخذوا بالعزائم، واتبعوا سيرة السلف الصالح في الدين، وتجنبوا البدع

التي حدثت بعدهم.

ثم ظهرت في الملة طوائف تفننت في البدع ما شاءت، وانحرفت عن صراط

السلف، وانتحلت كل طائفة منها اسم التصوف، وانتسبوا إلى أولئك الأئمة

المهديين بالقول، وخالفوهم في العلم والعمل والأخلاق والآداب، وإن أردت أن

تعرف بدعهم وضلالاتهم فعليك بكتاب المدخل لابن الحاج لا سيما أواخر الجزء

الثاني منه، وكذلك الإحياء والاعتصام، وقد بيَّن المنار بعضها وسيبين باقيها

بالتدريج إن شاء الله تعالى (راجع باب البدع والخرافات) .

أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فلم يسلك طريق التصوف انخداعًا بحديث شداد

ولا اهتداء به؛ وإنما قيض الله تعالى له رجلاً من أكابر الصالحين في أوائل توجهه

إلى طلب العلم، فكلَّفه في أوقات الفراغ أن يقرأ له رسائل كانت عنده من شيخه

ومربيه، فلما قرأ له عدة رسائل تأثر من هذه الرسائل لما فيها من تشديد النكير

على المعرضين عن هدي الدين، فانشرح صدره لأن يكون ممن تسميهم هذه

الرسائل (الإخوان) وسأل ذلك الصالح عن طريقهم فقال له هو الإسلام، فقال له

أليس سائر هؤلاء الناس على الإسلام أيضًا فما هو امتياز إخوانكم إذن؟ فأجابه

الصالح أن الإسلام ينهى عن الكذب وهؤلاء الناس يكذبون وإخواننا لا يكذبون،

والإسلام يأمر بالأمانة وهؤلاء الناس قد فشت فيهم الخيانة وإخواننا لا يخونون،

وهكذا صار يذكر له ما ينهى الإسلام عنه وما يأمر به ويذكر أدلة ذلك وأن إخوانهم

ممتثلين له، فقال له ماذا أعمل لأكون مثل إخوانكم فأمره بثلاثة أشياء:(أحدها)

أن يقرأ كل يوم جملة من القرآن مطالبًا نفسه بفهمها، وأن يراجعه فيما لا يفهمه

و (ثانيها) أن يذكر الله تعالى في أوقات الفراغ مع حضور القلب بغير تقييد بعدد

و (ثالثها) أن يتعلم كل علم أمكنه أن يتعلمه، وهكذا كان هذا هو التصوف الذي

يعنيه السائل، فهذا ما ندعو إليه ونسأل الله تعالى أن يوفق جميع المسلمين له.

وسيأتي الجواب عن بقية الأسئلة إن شاء الله تعالى، ونعتذر إلى السائلين

الآخرين بتقديم هذه الأسئلة على أسئلتهم التي طال عليها الزمن بإلحاح هذا السائل،

حتى أنه لم يكتف بما كتبه إلينا حتى نشر بعضه في مجلة الموسوعات الغراء، نعم

إنه عهد إلينا بعد ذلك بأن لا نجيب عن أسئلته التي نراها في الجرائد؛ ولكن ما

يُنشر لا بد أن يجاب عنه؛ لأنه تعلق به حق سائر القارئين.

_________

ص: 429

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(سياحة في غربي أوربا)

سافر في العام الماضي إلى أوربا صديقنا الفاضل الوجيه العاقل عزتلو نسيم

بك خلاط من أعيان طرابلس الشام، وكتب رحلة في ذلك سماها (سياحة في غربي

أوربا) طُبعت في مطبعة المقتطف، وأهديت إلينا نسخة منها، وقد قرأنا منها جملة

صالحة فألفيناها من أنفع ما كُتب في بابها، وأجلَّه فائدة.

ذلك أن من الناس من لا يكتب إلا في وصف الظواهر التي يشاهدها، فإذا

أحسن الوصف فهو كالمصور الذي لا يستطيع أن ينفخ الروح في الصورة التي

يصورها، ومنهم من همه ذكر المعايب، وانتقاد المثالب، ومنهم المغرم بالإغراب،

والإتيان بما يثير الدهشة والإعجاب، ومنهم المؤرخون الكاذبون الذين يفتنون

الناس بالتحيز إلى قوم وجعل سيئاتهم حسنات، والتحامل على آخرين بإبراز

حسناتهم في صور السيئات، وأفضل الكلام في التاريخ ما كان صدقًا لا كذب فيه ولا

مبالغة، وكان مقرونًا بالتنبيه إلى وجوه العبرة باستحسان الحسن، واستقباح القبيح

لذاتهما ومقارنة الحوادث بذكر الأسباب والنتائج، وهذه هي الخطة التي اختارها

صديقنا في الكلام عن سياحته، فنحث على مطالعتها والاستفادة منها.

***

(الجامعة)

أتمت هذه المجلة الغراء السنة الثانية، وصدر الجزء الأول من السنة الثالثة

طافحًا بالمقالات التاريخية والأدبية والمباحث العلمية والتهذيبية، وقد استقل بها

محررها الفاضل فرح أفندي أنطون وجعلها شهرية، ورفع قيمة الاشتراك، فجعلها

خمسين غرشًا أميريًّا في السنة، وكان أربعين غرشًا؛ لكنه زاد في مادة المجلة

فجعلها تسع كراسات، ويليها كراسة القصص (الروايات) فصفحاتها بذلك بعدد

صفحات المنار، فما جاء فيها من أنها (أرخص المجلات العربية) يصح بتأويل

أنها من أرخصها، وذلك معهود مستعمل.

وإننا نتمنى لصديقنا منشئها كمال التوفيق والنجاح، ولمجلته الرواج الذي

تستحقه؛ لينتفع الناس بها، ويستمر هو على الكتابة والتأليف الذي خُلِق له؛ فإن من

أعظم أسباب تأخرنا أن الذين استعدوا لأن تنتفع البلاد بأقلامهم لم تستعد البلاد لأن

تنفعهم بها، وتغنيهم عن الاشتغال بغيرها؛ ولذلك ترك أكثرهم المحابر والأقلام

واشتغلوا بتحصيل الرزق، وتركوا التأليف والتحرير للجاهلين الذين يفسدون بما

يكتبون ولا يصلحون {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) .

***

(المرأة)

مجلة نسائية علمية فكاهية لحضرة منشئتها البارعة أنيسة عطا الله فعسى أن

تصادف رواجًا؛ لتكون عونًا على انتشار العلم والأدب في النساء، فالعلم خير كله.

_________

ص: 433

الكاتب: محمد رشيد رضا

فضيلة مفتي الديار المصرية

في الآستانة العلية

سافر صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية

في هذا الصيف إلى دار السعادة العلية، ولما ألقى مراسيه فيها بادر حالاً إلى قصر

يلدز العامر، حيث مقام مولانا وسيدنا السلطان الأعظم أيده الله تعالى، وحينما أذن

مولانا بحضوره أمر بتبليغه السلام، ثم انصرف الأستاذ من القصر بعد أن أقام مع

عطوفة الباشكاتب السلطاني نحو ساعة، وبعد ذلك صدرت الإرادة السنية بأن يُعَدّ

لفضيلته دار مخصوصة من أحسن دور الضيافة السلطانية على ما جاء في بعض

الأجوبة من الآستانة ونشره المقطم الأغر، وورد في بعض الأخبار الخصوصية

الموثوق بها أن صاحبة الدولة والعصمة والدة الجناب العالي أمرت بأن يُدْعَى أيضًا

للنزول في قصر ببك، ثم أكد الخبرين معًا بعض الوجهاء الذين حضروا من عهد

غير بعيد من هناك، وقال: إن الأستاذ أقام في قصر ببك يومين أو ثلاثة أيام، ثم

عاد إلى دار الضيافة السلطانية؛ ولكن المكاتيب التي وردت من الأستاذ نفسه لم

تذكر أمر الضيافة بالمرة.

ومما ينبغي ذكره من غرائب ما في مصر من فساد الأخلاق والجراءة على مقام

السلطنة فما دونه من المقامات الرفيعة - أن الذين لا عمل لهم إلا السعاية والتجسس

والكذب على خليفتهم وسلطانهم أرسلوا إلى المابين الهمايوني، وإلى بعض الكبراء

في الآستانة تقارير خلقوا فيها ما شاءوا من الإفك وقول الزور، يريدون بذلك أن

يتوسلوا ليتوصلوا إلى التباعد بين الآستانة العلية ومصر؛ لأنهم يعلمون أن قول

الأستاذ في مصر هو القول الفصل الذي يؤثر ويُعوِّل عليه جميع أهل الفضل من

العلماء والوجهاء والموظفين، بل الذي لا يشك في صدقه أحد يعرفه.

كتبوا ما كتبوا وليس لهم شيء يتوكؤون عليه، وقد اتفق أن سافر في السفينة

التي سافر فيها الأستاذ المفتي صاحب المؤيد الفاضل، فكان رفيقًا له، وكان لهم في

هذه المرافقة الاتفاقية القال والقيل لعلمهم بأن جريدة المؤيد أعظم الجرائد تأثيرًا في

القطر المصري، وهي عمدة جميع مسلمي مصر في السياسة والأخبار، وقد خدمت

الدولة العلية والحضرة الحميدية خدمة لها في القطر أعظم تأثير.

ومما لا يعزب عن الذهن أن مفتي الديار المصرية وكبير العلماء فيها لا بد أن

يزور صاحب أكبر منصب علمي إسلامي وهو شيخ الإسلام، وقد كان معه في

زيارته له رفيقه، وأرسل هذا إلى جريدته ما دار بينهما من الحديث، ولا يتحدث

هذان الإمامان الجليلان إلا في العلم والعلماء ووظائفهم، وقد نشرنا جواهر الحديث

في المقالة الافتتاحية، ونقول هنا إن الجواسيس أعداء الدولة قد كتبوا بمناسبة ما

ذكره المقطم من استياء العلماء من الحديث تقارير برقية وبريدية مزورة على

العلماء في ذلك، ومن الناس من يقول إن بعض المتعممين المغرورين وافقهم على

ذلك، وأنه هو الذي غش المقطم حتى كتب ما كتب، ولو أن العلماء استاءوا حقيقة

لراجعوا في ذلك شيخهم الأكبر شيخ الأزهر وهو كان يكتب إلى الأستاذ المفتي بذلك،

ويقال إن أجرة التقرير الذي أرسله فلان بك بلغت أجرته ثلاثة جنيهات، وقد

اختلف من سمع ذلك في موضوع التقارير، ويقال إن في بعضها طلب أن يكذب

صاحب الدولة والسماحة شيخ الإسلام الحديث الذي نُشر في المؤيد أو يرجع عنه! ! !

وعندنا أن بعض الجرائد هي التي هوَّلت الأمر، وأن شيخ الإسلام إذا علم أن

بعض من ينتسب إلى العلم ينكر قوله وقول مفتي الديار المصرية، أو يستاء منه؛

فإنه لا يرجع إلا عن كلمة واحدة منه، وهي تسمية هؤلاء المستائين متفننين،

ويستبدل بها لقب معتوهين، ومثل هؤلاء لا تلتفت الدولة إلى كلامهم، ولا تنفذ لهم

رأيًا، ولا تجيب لهم طلبًا؛ لأنها بذلك تفتح على نفسها باب امتثال كلام من يجهل

الزمان وما يستلزمه ويناسبه، وربما يُجرّئهم السماع لهم إلى طلب ما فيه خراب

الدولة، وقد ذكرنا هذا ليتعجب العقلاء في سائر الأقطار من الخلل والخطل

الموجود في مصر أصلحها الله تعالى وأصلح أهلها آمين.

_________

ص: 435

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنبيه

جاءنا من تونس أن السيد عمر بن مبروك الذي سأل عن المؤجل، ونشر سؤاله

مع جواب المنار في الجزء الثامن (صفحة 304) ليس من أهل تونس نفسها؛ وإنما

هو من أهل قرية من قرى الغرب، ولعله اغتر ببعض أصحاب العمائم المتطفلين

على موائد العلم، فلم يجد عندهم ما يروي غليله، ولو كان من أهل تونس لسأل

علماء جامع الزيتونة الأعظم الذين لا يعجز تلامذتهم عن إجابته بما يرفع

عنه الحرج، ورأينا أن لا بد من هذا التنبيه حفظًا لكرامة أولئك العلماء الكرام.

_________

ص: 437

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إصلاح الطرق وأهلها

حضرنا في هذه الأيام مجلسين من مجالس أهل الجدّ والبحث في الشؤون

الاجتماعية الإسلامية والإصلاح، وكان من أهم ما أطلنا البحث فيه عدة ساعات

إصلاح طرق المتصوفة والانتفاع بها، فذهب فريق إلى أن لهذه الطرق مقامًا عليًّا

في نفوس العامة، وتأثيرًا كبيرًا إذ تولى تدبيره رجال من أهل الاستقامة والفضل

يمكنه أن يحدثوا انقلابًا عظيمًا في العالم الإسلامي، ومما استدل به على ذلك اهتمام

الأوربيين بهذه الطرق ووضع المؤلفات الطويلة فيها، واستخدام فرنسا الطريقة

التيجانية، وكونه لم يبق بين المسلمين في الأقطار البعيدة من الاتصال والارتباط

إلا هذه الطرق، وقالوا: إن أمثل طريق للإصلاح أن تؤلف جمعية من أهل الفضل

تُعِدّ الرجال المصلحين، وتسعى في جعلهم شيوخًا مسلكين.

وذهب الفريق الآخر إلى أن جميع ما ينفرد به هؤلاء الناس عن سائر

المسلمين في هذه الأزمنة فهو من البدع والخرافات، فإذا كان عمل المصلحين

إبطال هذه البدع وإرجاعهم إلى أصل الدين فذلك إبطال للطرق بالمرة، وهو

الإصلاح الحقيقي، وإن أقروهم عليها فلا إصلاح.

ومما قاله كاتب هذه السطور: إن الخلاف في إمكان إصلاح الطرق وعدمه

يرجع إلى أصلين عظيمين: أحدهما: كون الإنسان لا يعمل عملاً إلا إذا اعتقد عن

بصيرة أنه حق وحسن ونافع ليكون عاملاً بإرادته المنبعثة عن علمه، وهذا أساس

من الأسس التي قام عليها بناء الإسلام ولا يرتقي البشر إلا به. وثانيهما: الطاعة

العمياء وكون الإنسان يعمل بإرادة غيره، وهذا هو الأساس الذي بُني عليه

التصوف؛ لأنهم يشترطون أن لا تكون للمريد إرادة مع شيخه، وأن يكون معه

كالميت بين يدي الغاسل، وأذكر من دليل الأول أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم

كانوا يراجعون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض القول الذي يخالف رأيهم

فيقولون: أوحي يا رسول الله أم هو رأي لك - أو ما معناه - فإن أخبرهم أنه من

عنده ذكروا ما عندهم من الرأي، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى رأيهم

أحيانًا إذا ظهر أنه الصواب، وربما أيد الوحي رأي بعضهم على رأيه، كما في

مسألة أسرى بدر، ومن حكمة ذلك أن يفرق الناس بين العبد والرب والمخلوق

والخالق الذي لا يحيط علمًا بوجوه المنافع والمصالح غيره تعالى، فلا يعبدوا نبيهم

ويعطوه بعض خصائص الألوهية.

وقلت: إن الإصلاح الحقيقي هو البناء على الأساس الأول الذي ترتقي به

الأمة، وإذا وُجد شيوخ عارفون بالدين وحكمه وأسراره، وتولوا مشيخة الطرق

يمكنهم أن يرشدوا العوام، وإن اعتادوا على أن لا يخضعوا الخضوع التام إلا لمن

يدَّعي الكرامات، ويموه عليهم بالأوهام والخزعبلات، وأما استخدام الطاعة العمياء

والتسلط على إرادة العامة بدعوى الولاية والتصرف في الكون ونحو ذلك، فيمكن

لمن يستخدم ذلك بعقل ودهاء أن يُحْدِث انقلابًا عظيمًا، ويؤثر تأثيرًا كبيرًا باسم

الإسلام، كما فعلت جمعية الجزويت اليسوعية في النصرانية، وكما فعل كثيرون

من المسلمين لكن بغير سياسة وحكمة، وآخر هؤلاء مهدي السودان ولكن هذا لا

يكون إصلاحًا إسلاميًّا مبنيًّا على أساس الإسلام، وإن أمكن أن ينتفع به المسلمون

من بعض الوجوه.

ثم قال بعض العقلاء الاجتماعيين: إنكم لم تبينوا أيَّ إصلاح تريدون إن كنتم

تريدون الإصلاح السياسي، فالبحث في محله، وإن كنتم تريدون الإصلاح الديني فلا

سبيل إليه إلا بمحو هذه الطرق كلها؛ لأنها هي التي أدخلت الوثنية في الإسلام من

عدة قرون، فهي لا تتفق معه مطلقًا على أن الروابط بين أهلها قد تقطعت، ولم

يبق فيها طريقة يتصل بها بعض أهلها ببعض في كل بلد توجد فيه إلا اثنتان،

الطريقة المولوية وهي محصورة في بلاد الدولة العلية وأهلها أبعد الناس عن السنة

وسيرة السلف الصالح، والطريقة التيجانية في الغرب وهي التي صار زمامها في

أيدي الفرنساويين حتى أنهم صاروا فيها شيوخًا مرشدين.

وذكرنا السنوسيين أيضًا. وهذا بعض ما جرى في مجلس واحد، وقد جاءتنا

في هذه الأيام رسالة من السودان في الطرق هناك، وفيها تفصيل خرافات شيخ

الطريقة الإسماعيلية التي هي فرع من الطريقة المرغنية الختمية، ومنها أن

صاحبها يدَّعي أن الله يكلمه ويعده، وكذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،

وسننشرها في المنار لتكون عبرة لمثل الشيخ أحمد الألفي الذي يُسَلِّم بكل ما عليه

المنتسبون إلى الطريق، ويحتج على ذلك بتلقين النبي صلى الله عليه وسلم

الصحابة كلمة لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

_________

ص: 438

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وظائف علماء الدين

إذا طالب عقلاء المسلمين وفضلاؤهم العلماء بالعمل وخدمة الأمة التي أشرفت

على الانحلال بتوانيهم وإهمالهم، وعكوفهم على ما يرون أن فيه منفعتهم الشخصية -

ينبري علماء السوء الذين سماهم الله تعالى ظالمي أنفسهم للطعن في المطالب

قائلين: إنه أهان العلماء، وحاول إزالة سلطانهم ونفوذهم من نفوس العامة، كأنهم

يرون أن غاية العلم وفائدته تعظيم العامة لهم وإكرامهم بالمال وغيره؛ ولكن الله

ورسوله يشهدان على أن من يطلب العلم لهذه الغاية عدو لله مستحق لمقته وعقوبته.

آيات القرآن التي تأمر بالإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى وحده في كل أمر

ديني كثيرة، وكذلك الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أحمد ومسلم والنسائي أن

النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (إن أول الناس يُقْضَى عليه يوم القيامة

رجل استشهد فأُتِي به فعرَّفه نعمته فعرفها [1] ، قال فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك

حتى استشهدت، قال كذبت؛ ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل ثم أُمر به فسحب

على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن فأُتِي به

فعرَّفه نعمته فعرفها، قال فماذا عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلمته، وقرأت

فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو

قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وَسَّعَ

الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي فعرفه نعمته، فقال ماذا عملت فيها؟

قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت؛ ولكنك

فعلته ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار) رواه

غير هؤلاء الثلاثة بألفاظ أخرى، وفي حديث للحاكم مختصر أن النبي صلى الله

تعالى عليه وآله وسلم قال: (ثلاثة مهلكون عند الحساب جواد وشجاع وعالم) .

فعلمنا من هذا أن العالم الذي غرضه من العلم السمعة، وأن يحترمه العوام

ويكرموه هو من أهل النار، وإن كان عاملاً بعلمه ومفيدًا للناس؛ لأن الله لا يقبل

من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، فما بالك إذا كان غير عامل ولا معلِّم،

وكان يتخذ العلم أحبولة لصيد المال بالباطل، وحيلة لإضاعة الحقوق كبعض متفقهة

الحنفية وقضاتهم الذين يتفقون مع المحامين الذين لا ذمة لهم ولا أمانة على إضاعة

الحقوق، واقتسام الجعل على ذلك، هل يُعد هؤلاء الفجار من علماء الدين الذين

يجب احترامهم وإكرامهم؟ كلا بل أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان

هم الخاسرون.

لو كانوا من حزب الله وعلماء دينه لخافوه وخشوا منه، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا

يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ولا شك أن من يعرف الله يخافه

تعظيمًا وإجلالاً، ويخافه حذرًا من عقوبته، ولو كان هؤلاء يخافون الله تعالى لما

تمادوا في الظلم، وهو كما ورد ظلمات يوم القيامة وهو من الذنوب التي لا يغفرها

الله تعالى، إلا أن يغفر المظلوم وأكثر المظلومين لا يغفرون لمن ظلمهم، وقد ورد

في الصحيحين أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين أرسله إلى

اليمن (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فثبت بهذا أنهم لا

يعرفون الله تعالى، ومن لا يعرف الله تعالى فهو أجهل الجاهلين، وإن حفظ

الشرنبلالية والتتارخانية والولواجلجية وابن عابدين.

علماء الدين هم الذين يقومون بحقوق الدين، ويؤدون وظائف العلم به

فيكونون كالمطر حياة للبلاد وللعباد. روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي

موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال (مثل ما بعثني الله به من

الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت

الكلأ والعشب الكثير [2] ، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس

فشربوا منها وسقوا ورعوا [3] ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء

ولا تنبت كلأ [4] ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلَّم

ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) وهذا الحديث

الصحيح بمعنى الآية الشريفة التي افتتحنا بها مقالة (علماء الدين) في الجزء

الماضي، فالظالم لنفسه هناك هو المضروب له مثل الأرض القيعان التي لا ينتفع

بها، وأما الذي يؤذي الناس بتعليمهم الحيل الفقهية التي يأكلون بها السحت

ويهضمون الحقوق، فهو شر الأشرار ولم يذكر هنا ولا هناك؛ لأنه ليس من علماء

الدين بالمرة، وقانا الله والناس من شره.

ما هي وظائف علماء الدين؟ يقولون: هي حفظ علوم الدين مقاصدها ووسائلها

وتعليمها للناس، وما الغرض من هذه العلوم إلا حفظ الدين ولغته العربية،

وانتشارهما، فهل هما في هذه العصور محفوظان ومنتشران بسعي العلماء فنبرئهم

من التقصير؟ بيَّنا في الجزء الماضي أن أكثر المسلمين غير عاملين بالدين على

وجهه، وأقمنا على ذلك البرهان الذي لا ينقض، ونقول الآن في اللغة: إن الأزهر

وهو أكبر مدرسة دينية في العالم لا يوجد بين هؤلاء الألوف من المدرسين

والمتعلمين فيه عشرة نفر يفهمون كلام العرب، ويقدرون على الكلام العربي البليغ

قولاً وكتابة، وإذا زعم المكابرون أن هذا القول غير صحيح فليعدوا لنا عشرة منهم

يفهمون اللغة وينطقون بها ويكتبون وليبرزوهم للامتحان.

يخرج في كل عام من المدارس الأميرية وغيرها مئات يحسنون التكلم بلغة

أجنبية، ولا يخرج من الأزهر مجاور واحد يحسن اللغة العربية، فهل صار تحصيل

لغة القرآن وهي أفصح اللغات وأعذبها متعذرًا، وتحصيل تلك اللغات التي سمتها

العرب أعجمية تشبيهًا لأهلها بالعجماوات - كما قال بعض الأذكياء - سهلاً متيسرًا؟

كلا إن العربية ضاعت بفساد التعليم، بل بفقده فإن الاشتغال ببعض الكتب الفنية لذاتها

والمحاورة في أساليبها الضعيفة الركيكة لا يوصل إلى اللغة؛ وإنما يعين على

تحصيلها فهم القواعد مع الأمثلة والشواهد، إذا جيء إليها من طريقها، ودخل عليها

من بابها، وهو مدارسة كلام أهلها وحفظ جملة صالحة منه مع الفهم كما بيَّناه في

المنار مرارًا.

وُجد في مصر عالم من علماء اللغة يُعَدُّ في طبقة الأئمة الحفاظ الذين وضعوا

لها المعاجم، ودوَّنوا الدواوين وهو الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فلم يعرف له

فضله أحد من علماء الأزهر ويرشد الناس إلى الانتفاع بعلمه إلا مفتي الديار

المصرية الشيخ محمد عبده وكان ينبغي لشيخ الأزهر أن يندبه لقراءة أشعار العرب

وأراجيزهم في الأزهر، وقراءة بعض الكتب النافعة ككتاب سيبويه، وكتاب الكامل

للمبرد، ويأمر العلماء ونجباء المجاورين بالتلقي عنه إذا كانوا يودون إحياء اللغة،

ولا يحيا الدين إلا بحياة لغته؛ ولذلك أوجب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه

على كل مسلم أن يتعلمها كما في كتاب الأم، وأكثر علماء الأزهر شافعية.

هذا كلام إجمالي في وظائف علماء الإسلام التي يُسَلِّم جميعهم بأنها مطلوبة

منهم، ولو بسطناها بالتفصيل لاحتجنا إلى إعادة كثير مما كتبناه في مقالات سابقة،

من ذلك أن الدعوة إلى الدين من أهم وظائف العلماء به، وقد كتبنا فيها مقالتين

مسهبتين في الجزئين 20 و 21 من المجلد الثالث، ومنها المدافعة عن الدين وردّ

الشبهات التي ترد عليه من المشتغلين بالعلوم الكونية، ومن أهل الأديان الأخرى،

وهذه الوظيفة تستلزم أن يعرف علماء الدين جميع العلوم الكونية، لا سيما التي

ساقت المسلمين طبيعة العمران إلى تعلمها كالرياضيات والطبيعيات والتاريخ

بأنواعه والفلسفة، وإننا نرى الذين يتلقون هذه العلوم يقعون في شبهات تزلزل

عقائدهم، ومنهم من يمرق من الدين مروق السهم من الرمية، وقد ابتلينا بمناظرة

كثيرين منهم ووفقنا الله تعالى لإقناع بعضهم وإلزام بعض، ورأينا بعضهم يتألم

ويتململ من الشبهات ويقولون إنهم طلبوا كشفها ممن يعرفون من علماء الدين،

فمنهم من لم يفهم الشبهة؛ لأن فهمها يتوقف على معرفته بالعلم الذي تولدت منه،

ومنهم من كان يكذِّب بها وينكرها بالمرة، بدعوى أن الذين قالوها أو اكتشفوها كفار

فكان مثلهم كمثل ذلك القاضي الشرعي الذي استحل شرب نوع من الخمرة بناء على

أن الذي اشتراها له روى عمن اشترى منه، وهذا روى عن صانعيها وكلهم كفار لا

تُقْبَل روايتهم، ومنهم من كان يكتفي من الجواب بقوله: إن هذا كفر وإن كلام الدين

وعلماء الدين أصدق من كلام الفلاسفة والكافرين، ونحن نقول: يستحيل الخلاف

والتناقض بين الدين الإسلامي وما ثبت من العلوم الكونية، وقد بيَّنا هذا في مقالة

الشريعة والطبيعة والحق والباطل، فلتراجع في المجلد الثاني (صفحة 641) .

يبحث كُتَّابنا وكتاب أوربا في مستقبل الإسلام، وليس أمام المسلمين إلا أحد

أمرين (1) الأخذ بأسباب القوة والثروة من طريق العلوم الكونية بباعث الدين،

وعلى الوجه الذي يحفظ مجده، ولا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان زمام التعليم في

أيدي علماء الدين، ولا يكون زمامه في أيديهم حتى يكونوا عارفين بهذه العلوم حق

المعرفة مع الحكمة والسياسة وحسن التوسل للتوصل، و (2) الوقوع في أسر

أوربا واستعبادها.

البلاد الإسلامية على قسمين: بلاد فاض عليها سيل أوربا، وبلاد لمّا يأتيها

السيل الجارف؛ وإنما أصاب بعضها رشاش منه ينذرهم بالطوفان العظيم (والسيل

حرب للمكان العالي) ولذلك جرف الحكام قبل المحكومين وهم له كارهون،

والناس تبع لرؤسائهم في الدين والدنيا، فإذا ذهب التيار برؤساء الدنيا، فالمطلوب

من رؤساء الدين السعي في إنقاذهم وإنقاذ سائر الأمة؛ فإن أمراء المسلمين وحكامهم

لم يبلغوا مبلغ حكام أوربا في نبذ الدين وراء ظهورهم، فهم في الغالب يعتقدون

بحقيته ولا يرون سبيلاً لإقامة أحكامه؛ لأن العلماء لم يجلوها لهم على الوجه الذي

ينطبق على مصالح البشر في هذا العصر، بل ظهر لهم عجز علماء المسلمين عن

إقامة العدل وحفظ مصالح الناس في الأحكام الشخصية التي عُهدت إليهم في المحاكم

الشرعية.

فإذا استطاع العلماء في هذه البلاد أن يحولوا سيل العلوم والمدنية إلى

المجاري الإسلامية، يتسنى لهم بعد ذلك أن يفيضوا منه على البلاد الأخرى، وهي

تقبله سريعًا؛ لأنه جاء من قِبَل إخوانهم في الدين فيعم الإصلاح بوقت قريب، ألا

ترى أن مسلمي الهند كانوا يخافون من هذه العلوم التي يستنشقون اليوم منها نسيم

الحياة؛ لأنها جاءتهم على أيدي الإنكليز.

ونقول في الختام: من وظائف علماء الدين نشر لغة الدين بجعلها لغة

التخاطب، ولغة العلوم لتستغني الأمة بها عن اللغات الأجنبية إلا نفرًا يترجمون

وينقلون، ومن وظائفهم الاستعداد للمدافعة عن الدين ومقاومة البدع ورد الشبه التي

ترد عليه، ومن وظائفهم نشره والدعوة إليه، ومن وظائفهم تعميم تعليمه على

الوجه الذي يرقي العقول والأرواح، ويرشد إلى سعادة الدارين، ومن وظائفهم

التربية الدينية العملية التي تطبع ملكات الفضائل في النفوس، والأعمال تابعة

للعقائد والملكات، فمتى صلحا بالتعليم الصحيح والتربية النافعة حسنت الأعمال

وسعدت الأمة، ومن وظائفهم إزالة الخلاف في الدين وجمع كلمة المسلمين، ومن

وظائفهم الاجتهاد في جعل جميع كتب التعليم من تأليفهم، كيلا يدخل فيها ما يزعزع

الاعتقاد، أو يفسد الآداب، بل لتكون مزيد كمال في الإيمان، ومن وظائفهم القيام

بجميع مصالح الأمة حتى السياسية والحربية؛ لأن الإسلام دين جامع لكل ما

يحتاجه البشر، فإذا كانوا قد سُلبوا هذه الرياسة لتقصيرهم، فينبغي لهم أن يستعدوا

لها حتى إذا أعطوها أقاموا بها حق الإسلام، ونصروا الدين

إلخ إلخ.

فهل أدوا وظيفة من هذه الوظائف حقها، وقاموا بها كما ينبغي؟ ولا ينتفي

عنهم التقصير الذي نسبه إليهم شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية، إلا إذا قاموا

بها كلها وظهر أثرها في إسعاد الأمة وترقيها، وعند ذلك يعظّمون بحق، وإذا

تمادوا في هذا الإهمال، فلا يمضي زمن يسير حتى يزول ما بقي لهم من الكرامة

والإجلال، ويُحْرَمون الجاه والمال، ويكون مآلهم شر مآل، وبعد ذلك يقيض الله

لدينه من شاء من الأمم ليظهره على الدين كله، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلى

على الظالمين.

_________

(1)

قوله (فأتي به إلخ) ، تعبير بالماضي عن المستقبل باعتبار أنَّ ما سيقع قطعًا في تحققه كأنه

قد وقع فعلاً، وقوله (فعرَّفه) أي يُعَرِّفه الله تعالى نعمه، وهكذا يقال في الباقي.

(2)

النقية: الخصيبة.

(3)

أجادب: جمع جدب بالتحريك على غير قياس، كذا قال شارحه، وفي القاموس أنه جمع أجدُب الذي هو جمع جدْب، قال ابن الأثير: هي صلاب الأرض تمسك الماء ولا تشربه سريعًا، وهذا المثل لرواة العلم وحملته، والأول للمستنبطين وهما القسمان المنتفعان.

(4)

هذا مثل من لم ينتفع ولم ينفع.

ص: 441

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحية

وحجج الإسلام على المسيحيين

نبذة رابعة

ذكرنا في النبذ الماضية أن عقائد المسيحيين التي هم عليها من عهد بعيد

مأخوذة من عقائد الوثنيين، وقلنا: إن الكتب التي يُسمَّى مجموعها عند اليهود

والنصارى التوراة، ليست هي التوراة التي شهد لها القرآن الشريف؛ وإنما توراة

القرآن هي الأحكام التي جاء بها موسى عليه السلام وتوجد فيما عدا سفر التكوين

من الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى، وفيها تاريخه وذكر وفاته، وبيَّنا أنه لا

سبيل إلى هروب أهل الكتاب من اعتراض الفلاسفة والعلماء والمؤرخين على كتبهم

إلا بالاتفاق مع المسلمين على هذا الاعتقاد.

ونذكر الآن كلام بعض فلاسفة فرنسا في الطعن بالديانتين اليهودية

والنصرانية، وكتبهما نقلاً عن كتاب (علم الدين) الذي ألَّفَه الخالد الذكر علي باشا

مبارك ناظر المعارف سابقًا، قال في المسامرة الرابعة والتسعين حكاية عن

الإنكليزي الناقل كلام الفيلسوف الفرنساوي بعد كلام، ما نصه:

(ويقول: إن التوراة كتاب مؤلَّف وليس من الكتب السماوية متكئًا في ذلك

على قول ماري أغسطس: إنه لا يصح بقاء الإصحاحات الثلاثة الأولى على ما

هي عليه، وعلى قول أويجين بأن ما في التوراة مما يتعلق بخلق العالم أمور

خرافية بدليل أن كلمة (بَرَّاه) العبرانية وهي بفتح الباء وتشديد الراء وسكون الهاء

معناه رتب ونظم، ولا يرتب أحد شيئًا وينظمه إلا إذا كان موجودًا من قبل،

فاستعمال هذه الكلمة في خلق العالم يقتضي أن مادة العالم كانت موجودة من قبل،

فتكون أزلية ويكون ملازمها وهو الزمان والمكان أزليين، وحيث إنهم قالوا: إن

المادة ذات حياة، فتكون الروح أيضًا أزلية؛ لأنها هي التي بها الحياة، وبما أن

المادة هي النور والحرارة والقوة والحركة والجذب والقوانين والتوازن، فتكون

الحياة والمادة كالشيء الواحد لا يمكن انفصالهما وجميع ذلك يخالف ما في التوراة.

ويقول أيضًا: إن الستة الأيام التي ذكرها موسى لخلق العالم هي الأزمان الستة

التي ذكرها الهنود، والجنبهارات الستة التي ذكرها زروطشت للمجوس، وأن

الفردوس الذي كان فيه آدم إنما هو بستان الهيسبرويو الذي كان يخفره التنين، وأن

آدم هو آديمو المذكور في أزورويدام، وأن نوحًا وأهله هو الملك دوقاليون وزوجته

بيرا وهكذا.

ويبالغ في القدح في التوراة، ويقول: إنها مبتدأة بقتل الأخ أخاه، واغتصاب

الفروج وتزوج ذوي الأرحام - بل البهائم - وذكر النهب والسلب والقتل والزناء ونحو

ذلك من الأمور التي لا يليق أن تنسب لمن اصطفاه الله تعالى وجعله أمينًا على

أسراره الإلهية، فانظر إلى اجتراء هذا الرجل على نبي الله موسى عليه السلام،

وعلى كتاب الله التوراة، مع أن التوراة هي أساس الإنجيل، فما يقال فيها يقال في

الإنجيل [1] ؛ ولذلك يقولون: إن رسالة عيسى قد نبَّهت عليها اليهود من قبل بقولهم إنه

سيجيء إليهم مسيح، وكلمة مسيح ككلمة مسايس، ومسايس لقب شريف باللغة

العبرانية، وقد لُقِّب به إشعيا كيروس ملك الفرس كما في الإصحاح الخامس

والخمسين، ولُقِّب به حزقيال النبي ملك مدينة صور، ومع ذلك فلم يلتفت هذا

الرجل إلى شيء من ذلك فقال ما قال.

ومن اعتقادات النصارى أيضًا أن الله تجسد في صورة عيسى، وأنه هو الإله

وليسوا أول قائل بهذا التجسد، بل قيل قبلهم في جزاكا وبرهمة بقدس الهند وقيل

في ويشنو أنه تجسد خمسمائة مرة، وقال سكان البيرو من أمريكا أن الإله الحق

تجسد في إلههم أودين، وإن ولادة عيسى من بكر بتول فتح روح القدس يشبه قول

أهل الصين أن إلههم فُوَيْه ولدته بنت بكر حملت به من أشعة الشمس، وكان

المصريون يعتقدون أن أوزوريس ولد من غير مباشرة أحد لأمه.

وقول النصارى: إن عيسى مات ودفن، ثم بُعِثَ ورُفِعَ إلى السماء حيًّا، قال

بمثله قبلهم المصريون في أوزوريس المصري، وفي أورنيس من أهالي فينكيه

وفي أوتيس من أهالي فريجيه، إلا أنهم لم يقولوا برفعه إلى السماء، وكما قيل إن

أودين كان قد بذل نفسه وقتلها باختياره بأن رمى نفسه في نار عظيمة حتى احترق،

وفعل ذلك لأجل نجاة عباده وأحزابه، فكذلك النصارى يعتقدون أن حلول الإله في

عيسى وإرساله وموته إنما كان لأجل فداء الجنس البشري وتخليصه من ذنب

الخطيئة الأولى، خطيئة آدم وحواء، وأما إدريس النبي قد رفع إلى السماء بدون

أن تكفر عنه الخطيئة، ولا شك أن هذا خرافة، ولهم كلام كثير من هذا القبيل

يطول شرحه، ولا فائدة في ذكره) اهـ.

(المنار)

لهذه الشبهات بل الحجج على عقائد المسيحيين واليهود ترك علماء أوربا الدين

المسيحي، فبعضهم صرح بتركه، بل وبعض حكوماتهم؛ فإن الحكومة الفرنسوية

أعلنت إعلانًا رسميًّا بأنه لا دين لها، وطاردت رجال الدين واضطهدتهم، ومن بقي

يتظاهر بالدين من عظمائهم فإنما هو لأجل السياسة، ولذلك ترى الفلاسفة والعلماء

الذين يعبأون بالسياسة يصرِّحون بعدم الاعتقاد بالوحي مع اعتقادهم بأن الدين

ضروري للبشر؛ ولكنهم لم يجدوا في الدين الذي عندهم غناء، ودين الفطرة محجوب

عنهم؛ فإنهم ترجموا القرآن الكريم ترجمة فاسدة لم يفهموا منها حقيقة الإسلام، أذكر

من ترجمة إنكليزية قول المترجم لسورة العصر (إن الإنسان يكون بعد الظهر بثلاث

ساعات رديئًا أو قبيحًا) ولو فهم فلاسفة أوربا هذه السورة لجزموا بأنها على

اختصارها تغني عن جميع ما يعرفون من كتب سائر الأديان، وهو مفهوم في الجملة

لمن له أدنى إلمام باللغة العربية وهي {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر:

1-

3) .

إذ يعلم أن المراد بصيغة القسم التأكيد، ويعلم أن المراد بالإنسان الجنس،

وأن الصالحات ما يصلح بها حال الإنسان في روحه وجسده في أفراده ومجموعه،

وأن التواصي بالحق هو من التعاون على الأخذ به والثبات عليه، وأن الحق هو

الشيء الثابت المتحقق، وثبوت كل شيء بحسبه، وأن الصبر يشمل الصبر عن

الشيء القبيح كالمعاصي والشهوات الضارة، والصبر في الشيء الذي يشق احتماله

كالمدافعة عن الحق والمصائب.

كان أهل روسيا وأهل أسبانيا أشد أهل أوربا تمسكًا بالمسيحية، ثم ظهر

أخيرًا من اضطهاد الإسبانيين لرجال الدين ما طيَّر خبره البرق إلى جميع الأقطار،

واشتغلت به الجرائد في جميع البلاد، ولما قام الفيلسوف تولستوي الروسي يفند

تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية، ويبين بطلان الديانة المسيحية - انتصر له المتعلمون

للعلوم والفنون حتى تلامذة المدارس وتلميذاتها، فهذا هو شأن الديانة المسيحية كلما

ازداد المرء علمًا ازداد عنها بعدًا؛ وإنما كانت أوربا مسيحية أيام كانت في ظلمات

الجهل والغباوة، وبعكسها الديانة الإسلامية هي حليفة العلوم، وقد كانت أمتها في

عصور المدنية والعلم أشد تمسكًا بالدين، وصارت تبعد عن الدين كلما بعدت عن

العلم.

أما الآن فإننا لا ننكر أن بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية قد وقعوا في

بعض الشبهات، وبعضهم أنكر الدين تبعًا للأوربيين الذين أخذ عنهم؛ ولكن السبب

في هذا أنه لم يعرف الإسلام ولم يتعلمه قبل العلم الأوربي ولا بعده، ولهذا نطالب

علماء ديننا بأن يجتهدوا في جعل زمام تعليم العلوم الكونية بأيديهم؛ لأننا نثق أتم

الثقة بأنه لا يمكن أن يرجع عن الإسلام من عرفه، وكيف يختار الظلمة من عاش

في النور، وإن لنا لَعودة إلى الموضوع إن شاء الله تعالى.

يتصل الكلام

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار - هذه الجملة وما بعدها من كلام الإنكليزي، ولا شك أن إبطال التوارة يستلزم إبطال الإنجيل كما قال، ولا يمكن التخلص من ذلك إلا بالإسلام.

ص: 448

الكاتب: ع. ز

‌لائحة الفقه الإسلامي

لحضرة العالم الفاضل صاحب التوقيع

(تابع ما قبله)

كلام صديقي

يحتاج الجواب عن كلام صديقي إلى إفراد مندرجاته فهو ينحصر في هذه

المسائل: (1) لا بد لكل أمة متمدنة من قانون جامع لجزئيات الحوادث. (2)

الإسلام جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية إلا أن ما جاء به قواعد كلية. (3)

الإحاطة بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل مع إرجاعها إلى تلك

القواعد. (4) علماؤنا فعلوا ما يجب عليهم من هذا القبيل، وأحاطوا بكثير من

الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم من تحديد بعض العقوبات،

وترتيب المحاكمات والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق الشخصية تفريقًا

يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة فيها خصمًا وحكمًا في

آن واحد. (5) علماؤنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين

يكاد لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها إلا أنه مشوش بكثرة ما

اختلفوا فيه حتى في المسألة الواحدة. (6) سبب هذا الاختلاف انفراد الآحاد

بالتشريع - أي التفريع - بحيث يجوِّز الواحد منهم ما يمنعه الآخر وبالعكس. (7)

سبب هذا الانفراد التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى يتناولها من

شاء ومن ليس بمعصوم من الأفراد؛ وذلك لم تفعله أمة متمدنة من قبل. (8) لو فهم

المسلمون منذ استفحل أمرهم واشتدت للقوانين الجامعة حاجتهم معنى ما يسمى عند

علمائهم الإجماع لاستفادوا منه إلى الآن فوائد كثيرة، ولما تركوا أمر القوانين فوضى

لا يعتمد فيه إلا على قال فلان، وأفتى أهل الفضل ولكانوا عهدوا بتفريع الأحكام

واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس الحاجة

في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان. (9) لما لم يفهموا هذه

القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين كان وضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع

الذي قلت عنه إنه مجموع قوانين لازمًا. (10) تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد

ليس فيه من حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما

شاء من الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك وهو الأحوط أيضًا في

الدين والدنيا. (11) اعترف حفظه الله بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام المعاملات

بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت. (12) وأنكر قولي إنه

ليس من علوم الدين؛ وإنما هو مجموع قوانين وضعها المتقدمون، قال بل رأيي أنه

من علوم الدين باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه

داخل تحت حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث

حدثت بعدُ للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين. (13) مسوغ الاجتهاد

ميسر لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من

العصور. (14) العلماء بين أمرين، إما أن يعتبروا أن كل ما حرره الأئمة وقرروه

من الدين، فيلزمهم في هذه الحال التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من

هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب

خاص ليس فيه أدنى شائبة من مثارات الخلاف؛ ليكون شبه بقانون عام شامل لسائر

حاجات الاجتماع يعمل به المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما

حرره الأئمة من الدين، بل يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة

اختلافهم في الأحكام منعًا وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال

يجوز لهم الاجتهاد كما جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا

في هذا العصر مراعى فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع في

مناحي أخرى أصبح التوسع فيها الآن من ضروريات الحياة الاجتماعية.

جوابي

الذي يراني متصديًا للجواب يظن أنني أقصد ردًّا على صديقي الفاضل وليس

كذلك، بل ليس في مقدماته ما يرد غير أن النتيجة الحسنة التي أشار إليها لا

نحصل عليها، وعلم الفروع الحاضر هذا حاله من التشويش الذي اعترف به،

وهذا حال كل فريق منا من تقديس ما ينتسب إليه، واعتبار كل ما جاء تحت اسمه

من عند الله عز وجل، على أن الجواب على الإفراد يزيد المسألة وضوحًا، وإن لم

يقصد به رد وهذا هو:

ج (1 - 2 - 3) ما جاء في هذه الأرقام مسلَّم ما أنكرته ولا أنكره، أما

كون كل أمة متمدنة لا بد لها من قانون جامع لجزئيات الحوادث، فيكاد أن يكون

من العلوم الضرورية، بل الأمم البدوية أيضًا لا تستغني عن قانون يجمع لها

جزئيات الحوادث بحسب حاجاتها، وإنا لنعلم بالاختبار أن هؤلاء الأعراب

الضاربين في مهامه الشام والعراق لهم قضاة يدعون واحدهم بالعارفة [*] يقضي

بينهم بأحكام يتداولونها، ويسمُّون معلوماتهم في الأقضية بشرع العرب ولم يفتهم

النصيب من عقولهم وذواكرهم لمَّا عدموا النصيب من الكتابة والتدوين، وجزئيات

الحوادث في كل أمة تكون بحسبها من المعيشة والعادة والعقيدة، ومهما كانت الأمم

من الجاهلية لا تلبث متى رمت بالقدم الأولى في ميدان المدنية أن تصطلح على

قانون يوحدها مَثِّل لهذا بأمة الرومان، ثم أصول الأمم الأوربية الموجودة، ثم مَثِّل

بالعرب بعد أن كثرت فتوحاتهم واشتدت لوسائل العمران حاجاتهم ودخل في

حوزتهم أمم شتى، كانت ذوي صناعات وزراعات وتجارات ولهم قوانين قديمة

وعادات راسخة، وبالجملة إن التشريع في الأمم ضروري؛ ولكن الناس يتفاضلون

فيه فمنه الصالح والأصلح وضدهما.

وأما كون الإسلام جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية، فهو من أجزاء

معتقدنا ومتممات إيماننا، ما جاء به الإسلام قواعد كلية، والإحاطة بالجزئيات

موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل مع إرجاعها إلى تلك القواعد، والاختلافات

إنما نشأت من الأفهام وهي اختلافات عظيمة، فإذا فرضنا مائة قول في مسألة ما -

وهو فرض له تحقق - فالمصيب منها واحد والمخطئ 99 حُرِمُوا من العقائد الكلية

التي يرجع إليها كل واحد بما قال، كما حُرم أصحاب المذاهب في العقائد الإسلامية

من القواعد التي هي أصول، ثم هل نستطيع أن نبرهن أمام مناظر أجنبي على أن

العقل الإنساني السليم لا يمكن أن يحيط خبرًا بتلك القواعد المعدودة إلا أن يسمعها؟

ج (4، 5) مما تقدم يُعلم الجواب عما جاء في (4، 5) فإنا قبلنا أن

التشريع الضروري للأمم، وكل أمة قد خلت لها حديث في الآخرين يتلونه

مستبصرين، وعلماؤنا الذين أشار إليهم إنما هم كالذين خلوا، فلئن قلنا إنهم سدوا

حاجة زمانهم فما نحن بملومين إذا قلنا إن ما نقدسه اليوم هي مجموع كتاباتهم التي

اقتضتها عصورهم، وطابقت عقول معاصريهم من الحكومات والرعايا كيف كان

الحال، أما كونهم برعوا بذكر الجزئيات فلاتخاذ الكثيرين هذه الصناعة ديدنًا في

كل عصر ومصر، ووقع مثل هذا لكل أمة متحضرة، وإن أدري هل أغنتهم

براعتهم تلك عن ذلك الاختلاف المشوش، أم كان نصيبهم منها نصيب من كان

قبلهم ممن أوتوا الجدل، وحرموا العمل، نصيب أولئك الذين كانوا يتجادلون

بالمذهب في القسطنطينية والفاتح على أسوارها؟

ج (6 - 7 - 8) قال حفظه الله: إن سبب هذا الاختلاف انفراد الآحاد

بالتشريع وسبب هذا الانفراد تساهل المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى

يتناولها من شاء، وأقول: إن القوم لا يزعمون أن كل ما كتبوه هو من عند الله يجب

التسليم به والاعتماد عليه، وأن هؤلاء الكتاب لم يحدثوا شيئًا من عند أنفسهم،

والمسلمون الذين عزي إليهم التساهل لم يكن لهم شيء من الأمر في العلم حتى

يكون لهم صوت في التشريع، وها أنا ذا أذكر للصديق أعزه الله سبب ذلك الانفراد

أو سبب تساهل المسلمين:

المسلمون ليسوا شعبًا واحدًا، وليسوا على سنن واحد في النحلة والعادات،

المسلمون بما تحيزوا للدول صاروا شيعًا في الآراء السياسية، ثم بما تحيزوا

للرؤساء في الدين صاروا شيعًا في الآراء العلمية والمذاهب الدينية، ثم بما تحيزوا

للجنس صاروا شيعًا في المشارب والمعايش.

لم يمض الثلث من القرن الأول على المسلمين حتى كفَّر بعضهم بعضًا،

فتحاربوا وتحازبوا وتخاذلوا إلى أن انقسموا إلى ثلاثٍ: فئتان تشايع كل منهما رئيسًا

كبيرًا، وأخرى خارجة عن دائرتهما ناقمة عليهما حاليهما، ولم يمض الثلث الثاني

حتى انقلبت دعوتهم إلى الدين وتهذيب النفوس دعوة إلى الملك والاستئثار وتوسيع

أبهة الملك وجعله منحصرًا في أسرة يُحْدِث أفرادها ما شاءوا أن يُحْدِثوا، ولم يمض

الثلث الثالث حتى تكاملت أصول الشيع وتلاحقت فروعها وأينعت ثمراتها، وأَحدَث

في الدين من أَحدَث، واخترع مَن اخترع، فاختلفوا في القراءات، فتعددت أشكالها

وتعارضوا في الروايات، فتناقضت أحكامها، وتباينوا بالفهم من النصوص،

فضاعت ثمراتها وتجادلوا في الفهوم فذهبت غاياتها، عقائد متباينة وعبادات مختلفة

وأقضية مضطربة وضمائر متباغضة، فأين الإجماع؟

أي أخي، أفليس هذا هو أمرنا في ذلك القرن الأول الذي عليه مدار فخرنا

وإليه يُرَدُّ أصل مجدنا، وفيه اتسع سلطان حكمنا، وعلا منار ديننا، دع عنك زمن

الخليفتين، وقل لي متى كان الإجماع وكيف يجمع قوم حالهم ما ذكرناه آنفًا، وأي

المسلمين مطالبون أن يفهموا معنى ذلك الإجماع، أأعرابهم الضاربون في بطون

الأودية وظهور الجبال، أم أمصارهم المؤلفة من أبناء الروم والفرس والقبط،

وقليل من أبناء الأجناد؟ من المطالب منهم بالتشريع؟ أولاة أمورهم وهم من علمت

بين لاهٍ فرح بالنعمة الجديدة التي ورثوها، وبين نشيط حازم مشتغل بتسكين تلك

الفتن المعهودة، أم الرواة الذين لم يكن أكثرهم يعلم أكثر من النقل والحكاية؟

هذا ما ترك أمر التشريع فوضى، فبدؤوا في ابتداء القرن الثاني يكتب كل

واحد ما ألقى إليه أستاذه، وكثرت فنون الاختلاف وضروب التعارض، واستُعملت

التَّقية فجاءت المذاهب على كثرتها وتعارضها مضاهية لأديان مختلفة؛ حتى ألغى

أكثرها الزمان الذي جاء فيه حكومات أخذت بما دوَّنه قوم، وأعرضت عن الآخرين

فالحكومات هي بالفعل حصرت الميدان وغلَّقت الأبواب، والمتمذهبون اتبعوا فعل

الحكومات بالقول بأن باب الاجتهاد مسدود، على أنهم نزعوا إلى نقب السدود التي

أقيمت، فاستعملوا معاول الاصطلاحات والفرض والتقديم، كفرضهم إذا تترس قوم

بنبي - مع اعتقادهم واعتقادنا أن لا نبي بعد محمد عليه السلام فنقلوا بالمذهب

الواحد روايات متعددة عن أئمته في المسألة الواحدة حتى أعادوا المذهب الواحد

مذاهب، فأوصلوها إلينا كما هي أمام عين الناقد البصير.

هذا هو الحال إجمالاً وكل مطالع في تاريخ الإسلام يعلم أن كل طائفة من

بلادهم شاع فيها المذهب الذي هويته نفوس حكامهم الأول، فهل يرجى بعد تحكم

تلك المذاهب في كل ناحية لفت الناس عنها، وإن كان لا يرجى فهل يقال إن بقاء

هذا الحال غير مخل بالفائدة ومضر؟

ج (9) يُعلم الجواب عما جاء في (9) من الجواب على (4 و5)

ج (10، 11، 12، 13، 14) أوافق في كل ما جاء في هذه الأرقام

صديقي الفاضل، وأضم صوتي إلى صوته؛ ولكن هل يساعدنا علم الفروع المدون

الحاضر على القول بهذه الأقوال، وإن لم يساعد فمن المخاطب أن يقوم للمسلمين

بهذه الخدمة الجليلة، وإلى متى نقول بلا عمل؟ ها نحن أولاء بهذه المناسبة نقترح

على المنار الأنور أن يفتح بابًا لهذا الموضوع الجليل يقبل فيه اللوائح التي ترد إليه

في كل باب من أبواب الفروع بعد عرضها على جمعية علمية تنعقد في القاهرة لهذه

الغاية بهمة الأساتذة، ومتى انعقدت هذه الجمعية التي يكون لتصديقها على اللوائح

المنشورة وقع في قلوب الأمة؛ لأنه شبيه بالإجماع - يكثر بيننا النبهاء الذين يوجهون

أنظارهم نحو هذه الغاية.

وبعد فقد طالت الرسالة، ووجب الاكتفاء، والله المسئول أن يلهم المسلمين

الصواب، ويحرك منهم دواعي الجد في حفظ بقايا المجد.

...

...

...

...

... ع. ز

(المنار) : نكرر الاقتراح على الفقهاء والعلماء ليكتبوا إلينا رأيهم في

الموضوع، ولدينا رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية في أسباب الخلاف ربما تُنشر بعد.

_________

(*) التاء فيه كالتاء في علامة وفهامة.

ص: 453

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

تتمة أسئلة الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ

(3)

ومنه: ما حكم من يستغيث ويستمد من النبي صلى الله عليه وسلم

وأولياء أمته شيئًا مما يجوز سؤاله شرعًا من أمور الدنيا والآخرة معتقدًا أن نسبة

ذلك إليهم إنما هو على سبيل المجاز وهو سبب عادي لهم، فإن شاء الله أجاز

شفاعتهم وإلا ردها، وليس لهم سلطة غيبية فيما وراء الأسباب، وأنه لا يعبد غير

الله تعالى ولا تأثير لمخلوق في أثر ما لكن لما كان من الجائز وقوع الكرامات

للأولياء الكرام، فلا مانع من أن يطلعهم الله بالكشف على حاجة من يستمدهم

فيقضونها بالذات، أو بواسطة ملك من الملائكة إن أذن الله لهم بذلك، ولا يعظّم

وليًّا أو نبيًّا يخرجه عن العبودية مطلقًا، هل يعد هذا الاعتقاد شركًا بالله تعالى

ومروقًا من الإسلام؟ أم حرامًا؟ أم مكروهًا؟ أم جائزًا كما نعتقده اهـ بحروفه.

(ج) السؤال ظاهر التناقض والتعارض، والمفهوم منه بقرينة ما هو

معروف من أعمال العامة، واعتقاداتهم أنه يريد السؤال عن مشروعية طلب قضاء

الحاجات الدنيوية والأخروية من الأنبياء والأولياء بعد موتهم، وقال: إن هذا سبب

عادي لهم، ثم ذكر أنه رأي مبني على جواز وقوع الكرامات، والمعروف في علم

الكلام أن الكرامات من خوارق العادات، أي ليست من الأسباب العادية وهذا هو

التناقض.

أما هذا الطلب فهو من البدع التي لم تُعرف في عهد النبي صلى الله تعالى

عليه وآله وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين الذين أمر عليه الصلاة والسلام

باتِّباع سنته وسنتهم وحذر مما يحدث بعد ذلك، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بأنه

أكمل الدين، ونحن نعتقد أنه لم يعمل به على كماله أحد مثل الصحابة الكرام، فلو

لم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على أن لا ندعو مع الله أحدًا ولا نطلب ما نعجز

عنه من حاجاتنا إلا من الله تعالى وحده لكان الأخذ بسنة الخلفاء الراشدين والصحابة

الكرام كافيًا في أن لا نزيد في الدين شيئًا، فيسعنا ما وسعهم، ومن يزعم أنه ورد

عنهم شيء يحتج به في طلب قضاء الحاجات من الأموات أو من النبي صلى الله

تعالى عليه وسلم بعد موته، فليبينه لنا لنهتدي به، أما أدلة المنع فسنشير إليها في

جواب السؤال (5) .

هذه المسألة من المسائل الاعتقادية، وهي فرع مسألة الواسطة الآتية،

والخطأ في العقائد كفر في الغالب بخلاف الخطأ في الفقه فإنه خطأ يغفر؛ ولذلك

كان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ينهى عن الخوض في علم الكلام ويقول:

لأن يقال أخطأت خير من أن يقال كفرت، وأقول على فرض أن هذا الطلب جائز

كما يعتقد السائل: أليس من الاحتياط في الدين ترك هذا الجائز خوفًا من خطر الخطأ

في الاعتقاد على ما يعتقده غيره؟

قال المنجم والطبيب كلاهما

لا تبعث الأموات قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكما

***

(5)

ومنه ما هو الفرق بين مذهب الوهابية، ومذهب ابن تيمية وحضرة

صاحب المنار وغيرهما سلفًا وخلفًا في الواسطة؟ وهل قام صاحب نحلة أو مذهب

جديد من الخوارج أو الوهابية أو البابية لا يتخذ الكتاب والسنة عمدته في الاحتجاج

سترًا لمبادئه التي يدعيها؟ وما قول حضرته في كتاب إعجاز المسيح في التفسير

الصحيح الذي ظهر اليوم لمن يدَّعي المهدوية بالهند في تفسير فاتحة الكتاب،

وجعله الدليل على صحة دعواه عجز الإنس والجن عن عمل تفسير كتفسيره في

مدى قصير كالمدى الذي عمل فيه هذا التفسير هل مصيب؟ أم مخطئ فيما يدَّعيه

اهـ. بحروفه.

(ج) مذهب السلف والخلف في الإسلام أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

هم الواسطة بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ دينه لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ

المُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48) وقوله عز وجل: {إِنْ عَلَيْكَ

إِلَاّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وغير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة بصيغة النفي

والإثبات ككلمة التوحيد، وأنه لا واسطة بين الله تعالى وعباده في غير تبليغ دينه

من نحو قضاء حاجة سلبية كالشفاء من مرض، أو وقوعية كسعة الرزق أو هداية،

والدليل على هذا الآيات الواردة بصيغة الحصر وهي كثيرة جدًّا - كما قلنا -

والبراهين العقلية القاطعة بأن الله تعالى غني عن المساعدة والوزير والمعين؛ لأنه

على كل شيء قدير لا يحتاج إلى من يعطفه على عباده لأنه أرحم الراحمين،

فرحمته ورأفته لا تقبل الزيادة لأنها في نهاية الكمال، وقد سبق علمه بكل شيء فلا

يمكن أن يغيره أو يزيد فيه أحد، ولا نطيل في سرد الأدلة؛ لأننا كتبنا فيها مرارًا

وأوردنا الآيات والأحاديث الصحيحة فيها وأوَّل سؤال ورد علينا فيها نشر في العدد

الرابع من المجلد الأول، وأوضح ما كتبناه فيها هو الدرس الثامن من الأمالي

الدينية فليراجع في الصفحة 630 من المجلد الثاني.

أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فكان من أنصار السنة وأكابر

حفاظها والداعين إليها، والآمرين بما عرَّفته والناهين عما أنكرته في زمن ترك

المسلمون فيه الدعوة إلى دينهم بالمرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في

الغالب، وقد ألف في البدع والضلالات التي رآها فاشية رسائل نفيسة يؤيد فيها

السنة ومذهب السلف، ويدحض شبه أهل البدع، ومنها رسالة مخصوصة في

الواسطة طُبعت من عهد قريب في مطبعة المؤيد، فعلى السائل أن يطالعها، وأما

الوهابية، فالذي علمناه عنهم أنهم يعتقدون في هذه المسألة اعتقاد السلف أيضًا،

وسنذكر في فرصة أخرى شيئًا من تاريخهم وما قيل فيهم.

ومن عجيب القول قول هذا السائل: وهل قام صاحب نحلة

إلخ؛ فإننا لا

نجد له وجهًا صحيحًا فهل يقول صاحبه أن المبتدعة هم الذين اتخذوا الكتاب والسنة

عمدتهم دون أهل الحق، فيجب أن نخالفهم بترك الاعتماد على الكتاب والسنة؟ هذا

هو ظاهر العبارة وهو أمر بترك الإسلام واتباع الأوهام لا يرضاه السائل ولا يريده

ولعل مراده أننا لا ينبغي لنا أن نأخذ بقول كل من يدعي الاعتماد على الكتاب

والسنة؛ لأن المبتدعة يشاركون أهل الحق في هذه الدعوى.

ويرد عليه ههنا سؤال وهو: أن المذاهب في الأصول والفروع كثيرة، وكل

أهل مذهب يدعون الاعتماد على الكتاب والسنة، فبم نعرف المحق من المبطل؟

وكيف نميز بين الحق والباطل؟ إن قال نعرف ذلك بتمحيص الأدلة والتمييز بين

الحجة والشبهة، فهذا هو الاجتهاد الذي يفر منه وينكر على من يقول به، وإن قال

نقلد من كان أكثر تابعًا، نقول (أولاً) إن كثرة المتبعين لا تدل على أن الحق في

جانب من اتبعوه لا سيما إذا كانوا مقلدين يأخذون بقول صاحب المذهب من غير

معرفة دليله، وكيف يقوى الحق بمن لا يعرف الحق؟ هذا وإن أكثر الناس كافرون

{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116) وإن

كانوا من المؤمنين بالله لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) و (ثانيًا) أن الأئمة الذين يذكرهم في السؤال الآتي لم يكن لهم

في عصرهم إلا القليل من المتبعين فإذا كان الحق يُعرف بكثرتهم فكيف عُرف

يومئذ فإن كان عند السائل جواب على هذا فليكتب به إلينا، وإلا فليرجع إلى

مقالات المصلح والمقلد ففيها البيان الكافي لقوم يعقلون.

وليعلم أن البابية ليسوا أصحاب مذهب جديد في الإسلام كما يتوهم، بل هم

أصحاب دين جديد وشريعة جديدة، ويحتجون على المسلمين بتأويل بعض الآيات

والأحاديث على طريق تأويل الصوفية كما يحتجون على اليهود والنصارى من

كتبهم، ودينهم أقرب إلى دين النصرانية منه إلى غيره؛ فإنهم يعتقدون أن البهاء

المدفون في عكا هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام

إلخ {سُبْحَانَ

رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .

وأما كتاب إعجاز المسيح فقد تصفحته بعد الابتداء بكتابة هذا الجواب، فإذا

هو قد سلك فيه مسلك الباطنية والمتصوفة في التأويل، وليس فيه وهو 200

صفحة ورقة واحدة في حقيقة التفسير، وليس خلطه وهذيانه فيه بأكبر من الخلط

والهذيان في التفسير المنسوب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية،

ولو لم يدَّع هذا الرجل أنه هو المسيح، ويحرف كلمات الفاتحة، فيجعلها دليلاً على

دعواه ويجعل تفسيره معجزة يتحدى بها - لتلقَّى هذا التفسير بالقبول أكثر المسلمين

ومنهم السائل المحترم؛ ولأقاموا النكير على مثلي إذا هو انتقد عليه، كما ينكرون

عليّ الانتقاد على من دونه في العلم والتأليف، وقد كان هذا الرجل شيخ طريق

يفوق أكثر المشايخ بالعلم والفصاحة والصلاح فغرَّه كثرة أتباعه، وتفننه في

أسجاعه، على ما في ألفاظها من الغلط، وفي معانيها من الشطط، وقام عنده أن

اعتقاد المسلمين بالمهدي والمسيح، قد انتشر على وجه غير صحيح، وأنه يجب

أن يصلحه بذاته، ويؤيد دعواه بما يعتقد متبعوه من آياته.

وأما تحديه بالكتاب فهو - إذا لم يعارَض - شبهة على المعجزة بالمعنى

المعروف عند المتكلمين لا بالمعنى الذي حققناه في الجزء العاشر من المنار، وقال إنه

كتبه في سبعين يومًا، ونقول: إن كثيرًا من أهل العلم ليستطيعون أن يكتبوا خيرًا منه

في سبعة أيام، ولو على طريق الشقاشق والأوهام؛ ولكن أين الحَكَم الذي يرضاه

تلامذته والمغترون به؟ إننا نفند كثيرًا من البدع الشائعة بين المنتسبين إلى الطريق

ولكن أكثرهم لا يقرءون ومن قرأ لا ينتفع إذا كان يخضع لشيخه ويقلده تقليدًا أعمى؛

لأنك إذا قلت له قال الله كذا، يقول إن شيخي أعلم بقول الله منك، وهكذا إذا احتججت

بالسنة، وحجتنا الكبرى في مسألة الواسطة وفروعها على هؤلاء المقلدين سيرة

الصحابة الكرام في العمل، فإذا قال أحدهم إن الشيخ فلان قال كذا أو فعل كذا نقول له

كيف عرف شيخك ما لم يعرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان

أهدى منهم؟ كما قال أحد أكابر التابعين لقوم اجتمعوا على ذكر بصفة لم تعهد فقال

لهم: إما أن تكونوا أهدى وأفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما

أن تكونوا قد ابتدعتم في الدين وزدتم فيه ما ليس منه، أو كما روي.

هذا وليس دخول مسيح الهند في هذه الدعوى من باب التصوف الواسع

بأعجب من دخول الشيخ محمد أبي الخليل المقيم في الزقازيق منه إلى دعوى تفسير

القرآن؛ فإن ذلك عالم مطلع وهذا جاهل وهو يزعم أن من بات عنده يصبح حافظًا

للقرآن، وقادرًا على تفسيره، وأنه يملي كتبًا في تفسير آية واحدة، أو كلمة من

آية، وقد اغتر به كثيرون، ومن أنكر عليه يقول السفهاء فيه أنه ينكر الكرامات

ويبغض الأولياء، هذا سلاحهم الذين يحاربوننا به؛ وإنما يحاربون الحق {وَاللَّهُ

غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) .

***

(6)

ومنه: المعروف عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن أهل

السُّنة والجماعة هم أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي ومن تابعهما في

الاعتقاد، والإمام الجنيد ومن تابعه في التصوف، والأئمة الأربعة المجتهدون ومن

تابعهم في الفروع، وسائر الأئمة غير المبتدعة خلاف هؤلاء على هدى من ربهم

بحكم مذاهبهم، وقد دخل بعض البدع على كتب أهل السنة والجماعة، وليس من

مذاهبهم ولا من لوازمها، وحيث دُوِّنت الأحكام، وضُبطت الأصول هل من طريق

سوى العمل بهذه الأحكام ثَم لنا؟ اهـ بحروفه.

(ج) نحن نوافق السائل في أن هؤلاء الذين ذكرهم من أئمة المسلمين

المجتهدين في أصول الدين وفروعه، وحكم المجتهد أنه إن أصاب فله أجران،

وإن أخطأ فله أجر واحد، ونوافقه أن هناك أئمة غيرهم على هدى من ربهم،

ونوافقه في أن بعض البدع دخل على كتب أهل السنة والجماعة، وأنها ليست من

مذاهب الأئمة؛ فإن مذاهبهم متفقة على الأخذ بالكتاب العزيز والسنة الصحيحة،

فمن ألحق بالدين شيئًا زعم أنه منهم، أو مستنبط من كلامهم وهو يخالف الكتاب

والسنة فهو مردود عليه وهم براء منه، ونقول: إنه ينبغي لنا أن نهتدي بهديهم في

ذلك، ونبحث عن دليل كل ما يعزى إليهم لنميز بين ما صح عندهم، ووافق

أصولهم وبين ما دخل من البدع في كتب المنتسبين إليهم، وقد نقل عنهم العلماء

أنهم كانوا يقولون: لا يصح لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف دليلنا، وقال الإمام

الشافعي رضي الله عنه كما في كتاب الأم بعد كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد

دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) أي فالرسول وحده

هو الذي يُقبل كلامه في الدين من غير مطالبة بدليل؛ لأنه دليل نفسه.

ولا نطيل في هذا المقام فسيأتي تفصيله في محاورات المصلح والمقلد والله

الهادي إلى سواء السبيل.

_________

ص: 460

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة ديوان حافظ

- تتمة

أما قول أصحاب العَرُوض أن الشعر هو الكلام المقفَّى الموزون، فليس هذا

من بيان الشعر في شيء، فكم رأينا على تلك القاعدة التي رسموها كلامًا ولم نر فيه

شيئًا من الشعر.

ولقد وُفقت جماعة المنطق بعض التوفيق حيث قالوا: إن الشعر هو كل ما

أحدث أثرًا في النفس، وخيره ما كان موزونًا. فلم يحبسوه في تلك الأوزان وتلك

القوافي، بل وسَّعوا له المجال فجعل يتنزه بالتنقل من رياض المنظوم إلى جنان

المنثور، فإذا عثر به خيال الشعر نظمه تارة ونثره أخرى، وحسبكم دليلاً على

ذلك ما جاء في قول بشار بن برد وهو خير ما يُضرب به المثل هنا حيث قال

ناظمًا:

هززتك لا أني وجدتك ناسيًا

لأمري ولا أني أردت التقاضيا

ولكن رأيت السيف من بعد سله

إلى الهز محتاجًا وإن كان ماضيا

وحيث قال ناثرًا: (والله لقد عشت حتى أدركت أناسًا لو أخلقت الدنيا لما

تجملت إلا بهم،واليوم أعيش في قوم لا أرى بينهم عاقلاً حصيفًا، ولا كريمًا

شريفًا، ولا من يساوي مع الخبرة رغيفًا) ألا ترون أن في منظومه ومنثوره هذين

روحًا من الشعر لم تكن في الثاني بأقل أثرًا في نفس السامع منها في الأول،

ويدخل في ذلك ما كتب به أبو الطيب المتنبي إلى صديق له كان يعوده وهو مريض

فلما أبَلَّ انقطع عنه: (لقد وصلتني معتلاًّ، وقطعتني مُبِلاًّ، فإن رأيت أن لا

تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله) أليس في هذه الجملة

النثرية تلك الروح التي تجدونها في نظم الشاعر الكبير؟ ومن اطلع على شعر

المعري ورسائله علم أنه شاعر في نظمه ونثره.

هذا هو الشعر وتلك حقيقته، أما طريقة عمله فخيره ما جاء عن غير كد ولا

تعمُّل، وخير الشعراء من توخى في شعره السهولة، وتحامى طريق التعسف

والتكلف، وتَنكَّب عن المعاظلة في الكلام والتماس الألفاظ النافرة والقوافي القلقة،

ولقد كان همُّ الشعراء في الجاهلية مصروفًا إلى التقاط الألفاظ الغريبة، فإذا ظفروا

بها أودعوا فيها المعاني النفيسة، فكانت معانيهم تحت ألفاظهم كالحسناء تحت

الأطمار، وأما شعراء الحضارة فطفقوا يلتمسون الألفاظ فيسكنون فيها المعاني

الدقيقة فكانت معانيهم كالعروس في معرضها يوم جلائها.

وأفضل الشعراء من كان عالمًا بمواضع الإسهاب والإيجاز فهو إذا أسهب أجاد

وإذا أوجز أفاد، ولا أعرف شاعرًا استطرد به جواد الإسهاب وسلِم من العثار مثل ابن

الرومي ذلك الذي كان أطول الشعراء نفسًا وأكثرهم غوصًا على المعاني، ولقد

أدمنت النظر في شعر بشار بن برد، فألفيت الرصانة والتجويد وبناء القافية على

الأساس المتين، والجمع بين متانة البدو وسلاسة الحضر، وأكثرت من مطالعة

شعر مسلم بن الوليد فعلمت أنه يجري مع ابن برد في ميدان واحد، وسرحت

الطرف في شعر أبي نواس فرأيته حلو الفكاهة إذا هزل، مُرَّ المراس إذا جَدّ،

وهو إذا صحا كان أكثر الشعراء تفننًا في ضروب الكلام، ورجعت البصر في شعر

أبي تمام فألفيت فيه التفاوت والصنعة مع كثرة الابتداع والقدرة على الابتكار،

ورأيت في جيده ما لم أره في جيد غيره من حسن الصياغة وبعد الغاية، وأنعمت

النظر في شعر البحتري فلمحت فيه حسن الديباجة وطلاوة الانسجام، وأكثرت

التأمل في شعر أبي الطيب فإذا شعره حي يتفزر، ولم أر في الشعراء نفسًا أعلى

من نفسه، ولا طريقًا إلى المعالي أخصر من طريقه، وخير شعره ما كان في الحكم

والأمثال، ولو سلمت أقواله من ذلك التفاوت ولم يكن أسلوبه عاقًّا لأساليب اللغة

العربية لكان أشعر شاعر في الإسلام، ولقد ذهب الشريف الرضي بحسن اختيار

اللفظ وصقله وسلامة الذوق في انتقاء المفردات والأساليب، وجمع متنبي الغرب

ابن هانئ الأندلسي في شعره بين جزالة العرب ورقة الأندلس، وانفرد ابن المعتز

بحسن التشبيه، واختص العباس برقة الشعور وحلاوة التركيب، ولم أر فيمن

ذكرنا من يداني شيخ المعرة في صفاء الذهن وقوة الذاكرة وسعة الاطلاع وغزارة

المادة.

ولا يقوم بنفس أحدكم أن الشعر كان للعرب دون غيرهم؛ فإن لكل أمة قسمتها

منه، وأن لها نصيبها من الشعراء، تلكم أمة الفرس وهذا (قاآنها) صاحب الشاه نامة

أي ديوان الملوك قد بلغ في أمته مكانًا عظيمًا، واشتمل ديوانه على سبعين ألف

بيت من الشعر، وهذا عمر الخيام الذي تفتح اليوم الأندية باسمه في إنجلترا

وأميركا وتتهافت شعراء المغرب على مطالعة منظوماته، وقد نُقش اسمه في ذلك

العهد على أكثر من اثني عشر ناديًا.

أسلفنا أن الشعر قديم وُجد مع الشمس، وأن لكل أمة حظًّا منه، فما بلغ بنا

التاريخ إلى أمة، ولا وقف بنا عند جيل إلا ورأينا لواء الشعر عليه معقودًا، ولقد

حمله بنتاور في الفراعنة، وهومير في اليونان وفرجيل في الرومان، وقد كثر

نبوغ الشعراء في هذه الأمة، ولا تزال دواوين أكثرهم محفوظة في مكتبة مولانا

السلطان وسائر مكاتب الآستانة العلية إلى اليوم، ولو شئنا أن نذكر كل أمة

وشاعرها لضاق بنا المقام.

أما الشعر العربي وما كان من أمره في الجاهلية والإسلام فأخباره

طويلة مودعة في بطون الكتب فلا حاجة إلى ذكرها.

_________

ص: 468

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التقاريظ

لما علم الأدباء بأن ديوان محمد حافظ أفندي يطبع وكلهم يعرفون في الشعر

مكانته العالية، ومرتبته السامية، كتبوا إليه التقاريظ التي تشهد بفضلهم بمعرفة

الفضل لأهله، ورأينا أن نتحف قراء المنار ببعضها.

قال واحد العصر، ويتيمة الدهر، ومالك أعنة النظم والنثر صاحب السعادة

محمود باشا البارودي حفظه الله:

هيهات ليس لحافظ من مشبه

في القول غير سميه الشيرازي

جاراه في حسن البيان وفاته

في المنطق العربي بالإعجاز

لَبِق بتصريف الكلام يسوقه

ما شاء بين سهولة وحجاز

فإذا تغزل فالنفوس نوازع

وإذا تحمس فالقلوب نوازي

كالصارم الفولاذ في (إفرنده)

وصقاله والمارن الهزاز

حاك القريض بلهجة عربية

أغنت عن الإسهاب والإيجاز

ألفاظها نَمَّت على ما تحتها

وصدورها دلت على الأعجاز

فإذا تلاها قارئ لم يشتبه

في القول بين حقيقة ومجاز

عبقت كأنفاس النسيم تعلقت

بالروض غِبَّ العارض المجتاز

قد كان جيد القول عُطْلاً قبله

فحباه أحسن حلية وطراز

ملكتْ مودتُه القلوبَ فأصبحت

تلقاه بالتوقير والإعزاز

لا زال يبلغ شأو كل فضيلة

بمضاء صمصام وصولة باز

وقال القاضي الفاضل والأديب الكامل، الشاعر المطبوع حفني بك ناصف:

شعر على قلته جيد

والشعر لا يمتاز بالطول

والدر بالقيراط مقياسه

والأرض بالفرسخ والميل

تستعذب الألسن ترتيله

كأنه محكم تنزيل

يظل من يقرأ آياته

ما بين تكبير وتهليل

فُصِّلت الألفاظ فيه على

قدر المعاني خير تفصيل

فلا يرى ناقده كلمة

محتاجة فيه لتبديل

جُعلت يا (حافظ) كيد الذي

يشناك في خسر وتضليل

كأن ديوانك في عينه

رسالة من عند عزريل

وكل بيت حجر قد هوى

عليه من أحجار سجيل

فاهنأ بما أوتيت من حكمة

مصوغة في حسن تخييل

ومن يكن ديوانه هكذا

يُدْعَى بحق شاعر النيل

وقال الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد عمر الإسكندري المدرس بالمدارس

الأميرية:

إن يكن السالفون من عرب

بادوا وأخنى عليهم الدهر

فقد أرانا كأنما بعثت

أزمانهم من يراعك الشعر

من كل معنى كأنه ملك

في كل بيت كأنه قصر

من ينكر السحر بعدما اتفق الـ

ـناس على أن شعرك السحر

أما يرى منه أن سامعه

يهتز سكرًا به ولا خمر

ما الشعر لفظ يأتي على قدر

يعذب منه الروي والبحر

الشعر ما أدَّب النفوس وما

حنَّ إليه الفؤاد والفكر

فالبحر وهو الأجاج لجته

يجتمع الدر فيه والصخر

فاهنأ بشعر قلنا نؤرخه

ديوان حافظ كله در

... سنة 1319

70

989 55 204

***

(كتاب السودان)

وُضع هذا الكتاب لبيان تاريخ حوادث بلاد السودان المصري منذ عينت

الحكومة المصرية الكولونيل غردون باشا الإنكليزي حاكمًا على خط الاستواء في

عهد إسماعيل باشا الخديوي إلى انقضاء دولة الدراويش التي أسسها محمد أحمد

الذي قام بدعوى المهدوية، واستيلاء الحكومة المصرية على السودان، ومؤلف

الكتاب هو صاحب السعادة إبراهيم فوزي باشا الذي رافق غردون باشا منذ تولى

إلى أن قتله الدراويش ووقع هو أسيرًا، فبذلك كان أعلم الناس بالحوادث المتعلقة

بذلك، وقد طُبع الجزء الأول من هذا الكتاب في مطبعة جريدة المؤيد على نفقة

صاحبه ونفقة إدارة الجريدة ويُطلب منها ومن المكاتب الشهيرة، وعدد صفحاته

403، وفيه من غرائب الحوادث وشرح ضروب الكوارث العجب العجاب الذي

يُشوق القراء، فنحثهم على مطالعته والاعتبار بما فيه من عواقب الجهل.

***

(علم الفراسة الحديث)

أهدتنا إدارة الهلال المنير نسخة من هذا الكتاب، الذي جعلته في هذه السنة

عوضًا عن الأجزاء الأربعة التي تصدر منه في شهرين عملا بالقاعدة التي سنتها،

وهي جعل سنة الهلال عشرة أشهر، وتهدي المشتركين في آخر السنة كتابًا بدلاً من

أجزاء الشهرين، والكتاب تبحث مقدماته في تاريخ الفراسة وصحة هذا العلم

وعدمها، وناموسي التشابه والتناسب، وفي المقاصد بيان فراسة الأعضاء

بالتفصيل، ثم فراسة الأمم، ثم فراسة الرأس مخصوصة، ثم فراسة المهن

والصناعات، ثم فراسة الحيوان، وهو كثير الرسوم وصفحاته توازي صفحات

أربعة أجزاء من الهلال.

***

(مقامات الحريري بفهرس المفردات)

هذه المقامات في عالم الأدب عَلَم في رأسه نار لا تحتاج إلى التعريف

والوصف، وقد طُبعت طبعات متعددة؛ ولكنها قبيحة في الشكل والورق وغير ذلك

إلا الطبعات الأميرية، وقد نفدت هذه حتى لا تكاد توجد بالثمن الكثير، فانبرى

أخيرًا الفاضل الهمام صاحب الإتقان الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة

الأزهرية، فطبعها في المطبعة الأميرية طبعة تمتاز على ما طُبع فيها من قبل

بثلاثة أمور، أحدها الشكل فإنه جعلها من الحجم الوسط وهو ألطف، وثانيها جعل

الشرح في أسفل الصفحات بحرف صغير مشار إليه بالأرقام العددية، وثالثها

فهرس في آخرها لمفردات الكلم مرتب على حروف المعجم كالمصباح، ويعرف

أهل الأدب أن في هذه المقامات من فرائد اللغة المختارة، ولطائف المجاز

والاستعارة، ما ينفع طالب الانتفاع، والوقوف عليه بدون ممارسة تلك الأساليب

والأسجاع، لا يتيسر إلا بهذا الفهرس الذي يوقف غير الواقف، ويسهِّل المراجعة

على العارف، وقد جعل ثمنها أقل من ثمن الطبعات الرديئة، ولا شك أن طلاب

هذه المقامات يفضلون هذه الطبعة على سائر الطبعات.

***

(شهيدة الأمانة)

أسطورة مختصرة غرامية دينية مسيحية هندية، تحكي بعض أحوال هنود

أميركا الدينية، وتبين فضل المسيحية عليها، ومثل هذا يؤثر في إشراب قلوب

العامة حب الدين، ما لا يؤثر كلام اللاهوتيين، وطالما تمنيت أن توضع قصص

إسلامية في هذه الأساليب لأجل عامة المسلمين، وكم منيت نفسي بالتأليف في ذلك،

وحثثت عليه إخواني ولم يسمح لي الزمان بالوقت، وهذه القصة فرنسوية الأصل،

وعرَّبها الشاب النشيط فرج أفندي عبده، وطبعها وجعل ثمنها أربعة غروش

مصرية.

_________

ص: 471

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عيد الجلوس السلطاني

في يوم الأحد الآتي يُحتفل بتذكار جلوس مولانا السلطان الأعظم أيَّده الله

تعالى بالنصر والتوفيق على عرش السلطنة العثمانية، ويشارك العثمانيين في هذا

الاحتفال كثير من البلاد الإسلامية التي تحكمها الأجانب، لا سيما الإنكليز كالهند

وسنغافورة وغيرها، وقد أبنَّا الفائدة والحكمة من هذا الاحتفال في منار السنين

الماضية فلا نعيده، وقد رأس لجنة الاحتفال العمومي في مصر هذه السنة صاحب

السعادة الشهير عبد السلام باشا المويلحي رئيس التجار؛ ولكن إقبال الناس لم يكن

كما يعهد في السنين الماضية، ومن أسباب ذلك عدم وجود صاحب المؤيد الذي كان

لكتابته وسعيه أكبر تأثير، وقد نظم الشعراء قصائد في التهنئة والاحتفال ننشر منها

قصيدة صاحبنا محمد حافظ أفندي إبراهيم لما امتاز به كلامه من الجزالة والسلاسة

التي ترقي اللغة عند القارئين وهي:

لمحت جلال العيد والقوم هُيَّب

فعلَّمني آي العُلى كيف تكتب

ومثَّل لي عرش الخلافة خاطري

فأرهب قلبي والجلالة ترهب

سلوا الفلك الدوَّار هل لاح كوكب

على مثل هذا العرش أو غاب كوكب

وهل أشرقت شمس على رحب ساحة

إلى مثل ذاك البيت تُعْزَى وتنسب

وهل قر في (برج السعود) متوج

كما قرَّ في (يلديز) ذاك المعصَّب

تجلى على عرش الجلال وتاجه

يهش وأعواد السرير ترحِّب

سما فوقه والشرق جذلان شيق

لطلعته والغرب خذلان يرقب

فقام بأمر المُلك حتى ترعرعت

به دوحة الإسلام والشرك مجدب

وقرب بين المسجدين تقرُّبًا

إلى الملك الأعلى فنعم المقرَّب

وكم حاولوا في الأرض إطفاء نوره

وإطفاء نور الشمس من ذاك أقرب

فراعهمو منه بجيش مُدَجَّج

له في سبيل الله والحق مذهب

إذا ثار في يوم الوغى مال منكب

من الأرض والأطواد وانهال منكب

له من رؤوس الشم في الأرض مركب

ومن ثائر الأمواج في البحر مركب

فدى لك يا (عبد الحميد) عصابة

عصت أمر باريها وحزب مذبذب

ملكتَ عليهم كل فجٍّ ولجَّة

فليس لهم في البر والبحر مهرب

تقاذفهم أيدي الليالي كأنهم

بها مَثَل في القول للناس يضرب

وكم سألوها لثم أذيالها التي

لها فوق أجرام السموات مَسْحَب

فما بلغوا قصدًا ولا أدركوا مُنى

كذلك يشقى الخائن المتقلّب

فيا صاحب العيدين لا زلت سالمًا

يهنيك بالعيدين شرق ومغرب

ففي كل روض منك طيب ونضرة

وفي كل أرض منك عيد وموكب

أرى مصر والأنوار منها مورَّد

ومنها لُجَينيٌّ ومنها مذهَّب

وأشكالها شتى فهذا منظم

وذلك منثور وذاك مقبَّب

وبعض تجلَّى في مصابيح زيتها

يضيء ولا نار وبعض (مكهرب)

وأنظر في بستانها النجم مشرقًا

فهل أنت يا بستان أفق مكوكب

وأسمع في الدنيا دعاء بنصره

يردِّده البيت العتيق ويثرب

_________

ص: 475

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا

في الآستانة أرصفة أنشأتها شركة فرنسوية بامتياز مخصوص، ولبعض

التجار الفرنساويين دين على الدولة العلية كانوا من زمن طويل قدَّموا فيه أشياء

للعسكرية بربًا فاحش، وقد طال الزمان وهم عنه ساكتون لينمو بضم الربا في كل

عام إلى الأصل، وقد حصل الخلاف بين شركة الأرصفة وبين الحكومة العثمانية

في هذه الأرصفة، وطلب التجار أموالهم المتراكمة، فسلك الموسيو كونستيان سفير

فرنسا في حل الإشكال مسلك الخشونة والتهديد بقطع العلائق، فما زال مولانا

السلطان يمده بسياسته اللينة اللطيفة وهو يزداد عنفًا ونفورًا، حتى آذن الدولة بقطع

العلائق رسميًّا وخرج من الآستانة العلية، وآذنت نظارة خارجية فرنسا الدولة

العلية بأن لا يعود سفيرها منير بك إلى باريس، وكان مولانا السلطان لان لمطالب

السفير، وأمر بأن تظل شركة الأرصفة متمتعة بامتيازاتها بناء على غض النظر

عن ابتياعها، ولمَّا رأى هذه الخشونة أعرض بجانبه ولم يبال بقطع العلائق؛ ولكن

ورد أنه طلب من فرنسا إرسال سفير آخر للاتفاق معه، ويخاف الناس أن يُفضي

هذا الجفاء السياسي إلى الحرب بين الدولة العلية وفرنسا، وما كل جفاء سياسي

يستلزم الحرب وليست فرنسا كسائر الدول يثير الحرب فيها رجل متهور، فهي

جمهورية لا يمكن أن تعلن حربًا إلا بعد رضا الأمة بواسطة الأحزاب والنواب،

وإذا احتلت فرنسا بعض الثغور غير المحصنة كثغور سوريا تقوم قيامة الدول

وتكون الطامة الكبرى، لا خوف من هذا الجفاء إذا كان كما هو الظاهر قد جاء من

طبيعته؛ ولكن إذا كان هناك مواطأة بين روسيا وفرنسا على فتح باب الفتنة لمقاومة

نفوذ ألمانيا في الأناضول والعراق فهناك البلاء الأكبر، وهذا بعيد أيضًا؛ فإن

روسيا صارت أدهى وأحكم من أن تعرض أوربا كلها للدمار لأجل أطماعها، وقد

تعلمت أن الاستفادة بالسياسة أكبر ربحًا من الاستفادة بالقوة، والله أعلم.

_________

ص: 477

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تعازٍ ووفيات

السيدة أم عاصم

أعزي عمي التقي الفاضل، والعالم العامل السيد الشيخ محمد كامل عن وفاة

قرينته العاقلة التقية المهذبة السيدة زلفى أم عاصم، كانت رحمها الله قارئة كاتبة

مربية مقتصدة قرة عين لعمي ولأسرته فرحمها الله تعالى، وأطال حياة أنجالها في

حجر والدهم الكامل آمين.

توفيق بك الحموي

وأعزي الرصيف الكبير صاحب السعادة سليم باشا الحموي صاحب جريدة

الفلاح الغراء، عن وفاة ولده البار النجيب توفيق بك، اختطفته المنية في ريعان

الشباب من مهد المدارس ومعهد العلوم والمعارف، وكان في هذا العام من السابقين

في أخذ شهادة الدراسة الثانوية، ووجه همته بعد ذلك لتعلم علم الحقوق، قَضَى في

19 من الشهر الإفرنجي الحاضر عن عشرين ربيعًا لم يعرف فيها غير الدفاتر

والمحابر، فنسأل الله تعالى أن لا يفجع هذا الشيخ الكبير بمثل هذا المصاب،

ويحفظ له أهله وولده ويحسن عزاءه على من فقد، آمين.

خريستفورس جباره

وأعزي الثبات والصبر والهمة والاستقامة عن وفاة خريستوفورس جبارة

الشهير الذي قام في نفسه منذ سنين أن سعادة العالم الإنساني لا تتم إلا باتفاق أهل

الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام، كان هذا خاطرًا وفكرًا، ثم

صار وجدانًا ملك عليه أمره، وحمله على الدعوة إليه بالقول والكتابة، أنشأ أولاً

جريدة نشرة سماها شهادة الحق، وبث دعوته في أمريكا في معرض شيكاغو وغيره

وكان يكتب الرسائل الطويلة فيه إلى علماء الدين المشهورين في بلاد الشرق وهو

في أمريكا أقصى الغرب، ثم جاء إلى مصر وألف فيها كتبًا ورسائل كثيرة يوفق

فيها بين التوراة والإنجيل والقرآن، فحرمته الكنيسة الأرثوذكسية، وكان قد وصل

من رتبها الكهنوتية إلى رتبة الأرشمندريت، وكذلك قابله المسلمون بالهزء

والسخرية فاحتمل من الإيذاء ما هو معهود في كل من يدعو الناس إلى خلاف ما هم

عليه.

كان الفقيد موحدًا يقيم الحجة على أنه ليس في الإنجيل ولا في رسائل الرسل ما

يدل على التثليث، ويؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقرآن

وبرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومما كان يخالف فيه المسلمين مسألة

صلب المسيح وكان يؤول قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) وبالجملة إن ما كان يدعو إليه هو من مقاصد الإسلام؛ ولكن لم يكن

عنده من العلم بالإسلام وبعلوم الاجتماع والأخلاق ما يقدر معه على إقامة الحجة على

كل مناظر له، وكان استفتى مفتي الديار المصرية عن عقيدته بكلام مجمل صريح

بالإيمان بنبوة محمد وصدقه في كل ما جاء به، فأجابه المفتي جوابًا قيَّد فيه اعتبار

إسلامه بعدم إنكار شيء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فجاءني وقال لي

إنني لم أفهم معنى هذه الكلمة.... .

أصاب الفقيد مرض ونقه منه، ثم انتكس وعند إحساسه بشدة وطأة المرض

جاءني وقال لي: إنني منذ سكنت مصر لم أعرف فيها رجلاً رحيمًا يفعل الخير لغير

علة إلا فضيلة المفتي، وقد اشتدت حاجتي إلى مبلغ كذا لأجل دخول المستشفى،

أو السفر ونفسي عليَّ عزيزة، فأرجو أن تأخذ لي من فضيلة الأستاذ المبلغ المذكور

فأجبته سمعًا وطاعة، ثم واساه الأستاذ حفظه الله تعالى بضِعْف ما طلب، ودخل

أولاً مستشفى قصر العيني بمساعدة أحد الوجهاء، ثم المستشفى النمساوي بمساعدة

وجيه آخر، وتوفي فيه بمرض القلب، ولما كان الرجل غير معدود في النصارى؛

لأنه محروم من بطريقهم الأكبر، ولا في المسلمين؛ لأنه لم يُعْرَف عندهم بموافقتهم

في عقائدهم، كان أمر دفنه مشكلاً، فحلَّ هذا الإشكال بعض أذكياء النصارى،

فشهد عند غبطة البطريق أن الفقيد اعترف قبل موته بالكنيسة الأرثوذكسية، ورجع

إليها فدُفن أرثوذكسيًّا، وأخذوا كتبه وفيها رد عليهم متين، أما حقيقة أمره وما

يصير إليه في الآخرة فذلك مفوض إلى العليم الرحيم.

_________

ص: 478

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرجال والنساء

من أغوى الآخر في الشرق وأوربا - إصلاح الإسلام للنساء - تمني

الأوربيات تعدد الزوجات - الاختلاط ومضرته - عاقبة الأمر في أوربا والمسلمين.

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا

مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ

دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) .

هذا ما قاله فاطر السموات والأرض وما فيهن، وشارع دين الفطرة ليبلغ به

عباده الكمال، من النساء والرجال، وقد دل العلم وشهد التاريخ على أن ما أرشد

إليه الكتاب العزيز من قيام الرجال وسيادتهم على النساء هو الحق الواقع والفطرة

الصحيحة؛ ولكن الرجال ظلموا وأساءوا في هذه الكفالة والسيادة فاستعبدوا النساء

ووأدوا البنات (دفنوهن أحياء) ولولا حاجتهم إليهن لأفنوا النوع الإنساني بإفنائهن

وما وجدت شريعة ولا ديانة أنصفت النساء وأعطت كلاًّ من الرجل والمرأة حقه

إلا ديانة الإسلام الحقة وشريعته العادلة؛ ولكن المسلمين ما رعوها حق رعايتها

فمنهم من وفَّى فَوُفِّي أجره وكثير منهم فاسقون.

بيَّن الله تعالى أن للمرأة على الرجل من الحقوق مثل الذي له عليها بالمعروف

وأنه لا يمتاز إلا بالولاية ورياسة المنزل؛ لأن البيوت نموذج الأمة، فكما أن الأمة

لا ينتظم أمرها إلا برئيس عادل، كذلك البيت (العائلة) لا بد له من رئيس له

السيطرة والقيام بالشؤون العامة.

ولما كان الإسلام مبنيًّا على قاعدتي الاستقلال بالفكر، والاستقلال بالإرادة،

وشريعته مبنية على المساواة والعدل، ومن مقتضى القاعدة الأولى أن يعرف

الإنسان الحق بدليله لتنبعث إليه إرادته بنفسها؛ لأنه الحق النافع في علم صاحبها،

بيَّن الله تعالى لنا بفضله المرجِّح لكون الرجل هو القيم على المرأة، وهو تفضيله

بنحو القوة والقدرة على الحماية والكسب، وهذا مرجِّح فطري طبيعي، وإنفاقه

المال في المهر وغيره وهذا مرجِّح اجتماعي عقلي، والشريعة الإسلامية موافقة

دائمًا للفطرة الإلهية، ومطابقة للمصالح الاجتماعية ومؤيدة بالدلائل العقلية.

عُرف في سيرة البشر أن القوة تعتدي دائمًا على الحق وتهضمه، وقد كان

رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعرف الناس بسنن الله تعالى في الناس

ولهذا كان يكرر الوصية بالنساء والأرقاء وهو في حالة النزع وسكرات الموت،

كما كان ينهى عن تعظيم قبره وقبور الأنبياء والصلحاء؛ لأن ما يوصي به في هذه

الحالة لا بد أن يعتني به متبعوه أشد الاعتناء لما للكلام حينئذ من التأثير؛ ولأنه من

المعلوم بالبداهة أن الإنسان لا يهتم عند الموت إلا بأهم الأمور، ولا شك أنه عليه

الصلاة والسلام كان عالمًا بأن أعظم فتنة تستقبل أمته من طريق الاعتقاد والعبادة

تعظيم القبور والتماس المنافع ودفع المضار بواسطة أضرحة الأنبياء والصلحاء،

وأعظم فتنة تعرض لهم في شؤونهم الاجتماعية النساء، بل ورد التصريح بهذه

الفتنة وكذلك كان في الأمرين.

إنما كان النساء فتنة بترك الرجال مساواتهم بأنفسهم في الحقوق الاجتماعية

والأدبية، وإهمال فريضة القيام عليهن، فقد جعلت الشريعة لكل امرأة قيمًا فأبوها

وهو القيم الأول يتركها سدى تلعب بها الخرافات والأوهام، ويغويها السفهاء

والطغام، ثم تصير إلى القيم الثاني وهو الزوج فيأكل مالها إن كان لها مال، ولا

يساويها بنفسه في حال من الأحوال، ولقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما

يقول: إنني لأتزين لزوجي كما تتزين لي لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ

بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) ثم إذا مات زوجها وصارت إلى قيم ثالث في آخر

حياتها يكون مآلها شر مآل، ولو كان هذا القيم ابنها الذي لم تحسن تربيته؛ لأنها هي

وأباه لم يكونا متربين ولا مهذبين.

هذا القيام للرجال على النساء قد خصته الشريعة بالأمور الاجتماعية، فليس

للمرأة حق أن تسافر إلا مع ذي محرم، وإذا كانت متزوجة فلا بد من إذن الزوج

ورضاه ولو إلى الحج، وأعطت للمرأة الحق في التصرف في مالها، وليس للزوج

ولا لغيره من القوَّام أن يأخذ من مالها دانقًا بغير رضاها، فتصرف المسلمون

بأموال النساء وأكلوها إسرافًا بغير حق، وتركوا حبالهن على غواربهن فيما هو

موكول إليهم، فطفقن يسرحن ويمرحن ويتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وتركن

الصلاة ومنعن الزكاة وعصين الله ورسوله، ثم عصين الأزواج والذنب في هذا كله

على الرجال.

يشكو بعض الرجال في هذه البلاد من تهتك النساء وفساد أخلاقهن، وما

أفسدهن إلا الرجال، فالمرأة بمقتضى الفطرة والطبيعة أقرب إلى الحياء والعفة،

وأبعد من المجون والخضوع للشهوة؛ ولكن هؤلاء الرجال الظالمين الضالين

المضلين هم الذين يغوونهم، ثم يشكون منهن وينسبون إليهن كل غواية وفساد محتجين

بقول المثل الفرنساوي: (ابحثوا عن المرأة) .

بحثنا وسألنا الباحثين فألفينا الرجال في الأسواق والشوارع يتعرضون لمغازلة

النساء، ولإيذائهن بالقول والفعل، ووجدنا أكثرهن لا يلتفتن لأكثرهم، رأينا هذا

ونحن نعلم أن الرجال أكثر علمًا بأمور الدين وأمور الدنيا، وأكثر شغلاً وعملاً فما

أغنى عنهم علمهم ولا أعمالهم، فكيف يكون الحال لو كانت أفئدتهم هواء كأفئدة

النساء؛ فإن المرأة عندنا لا تتعلم شيئًا يشغل فكرها عن تدبير الحيل لإجابة داعي

الطبيعة، ولا تتربى على ملكات فاضلة تقف بالقوى الحيوانية عند حدود الاعتدال،

وليس لها أعمال شاقة تصرف النفس عن هذه الدواعي وهي مع هذا كله أقرب من

الرجل إلى العفة والنزاهة.

لما تنبه أهل أوربا إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية وترقية معيشتهم المدنية

اعتنوا بتربية النساء وتعليمهن، فكان لذلك أثر عظيم في ترقيتهم وتقدمهم؛ ولكن

المرأة لا تبلغ كمالها إلا بالتربية الإسلامية، وأعني بالإسلامية ما جاء به الإسلام لا

ما عليه المسلمون اليوم ولا قبل اليوم بقرون، فقد قلت آنفًا إنهم ما رعوا تعاليم

دينهم حق رعايتها، ولهذا وجدت مع التربية الأوربية للنساء جراثيم الفساد، ونمت

هذه الجراثيم فتولدت منها الأدواء الاجتماعية والأمراض المدنية، وقد ظهر بشدة

في الدولة السابقة إليها وهي فرنسا فضعف نسلها، وقلت مواليدها قلة تهددها

بالانقراض، والذنب في ذلك على الرجال.

حَذِرَ من مغبة هذه الأمراض العقلاء، وحذَّر من عواقبها الكتاب الأذكياء،

وصرَّح من يعرف شيئًا من الديانة الإسلامية، بتمني الرجوع إلى تعاليمها المُرضية

وفضائلها الحقيقية، وصرَّحوا بأن الرجل هو الذي أضلَّ المرأة وأفسد تربيتها،

وأن بعض فضليات نساء الإفرنج صرحت بتمني تعدد الزوجات للرجل الواحد

ليكون لكل امرأة قيم وكفيل من الرجال.

جاء في جريدة (لاغوص ويكلي ركورد) في العدد الصادر في 20 أبريل

(نيسان) سنة 1901 نقلاً عن جريدة (لندن تروت) بقلم كاتبة فاضلة ما ترجمته

ملخصًا:

(لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء وقل الباحثون عن أسباب ذلك

وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنًا،

وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وتوجعي وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا؟

لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة ولله در العالم الفاضل (تومس)

فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكافل الشفاء، وهو الإباحة للرجل التزوج بأكثر

من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت،

فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهذا التحديد

هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من

تفاقم الشر إذا لم يُبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، أي ظن وخرص يحيط بعدد

الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاًّ وعالة وعارًا على

المجتمع الإنساني، فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم

ما هم فيه من العذاب الهُون، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن؛ فإن مزاحمة

المرأة للرجل ستُحِل بنا الدمار، ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس

على الرجل، وعليه ما ليس عليها، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة

بيت، وأم أولاد شرعيين) .

ونشرت الكاتبة الشهيرة (مس أني رود) مقالة مفيدة في جريدة (الإسترن

ميل) في العدد الصادر منها في 10 مايو (آيار) سنة 1901 نقتطف منها ما يأتي

(لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من

اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملونة بأدران تذهب برونق حياتها إلى

الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة ردأ الخادمة

والرقيق يتنعمان بأرغد عيش، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس

الأعراض بسوء، نعم إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل

بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق

فطرتها الطبيعية، من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها)

وقالت الكاتبة الشهيرة (اللادي كوك) بجريدة ألايكو ما ترجمته:

(إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى

قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وههنا البلاء العظيم على المرأة فالرجل

الذي علقت منه يتركها وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة والعناء وتذوق مرارة الذل

والمهانة والاضطهاد، بل والموت أيضًا، أما الفاقة فلأن الحمل وثقله والوحم

ودواره من موانع الكسب الذي تحصل به قوتها، وأما العناء فهو أنها تصبح شريدة

حائرة لا تدري ماذا تصنع بنفسها، وأما الذل والعار فأي عار بعد هذا، وأما الموت

فكثيرًا ما تبخع المرأة نفسها بالانتحار وغيره.

هذا والرجل لا يلم به شيء من ذلك، وفوق هذا كله تكون المرأة هي

المسئولة وعليها التبعة مع أن عوامل الاختلاط كانت من الرجل.

أما آن لنا أن نبحث عما يخفف - إن لم نقل عما يزيل - هذه المصائب

العائدة بالعار على المدنية الغربية؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقًا تمنع قتل ألوف الألوف

من الأطفال الذين لا ذنب لهم، بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة

على رقة القلب المقتضي تصديق ما يوسوس به الرجل من الوعود، ويمني به من

الأماني، حتى إذا قضى منها وطرًا تركها وشأنها تقاسي العذاب

الأليم.

يا أيها الوالدان لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في

المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا، علموهن الابتعاد عن الرجال،

أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد، لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج

من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر

أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت وكثير من

السيدات المعرضات للأنظار، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا

أضعاف ما نرى الآن، لقد أدت بنا هذه الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في

الإمكان، حتى أصبح رجال مقاطعات من بلادنا لا يقبلن البنت زوجة ما لم تكن

مجربة، أي عندها أولاد من الزنا ينتفع بشغلهم! ! ! وهذا غاية الهبوط بالمدنية، فكم

قاست هذه المرأة من مرارة هذه الحياة حتى قدرت على كفالتهم، والذي علقت منه لا

ينظر إلى أولئك الأطفال ولا يتعهدهم بشيء، ويلاه من هذه الحالة التعيسة، تُرَى من

كان معينًا لها في الوحم ودواره، والحمل وأثقاله، والوضع وآلامه، والفصال

ومرارته) اهـ.

وحاصل القول: إن الرجال هم الذين أغووا النساء وأفسدوهن في جميع البلاد؛

لأنهم القوَّامون عليهن بمقتضى الفطرة، فأما أهل أوربا فهم أحياء يشعر أفرادهم

بأمراض شعوبهم وأممهم، فيصيحون ويتألمون وستفتك بهم أدواء المدنية حتى

تضطرهم إلى معرفة سائر أصول الدين الإسلامي وفروعه، وهم الآن على كثير

منها وهنالك الكمال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) وهو الآن غير متبين لهم لما عليه من الحجب الكثيفة، وأكثفها

المنتسبون إلى هذا الدين وما هم عليه من التقاليد التي ليست منه، بل هي مناقضة

له، وأما المسلمون فقد أصابهم خدر بطل معه ذلك الإحساس والشعور الكلي والنعرة

الملية؛ حتى كاد اليأس منهم يغلب على الرجاء فيهم، لولا أننا نرى بعض الأفراد

ينقهون فيصيحون ويتألمون ويتوجعون ويتململون، فإذا كثروا وقوي حزبهم فهم

الذين يربُّون الأمة ذكرانًا وإناثًا، يربُّون النفوس بآداب دين الفطرة القويم،

ويأخذون من نتائج علوم المدنية الغربية وفنونها ما ثبتت منفعته وأمنت مضرته،

وكل ما أخذ به المسلمون في مدارسهم من تعليم البنات فهو ناقص وفيه مضرات

كثيرة؛ لأن زمامه ليس في أيدي علماء الدين، ولن يكون في أيديهم إلا إذا أتقنوا

جميع ما يُعَلَّم في المدارس؛ ولكن العلم خير من الجهل على كل حال، وكل هذا

ممهد لما أُعِدَّ لهذه الأمة في الاستقبال، ونسأل الله التوفيق لحسن الخاتمة والمآل.

_________

ص: 481

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة والأجوبة الدينية

عموم البعثة وعموم اللغة

(1)

من أحمد أفندي الألفي في أبي كبير: معلوم أن رسالة نبينا صلى الله

عليه وسلم عامة للناس كافة، فهل من مقتضى ذلك أن يكون عليه الصلاة والسلام

عالمًا بكل لغات واعتقادات وآداب وعوائد من أُرسل إليهم؟ إن قيل لا فبماذا

نجاوب من لا يسلِّم بذلك وقد يجد من العقل معينًا، وإن قيل نعم فما الدليل؟ وإذا

كان القرآن داعيًا الناس كلهم لعبادة الله تعالى ولدينه القويم الذي ارتضاه لهم لئلا

يكون للناس على الله حجة فلماذا نزل باللسان العربي فقط؟ ولماذا حُرِّمت ترجمته؟

وكيف يُطلب من الناس كلهم أن يكونوا مسلمين مع أنهم لم تبلغهم الدعوة إليه؛ إذ لا

مبشرين ولا داعين إليه من أهله؟ ألا يكون هذا عذرًا لمن لم يسلم؟ إن قيل لا فما

هي حجة الله عليهم؟ أرجو الإجابة عن ذلك في المنار بما يزيح الشبهة ويضيء

معه نور الحقيقة لا زلتم حامين حمى الحقائق الإسلامية بقوة البرهان.

(ج) قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وقد اختلف المفسرون في المراد بقوم النبي صلى الله تعالى عليه

وآله وسلم، فقيل: قريش وقيل: مضر وقيل: العرب، وبنوا على هذا أنه كان

يعرف لغات القبائل، ويخاطب أهل كل قبيلة بلسانهم، وزعم بعض من يستحل أن

ينسب إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كل ما يعتقده تعظيمًا، وإن كان لا

دليل عليه أنه عليه السلام كان يعرف جميع اللغات؛ لأنه أُرسل إلى جميع الأمم، وأن

ذلك من معجزاته ليُحَدِّث الناس بما يعلمون، واستدلوا على ذلك بما ذُكر في بعض

الكتب من أنه كلم بعض الفرس وبعض الحبشة بلغتهم، ولو صح ذلك لكتب الدعوة

إلى الملوك بلغاتهم؛ ولكن المنقول أنه كتبها بالعربية بلا خلاف.

معرفة اعتقادات المرسل إليهم وآدابهم وعوائدهم ليست من محل الشبهة؛

وإنما محلها اللغة على أن الله تعالى علَّم نبيه ما اقتضت الحكمة أن يعلِّمه من عقائد

أهل الكتاب المجاورين للبلاد التي بُعث فيها {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي

إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) وكان يعرف ما عليه قومه

بالاختبار، ومتى قامت الحجة على قوم الداعي وعلى الذين يلونهم واهتدوا إلى

الحق، فإقامتها على غيرهم تكون أسهل وقبول هؤلاء لها يكون أقرب لوجهين،

أحدهما أن الناس أميل إلى اتباع ذي القوة والعصبية وقبول الدعوة التي أخذ بها

كثيرون من نوعهم منهم إلى اتباع رجل مفرد يقول إنه مصيب وحده وسائر الناس

مخطئون، وثانيهما أن أهل الكتاب كانوا أشد من سائر الأمم تمسكًا بدينهم وإعجابًا

به. وقد دخل في دينهم كثير من المشركين والوثنيين، فمتى أسلموا فالآخرون أقرب

إلى الإسلام.

الأمور العامة إنما تكون بالتدريج، فلو فرضنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام

كان عالمًا بجميع اللغات فهل من الممكن أن يخاطب العرب والروم والفرس والقبط

والبربر والإفرنج والهنود والصينيين وغيرهم من الأمم ويدعوهم ويعلِّمهم الدين في

وقت واحد، كلا وإنما الممكن هو ما فعله النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم

ومعاذ الله أن يقصِّر في أداء وظيفته العظمى (التبليغ) أو يدخر وسعًا.

والذي فعله هو أنه بلَّغ الأقرب فالأقرب، أنذر عشيرته الأقربين وأقام الحجة

على قومه أجمعين، وكتب إلى الملوك والأمراء المجاورين؛ لأنه ما من ملك إلا

وعنده من يترجم له جميع ما يكتب إليه؛ ولأن دعوة الملك دعوة لأمته ورعيته؛

ولذلك كتب إلى ملك الروم (فإن توليت فعليك إثم الإريسيين) وكتب إلى ملك مصر

(فإن توليت فعليك إثم القبط) وهكذا.

وههنا يقال: لو أجاب هؤلاء الملوك الدعوة وآمنوا مع أقوامهم، فهل كان

النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمهم الدين بلغاتهم أم بلغته العربية؟ فإن كان

يرضى ببقائهم على لغاتهم فهل يأمر بترجمة القرآن، وهل يرجى أن يفهموا الدين

بذلك حق الفهم؟ وإن كان يُلزمهم بتعلم العربية فلماذا لم يعهد هذا الإلزام من

الصحابة ولا من غيرهم من الخلفاء والملوك، وقد كان الأعاجم يدخلون في دين الله

أفواجًا، ولم يُنقل إلينا أن أحدًا من أصحاب السلطة ألزمهم بتعلم العربية، ولم

يشتهر عن الفقهاء القول بوجوب ذلك، والمعروف أن الجميع كانوا يكتفون بإيمانهم

ويتركونهم وشأنهم.

والجواب عن هذا كله يُعْرَف من سير الإسلام مع اللغة في القرون الأولى،

ومن كلمة قالها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في كتاب (الأم) فقد بحث في

المسألة ورجَّح وجوب تعميم العربية ووجوب تعلمها على كل مسلم ليفهم القرآن

الكريم الذي هو أصل الدين، أما سير الإسلام مع اللغة فقد كان من العجائب التي لم

يعهد لها نظير في التاريخ، لم يمض على انتشار الإسلام في بلاد الروم والفرس

وبلاد أفريقيا وغربي أوربا إلا زمن يسير حتى علت اللغة العربية على لغات هذه

الأمم، بل نسختها كما تنسخ آية النهار آية الليل من غير مدارس ولا معلمين

ينصرفون إلى تعليم اللغة، فهذا دليل على أن الصحابة الكرام ومن اهتدى بهديهم

من الفاتحين كانوا يلقِّنون الناس الدين على وجه يبعثهم على تعلم العربية من أنفسهم

وما كان ذلك الانتشار السريع إلا بهذا الوازع النفسي الذي يفعل ما لا تفعل

السياسة ولا المدارس، وما أوقف هذا السير إلا ضعف الدول العربية ووثوب

الأعاجم على عروشها، وإفتاء علماء الأعاجم بجواز العبادة وقراءة القرآن والذكر

في الصلاة باللغات الأعجمية.

ومن المسائل المفيدة في هذا المقام أن ما يكون به الإنسان مسلمًا في الجملة

شيء سهل بسيط يمكن إيصاله إلى كل عربي وعجمي في وقت قصير؛ ولكن نمو

الإسلام وفهم ما جاء به من الحكم والمعارف التي ترقي النوع البشري يتوقف على

معرفة العربية حق المعرفة، وفهم المسلمين للقرآن وكونهم أمة واحدة يتحدون في

مقومات الأمم التي يمكن الاتحاد فيها وأهمها الدين واللغة، وهذا الإصلاح

الاجتماعي الذي جاء به الإسلام وهو السعي في وحدة أمم الأرض باتفاقهم في اللغة

والدين، هو الذي توجهت إليه أخيرًا أنظار فلاسفة أوربا ودولها القوية وكل واحدة

منها تبذل الملايين لأجل تعميم لغتها، ولم يكن المسلمون في عصر من الأعصار

متنبهين إلى أنه من واجبات دينهم؛ لأنهم لم يتوسعوا في علم الاجتماع البشري

الذي هو علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ودين الإسلام فيه أكمل الأديان؛ وإنما

كانت تأتي المسائل الجزئية منه في تضاعيف كلام بعض الأئمة عندما يتكلمون في

الفقه ونحوه، فلا ينتبه لها الآخرون؛ لأن الناس في كل عصر لا يأخذون من الدين

ولا من كتب العلم إلا ما يناسب استعدادهم وأحوالهم الاجتماعية، ولو قال قبل اليوم

أحد إنه يجب السعي في تعميم اللغة العربية وينبغي للعلماء مطالبة حكوماتهم بذلك

لقال الأكثرون إن هذا من الحرج الشديد الذي لا يجب في الدين.

وقد كنت صرحت في مقالات الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة

الإسلامية التي نُشرت في أعداد المجلد الأول من المنار، بأنه لا بد في الإصلاح

الذي يعيد مجد الإسلام من تعميم اللغة، واحتججت على هذا ولم أتجرأ على

التصريح بأنه واجب ديني؛ لأنني لم أكن اطلعت على نص الإمام الشافعي في ذلك

وهؤلاء المقلدون لا يقتنعون بالأدلة والبراهين؛ وإنما يقتنعون بكلام الميتين وإن

لم يكونوا مجتهدين.

أما الدعوة إلى الإسلام فتختلف في هذا العصر عن العصر الذي ظهر فيه

الإسلام من وجوه كثيرة يفهمها اللبيب ويطول شرحها الآن، وعليه فلا بد للمسلمين

وليس لهم دول إسلامية تحمي الدعاة وتنصرهم أن يعتبروا بسير الدول القوية التي

تنصر الدعاة إلى دينها في الدعوة إلى الإسلام فهم أولى بذلك منهم، وقد شرحنا

شروط الدعوة وآدابها في مقالات سابقة، فليرجع إليها السائل ومن شاء في المجلد

الثالث.

وأما من لم تبلغه دعوة الإسلام على وجه صحيح يحرِّك إلى النظر، فليس

بمؤاخذ عند الله تعالى، كما صرح به المتكلمون والله أعلم وأحكم.

***

الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية

(2)

من محمد أفندي الصعيدي ماهر في فوه - غربية.

قال بعد إطراء علينا وعلى المنار وتعريض بأدعياء العلم:

أجمعت الأمة على أن القرآن الشريف هو كلام الله تعالى، وكذا الأحاديث

القدسية التي رواها نبينا عليه الصلاة والسلام عن ربه جل وعلا؛ ولكن من يقارن

بين القولين - القرآن والأحاديث القدسية - يرى أن بينهما فرقًا عظيمًا بينًا من

حيث الفصاحة والبلاغة في العبارة والمتانة في التركيب، فقد أجمع الكل على أن

القرآن استوفى شروط البلاغة حتى صار معجزًا يقف بإزاء آياته المعجزات كل

إمام في البلاغة، سواء كان مسلمًا أم غير مسلم خاضعًا عاجزًا ناظرًا إليها بعين

المهابة والإجلال، مقرًّا بأن ليس له في لجَّة هذا البحر الزاخر مسبح، ولا في

ساحله مسرح، بخلاف الأحاديث القدسية فإنه وإن كانت في أعلى درجات البلاغة إلا

أنها ثانوية بالنسبة للقرآن، فإذا كان قائلهما واحدًا وهو الحق جلت قدرته فلماذا لم

يكونا في منزلة واحدة وعلى نمط واحد؟ فإذا جاءنا من أنكر أن تلك الأحاديث من

كلامه تعالى، وادَّعى أنها ليست مروية عنه سبحانه بدليل عدم مماثلتها للقرآن

فبماذا نجاوبه وبأي دليل نقنعه؟

هذه مسألة جالت في خاطرنا فلم نجد بابًا لحلها غير عرضها على غزير

علمكم، وواسع اطلاعكم، فأرجو نشرها في مناركم الزاهر مع الإجابة عليها كما

عودتمونا في مثل هذه الأحوال، والله نسأل أن يديمكم ملجأ للعلم، وعضدًا قويًّا

للدين والملة الحنيفية بمنه وكرمه.

(ج) إنما يفهم هذه المسألة من يفهم معنى الوحي كما ينبغي، وقد تقدم

الكلام عنه في درس الأمالي المدرج في الجزء الخامس بقدر ما يسمح به الزمان

والمكان، ونقول الآن: إن الوحي - وهو كما مر: إعلام لله تعالى نبيه شيئًا بطريق

خفي غير الطرق التي يستفيد بها العلم سائر البشر - له طرق وكيفيات منها أن

يلقي الله في قلب النبي بواسطة مَلَك أو بغير واسطة، معنى من المعاني فيعلم أنه

من الله تعالى لا من الخواطر العادية، فيعبر عنه بلفظ من عنده ويسنده إلى الله

تعالى؛ لأنه هو الذي أوحاه إليه بلا ريب عنده ولا شك، ومن هذا القبيل الأحاديث

القدسية، وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يقوله النبي في الدين منه، أي أنه

وحي وإن لم يسند إلى الله تعالى، وجعلوا هذا مفهومًا من قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ

عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) وذهب آخرون إلى أن

بعض قوله اجتهاد واستنباط من الكتاب، واختلفوا هل يخطئ في اجتهاده أم لا،

فعلمنا أن للنبي في هذا النوع من الوحي العبارة عنه؛ ولذلك تجوز روايته بالمعنى

بشرطه؛ لأن لفظه ليس منزلاً.

وأما القرآن العظيم فقد نزل على قلبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظه

ومعناه ونظمه وأسلوبه، فليس له ولا لغيره أن يغير كلمة بكلمة ترادفها، أو يؤديه

بالمعنى، ولهذا كان يعجل بتلاوته ويأمر بكتابته؛ لأنه كان يخاف أن ينسى كلمة

منه أو يذهل عن ترتيبه الذي ألقي في قلبه حتى أمنه الله تعالى بقوله: {سَنُقْرِئُكَ

فَلَا تَنسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6-7) أي فلا تنسى أبدًا؛ لأن هذا

الاستثناء من مؤكدات النفي كقوله تعالى: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ مَا

شَاءَ اللَّهُ} (الأعراف: 188) وقوله عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ

السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: 107) وبقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ

لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا

بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) فتأمل كيف سمَّى الله تعالى إيحاءه إليه قراءة منه

سبحانه وتعالى، وإلقاء المعنى وحده لا يسمى قراءة، ويظهر لك الفرق بين وحي

المعنى وحده، ووحي اللفظ مع المعنى بالرؤى؛ فإن الرؤيا الصالحة للأنبياء من

الوحي، وقد يتمثل المعنى للرائي بصورة محسوسة فيعبر عنه بلفظ يناسبه، كما

عبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن اللبن الذي رآه في المنام بالعلم، وقد

يرى الرائي شخصًا يقول له كلامًا يحفظه ويعيه بلفظه أو بمعناه فقط، وما دام

الوحي خطابًا للروح فلا فرق في حقيقته بين يقظة ومنام.

ولما خصَّ الله تعالى هذا النوع من الوحي الذي سماه قرآنًا بهذه الخصوصية،

ولم يجعل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيه عملاً ولا كسبًا إلا بتبليغه والعمل به

كما أنزل ليكون آية بينة على صدقه ومعجزًا للبشر - والنبي منهم - ومحفوظًا

إلى الأبد جعل له أحكامًا خاصة به، منها حرمة مسِّه للمُحْدِث وحرمة قراءته على

الجنب وحرمة روايته بالمعنى، وعدم جواز الصلاة بغيره، والأجر على تلاوته

لأنها عبادة، حتى ورد أن للقارئ بكل حرف عشر حسنات، وذهب بعض العلماء

إلى حرمة بيعه وبعضهم إلى كراهتها، وهذا القدر كافٍ في الفرق بين القرآن

الكريم، والأحاديث القدسية في الكنه والحكم، والله تعالى أعلم.

***

حكم الأعطار الفرنجية

(3)

من محمد أفندي عباس السمرة ببولاق: هل التطيب بالأعطار الإفرنكية

مع علمنا بأنها ممزوجة بالكحول مبطل للصلاة أم لا؟ نرجوكم إفادتنا بلسان منار

الإسلام ونشكر لكم سلفًا.

(ج) النجاسة هي ما تستقذره الطباع السليمة، وهو قسمان: قسم قذارته

خفيفة كالبصاق، وقسم قذارته شديدة كالبول والغائط وهو النجس، وقد أمرت

شريعتنا الغراء بالنظافة والتطهر من النجاسة، وأكثر أئمتنا وعلمائنا على أن

الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب أو المصلَّى، وقد اختلفوا في تعداد

النجاسات التي يجب اجتنابها في الصلاة؛ لأنه لم يرد نص من الشارع بتحديدها

بالعدد للذين كانوا يدخلون في الإسلام ويتعلمون العبادة الواجبة، ثم ينقلبون إلى

باديتهم التي ليس فيها علماء كحديث الأعرابي المشهور، ولم يكن في زمن التشريع

ولا في أزمنة الأئمة المجتهدين شيء يسمى الكحول فينص فيه شيء؛ لأن علم

الكيمياء لم يكن له وجود، ونسمع عن كثير من الناس القول بنجاسة الكحول

ونجاسة كل ما فيه شيء منه، ويحتجون على هذا بأنه هو سبب الإسكار في الخمر

وهي نجسة عند أكثر أئمة المسلمين وعلمائهم، وهذا الاستنباط والاجتهاد معارض

بوجوه:

(أولها) : أنه لا دليل على نجاسة الخمر نفسها في اللغة، ولا في الكتاب

والسنة وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ

رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: 90) لا يدل على نجاستها؛ لأن الرجس مع

كونه ليس نصًّا في النجاسة محمول عليها وعلى الميسر والأنصاب والأزلام، وهذه

الأشياء غير نجسة بالإجماع، هذا ما يقال لمن يسلك في القول بالنجاسة مسلك

الاجتهاد والاستنباط.

(2)

سلَّمنا أن الخمر نجسة تقليدًا للقائلين بذلك من غير أن نعرف لهم دليلاً

مقنعًا؛ لكننا لا نسلِّم أن العلة في نجاستها وجود هذه المادة الكيماوية فيها؛ لأن هذه

المادة ليست قذرة تعافها النفوس السليمة، فتكون هي الجزء النجس، بل هي من

المطهرات التي تزيل ما لا يزيله الماء مع الصابون من الأقذار والنجاسات؛ ولأن

هذه المادة لم تكن معروفة للمجتهدين الذين قالوا بنجاسة الخمر؛ ولأن أحكام دين

الفطرة مبنية على الأمور الظاهرة لجميع أصناف الناس الذين دعوا إليه لا على

دقائق العلوم الطبيعية المختصة بصنف من الناس.

(3)

إذا كانت رجسية الخمرة ونجاستها معنوية، كما هو الظاهر على حد

{إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: 28) لتأكيد اجتنابها والبعد عنها، فلا تعلق

لهذه المسألة بالصلاة إلا من حيث اجتناب قرب الصلاة للسكران، وإن كانت

نجاستها حسية كما هو المعروف عن الفقهاء القائلين بذلك بمعنى أنه يجب تطهير

الثوب والبدن إذا أصابه شيء منها فالأمر لا شك تعبدي، والتعبدي لا يبحث في

علته ولا يقاس عليه وإنما يمتثل فيه ظاهر النص.

(4)

إن هذا الكحول يوجد في غير الخمرة من الأشربة والأدوية والأعطار

القديمة غير الإفرنجية وغير ذلك، فإذا كان قولهم إن كل ما فيه مادة الكحول نجس

فعلينا أن نحكِّم الكيماويين في معرفة نوع النجاسة المحرَّمة شرعًا، ونأخذ بأقوالهم

وإن كان لا يسلم لنا شيء من النجاسة.

(5)

إذا قالوا: إن الخمر نجسة العين، فاللازم في اتباعهم اجتناب هذا

الشراب المسكر الذي يسمى خمرًا والتطهر منه، وليس علينا أن نحلل بسائطه

ونقول إن كل عنصر منه يوجد في شيء آخر نحكم على ذلك الشيء بحكمه؛ لأن

جزء نجس العين نجس؛ فإن هذه فلسفة لا تليق بالحنيفية السمحة؛ ولأن الأحكام

إنما هي على هذه المركبات، وهذا العطر ليس خمرًا.

(6)

إن النجاسات المجمع عليها كبول الإنسان وغائطه مركبة من عناصر

كيماوية توجد في كل طعام وشراب؛ وإنما القذارة من التركيب المخصوص على

النسب المخصوصة.

(7)

المعروف في محاسن أصول الشريعة أن الأحكام تدور مع العلل

وجودًا وعدمًا، فإذا حُرِّمت الأشربة المسكرة التي كانت في زمن التشريع وسميت

خمرًا، فلا شك أن الأشربة التي اختُرعت بعد ذلك كالكنياك لها حكمها، وجاء

النص بحِلِّ الخل الذي كان خمرًا، وحكم الأئمة القائلون بنجاسة الخمر بطهارتها إذا

تخللت؛ لأن المفسدة التي كانت في هذا المائع واقتضت اجتنابه قد زالت، فأي

معنى للتضييق على المسلمين بمنعهم من الانتفاع به، وكذلك جلود الميتة إذا دُبِغَت

تطهر للأمن من نتنها وفسادها. وانقلاب العين ودخول النار من المطهرات في

مذهب الحنفية فإذا طُبخ الصابون بالزيت النجس يكون طاهرًا، فكيف لا يكون

العطر الذي فيه الكحول طاهرًا.

(8)

أن الطيب ضد القذر، والنجاسة هي القذارة الشديدة، ومن البلاء أن

نغلو في الدين ونتعمق بالتفلسف فيه؛ حتى نعطي الضد حكم ضده، بل نجعله منه

فهذه الأعطار والطيوب الإفرنجية ليست خمرًا ولا قذرًا، ولا نعرف أيضًا عن أئمة

الدين قولاً بتحريم شيء لعلل فلسفية وتحليلات كيماوية.

(9)

قد ثبت في الكيمياء أن هذا الكحول يوجد في غير هذه الأعطار من

الأكل والشرب والدواء، لا سيما المتخمر منها كالعجين وغيره كما تقدم، فإذا

حكمنا بنجاسة كل ذلك نوقع الأمة في أشد الحرج، والحرج كله منفي بالنص ولا

مرجح للقول بنجاسة هذه الأعطار دون غيرها، هذا وإننا نرى كثيرًا من أهل العلم

يتعطرون بهذه الطيوب بعلة أنها مجهولة الأصل، وأن قول الكيماويين غير معتبر

شرعًا، وعندنا أن قول الكيماويين يقيني؛ لأنه مبني على المشاهدة ومتواتر عنهم

بالنسبة إلى غيرهم.

لا شك أن السائل سألني عن بيان رأيي في هذه الأعطار، وعن مدركي فيه،

وقد بينته له بحسب فهمي في الدين ومعرفتي بأحكامه، فإن أصبت الحق فبتوفيق

الله تعالى وفضله، وإن أخطأت فلا بدع أن يخطئ غير المعصوم، وقد بذلت

طاقتي وجهدي في معرفة الحق، والله غفور رحيم.

_________

ص: 493

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آثار علمية أدبية

ننشر في هذا الباب نبذًا وجيزة من الفنون الطبيعية بعبارة سهلة التناول على

طلاب الأزهر وأضرابهم الذين لا يتعلمون شيئًا من هذه العلوم، ونبدأ بهذه النبذة

لأحد إخواننا الفضلاء وهي:

(الثلج المصنوع)

تمهيد: أحوال الأجسام:

أجزاء الأجسام الصغيرة جدًّا التي لا تقبل الانقسام بينها تجاذب وتنافر، فإذا

تغلب الجذب على النفور كان الجسم صلبًا، وإذا تساويا كان سائلاً، وإذا قوي

النفور على الجذب كان الجسم غازيًّا في قوام الهواء، وأكثر الأجسام تنتقل من حالة

الصلابة إلى السيولة، ومن السيولة إلى الغازيّة بالحرارة، وتنتقل من الغازيّة إلى

السيولة، ومنها إلى الصلابة بالضغط والتبريد، فالكبريت الذي هو جسم صلب في

الدرجة المعتادة يذوب ثم يتحول بخارًا بالحرارة، والماء الذي هو سائل في الدرجة

المعتادة يجمد بالتبريد ويصير بخارًا بالحرارة، ومتى تَمدّد الجسم بالحرارة يخف

ويتصاعد، فإذا سخن الماء على النار فالدقائق التي تسخن تصعد إلى أعلى الإناء،

ولهذه السُّنة الإلهية فروع منها حركة الهواء واختلاف الرياح.

موازنة الحرارة:

إذا تَلامس جسمان درجة حرارتهما مختلفة سرى جزء من حرارة أشدهما

حرارة إلى الثاني حتى تكون حرارتهما في حالة الموازنة، والشواهد على هذا

كثيرة منها: إذا جلس الإنسان على كرسي مثلاً أو نام في فراش؛ فإن شيئًا من

حرارة جسمه ينتقل إلى الكرسي أو الفراش فيسخن ويحس به الإنسان، ومنها أن

الداخل في حمام حار يحس بحرارة شديدة، فإذا طال مكثه فيه ضعف إحساسه

بالحرارة، وإذا انتقل من مكانه إلى آخر دونه في الحرارة؛ فإنه يحس ببرودة،

ومنها الإحساس ببرودة ماء الآبار في الصيف، وسخونتها في الشتاء مع أن

حرارته واحدة دائمًا.

الموضوع:

إذا انخفضت حرارة الماء إلى درجة الصفر؛ فإنه يجمد ويصير ثلجًا، فكل

واسطة تخفض بها حرارة الماء إلى درجة الصفر فما دونها يمكن أن تستخدم في

عمل الثلج المصنوع، وأسهل الوسائط وأيسرها وأقلها نفقة طريقة تحضير الثلج

بواسطة غاز النوشادر، ذلك أن هذا الغاز يسيل بالضغط وتنخفض درجة حرارته

إلى (40 تحت الصفر) فإذا رفع عنه الضغط عاد غازًا كما كان بعد أن يأخذ من

حرارة الأجسام الملامسة له ما يحتاجه، وعلى هذه الخاصة أسس المُعلم (كاريه)

جهازه لعمل الثلج، وهو مؤلف من قِدر يُملأ إلى ثلاثة أرباعه بمحلول النوشادر

ويوضع على النار، ويوضع بإزائه إناء فيه ماء، وفي داخله إناء آخر على شكله

في وسط الماء مغلق من جميع جهاته، وفي أعلاه أنبوبة متصلة بالقِدر الذي فيه

محلول النشادر، فإذا أوقدت النار تحت القدر أخذ غاز النوشادر في الانفصال من

محلوله وصعد فلا يجد طريقًا يمر منه إلا الأنبوبة الموصلة إلى الإناء، فيجتازها

ويصل إلى الإناء الداخل المغلق، ومتى تراكم استحال إلى سائل قابل للتطاير

بالدرجة المعتادة، فإذا نُزع القِدر من التنور الذي فيه النار، وغمر في ماء بارد

استحال النوشادر السائل الذي في الإناء المغلق المحيط به الماء إلى غاز، ويرجع

إلى القِدر ويذوب في الماء الذي كان فيه أولاً، فيتكون محلول النشادر ثانيًا، وأما

الماء المحيط بالإناء الداخل؛ فإنه يجمد في الحال ويصير ثلجًا لامتصاص النوشادر

حرارته، فيؤخذ الثلج ويوضع بدله ماء ويعاد العمل هكذا بقدر الحاجة.

***

(الانتقاد على مقدمة ديوان حافظ)

يخطئ المتطفلون على موائد العلم والأدب والكتابة في المنظوم والمنثور، فلا

يلتفت أحد إلى خطئهم، ولا يرون كلامهم أهلاً للعناية بالانتقاد، وأما فرسان الكلام

والسابقون في حلبة الفضل؛ فإن الناس يَعْدُون على جيادهم الكبو والعثار، ويعنون

بانتقادهم ويرون في ذلك فائدة وفخرًا، وسمعة وذكرًا، ومن الناس من يغلو في

النقد، فيتجرم ويتذقح ولا يرضى بجعل الهفوات من الموبقات، حتى يُعِدَّ الحسنات

من السيئات، ويغلو آخرون في نقد النقد، ورد الرد، فيجعلون الخطأ صوابًا،

والصدق كذبًا.

وإن مقدمة ديوان حافظ في علو أسلوبها وانسجام تركيبها، جديرة بعناية الناقد،

وموضع لحسد الحاسد، وقد انتقدها أحد الكتبة في بعض الجرائد الإخبارية فأبعد في

القول، ومال كل الميل، انتقد كلامه في وصف الشعر، وقوله إنه يوجد في المنظوم

والمنثور، وظاهر السياق يشهد بأن حافظًا يتكلم في روح الشعر وسره والغرض منه

بوجه عام على طريق المبالغة الشعرية، ولعمري ما الشعر إلا تخيل وتصوير،

يقصد به الوجدان بالتأثير، ليكون الكلام مقبولاً، وما يأمر به مفعولاً، وهذا هو الذي

عناه سيدنا حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال له

ولده: لسعني طائر، وكان لسعه زنبور، قال صفه لي، فوصفه بقوله: (كأنه ملتف

في بُرْديْ حِبَرَة َفقال حسان: (قال ابني الشعر ورب الكعبة) والذي عناه سيدنا عمر

رضي الله عنه بقوله: (الشعر جزل من كلام العرب تسكن به النائرة، ويبلغ له القوم

في ناديهم) وهذا ما يعنيه حافظ أفندي في مقدمته.

أصاب المنتقد في تخطئة قول المقدمة (ولقد ترجل لبيت منه جيش بالأندلس)

والصواب أن الجيش كان في أفريقيا وهو جيش المعز العبيدي صاحب مصر،

وكأن السهو جاء صاحب المقدمة من كون الشاعر أندلسيًّا - وهو ابن هانئ - فسبق

قلمه ونسب الجيش إلى الأندلس بدلاً من نسبة الشاعر إليها، وقد علمت أنه تنبه إلى

هذا قبل طبع المقدمة في الديوان فأصلحه.

وقد نبهته على خطأ تاريخي أقوى من هذا كله لم يذكره المنتقد؛ لأنه لا

يعرفه وهو نسبة الشاهنامة إلى القاآني وقوله إن أبياتها سبعون ألفًا، والصواب أن

الشاهنامة للفردوسي شاعر السلطان محمود الغزنوي وأبياتها ستون ألفًا، وهي

بمكان من البلاغة يعز الارتقاء إليه، وأما القاآني فهو شاعر متأخر مجيد.

ولم يبعد المنتقد كثيرًا في مؤاخذته صاحب المقدمة على قوله: (ولقد كان هم

الشعراء في الجاهلية مصروفًا إلى التقاط الألفاظ الغريبة) إلى آخره وغرض حافظ

أفندي أن الشعر بعد حضارة الإسلام كان أحسن ديباجة، وأسلس عبارة، وأعلى

معنى، وهذا صحيح؛ ولكنه بالغ في نسبة شعراء الجاهلية إلى العناية والتعمد في

التقاط الغريب؛ حتى جعل معانيهم في مبانيهم كالحسناء تحت الأطمار، وأقول إن

الألفاظ العربية التي كثر استعمالها بعد ظهور الإسلام أكثرها من لغة قريش؛ لأن

السبب في حفظ العربية وضبطها هو الاستعانة على فهم القرآن والأحاديث، وقد

صرنا نعد من الغريب كل ما لم نألفه في الاستعمال، وليس هذا بصواب.

هذا ما رأيناه جديرًا بالتنبيه عليه، والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَلَوْ

كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) فحسب حافظ

أفندي فخرًا أن ما عُدَّ عليه أقل القليل، وعلى الله قصد السبيل.

***

السينوغراف

ألعوبة الصور المتحركة

مصطفى صادق الرافعي

كيف فؤادي والهوى شاغل

يهيجه المنزل والنازل

ما زلت أخفيه وأخفى به

في الناس حتى فضح العاذل

فعادنا المطل وعدنا له

رحماك فينا أيها الماطل

كل امرئ أيامه تنقضي

لا أمل يبقى ولا آمل

وما (السنوغراف) وما مثلت

إلا صدى ينقله الناقل

تبعث فيها أمة قد خلت

وتجتلي في (لندن)(بابل)

كم مثلت من طلل ماثل

فكاد يحيى الطلل الماثل

تريك من ينأى كان قد دنا

ومن دنا كأنه راحل

كأن فيها للهوى منزلاً

فكل قلب عندنا نازل

تلهو به عطبولة خاذل

وقد بكت عطبولة خاذل

وعانق العاشق معشوقه

فاجتمع المقتول والقاتل

يا ليت شعري هل رؤى نائم

أم خطرات ظنها غافل

لا تضحك الجاهل في نفسه

إلا بكى في نفسه العاقل

مواعظ مثلها هازل

ورب جد جره الهازل

كالنفس إن تنس الردى مرة

فليس ينسى الأجل العاجل

يزول ما فيها إلى عبرة

وكل شيء غيره زائل

وهكذا الدنيا انتقاص وما

يكون فيها فرح كامل

_________

ص: 504

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(انتقاد جريدة الحاضرة على الجناب العالي الخديوي)

نقلت جريدة المؤيد نبذة عن بعض الجرائد الأوربية في وصف معيشة مولانا

الخديو في مصيفه بأوربا، ومنه أنه يلبس في وقت كذا قبعة صفتها كذا، فانتقدت

لبس القبعة جريدة الحاضرة التونسية، وذكرت حظر فقهاء الإسلام لبسها بناء على

تفسيرها لها بما يلبسه الإفرنج وتسميه العامة (برنيطة) ونجيب بأنه يحتمل أن

تكون القبعة المذكورة كُمَّةً مما يعتاد المسلمون وغيرهم لبسه في بيوتهم وقت الراحة

والحظر الذي ذكروه مخصوص فيما جرت العادة بأن لا يلبسه إلا غير المسلمين،

بحيث لو لبسه المسلم لاشتبه بهم، على أنه ربما لبسها متنكرًا لغرض صحيح،

وتفصيل القول في التشبه المذموم وغير المذموم مفصل في مقالة نُشرت في المجلد

الأول من المنار فلتراجع.

***

(مفتي الديار المصرية في أوربا)

وقف هذا الرجل حياته على خدمة الإسلام في الحِلِّ والترحال، والسفر

والإقامة، فقد كان في السياحة الصيفية التي يظن أنه يصرفها في الراحة من عناء

أعماله الكثيرة مجتهدًا في هذه الخدمة التي لا يرى لنفسه راحة بدونها، كان في

الآستانة العلية يذاكر عظماء رجال الدولة كشيخ الإسلام وغيره في مصلحة

المسلمين، وإحياء علوم اللغة والدين، ويبحث في بيوت الكتب عن أحسن مؤلفات

السلف لأجل إحيائها، وكذلك كان في أوربا يزور مكتبات الملوك والأمراء

ومتاحفهم، ويطَّلع على آثار المسلمين القديمة ومفاخرهم العظيمة، ومؤلفاتهم النافعة

ويقتبس منها ما شاء الله أن يقتبس، وقد اطَّلع في مكتبة عاهل (إمبراطور)

النمسا والمجر على بعض آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كبعض كتب

عمرو بن العاص أمير مصر وغير ذلك.

وقضى في بلاد سويسرة زمنًا ينظر فيما كتبه الإفرنج على الإسلام، وما

وقفوا عليه من خط المسند، وما ظهر لهم في لغة سبأ وحمير، وإنها لخدمة إسلامية

حقيق بها من حبس نفسه على خدمة الإسلام والدفاع عنه، وقد انتهى إلينا أنه سافر

قاصدًا مصر، ويُنْتَظر أن يصل في يوم الاثنين (غدًا) منحه الله السلامة، ونفعنا

به والمسلمين.

(صدى حديث مفتي الديار المصرية مع شيخ الإسلام في الآستانة)

طار خبر هذا الحديث في المؤيد، ثم في المنار إلى جميع البلاد الإسلامية،

فتلقاه العقلاء والفضلاء بالقبول، ونشرته برمته الجرائد الإسلامية في الشرق

والمغرب ليعم نفعه، ويعرف عامة المسلمين كما يعرف خاصتهم بأن أكابر علمائهم

معترفون بأن معظم بلاء المسلمين قد جاءهم من تقصير علمائهم في خدمة الأمة

والملة.

***

(قول صاحب جريدة اللواء في الحديث)

عُرف صاحب هذه الجريدة عند الخواص وأهل الرأي بالتجاوز والشذوذ

والأفن والخطل، ومع هذا لم يشذ عن الجرائد الإسلامية المعتبرة في الاعتراف

بصدق الحديث وإصابته المرمى وقرطسته في الهدف؛ ولكنه لم يترك شذوذه

وتجاوزه الحدود عند الكلام عليه، فجعل الحديث برأيه الأفين حجة على المتحدثين

وسأل من لا ينظر في جريدته من شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية عن

خدمتهما للإسلام.

أما شيخ الإسلام فصاحب اللواء يعرف أن مولانا السلطان أيَّده الله بتوفيقه لم

يترك له ولا للوزراء استقلالاً بعمل يتعلق بالأمة، بل وضع جميع أعباء الدولة

والأمة على كاهله، فإن كان هناك تقصير فليسأل عنه صاحب الإدارة والنفوذ

المطلق، ويا ليت شعري ماذا يقول صاحب اللواء إذا سأله شيخ الإسلام عن رأيه

في الإصلاح الإسلامي الذي ينبغي أن يعمله؟ هل يشير عليه بمثل ما أشار على

مفتي الديار المصرية بأن يترك وظيفته، وينشئ مدرسة كمدرسة مصطفى كامل،

أو مدرسة الوطن، أو مدرسة باب الخلق.

وأما مفتي الديار المصرية فقد سمع الصُّم نداءه بالإرشاد إلى الإصلاح، وما

العلماء إلا مرشدون، وأبصر العمي سعيه في خدمة الأزهر الشريف والجمعية

الخيرية الإسلامية التي لها عدة مدارس كل واحدة منها خير من جميع المدارس

الأهلية، وجمعية إحياء العلوم العربية، واعترف المكابرون مع المنصفين بمروءته

وبذل جاهه وماله في خدمة المسلمين في الحكومة وغير الحكومة، ومن أعماله

القريبة تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية الذي أجمع على استحسانه العلماء

والفضلاء، وجزموا بأنه لم يحاب الحكومة في إظهار خطأها، وأنه شخَّص الداء،

وبيَّن الدواء، ووصف طريق العلاج؛ ولكن صاحب اللواء في مصر لا يسمع ولا

يبصر، ولا يحس بهذا كله ولا يشعر.

عرَّض هذا الانفجاني المتذقح بذكر الفتنة العرابية، ويا ليته كان يعرف حقيقة

الفتنة العرابية، ويعرف المتهورين فيها والناصحين لهم بالاعتدال، هو لا يعرف

ولا يحب أن يعرف، وإذا أحب فليسأل العارفين، وليراجع كتابة الكاتبين، وعند

ذلك تظهر له مزية من عرَّض به إن كان من المنصفين، يظهر له أن هذا الرجل

الكبير العقل البعيد الرأي كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة الوقائع الرسمية

في القسم الأدبي منها، على حين ترتعد فرائص قصر الخديوية من عرابي، وحين

يرى هذا المنتقد الشجاع أن رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا،

ويسمع من أتباعه ما يكره، وتظهر له تلك الخطبة التي خطبها هذا الرجل العظيم

في زعماء الثورة العربية عندما ألزموه بحضور مجتمعهم، وأن يقوم فيهم خطيبًا،

ماذا كان موضوع خطبته؟

كان موضوعها بيان تاريخي بأن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن

القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطانها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين

الرعية إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح

والتربية النافعة وصار لهم رأي عام، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن

الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون مساواتهم بسائر الناس، وإزالة

امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك، فكيف

حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ (قال) : فهل تغيرت سنة الله في

الخلق، وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ له أحد من

العالمين؛ حتى رضيتم واخترتم عن روية وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في

جاهكم ومجدكم، وتساوون الصعاليك حبًّا بالعدالة والإنسانية؟ أم تسيرون إلى حيث

لا تدرون وتعملون ما لا تعلمون؟ وأمثال هذا الكلام الذي فهمه بعضهم فطفقوا

ينغضون رؤوسهم، وعلا على أفهام الآخرين.

هذا ما قاله الشيخ محمد عبده في أعظم مجتمع لرؤساء العرابيين، ولو كانوا

يعقلون لرجعوا به إلى رشدهم؛ ولكن الأمة لم تكن استعدت لفهم إرشاد هذا الحكيم

في ذلك الوقت، ولما تستعد إلى الآن اللهم إلا نفرًا من فضلاء النابغين هم محل

الرجاء لنهضة المسلمين، ولهذا الأستاذ أن يتمثل بقول ابن الفارض رحمه الله

تعالى:

ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى

ولكنها الأهواء عمّت فأعمت

ومما أضحك الناس من كلام صاحب اللواء نصحه لمفتي الديار المصرية بأن

يترك وظائفه ويشتغل بتأسيس مدرسة وطنية، وقالوا إن هذا القول حجة لأصحاب

المقطم فيما يلقبونه به، سبحان الله: هل كان يخطر في بال عاقل أن صاحب

جريدة يطيع وسواسه في كتابة مثل هذه الكلمة، ويقول لرجل يخدم الأزهر وهو

أكبر مدرسة في العالم، ويرأس جمعية لها عدة مدارس بأن يترك وظائفه وهي

الإفتاء والأزهر والأوقاف والجمعية الخيرية وجمعية إحياء العلوم العربية والشورى

وإصلاح المحاكم ويبني مدرسة أهلية كمدرسة مصطفى كامل ينفق عليها من

الاستجداء والنصب؛ فإنه إذا ترك وظائفه لا يبقى له مال يكفي لنفقات بيته ونفقات

المدرسة.

***

(إصلاح عظيم في مدرسة خليل أغا)

اجتمع مجلس الأوقاف الأعلى في يوم الثلاثاء الماضي برئاسة صاحب السعادة

الفاضل عبد الحليم باشا عاصم واتفق على إنشاء قسم في مدرسة خليل أغا يسمى

القسم الخاص، يعلم فيه التفسير والأخلاق والخطابة ولوازمها، ويكون منه خطباء

وأئمة المساجد في القطر المصري، ويؤخذ بعض تلامذته من نجباء المجاورين في

الأزهر الشريف، وهذا أعظم إصلاح تقوم به هذه المدرسة بدلاً من الأزهر، واتفق

على إنشاء قسم تجهيزي فيها من ابتداء سنة الدراسة وهو شهر أكتوبر الآتي،

وعلى إنشاء قسم صناعي تعلم فيه الصنائع النافعة يستعد له في هذا العام استعدادًا،

ويرجى أن ينشأ فعلاً في العام الآتي حقق الله ذلك، وعلى قبول مائة تلميذ في القسم

الابتدائي من المدرسة بنفقات قليلة زيادة على تلامذتها الذين يُعَلَّمون كلهم مجانًا،

وعلى إعطاء جميع أدوات التعليم وكتبه لفقراء اليتامى من التلامذة، وعلى زيادة

مرتب النبيه الفاضل عزتلو حسن بك صبري مفتش المدرسة ومدير نظامها،

والأستاذ الفاضل الشيخ حسن منصور معلم الدين والعربية فيها وبعض المستخدمين،

جعل الله هذه المدرسة ينبوعًا من ينابيع السعادة لهذه البلاد بهمة القائمين بشؤونها

وعنايتهم، وجزاهم الله تعالى على سعيهم أفضل الجزاء.

***

(إسلام بيت من الفرس في الهند)

كتب إلينا أحد أصدقائنا من علماء الهند الفضلاء بأن بيتًا من بيوت الفرس فيه

ستة نفر تركوا الملة الزرادشتية، وتشرفوا بالدخول في الملة الحنيفية، وقد سبقهم

إلى ذلك أهل بيت آخر من أقاربهم المثرين منذ عامين، وأن بيوتًا أخرى منهم

عازمة على الدخول في الإسلام، ومنها من أسلم ولكنه يكتم إسلامه لأسباب

دنيوية، كل هذا بدون دعوة ولا ترغيب ولا ترهيب؛ وإنما هو محض الاقتناع

بحقية الإسلام، وههنا يشدد صاحبنا النكير على علماء المسلمين لإهمالهم الدعوة

إلى الإسلام، وتربية أمة من طلاب علوم الدين على ذلك، وتعليمهم ما يُحتاج إليه

ولا نذكر ما كتبه لأننا وفينا هذا الموضوع حقه من قبل؛ ولكننا نذكر كلمة قالها

في أغنياء المسلمين المقصرين في خدمة الإسلام وهي:

(ومن أشد ما يتأسف عليه أن الأغنياء منا مع أنهم يبذلون ألوفًا، بل مئات

الألوف في استيفاء اللذات الحيوانية، والمشتهيات الشيطانية، والمغالاة في

الأعراس والوليمات، ويعطون أموالاً كثيرة للقِحاب والغانيات، لا يتحرك فيهم

عرق الحمية، والغيرة الإسلامية، إذا رأوا إنسانًا كان معززًا في قومه مرفه الحال

يُسْلِم، فيموت جوعًا، أو يضطر إلى الشحاذة رغم أنفه، فيجلب رزءًا فوق رزء،

ويجعل الدين منه عرضة التهم، هذا حال المسلمين، والمسيحيون قد يبذلون

لإشاعة دينهم في كل سنة ألوفًا وملايين، ويرسلون الوفود والدعاة إلى أقطار

الأرض من الغرب إلى الشرق، ومن القطب إلى القطب ويتحملون النفقات التي لا

تحصى والمشاق الشديدة على أنهم قلما يحصلون على طائل في ترويج بضاعتهم،

فليت المسلمين ينتبهون للقيام بهذا الواجب الأهم، والتعاون عليه بفضل قلم أو قدم،

وبذل دينار أو درهم، اتقوا النار ولو بشق تمرة و {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) .

***

(وفاة الطبيب عبد المجيد خان حاذق الملك الدهلوي)

نعت إلينا المكاتب الخصوصية من الهند وفاة هذا الطبيب النطاسي الشهير،

والعلامة الكبير، وعلمنا أن تأثير فقده كان عظيمًا في الممالك الهندية، ورث الفقيد

هذه الصناعة عن أبيه وجده، وبرز فيها على الأقران علمًا وعملاً، ولقَّبته الدولة

البريطانية بحاذق الملك، وكان صدر الجمعية الطبية في دهلي، وكان يعلم الطب

والتشريح ويعطي الطلاب الفائزين في الامتحان ما استحقوه من الإسناد، وممن

رثاه صديقنا العالم الأديب الشيخ أحمد الجيتكر رحمه الله تعالى.

***

(حيل الإفرنج وخيانتهم)

جاءني في العام الماضي رجل فرنسوي، وألح علي بالاشتراك في كتاب

(الدليل المصري) الذي يؤلفونه بالفرنسوية، فأبيت عليه أولاً لعدم حاجتي إلى الدليل

في مصر، وعدم انتفاعي بذكر إدارة المنار فيه، إذ لا غرض لي في معرفة

الإفرنج بها، فألح كثيرًا حتى أجبته فأخذ مني نصف ريال مصري سلفًا، وأعطاني

وصلاً، ثم جاءني بالكتاب بعد طبعه وأخذ نصف ريال آخر تتمة ثمنه، ثم جاءني

بعد مدة وقال إنه اختلف مع بعض المحامين في ذكر اسمه في الكتاب، ويحب أن

يستعيره مدة خمس دقائق ليطلعه على اسمه، فصدقته وأعطيته الكتاب فأخذه ومر

شهر في إثر شهر ولم تنقض الخمس الدقائق؛ لأن دقائق المحتالين لا نهاية لها،

فتعسًا لمصري يثق بهؤلاء الإفرنج ويأتمنهم.

***

(كلمة جريدة مع فضيلة شيخ الأزهر)

كتبت جريدة أسبوعية مقالة تخاطب بها شيخ الأزهر، وتنذره بأنها (تعرف

أن تُسْمِع كلامها في محلات أخرى إذا كان ثمت مشاغل عند فضيلته) وتذكر له أن

وظيفته لا تنحصر في إدارة الأزهر، بل تعطيه حق النظر العام على كل ما يخالف

الشرع من الأمور التي ابتعد عنها القانون، وعلى هذا لا بد لمشايخ الأزهر من

الاطلاع على القوانين ليعرفوا اختصاص وظيفتهم، ثم تذكر إهانة قراء القرآن

الكريم له بالتغني به والاستجداء بقراءته حتى في الطرق، وتقول في إثر ذلك

(فإغضاء فضيلتكم على عدم منع هاتيك المخازي المشوشة لوجه الدين مما تقوي

ححة خصومكم، ولا تمكن جريدة مثل هذه من الدفاع الواجب عليها بالنسبة لعالم

عظيم مثل فضيلتكم) وما كنا نعلم قبل هذا أن لشيخ الأزهر خصومًا، وأنه اتخذ

هذه الجريدة مدافعة عنه بسببهم أو يحتاج إليها لذلك؛ ولكننا علمنا أن بعض المشايخ

القضاة الشرعيين نشر فيها نبذة بتوقيع أحد تلامذته يرد فيها على مجلة انتقدت عليه

ويعظِّم نفسه حتى حلاها بلقب الإمام، وانتقص سائر علماء الأزهر الكرام.

ثم قالت الجريدة (يلزم فضيلة الأستاذ أن يعترف معنا جهارًا بأن سيرة

الأزهريين ليست مقبولة ولا ممدوحة) وذكر أن طلاب الأزهر الذين يمثلون أحكام

الشرع الإسلامي، ويكونون علماء الغد (يراهم الإنسان في الجهات المسترذلة

الممقوتة يتعاطون المسكرات، ويصبون على المسلمين بأزيائهم قبيح اللعنات) إلى

غير ذلك من الطعن الفاحش، ثم ذكرت أنه طالما دافعت عن مركز الشيخ وقالت

لكنها لا يمكنها الصبر على ما تشاهد من طلبة الأزهر وعلمائه ومستخدميه، وقد

صبرت مدة طويلة أملاً في أن فضيلتكم تأمرون بإزالة المنكرات الحائمة حول الدين

الإسلامي؛ ولكنها لما لم تجد انتباهًا انتهزت فرصة)

إلخ.

(المنار)

هذا بعض ما جاء في تلك الجريدة وقالت إنه بعض من كل، والناظر فيه

يتوهم أن حانات الخمر ومواخير الفحش أمست محشوة بعلماء الأزهر

وطلابه ومستخدميه، وحاش لله أن يكون هذا صحيحًا، نعم إن صاحب تلك

الجريدة أعلم منا بذلك؛ لأن عبارته تدل على أنه رأى بعينه، ونحن لا نعرف تلك

المواضع النجسة ولا نراها؛ ولكننا سمعنا أن شيخًا واحدًا من علماء الأزهر يختلف

إليها، وأنه مع ذلك لا يأتي فاحشة إلا بتأويل وتحليل، ومن ذلك أن يعقد نكاحه

على بعض البغايا بشهادة بعض القوَّادين، وهذا الشذوذ من رجل واحد لا يصح أن

يحمل إطلاق القول في الطعن بالعلماء، ورميهم بما رمتهم به تلك الجريدة، وأما

المجاورون فلا شك أن من لم يترب في بيته تربية إسلامية؛ فإن الأزهر لا يفيده

في التربية شيئًا، لا سيما في أول الأمر؛ لأنه ليس في الجامع إلا قراءة هذه الكتب

المعروفة في النحو والفقه وغيرهما، وليس فيه ملاحظة الأخلاق والآداب، ولا

الحمل على العمل بالعلم، ومع هذا نرى طلاب الأزهر أبعد أصناف الناس الذين

يقيمون في هذه المدينة الفاسقة عن السكر والفحش؛ ولذلك أسباب منها كثرة عنائهم

بالاشتغال لصعوبة طريقة التعليم وكثرة الدروس ومنها الفقر المدقع، وأكثر ما ينتقد

عليهم الوساخة ومهانة النفس وجفاء الطبع في الكثيرين أو الأكثرين، فإذا شذ من

هؤلاء الألوف من المجاورين نفر قليل فلا يُوجِب شذوذهم هذا التشهير، وقد

صدقت تلك الجريدة في لومها شيخ الجامع على التغاضي عن البحث عن أخلاق

الطلبة وقولها مخاطبة له: (وتزيد غرابتنا عندما نرى بعض العلماء يشاركون

الطلبة في كثير من الأمور المخلة بشرف العلم، كترددهم على بيوت الذوات،

وتملقهم البارد لكل من يظنون فيه الغنى، فهل ترى فضيلتكم أن سكوتكم عن القيام

بما يُطلب منكم دينًا وعقلاً ممدوح من الناس) .

وكنا نود أن هذه النصيحة أُرسلت إلى فضيلة الأستاذ في كتاب مخصوص،

أو ألقيت إليه شفاهًا، وإذا مر زمن ولم ير لها أثر فلصاحب الجريدة أن ينشر ذلك

من غير مبالغة ولا إغراق، وليعلم صاحب هذه الجريدة أن ذلك الأستاذ الذي كان

يطريه بالمدح أولاً، ثم صار يخوض فيه بإغراء المغرورين هو الذي لا ينفكّ

ساعيًا في حفظ كرامة أهل الأزهر، ومنعهم من كل ما يَشين؛ ولكن بعض المشايخ

يعارض الإصلاح بحجة أن هذا تحكم بالناس وسيطرة عليهم، أي أن التربية

تعارض الحرية فلا حاجة إليها.

وقد كتبنا ما كتبنا آسفين؛ ولكن لم نر مَنْدُوحة عن المُدافَعة عن هذا المكان

الشريف الذي نود أن يكون في أعلى الدرجات، وكون الطعن مبالغًا فيه لا يمنع

مولانا شيخ الجامع أن يجتهد في أن لا يجعل لأحد مجالاً للكلام، وتفويق السهام،

بل ذلك مقتضٍ للاجتهاد، والله بصير بالعباد.

***

(كلمة أخرى عن فضيلة شيخ الأزهر)

ينشر المؤيد مقالات في الناشئة الإسلامية، وكان منها مقالة للشيخ عبد المجيد

صالح العدوي من نبهاء مجاوري الأزهر، ذكر فيها خلاصة أقوال كثير من الكتاب،

وكانت في لفظها ومعناها من أحسن ما كتب في هذا الباب، وكان يظن أنه يكافأ

عليها من شيوخه بالتحبيذ؛ لأنه مما ينشِّط التلميذ؛ ولكن أخبرنا غير واحد أن

مولانا شيخ الجامع أمر بإحضاره، فجاء والشيخ في ملأ من الشيوخ فأمره بأن يقرأ

المقالة فقرأها، وطفق الشيخ بنفسه يناقشه فيها، وأول ما أنكره عليه وصفه الأمة

الإسلامية بالتأخر والانحطاط أي بالنسبة إلى ما كانت عليه وما عليه الأمم الأوربية

الآن، وقالوا إن مولانا الشيخ احتج على تفنيده بقوله: كيف يكون الإسلام متأخرًا

وهؤلاء المؤذّنون يؤذنون على المنارات جهرًا ولا يرميهم أحد بالحجارة، وها نحن

نصلي ونصوم ولا يعارضنا أحد، وإذا صح هذا القول فلا بد لنا أن نحمله على

قصد الاختبار ليعلم هل يستطيع ذلك المجاور أن يبين حقيقة ضعف الأمة الإسلامية،

وهذا هو اللائق بمقام الأستاذ ومنصبه.

قالوا: وأنكر عليه أيضًا الكلام في السياسة، ونقول: إنه لم يذكر في السياسة

شيئًا ينتقد إلا مسألة عقد المؤتمر الإسلامي في الآستانة الذي أكثر الكلام فيه بعض

الكتاب عن غير بصيرة، وأما حثه دولة مراكش على الاستعانة بالدولة العلية على

تحسين شؤونها، وإصلاح أحوالها، فلا نخال الأستاذ ينكره، وكنا كتبنا هذا الرأي

في بعض أعداد السنة الأولى من المنار فصادف استحسانًا، إلا أن بعض كبار

الموظفين من الأتراك كتب إلينا من أزمير بأننا غششنا حكومة مراكش بذلك، ولا

نخال الأستاذ على هذا الرأي، وقالوا إنه أنكر غير ذلك ما لا حاجة إلى ذكره

وتأويله، وقالوا إنه أمر بقطع جراية الشيخ عبد المجيد، ثم لم يرض بردها إليه إلا

بعد أن أخذ العهد عليه كتابة بأن لا يعود إلى مثل هذه الكتابة في الجرائد، وغاية

هذا التضييق أن لا يخرج من الأزهر من يحسن الكتابة والإنشاء ولا يستقيم مع هذا

تأويل.

_________

ص: 509

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورة العاشرة بين المصلح والمقلد

الأخذ بالدليل، ونهي الأئمة عن التقليد

هذا آخر مجلس حضره المقلد الثاني أو المناظر الثالث مع المصلح والمقلد

وهو الذي بدأ بالسؤال فقال:

الثالث: قلت إن وقتي قصير هنا وإنني مسافر غدًا أو بعد غد، وأحب أن

أبدي بقية ما عندي من الدلائل على جواز التقليد، بل وجوبه على العاجز عن

الاجتهاد، وأحب أن أعرف بعد ذلك ما يدور بينكما من المباحث، وأن أقف على

رأي حضرة الفاضل - وأشار إلى المصلح - في الوحدة الإسلامية فيما عدا العبادات

من أحكام الشرع، وأرى أن من أقوى الأدلة على التقليد في العبادات قول العلماء من

أهل الصدر الأول أن العامي لا مذهب له؛ وإنما مذهبه مذهب مفتيه وفتوى المفتي في

حقه بمنزلة الدليل، وأما قولك السابق في الجواب عن عوام أهل الصدر الأول إنهم

كانوا يأخذون بقول المفتي من باب الرواية؛ لأنهم كانوا يسألون عن حكم الله تعالى

فيجابون إما بالكتاب وإما بالسنة، فيعملون بذلك وهو غير تقليد - فهو غير مسلَّم

لوجهين: (أحدهما) أن المجيب إذا ذكر الآية أو الحديث في الجواب فإن السائل لا

يفهم إلا إذا كان عربي الأصل، ولم يكن كل مسلم كذلك، و (ثانيهما) : أن المجيب

إذا لم يجد في المسألة آية ولا حديثًا فلا مندوحة له عن القياس، وهو رأي، وعمل

المستفتي به تقليد.

المصلح: ثبت عن الأئمة المجتهدين القول بمنع الفتوى بغير دليل، وقد

علمت أنني لا أسمي من يأخذ الحكم بدليله مقلدًا؛ وإنما أسميه راويًا أو متعلمًا أو

مسترشدًا، وليس هذا بممنوع ولا يُعَدُّ صاحبه مقصرًا في فهم دينه والبصيرة فيه،

بل تركه هو التقصير؛ إذ المرء لا يولد عالمًا وقد ورد: (العلم بالتعلم والحلم

بالتحلم) ولا فرق في هذا بين أن يسمع الآية أو الحديث فيفهم المعنى بنفسه، وبين

أن يستعين على الفهم بالراوي أو غيره فكله من الاجتهاد في فهم الدين والبصيرة

المطلوبة فيه، وأما القياس فقد علمت أنني أمنعه في العبادات المحضة ولا تستطيع أن

تثبت لي أن أحد الأئمة المجتهدين حمل الناس على الأخذ بقول له مبني على قياس في

العبادات المحضة من غير أن يفهموا ذلك القياس ويقتنعوا به، على أن المجتهد يخطئ

كما هو معلوم من الاختلاف، ولمتبع الدليل أن يَرُدَّ بعض ما نقل عن المجتهدين إذا

قام الدليل على بطلان ذلك؛ لأنه مجتهد مثل الذي رد قوله، بل نقل عن العلماء

المنتسبين للمذاهب أنهم خالفوا أئمتهم في بعض المسائل؛ لأن الدليل قام عندهم على

خطأهم أو ضعف دليلهم، وعلماء الشافعية أكثر العلماء استدراكًا على إمامهم لعلمهم

بأنه كان يأمر باتباع الدليل؛ ولأنهم أعلم المسلمين بالكتاب والسنة.

قال العلامة البغوي الشافعي في فاتحة شرح السنة: وإني في أكثر ما أوردته

بل في عامته متبع إلا القليل الذي لاح لي بنوع من الدليل في تأويل كلام محتمل

أو إيضاح مشكل أو ترجيح قول على آخر. وهذا يدل على أنه ما سلم فيما اتَّبَع فيه

إلا لرضاه بدليله، وقال في (باب المرأة لا تخرج إلا مع محرم) : وهذا الحديث

يدل على أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلاً ذا محرم يخرج معها وهو قول

النخعي والحسن البصري وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وذهب

قوم إلى أنه يلزمها الخروج مع جماعة النساء وهو قول مالك والشافعي، والأول أولى

بظاهر الحديث.

واستدرك البيهقي وهو شافعي على إمامه في لبس المعصفر إذ صح عنده حديث

ابن عمر فيه.

واستدرك الغزالي على إمامه الشافعي في مسألة الماء إذا كان دون القُلّتين ووقع

فيه نجاسة لم تغيره، وأطال في الإحياء القول في ترجيح عدم النجاسة والميل إلى

موافقة مالك مع أنه يلتزم في أحكام الإحياء مذهب الشافعي.

ورجح النووي جواز بيع المعاطاة، وكون نجاسة الخنزير كسائر النجاسات لا

يجب غسلها سبع مرات إحداهن بالتراب.

ومن طالع الكشَّاف يرى الزمخشري يخالف مذهبه الحنفي في مسائل اتباعًا

لما فهمه من القرآن منها مسألة الصعيد الذي يتيمم فيمسح منه. مذهب أبي حنيفة

أنه وجه الأرض وإن صخرًا. قال الزمخشري: فإن قلتَ: فما تصنع بقوله تعالى في

سورة المائدة: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (النساء: 43) أي بعضه، وهذا

لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلتُ: قالوا: إن (من) لابتداء الغاية،

فإن قلتَ: قولهم: إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم من قول العرب: مسحت

برأسي من الدهن أو من التراب أو من الماء، إلا معنى التبعيض، قلتُ: هو كما

تقول والإذعان للحق أحق من المراء.

ومثل هذه المخالفات والاستدراكات كثير عن أكابر العلماء ولو جرى جميعهم

على هذه الطريقة القويمة لتحررت المذاهب وزال الخلاف الضار وتحققت الوحدة

الإسلامية؛ ولكن الآراء والأهواء لا يمكن أن تتفق بنفسها فلا بد من الوازع،

والوازع في مثل هذا المقام هو خليفة المسلمين؛ ولكن الخلافة ضعفت في آخر

زمن الراشدين وزالت بزوالهم، بل صارت ملكًا عضوضًا كما ورد في الحديث

فأصبحت علوم الدين في فوضوية أدت إلى هذا الهلاك والبوار الذي نشكو منه،

ولا يتأتى للخليفة أن يجمع الكلمة ويزيل الخلاف إذا كان إمامًا مجتهدًا، ولنقف عند

هذا الحد فقد جمح اللسان حتى كدنا نخرج عن المقصود.

الثالث: نُقل عن الإمام أبي يوسف أنه ليس للعامي العمل بالحديث، بل عليه

الاقتداء بالفقهاء، وأنت تقول: إن أبا يوسف مجتهد مطلق، نعم إنهم قالوا: إنه أراد

الجاهل الصرف الذي لا يفهم معنى النصوص ولا يعرف الناسخ والمنسوخ وغير

ذلك، ولا أحتج بهذا على أصل التقليد فقد علمت أنك لا تأخذ فيه ولا بقول المجتهد

وإنما أعارض قولك: إن المأثور عن الأئمة هو النهي عن اتباعهم وترك الأخذ

بالكتاب والسنة، وقد علمنا عنك أنك تلوم علماء العصر لأخذهم بالتقليد والتزام كل

طائفة منهم إمامًا واحدًا وتقول: إنهم اتبعوا في هذا الصنيع أقوال المقلدين من الفقهاء

وأنهم لو اتبعوا الأئمة لعذرتهم، وقد بيَّنت لك الآن أنهم اتبعوا في ذلك إمامًا مجتهدًا.

المصلح: المعروف عن العلماء المتقدمين أن الناس صنفان: علماء باحثون

ويجب عليهم اتباع الدليل، وعوامّ لا يفقهون ويجب عليهم اتباع الفقهاء من غير

التزام واحد بعينه، وهذا هو معنى قولهم: مذهب العامّيّ مذهب مفتيه، والمشهور

عنهم أنه لا يجب عليه التزام مفتٍ واحد، بل يسأل من يعنُّ له، وقالوا إنه يعمل

بظاهر الحديث والقرآن بالأولى، ولم ينقل عن الأئمة خلاف في هذا إلا عن أبي

يوسف من أئمتكم.

جاء في مبحث صوم المحتجم من كتاب الهداية: ولو احتجم فظن أن ذلك

يفطر ثم أكل متعمدًا، عليه القضاء والكفارة لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي إلا

إذا أفتاه فقيه بالفساد؛ لأن الفتوى دليل شرعي في حقه. ولو بلغه الحديث واعتمده

فكذلك عند محمد، بل وأبي حنيفة؛ لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا

ينزل عن قول المفتي، وفي الكافي والحميدي: ولا يكون أدنى درجة من قول المفتي

وقول المفتي يصلح دليلاً، فقول الرسول أولى وقول أبي يوسف خلاف ذلك،

وقد أجابوا عن أبي يوسف بأنه أراد العامي الصرف الجاهل الذي لا يفهم معنى

الحديث كما في الكافي والحميدي، أي كعامة الفلاحين في زماننا إذا سمع الحديث

من الناس ولم يسمع تفسيره، وأما الأئمة الأربعة فقد نُقل عن كل واحد منهم الأمر

بتقديم الحديث على قوله، وما أهان الكتاب والسنة إلا بعض المتفقهة المتأخرين

حتى تجرأ بعض من يسمون اليوم علماء على القول بأن من يقول: اعمل بكتاب الله

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو زنديق! وما الزنديق إلا من يختار على كلام

الله ورسوله كلام غيرهما بعد أن يعرفهما.

المقلد: كنت اقترحت عليك في المجلس الماضي أن تبين رأيك في الوحدة

الإسلامية في المعاملات والأحكام الدنيوية، ثم نعود إلى المناقشة في الاجتهاد

والتقليد، وذكر ما عندنا وما عندك في ذلك. والآن أوافق صديقي في مطالبتك

بنصوص الأئمة في النهي عن التقليد لعلنا نسلم لك بعد ذلك ما تقول تسليمًا.

المصلح: إنني أستحضر الآن بعض هذه النصوص ويسهل عليَّ أن

أستقصيها بالمراجعة في الكتب إن شئتم.

المقلد والثالث معًا: اذكر لنا ما تستحضره الآن فلعل فيه غناء.

المصلح: أما أبو حنيفة فقد نُقل عنه أنه كان يقول: (لا ينبغي لمن لم يعرف

دليلي أن يفتي بكلامي) وممن نقل عنه هذا العلامة ولي الله الدهلوي المتوفى سنة

800 في (عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد) والشعراني في (اليواقيت

والميزان) .

وقال الفقيه أبو الليث السمرقندي: حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة

أنه قال: (لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا) وروى عن عاصم

ابن يوسف أنه قيل له: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة، فقال: إن أبا حنيفة قد أوتي

ما لم نؤت فأدرك فهمه ما لم ندركه ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا ولا يسعنا أن

نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال. وروي عن عصام بن يوسف أنه قال: كنت في

مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة زفر بن الهذيل وأبو يوسف وعافية ابن

يزيد وآخر، فكلهم أجمعوا على أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين

قلناه اهـ. وقد أورد هذا الشيخ صالح بن محمد العمري المحدث الشهير بالفلاني

أستاذ الشيخ محمد عابد السندي المحدث الشهير، وقال: إن هؤلاء الأئمة لا يبيحون

لغيرهم أن يقلدوهم فيما يقولون بغير أن يعلموا دليل قولهم، وهذا الذي ذكره أبو الليث

نقل في خزانة الروايات مثله عن السراجية وغيرها اهـ.

وفي روضة العلماء الرندويسية في فضل الصحابة قيل لأبي حنيفة: إذا قلت

قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر الرسول

صلى الله عليه وسلم يخالفه، فقال: اتركوا قولي لقول رسول الله صلى الله عليه

وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال: اتركوا قولي لقول الصحابة.

وقال ابن الشحنة في نهاية النهاية: وإن كان - أي ترك الإمام الحديث -

لضعف في طريقه، فينظر إن كان له طريق غير الطريق الذي ضعفه به، فينبغي

أن تعتبر فإن صح عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًّا

بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال:(إذا صح الحديث فهو مذهبي) .

ونقل الشعراني عنه أنه كان يقول إذا أفتى بقول: هذا رأي النعمان بن ثابت-

يعني نفسه - وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب.

هذا ما كان يقوله هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى ولم يبحث ويستنبط

ليصرف المسلمين عن الكتاب والسنة إلى أقواله؛ وإنما بحث واستنبط ليعلمهم

طرق الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة، فهل يصح لمدعي اتباعه أن يحظر

النظر في الكتاب والسنة لأجل العمل بهما اتباعًا لبعض المقلدين المتأخرين كابن

عابدين وأضرابه، وهل يكون بهذا مهتديًا بهدي أبي حنيفة ومتبعًا له؟ نعم إن

هؤلاء المتأخرين نقلوا عن أمثالهم أن العمل بالفقه لا بالحديث {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ

الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} (النجم: 23) ومن البلاء

أن لا يقتنع المسلم بأنه يجوز له أو يجب عليه العمل بكتاب الله وسنة رسوله، إذا

هو فهمهما، وأنه يجب عليه أن يفهم ما يفترض عليه فهمه منهما إلا إذا جئناه بنقل

عن العلماء بأن ذلك جائز أو واجب.

ويعجبني قول الظهيرية من كتبكم في الرد على من يقول إن العمل بالفقه لا

بالحديث فقد بينت فساد هذا القول، وما أُوِّل به من كونه مخصوصًا بالعوام الذين

هم كالهوام لا يميزون بين صحيحه وضعيفه وموضوعه ونسبته إلى سوء الأدب

ووسمته بالشناعة والبشاعة وقالت: (إنه لا يصدر عن عاقل، فضلاً عن فاضل،

ولو قيل بالتوجيه الذي ذكرناه أن العمل بالفقه لا على الحديث لقال قائل بعين ذلك

التوجيه أن العمل على الفقه لا على الكتاب؛ فإن العامي لا يفهم شيئًا من الكتاب

ولا يميز بين محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ومفسره ومجمله، وعامه

وخاصه وغير ذلك من أقسامه فصح أن يقال: إن العمل على الفقه لا على الكتاب

والحديث وفساده أظهر من أن يُظهر، وشناعته أجلى من أن تُستر، بل لا يليق

بحال المسلم المميز أن يصدر عنه أمثال هذه الكلمات على ما لا يخفى على ذوي

الفطانة والدراية، وإذا تحققت ما تلوناه عليك عرفت أنه إن لم يكن نص من الإمام

على المرام [1] لكان من المتعين على أتباعه من العلماء الكرام، فضلاً عن العوام،

أن يعملوا بما صح عن سيد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ومن

أنصف ولم يتعسف، عرف أن هذا سبيل أهل التدين من السلف والخلف، ومن

عدل عن ذلك، فهو هالك، يوصف بالجاهل المعاند المكابر، ولو كان عند الناس

من الأكابر) اهـ.

وقال ملا علي القارئ في رسالته في إشارة المسبحة: وقد أغرب الكيداني

حيث قال: (العاشر من المحرمات الإشارة بالسبابة كأهل الحديث) أي جماعة

يجمعهم العلم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا منه خطأ عظيم، وجرم

جسيم، منشأه الجهل بقواعد الأصول، ومراتب الفروع من المنقول، ولولا حسن

الظن به، وتأويل كلام سببه، لكان كفره صريحًا، وارتداده صحيحًا، فهل لمؤمن

أن يحرِّم ما ثبت فعله عنه صلى الله عليه وسلم مما كاد نقله أن يكون متواترًا،

ويمنع جواز ما عليه عامة العلماء كابرًا عن كابر مكابرًا، والحال أن الإمام الأعظم

والهمام الأقدم قال: (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم مأخذه من الكتاب

والسنة وإجماع الأمة والقياس الجلي في المسألة، فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لو لم

يكن نص للإمام على المرام) وساق ما تقدم آنفًا على سبيل التضمين فلا نعيده.

الثالث: حسبي هذا فقد اقتنعت بأن من صح عنده حديث يجب عليه أن يعمل

به وإن خالف المذهب؛ ولكن يحتمل أن يكون الحديث منسوخًا.

المصلح: هذا الاحتمال لا تأثير له، فمعرفة الأحاديث المنسوخة أيسر من

معرفة الأقوال التي رجع عنها الإمام؛ لأنها أقل والعناية ببيانها كانت أكثر كما أن

معرفة الرواية الصحيحة من غيرها في الحديث أسهل منها في أقوال الإمام، ولو

صح أن يكون الاحتمال مانعًا لما كان لنا أن نعمل إلا بالمتواتر المجمع عليه،

والصواب ما قلناه سابقًا من أن هذا هو الذي لا مندوحة عن العمل به وهو ضابط

الوحدة الإسلامية في الدين والأمر في غيره سهل، والاحتياط الأخذ بما صح في

السنة، ثم انصرفوا على موعد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

يريد أنه لو لم يأمر الإمام بترك قوله للحديث لوجب تركه، فيكف وقد أمر.

ص: 521

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين على الإسلام

وحجج الإسلام على المسيحيين

النبذة السادسة

لو أراد الإنسان أن يناقش هؤلاء المسيحيين الذين يؤلفون الكتب في دعوة

المسلمين إلى النصرانية، ويحكم العلم في مصنفاتهم، فيرد على كل خطأ يجب رده

لاحتاج أن يكتب على كل صحيفة من صحائفهم السوداء كتابًا مستقلاًّ؛ لأنهم يرمون

الكلام على عَوَاهنه فيخطئون من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون، ويتعمدون

الإيهام والتغرير لأنهم يكتبون للعامة الذين لا يدققون.

يقول صاحب كتاب (أبحاث) الجدليين لا (المجتهدين) في الفصل الأول

من البحث الأول إنه يثبت صحة التوراة والإنجيل (بالحجة الدامغة والبرهان

المنطقي) ثم يورد الآيات القرآنية وهي عنده جدلية لا منطقية ويحرفها عن معناها

كما حرَّف هو وسلفه التوراة والإنجيل، وقد بيَّنا من قبل معنى التوراة والإنجيل

وإثبات القرآن لهما، وكون هذا الإثبات لا ينافي إرسال نبي آخر بشريعة جديدة

أكمل منها، وبيَّنا أيضًا وجه كون الديانة الإسلامية أصلح لحال البشر وأهدى

لسعادتهم، بل وبيَّنا كيف أبطل بولس شريعة التوراة والإنجيل وجعل المسيحية

إباحية لا قيمة فيها للعمل الصالح؛ وإنما العمدة فيها على الإيمان بأن المسيح جاء

ليخلص العالم.

فكيف جاز عند محبينا من دعاة المسيحيين أن يبطل هذا الرجل اليهودي

بذلاقة لسانه وخلابته شريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ولا يجوز في

نظرهم أن يرسل الله محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام بالبراهين العقلية فيصدق

المرسلين، ويقضي على المارقين، ويؤنب المحرِّفين، ويبين الحق في اختلاف

المختلفين، ويخاطب اليهود والمسيحيين، بمثل ما خاطب عيسى الكتبة والفريسيين

بأنهم لم يقيموا الكتاب، بل أخذوا بالقشر وتركوا اللباب، وأنهم لو أقاموه لما ساءت

حالهم، ولما وجب خزيهم ونكالهم؛ ولكن اليهود والنصارى كانوا في زمن البعثة

في أشد الخزي والنكال، وعند آخر طرف من الغواية والضلال؛ ولذلك تقلص

بشمس الإسلام ظل سلطانهم بعد حين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .

أورد صاحب الأبحاث سبع آيات من القرآن المجيد، وقال إن الآية الأولى

تفيد أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس، نعم وقد اهتدى بهما من قبل

أقوام فسعدوا، ثم حرَّفوا وفسقوا، وانحرفوا فشقوا، حتى جاء الإسلام بالهداية

الكبرى، والحجة العظمى، فاهتدى به بعضهم فسعدوا وسادوا على الآخرين،

وكانوا مع أهله الأعلين ما كانوا به مهتدين.

وقال إن الآية الثانية وهي: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا

التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: 68) تبين صحتهما، وهو كذلك ولكن للآية تتمة لم

يذكرها المصنف؛ لأنه غير منصف وهي قوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (المائدة: 68) فكأنه يأمرنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض كما فعل هو ومن

على شاكلته بالتوراة، والمراد بما أُنزل إليهم من ربهم القرآن؛ فإنه لم ينزل بعد

التوراة والإنجيل غيره، فالله تعالى يأمر أهل الكتاب بأن يكونوا مسلمين يؤمنون

بالكتب كلها، ويبين أن تعللهم واحتجاجهم على عدم اتِّباع القرآن بأنهم أصحاب

كتاب سماوي لا حاجة لهم بغيره احتجاج باطل وتعلل كاذب؛ لأنهم لم يقيموا

التوراة والإنجيل وأوضح هذا بالآيات الأخرى الناطقة بأنهم حرَّفوا، وبأنهم نسوا

حظًّا مما ذُكِّروا به، وأنهم لو أقاموهما لما حل بهم الخزي والنكال {وَلَوْ أَنَّهُمْ

أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة: 66) وكذلك وقع لإخوانهم الذين أسلموا فقد فازوا ببركات السماء

والأرض، وتتمة الآية التي نحن بصددها {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن

رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} (المائدة: 68) وهذه الحجة

قائمة عليهم إلى يوم القيامة؛ فإن هؤلاء الدعاة يخدعون عوام المسلمين بوجوب

اتِّباع التوراة ويوهمونهم أنهم متبعون لها، ويقول صاحب الأبحاث أن محمدًا يطلب

إقامة حدودها، ولا يوجد في الدنيا نصراني يقيم حدًّا من حدود التوراة أو يعمل

بأحكامها في العبادات والمعاملات، فما لهم يشفقون على المسلمين وينصحون لهم

بإقامة هذه الحدود ولا ينصحون لأنفسهم ولا يشفقون عليها؟

وقال: والثالثة تبين أن الإنجيل مُنَزَّل من عند الله، وأن محمدًا راضخ

لأحكامه، والآية الثالثة هي قوله تعالى:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (المائدة: 47) وليس فيها إخبار بأن محمدًا عليه الصلاة والسلام راضخ

لأحكامه؛ ولكن هؤلاء الناس يستبيحون أن يُحَمِّلوا الآيات ما لا تحمله لتأييد أهوائهم،

وبذلك أفسدوا كتبهم وجاءوا يفسدون علينا كتابنا؛ ولكن الله حفظه من التحريف

والتبديل، في الآية قراءتان إحداهما بكسر لام (وليحكم) وهي متعلقة بقوله تعالى

قبلها: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} (المائدة: 46) أي أعطينا عيسى الإنجيل ليحكم أهله

فيه، وأهله هم بنو إسرائيل لأن القرآن أخبرنا بأنه أرسل إلى بني إسرائيل فعرف

أنهم أهله، وكذلك الإنجيل الذي عندهم الآن يقول إن المسيح قال: (لم أبعث إلا

إلى خراف إسرائيل الضالة) .

والقراءة الثانية بسكون اللام، وهي حكاية للأمر السابق عند الإتيان، أي

آتيناه الإنجيل وأمرنا من أرسل إليهم بالعمل به، ويحتمل اللفظ أن يكون أمرًا مبتدأ

ورد على سبيل الاحتجاج على النصارى بعدم العمل بالإنجيل المُصَدِّق للتوارة

والمقتضي للعمل بها على ما تقدم بيانه آنفًا، وإذا جاز لدعاة المسيحيين اليوم أن

يحتجوا على المسلمين بأن القرآن يأمرهم بالإيمان والعمل بالتوراة والإنجيل ولا

يرون هذا الاحتجاج مقتضيًا لإيمانهم بالقرآن، فكيف يدعون أن أمر محمد صلى الله

عليه وسلم لهم بالحكم بالإنجيل يستلزم أن يكون هو راضخًا لأحكامه.

يتصل الكلام

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 536

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تهاني العلماء والأدباء

لفضيلة مفتي الديار المصرية

رُفع إلى الأستاذ قصائد كثيرة جدًّا تهنئه بقدومه من مصيفه في الآستانة

وأوربا، ورغب إلينا كثيرون ممن نعرفهم من ناظميها أن ننشر قصائدهم وليس

نشر المدائح من شأن المنار؛ ولكننا نشير إلى بعض القصائد ببعض أبيات منها

لاعتبارات لنا فيها، ونبدأ بهذه الأبيات التي نظمها الأديب الفاضل الشيخ مصطفى

لطفي المنفلوطي الأزهري الشاعر المجيد وهي:

سار يباري النجم في جده

وعاد كالسيف إلى غمده

رأى السرى والسهد مهر العلى

فجد وارتاح إلى سهده

لا يبصر الخطب جليلاً ولا

تلوي به الأهوال عن قصده

مسَدَّد العزم إذا ما مضى

يحار صرف الدهر في ردّه

كالسيف يجلوه القراع ولا

يأخذ ضرب الهام من حدّه

من لا يرى المجد سبيلاً له

لا يأسف المجد على فقده

فضجعة الراقد في بيته

كضجعة الميت في لحده

كان لمصر بعد توديعه

صبابة الصادي إلى ورده

واليوم قد عاد لها كل ما

ترجو من النعمة في عوده

وافتر عنه ثغرها مثلما

يفترُّ ثغر الروض عن ورده

بدا وقد حفت به هيبة

كأنما (عثمان) في برده

ما فيه من عيب سوى أنه

يحسده الناس على مجده

ما حيلة الحساد في نعمة

أسبغها الله على (عبده)

ومن قصيدة للأستاذ الشيخ سيد علي المرصفي مدرس الأدب في الأزهر:

هذا هو العلم لا علم بمحفظة

محدودة من جلود الشاء والغنم

جوفاء معتلة في جوفها ورم

تشكو لخالقها من علة الورم

ومن قصيدة الفاضل الشيخ مصطفى حسين مشيط المنفلوطي الأزهري:

إن الزمان إذا اعتدى بصروفه

لم يبق حبلاً في الهوى موصولا

كم ذا يروّعني بكل ملمة

لا تترك الصبر الجميل جميلا

لولا اعتصامي بالإمام (محمد)

كهف الورى لم أبلغ المأمولا

ومنها:

شيدتَ أركان الشريعة بعد ما

لعبت بها أيدي البلاء طويلا

وشَهَرتَ للدين الحنيفي سيفه

بيد الثبات وكان قبلُ كليلا

ومن قصيدة للشاب اللوذعي مصطفى صادق أفندي الرافعي الكاتب بمحكمة

شبين الكوم:

والصبح ميمون الطليعة قادم

مثل الإمام بطلعة زهراء

يجلو الظلام كما تجلَّى هديه

فأضاء كل سريرة ظلماء

تزهو السماء بشمسها و (محمد)

في الأرض شمس الملة السمحاء

_________

ص: 540

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(الصارم المنكي في الرد على السبكي)

عرف قراء المنار مما كُتب في آخر الجزء الثامن أنه ينسب للقاضي تقي

الدين السبكي رسالة في الرد على شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وأصل الخلاف

بينهما في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، فابن تيمية أخذ بظاهر

الحديث الصحيح (لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد

الحرام، والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من عدة طرق، وذهب

السبكي إلى خلاف ذلك محتجًّا بأشياء كثيرة بيَّنها في رسالة مخصوصة، وأما زيارة

القبور فليس في أصل استحبابها خلاف بين ابن تيمية والسبكي؛ ولكن الأول ينكر

كل بدعة فيها، وكل ما لا تشهد له السنة الصحيحة، والسبكي يبيح بعض ذلك

ولولا ترويج مثله من العلماء المقربين من السلاطين والحكام للمحدثات التي تفشو

بين العوام لما ثبتت بدعة بين المسلمين.

والذي ينظر في كتاب السبكي ينخدع لكثير من أقواله وما يورده من الأحاديث

والأخبار، إلا إذا كان من حفاظ الحديث ورجال النقد الصحيح وقليل ما هم لا سيما

في هذا الزمان، ففي الكتاب كما قلنا من قبل كثير من الأحاديث الموضوعة

والواهية والمنكرة، وإن ترك زيارة القبور بالمرة أهون من الكذب على رسول الله

صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى لا يعذب على ترك الزيارة إذ لم يقل أحد

بوجوبها؛ ولكن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر لما ثبت في

الحديث الصحيح، بل المتواتر (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وفي

رواية بحذف لفظ (متعمدًا) ولا يخفى أن الجهل ليس بعذر، إذ لا يصح لأحد أن

ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام شيئًا إلا إذا كان عالمًا أو ظانًّا أنه قاله،

وليس من العلم ولا من الظن أن يراه في كتاب إلا كتب المحدثين الذين يبينون

الصحيح من غيره.

فمن قرأ كتاب السبكي أو رسالته فهو على خطر عظيم، بل على أخطار

متعددة: خطر الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وخطر

الغرور في الدين، وخطر الجراءة على المعاصي، وخطر الزيادة في الدين وغير

ذلك، وليس له في إزاء ذلك أدنى فائدة؛ لأننا إذا فرضنا أن شد الرحال إلى غير

المساجد الثلاثة لغرض ديني - إذ الأغراض الدنيوية المباحة غير مرادة هنا -

مباح فأي حرج على من تركه احتياطًا للخلاف فيه، وعملاً بظاهر الحديث المتفق

على صحته.

ومن أحب أن يطَّلع على جميع ما في كتاب السبكي من الأدلة والحجج مع

الأمن من الخطر فليطالع كتاب الصارم المنكي الذي ألفه العلامة المحقق أبو عبد

الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي، وطُبع في هذه الأيام بالمطبعة

الخيرية؛ فإنه يورد جميع حجج السبكي والأحاديث التي استدل بها سواء كان

المدلول مسلَّمًا عنده وعند ابن تيمية أم غير مسلَّم، ويحكم فيها النقد الصحيح،

ويذكر نقول الحفاظ والمحدثين في أسانيدها التي اغتر بها السبكي؛ لأنه لم يكن من

الحفاظ وإنما كان فقيهًا مشغولاً بالقضاء، ولعلنا نقتبس بعضها عند الكلام في

مواضيعها، وصفحات الكتاب 339، وثمنه خمسة غروش أميرية، وهو يباع في

مكتبة الخشاب بمصر.

***

(حقوق الملل، ومعاهدات الدول)

ولع الناس بقراءة صحف الأخبار ومعرفة السياسة من الجرائد؛ ولكن هذه

الجرائد في بلادنا الشرقية، بل وأكثر جرائد أوربا لا تتكلم في علم السياسة وأصوله

وأحكامه العامة إلا نادرًا، وإنما تذكر المسائل الجزئية التي تقع بين الدول وفي

الحكومات، ومن لا يعرف الأصول والأحكام العامة في العلم فقلما يفهم الجزئيات

فهمًا صحيحًا ويعرف الخطأ والصواب فيها، لهذا كان قراء العربية في حاجة إلى

كتب في علم السياسة وما عندهم إلا قليل منها.

وقد عُني الأمير أمين أرسلان القنصل الجنرال للدولة العلية في مدينة

بروكسل بوضع كتاب جامع في ذلك سماه حقوق الملل.. إلخ، جعله أربعة أقسام

ورأى بمناسبة حرب إنكلترا والترانسفال أن يبدأ بنشر القسم الرابع منه وهو في

الحرب، فطبعه في مطبعة الهلال طبعًا كطبع مجلة الهلال الشهيرة، وقسَّم مباحثه

إلى أربعة أقسام يشتمل كل منها على عدة فصول، القسم الأول في المنازعات

والاختلافات وطرق حلها، والثاني في مشروعية الحرب وحكمها في العمران

وتقسيمها، والثالث الحرب البرية وطرقها وأحكامها، والرابع الحرب البحرية وما

يتعلق بها، وصفحات الكتاب 127، وثمنه خمسة غروش، ويُطلب من مكتبة

الهلال بمصر.

***

(الكوخ الهندي)

قصة فلسفية وجيزة مفيدة للكاتب الفرنسوي الشهير برناردين دي سان بيير

موضوعها البحث عن الحقيقة والطريق إليها، وفيها كلام عن البراهمة وغرور

كهنتهم في دينهم وزعمهم أن الحقيقة لا توجد إلا عندهم، ولا تقال إلا لهم،

ونتيجتها أن التقاليد والديانات والمدنية وعلومها وأعمالها حجاب بين الإنسان وبين

الحقيقة والفضيلة والعيشة الراضية، وأن أقرب الناس من الحقيقة والسعادة من

يعيش عيشة بسيطة فطرية بعيدًا عن شغب الناس وغرورهم بتقاليدهم ومدنيتهم،

كذلك الهندي الطريد المقيم في كوخ بعيد عن العمران، وقد عرَّب هذه القصة منشئ

مجلة الجامعة الغراء، وطبعها وأهداها إلى قراء مجلته، وصفحاتها 78 من الحجم

الصغير، وكم من صغير فيه نفع كبير.

***

(الدنيا في باريس)

صدرت الرسالة الثانية عشرة وهي الأخيرة من هذه الرسائل التي كتبها

صاحب الصيت الطائر بمؤلفاته ومعرباته عزتلو أحمد بك زكي كاتب السر الثاني

لمجلس النظار بمصر، وهذه الرسالة تصف معروضات الأمة الألمانية وتقدمها على

جميع الأمم، وهي أنفع الرسائل، وسنقتبس بعض فوائدها في جزء آخر، ونشكر

لإدارة طبيب العائلة سعيها بطبع هذه الرسائل، ونرجو لها ما ترجوه من النجاح

والنفع بها.

***

المناظر وكتاب (إعجاز المسيح)

هذا الكتاب مسجع من أوله إلى آخره، وفي سجعه التكلف والضعف، وفي

كلامه ركاكة العجمة، وفي مفرداته وتراكيبه الغلط والخطأ، ومع هذا كله تقول

جريدة المناظر الغراء أنه (تقليد للقرآن في نسقه وعبارته) وهذا خطأ ما كنا ننتظر

أن يصدر من صاحب تلك الجريدة البارع، فأين السجع في القرآن؟ وأين عبارة

القرآن العالية ونسقه البديع من تلك الركاكة والعسلطة في كتاب إعجاز المسيح؟

***

(مستقبل فرنسا أو مستقبل العالم)

يهتم الفرنسويون بالبحث في مستقبلهم استنباطًا من أحوال الناشئين وتربيتهم،

وقد اقترحت مجلة المجلات الفرنسوية على الباحثين أن يكتبوا إليها آراءهم في ذلك

فأجاب المسيو دوسوليه بلسان لجنة المدارس الديمقراطية بقوله: (نحن جمهوريون

لأن الجمهورية على ما قال ميشله هي الحق والصواب، ونحن غير متدينين؛ لأن

كل الديانات تستعبد الإنسان، ونحن نريد أن يكون حرًّا يفتكر كما يريد، والدين

يحصر الفكر في سجن مظلم) وأجاب بعض أحزاب الدين بوجوب سقوط

الجمهورية، وقد نشرت هذه المجلة أربعة أجوبة في هذين المعنيين، وقالت إنها لم

تزد الموضوع إلا إشكالاً وغموضًا.

وقد نشرت جريدة المناظر الغراء قولها وعقبته بهذه الجملة (إن حالة الأفكار

الحاضرة تدلك على شيء مما سيكون مستقبلها، إن الأفكار مضطربة الآن في كل

العالم ومتضاربة ولكن لا بد لها من قرار يتغلب عنده الأحق الأقوى، فإذا انقضى

عشر سنوات يُعرف مستقبل فرنسا بالنظر إلى أفكار الشبيبة فيها، ويُعرف بالتالي

مستقبل العالم) اهـ، وهذه الجملة معقولة إلا أن التحديد بعشر سنين لا وجه له ولا

دليل عليه.

وذكرت مجلة الجامعة الغراء أن في العالم الآن حركتين شديدتين إحداهما

مناقضة للأخرى (الأولى) : قيام المسلمين مطالبين بالنهوض والترقي من قِبَل

الدين، و (الثانية) : قيام المسيحيين في الممالك الكثيرة على رجال الدين لحصر

سلطتهم في معابدهم، وقطع الصلة بينهم وبين الأمة اهـ بالمعنى.

ونحن نقول: لا بد لهذا النوع الإنساني أن يبلغ كماله من الارتقاء والعمران ولا

يبلغه إلا بالعلم والدين، وقد سبق المسيحيون المسلمين في طريق العلم فدلهم على

أن دينهم ليس دين عمران وارتقاء، فتركوه وما زالوا يحاربونه إلى الآن، ولولا

أن رجاله الذين لا حياة لهم إلا به قد شاركوا شعوبهم بالعلوم الكونية، وقبضوا على

أَزِمَّة تعليمها ليدسوا الدين فيها لما بقي له من بقية، وأما المسلمون فمن الناس من

يزعم أنهم يسيرون على طريقة من قبلهم في هذا، فإن فعلوا فهنالك هبوط الإنسانية

وفساد العمران، ونحن على يقين بأن الحركتين اللتين ذكرتهما الجامعة سيبلغان

غايتهما فيرتقي المسلمون بدينهم بعدما يطهرونه من البدع والخرافات التي أُلصقت

به، ثم يتبعهم سائر الأمم ومنهم الفرنسويون الذين ظهر أثر ترك الدين السيئ فيهم،

وذلك عندما يتجلى لهم أنه دين الفطرة السليمة الذي بنيت شريعته على الديمقراطية

المعتدلة، ومحا سلطة الأشخاص على الأشخاص، وساوى بين الملوك والصعاليك

في الحق، وجعل الإنسان حرًّا كاملاً في الناس، وعبدًا كاملاً لله تعالى، وأطلق

فكره وإرادته من أسر رؤساء الدين والدنيا، هذا هو مستقبل العالم {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ

بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) لا بعد عشر سنين.

***

وقال العلامة المحدث اللغوي محمد محمود الشنقيطي مهنئًا الأستاذ المفتي وقد

تأخرت لتأخر ورودها، ولتكون مسك الختام وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

للجامع الأزهر المعمور عاد على

رغم الحسود فتى مصر ومفتيها (محمد) الفحل (عبده) بدر هالته خيراته ديمة هطلاء يؤتيها

ميسر لفعال الخير قاطبة

تأتيه طلابها تترى فيأتيها

سفائن العلم في ذا الشرق لآن غدت [1]

أعلامها بيديه وهو نوتيها

لم يَحسُدن على ما الله خوَّلهم

من فضله الناس من نعمى يؤتيها

لن ينكث العهد إن ينكثه ناكثه

بل عقدة العهد يُحكيها ويُحتيها

وتعلمون جميعًا ما علمت به

من ذي المكارم ماضيها وآتيها

هلا نظمتم لكم عقدًا مكارمه

أم صرتم خرس فرس حول بختيها

وقال أيضًا يخاطب الإمام المفتي:

أيا من قد نأى عنا وغابا

وبعد قضائه الحاجات آبا

تغنينا بشعر الصدق لما

عزمت إلى أباطحك الإيابا

وكائن بالأباطح من صديق

يراه لو أصبت هو المصابا

ومسرور بأوبتنا إليه

وآخر لا يحب لنا إيابا

وقال أيضًا هذا اليتيم:

إلى (عين شمس) عدت يا شمس عصرنا

ويا رجل الدنيا ومفتي مصرنا

وحلتي هذه سبيلها سبيل حلة عائشة بنت طلحة رضي الله تعالى عنهما، غير

أن هذا الشعر شعري، وذلكم شعر قيس بن الحدادية.

وشرح ذلك أن أم عمران عائشة بنت طلحة أنشدت عينية قيس بن الحدادية

الخزاعي الجاهلي فاستحسنتها وبحضرتها جماعة من الشعراء، فقالت: من قدر

منكم أن يزيد فيها بيتًا واحدًا يشبهها ويدخل في معناها فله حلتي هذه، فلم يقدر أحد

منهم على ذلك اهـ.

...

وكتبه محمد محمود لخمس خلت من جمادى سنة 1319

_________

(1)

قوله (لآن) لغة في الآن.

ص: 541

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(سمو الخديو المعظم في الآستانة العلية)

لقي مولانا الخديو المعظم من حفاوة مولانا السلطان الأعظم وإقباله في هذه

السنة فوق ما عهد وما عهد الناس من معاملة السلاطين للأمراء والخديويين، من

ذلك أنه كان يجعله عن يمينه والصدر الأعظم عن يساره حتى على الموائد الرسمية

ومنه أنه ركب معه غير مرة للتنزه وللاطلاع على بعض المعامل وعلى الإسطبل

العامر، ومنه أنه حباه ببعض الهدايا، ومنه أنه أهدى مركبتين (عربتين) مع

خيولهما لأنجاله، إلى غير ذلك من الإتحاف والانعطاف الذي ابتهج به المصريون

وقرَّت لأجله العيون.

***

(قدوم مفتي أفندي الديار المصرية وحفاوة المصريين به)

جاء الأستاذ الإسكندرية في الموعد الذي ذكرناه في الجزء الماضي، فاستقبله

في الباخرة علماؤها ووجهاؤها وجاء القاهرة في ناشئة ليلة الثلاثاء، وكان في

انتظاره على رصيف محطة السكة الحديدية الجماهير من العلماء وكبار الموظفين

والقضاة والوجهاء، وفي مقدمتهم أصحاب السعادة عبد الحليم باشا ناظر الأوقاف،

وبليغ باشا ناظر الدائرة السنية، وكانت كثرة عمائم الأزهريين تستوقف الطرف -

كما قال المقطم - وما أشرقت الشمس في اليوم التالي على عين شمس إلا وكانت

مورد جماهير المهنئين من العلماء والوجهاء، واستمر ورود الوفود بضعة أيام،

وكان من مسهلات الزيارة عليهم أن مصلحة السكة الحديدية زادت عدد القطارات

التي بين القاهرة والمرج من يوم قدومه حتى لا تمر ساعة إلا ويسافر فيها قطاران

أو ثلاثة، وجاء كثيرون من البلاد الأخرى إلى مصر لأجل زيارته، واكتفى

كثيرون بإرسال الرسائل البرقية وقليلون بالرسائل البريدية، ولم يُعهد مثل هذا

الاحتفال والحفاوة في مصر لعالم، ولا لأمير دون أمير البلاد الأعظم أيده الله تعالى

وأيد به العلم وأهله.

وقد تبرع السري الفاضل محمد بك أباظة بخمسة جنيهات لإدارة المنار شكرًا

لله تعالى على قدوم الأستاذ، وجعلها عادة مستمرة، وهي قيمة الاشتراك بعشر نسخ

توزعها الإدارة على مستحقيها مجانًا.

***

(كلمة المنار عن شيخ الأزهر)

ذكرنا في الجزء الماضي أن مولانا الحبر الأعظم شيخ الجامع الأزهر ناقش

المجاور الشيخ عبد المجيد الحساب على مقالته التي نُشرت بتوقيعه في جريدة

المؤيد، وأنكر عليه وصفه الأمة الإسلامية بالضعف والتأخر محتجًّا بأنهم يؤذنون

ولا يرميهم أحد بالحجارة، وقد أوَّلنا هذه الحجة الداحضة بأنها إذا صح صدورها

من الأستاذ الشيخ الجامع فلا بد أن يكون مراده اختبار الشيخ عبد المجيد صالح

وسبر غوره في فهم ما نسب إليه، ثم تشرفنا بمقابلة شيخ الجامع وأخبرنا بأن الأمر

كما قال المنار، وأنه ظهر للشيخ بالاختبار أن الشيخ عبد المجيد لم يحسن قراءة

المقالة المنسوبة إليه ولم يفهمها، وقد كانت النبذة التي كتبناها في هذا الموضوع

طويلة ذكرنا فيها كل ما بلغنا من قول مولانا الشيخ لذلك المجاور، وأوَّلنا ما ينتقد

منه ثم حذف منه ما لو بقي لما سلَّم المطلعون عليه بالتأويل بإرادة الاختبار، وإذ

تحققنا الآن من الشيخ نفسه ذلك فلا وجه للذين لا يزالون يخوضون في المسألة، لا

سيما إنكار مولانا الشيخ على المجاور نقله عن الفيلسوف أرنست رينان مدح الإسلام

وقوله له: أما وجدت عالمًا مسلمًا تنقل عنه، وهلا نقلت عن الإمام الغزالي.

***

(رمي مؤذن بالحجارة وتهديده بالرصاص)

بعدما نشرنا ما تقدم في الجزء الماضي بأيام اتفق أن مؤذنًا كان يؤذن على

المنارة في جهة تسمى قنطرة الدكة فأطلَّ رجل نمساوي من منظرة في بيته وأمره

بالسكوت، فلم يسمع له المؤذن ومضى في أذانه، فطفق النمساوي يرميه بالحجارة

ويهدده بالقتل بالرصاص إذا هو لم يكف عن إتمام الأذان، فخاف المؤذن ونزل قبل

إتمام الأذان وبلَّغ الشرطة ما وقع.

نشرت الجرائد اليومية الخبر فاستاء الناس وامتعضوا وفزع بعض أهل الغيرة

إلى حضرة شيخ الجامع وقصُّوا عليه القصة، فحوقل واسترجع فرغَّبوا إليه أن

يكتب إلى الحكومة وألحوا عليه حتى وعدهم وكان وعده مفعولاً.

***

(صورة ما كتبه الشيخ إلى نظارة الداخلية)

وكيل الداخلية سعادتلو أفندم

أظن أن سعادتكم اطلعتم على ما جاء في جريدة المقطم بعددها الصادر في يوم

الجمعة الفائت وتناقلته الجرائد عنها، ألا وهو ما وقع من ذلك الرجل النمسوي

لمؤذن مسجد قنطرة الدكة عندما شرع في أذان العشاء من أمره بالكف عن الأذان،

وشتمه له ورميه إياه بالحجارة، ولمَّا لم يثنه ذلك كله عن إتمام الأذان تهدده بالرمي

بالرصاص فخاف ونزل من غير أن يتمه، وتوجه في الحال إلى البوليس فأبلغه

الحادثة إلى آخر ما جاء في تلك الجريدة، وحيث ما أتاه هذا النمسوي يُعَدُّ إهانة

للدين، وانتهاكًا لحرمته، ولم نسمع قبل اليوم بأن مسلمًا عارض غيره أو منعه من

إقامة شعائر الدين حتى يقال إنه اقتدى به، ولا يخفى أن كل متدين بدين يغار عليه

مهما كان معتقده فيرتكب صعاب الأمور، وهو عالم بها انتصارًا لدينه خصوصًا

والبلاد إسلامية، ووقوع مثل ذلك فيها يوغر الصدور، فنحوِّل أنظار سعادتكم إلى

تلافي هذا الأمر بمعاقبة المعتدي بواسطة قنصليته بما يكون رادعًا له وزاجرًا لغيره

ومزيلاً لما كمن في الصدور من جراء هذا الحادث المؤلم أولى من الترك

والتغاضي، ووقوع ما لا تحمد عاقبته، ثم تفضلوا بإخطارنا بما يتم أفندم.

(حاشية)

وللتثبت من هذا الأمر استدعينا مؤذن ذلك المسجد المدعو الشيخ خليل إبراهيم

وسألناه عما وقع، فأوضح لنا ذلك مفصلاً من أول الحادثة إلى آخرها في ورقة

مرفقة بهذا، فنكرر أيضًا إعارة هذه المسألة جانب عنايتكم أفندم.

***

(الانتقاد على مكتوب شيخ الجامع)

انتقد العوام والخواص على اختيار شيخ الجامع جريدة المقطم لنشر المكتوب،

وعدم نشره في جريدة المؤيد التي هي أعمُّ انتشارًا، وتوهموا أن لمولانا الشيخ

ضلعًا مع المقطم وموافقة لسياسته، وهو وهم باطل لأننا نعلم حق العلم أنه بعيد من

السياسة ومذاهبها، فلا هو موافق لسياسة المقطم، ولا هو مخالف لسياسة المؤيد،

وقال بعض الأذكياء: إن مولانا الشيخ استاء مما كتبه المؤيد في المسألة بتوقيع

(م. ح) فلم يرسل إليه صورة المكتوب لأجل ذلك.

ولكن مقام الشيخ أجلَّ وأعلى من تحكيم الأمور الشخصية في المصالح

العمومية، وينبغي أن نلتمس له عذرًا على كل حال حتى نقف على العلة الحقيقية.

وانتقد كثير من الخواص على أسلوب المكتوب وعبارته وبعض مفرداته

وتراكيبه التي لا تصح في اللغة، أما أسلوبه فهو أسلوب كتابة الدواوين لا أسلوب

الكتاب البلغاء العارفين بفنون اللغة والمحصلين ملكتها، وقد أجبنا بعض المنتقدين

بأن المتبادر أن المكتوب ليس من كتابة الشيخ وإنشائه، ولا من إملائه، وإنما هو

من إنشاء كاتب مجلس إدارة الأزهر الذي يعد من دواوين الحكومة، فقالوا أولاً: لا

يصح أن يقبل شيخ الجامع مثل هذا الكاتب في إدارته ويجعله ترجمانه، بل قلمه

ولسانه، وثانيًا: إذا جاز أن يجيز ويمضي شيخ الأزهر الذي هو مهد اللغة وينبوع

معارفها مكتوبًا غير بليغ ولا فصيح، فلا يجوز أن يجيز الخطأ والغلط ويقره

ويرضى بأن ينشر منسوبًا إليه.

وإننا نرى من الفائدة ذكر شيء مما انتقدوه ليعرف المنصف والمتحامل، فمن

ذلك قوله: (أظن أن سعادتكم اطلعتم) قالوا: مقتضى المطابقة بين اسم (أن)

وخبرها أن يقال (اطَّلَعَتْ) لأن الإسناد إلى ضمير مؤنث وهو السعادة، ومنه قوله:

(وحيث ما أتاه هذا النمسوي

إلخ) قالوا: إن (حيث) ظرف مكان، وقد ردَّ

العلماء على من زعم منهم أنها تأتي للتعليل، وظاهر السياق أنها هنا للشرط ولا

يصح، وقالوا إننا لا نرى لهذا القول إعرابًا صحيحًا، ومنه قوله: (مهما كان

معتقده) قالوا: إن استعمال (مهما) ههنا غير صحيح، ومنه قوله (خصوصًا

والبلاد إسلامية) قالوا: إنه استعمال غير عربي وإنه لا يستقيم إعرابه، ومنه قوله:

(ثم تفضلوا بإخطارنا) قالوا: لا يعرف في اللغة أخطره بكذا، بمعنى: أعلمه به،

وأقرب معانيها إلى ما نحن فيه قولهم: أخطر الله الشيء ببالي، أي: جعلني أتذكره

بعد نسيانه ولا يصح هنا، وقالوا: إن فيه أيضًا عطف الإنشاء على الخبر بـ (ثم)

ومنه قوله في الحاشية (وللتثبت من هذا الأمر) قالوا: ورد في اللغة: تثبت في

الأمر: إذا تأنَّى فيه ولم يَرِد: تثبت منه، ومنه قوله (المدعو الشيخ خليل) قالوا:

وكان الصواب أن يقول (خليلاً) بالنصب، ومنه قوله في الحاشية: (ورقة مرفقة

بهذا) قالوا: إن لفظ (مرفقة) لا يصح له معنى هنا، ومنه قوله في الحاشية

(فنكرر أيضًا إعارة هذه المسألة لجانب العناية) وقالوا: إن أهل الأزهر لا يتركون

الحواشي ولا في مخاطبة الحكومة.

هذا، وإن لهم انتقادات أخرى قالوا: إنها دون ما تقدم، منها قوله (ولمَّا لم

يثنه ذلك كله عن إتمام الأذان) قالوا: كان الصواب أن يقول عن الاسترسال أو

المضي في الأذان لأنه لم يتمه، وقد كُتبت العبارة بعد العلم بعدم الإتمام، ومنها لفظ

البوليس ولفظ القنصلية، قالوا: كان اللائق بمقام المشيخة أن لا يذكر في كتابتها

لفظ أعجمي إلا إذا لم يكن في اللغة ما يردفه ويحل محله، ومنها قوله: (فنحوِّل

أنظار سعادتكم) قالوا: إن للمخاطب نظرًا واحدًا، ومنها قوله: (أولى من الترك

والتغاضي) قالوا إن إعراب هذه العبارة يحتاج إلى تكلف وإن الأولية لا معنى لها،

بل هي مخلة بالمراد، ومنها قوله في التمهيد لتحويل أنظار وكيل الداخلية (ولا

يخفى أن كل متدين بدين يغار عليه مهما كان معتقده) قالوا: إن الذي يفهمه الناس

من هذه الجملة على ما فيها أن الإنسان يغار على دينه وإن كان باطلاً وليس من

اللائق أن يكون هذا تمهيدًا من مشيخة الأزهر الشريف، بل غلا بعضهم فذكر

الفتيل والنقير كقوله: (وكيل الداخلية سعادتلو أفندم) وقال إن الأولى والأليق بمقام

المشيخة أن يُذْكَر اللقب الرسمي بصيغة عربية تدل عليه كقوله (إلى صاحب

السعادة وكيل الداخلية) فقلنا له: إن هذا لقب رسمي، فقال إن اللفظ الرسمي

التركي هو (داخلية وكيلي سعادتلو أفندم) فالعبارة ليست رسمية ولا عربية.

وقال هذا الفقير: إن الأولى بمقام مشيخة الأزهر أن يتبع الشيخ السُّنة في كل

ما يكتب، لا سيما الأمور ذات البال التي يُهتم بها شرعًا، فكان ينبغي أن يبتدأ

المكتوب بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

ويعلم الله أنني أوَّلت أمام جماعة من المنتقدين بعض ما انتقدوه حتى بالتمحل

والتكلف، فقالوا: لا نقبل التمحل النحوي البعيد والأقوال الشاذة والضعيفة، وإنما

نقبل أجوبة تثبتها الشواهد العربية؛ فإن هذا الكلام لا يرتقي من يجيزه إلى أن

يكون من المتفننين كما قال شيخ الإسلام في علماء العصر، ولا من الحفاظ كما قال

فيهم مفتي الديار المصرية، ورأيت أن الجواب الذي يبرئ مولانا شيخ الجامع

الأزهر الشريف من هذا كله، هو احتمال أن يكون أمر كاتب إدارته بأن يكتب إلى

سعادة وكيل الداخلية مكتوبًا في موضوع كذا، وأنه أمضاه ووقع عليه ولم يقرأه

لحسن ظنه وسلامة قلبه، والمنار مستعد لنشر ما يَرِد من قِبَل مولانا الشيخ وغيره

من العلماء في الرد على المنتقدين.

***

(التعصب الذميم والتساهل الجميل)

إن آداب إخواننا السوريين في البرازيل لَمما يُفتخر به، وإن جريدة المناظر

لهي مجْلَى ذلك الجمال، ومظهر ما ثم من الكمال، فقد علمنا منها أن أولئك

الفضلاء قد ألقوا أوزار التعصب الذميم عن ظهورهم، ونبذوا التقاليد التي كانت

تحملهم على الغلو في الدين عن غير بصيرة حتى إنه ليتراءى للناظر فيها أنهم

تركوا الدين؛ وإنما تركوا تلك التقاليد الضارة، وأخذوا ما في الدين من الآداب

النافعة، ومن آيات ذلك ما قرأناه في العدد 192 من هذه الجريدة لمكاتبها في

مناوس عاصمة ولاية الأمازون قال:

(في هذه العاصمة بضعة عشر مواطنًا من المسلمين، وفيهم غير واحد ممن

هذَّبه العلم، فلم يفرقوا بعد ارتقائهم بين من دان بالإسلام، ومن دان بسواه من

الأديان - أي لأن الإسلام يحكم بأن الناس في الحقوق سواء، فلا يهضم حق أحد

لأجل الدين ولا يعطى أحد غير حقه لأجل الدين - وفيها أيضًا مئات من المواطنين

النصارى بينهم رعاع لا يزال التعصب الأعمى يقود قلوبهم العمياء، وقد أراد أحد

هؤلاء الآخرين بغير داعٍ سوى التعصب أن يعتدي على إخواننا المسلمين ومالأه

على هذه الإرادة بعض أمثاله، فحدث غير مشاجرة بين الفريقين كان فيها المسلمون

ملتزمين جانب الدفاع، فساء هذا الصنيع أحرار الجالية منا، واتفقوا على أن

يناصروا المواطنين المسلمين على المعتدين، وفعلوا فعلم المتعصبون أن الزمان

ليس زمان انتصار المسلم للمسلم والمسيحي للمسيحي؛ ولكنه عصر اجتماع

المتهذبين المرتقين على مناوأة المتعصب من أي الأديان والطوائف كان، وعادوا

من ثم عن اعتدائهم، ولقد ظن بعض المعتدين أن الحكومة لا تسيء معاملتهم؛

لأنهم نصارى في بلاد نصرانية فعلموا عندما اقتصت منهم أنها لا تعرف المرء

بدينه، وهي كما يعلم القارئ جمهورية منفصلة عن الكنيسة تمام الانفصال) اهـ.

***

(البطريقخانة وأحكامها)

خاضت الجرائد المصرية هذه الأيام في بطريقخانة القبط، وما تصدره من

الأحكام التي يسمونها شخصية؛ وسبب الخوض أن البطريقخانة حكمت بالحَجْر

على قبطي، وجعلت امرأته قيمة عليه، فأبى الخضوع لحكمها وهي عاجزة عن

التنفيذ، ويرى أصحاب الجرائد القبطية أنه يجب على الحكومة تنفيذ أحكام

البطريقخانة القبطية دون غيرها من أمثالها؛ لأن لها امتيازًا وفضلاً على غيرها.

إذا كانوا يقولون: إن هذا الامتياز شرعي إسلامي، فما أحكام الذميين في

الشريعة بمجهولة ولا نعرف إمامًا ولا عالمًا قال بأن لهم أن يحكموا أنفسهم، وعلينا

أن ننفذ أحكامهم؛ وإنما اقتضى تساهل الشريعة الحكم بعدم التعرض لهم إذا تراضوا

فيما بينهم؛ ولكنهم إذا تحاكموا إلينا نحكم بينهم بشريعتنا، فالحكم بطريقهم وغيره

من رؤسائهم كحكم المحكَّم الذي يرتضيه الخصمان، وإذا قالوا: إنه امتياز مدني

فليدلونا على القانون المدني الذي أثبته. إن حكم القانون المدني بأن تكون قضاة

المحاكم المدنية من سكان البلاد على اختلاف أديانهم يقتضي أن لا يكون

للبطريقخانة حكم في شيء مما تحكم به هذه المحاكم، إلا إن كانت طائفة القبط

الأرثوذكس تطلب من الحكومة إخراج الموظفين من أبنائها من جميع المحاكم

والدواوين التي تفتات البطريقخانة الآن عليها بالأحكام والإذن لها بأن تنشئ محاكم

دينية محضة مستقلة بنفسها، فتكون حكومة ثانية؛ لأنهم لا يبيحون للحكومة أن

يكون لها أدنى مراقبة ولا تفتيش، بل ولا اطلاع على أحكام البطريقخانة وإنما

يوجبون عليها تنفيذ الأحكام فقط على ما تنوقل عنهم.

لو أن إجابة هذا الطلب في استطاعة الحكومة المصرية ومن خصائصها لما

كان لها أن تمنحه لهذه الطائفة؛ لأنه ينافي المساواة والعدل بين الرعية ويقيم عليها

قيامة الطوائف الأخرى.

وأقوى شيء يحتج به القبط حسن العهد بينهم وبين المسلمين عند الفتح

الإسلامي، ثم ما منحه السلطان محمد الفاتح للروم الأرثوذكس وجرى عليه السلاطين

من بعده.

ونقول: إن حسن العهد لا يستلزم أن يكون لهم من الحقوق ما يخالف الشريعة،

وحسبهم منه أن يكونوا أحرارًا في شؤونهم الدينية، وأن يبرهم المسلمون ويقسطوا

إليهم، على أن الأحكام في مصر قد صارت مدنية لا شرعية، وشارك القبط فيها

المسلمين كما تقدم، وهذا امتياز لا يعلوه امتياز، وليس من الإنصاف أن يُطلب

معه امتياز آخر، الحكومة إسلامية وقد تركت شريعتها بالنسبة للأحكام المدنية

والحدود والعقوبات الجنائية، واستبدلت بها قوانين أخرى نسبتها إلى دينها كنسبتها

إلى الديانة القبطية، وجعلت الحاكمين بها من أهل دينها ومن غيرهم من غير

التفات إلى الدين، ولم تبق هذه القوانين لشريعة الحكومة صاحبة البلاد إلا أحكامًا

قليلة كالأوقاف والمواريث والحجر وغير ذلك من الأحكام التي يسمونها شخصية،

فهل يليق بهذه الطائفة التي كان سلفها أحسن عهدًا مع المسلمين من سائر الطوائف

أن يحسدوهم على هذه البقية وينازعوهم فيها، ويخترعوا لأنفسهم أحكامًا لا

يقتضيها دينهم؛ لأنه إنما يأمرهم بالخضوع لكل حاكم يحكمهم؟

وأما الفرمانات السلطانية للروم الأرثوذكس، فهو على كونه لا يشمل القبط

غير مقتنَع به منهم، بل يطلبون الزيادة ومنها الحكم بالحجر، فهو ليس مما نطقت

به الامتيازات، وقد علموا أن المحكمة المختلطة لم تعتبر أن القبط في الامتيازات

الشاهانية كالأروام؛ ولكن القوم يطمعون بما هو أعلى مما يطلبون، وما جاء الوقت

ولكنهم قوم يعجلون.

***

(الإنعام السلطاني على صاحب المؤيد)

علمنا من أنباء الآستانة الخصوصية أن مولانا السلطان المعظم أيَّد الله دولته

أنعم على زميلنا الفاضل الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر بالرتبة الأولى من

الصنف الثاني، وبالوسام المجيدي من الدرجة الثانية، وهو إنعام صادف أهله وحل

محله، بل أبطأ عن وقته، والأمور كما يقولون مرهونة بأوقاتها، فقد قلنا في

المنار غير مرة أنه لم يخدم الدولة العلية والسلطان في مصر على الوجه الذي يحبه

السلطان ويرضاه مثل المؤيد، بل هو الذي علَّق الآمال بالدولة، وأنطق الألسن

باللهج بمدح السلطان أيده الله تعالى وسدده.

نخاطب بعد اليوم صديقنا باللقب الرسمي (سعادتلو أفندم) ولكننا لا ننزع

عنه لقب الشيخ فإنه أعذب الألقاب وأحلاها، وحلية العلم أشرف الحلى وأعلاها.

***

(غلام نجيب)

حدَّثنا الأستاذ مفتي الديار المصرية أنه رأى في السفينة التي ركبها من

تريسته إلى الإسكندرية غلامًا روسيًّا لا يزيد سنه على ثماني سنين يتعلم في بعض

مدارس أوربا، وقد ذُكِرَ للأستاذ من ذكائه ونجابته أنه يحسن الكلام بالفرنسوية

والألمانية وليس له في المدرسة إلا سنة واحدة، فكلَّمه الأستاذ بالفرنسوية، فإذا هو

كما قالوا يحسنها، وإننا نذكر بعض الحديث.

الأستاذ: أين تقصد؟ قال الغلام: أقصد مصر لمشاهدة الأهرام.

الأستاذ: إن في مصر آثارًا كثيرة غير الأهرام ينبغي أن تُرى فلماذا خصصت

الأهرام بالذكر؟

الغلام: إنني خصصت الأهرام لأنني قرأت عنها كثيرًا، ولا يستفيد الإنسان

فائدة تامة إلا من مشاهدة ما قرأ عنه؛ لأنه هو الذي يمكن أن يلاحظ دقائقه ويعرف

خصائصه، وإنني أعرف أن للمصريين آثارًا كثيرة غير الأهرام لأنني قرأت شيئًا

من تاريخهم وعرفت ملوكهم وعاداتهم.

الأستاذ: اذكر لي أشهر ملوكهم، وأشهر ما يُؤثر عنهم.

الغلام: ذكر أسماء أشهر الفراعنة، وأن أشهر ما يُؤثر عنهم تحنيط الموتى.

الأستاذ: ما سببه؟

الغلام: سببه الاعتقاد الديني فإنهم كانوا يعتقدون أن للأرواح حياة بعد الموت

ولا بد أن تكون في أجساد، وأن أجسادها الأولى أولى بها.

ثم سأله مصطفى بك كامل وكان حاضرًا: هل تحب فرنسا؟ فلم يلق بالاً لهذا

السؤال، حتى قال له: إن بين فرنسا وبين دولتكم ولاء وحلافًا، فقال: نعم ولكنني لا

أحب الجمهورية، قال البيك: عجبًا لشاب مثلك كيف لا يفضل الجمهورية على

الملكية، وهو يعلم أن الملك يأخذ المُلك بالإرث عن غير استحقاق، وأن حكومتك

لو كانت جمهورية لجاز أن تصير يومًا ما رئيسها، فقال الغلام بحماس: إن

الجمهورية عرضة للثورة دائمًا؛ وإنها تنزع من حياة العلم وتختلس من عمره

شهرين على الأقل من كل سنة يكون فيها الانتخاب؛ لأن الأمة كلها تكون مشغولة

به، أما الملكية فكما ذكرت وأنا أفضلها إذا جروا فيها على رأي بطرس الأكبر فإنه

فرض أن ينتخب الملك من يكون خلفًا له لأنه أدرى بالاختبار.

البيك: إن حكومتكم الآن ليست على ما قال فأنت إذن ضد لها؟

الغلام: لست ضدًّا لها؛ ولكن لو صار الأمر إلي لأرجعتها إلى رأيه.

البيك: هل تحب القيصر؟

الغلام: ما عرفته فأحبه؛ ولكنني أحترمه لأنني أسمع عنه أنه عادل....

_________

ص: 548

الكاتب: عن مقالات العروة الوثقى الحكيمة

‌كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [

1]

العالم الإنساني كتاب المُعْتَبِر، وسفر المستبصر، وكل قرن من قرونه صفحة

وكل جيل من الناس سطر فيه أو جملة، ولنا في كل ما خطَّه القلم الإلهي عبرة.

أول ما يفيدنا النظر فيه وقوفنا على أحوال الشعوب في أطوارها المختلفة،

وأدوارها المتبدلة، فنرى أممًا علت وسمت وحلَّقت في جو المعالي، وجازت في

الرفعة مسارح النظر، ثم انحدرت بعد هذا وتدهورت وعفت رسومها، ولم يبق لها

أثر إلا في الروايات والأحاديث، ومنها أجيال كانت في ثَنْي العدم، ثم اكتست حلية

الوجود وأخذت من الاجتماع الإنساني مكان الهامة من الجسد، ثم انطوت وأخنت

عليها أمهات قشعم، ومنها ما نراه إلى اليوم يسحب مطارف العزة، ويشرف على

العالم بالأمر والنهي من شواهق القوة.

فمن الناس من تنجلي له هذه الشؤون وتلك الأطوار، كما تعرض عليه

الصور والتماثيل: ينبسط لبعضها إذا أعجبه، وينقبض للآخر إذا أنكره، وهو في

غفلة من منشأ ظهورها وعلل انقلابها، فإن سئل عن السبب قال: سبحان الله هكذا

كان، وهكذا يكون، وما هو إلا بخت يُسعد فيسعد به السعداء، ويُنحس فيتعس به

الأشقياء.

ومنهم من تنفذ بصيرته إلى الحقيقة، فيقف على ما هيأه الله من الأسباب التي

تتبعها أحوال الأمم في صعودها وهبوطها، ويعلم أن ما سيق من الخير لأمة إنما

كان بأيدي آحاد من أماثلها جدوا وجاهدوا وبما بذلوا من نفائسهم وأنفسهم فازوا

بتأصيل المجد لشعوبهم وبني جنسهم، ويرى لأولئك الأعلام ذكرًا يرفع، ومكانة

من القلوب تُحمد، وتميزًا عند الخلف بالكرامة، وهم لم يخالفوا الناس في جسومهم

ودمائهم؛ وإنما تقدموهم بهممهم، وقد يسوقه الاعتبار إلى الاقتداء بهم رغبة في

اقتطاف ثمار الثناء وتخليد الذكر، فإذا أخذ مأخذهم، واستقام على طريقهم فلا يكاد

يخطو بضع خطوات، ومبدأ السير تحت نظره حتى تعثر أقدامه في أياد مقطعة

ورؤوس مجذوذة، وأشلاء مبدَّدة، وشعور منثورة، وصدور مدقوقة، ويشهد

الطريق مضرَّسة بقبور الشهداء من طلاب الحق والناهجين في منهاجه، ولا

محيص له عن سلوكها، وتبدو له غابات وأدغال يرجع إليه منها صدى زئير الآساد

وزمجرة الضراغم، ولا بد له من اختراقها.

هكذا تتكشف لطالب المعالي موحشات مدهشات مصاولة المخاطر أدناها،

والموت الشريف أقصاها وأعلاها، فتارة يخور عزمه، ويضعف همه، فينكص

على عقبيه، ويرتد إلى أسوأ حاليه، ويرتع في مراتع أمثاله، حتى يروح إلى

عطنه الأولى به وهو العدم، وتارة يوحي إليه الإلهام الإلهي أن الشخص في

خاصته والأمم في هيئاتها ونوع الإنسان في مجموعه تطالبها صورة الإبداع بأعمال

شريفة دونها إجهاد الأنفس في السعي، وحملها على ما لا تهوى ومغالبة الأهوال

والغوائل، وفيما أودع الله الإنسان من القوى العالية والخواص السامية أكبر مساعد

على ما تندفع إليه الهمة، وتنبعث له العزيمة.

إن من أحياه الله بالحياة الإنسانية كلما هاجمته المصاعب لا يزداد إلا حرصًا

على قهرها، كما أن صاحب الشمم لا يزيده الخصام إلا حدة في الجدال وإصرارًا

على إقناع المخاصم، وكثير ممن على شكل الإنسان يحيى حياته هذه بروح حيوان

آخر وهو يعاني فيها من الشقاء أشد مما يعانيه الإنسان في إبراز مزايا الإنسان، إن

صاعد الجبل ربما يجد شيئًا من التعب ويخشى مفترسه الكواسر؛ ولكن قد ينجو

منها ويستريح على القنة ويعتصم بمكانة من الرفعة وتقصر عنه يد المتناول، أما

من أخلد إلى السفل فحظه من الحياة خوف لا ينقطع وإشفاق لا يزول، كل لحظة

توعده بالسقوط في صيد الصائد والوقوع بين أنياب الغائل، مات من الناس كثير

في طلب العلا ولم ينالوا، وبلغ كثير من الطالبين غاية ما أملوا؛ ولكن هلك بالفتك

أضعاف هؤلاء وهؤلاء ممن رئموا الخمول ورضوا بالحياة الحيوانية، هذه أحاديث

الحق ونفثات الروح الزكية تبعث من أيَّده الله ووهبه نعمة العقل إلى مداومة السير

واقتفاء أثر الماضين إلى أشرف المقاصد، فإما وصل، وإما مات كما يموت

الكرام.

لم تنل أمة من الأمم مزية من المزايا المحمودة عند بني البشر سواء في العلوم

المعارف، أو الآداب والفضائل، أو القوانين والنواميس العادلة أوالعسكرية وقوة

الحماية حتى خرج آحاد منها إلى ما تخشاه النفوس وتهابه القلوب، وسلكوا تلك

المسالك الوعرة، فبلغوا بأممهم أقصى ما بلغت بهم همهم، مع الاعتماد على العناية

الإلهية في جميع سيرهم.

ماذا يريد العانون في خدمة الأمم أو النوع الإنساني، والمنفقون لحياتهم في

أعمال فادحة يعود نفعها على من تجمعه معهم جامعة الأمة أو الملة أو يشاركهم في

النوع؟ أليس قد جعل الله لكل شيء سببًا؟ أليس من سنة الله في عباده أن لا تتجه

الإرادة البشرية إلى حركة تصدر عن المريد إلا بعد تصور غاية تعود إلى ذاته،

وبعد اليقين أو راجح الظن بأنه يستفيد الغاية من العمل؟ فإن كان الأجل يذهب في

مساورة الآلام الروحية، والعمر ينفد في مناهدة الأوصاب البدنية، فماذا يقصدون

من أعمالهم؟ إن كان يوجد في أبناء جلدتهم، وذوي ملتهم من يساعد حوادث الكون

على إيلامهم، ومما نعتهم في مقاصدهم، وصدهم عن السعي فيما يرجع خيره إلى

أنفس المعارضين، ويثخن فيهم جراح اللوم والتقريع، والشماتة والتشنيع، أو

يدافعهم بالمكافحة والمنازلة، فما الذي يبتغون من جدهم وكدهم؟ لا لذة تُجتنى، ولا

ألم يُتقى، فما هذا الباعث القوي الذي غلب الأهواء، ولم يضعفه جهد البلاء؟

نعم أودع الله في الإنسان ميلاً أقوى من كل ميل، وهو أخص خاصة فيه

يمتاز بها عن غيره من الأنواع، وهو حب المحمدة الحقة، وحسن الذكر من وجوه

الحق، أقول هذا تفاديًا من حب المحمدة من أي وجه حقًا كان أو باطلاً، وطلب

الثناء بالزور والغش والرياء والظهور بمظاهر الأخيار، مع تبطن سرائر الأشرار

فإن هذا من أسوأ الخِلال؛ وإنما يعرض بعد اعتلال الفطرة وفساد الطبيعة.

المحمدة هي الغذاء الروحاني، والمقوِّم النفساني، وكلما قرب شخص من

الكمال الإنساني تهاون بالشهوات، وازدرى اللذائذ الحسية، وقوي فيه الميل إلى

المحمدة الباقية، وبذل الوسع يما يفيدها من جلائل الأعمال (تأمل) إن الفاضل يرى

له في هذا العالم أجلين: أقصاهما الأجل المحدود من يوم ولادته إلى نهاية العمر

المقدَّر والآخر أبعد من هذا نهاية، وبدايته عندما ينجم من عمله الصالح أثر لمنفعة

تشمل أمته أو تعمَّ النوع الإنساني، وغاية هذا الأجل عندما يمحى أثره من ألواح

النفوس وصفحات التاريخ، فللروح الفاضلة وجودان: وجود في بدنها الخاص،

ووجود في جميع الأبدان، وهو ما يكون بحلولها من كل روح محل الكرامة

والتبجيل، ولا ريب أن هذا الأجل الطويل وهذا الوجود العريض خير من ذلك الأجل

القصير والوجود الكز [2] ، وحقيق بالإنسان أن يبيع ما هو أدنى بالذي هو خير.

يطول بي الكلام فأقصر: إن الله الذي وهب كل نوع ما به كماله وضع في

جبلة البشر ميلاً إلى الحمد وألهمهم تأدية حقه لمستحقه، ألم تر انطلاق الألسن في

كل أمة بالثناء على من كان سببًا لها في مجد ورفعة، أو نهوض من سقطة، أو

توحيد كلمة، أو تجديد قوة، أو كمال في فضيلة، أو تقدم في علم أو صنعة،

ويرسمونه في الألواح ويسجلون مدحته في بطون التاريخ، ويرفعون له الهياكل

والتماثيل، ويحفظون له ذكرًا حميدًا يتناقله الأبناء عن الآباء حتى ينقرضوا، أو

ينقرض العالم، إذا جحدت الأمة حق العامل لها، أو قصَّرت في استحسان عمله

ضعفت الهمم، وقل السعي في المصالح العامة، وانقبضت الأيدي عن تعاطيها

فهبطت شؤون الأمة فافترقت وماتت.

إن الله جل شأنه قرن كل حادث بسبب، فإذا استوى لدى الأمة الحسن والقبيح

والطيب والخبيث، والفضيلة والرذيلة، والمصلحة والمفسدة، وفقد منها التمييز،

ولم تُقَدِّر أعمال العاملين حق قدرها، ولم تعرف معروفًا، ولم تنكر منكرًا - سلبت

آحادها الميل إلى المعالي والكمالات، وكان هذا أشد نكاية بها من جور الظالمين،

وتغلب الغالبين، ظلم الظالمين لا يدوم وسطوة الغالب لا تثبت إذا كان جمهور الأمة

يقابل الإحسان بالاعتراف والفضل بالحمد؛ فإنه يوجد منها من يشتري هذه المكافأة

بتخليصها وإنقاذها، أما فقد هذا الإحساس الشريف فهو أشبه علة بالهَرَم لا عقبى له

إلا الموت والهلاك.

كيف لا تكون المحمدة الحقة نعمة على النفوس الإنسانية يسعى لها الأعلون

من بني الإنسان، وقد امتن الله بها على نبيه فيما يقول له:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) وكيف لا تكون حقًّا تطالب به الطبيعة وقد سمح الله لمستحقها

بالتحدث بنعم الأعمال الصالحات، كما سوَّغ ذلك لنبيه في قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ

رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: 11) .

قلِّب طرفك في تواريخ الأمم أقصاها وأدناها تجد برهانًا قاطعًا على أن الأمة

متى بخست قيم الأعمال العالية، وازدُري فيها بشأن الفضيلة فقدت ما به قوامها

وانهدم بناؤها وذهبت كما ذهب أمس، ولا جرم أن الكفران مقرون بزوال النعم.

يمكنني أن أختم كلامي هذا بكلمة شكر لهذه العصابة الطاهرة التي أقدمت في

هذه الأوقات النحسة، ووقفت على شفير الخطر، وكتبت على نفسها السعي في

توحيد المسلمين، ويسرنا أن نرى عددها كل يوم في ازدياد نسأل الله نجاح أعمالها

وتأييد مقاصدها إنه نعم المولى نعم النصير.

_________

(1)

من مقالات العروة الوثقى الحِكيمة.

(2)

الكزّ: اليابس والمنقبض، وكزّ اليدين: بخيل، والمراد هنا ما لا خير فيه.

ص: 561

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورة الحادية عشرة بين المصلح والمقلد

الأخذ بالدليل ونهي الأئمة عن التقليد

لما ضم الشاب المصلح والشيخ المقلد المجلس الحادي عشر قال الشيخ

المقلد: إن صديقي قد سافر وهو في حيرة لا يدري كيف يجمع بين ما أوردته من

نصوص أئمة الحنفية الصريحة في وجوب اتباع الدليل وعدم الأخذ بكلامهم إلا بعد

معرفة مأخذه من الكتاب والسنة والقياس الجلي، وبين ما ذكره ابن عابدين في رسم

المفتي، وفي حاشيته على الدر المختار من تقسيم العلماء إلى ست طبقات، كل طبقة

تقلد ما فوقها إلى المجتهد المطلق الذي له الحق وحده بأخذ الحكم من الدليل، وقال:

إننا نرى في الكتب أقوالاً مثل هذه الأقوال الدالة على وجوب اتباع الدليل فنحسبها

متروكة لأنا مقيدون بكتب مخصوصة، وأقوال علماء مخصوصين، وحجر علينا

الأخذ بقول غيرهم فضلاً عن اتباع الدليل استقلالاً حتى قالوا: إن أبحاث الكمال بن

الهمام الذي شهد له كثيرون ببلوغ مرتبة الاجتهاد المطلق، لا يجوز العمل بها إذا

صادمت المنقول من نصوص المذهب، وإن كانت أبحاثه مدللة وتلك النصوص لا

دليل عليها، بل هي مصادمة للدليل.

المصلح: أعجب من هذا القول التصريح بعدم جواز العمل بنصوص الكتاب

والسنة - وإن كانت صريحة - إذا هي خالفت نص علماء المذهب الذي لا دليل

عليه، ولكن نيِّر البصيرة لا يحار وإن كان مقلدًا؛ لأنهم إنما أوجبوا عليه تقليد

مجتهد، والذين قالوا هذه الأقوال مقلدون، والأئمة منهم براء منها، فمن عمل بهذه

القواعد في مسائل نطق الكتاب أو مضت السنة فيها بخلاف المنقول في المذهب، فقد

ترك أصل دينه الأصيل وركنه الركين لقول مقلد يتبرأ منه يوم القيامة؛ لأنه يحرم

تقليد المقلد ويصدق عليه قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا

العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البقرة: 166) .

المقلد: قال صديقي إنه لا حجة لهم في هذا المقام إلا احتمال النسخ وقد

أعجبه قولك إن هذا الاحتمال يأتي في أقوال الأئمة والفقهاء؛ فإن الأقوال التي

رجعوا عنها أكثر من الأحاديث المنسوخة، وإن معرفة المنسوخ أيسر من معرفة

القول المتروك.

المصلح: الأحاديث التي قالوا بنسخها قليلة جدًّا وحصرها بعضهم في واحد

وعشرين حديثًا، وقد رأيت في كتاب نقلاً عن حاشية الهداية لابن العز في مسألة

المحتجم التي ذكرناها في المجلس الماضي أن أبا حنيفة وصاحبه محمدًا يعذران من

أخذ فيها بالحديث المنسوخ (أفطر الحاجم والمحجوم) خلافًا لأبي يوسف، وإنني

أحب أن أذكره لك، ذكر عند قول أبي يوسف بلزوم الكفارة وتعليله بقوله: (فإن

على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث) ما نصه:

(في تعليله نظر، فإن المسألة إذا كانت مسألة نزاع بين العلماء، وقد بلغ

العامي الحديث الذي احتج به أحد الفريقين كيف يقال في هذا أنه غير معذور؟ فإن

قيل هو منسوخ فقد تقدم أن المنسوخ ما يعارضه، ومن سمع الحديث فعمل به وهو

منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا

تعمل به حتى تعرضه على رأي فلان أو فلان؛ وإنما يقال له انظر هل هو منسوخ

أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه كما في هذه المسألة فالعامل به في

غاية العذر؛ فإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أولى من تطرق الاحتمال إلى

نسخ ما سمعه من الحديث) ثم ذكر قلة المنسوخ وجمع ابن الجوزي كل ما صح أو

احتمل نسخ، فإذا هو لا يتجاوز أحد وعشرين حديثًا ثم قال: (فإذا كان العامي

يسوغ له الأخذ بقول المفتي، بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي فكيف لا يسوغ

له الأخذ بالحديث، فلو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العمل

بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطًا في العمل، وهذا من

أبطل الباطل ولذا أقام الله تعالى الحجة برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم دون آحاد

الأمة، ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف

أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطأه من صوابه ويجوز عليه التناقض

والاختلاف، ويقول القول ويرجع عنه ويحكي عنه عدة أقوال، وهذا كله فيمن له

نوع أهلية، وأما إذا لم يكن له ففرضه ما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن

كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتب له

المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه

الثقات من كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أولى بالجواز، وإذا قدّر له

أنه لم يفهم الحديث فكما لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرف معناها فكذلك الحديث)

اهـ.

المقلد: هذا الكلام موافق لما قلته لي من قبل إلا الاستدلال بالآية على التقليد

فقد منعته أنت.

المصلح: هذا كلام حسن جدًّا، وإني وإن كنت بينت أن الآية لا تدل على

جواز التقليد؛ لأنها في سياق آخر فإني لم أمنع الاهتداء بالعلماء والاستعانة بهم

على فهم الدين، وقد قلت غير مرة إن الأئمة رضي الله تعالى عنهم لم يستنبطوا

الأحكام ليصرفوا الناس إليهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم؛ وإنما استنبطوها

ليعلموهم كيف يفهمون وكيف يستنبطون؛ ولذلك حرَّموا الأخذ بقولهم من غير

معرفة دليله لئلا يفتتن الناس بهم ويتخذوهم شارعين، ولم ينسب لأحد منهم شذوذ

في ذلك إلا تلك الكلمة لأبي يوسف، وقد أوَّلها بعضهم كما تقدم وأبطل دليلها بعض

آخر كما سمعت آنفًا، على أن ابن العز هذا قد نقل عن أبي يوسف مثلما نقل عن

أبي حنيفة أنه قال: (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه) .

أورد هذا عنه صاحب كتاب (إيقاظ همم أولي الأبصار) ثم أورد عبارة

أخرى فيها تشديد عظيم، وهي قوله بعد ذكر جواز ترك بعض المسائل في مذهب

لرؤية أن دليل المذهب الآخر أقوى:

(فمن يتعصب لواحد معين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى أن

قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة الآخرين فهو ضال جاهل، بل قد

يكون كافرًا يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع

أحد بعينه من هؤلاء الأئمة رضي الله تعالى عنهم فقد جعله بمنزلة النبي صلى الله

عليه وسلم وذلك كفر، بل غاية ما يقال إنه يسوغ أو يجب على العامي أن يقلد

واحدًا من الأئمة من غير تعيين زيد ولا عمرو، أما من كان محبًّا للأئمة مواليًا لهم

يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك، والصحابة

والأئمة بعدهم كانوا مؤتلفين متفقين وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة،

فإجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة

دون التابعين فهو بمنزلة من يتعصب لواحد من الصحابة دون الباقين كالرافضي

والناصبي والخارجي، فهذه طرق أهل البدع والأهواء)

إلخ، وفيه ذكر أن

التعصب للمذاهب كان من أسباب دخول الإفرنج إلى بعض بلاد المغرب الإسلامية

وامتلاكها يعني الأندلس ومن أسباب زحف التتار على بلاد المشرق وتدويخ

المسلمين فيها وقد ذكرنا هذا من قبل.

وأعجبني قوله: (يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو

محسن) وإن كنت أسمي هذا استرشادًا وتعلمًا لا تقليدًا إذ التسمية لا مُشَاحَّةَ فيها؛

لأن هذا القول موافق لقوله عز وجل: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ

فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-

18) ومفهوم الآية أن المقلد الأعمى الذي لا يميز بين الأقوال ولا يعرف من أين

جاءت ليس ممن هداهم الله، ولا من أولي العقول {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ

أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) وقد أصيب

المسلمون لهذه المخالفة بفتن كثيرة وأنواع من العذاب ولا تزال الفتن تعبث بهم

والأجانب تستولي عليهم، وأكثرهم غافلون عن أسبابها وعللها ولا حول ولا قوة إلا

بالله العلي العظيم.

المقلد: هل تذكر شيئًا في النهي عن التقليد للإمام مالك بن أنس رضي الله

عنه.

المصلح: نعم روى حافظ المغرب ابن عبد البر عن عبد الله بن محمد ابن

عبد المؤمن قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي حدثنا موسى

ابن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال أخبرنا معن بن عيسى قال سمعت مالك

ابن أنس يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق

الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) ورواه غيره أيضًا،

وروى أيضًا بسنده إلى مطرف قال: سمعت مالكًا يقول: قال لي ابن هرمز: لا

تمسك على شيء مما سمعته مني من هذا الرأي؛ فإنما افتجرته أنا وربيعة فلا

تتمسك به.

المقلد: ما معنى افتجرته فإنني لا أذكر أنني سمعت هذه الكلمة.

المصلح: يقال افتجر الكلام بالجيم إذا اخترقه من نفسه ولم يسمعه، ويتعلمه

من أحد، ويقال: افتحر الكلام والرأي بالحاء المهملة إذا اخترعه ولم يتابعه عليه

أحد، وأجدر بالمفتجر أن يكون مفتحرًا.

المقلد: إن هذا من محاسن لغتنا؛ ولكنه غير مستعمل.

المصلح: إن شأننا في اللغة شبيه بشأننا في الدين، ولات حين كلام في ذلك

فلنمض في طريقنا إلى غايتنا.

وروي عن مزين وعن عيسى عن ابن القاسم عن مالك رحمه الله تعالى أنه

قال: ليس كل ما قال رجل قولاً - وإن كان له فضل - يتبع عليه، يقول الله:

{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18) وروى سحنون عن ابن

وهب قال قال له مالك بن أنس وهو ينكر كثرة المسائل: يا عبد الله ما علمته فقل

به ودل عليه، وما لم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء، وجاءه

رجل فسأله عن مسألة فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال

الرجل أرأيت.. . فقال مالك {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63)

الآية، وقال لم يكن من فتيا الناس أن يقال لهم: قلت هذا، كانوا يكتفون بالرواية

ويرضون بها.

وهنا التفت المصلح إلى المقلد وقال: ألم أقل لك من قبل: إن عامة أهل العصر

الأول لم يكونوا مقلدين يأخذون بآراء العلماء؛ وإنما كانوا يأخذون بروايتهم؟ ثم قال:

وروي عن عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: (دخلت على مالك أنا ورجل آخر

فوجدناه يبكي، فسلمت عليه فردَّ عليَّ، ثم سكت عني يبكي فقلت له يا أبا عبد الله

ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قَعْنب أبكي لله على ما فرَّط مني ليتني جُلدت بكل

كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي

وهذه المسائل، وقد كان لي سعة فيما سبقت إليه. وفي رواية أخرى: فقلنا له:

ارجع عن ذلك، فقال: كيف لي بذلك وقد سارت به الركبان وأنا على ما ترى، فلم

نخرج من عنده حتى أغمضناه) أي فكان هذا ما لقي الله تعالى عليه، ومن المشهور

عنه رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر،

ويشير إلى الروضة الشريفة، وفي رواية: كل كلام منه مقبول ومردود إلا كلام

صاحب هذا القبر، وسنأتي في المجلس الآخر - إن شاء الله تعالى - عن غير ذلك

مما يؤثر عنه، وعن أكابر أتباعه ثم ما يؤثر عن غيرهم من الأئمة وأكابر العلماء

حتى يتبين لكم أنكم ما قلدتم إلا من تجزمون بعدم جواز تقليده، والله الموفق

للصواب، ثم افترقا على موعد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 567

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين

وحجج المسلمين

النبذة السابعة

ذكرنا في النبذة السادسة أن صاحب كتاب الأبحاث أورد سبع آيات من القرآن

العزيز وحرَّفها عن مواضعها لإثبات كتب اليهود والنصارى، وإلزام المسلمين

باعتقادها والأخذ بها، وبيَّنّا فيها تحريفه وكون الآيات حجة للمسلمين على اليهود

والنصارى لا العكس بالكلام على ثبوت آيات منها، وفي هذه النبذة نتكلم على

باقيها.

قال: (والرابعة تحكم بضلال المسلم الذي لا يؤمن بالتوراة والإنجيل إيمانه

بالقرآن) ونقول: إن الآية الرابعة هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ

وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} (النساء: 136) والمسلمون يعتقدون أن نبيهم جاء بالحق وصدَّق المرسلين،

وأمرنا بأن نؤمن برسل الله وكتبه السابقة؛ ولكن لم يكلفنا بالعمل بتلك الكتب لأنه

أغنانا عنها بكتاب أهدى منها لا نحار في روايته، ولا نضل في درايته، مشتمل

على جميع ما فيها من صحيح الاعتقاد، معصوم من التحريف والتبديل، محفوظ

من الضياع والنسيان، حاوٍ لما لا يوجد فيها من المعارف الإلهية كما سنبينه بعد

إن شاء الله تعالى، خالٍ من الإضافات التاريخية والآراء البشرية التي ألحقت

بما بقي من الكتب السماوية.

على أن هذه الآية قد اختلف المفسرون في المخاطبين بها، فقيل هم المنافقون

المؤمنون في الظاهر، المرتابون أو الجاحدون في الباطن، كأنه يقول لهم أيها

المدَّعون الإيمان بالله وكتابه ورسوله وسائر كتبه ورسله بأفواههم وظواهرهم، عليكم

أن تؤمنوا بقلوبكم وتطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب

لما روي من أن ابن سلام وأصحابه قالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك

وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه فنزلت الآية، وقيل: هم المسلمون مطلقًا

ولا يَعْتَدُّ المسلمون بإيمان مسلم إذا أنكر الإيمان بالأنبياء السابقين أو كذَّب كتبهم؛

ولكنهم لا يكلفونه بالبحث عنها والعمل بها؛ لأن الله تعالى أغنانا كما قلنا ولأنه قد

ضاع بعضها ونسي كما قال تعالى: {فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14)

وحرّف بعضها كما قال سبحانه: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (المائدة: 41) وكيف نأخذ بكتاب نسي حظ عظيم منه، ربما كان مبينًا ومفسرًا للباقي، أو فيه ما ليس فيه مما لا بد منه فيكون أخذنا به على غير وجهه، أو يكون ديننا ناقصًا ويصدق علينا قوله تعالى في أهل الكتاب: {أَفَتُؤْمِنُونَ

بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) الآية؟ ونكتفي هنا بالاستدلال

على نسيان أهل الكتاب حظًّا منه بالقرآن الكريم؛ لأن كلامنا مع الخصم في دلالة

القرآن على صدق الكتب، وسنثبته بعد بشهادة تلك الكتب وأقوال رؤساء

الديانة النصرانية.

قال: (والخامسة تبيّن أن أهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل كما كانوا

يعرفون القرآن) ونقول إن هذه الآية هي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن

نُّؤْمِنَ بِهَذَا القُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (سبأ: 31) ولا دلالة فيها على ما ذكر

حتى على تقدير أن المراد بالذي بين يديه الكتب المتقدمة؛ لأن سبب رفضهم

الإيمان هو دعوة القرآن ومن جاء به إلى ذلك الإيمان، أي أنهم قالوا: إننا لا نؤمن

بالكتاب الذي جئت به يا محمد وقلت إنه من عند الله، ولا نؤمن بالكتب التي قلت

إنها جاءت قبلك من عند الله، فأين الدليل في هذا على أن أهل مكة كانوا يعرفون

التوراة والإنجيل بذاتهما ويتدارسونهما وهم أميون لا يوجد فيهم، بل ولا في العرب

كافة من يكتب إلا أفراد لا يبلغون طرف جمع القلة - قيل إنهم كانوا ستة نفر -

والوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (سبأ: 31) أنه

يوم القيامة وما يتلوه من الثواب والعقاب وهو الأظهر.

قال: (والسادسة تبين إقرار محمد بصحة الكتاب ومساواته إياه بالقرآن)

ونقول إنه أورد الآية السادسة هكذا: (قل فأتوا بكتاب هو أهدى منهما - القرآن

والإنجيل - أتبعه) فانظروا أيها المنصفون إلى أمانة هؤلاء الناس في النقل، وإلى

تحريفهم في المعنى وهم يخاطبون المسلمين ويعرفون حرصهم على القرآن العظيم

وقد أنزل الله تعالى الآية هكذا: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا

أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (القصص: 49) أي أهدى من القرآن والتوراة لا

الإنجيل كما زعم مصنف كتاب الأبحاث، والدليل على ذلك قوله تعالى قبل هذه

الآية: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا

رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا

أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ

تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} (القصص: 47-48)(وفي قراءة ساحران)

وحكمة إسناد الكفر بموسى إليهم بيان طبائع الأمم وتشابه أطوار البشر حتى كأن

الحاضر عين الماضي، ولذلك قال الحكماء: التاريخ يعيد نفسه، والآيات حجة على

المكابرين وبرهان قاطع لألسنة المعاندين، وليس فيها ما يدل على المساواة بين

القرآن والتوراة في كل شيء فإن تعجيز المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله أهدى

مما جاء به موسى ومما جاء به محمد لا يقتضي أن ما جاء به أحدهما مساوٍ لما جاء

به الآخر، أرأيت لو قيل لجاهل بعلم المنطق ينكر على علمائه وكتبه: ألف لي

كتابًا فيه يكون خيرًا من كتاب إيساغوجي وكتاب (البصائر النصيرية) أتقول: إن

هذا القول يدل على أن الكتابين متساويين من كل وجه؟

قال: (والسابعة تبيّن الإقرار الصريح على أن التوراة صحيحة سالمة فيها

حكم الله، وأن متبعها ليس في حاجة إلى أن يُحكِّم أحدًا سواها) ، ونقول: إن الآية

السابعة هي قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} (المائدة: 43) هذا ما أورده المصنف منها وتتمتها {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا

أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة: 43) وهي لا تدل على ما قاله لما نبينه هنا تبيينًا.

الآية واردة في التعجيب من حال اليهود الذين يحكِّمون النبي صلى الله تعالى

عليه وسلم في بعض أمرهم، وهم غير مؤمنين به كالذين طلبوا حكمه فيمن زنى

من أشرافهم، وقالوا: إن حكم بالجلد أخذنا بحكمه، وإن حكم بالرجم فلا نأخذ به. مع

أن حكم الزاني منصوص عندهم في التوراة؛ ولكنهم يريدون اتباع الأسهل والأخف

ووجه التعجيب أن هؤلاء القوم ليس لهم ثقة بدينهم ولا إذعان لكتابهم، فهم

يحكِّمون صاحب شريعة غير شريعتهم، وشريعتهم التي يقولون إنها من عند الله

وفيها حكمه بين أيديهم، ومن العجيب أنهم لا يقبلون حكمه إذا هو وافق ما عندهم،

وهذا نهاية البعد عن الإيمان الصحيح الخالص بكتابهم، ولذلك قال تعالى بعد

استفهام التعجب من تحكيمهم {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة: 43) أي ليس إيمانهم بكتابهم صحيحًا لأنهم أعرضوا عنه أولاً فتحاكموا

إليك يا محمد، ثم أعرضوا عن حكمك الموافق له ثانيًا، أو النفي لصفة الإيمان

عنهم بالإطلاق، فيدخل فيها ما ذكر ويدخل فيها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

وما جاء به، أي أنهم فسدت نفوسهم وبطلت ثقتهم بالدين مطلقًا حتى لا يرجى منهم

أبدًا.

وظاهر أن القول بوجود حكم لله أو أحكام متعددة في كتاب الله لا يقتضي أن

يكون ذلك الكتاب كله صحيحًا سالمًا من التحريف، مشتملاً على جميع ما أنزله الله

تعالى، فإنني أقول إن كتاب السيرة الحلبية مثلاً فيه حكم الله، ولا أعتقد أن كل ما

فيه من الله تعالى، وأنه سالم من التحريف ولا حاجة لغيره، بل أعتقد مع هذا أن

فيه أقوالاً اجتهادية وآراء للمؤلف ونقولاً لا تصح، وإننا في حاجة إلى غيره.

يتصل الكلام

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 574

الكاتب: عبد العزيز محمد

تعليم القراءة والخط والرسم [1]

(المكتوب 31) من هيلانة إلى أراسم في 15 مارس سنة 185

لما يتعلم (أميل) القراءة ولا يكاد يعرف حروف الهجاء وربما كنت أنا

الملومة على ذلك؛ لأنني لم أحثه على التعلم إلا قليلاً، ذلك أنني لا أنفك أذكر تلك

الغضاضة والكراهة للتعليم الأول، وما سببه على ما أرى إلا الإكراه عليه وهضم

ما يجب لطفلة صغيرة مثلي من حق الحرية والاختيار، وأرى أن حملي أميل على

التعلم؛ لأن غيره يتعلم كما كان يقال لي جناية عليه لأن عاقبة هذه الحجة أن تطبع

الناشئ على التقليد الأعمى والاقتداء بالناس في جميع عاداتهم من غير تفرقة بين

الحسن والقبيح، لمَ نختار ركوب الصعب في هذا السبيل ولدينا المركب الذلول،

وهو حمل الطفل على التعلم بالتشويق والتنويه بما في المطالعة من اللذة، فقد

يستغني الإنسان عن الأشياء التي يجهل فوائدها ومزاياها.

أنا جاهدة في تلمس الوسيلة التي تنبه اشتياق أميل إلى الحروف المطبوعة،

وتبعث فيه الميل إلى معرفتها، وإذا علم أن القصص العجيبة والأساطير الغريبة

التي أفكِّهه بمُلَحها وأفاكيهها كلها مأخوذة من الكتب، فلم لا يجد به الميل وتحمله

الرغبة على أن يأخذ تلك الحكايات من مصادرها ويستخرجها من ينابيعها بنفسه في

يوم من الأيام؟ وإذا تولدت فيه هذه الرغبة يومًا ما فكل ما بعدها يتبعها من نفسه

وإنني لا أفتأ أنظر تولدها وانبعاثها الحسن فيه وقد طال تأخرها.

لقد صارت القراءة لنا حاسة سادسة بما رسخت ملكتها فينا، ومع هذا لم نحط

خبرًا بالعقبات التي تحول دون وصول الطفل إلى معرفة الحروف الهجائية بسهولة

أنا باحثة عما عساه يكون منشأ لهذه العقبات الثابتة الراسخة ويشق علي الوقوف عليه

فليت شعري أليس هو ما به الفرق بين علم القراءة والكتابة وبين سائر العلوم؟

فإننا نرى هذه العلوم يساعد بعضها على معرفة بعض، ويُعِدُّ متعلم أحدها ويؤهله

لفهم الآخر إذا هو انتقل إليه لما بينها من الصلة واتحاد طرق الدلالة، ونرى علم

القراءة والكتابة بخلافها نرى أنه لا صلة بين الأشياء وبين هذه الأشكال والرسوم

الصناعية التي وضعت للدلالة عليها، فإذا انتقل المتعلم من مسميات الأشياء إلى

أسمائها في الورق ينقطع الاتصال به فجأة، لا يصعب على أميل أن يميز فيما يراه

من صور الأشخاص المرسومة وجوه أصحابها إذا كان رآها؛ لأن الشكل في

الصورة والمصوَّر يكاد يكون واحدًا، فأما الاسم المكتوب فإنه لا يمثل له شخص

المسمى بحال من الأحوال، فهل توجد طريقة لربط هذين النوعين من الأشياء في

فكره وأعني بهما الرسم والكتابة؟ هذا أمر يُطلب منك.

أنا أكلم أميل بالفرنسوية، وهو يتكلم مع أهل كورنواي بالإنكليزية، فهو بهذه

الطريقة يتعلم لغتين من اللغات العصرية بلا مشقة، بل لا حرج علي إذا قلت بلا

شعور منه بذلك، إلا أنه يغلط فيهما غلطًا غريبًا فيمزج أحيانًا بعضهما ببعض مزجًا

يكون أشد من الأضاحيك استضحاكًا، مثل لنفسك غلامًا يقول مخبرًا لك بأنه يريد

الخروج (JE VOUDRAIS TO GO OUT ?) ألست تغرب لهذا الخلط ضحكًا؟ لا غرو فما كان تكوُّن اللغات المختلطة فيما سبق إلا في مثل هذه الحالة

وهي تجاور جنسين متمايزين واختلاطهما زمنًا في مكان واحد، أنا أعتقد أنني أعلِّم

أميل، وهو في الحقيقة معلمي؛ لأنه قد فتح عيني وهداني إلى عدة مسائل ذهب

تعبي في البحث عن حلها في الكتب سدى، وليت شعري هل تصدقني إذا قلت لك

إنه يعلمني التاريخ.

يعرف أميل الرسم والتصوير، وإن كان لمَّا يعرف القراءة والكتابة فهل وُلد

مصورًا ورسامًا؟ لا أنكر أن النظر إلى خرابيشه [2] يضعف هذا الاعتقاد أو يذهب

به بعيدًا؛ ولكنها على كل حال صور آدميين وحيوانات ومساكن وغير ذلك، ولا

يكتفي بأن يحاكي بالقلم العادي أو الرصاصي شكل ما يقع عليه بصره بحسب ما

يتفق له، بل أراه يحاول التعبير عما في نفسه من الوجدانات، وما في فكره من

الحكايات بما يرسمه على هذه الأوراق من خرابيش الخطوط والصور، انظر كيف

حاول أن يكتب إليك مكتوبًا، أستغفر الله قد أخطأت في كلمة يكتب وكلمة مكتوب،

وكان ينبغي أن أقول: يرسم لك خطابًا بربائيًّا [3] وإني لأخشى أن يصعب عليك فهم

الرسم الذي يرسله إليك، فأرجو أن أكون أنا في هذه الدفعة شامبليون هذا الرسم [4]

فأقول:

تربية إحساس الشفقة

والرحمة وحادثة غرق

يمثل لك الرسم ريحًا عصوفًا هبت لليلتين من شهر أبريل، وظلت تعصف

إلى الليلة الثالثة منه، وليس هذا مما يحصل هنا نادرًا، ولله بيوتنا؛ فإنا مبنية

بالصوان (وهو الحجر الكثير في الضواحي) ولولا ذلك لتداعت، أو لدكت بقوة

العواصف والأعاصير الشديدة التي تضطرب لها هنا السماء والأرض والماء، على

أن البحر لم يُرَ منذ سنين بمثل هذا الاضطراب الذي أحدثته هذه العاصفة، ولا يجد

الواصف لهذه الحالة وصفًا إلا أن يقول: إن حجاب الروع والفزع قد أُسدل على هذا

الكون الذي لا نهاية له.

لا يسمع من لغط الناس المشئوم في هذه الحال إلا أخبار الغرق والغرقى تتردد

من ساحل إلى ساحل، ولم يكن لخفراء السواحل يومئذ هم منذ طلع الصباح إلا

مراقبة البحر الهائج بمناظيرهم المقرِّبة للبعيد يصوبونها إلى الأفق من على تلك

الصخور الوعرة المحيطة بالخليج، وكانوا لا يكادون يُرَون في ضوء ذلك الصباح

الملون بخضرة البحر الحوَّاء (الضاربة إلى سواد) على أن أشعة أبصارهم قد خرقت

تلك الحجب الجوية، وعلم الناس أنهم ميزوا من وراء تلك الأمواج المتراكبة

المصطخبة سواد سفينة على بعد قد وقعت في شعب مخيف، فانكسر صاريها

الأكبر وتحطمت جوانبها، فسقطت تضطرب كحوت أصيب بجروح عظيمة،

فصار يتقلب على جنبيه، وكان مما يثير ثائر الخوف أن تلك الأمواج التي تهيجها

العواصف فتعلو فجأة كالجبال، كانت تتلاعب بتلك السفينة فتقذفها آنًا بعد آن بتلك

الصخور الصم، وصار يتسنى للإنسان في ذلك الجو المطبق المحزن أن يميز في

ضوئه السنجابي اللون أيدي الناس في السفينة تحرك قطعًا من الشراع.

لم يكن للناس حينئذ من أمنية إلا نجاة هؤلاء الغرقى على أنهم لم يكونوا

يجهلون صعوبة إنقاذهم وتعسره، نعم إن أهل كورنواي أولو شجاعة ونجدة؛ ولكنهم

مع ذلك أصحاب حذر وفطنة، هدأت الريح قليلاً بعد شروق الشمس كامدة شاحبة،

والبحر ما زال متماديًا في طغيانه، مصرًّا على عدوانه، فكان يخيل لرائيه يتحرك

بنفسه أنه أخذته حمَّى نافض من القاصف، فأحدثت فيه هذه القوة العجيبة في

الرعدة والاضطراب، وكان بعض الصيادين المحنكين يرمون بأبصارهم إلى

الأمواج يتتبعون حركاتها بأعينهم المدرَّبة، ثم يُنغضون رؤوسهم وتعلو وجوههم

كآبة اليأس، وكان لسان حالهم يقول: لا حول لنا ولا قوة على إنقاذ هؤلاء المساكين.

أتى على الناس نحو نصف ساعة يتراوحون بين اليأس والرجاء، كان

كنصف قرن، ذلك أنهم كانوا يرون بعض إخوانهم بين مخلب الموت ونابه، وهم

يرجون منهم النجدة؛ ولكنهم لا يجدون لإنجادهم سبيلاً، وبينما هم في هذه الحالة

إذا بزورق النجاة قد أُحضر، فصاح الناس صيحة واحدة كانت منبعثة عن جميع

الصدور، وهذا الزورق يُعِدُّه الملاحون للدواهي الكبيرة، وقد أُحضر بقوة السواعد

والخيول، ووُضع في مكان من الساحل يرجى منه الوصول إلى الغرقى، وما عتم

أن امتلأ بالناس على وهنه وخفته وعظم الخطر في ركوبه، وقد تحمل قوبيدون

الذي تطوع في هذه الخدمة منذ سنتين أو ثلاث، كل مشقة الذود عن مكانه وحفظ

مجدافه، وكان الذين ركبوا الزورق يحسدونه على شرف التعرض لمخاتل المحيط

وفخاخه، وما نجح في ذوده ودفاعه هذا إلا بقوة حقوقه المكتسبة بسابق هذه الخدمة.

أنزل الزورق في البحر، وانحنى المجدِّفون الجريئون على مقاعد تعلو نصفها

الأمواج، وأوغلوا في البحر وكان أميل على ما أرى يأسف أنه لم يكن له من السن

والقوة ما يؤهله لمساهمة رفيقه قوبيدون في هذه السياحة الدالة على جراءة الجنان،

وشرف الوجدان، وأراه قد اكتسب في هذا المشهد من العبرة بإخلاص المخلصين،

والأسوة بإحسان المحسنين، ما لا أبيح لنفسي التعبير عنه بالكلام، ومحاولة شرحه

بفصاحة البيان، لئلا أضعف من قوته، وأشوِّه من صورته؛ فإن حضور المشاهد

العظيمة، ورؤية الأخطار الكبيرة، تعلِّمنا بغير كلام، وتربينا بدون إلزام.

غاب الزورق ساعات والناس في قلق مميت، وإذا بصائح يصيح: ها هو ذا

راجع، وكان يقترب من الشاطئ حقًّا، والناس في ريب من نجاحه، وما كان أشد

شجاعته في مساورة غضب الأمواج الثائرة! ! أنا لا أشك في أنك تعرف ما تأتي

به صناعة الملاحة من هذه العجائب وتلك الزوارق المنشأة من الهواء والبلوط التي

هي في الخفة كالريشة، وفي القوة والمتانة كما يحب الخير ويرضى، كان يخيل

للرائي في كل لحظة أن الفواعل الجوية المصطخبة ستبلع بقوتها هذه الصدفة

الخشبية التي تطاولت بجراءتها إلى منازعة البحر في غنيمته؛ ولكنها تطاولت

فطالت وحاربت فظفرت، فكأن هذا الزورق كان إنسانًا يسبح، وقد أعطته جِنِّية

طلسمها ليتقي به مفزعات النوء، وما كان أبدع منظر رجاله والماء يتدفق من فوق

قلانسهم المشمعة وثيابهم المزيَّنة، وهم راجعون أعزاء ظافرين، وإن كان الموج

نال منهم وترك أجسامهم كأجسام الضفادع ونحوها من حيوان الماء، وقذف بهم

أحيانًا في مهاوي عميقة كبطون الأودية، وطفر بهم أخرى إلى فتن عالية كشعاف

الجبال يظهرون بها للأبصار في ضوء الشمس السقيم، ولو أنه نزع مجاديفهم من

أيديهم لبادروا لاسترجاعها بقوة، كما يأخذ الشجاع سلاحه من عدوه.

صاح قوم من الملاحين كانوا على صخرة قائلين (نجوا) .

فلما سمعت هذا الصياح شخصت ببصري إلى الزورق الذي كان يدنو من

الشاطئ دنوًّا غير محسوس، وأنشأنا نميز بين رجال الزورق: ثلاثة من الغرقى

شاحبي اللون شحوبًا مفزعًا، وفتاة صغيرة ليس فيها أدنى علامة على الحياة.

وصل الزورق بمشقة شديدة، ورسا في مرسى من المراسي المحمية بالخليج

فلم ألبث أن تلقفت بعض التفاصيل عن حادثة الغرقى فعلمت أن إنقاذ الغرقى كان

عسرًا خطرًا، وأنهم لقوا الألاقي الشديدة، ويُظن أنهم باتوا ليلتين على الطَّوى،

وقد وُجدوا معشِّشين كالطير البحري حول بقايا أدوات السفينة التي لم يدمرها البحر

كلها تدميرًا، ولا شك أنهم لما صاروا عرضة لجميع شدائد الجو تسلقوا هذا

الموضع الحرج عند اغتيال الأمواج سطح المركب، وثبتوا فيه بخوارق الشجاعة

وقد تعب منقذوهم في تخليص الحبال من أيديهم التي أيبسها البرد، وكانوا عاجزين

حتى بعد نجاتهم عن مدافعة النعاس الذي اسْرَنْداهم، ودفع النوم الذي أناخ عليهم

بكلاكله.

كان الناس يتساءلون: من هم ومن أين أتوا؟ ومما كان يزيد في سوء حالهم

أنهم ما كانوا يحيرون جوابًا؛ لأنهم لا يفهمون خطابًا، فحسبت أنهم يعرفون غير

الإنجليزية فخاطبتهم بالفرنسوية وبالألمانية، بل استنفدت جميع ما أعرف من

اللغات، فلم أر في وجوههم أمارة على فهم شيء منها، وكان في الميناء بعض

الملاحين الروسيين واليونانيين والزوجيين فلم يكونوا أسعد حظًّا في مخاطبتهم،

تجلت هذه الحادثة بشكل الأمور الغريبة، فكأن هؤلاء الغرقى في نظر الناس

أموات بُعثوا ولم يعرفوا لغات الأحياء.

وأما الفتاة الصغيرة التي يظهر أنها بنت خمس، فكانت نجاتها كمعجزة من

المعجزات، وكانت أبصار الملاحين قد زاغت دونها، ولم تهتد في الضباب الذي

أثارته الأمواج إليها؛ ولكن قوبيدون لمح بعينه التي تحاكي عين الفهد شبه كتلة

معلقة في بقايا أدوات السفينة، وخاطر بنفسه في التسلق لاكتشافها أشد المخاطرة

فألفاها بنتًا قد لفت في نسيج ولبوس، وعلقت على ارتفاع عشرين قدمًا وسط

الحبال المتقطعة، وكانت مغمى عليها من البرد والجوع والخوف، فأخذها وألقاها

في الزورق، فظلت غيبة نعاسها كذلك الطائر البحري الذي يُرى متخدرًا طافيًا على

سطح المحيط.

أُدرك هؤلاء الغرقى في الوقت الذي يجب إنقاذهم فيه، إذ لم يمض على ذلك

بضع ساعات حتى هاج البحر هيجة حطمت بقايا السفينة، وبددت ألواحها تبديدًا،

وكانت القرائن تدل على أنه لم ينج من ركابها إلا هؤلاء.

أُخذ الغرقى إلى ملجأ الملاحين ليساعدوا على ضعفهم، وطلبت أن تضم

البنت إليَّ والفضل كله في هذا البِر لإخلاص قوبيدون، ليت شعري من أي البلاد

هي؟ إن ملامح وجهها وشعورها الحالكة وجلدها الذهبي تدل على أنها من البلاد

الجنوبية، هل هي يتيمة؟ وهل غرق أبواها؟ ومن هو صاحب اليد التي علقتها

في بقايا الصاري، تلك أسرار محجوبة عني، ولكن الظاهر أنها ليست لأحد الذين

نجوا من الغرقى، ولا بد أن نقف قريبًا على خبر السفينة ومن فيها، وسأكتب إليك

بما أعلمه من ذلك، وأستودعك الله قائلة: إن من حبك أن أتأثر بمصائب الناس

وأهتز لها.

(حاشية)

عُرف اسم السفينة وهو (أياكوكو) وغرقاها من البورفيين الذين يتكلمون

بالأسبانية غير الصحيحة، هذا كل ما عُلم إلى الآن عن هذه الحادثة البحرية

المحزنة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب من كتاب‌

‌ أميل القرن التاسع عشر

في التربية والتعليم.

(2)

جمع خرباش أو خربوش: وهي الخطوط الفاسدة غير المنتظمة، ويقال خربش الخط.

(3)

البربائي: الخط الذي يوجد على جداران البرابي، وهي هياكل ومعابد معروفة في مصر.

(4)

شامبوليون هو أول من حل الخط البربائي والهروغليفي بقراءة حجر رشيد المشهور.

ص: 578

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ريشة صادق

نذكر هنا بمناسبة كون هذه الرسالة في موضوع تعليم الخط والرسم ما نوهت به

الجرائد اليومية من اختراع خليل بك صادق صاحب مكتبة ومطبعة الشعب ريشة

للكتابة تفضل أمثالها بخصائص، منها أنها تكتب عدة أسطر بغمسة واحدة في الحبر،

وقد أقبل الناس عليها كثيرًا.

_________

ص: 586

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(ديوان حافظ)

نوَّهنا بهذا الديوان من قبل ونشرنا مقدمته، وقد تم طبعه مشكولاً مفسرًا ما

يحتاج منه إلى الشرح بقلم جامعه الشاعر الأديب محمد بك هلال، ورأينا في باب

شكوى الزمان منه صورة مكتوب للناظم كان أرسله من السودان إلى فضيلة مفتي

الديار المصرية يدل على رسوخ عرقه وطول باعه في الأدب، وكان يومئذ بين

المدافع والقواضب، ومقارعة الجيوش والكتائب، لا بين الدفاتر والمكاتب، فرأينا

أن ننشره لما فيه من الإبداع والدلالة على أن الناظم شاعر في منظومه ومنثوره وفقًا

لمذهبه في المقدمة، قال جامع الديوان:

(وكتب من السودان الكتاب الآتي إلى واحد العلماء في مصر، وإمام فلاسفة

هذا العصر، نادرة الفلك ومعجزة الزمان الأستاذ الأكبر فضيلة الشيخ محمد عبده

مفتي الديار المصرية، وقد أثبتناه هنا وإن لم يكن ثم محل للنثر (كذا) لاشتماله على

كثير من القريض نضن بضياعه:

كتابي إلى سيدي وأنا من وعده بين الجنة والسلسبيل، ومن تيهي به فوق

النثرة والإكليل، وقد تعجلت السرور، وتسلفت الحبور، وقطعت ما بيني وبين

النوائب:

وبشرت أهلي بالذي قد سمعته

فما محنتي إلا ليالٍ قلائل

وقلت لهم للشيخ فينا مشيئة

فليس لنا من دهرنا ما ننازل

وجمعت فيه بين ثقة الزبيدي بالصمصامة [1] والحارث بالنعامة [2] فلم أقل ما

قال الهزلي [3] لصاحبه حين نسي وعده، وحجب رفده:

يا دار عاتكة التي أتغزل

بل أناديه نداء الأخيذة في عمورية، شجاع الدولة العباسية، وأمد صوتي بذكر

إحسانه، مد المؤذن صوته في أذانه، وأعتمد عليه في البعد والقرب، اعتماد الملاح

على نجمه القطب.

وقال أصيحابي وقد هالني النوى

وهالهم أمري متى أنت قافل

فقلت إذا شاء الإمام فأوبتي

قريب وربعي بالسعادة آهل

وها أنا ذا متماسك حتى تنحسر هذه الغمرة، وينطوي أجل تلك الفترة،

وينظر إليَّ سيدي نظرة ترفعني من ذات الصدع، إلى ذات الرجع [4] ، وتردني إلى

وكري الذي فيه درجت ردّ الشمس قطرة المزن إلى أصلها [5] ، ورد الوفي الأمانات

إلى أهلها:

فإن شاء فالقرب الذي قد رجوته

وإن شاء فالعز الذي أنا آمل

وإلا فإني قاف رؤبة لم أزل

بقيد النوى حتى تغول الغوائل [6]

فلقد حللت السودان حلول الكليم في التابوت، والمغاضب في جوف الحوت،

بين الضيق والشدة، والوحشة والوحدة، لا بل حلول الوزير في تنور العذاب [7] ،

والكافر في موقف يوم الحساب، بين نارين: نار القيظ ونار الغيظ.

فناديت باسم الشيخ والقيظ جمره

يذيب دماغ الضب والعقل ذاهل

فصرت كأني بين روض ومنهل

تدب الصبا فيه وتشدو البلابل

واليوم أكتب إليه وقد قعدت همة النجمين [8] ، وقصرت يد الجديدين، عن

إزالة ما في نفس ذلك الجبار العنيد، فلقد نما ضب ضِغنه عليّ، وبدرت بوادر

السوء منه إليّ، فأصبحت كما سر العدو وساء الحميم، وآلامي كأنها جلود أهل

الجحيم، كلما نضج منها أديم تجدد أديم، وأمسيت ملك آمالي إلى الزوال، أسرع

من الشهاب في السماء ودولة صبري إلى الاضمحلال، أحث من حباب الماء [9] ،

فنظرت في وجوه تلك العباد، وإني لفارس العين والفؤاد، فلم تقف فراستي على

غير بابك.

وإني أهديك سلامًا لو امتزج بالسحاب، واختلط منه باللعاب، لأصبحت

تتهادى بقطره الأكاسرة، وأمست تدَّخر منه الرهبان في الأديرة، ولأغنى ذات

الحجاب، عن الغالية والملاب [10] .

ولا بدع إذا جاد السيد بالرد [11] فقد يُرى وجه المليك في المرآة، وخيال القمر

في الأضاة [12] ، وإن حال حائل دون أمنية هذا السائل، فهو لا يذم يومك، ولا

ييأس من غدك، فأنت خير ما تكون حين لا تظن نفس بنفس خيرًا والسلام) اهـ.

هذا وليس الديوان على أسلوب واحد؛ فإن فيه ما جاء على طريقة المعري

فيلسوف الشعراء كبعض الحكم والرثاء والشكوى، وفيه ما يحاكي أسلوب أبي

نواس كبعض الخمريات، ومن هذا الشعر ما لا يود مثلنا من رجال الدين نشره،

وإن كان لا يكاد يخلو كتاب من كتب الأدب ودواوين الشعر العربية عن مثله

كالقصيدة التي نظمها عن لسان الشيخ الصوفي في معشوقه شكيب، وثمن الديوان

عشرة قروش أميرية، فليبادر إليه مريده؛ فإنه لا يلبث أن ينفد.

***

(لغة الجرائد)

كتب العالم اللغوي المشهور الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلة الضياء مقالات

في انتقاد لغة الجرائد، بيَّن فيها ما شاع استعماله بين كتَّابها، بل أكثر كتَّاب العصر

من الأغلاط في مفردات اللغة وتراكيبها، وقد عُني الأديب الفاضل مصطفى أفندي

توفيق بجمع هذه المقالات وطبعها، وقد زاد على ما كُتب في الضياء كثيرًا من

الكلمات والجمل المنتقدة، وجعل ثمن المجموعة ثلاثة غروش أميرية، وهو ثمن

قليل لكتاب نجزم بعظيم فائدته، وإن لم تتيسر لنا مطالعته لما لنا من الثقة بمؤلفه.

_________

(1)

الزبيدي: هو عمرو بن معد يكرب الشجاع الشهير في الجاهلية والإسلام، والصمصامة: سيفه المشهور.

(2)

الحارث: هو الحارث بن عباد من شيوخ العرب، والنعامة: فرسه، وكان مشهورًا.

(3)

الهزلي: هو نديم الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي، وكان لا يكلمه إلا جوابًا هيبة وإجلالاً، واتفق أن وعده بوعد وتثاقل في الوفاء؛ حتى خرج إلى الحج وكان الهزلي في حاشيته فمرا يومًا بدار عاتكة بنت عوف في مكة، فقال الهزلي للمنصور: يا أمير المؤمنين هذه دار عاتكة التي يقول فيها الشاعر: (يا دار عاتكة التي أتغزل) فعجب المنصور كيف بدأه الهزلي بالكلام، وعلم أن في ذلك نكتة فلما عادا إلى بغداد قرأ القصيدة حتى انتهى إلى قوله:

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم

مذق اللسان يقول ما لا يفعل

ففطن لإشارته الخفية، وذكر وعده فقام بوفائه لساعته.

(4)

يريد ترفعني من الأرض إلى السماء أخذًا من قوله تعالى: [وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ](الطارق: 11-12) والرجع: المطر سمي به لأن الله تعالى يرجعه وقتًا فوقتًا، أو لأنه يرجع إليها بالتبخر بعد أن ينزل منها، قال البيضاوي وعلى هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب، والصدع: الشق، تنشق الأرض بالنبات وبالعيون تتفجر منها.

(5)

يشير بهذه الجملة إلى التعليل الثاني السابق لتسمية المطر بالرجع.

(6)

رؤبة: هو الراجز العربي الشهير، وكان أكثر أراجيزه على روي القاف الساكنة، فضرب بها المثل في السكون قال المعري:

ما لي غدوت كقاف رؤبة قيدت

في الدهر لم يقدر له إجراؤها.

(7)

الوزير: هو محمد بن الزيات وزير مروان الحمار آخر بني أمية، اتخذ الوزير تنور العذاب لتعذيب من يؤمر بإعدامه، فكان هو أول من عُذِّب فيه بأمر مروان وقصته مشهورة.

(8)

النجمان: هما المشترى والزهرة كانوا يعتقدون أن لهما تأثيرًا في التأليف بين القلوب، ذكره شارح الديوان.

(9)

فسر الشارح (أحث) بأسرع، والمعروف في معاجم اللغة أن حثه على الشيء بمعنى حضه

عليه ولا يصح هنا.

(10)

الغالية: أخلاط من الطيب، والملاب - بالفتح - العطر السائل، فارسي الأصل.

(11)

يريد رد الجواب وإطلاقه بهذا المعنى من عرف المصريين.

(12)

الأضاة - بالفتح - غدير الماء، وضُبط في الأصل بالضم، وجعل على الألف عالمة المد، وهو غلط بالطبع ولم يفسره الشارح.

ص: 587

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رزء عظيم إسلامي

وفاة أمير الأفغان

نعت البرقيات العمومية في الأسبوع الماضي الأمير عبد الرحمن صاحب

أفغانستان أعقل أمراء المسلمين في هذه العصور الأخيرة وأبصرهم بالسياسة، بل

أعقل أمراء الشرق وملوكه، وأعلاهم حكمة، وأشدهم حزمًا، وأبعدهم رأيًا، ولا

أستثني ميكادو اليابان الذي ضربت أمته مع الأوربيين بكل سهم، وطاولت دولته

دول الغرب في كل أمر؛ فإن أمير الأفغان الذي حفظ استقلال بلاده وهي على ما

نعلم من مشكلاتها الداخلية والخارجية، لا يقاس به ملك كالميكاد يرتقي عند رعيته

إلى مرتبة الألوهية، ويُخضع له الخضوع الأعمى، وليس مطموعًا في بلاده من

أقوى دول الأرض كدولتي روسيا وإنكلترا الطامعتين في الأفغان، وقد نوهنا

بفضل هذا الأمير في أجزاء من المنار وسَنُلمّ بشيء من تاريخه في جزء آخر، وقد

انتقلت الإمارة لنجله الأمير حبيب الله خان الذي نرجو أن يكون استفاد من تربية

والده ودهائه ما يجعله خير خلف له، كما نرجو من إخوته وسائر أمراء الأفغان

ورؤساء قبائلهم أن يكونوا له كما كانوا لأبيه؛ فإن التفرق آلة الدمار، وعامل

الخسار، ونسأل الله تعالى أن يتغمد هذا الأمير برحمته ويعفو عن زلاته الاستبدادية

التي كانت نتيجتها خيرًا للرعية.

_________

ص: 591

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي

شاع من بضعة أشهر أن مولانا السلطان - أيَّد الله دولته - قد غضب على

صاحب السماحة الشيخ أبي الهدى أفندي غضبًا لم يغضب عليه مثله، وقد حقق مرور

الزمن الطويل ذلك، ويؤكد العارفون بأسرار الآستانة أن ثقة السلطان به قد زالت من

كل وجه؛ حتى أنه لا يفض ختم التقارير التي يرفعها إليه، وإن كُتب على ظرفها

أنها تتعلق بحياة السلطان التي هي أهم الأشياء وأجدرها بالالتفات والعناية، والتي كان

الإيهام فيها هو الوسيلة العظمى لقرب أمثال هذا الشيخ من المقربين الذين باعوا

مصالح الأمة والدولة بالحظوظ التي ينالونها من شغل مولانا السلطان بها، أما سبب

هذا الغضب المباشر فأقرب ما يقوله الناس فيه إلى التصديق أنه ثبت لمولانا السلطان

أن الشيخ كَاتَبَ سمو الخديو المعظم، وخضع له في حادثة (شكيب) المشهورة، مع

أنه كان يحاول دائمًا إقناع السلطان بأن الخديو طامع بالخلافة، أليس هذا الخضوع مع

هذا الزعم أعظم كفران بنعم مولاه؟

_________

ص: 592

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عودة أحمد عرابي

عاد إلى مصر من سيلان زعيم الثورة العرابية أحمد عرابي باشا بعفو من

سمو الخديو المعظم مبني على شفاعة ولي عهد دولة الإنكليز، ومن عموم الجهل

في القطر المصري أن أكثر أهله لا يزالون في أمر مريج من الاعتقاد بهذا الرجل،

فمنهم من يعتقد أنه كان يقصد نفع الوطن وخدمته بكل إخلاص، وأن السبب الأكبر

في فشله وخيبته إعلان السلطان عصيانه وخروجه، ومن هؤلاء أكثر العامة؛

ولذلك كانوا يتمسحون به تبركًا بعد أن صلى الجمعة في مسجد السيدة زينب رضي

الله عنها وعندما زار الضريح الحسيني، ومنهم من يعتقد أن سبب فشله هو الجهل

بما يحتاج إليه هذا العمل العظيم الذي تصدى له، ومنهم من يعتقد أنه كان بينه

وبين الإنكليز وفاق سري، كان هو السبب في مساعدة قنصل الإنكليز له في كثير

من مطالبه قبيل الثورة وفي أثنائها، ومنهم من يعتقد أن هذا الوفاق كان بينه وبين

الخديو السابق توفيق باشا ودولة الإنكليز لأجل استقلال البلاد المصرية وانفصالها

من الدولة العلية، ويظهر لنا صحة ما قاله البعض من أن أكثر الخواص يمقتونه

على كل حال؛ لأنه سبب ضياع استقلال بلادهم.

_________

ص: 592

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌من إدارة المنار

نرجو من قراء المنار الأفاضل في تونس أن يرسلوا قيمة الاشتراك حوالة على

إدارة البريد باسمنا، ونخص بالرجاء من لم يدفع عن السنة الماضية، ونرجو من

المشتركين في الدقهلية الاعتماد على توقيع الدكتور النطاسي نصر أفندي فريد طبيب

العيون بالمنصورة والدفع له.

_________

ص: 593

الكاتب: أحد الفضلاء

‌مفاسد لا موالد

لأحد الفضلاء

يصف المولد الكبير الأحمدي وبعض ما كان فيه من البدع والمنكرات

والتقاليد والعادات

إن صح ما يقوله علماء العمران من أن المعارض معيار تقدم الأمم وارتقائها

في الحضارة؛ لأنها السوق الذي تعرض فيه بضائعها وما حصلت عليه من علوم،

وما تحلت به من أخلاق وآداب، والزناد الذي باستيرائه يتجلى كامن القوة، ويتسنى

الانتفاع بما أودع الله فيه من صنعة الحكيم العليم - كان المولد الأحمدي هو أول

معيار يعرف به الحكيم الحاذق ما عليه أمتنا المصرية من الارتقاء في سلم المدنية،

وما أحرزته من مستلزمات الحضارة والسبق في ميدان تنازع البقاء، ويمكنه بعد

أن يجول في أنحاء طنطا في هذه الأيام جولة صغيرة، أو يجلس في محل مشرف

على طريق عام برهة من الزمن أن يستجمع من الأدلة والبراهين التي يشاهدها

بعيني رأسه، ويسمعها بأذنه ما يكفي لاقتناعه بأن يُصْدِر حكمًا قد رسخت قواعده

على أساس العدل على ما وصلت إليه الأمة في آدابها وأخلاقها، وهل هي من ذلك

في الدرك الأسفل أو الدرجة العليا، وإذا كان ممن يعرف شيئًا عن حقيقة الدين

الإسلامي تبين مقدار محافظة الأمة عليه، وقيامها به، واعتبر هذا المولد عظة

وذكرى لقوم يعقلون.

ولكن ما الذي يشاهده يا ترى؟ يشاهد طنطا وقد احتشد فيها أنواع الناس من

كل فج وناحية، وهي تموج بهم موجًا وقد ضاقت بهم أرجاؤها على رحبها، وقد

تخلل عشرات ألوف هذا الجمع المزدحم آلاف من الباعة لأنواع الألاعيب وملهيات

الأطفال والمناديل وأنواع الخردوات وسائر المعروضات، التي لو سألت عن

منشئها، ومن أين جاءت لأجبت لأول وهلة إنها من واردات البلاد الأجنبية، فليس

بين ما يعرضه الباعة من المصنوعات المصرية إلا النزر اليسير من تافه المبيعات

كالزمارات المتخذة من القصب الفارسي ونحو ذلك، وما بقي فمعروضات إفرنكية

في الحقيقة، وقلما تسمح نفس مصري بعرض مصنوع مفيد يكون من ورائه ترقية

حال الأمة في زراعتها، أو تسهيل الأعمال التي تزاولها من المهن الضرورية،

على حين نرى فيه الإفرنج يتسابقون إلى مثل هذه الأحوال فهم يعرضون في هذا

المولد طنبورًا رافعًا للمياه، يذكرون من فوائده أنه يسهل ري الأرض بدرجة لم

يسبقه بها من الآلات الرافعة إلا ما كانت إدارته بقوة الآلات الكهربائية أو البخار.

وقد رأيناهم يعرضون في المولد الذي قبل هذا أنواعًا من النوارج ومكينات

لفرط الذرة، وأخرى لغربلة الحبوب، وثالثة لطحن البن وما شئت من مصنوعات

تضافرت عليها أفكار وأيدي الإنسان، فكانت خير نتيجة أنتجها الجد وممارسة

العلوم {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .

إذا صرف العاقل نظره عن التأمل فيما يتبادل الناس بيعه وشراءه، وتأمل في

هذا الجمع المزدحم رأى أصناف الناس كأنما دعاهم داعي النشور، فقاموا مسرعين

إلى موقف فصل القضاء، قد اختلط الرجال بالنساء والكبار بالصغار، كل آخذ في

سبيله منصرف لما يريد، يُرى من بين هذا المزدحم فئات من الشبان قد التفوا حول

غانية هيفاء، وقد خرجت متبرجة تبرج الجاهلية الأولى، وبذلت أقصى ما تصل

إليه يد إمكانها من الزينة لتغري هؤلاء الأغرار باتباعها حتى يصلوا بها إلى ملهى

من الملاهي، ويكون هناك من انتهاك حرمة الآداب ما تقشعر منه الأمم العريقة في

الهمجية.

يرى الطبول تقرع وكاسات الفقراء ترن، والرايات الملونة خافقة في الهواء

وحاملوها يتمايلون كأنما سرت فيهم كهربائية الولاية.

أنا جالس الآن أشاهد الطريق الذي يمر منه الخليفة، وقد ازدحم الناس على

جانبي الطريق والإفرنج يشرفون من الكوى والشرفات ليشاهدوا ما يعمله المسلمون

من شعائر دينهم، ومن تحتهم تمر الخلفاء والنقباء وأرباب الأشائر وأبناء الطرق

بالأزياء المختلفة، وآحاد الناس قد احتضنوا الأبناء وعلى رؤوسهم الطراطير

المخروطية الشكل المختلفة الألوان، وهؤلاء الخلفاء - ما عدا خليفة السيد طبعًا -

يسير الواحد منهم وهو ممتط فرسًا ذلولاً، وقد أمسك بهذا الشيخ من جوانبه الأربع

فئة من مريديه، وهو يتمايل على أيديهم ذات اليمين وذات الشمال، وإلى الأمام

وإلى الوراء، وآخران قد أمسكا بزمام فرسه وهو على هذه الحال كأنما أُخذ عن

حسه واستغرق في مشاهدة الذات الأقدس، والبعض من هؤلاء المشايخ الأقطاب قد

أسبل على رأسه وجانب من نصفه الأعلى كساء من الصوف الأحمر أو الأصفر أو

الأخضر أو نحو ذلك، فلا يُرى من بدنه شيء، وبعض قد عرى رأسه وجسده إلى

ما تحت السرة، وانحسر اللباس عن رجليه إلى ما فوق الركبتين، فلم يستتر من

جسده غير سوأتيه، وهو في تمايله ذاك يخرج من فيه لعابًا يسيل من أشداقه كأنه

يتخذ هذه الحال عنوانًا على الرقي إلى حظيرة القدس أو التناهي في مقام القرب،

وكونه لم يبق بينه وبين مخالطة الملأ الأعلى وعالم الروحانيات شيء، وأمامه

وخلفه ثلة من الشيب والكهول والشبان بغريب الملابس قد استولى عليهم الجذب،

وشغل حسهم شهود الخالق في زعمهم، فهم يثبون وثبة القرد أمره سيده بمحاكاة

البرابرة يرقصون في ملاهيهم فائتمر، والناس يقرأ بعضهم الفواتح والبعض

يستغيث بهم والنساء تزغرط، وما شئت من هذا الباب واكتلت من هذا الجراب.

وبعد ذلك مرت الموسيقى وعلى جماعتها مظلة واحدة يبلغ قطرها ثلاثة أمتار

ونصف تقريبًا، وقد نُقشت بأنواع الأصباغ، فكانت مرمى نظر الجميع، ثم مر

الطبل التركي وخلفه أرباب الحِرَف وخَدَمَة القهاوي من البلاد المختلفة، وقد امتطوا

الخيول والبغال والإبل على أنحاء شتى وعلى رؤوسهم الطراطير الموصوفة، ولا

تسل عن عربات النقل (الكارو) المقلة للنساء والفتيات، وقد لبسن الطراطير،

وأخذ الحَرُّ مأخذه منهن حتى إن الواحدة ربما لم تجد شيئًا تحرك به النسيم سوى

نعلها، فتنتزعه من رجلها وتمر به أمام وجهها يمينًا وشمالاً تموِّج به الهواء تنفس

عن نفسها، وربما فعلت ذلك لتكون أضحوكة.

ومر بعد ذلك شخص أمامه موسيقى خصوصية، وقد اعتلى فرسًا وجعل على

رأسه كوفية ملونة ولف عليها عقالاً وضرب بفضل أطراف الكوفية على وجهه،

فلم يظهر منه سوى عينيه وشد على وسطه زنارًا ملونًا، واحتذى حذاء مما لا

يلبسه إلا السيدات، وحلَّى ساقه بخلخال لامع من الفضة، فاختلف الناس فيه أهو

مخنث أو امرأة تخفي أمرها، وبعبارة أخرى (هل هو الرجل الجديد أو المرأة

الجديدة) ثم مرت شرذمة من العساكر الفرسان بأيديهم السيوف، تتلوها أخرى من

الرجال بأيديهم البنادق، ثم غوغاء من الناس يذكرون الله لا يتجاوز الذكر حناجرهم

وقد تلجلج بصرهم ذات اليمين وذات الشمال، ثم سبعة من كناسي المسجد

الأحمدي بأيديهم سيوف أنحى عليها الصدأ وكر الغداة ومر العشي، وقد لبسوا

دروعًا وخوذًا أخلقتها الدهور لا قِراع الكتائب، والظاهر أنها كانت ما يُستعمل زمن

الحروب الصليبية، والناس يزعمون أنها كانت لباس الأسرى الذين احتملهم سيدي

أحمد البدوي من بلاد الكفار، وأمامهم حاملو البلط والسيوف الخشبية، ثم الخليفة

وعلى رأسه التاج المنسوب إلى السيد أحمد البدوي، وبجانبه الحراس من فرسان

العساكر والأهالي خيفة أن يختلس التاج أولاد نوح الذين يزعمون أنهم أولى به،

ووراءهم أخلاط المشاة والركبان بالأزياء المختلفة والبعض قد ضم إليه طفلاً ألبسه

خرقة خضراء وطرطورًا رجاء أن يعيش ويطول عمره، تتخللهم زعانف آخرين

كحملة المزمار والطبل البلدي والتركي، ثم الذين يركبون الإبل، وقد وُضعت بينهم

مائدة على ظهر بعير يلعبون عليها بالضمن والكوتشينة والنرد، ثم راكب على

جمل قد لبس حلة من شعر المعز وتاجًا أخضر محلّى بالقصب المخيش وحلة

خضراء، وأمامه ولد كذلك، وأمام الولد سفط مغشى بالنسيج الأخضر وغبيط

الجمل كذلك، وبعد ذلك ثلاثة نفر قد صبغوا وجوههم بألوان من الأسفيذاج

والسليقون واللاذورد وتزيوا بأزياء مختلفة وبيد كل منهم قرص من السرقين يموِّج

به الهواء ليستنشقه باردًا، وبالجملة لا يكاد يمر بالموكب إلا من غيَّر زيه وشكله

وخَلْقَه وخُلقَه.

هذه بعض صفات المولد الأحمدي الذي يعتقد كثير من الناس أنه من

مستثنيات الشريعة الغراء، وأن المبادرة إليه من أفضل القرب، وأن من زنى فيه

لا بد أن يتوب الله عليه، وأن موكب الخليفة الموصوف هو مهبط الأسرار الربانية

وأن ما يقع فيه من الأمور المخالفة للشريعة لا يقع إلا وقد سبقه الغفران، وهكذا

تلبس المساوي لباس الآداب الدينية وتلتصق الوثنية بدين التوحيد، وتعد المخازي

الهادمة للآداب والمروءة من دعائم الحنيفية السمحة، تبرأ الإسلام من ذلك وتعالى

الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

أكتب هذه السطور وأنا مشرف على موكب الخليفة من جهة يميني، وعلى

يساري كتاب فيه تاريخ الفراعنة في وثنيتهم الأولى أطالع وصف مواكبهم وأجيل

طرفي في صورة الموكب، فلم أقرا مثلما يلمح طرفي الآن مما يشوه وجه الآداب،

أو يناقض سمات الفضيلة، فخيل لي أن تلك الوثنية الأصلية أرقى من جميع

الوجوه مما لحق بالإسلام والتصق به من هذه الشعائر الوثنية الطارئة.

مررت على بيت فإذا فيه جماعة قد أخذوا بأيديهم المعازف من الدف والمزمار

البلدي والأرغول والناي، والجميع يعزفون بالأنغام، ومنهم ضارب على صنجة

رنانة من الفولاذ، ومعهم جماعة يتمايلون ويوقعون الذكر على هذه الألحان، ففي

أي دين جاء هذا، وفي أي قرآن شُرِع، وعلى أي رسول نزل؟ هذا القرآن الذي

جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ليس في آياته أمر يذكره تعالى في حال تمايل

الذاكر كتمايل الثمل أمام إناء بنت الحان فأمالته، ولا أن يكون ذكر الله على توقيع

ألحان المعازف، ولم يُنقل من أحواله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا الذي يأتيه

أعوان الضلال الذين يتبعون خطوات الشيطان وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

وهناك قوم آخرون يذكرون الله بأصوات منكرة مزعجة أذكرتني ما أخبرني

به بعض المدرسين بالجامع الأحمدي وهو أنه شاهد جماعة من هؤلاء في سفره إلى

الحجاز كانوا معه في قافلة وهم من المصريين، فأناخت القافلة في وادٍ بين جبلين،

فقام هؤلاء يذكرون (الذكر البيومي) في جوف الليل، فلما علا صوتهم وتردد

صداه في تلك الصحراء هاجت الجمال، وأخذت في أرجلها أطناب الخيام، وقلَّعت

الأوتاد، وذعر النيام، وساءت حال القافلة، فقام الأعراب ممتشقين السيوف

يتساءلون ما هذا الضجيج، فقال لهم ذلك المدرس هذا ذكر الله، فقال له أعرابي

جلف: ذكر الله به تطمئن القلوب، ولا تهيج منه الجمال.

هذا بعض ما رأيته في هذا المولد، ولو كنت ممن يغشى مواطن اللهو لذكرت

كيف تُراق دماء الآداب بإراقة دم بنت العنقود، وكيف تنحدر جداول الدراهم

والدنانير وتصب في خزائن باعة المسكرات، وكيف يأتون بالبغايا وينصبونهن

حبائل لاقتناص الوارثين من أبناء الموسرين، وكيف يخرب هؤلاء الأغرار بيوتهم

بأيديهم وأيدي الخواجات، ومن وراء ذلك سوء المنقلب وبئس المصير.

وفي الختام أقول إن السيد أحمد البدوي رضي الله عنه لو كان حيًّا يمشي على

رجلين، وينطق بلسان وشفتين، ودعا أهل القطر المصري لعمل من الأعمال

الخيرية يعود عليهم بالخير العاجل والثواب في يوم الجزاء، لما لقي منهم إلا

إعراضًا، بل لو قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى مثل ذلك لما كانوا

له إلا كما كان عبد الله بن أبي بن سلول فإلى متى لا نرى من الحكومة إلا المساعدة

على هذه المنكرات، ولا نبصر من العلماء إلا الإقرار على هذه الموبقات.

...

...

...

... ع. ن

_________

ص: 594

الكاتب: محمد أفندي كرد الدمشقي

‌الاستقلال والاتكال

بقلم الكاتب الفاضل محمد أفندي كرد علي الدمشقي

يطالع المستفيد مئات من كتب الفلسفة والأدب وعلوم العمران، فلا يعتم أن

يستقل منها ما يأخذ مأخذه من العقول، ويُحْدِث أثرًا في النفوس، ولا عجب فقد

تنصرف وجهة الألوف إلى خدمة العلم وبث الملكات الصحيحة، فإذا فوضل بينهم

ووُضعت أعمالهم في ميزان النَّصفة، وعلى محك الاستبصار يكثر الشائل ويقل

الراجح، والمؤثرون في الأفكار في كل الأعصار والأمصار أندر من الغراب

الأعصم والكبريت الأحمر، على أن كل من بذر بذورًا طيبة لا ينفك مثلوجًا فؤاده

مهما تأخر نباتها وإيتاؤها لعلمه بأنها ستؤتي أكلها عاجلاً أو آجلاً إذا لاءمتها طبيعة

المنبت، وأحسنت تعهدها أيدي القائمين عليها.

وقد وقع شيء من هذا - إن صح حدسي - للكتاب الذي ألفه المسيو آدمون

ديمولان الفرنساوي، وعرَّبه أحمد فتحي بك زغلول المصري المسمى (سر تقدم

الإنكليز السكسونيين) فإنه أثَّر في الفرنسيس أثرًا حسنًا، وسرى قول مؤلفه في

بلاد الإفرنج منذ نحو خمس سنين، فترجم إلى لغاتهم وتناولته ألسن الناقدين

والمسلِّمين، وعاد بعض المنشئين يرون رأي صاحبه وينطقون بلسانه ويكتبون

بقلمه، ودل كثير من أهل العلم على مواقع الفساد من تربيتهم، ونقص الاستعداد

من عاداتهم، وأشاروا إلى تخلفهم في حلبة تنازع البقاء عن جيرانهم الألمان

والإنكليز والأميركان تخلفًا يخشى معه أن يبتلعهم الجنس السكسوني فيكون مستقبل

العالم له دون سواه.

هكذا يقولون: وغير منكر أن الفرنسيس نفعوا الإنسانية نفعًا لا ننكره،

وكفاهم مُفاداتهم بأبنائهم مرارًا تخفيفًا من سلطة الملوك، ورفعًا لغشاوة جهالة ظلت

مسدولة على أوربا قرونًا جعلتها وراء شعوب الأرض، فخلعت ربقة الاستعباد

وقررت حقوق الإنسان وقواعد الحرية والإخاء والمساواة، ونشرت المعارف في

الأطراف حتى ابتذلت واشترك في الأخذ من بحرها المحيط عامة الطبقات، فأصبح

الحرَّاث الفرنساوي يقرأ ويكتب ويفهم أكثر من بعض من ندعوهم بالمنوَّرين في

بلادنا، وما يأخذه الآن بعض علماء الفرنسيس على أمتهم إن هو إلا من باب

الاستزادة من الفضيلة، والدعوة إلى الكمال، والسبق في ميدان التغلب والسيادة،

نعم إنه ليُستنشق من غالب المكتوب رائحة الغرض، ويعترض على بعضهم

مبالغتهم في وصف أعراض الضعف حتى أوشكت الفائدة أن تضيع، ويُنسب كل ما

يخطونه إلى التشيع والتحزب، ويؤيد ذلك أن ما يُكتب صادر من بلاد تأصل فيها

الانشقاق الداخلي، وراجت بضاعة الأحزاب وساد فيها تباين الآراء، فلا يكتب

الملكي أو الكهنوتي إلا ويرمي ببصره إلى القديم يمجده، والتليد يبكيه وينشده، ولا

يجهر الجمهوري إلا ويفاخر بما تم على يديه من ارتقاء ونماء، ولا ينبري

الفوضوي أو العدمي أو الاشتراكي إلا ويستدعي الأمثلة ويستجيش البراهين إعلانًا

بدعوته واستتمامًا لرغبته؛ ولكن فرنسا ما زالت بفضل أساسها القديم أم المدنية

وربيبة الحضارة، وإن تقهقرت في سياستها وأخلاقها فلمرتبتها الميزة على سائر

الشعوب الأوربية خلا السكسونيين؛ ولكن صحة الوطنية التي عُرف بها مساعير

أبطالها ومشاهير رجالها جعلتهم اليوم يفرطون في النصح والقدح.

استقلالهم

وبعد فإن الأمم من حيث كيانها قسمان: استقلالية واتكالية، فالأمة الاستقلالية

هي التي طُبعت على حب الانفراد، يعتمد كل فرد منها على نفسه لا على حكومة

ولا جمعية ولا حزب ولا عشيرة ولا أسرة.

وإنما رجل الدنيا وواحدها

من لا يعوِّل في الدنيا على رجل

ومثالها الشعوب الإنكليزية السكسونية.

والأمم الاتكالية هي التي يعتمد أفرادها على مجموعها من الأمة أو الدولة،

فيتوكأ كل فرد على غيره، وأعظم مثال لها الأمم الشرقية حاشا سيدتها الأمة اليابانية

العظيمة؛ فإن التربية الاستقلالية عندها على ما يبلغنا قائمة على أعظم هياكلها،

وأبناؤها أبعد المشارقة عن النشأة الاتكالية.

وبديهي أن العلم وحده لا يكفي في سعادة الشعوب ما لم يُقرن بالعمل، وفرنسا

وقعت مع من وقع في مثل ذلك من أمم الخليقة، فزاد فيها التكالب على المصالح

الهينة والوظائف اللينة، فكثر فيها الموظفون والمحامون والأطباء والمهندسون

وأهل الصحافة والأدب بحيث تعذَّر قبول من تخرجهم المدارس العالية باسمها فسدَّت

في وجوه الناشئة أبواب الرزق؛ لأن معظمهم يرى السعادة أن يعيش في باريس

ونحوها من المدن الحافلة ليستمتع برفاهها وأنسها، ولو عاش في قل، وزهدوا في

الاشتغال بالصنائع الحرة كالفلاحة والصناعة والتجارة وذلك غير معهود عند من

كان دمه سكسونيًّا، إذ لا يرى حطة عليه أن يحترف أية حرفة كانت مهما كان

علمه واستعداده ليضمن لنفسه وذويه مرتزقًا فسيحًا وعيشًا استقلاليًّا لُبابًا، فإن لم

يجد ما يعمل في بلاده يغادرها ليستعمر مكاننا آخر من الكرة، ويستوي عنده العيش

بلندن أو برلين والعيش في زيلندة الجديدة أو مستعمرة الرأس أو زنجبار، وإن

شئت فقل في أقاصي صحارى أفريقية حيث الوحوش ضارية، والسَّموم لافح

والعيش مرُّ المذاق.

وتأييدًا لذلك أنقل هنا ما صرَّح به أحد علماء الأخلاق من الفرنسيس بهذا

الشأن قال: (يزعمون أن شهادة العالمية عندنا باب يدخل منه إلى كل سبيل،

وتسلك بحاملها في كل مسلك، وهي على التحقيق لا تفتح إلا ثقبًا كبيرًا هجم عليه

أصحاب الرغبات من كل صوب، فاستغرقت الحِرف الشريفة ووظائف الحكومة

جملة، بحيث وجب على الأمة أن لا تساعد على شر ما برح يتفاقم أمره منذ سبعة

قرون حتى صار جرحًا نغَّارا وضربة مبرِّحة، وأعني بذاك الشر داء الاستخدام

والتوظف.

لا جرم أن الحركة التي بدأت طلائعها في فرنسا زمن فيليب الجميل أزعج

أمرها على عهد لويس الرابع عشر فزاد الحال إشكالاً على إثر عودة الملكية إلى

فرنسا، واستيلاء أسرة بوربون على منصة الحكم، وصار على عهد الجمهورية

الثالثة الحالية أدهى وأمر، فإذا نشأ الأبناء على آسال آبائهم ولم يصلح حالهم

يضيعون مجد أسلافهم، ويخربون مملكة قويت على الحوادث على حين تعدهم

عدتها في شدتها وبيدهم إنقاذها وإسقاطها.

فالجيل الفرنساوي الحاضر سيئ حاله ومآله، وهو إلى الكسل والجبن أميل

منه إلى العمل والنصب، حتى يصح أن يقال إن البلاد به أضاعت من فتائها،

وأمست تسير إلى فلاة فنائها، ومن الأسف أن فرنسا التي كانت على مر العصور

في مقدمة من يحسن الأعمال، وأول مثيرة لكل نجاح هي اليوم من حيث تهذيب

أبنائها متقهقرة عدة قرون إلى الوراء، وكأن تعاليمها الآن هي عينها في القرون

المتوسطة التي تركت ألمانيا وشأنها إلى أن علا صوت جهوري من الشاعر كيتي [1]

يبين للألمان مواقع الضعف، ومزالق المقاتل، ومداحض المخاطر، ويقود الأفكار

إلى الحملة على كسر القيود ونزع رِبَق الرق وتجديد جدة الشباب، ينادي يا قوم

هؤلاء الإنكليز أمعنوا في حالهم، وانسجوا على منوالهم، فإنكم وإياهم سواء في

القيم، فما ضركم لو باريتموهم في الهمم؟ عملكم قليل ولا تحسنونه وقلما تنهضون

بأعبائه، وليس لكم نصيب مما أوتوا من مميز الواجب الشخصي والكفاءة

الشخصية، وهما دعامتا القوى التي تشتد بها سواعد الملل، ولما كان كيتي يصرح

بهذه الأفكار كانت ألمانيا بعيدة عن معاناة التجارة مقطورة في مؤخر الشعوب، ولم

تمض على ذلك مئة سنة حتى استولى أنصار ذلك الشاعر الكبير والمتعظون بأقواله

على محور التجارة، فهاج نشاطهم قلق الأمة التي حذوا حذوها، وإن الإنكليز

لينظرون اليوم نظر المرتجف إلى انبساط ظل النفوذ الألماني بهذه السرعة والقوة،

ويزعمون أنه لا بد من أن تخلف طوابع البرد الجرمانية الطوابع الإنكليزية قريبًا.

كل هذا نتيجة تغير التربية وانتشار المعارف بين الأفراد وكثرة الكفاءات في

كل فروع العمل، فمن العقل والحالة هذه أن يتدرع الفرنسيس بسلاح من العمل

مفيد، ويعتاضوا من الركوب على متن عمياء بالجري في طريق جديد من إتقان

المبادئ الصحيحة والأخلاق الفاضلة.

من رقاعة الفرنسيس أن يعتقدوا علو كعبهم في كل منحى ومنزع، ولو ذهب

أحدهم إلى ألمانيا ودرس أحوالها عن أَمم لرأى شعبًا كان يشكو مما نشكو منه داء

أصيب به زمنًا فشفى نفسه من أوصابه، يرى السكسونية مجسمة بأبهى مظاهرها

فيقدس كارلايل [2] ظهيرها ونصيرها، ويقيس حاله بالإنكليز على أنهم سباق غايات

وأصحاب آيات بينات، ثم إذا قضى من تينك المملكتين لبانته، وعرف بالنسبة

إليهما حالته، يركب البحر المحيط الأتلانتيكي ليتبصر فيما تورثه جُدُد الفضائل في

هذا القرن الحديث، وينجلي له الفرق بين رغائبه ورغائب الأميركان.

لفرنسا نظارة للمعارف العمومية، ولأميركا مدرسة للتربية، فالأولى تُعَلِّم

والثانية تُربي، الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها والثانية تعلم مبادئ يسيرون

عليها، تُعِدُّ فرنسا أدمغة لحفظ قانون وتهيئ أميركا أذرعًا للعمل، الأميركان رجال

عمل، والفرنسيس ليسوا كذلك، يغرس الأميركان في نفوس ناشئتهم شهامة الإرادة

التي لا تجدي أجمل الهبات الخلقية بدونها، ولا يكون العلم نفسه إلا عطلاً من النفع

مع فقدها، وهذا هو القانون الذي سنه لهم فيلسوفهم إميرسون [3] تلميذ هيكل [4]

الألماني القائل في فلسفته: إن الحياة ليست شغلاً عقليًّا، ولا مناقشة ومهاوشة، بل

الحياة إنما هي العمل، ولقد عُلق في أعلى باب كل مدرسة بأميركا شعار معناه: إن

تهذيب الخلق أسمى غاية للمدرسة، وعلى الشبان أن يُحسنوا معرفة الحياة بإرادة

ثابتة) .

ثم توسع الكاتب في بيان نقص تربية أبناء وطنه وعاد يقول:

(يلزمنا رجال مهذبون لا رجال متعلمون، وفي فرنسا طبقتان من المدارس

أولاهما للصغار، وثانيتهما للكبار، وبعبارة أجلى: مدارس الصناع ومدارس

المفكرين، أما حسن التربية الإنكليزية السكسونية ورجحانها على التربية الفرنساوية

فهي قائمة فيما أوتيه البعض من الصفات الشخصية مثل المروءة وحسن الخلق

والحصافة والبداهة والجرأة والإقدام على المشروعات والاكتشاف والافتتاح

والمخاطر، فبدلاً من أن تنمي فرنسا في نفوس أبنائها هذه الصفات تغرس فيهم

ملكات حب التآلف والاجتماع، ثبت فيهم التأثر بدل المروءة، وتبث فيهم الخشية

من أقوال الناس، فيشاكل المرء الجمهور بأقواله وأفعاله بدل تنشئتهم على خلق

يبقى فيه الانسان مستقلاًّ بنفسه، وبدل الحصافة التي يتأتى بها للمرء إيجاد الأشياء

بذاته تقوِّي فيه ملكة الذاكرة التي تعيد عليه ذكر الأشياء التي يحفظها مما عثر عليها

غيره بالتجارب، وعوضًا عن البداهة التي يتمكن بها المرء من تطبيق ما أوجده

بنفسه تبث فيه الثقة، فيصبح عرضة لأغراض حكامه، وبدل الجرأة تبث فيه

الحذر وبدل الإقدام على المشروعات والفتوح والاستنفاض - فتح البلاد - تبث فيه

ملكة الاقتصاد والسلم وحب السكن، وبدلاً من اقتحام المخاطر تحسن له الرضا

بالاستخدام)

ثم أَجْمَلَ الكلام هنا على الفلاحين والصناع والتجار والعَمَلة من مجموع الأمة

الفرنساوية، وانتقل إلى الخيار من قومه وعنى بهم العلماء والفلاسفة وأهل البصر

فقال مستندًا إلى أقوال العلماء:

(إن دماغ الجنس السكسونى متمدد ومحدود، وذكاءه تحليلي، وجنسه جنس

العمل والكد، وعلى عكسه دماغ الجنس الفرنساوي فإنه موسع وذكاؤه تأليفي، وهو

خيالي يعشق التصورات، وبالجملة يُعنى الجنس الأول أبدًا بالحقائق على حين

يفضِّل الثاني الأفكار والخواطر، يجيد السكسوني في الغالب القيام على الأعمال

المادية وبعض الفرنسيس يحرزون قصب السبق في ميادين الذكاء المتسعة الأطراف.

ألا وإن قيمة الجنس السكسوني بمجموعه، وقيمة الجنس الفرنساوي بخياره،

فالإفرنسي المتوسط لا يساوي الإنكليزي المتوسط، والإفرنسي العالي يساوي أكثر

من إنكليزي عالٍ؛ ولكن الخيار من الفرنسيس لا يشغلون المكانة التي يستحقونها

لأنهم مغلوبون للأخلاق الحالية غير مستوفيي شروط النفع ولا تامي أدوات التهذيب.

وأنجح طريقة يجب على فرنسا سلوكها تحسين تربية خيارها، وتربية

أفرادها ومزج الخاصتين السكسونية والإفرنسية، وتطبيق تربية جمهور الإنكليز

علي تربية خيار الفرنسيس ليأتي الغد ولفرنسا من وراء هذه التربية شعب صغير

كالشعب الآثيني يَهَبُ لها فاتحين ذوي أفهام، ورجالاً صحاح الأحلام، يساوون

الجيوش ويوازون كل عدد وعدة ويخدمون أمتهم خدمة أرخميدس [5] وينقذون وطنهم

إنقاذ تميستوكلس [6] اهـ

اتكالنا

بمثل هذا اللسان يخاطب الكتاب الفرنساوي أمته ويقرِّعها تقريعًا أمرّ من

الصاب والعلقم؛ لتستفيق من غشية تخشى مغبتها، وتفلت من الوقوع في مخالب

أسود السكسون لئلا يكون حظها في الوجود حظ الأمم البائدة كالرومان واليونان

والفرس والعرب، وما القصد من إيراد كلامه بنصه إلا ليحصل التمثيل بيننا وبين

أمة نشابهها في الأعراض، وإن كانت أعلى منا جوهرًا.

ولعله يخيل لبعض سكان هذه الديار أن الفرنسيس مثلهم في الانحطاط، وأن

لهم بهم قدوة حسنة وأعظم سلوى؛ ولكن شتان بين حالنا وحالهم ورجالنا ورجالهم

وحضارتنا وحضارتهم، أمة تشخِّص الداء وتفكر في وصف الدواء، أو تشعر

بنقصها وتسعى إلى كمالها، وأمة موقنة بأن داءها عين الصحة لا بأس عليها ولا

خشية من ناحية حياتها، يرضيها نقصها فلا تريد استبدال غيره به، وكل من

محضها النصح رمته بانحلال عقدة الوطنية والمروق من عهود الحمية وصدق

التابعية.

لا جرم أن الرجل الفرنساوي الراغب في الاستخدام لا يشبه الرجل المصري

أو السوري أو العراقي مثلاً؛ فإن الأول يستعد ليحسن الاضطلاع بما يوسد إليه من

أمر أمته، ومعظم هؤلاء على نقص في المدارك وانحطاط في الفضيلة يطمحون

إلي السعادة والسيادة بلا سابق معرفة سوى أواصر القربى أو التقرب أو أواخي

المؤاخاة والتزلف أو وشائج الدرهم والدينار.

ولقد أصبح من الرأي المقرر بين الناس أن كل من ليس له علاقة بالحكام

كعضو أصيب بالآكلة لا حيلة فيه إلا بالبتر أو الموت، بيد أنه لا تثريب على

الفقير إذا رشح ابنه لأي خدمة كانت ليرتفع بها من الدنية ما دامت البلاد صفرًا من

أصناف المعاش الذي يزعج صاحبه عن العيش الاتكالى، ويورده موارد الاستقلال

بل اللوم كل اللوم على رجل يُعَدُّ من نواصي أهل وطنه وعليتهم، وله من العقار

والقرى ما يسد عوزه وعوز مئات معه، وهو على ما له من الاعتبار بين جيله

وقبيله يُسِفُّ إلى الاستخدام في وظيفة ليتباهى بها أمام العدو والصديق.

أعرف رجلاً في إحدى مدن سورية الحافلة له عراقة في محتده وأصالة بين

قومه وسعة من دنياه، وتراه مع هذا يصرف نهاره وليله في نيل الزلفى من الأمراء

كبتًا لخصومه، فيبذل كل عام في هذا السبيل من الصفراء والبيضاء ما يكفي لإعالة

ألف نسمة من أصحاب البأساء، وكلما طعن في السن يزداد غلوًّا في مباديه،

وإصرارًا على نكاية أعاديه، وهو دائمًا أجول من قطرب، وأشغل من ذات

النحبين، ومساعيه أبدًا مخفقة وآماله مخيبة، وهكذا حال خصمه اللدود له مال

وبنون ومقام بين أهل حيه كريم؛ ولكن لا يهدأ له بال إلا بالجلوس على أرائك

الحكم ومقاعد التصدر يتلمس لبنيه إذنًا بملازمة الدواوين مزاحمة لأولاد الفقراء

ليستأثروا بعد بالرواتب دونهم، وينالوا المعالي بنفوذ والدهم عفوًا صفوًا.

ولو عقلا لاستعاضا عن التلهي بهذه السفاسف بإدارة شؤون مزارعهما الواسعة

وتحسين طرقها، وتنمية غلاتها وثمراتها؛ ولكن هو حب الرئاسة يستلب الألباب

وفي الأمثال (يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة) .

ولطالما سمعنا أن فلانًا غادر سكنه ومسكنه تاركًا دخلاً يكفيه وعياله لأن

يعيش عيش الاستقلال فيوكل به من يسرق نصفه لينتظم في سلك الموظفين، ويأخذ

من استخدامه ما يوازي النصف الذي فقده بغيابه ويغتذي من دماء الأمة سحتًا بحتًا

وحرامًا محضًا ليقال عنه أنه من الموظفين ويخاطب بالفضيلة والسعادة، ثم إذا كثر

سواد أقرانه يقضي حياته قلق الضمير، وربما أنفق كل ما يملكه من تراث آبائه

ليرتقي إلى وظيفة أعلى من وظيفته ويسبق من سبقوه أو هم لاحقوه، وما

الموظفون في الحكومات الاستبدادية براغبين أن يعدوا من ممثليها ليحموا ما يملكونه

من اعتداء المعتدي وتعسف الظالم كما هي دعواهم، بل ليكونوا جلادين في تلك

الدولة ويسوِّغ لهم إتيان كل منكر أرادوه بلا وازع ولا رادع.

ألا وإن الأمثال لكثيرة على من آثروا العيش الاتكالي ورضوا بالإسفاف إلى

الدنايا كأصحاب الأوقاف ممن يرضون بالكفاف من العيش، ويقنعون بدريهمات

تأتيهم من وراء أجدادهم، أضف إلى زمرتهم من حبسوا أنفسهم في الصوامع

والجوامع مثل المدرس والمؤذن والخطيب ممن يكتفون بالنزر من المشاهرات

يقبضونها ببذل ماء المحيا، ويصرفون لأجلها من الأوقات ما لو صرفوه في بيع

الثرى لأثروا به، ثم يرقبون ما يأتيهم من أجور الطلاق والمناكحات ويتلمظون

بطعام الولائم والوضائم، ويقنعون بتقبيل الأيدي ومصافحة المريدين، وكذلك حال

الرهبان والقسيسين وسائر من يتصرف باسم الدين، وهم فائضون عن الحاجة

فكلهم يتقربون بالفاقة إلى مولاهم، ويستوكفون أكفَّ الصدقات، وينظرون قيم

الصلوات والدعوات، وهذا الخُلُق مستحكم من المسلمين بحكم التربية أكثر منه

بغيرهم من الطوائف.

إليك شرح الاتكال المجسم الذي شكا منه كبار الفرنسيس، وهو عندنا في

أرقى درجاته، ولا نشكو ولا نتبرم، وأما شكواهم من كثرة المرشحين للحرف

الأدبية فيقابله شكوانا من قلتهم إذا لم نقل من فقدهم، يعوزنا الصحفي العلامة

والطابع الماهر، والطبيب النطاسي، والمحامي الحاذق، والاقتصادي المدرَّب،

والرياضي المنجذ، والطبيعي المتعقل، والمهندس الفطن، والسائح الثابت،

والممثل الفاضل ممن تبرم بكثرتهم في فرنسا صاحب سر تقدم الإنكليز السكسونيين

ولكننا نحن في غنية عن هذا العدد الدثر من الحاجب والكاتب والمصاحب

والجاسوس والمسجل والرئيس والمرؤس، بل وألوف مؤلفة من أصحاب الرواتب

بلا عمل الذين يأكلون مال الأمة بالباطل، ويعيشون على عاتقها حملاً ثقيلاً، فلا

هم بوجودهم ينفعونها، ولا هم عن مغرمها غافلون.

أين حال الأغنياء والأعيان المتهافتين على المناصب في بلادنا من أهل تلك

الطبقة في إنكلترا مثلاً حيث الحكومة تخطبهم، والشعب يطلبهم، وشتان بين

خاطب ومخطوب.

كتب أحد سراة بريطانيا إلى صديق له يقول: (دع الناس يطلبون الأرزاق

من الدولة، فأنا لا أنحو منحاهم لأنني أقدر أن أكون غنيًّا بتساميَّ عن الدنايا، ولا

أرتضي أن أشين خدمتي لوطني بفوائد ذاتية؛ فإني أعمل في بستاني بيدي وأجتزئ

بالقليل من النفقة عن الكثير) .

وهو كما رأيت كلام من يوقن أن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش، بل

كلام من ارتقى وتهذب وعَلِمَ عِلْمَ اليقين أن الحكومات ليست إلا خادمة للأمم، وأن

الشعب في غنية عنها ولا غنى لها عنه، فمتى يكون مثل هذا القول لسان حال

أعيان بلادنا حتى لا يكونوا على أمتهم أضر من العثّ في الصوف والدودة في

الكرمة؛ ولكن المشارقة انغمسوا في مضال الجهالة منذ قرون حتى أصبحوا

يقدِّسون حكامهم ومن انتسب إليهم، وغالوا في تعظيمهم إلى أن بلغوا بهم منازل

الألوهية، وأنشأوا يستحلون لهم المحارم ويطلقون عليهم ألقاب الربوبية.

وما برح الناس يبحثون عن داء المجتمع الإنساني، ويصفون له الأدوية وهو

لا يزداد إلا تفشيًا، وقد أعضل ما يسميه الغربيون بالمسألة الاجتماعية حتى حار

في طبها رجال العلم والسياسة، وأصبحت شغلاً شاغلاً لأهل المدارك السامية،

ولذا قال صاحب سر تقدم الإنكليز السكسون: ليست المسألة الاجتماعية عبارة عن

مساعدة الأفراد، كما أن مسألة الحياة لا تقوم بكثرة تناول الأدوية والعقاقير، إذ

ليست المساعدة أو العقاقير من وسائل الحياة الطبيعية، وليست الحكمة إلا ما أدت

إلى الاستغناء عن تلك الوسائل الصناعية، وليس من حل للمسألة الاجتماعية إلا

جعل الأفراد بحيث يستطيع كل فرد منهم أن يقوم بأمر نفسه، وأن يرتقي بجده

وعمله؛ لأن سلامة الاجتماع كالسلامة الأخروية تقوم بكل واحد على حدته، وعلى

كل واحد أن يسعى إليها، وقولي هذا لا يروق في أعين الذين اتخذوا السياسة حرفة

وغيرهم ممن طلبوا رزقهم من انحطاط الأمة وضعف مدارك الطبقات النازلة،

وكانت منفعتهم في بقاء الناس دائمًا على حالة يُشبهون فيها القاصرين حتى يتيسر

لهم أن يكونوا عليهم أوصياء اهـ.

ونحن لو استشهدنا التاريخ لرأينا أجدادنا كانوا في منازع حياتهم أشبه بالجنس

السكسوني، لا يعرفون مع بسطة الجاه واتساع الثروة والملك إلا النشأة الاستقلالية

بعيدين في كل أطوارهم عن السرف والترف، فقد اشتهر من سيرة الصِّدِّيق

الأكبر رضي الله عنه أنه كان يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع وكانت له

قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها، وربما رعيت له وكان يحلب

للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم الآن لا يحلب لنا منائح [7] دارنا

فسمعها، فقال بلى لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغير بي ما دخلت فيه

فكان يحلب لهم، ثم قال: ما تصلح أمور الناس مع التجارة وما يصلح إلا التفرغ لهم

والنظر في شأنهم، فترك التجارة - وقيل: أراده الصحابة علي تركها - وأنفق من

مال المسلمين ما يصلحه وعياله يومًا بيوم، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة

آلاف درهم، وقيل فرضوا له ما يكفيه، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرض له

ويصرف ثمنها بدلاً مما أخذه من مال المسلمين.

ولما فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء قال للمسلمين: (إني

كنت امرأً تاجرًا، يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون

أنه يحل لي في هذا المال، وعليٌّ ساكت فأكثر القوم، فقال: ما تقول يا علي؟

فقال: ما أصلحك وعيالك بالمعروف ليس لك غيره، فأخذ عمر قوته) وإن لنا في

غير هذين الإمامين من رجال سلفنا الصالح الأسوة الحسنة في فضيلة الاستقلال،

وترك الاتكال، ولنا الأسوة في الأمم الحية لعهدنا التي نرى آثارها باهتين شاخصين،

فالعبر بين أيدينا ومن ورائنا وعن أيماننا وشمائلنا؛ ولكننا لا نعتبر.

_________

(1)

كيتي goethe أعظم كاتب وشاعر ألماني مات سنة 1872.

(2)

كارلايل carLyle كاتب إسكتلندي شهير مات سنة 1881.

(3)

إميرسون Emerson فليسوف أميركي مات سنة 1882.

(4)

هيكل Hrgel فليسوف ألماني شهير مات سنة 1835.

(5)

أرخميدس Archimede أحد مشاهير المهندسين القدماء، ولد في سيراكون إحدى مدائن صقلية حوالي سنة 287 ق م، ومات سنة 212، وحاصر الرومان وطنه، فدافع عنه ثلاث سنين بقوة بنايات حيلية أو ميكانيكية.

(6)

تيمستوكلس themistocle قائد أثيني شهير 535- 410 ق م.

(7)

منحه الناقة: جعل له وبرها ولبنها وولدها، وهي المنحة والمنيحة.

ص: 601

الكاتب: محمد رشيد رضا

الدرس 30

وظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام

(المسألة 68) تمهيد للموضوع:

تعرف وظائف الرسل بالإجمال من وجه الحاجة إليهم، وتعرف بالتفصيل من

النظر في أديانهم والوقوف على شرائعهم وليس بين أيدينا دين إلهي وشريعة سماوية

ضبطت كتبها، واتصل نسبها بمن جاء بها إلا دين الإسلام الذي حُفظ كتابه في

الصدور والسطور، ونُقلت سنة نبيه بالعمل إذ لم يقو على أهله شعب دين آخر

يضطهدهم ويتلاعب بدينهم. وضُبط القولي منها بالقول ضبطًا لم يعهد له مثيل في

تاريخ البشر، فهو الذي يجب أن يتخذه الباحثون في طبائع الملل وأصول الأديان

وتاريخها ميزانًا لمعرفة وظائف الرسل، وبيان الحاجة إليهم فيها، ويزِنوا به سائر

ما نسب إلى الأنبياء والرسل من الكتب المقدسة فما رجح فيه قُبل، وما خف وشال

تُرك وأُهمل، وحُمل على أنه من تحريف المحرِّفين، وإضافات العابثين، فإن لم

يسلكوا هذا المسلك يروا اختلافًا كثيرًا وأمورًا لا تنطبق على وجه الحاجة إلى

الرسل، وتلك الجناية الكبرى على الدين، بل على بني الإنسان أجمعين.

هذا المسلك هو ما جاء به الإسلام، وعمل به النبي عليه الصلاة والسلام،

واتبعه به الراشدون ولم يقصر فيه المسلمون إلا بعد ضعف الإسلام، وفشو الجهل

الذي أغراهم بالخلاف ومناقضة أهل الكتاب حتى شذ بعضهم، فحرَّم طعامهم وهو

حل بنص القرآن، وبهذا وقف سريان الدعوة وقل انتشار الدين في أهل الذمة؛ لأن

كلام المنابذ المخالف يُحمل على الغرض لأول وهلة فينبذ قبل النظر فيه، أو لم

يقرأ أولئك المسلمون قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا

وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران: 64) الآية، وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ

هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ

عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) ؟ بلى قد قرأوه

وأوَّلوه، ولم يهتدوا كسلفهم الصالح بالعمل به في الدعوة إلى الإسلام.

وجهل هذا التوفيق دعاة النصرانية الذين يتعرضون لدعوة المسلمين بما لهم

من الجرأة بالاعتزاز بأوربا، فهم يحاولون إقناع الجاهلين من المسلمين بأن الحق

محصور في اليهودية والنصرانية من دون الإسلام، ولا نرى لهم دليلاً على حقيقة

اليهودية والنصرانية إلا قولهم إن الذين جاءوا بهما قد عملوا بعض العجائب، ولا

يوجد جاهل من المسلمين إلا ويحفظ عن آحاد الأولياء من أهل دينه أضعاف ما

ينقلونه عن موسى وعيسى عليهما السلام، ولا أقول عن بولس وبطرس

ويعقوب ويوحنا وهو لا يثق بما ينقلونه إذا لم يؤيده دينه وعلماؤه، ويعتقد أن رواية

قومه عن أوليائهم أولى بالتصديق من دعواهم التي لا ثقة بروايتها، وإذا هو قبل

قولهم ووقع في نفسه صدقهم يقع في الشك بأصل الدين؛ لأن الدليل على الدينين

متفق والمدلول فيهما مختلف، ولا وجه للجمع عنده، بل لا وجه للجمع مطلقًا إلا

بتحكيم الإسلام، وجعل كتابه كالميزان كما قلنا آنفًا، وقد اهتدى بعض فلاسفة

أوربا الباحثون في الدين عن اعتقاد إلى أنه لابد من الاعتقاد بصحة الإسلام والجمع

بينه وبين المسيحية، فكتبوا في ذلك وألَّفوا وجعلوا مدار الجمع على الأصول التي

يدل العقل على الحاجة إلى الرسل فيها، ومدار الاستدلال على كتب الوحي، وهي

التوراة والإنجيل والقرآن.

م (69) الوظيفة الأولى:

هي بيان ما يجب اعتقاده في خالق الكون ومقدره، وحكيمه ومدبِّره، فقد علم

أن هذا الاعتقاد مركوز في فطرة الإنسان بصفة مجملة مبهمة يغلط فيها العقل،

ويضل في بيانها الفكر كما تقدم شرحه في قسم الإلهيات، وهذه الوظيفة يجب أن

تتحد فيها الأديان الصحيحة، ويجب على علمائها تأويل الخلاف.

م (70) الوظيفة الثانية:

بيان ما يجب لهذا الإله العليم، والمبدع الحكيم، من الشكر على آلائه،

والعبادة التي ترضيه وتقرِّب روح العبد منه؛ ليبلغ بذلك كماله الروحاني

ويستعين به على كماله الجثماني، فيرتقي الارتقاء الصوري والمعنوي بحسب

استعداده الذي وُهبه ممن أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقد تقدم في بيان وجه

الحاجة إلى الوحي أن هذا شيء لا يستقل به العقل ولا يهتدي إليه بنفسه، وهذه

الوظيفة تتفق الأديان الإلهية في معانيها دون صورها.

م (71) الوظيفة الثالثة:

ما يجب اعتقاده في الدار الآخرة والحياة في النشأة الثانية، فقد بيَّنا من قبل

أن الناس يشعرون بأن لهم أرواحًا، وأن هذه الأرواح هي التي بها الحياة، ومنهم

من أُلهم أن هذه الأرواح خالدة، ومنهم من عرف ذلك بالاستدلال، وأقربه أن العدم

المحض محال لا يتصوره العقل، فإذا كان الجسم يبقى ببقاء عناصره بعد التحلل،

فالروح الذي به حياة الجسم ونظامه وحفظه ما دام متصلاً به من الانحلال أولى

بالبقاء الأكمل، وهؤلاء المستدلين لا يدرون شيئًا من أمر هذه الحياة وهذا الوجود

الروحاني؛ ولكنهم أكثروا من الخرص والظن فيه، فذهب بعضهم إلى أن للروح

حياة مستقلة لا يتصل فيها بجسم يدبره، ومنهم من قال بالتناسخ ولم تطمئن القلوب

إلى شيء إلا ما جاء به الدين السماوي بالنسبة لمن أخذوا به، ولا يصح أن يكون

بين الأديان الصحيحة خلاف في جوهر هذه الوظيفة وأصولها، فإذا كانت الديانة

الإسلامية التي هي القسطاس المستقيم لسائر الديانات تقطع بأن الحياة الأخرى حياة

إنسانية، أي أن أرواح الناس تكون فيها ذات أجساد أكمل من هذه الأجساد؛ لأن

الإنسان خلق مركب من روح وجسد لا حياة روحانية محضة، لا حظ فيها للمادة

ولا وجود فيها للإنسان، فالواجب إرجاع بعض ما يُؤثر عن السيد المسيح عليه

السلام من كون الحياة الملكوتية روحانية كحياة الملائكة إلى ذلك بأن يقال إن المراد

بكونهم كالملائكة أن الأرواح لها هناك السلطان الأكبر، كما أن للحظوظ الجسدية

السلطان الأكبر في هذه الحياة، وحظوظ الروح مغلوبة لها، وقد جعل المسيحيون

الأصل في دينهم أن الحياة الآخرة ملكية محضة لا إنسانية ملكية، أي حكموا بأن

الإنسان لا يكون له وجود في الملكوت، وأوَّلوا ما نُقل عن المسيح مما يدل على

الحياة المادية في الملكوت، كقوله إنه يشرب الخمر جديدًا في الملكوت، على أن

كل كلامه عن الملكوت ظاهر في أن أهله يكونون أناسي لا ملائكة، فيجب أن

يجعل هذا هو الأصل الذي يؤول غيره ويرجع إليه وما لا يمكن تأويله يقطع بوضع

روايته.

م (72) الوظيفة الرابعة:

تهذيب الأخلاق وتثقيف النفوس بحملها على الأعمال الصالحة بباعث الإيمان

بالله وابتغاء مرضاته، والإيمان باليوم الآخر والخوف مما فيه من العقوبة والرغبة

فيما للمحسن من المثوبة، وبيان ما فيها من المنافع والمصالح، ولا شك أن هذه

الطريقة في التهذيب هي الطريقة المثلى؛ فإن الأعمال هي التي تطبع الملكات

والأخلاق في النفوس، وقد بيَّنا في درس وجه الحاجة إلى الوحي أن الإنسان لا

يستقل بنفسه، ولا يهتدي بعقله المجرد، ويصل بسعيه إلى التهذيب الذي يصلح به

حال الأفراد وحال المجتمع، إلا بتأييد الهدى الإلهي لأن الحظوظ والرغائب

والأهواء تحسن القبيح وتقبح الحسن، وإننا نرى الناس بعد أن وُجد فيهم الإرشاد الديني وأمدَّه العلم الاختباري تفسد أخلاقهم بضعف الاعتقاد بالدين فيهم.

له بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 615

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين

وحجج المسلمين

النبذة الثامنة

فرغنا في الجزء الماضي من دحض شبهات الفصل الأول من البحث الأول

من كتاب (أبحاث المجتهدين) وهو الذي عقده مؤلف الكتاب لإثبات الكتب التي

يسمونها التوراة والإنجيل بشهادة القرآن، وكنا عازمين على أن نبدأ في هذا الجزء

بإبطال شبهات الفصل الثاني الذي عقده لإثبات تلك الكتب بالعقل، وإذ ورد علينا

الجزء الخامس من المجلة البروتستنتية المسماة بشائر السلام فرأينا فيها طعنًا شديدًا

بالإسلام، وسبحًا طويلاً في بحار الأوهام، أحببنا أن نقذف عليه بالحق، ليدمغه

فيزهق، ونعود - إن شاء الله تعالى - إلى انتقاد ذلك الكتاب في الأجزاء التالية،

وهذا الطعن محصور في ثلاث نبذ:

النبذة الأولى

عنوانها شجرة النسل المبارك

هذه النبذة تابعة لمقالة سابقة يمدح فيها بني إسرائيل ويبين فضلهم، وقد

أعطاهم فوق قدرهم؛ ولكنه ما قدَر الله حق قدره، عظَّمهم وأساء الأدب مع الله

تعالى، مدح الشجرة الإسرائيلية وقدح في مقام الألوهية، وله في ذلك كلام {تَكَادُ

السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ} (مريم: 90) فمنه قوله -

وحاكي الكفر ليس بكافر - أَوَلا تقضي من ذلك العجب أن فاطر السموات

والأرض يختلي مع بني إسرائيل في البرية يخاطبهم ويخاطبونه، ويراهم ويرون

مجده وبينهم موسى الكليم يتجاذب معه أطراف الحديث، ويتبادل فصول الخطاب

كالإلفين المتآلفين والخليلين المتصافيين.

ثم انتقل من هذا إلى غمص سيد المرسلين وخاتم النبيين الذي أكمل الله به الدين

وإلى انتقاص جميع العالمين، فقال: (فاسمع أيها القارئ المسلم، وابهت وادهش

أليس محمد عندك أعظم الخلق، فلم يكن أهلاً لأن يخاطب الله رأسًا، أو يسمع صوته

أو يرى مجده مثل عامة إسرائيل فضلاً عن خاصتهم، بل لم يكن خليقًا أن يخاطب

جبرائيل كما قلتم إلا وتغشاه غيبة وغطيط يبلغان منه الجهد ويتفصد لذلك جبينه عرقًا

في اليوم الشديد البرد) انتهى خلطه وخبطه.

ونقول: إن هؤلاء الناس تأصلت فيهم الوثنية، ورسخت جذورها في أعماق

نفوسهم حتي صار انتزاعها متعذرًا ما داموا لا يقيمون للعقل وزنًا، ولا يرون له

في كتب الدين معنى، وتفصيل القول في بيان بطلانهم يطول ولا تفي به مجلتنا

كلها، ولذلك نكتفي بالإجمال فنقول بلسان العقل المحض لا بلسان الإسلام ليكون

أدعي للقبول.

(1)

إن المسلمين ينقلون أن نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم صعد إلى

السماء، ورأى من آيات ربه الكبرى، بل يقول أكثرهم إنه رأى الله سبحانه وتعالى

بلا كيف وكلمه بلا واسطة، وموسى عليه السلام ومن كان معه من بنى إسرائيل

إنما رأوا بروقًا، وسمعوا رعدًا وبوقًا، وغشيهم دخان كدخان الأتون، وارتجف

بهم الجبل فارتعدوا ووقفوا من بعيد (وقالوا لموسى تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم

معنا الله لئلا نموت) بل قال الرب لموسى: اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون

معك، وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم.

كل هذا مصرَّح به في الباب 19 و20 من سفر الخروج، وهو يكذِّب قول

المجلة إن عامة بني إسرائيل كانوا يخاطبون الله رأسًا ويسمعون صوته، فما هذا

التمويه والإيهام؟ وورد في القرآن {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} (الأعراف: 143) وقال

في محمد {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم:

17-

18) فهل من الإنصاف أن تقولوا نحن الصادقون لأننا قلنا..

(2)

إن بنى إسرائيل الذين خُصوا بهذه العناية، وهارون الذي أذن له

الرب أن يصعد مع موسى وحده من دون الكهنة والشعب - لم يتمسكوا بأعظم

الوصايا التي أوصاهم بها الرب يومئذ، بل تركوا أولها في الذكر والرتبة وهي (لا

يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة ما)

إلخ؛ فإن

هارون بزعمكم وزعم كتبكم هو الذي اتخذ لهم العجل فعبدوه من دون الله، ألا

يكون هذا الشعب الذي اختُص بتلك العناية والتكريم ثم كفر هذا الكفر الجسيم،

جديرًا بالغضب والمقت من الله وسلب نعمته عنه، وإسباغها على شعب آخر

كالشعب العربي الذي نزع به الوثنية من ملايين من الناس، لم تعد إليهم بفضله

وكمال نعمته.

ومن الأدلة على غضب الرب على شعب إسرائيل ما أوردناه في النبذة الثالثة

(ص 417 ج 11) عن كتاب حزقيال، فهل يصح استدلاله بعد هذا على أن الله

تعالى وتقدس لا يزال عاشقًا - سبحانه سبحانه - لشعب إسرائيل وغاضبًا على سائر

خلقه، وأن عامتهم أفضل من

، ومن الغريب أنه يستدل بآيات القرآن العزيز على

إنعام الله تعالى على بني إسرائيل، ولا يستدل بها على كفرهم النعم ورميهم بالنقم! !

(3)

إن القاعدة الأساسية عند المسلمين في الإيمان هي تنزيه الله تعالى عن

مشابهة المخلوقين، فإذا ورد في الوحي لفظ ينافي ظاهره التنزيه يصرفونه عن

ظاهره إلى ضرب من التجوز والتأويل، وكأن القاعدة الأساسية عند سواهم هي

التشبيه والوثنية، لا سيما الذين جعلوا من البشر إلهًا، فإذا ورد في كتبهم كلمة

تنافي التنزيه يضيفون إليها أضعافًا، ويتفننون في القياس عليها.

وَرَدَ أن الله تعالى كلم موسى مثلاً، فالمسلمون ينزهون الله تعالى عن الصوت

وعن الجهة والمكان، ويقولون: ما ثم إلا إعلام إلهي بصفة تليق بجلال الله سماها

الله تعالى تكليمًا، وليست كتكليم الناس بعضهم لبعض حتمًا، وإلا لكان تعالى

مشابهًا للمخلوقات، وذلك هدم لأصل الدين والإيمان، وأما النصارى فيقولون مثلما

نقلنا آنفًا عن مجلة بشائر الإسلام) (يتجاذب معه أطراف الأحاديث) وأنهما كالإلفين

ونحو ذلك مما هو صريح في التشبيه، ولا غرو فمن قال: إن المسيح إله، يقول:

إن الإله يخلو بموسى ويتبادل معه فصول الخطاب، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا

(4)

إن المجلة خلطت فيما ذكرته عن حالة النبي صلى الله عليه وسلم عند

الوحي؛ لأن ذلك مأخوذ من أحاديث لم يفهمها الكاتب فظن أن كلمة (غطَّني) في

حديث بدء الوحي من الغطيط الذي هو صوت النائم، أو صوت هدر البعير وليس

كذلك؛ وإنما معناها ضمني بشدة وضغط، ثم خلطها بكلمات من حيث وصف

الوحي والتأثر منه، وزعم صاحبها أن عدم التأثر من الوحي أفضل وأكمل وهي

دعوى افتحرها لا يقوم عليها دليل؛ فإننا نقول إنها كانت حالة من حالات الوحي

ربما لم يحصل نظيرها لموسى، فيتأثر تأثر محمد عليهما السلام على أنه يوجد

في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فلو فرضنا أن موسى امتاز على محمد بهذه

الفضيلة، فلمحمد مزايا كثيرة يفضله بها، ومن التجاوز أن يفاضل مثل هذا الكاتب

الذي لا يقدر الله حق قدره بين أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام بمجرد الهوى وسوء

الفهم.

النبذة الثانية من تلك المجلة في سيدنا إسماعيل

غمط كاتب المجلة سيدنا إسماعيل عليه السلام في مقام المفاضلة بينه وبين

إسحق، وإذا صح قوله ونقله واستدلاله منهما على أن إسحق أفضل وأنه هو الذبيح،

فإن هذا لا يضر بدين الإسلام شيئًا، ولا يستحق قوله في هذا المقام أن يصرف في

نقده شيء من الوقت.

النبذة الثالثة مؤلفو العهد الجديد

والدعوة إلى الدين

جاء في قسم الأسئلة والأجوبة من المجلة سؤالان، أحدهما أن أحد أصحابهم

المسلمين سألهم: (هل بطرس وبولس ويوحنا وغيرهم من كتبة العهد الجديد هم

رسل الله؟ وهل جاء في العهد القديم نبوة عن إرسالهم كما جاء عن المسيح) وكان

جواب المجلة أنهم رسل، ونحن نقول: ما كان لمسلم يعرف عقيدة الإسلام أن يسأل

هذا لأن الرسول في اعتقاد المسلمين هو النبي الذي أوحي إليه بدين مستقل، وأمر

بتبليغه للناس، والنصارى أنفسهم لا يدعون الرسالة بهذا المعنى لبطرس وبولس

وغيرهما من مؤلفي الأناجيل ورسائل العهد الجديد؛ ولأن المسلمين لا يستعملون

لفظ النبوة بمعنى البشارة كما هي مستعملة في السؤال، فإما أن يكون السؤال

منتحَلاً للإيهام وهو الأقرب، وإما أن يكون من مسلم جغرافي ليس له من الإسلام

إلا الاسم واللقب والجنسية والنسب، واستدلوا على رسالة من ذكر بالعجائب، وأنه

ليؤثر عن ولي واحد من أولياء المسلمين أكثر مما يُؤثر عنهم، وعن المسيح عليه

السلام ولم يقولوا إن الأولياء رسل.

والسؤال الثاني من صاحب لهم آخر وهو: (لم انفرد المسيحيون بإرسال

المبشرين، واستمروا على ذلك من عهد ظهورهم إلى الآن) والجواب (إن

المسيحية هدى، ومتى كان الهدى في القلب لا يتمالك صاحبه أن يكاتمه أبناء جنسه

أو يواربهم فيه) ثم قال (إن المسيحيين منفردين بالهدى) ونحن نقول (أولاً)

إنه ما قام دين من الأديان في العالم إلا بالدعوة، وما دَعَا أحد إلى دين إلا ووجد له

تابعين؛ ولكن منها ما انتشر بقوته الذاتية، أي قوة الهداية والسلطان على النفوس

كالإسلام، ومنها ما انتشر بالإكراه والإلزام كالدين المسيحي؛ فإنه بقي ثلاثة قرون

لا يقبله إلا أفراد قليلون، ثم دخل فيه بعض ملوك الوثنيين، فصاروا يُلزمون

الناس به بالإكراه كما سنبينه بعدُ - إن شاء الله تعالى - بشهادة التاريخ، و (ثانيًا)

إن بني إسرائيل شعب الله الخاص الذين نوَّه بهم صاحب المجلة ما كانوا يدْعُون لدينهم

لعهد المسيح الذي هو منهم، فهل كانت ديانتهم في ذلك العهد ضلالة أم هداية؟

و (ثالثًا) إن البهائية الذين يقولون في البهاء المدفون في عكا كما يقول النصارى

في المسيح، يدعون إلى دينهم في كل مكان وجدوا فيه حتي يوشك أن يكون كل

واحد منهم داعيًا، فهل يقول أصحاب هذه المجلة أنهم على الهدى، وأنه يجب

عبادة البهاء وترك عبادة المسيح أو الجمع بينهما، و (رابعًا) إن الجواب

يستلزم أن يكون كل مسيحي داعيًا إلى دينه؛ لأنه على هدى وصاحب الهدى لا

يقدر على كتمانه؛ ولكننا نرى الدعوة محصورة في أفراد منهم يأخذون عليها

الأجر من الجمعيات الدينية، فهم يدعون لأن الدعوة معاش لهم، لا لأنها هدى

في قلوبهم يفيضون منه على أبناء جنسهم، و (خامسًا) إننا نرى المسيحيين

الفضلاء ينتقدون هؤلاء الدعاة المسيحيين المستأجرين، ويقولون إنهم يضرون

المسيحية ولا ينفعونها، ومن أصحاب الجرائد من انتقدهم كتابة، و (سادسًا) إن

كل صاحب دين يعتقد أنه على هدى، والإنسان إنما ينبعث إلى العمل باعتقاد نفسه،

لا بما عليه الأمر في نفسه، ولولا ذلك لم يعمل أحد شرًّا ولم يدع أحد إلى باطل؛

ولكن قد تحول دون الدعوة الحوائل.

أما الدعوة الصحيحة التي اندفع اليها أصحابها بقوة الاعتقاد، فهي دعوة

حواريى المسيح عليه الصلاة والسلام، وما آمن معهم إلا قليل، ودعوة المسلمين

عدة قرون آمن فيها الملايين، فقد كان التاجر المسلم يدخل مملكة من ممالك أفريقيا

أو آسيا فتدخل كلها في الإسلام على يديه، ولم تنقطع هذه الدعوة بالمرة؛ ولكنها

ضعفت بضعف الإسلام وفقد التربية الدينية، وإهمال علومه الحقيقية، وضعف

المدنية والحضارة، وإهمال دول الإسلام أمر الدين، واعتماد المسلمين على ملوكهم

وأمرائهم وحكوماتهم على خلاف ما يفرضه الإسلام عليهم، ولا يزال الشيعة

والبُهر (الإسماعيلية) يدعون بقدر الطاقة، وهؤلاء الملوك والأمراء هم العقبة

الأولى في طريق الإسلام، والعقبة الثانية ملوك أوربا الأقوياء الذين ينصرون

دعاتهم ويحمونهم بعد أن يوجهوهم إلى الدعوة، حتى أنهم ليحاربون مملكة بحجة

الانتصار لقسيس واحد، فالقوة الأوربية هي التي أنطقت لسان هؤلاء الدعاة، وهي

التي أجرت أقلامهم وسددت لرمي مخالفيهم سهامهم، فتبين أن جواب السؤال

الصحيح: أن المسيحيين يبشرون لأن السياسة تدفعهم، والجنيهات تتبعهم، والمدافع

تمنعهم (أي تحميهم) وأما المسلمون فإنهم على ضعفهم العلمي والاجتماعي والسياسي

لا يزالون يدعون إلى الدين مندفعين إليه بدافع الاعتقاد، ولكن على ضعف تؤيده قوة

الحق، فيكون أنجح وأقرب إلى القبول، وطالما شكا دعاة المسيحيين من تقدم الإسلام

في أفريقيا وسبقه للمسيحية مع شدة العناية بنشرها، وكان أقرب تعليل لهم في ذلك أن

الإسلام أقرب إلى الفطرة والعقل وسننشر بعض كلم القسيسين في ذلك، إن شاء الله.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 619

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تغزل النساء

يستنكر ذوو الطباع السليمة تغزل الذكور بالذكور؛ لأن عشق الولدان من

فساد الفطرة، ولا يستنكر أحد تغزل امرأة بامرأة، وإن كان عشقها لها منكرًا

وقبيحًا، على أن الغزل ليس ملزومًا للعشق دائمًا، وقد خرجت يومًا حمدة بنت

زياد الأديبة المتصوفة الشهيرة متنزهة بالرملة من وادياش فرأت ذات وجه وسيم

أعجبها فقالت:

أباح الدمع أسراري بوادٍ

له في الحسن آثار بوادي

فمن نهر يطوف بكل روض

ومن روض يطوف بكل وادي

ومن بين الظباء مهاة رمل

سبت لبي وقد ملكت قيادي

لها لحظ تُرَدِّده لأمر

وذاك اللحظ يمنعني رقادي

إذا سدلت ذوائبها عليه

رأيت البدر في جنح السواد

كأن الصبح مات له شقيق

فمن حزن تسربل بالحداد

وما أحسن الإبهام في قولها (تردده لأمر) وأما تغزل ذوات الحجال بالرجال

فأراهم يستملحونه على القول بوجوب كثافة الحجاب، ولا أستثني الذين ينفرون من

التغزل المذكر مطلقًا، وكأن الشعور بكون الشعر قد برز من وراء الخدر يؤثر في

حقيقته وماهيته، أو يغير جهة قضيته، فيحول استقباحه استحسانًا ويجعل خسره

رجحانًا، فيغلب هذا الوجدان والشعور، وجدان وجوب استخفاء ربات الخدور،

وأما علة الاستملاح في ذوق من لا يقول بضرب الحجاب على الملاح، فهي

موافقة الفطرة، وإجابة دعوة الطبيعة، ومعظم الاستنكار في ذلك الضرب من

الغزل إنما هو باعتبار مصدره ومجلاه، لا باعتبار حقيقته وفحواه، ومنه قول

حمدة نفسها الذي يوردونه شاهدًا في كتب البديع ويتلقونه بالقبول:

ولما أبى الواشون إلا فراقنا

وما لهم عندي وعندك من ثار

وشنوا على أسماعنا كل غارة

وقلّت حماتي عند ذاك وأنصاري

غزوتهم من مقلتيك وأدمعي

ومن نَفَسي بالسيف والسيل والنار

ومن غزلهن المستملح المستحسن قول علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد:

إني كثرت عليه في زيارته

فملّ والشيء مملول إذا كثرا

ورابني منه أني لا أزال أرى

في طرفه قِصَرًا عني إذا نظرا

وهذان البيتان بحيث تراهما من الحسن والبلاغة على أنهما لم يتجاوزا حدود

الحقيقة، ولم يخرجا عن محيط الصدق، بل لم يبالغا في الوصف أيضًا، ويالله ما

أحلى الاعتذار في البيت الأول وما أبلغ حكمته؟ ويالله ما أرق الوصف في البيت

الثاني وما أدق بيان موضع الريبة، وما ألطف مراعاة شمائل الحبيب واستخراج

خبايا نفسه من ظاهر حسه، وناهيك بما تُحَدِّث به العينان عن خفي الشعور

والوجدان، كذلك يجمل بالمحب الإنصاف والاعتذار، كما يجمل من الحبيب الجور

والنفار، وفي هذا قالت علية أيضًا:

بُنِيَ الحب على الجور فلو

أنصف المحبوب فيه لسمج

ليس يستحسن في شرع الهوى

عاشق يحسن تأليف الحجج

وقليل الحب صرفًا خالصًا

هو خير من كثير قد مزج

وأي خير في الحب الممزوج، وما هو إلا مزج السم بالدسم، وما عاقبته إلا

الفناء والعدم.

ومن نظم علية في الحنين إلى الوطن، وكانت خرجت مع الرشيد إلى الري

فلما بلغوا المرج نظمت هذين البيتين، وغنت بهما وكان من أحسن الناس غناء

وصوتًا فسمع الرشيد فردها إلى العراق:

مغترب بالمرج يبكي لشجوه

وقد ضل عنه المسعدون على الحب

إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه

تَنَشَّقَ يستشفي برائحة الركب

ومن نظمها في طبيعة الحب، وفائدة الهجر والعتب:

تحبَّب فإن الحب داعية الحب

وكم من بعيد الدار مستوجب القرب

تبصَّر فإن حُدِّثت أن أخا الهوى

نجا سالمًا فارج النجاة من الحب

وأعذب أيام الهوى يومك الذي

تروّع بالهجران فيه وبالعتب

إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا

فأين حلاوات الرسائل والكتب

كان الأَولى أن تقول (أخا هوى) ويروى الثالث (وأطيب أيام الفتى يومه

الذي) .

أوردنا هذا تفكهة وتمليحًا لبعض القراء الذين يملون الجد الصرف، كما قالت

علية - والشيء مملول إذا كثر، وليس هذا الغزل بالقول الهزل، والكلام العُطْل؛

فإن به يرق الشعور ويلطف الوجدان وتتهذب النفس، والفقهاء لا يحرِّمون الغزل

إلا إذا كان في أجنبي معيَّن، أو كان فيه فحش، وقد سمع النبي صلى الله تعالى

عليه وسلم الغزل والنسيب حتى في المسجد، ومن ذلك أوائل قصيدة (بانت سعاد)

الشهيرة.

_________

ص: 626

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(جُذَيمَة والزَّبَّاء)

قصة تاريخية أدبية تهذيبية تأليف الفاضل محمد أفندي حليم وكيل قلم محاسبة

المكاتب بنظارة المعارف العمومية، والقصة مسجعة، وفي مقدمتها كلام في السجع

وشروط استحسانه ومواضع استقباحه، وكلام في الفصاحة والبلاغة، وفي فصول

القصة مسائل ومباحث مفيدة، أظهر المؤلف فيها رأيه كمسألة تأثير القصص

الغرامية في نفوس الناشئة وإفسادها الأخلاق، وكبحث حجاب النساء وعدمه،

والكسل وعلو الهمة والاعتماد على النفس والسعي في طلب الرزق، والكهانة

والتنجيم والخمرة وتأثيرها السيئ وغير ذلك، وكنا نود لو سمح لنا الوقت بقراءتها

كلها ونقدها لأن موضوعها مفيد، وهي مطبوعة طبعًا حسنًا على ورق جيد،

وثمنها 8 غروش، وصفحاتها 64.

***

(التربية الحديثة)

كتاب جديد للعالم الاجتماعي المربي الشهير الموسيو أدمون ديمولن مؤلف

كتاب (سر تقدم الإنكليز) الذي يعرف القراء مكانته، وقد عُني بتعريبه بعد

استئذان المؤلف وإذن ملتزم الطبع، أحد ضباط الشرطة (البوليس) الفاضل حسن

أفندي توفيق الدجوي، وطبعه في مطبعة الترقي الشهيرة طبعًا حسنًا مزينًا بالرسوم

على ورق جيد، فبلغ نحو مائتي صفحة؛ ولكنه جعل ثمنه عشرة غروش فقط،

وسنطالعه - إن شاء الله تعالى - ونبين للقراء أهم فوائده ونوهنا به الآن؛ لأن

شهرة مؤلفه كافية في الترغيب فيه.

***

(الفرائد الجمانية في شرح القصيدة الطنطرانية)

القصيدة مشهورة وناظمها الشيخ أحمد الطنطراني مدح بها نظام الملك الوزير

الشهير صاحب المدرسة النظامية في بغداد وهي أغرب ما نظم الناظمون في تكلف

السجع، ولزوم ما لا يلزم ومطلعها:

يا خلي البال قد بلبلت بالبلبال بال

بالنوى زلزلتني والعقل بالزلزال زال

وهي على عدة قوافٍ ومنها:

يا غزالاً قده في المشي كالأرماح ماح

ريقه راح وما في غير تلك الراح راح

وماح، بمعنى: مال، ومنها:

في عراص الوصل عاني الهجر كالغدَّار دار لا ترحل فالحشا من كثرة الأسفار فار

وهذه القصيدة تدلنا على أن الفساد كان قد دب في اللغة على ذلك العهد وهو

أكمل عهد للعلم في الاسلام، وقد عني بشرح هذه القصيدة بعض الشبان المشتغلين

بالأدب وهو محمد بن الحاج العربي العنابي الملقَّب بأبي الليل (كذا) أحد طلبة

القسم العالي بمدرسة الجزائر، فبيَّن المفردات اللغوية، ثم معاني الأبيات بعبارة

مسجعة، وبيَّن أيضًا أنواع البديع فيها فعلمنا أنه ممن يعدون البلاغة في الاستكثار

من أنواع البديع، ويكلفون بالتسجيع، فنوجه نظره إلى ما هو خير منه من الكلام

المرسل الذي لا كلفة فيه، وإلى اعتبار المعاني تابعة للألفاظ، وعدم الالتفات إلى

هذه المحسنات اللفظية إلا ما جاء منها عفوًا صفوًا ملبيًا دعوة المعنى، والله الموفق.

***

(الشجرة النبوية)

للشيخ جمال الدين يوسف بن حسن بن عبد الهادي الحنبلي وهو كتاب مشجَّر

في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته كأولاده ونسائه اللاتي دخل بهن،

واللاتي عقد عليهن ولم يبن بهن، وأولاد بناته وأعمامه وأكابر أصحابه وأمهاته من

الرضاعة وغيرهم، وفيه ذكر ما كان يملكه وذكر خدمه ووقائعه، وغير ذلك من

الفوائد التي ينبغي لكل مسلم معرفتها، وهذا الكتاب قد قرَّبها جدًّا؛ ولكنه على

حسنه لا يخلو مما يُنتَقَد فقد نظرنا عند ابتداء إجالة الطرف في صفحاته صورة نعل

النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي جانبها ذكر منافعها أى منافع الصورة

والمثال المرسوم، ومنها أنه أمان من بغي البغاة وغلب العداة والشياطين والحاسدين

وأنه يسهل الولادة! ولا يصح شيء من هذا وإن زعم المؤلف أنه مجرب؛ ولكن

مثل هذه الجملة الوهمية لا يصح أن يكون مانعًا من الانتفاع بما في الكتاب من

الفوائد، وقد طُبع على نفقة جمعية النهضة الأدبية، وثمنه ثلاثة غروش صاغ عدا

أجرة البريد، وهو قليل بالنسبة لما فيه من المشجرات والجداول التي تحتاج إلى

نفقة كثيرة، ويوجد في جميع المكاتب الشهيرة.

***

(مراقي الترجمة)

كتاب أو كتب يشتغل بوضعها ثلاثة من أمهر مدرسي اللغة الإنجليزية

وعلومها بمدرسة الناصرية الأميرية، ومن أفضل من أنبتت مدرسة المعلمين

الخديوية، وهم أبو زيد أفندي فايد وعبد الحميد أفندي الشربيني ومحمود أفندي

عثمان عطا الله، والغرض من وضع هذه الكتب تعليم الترجمة لتلاميذ المدارس،

وقد صدر الكتاب الأول منها مطبوعًا في مطبعة الترقي، وهو لتلاميذ السنة الأولى

والسنة الثانية من تلامذة المدارس الابتدائية وفيه أربعون درسًا، وثمنه غرشان

أميريان، ومن مزايا الكتاب تحري بيان الترجمة الصحيحة مع الإشارة إلى الترجمة

الحرفية، فعسى أن يُقبل عليه جميع تلامذة المدارس الأهلية مع تلامذة المدارس

الأميرية.

***

(الكنيسة الأرثوذكسية)

مجلة شهرية دينية أدبية إصلاحية، تصدرها جمعية سرية أنشئت حديثًا،

وسميت جمعية النشأة السورية الأرثوذكسية في مصر، وقد صدر العدد الأول من

هذه المجلة في أول تشرين الأول الحاضر، وجاء في مقدمتها ما نصه: (وبعد، فقد

رأينا أن الطائفة الأرثوذكسية السورية متقهقرة تقهقرًا في سبل العمران لا ينكره إلا

كل مكابر مغرور، ورأينا شمل الطائفة متضعضع (كذا) فلا جامعة لنا، ولا ألفة

بين أفرادنا؛ ولذلك كان السبق لغيرنا في سباق الحياة، فخفنا من التلاشي لما في

سنة الكون من تنازع البقاء وبقاء الأنسب؛ ولذلك اجتمعنا على السعي بما في

الوسع بالدعوة إلى الإصلاح، والنظر في مواقع الخلل جميعه (كذا) دعوناها

النشأة السورية؛ لأن ليس الغاية (كذا) إلقاء الضغائن بين أبناء الوطن الواحد،

شأن الجرائد الدينية الأخرى، بل اتباعًا لسنة المسيح في إلقاء السلام؛ لأن إلهنا إله

السلام يُدْعَى) .

ونحن نقول: إن لمؤسسي هذه الجمعية الفضل الأول على طائفتهم وأهل

مذهبهم باعترافهم بتأخرهم عن سائر الطوائف النصرانية، وسعيهم في التقدم

والترقي، وقد أحسنوا في عزمهم على سلوك سبيل المسالمة خلافًا لجرائد الجمعيات

البروتستنتية التي تلقي العداوة والبغضاء بين أهل الأديان والمذاهب؛ حتى

اضطرتنا إلى الرد عليها، ونحن السابقون إلى الدعوة إلى المسالمة والوفاق، ونبذ

أسباب العداء والشقاق، وإننا لنرجو النجاح لهذه الجمعية ولمجلتها؛ لأن الطائفة قد

استعدت برؤية العبر لقبول الإصلاح وإسعاد الداعين إليه وإسعافهم لما فيهم الآن من

كثرة المتعلمين والمهذبين، ويسرنا أن نرى سريان الإصلاح في هذه الطائفة التي

هي أكثر الطوائف عددًا في بلادنا لوجوه، أهمها: حفظ الدين مع العلم؛ فإننا نرى

أكثر الطوائف يتفلتون منه، فيكونون من الملحدين، وبذلك يبعدون عنا؛ فإن

الملحد أبعد من الكتابي بلا شك، ثم نفخ روح المباراة والمسابقة في سائر الطوائف

المتأخرة المتقهقرة؛ حتى إذا ما هبت الطوائف كلها للإصلاح وجارى بعضها بعضًا

ترتقي البلاد ويعلو شأنها، والتفاوت بين الطوائف عقبة كبرى في طريق الارتقاء،

على أن الإصلاح محبوب لذاته عند الصالحين، هذا ويقول بعض أفاضل الطائفة

أنه لا وجود لهذه الجمعية.

***

(فتح المنَّان في تقويم البلدان)

رسالة وجيزة في الفن ألفها الفاضل محمد أفندي ذهني لتلامذة السنتين الأوليين

في المدارس الابتدائية، وهي على طريقة السؤال والجواب، فعسى أن تصادف

رواجًا.

_________

ص: 629

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(سخاء السلطان على رجال الدولة والمابين)

نرى كثيرًا من الجرائد تُعَرِّض بسوء حال الموظفين في الدولة العلية،

وكونهم لا يصلون إلى بعض رواتبهم إلا بشق الأنفس، وتطلق القول في ذلك

إطلاقًا، والذي نعرفه من حال الموظفين الذين يعرفهم مولانا السلطان كالوكلاء

ورجال المابين وأمراء الجيش أنهم يأخذون رواتبهم، وما يقرب منها أو يزيد عليها

من الإحسانات الحميدية، وله - وفَّقه الله تعالى - تفنن في ضروب الكرم والسخاء ما

كان يخطر مثله في بال حاتم الطائي ولا كعب بن مامة، فكثير ما يهب الهبات

العظيمة بناء على حلم يراه في النوم، ومن ذلك أن ناظر الحربية كان نائمًا ذات

ليلة، فأيقظوه قائلين: إن رسولاً من قبل مولانا السلطان يطلبك، فقام مذعورًا ظانًّا

أن قد وقعت الواقعة، واحتيج إلى أشد القوة الدافعة، وإذا بالرسول يحمل خمسة

آلاف ليرة هدية، فأعطاها للناظر، وقال: إن مولانا يسلم عليك، ويقول: إنه رآك

الليلة في منامه محتاجًا إلى الدراهم فعجل لك هذه الهبة.

وقد تتحرك في نفسه الكريمة أريحية السخاء بعد غضب واستياء، فيجيب

داعيها فيكون سببًا للرضا شبيهًا بالاعتذار، كما وقع من عهد قريب عندما غضب

على الشريف أمير مكة المكرمة ووبَّخه بلسان البرق، ثم لم يلبث أن أرسل إليه

ثلاثة آلاف ليرة هدية.

وقد بنى قصورًا عظيمة لأكثر رجاله وكبار رجال الدولة، نذكر منها ما

عرفنا موقعه ومبلغ نفقته فمنها بقرب يلدز (1) قصر السر عسكر رضا باشا أنفق

عليه ثمانية عشر ألف ليرة و (2) قصر عثمان باشا الغازي رحمه الله أنفق عليه

عشرين ألف ليرة. و (3) قصر أحمد عزت بك العابد كاتبه الثاني، وأقرب

الناس منه ولا نعلم ما أنفق عليه؛ ولكننا علمنا أنه أنفق على نقش غرفة واحدة منه

وعلى أثاثها ورياشها خمسة آلاف جنيه، ومنها في نشانطاش (1) قصر الصدر

الأعظم خليل رفعت باشا أنفق على القديم منه 5000 ليرة، وعلى الجديد أربعين

ألف ليرة و (2) قصر زكي باشا مدير الطوبخانة أنفق عليه 15000 ليرة

و (3) قصر شاكر باشا رئيس أركان حرب المعية أنفق عليه ثلاثين ألف ليرة

و (4) قصر جواد باشا الصدر الأسبق نفقته عشرون ألف ليرة و (5) قصر كامل

باشا الصدر الأسبق نفقته 18000 ليرة و (6) قصر الباشكاتب تحسين بك نفقته

عشرة آلاف ليرة و (7) قصر سعيد باشا الصدر الأسبق نفقته 8000 ليرة

و (8) و (9) قصر الحاج علي بك الباش مابينجي، وقصر سعيد باشا رئيس

مجلس الشورى نفقة كل منهما 5000 ليرة، و (10) و (11) و (12)

و (13) قصور لمحمد بك وسعيد بك وأمين بك وعارف بك كلهم من مستخدمي

المابين أنفق على كل منها 3000 ليرة و (14) قصر محمود بك (المتوفى)

ومثله قصر عارف بك في بكماكوي وكلاهما من مستخدمي المابين أنفق على كل

منهما 4000 ليرة و (15) قصر منير بك سفير الدولة في باريس نفقته 5000

ليرة و (16) قصر لطفي أغا الدخاخني نفقته 8000 ليرة و (17) قصر ناظم

باشا والي سورية نفقته 4000 ليرة و (18) قصر ثريا باشا الباشكاتب المتوفى

نفقته 5000 ليرة و (19) قصر عصمت بك الأتوابجي باشى نفقته 2500 ليرة،

فقيمة نفقة ما علمناه من قصور نشانطاش وحدها يبلغ نحو مائتي ألف جنيه.

مع هذا كله ترى هؤلاء الرجال يتدللون على مولاهم، ويطلب بعضهم

الاستقالة المرة بعد المرة، كالصدر الأعظم وناظر المالية الذي لا نعلم مقدار

الإنعامات المغدَقة عليه، أليس هذا السلطان جديرًا بأن يحار في سياسة هذه الدولة

وأخلاق رجالها وطمعهم؟

***

(فضيلة شيخ الأزهر وانتقاد المكتوب)

من فضل الله تعالى علينا أننا لا نكتب شيئًا في المنار إلا لخدمة العلم والدين

ومصلحة الأمة العامة، وما أبرئ نفسي من الخطأ والسهو؛ ولكن أشهد الله على

حسن قصدي وإخلاصي بحسَب مبلغ علمي بالمصالح والمنافع التي أحث عليها،

والمضار والمفاسد التي أنفِّر عنها، وقد توهم بعض الناس أن نشر الانتقاد على

عبارة المكتوب الذي أرسل من قبل الحبر الأعظم شيخ الجامع الأزهر الشريف إلى

وكيل الداخلية يمنعني من التشرف بزيارة الشيخ بعدها؛ ولذلك أوَّلت بعض الجرائد

زيارتي الأخيرة له بحسب ما وصل إليه النظر الكليل، أو القصد السيئ، وزعمت

أنني رأيت أكثر الناس غير راضين عن ذلك الانتقاد فحاولت تلافي ذلك، وما لي

ولأهل التأويل والتحويل، زرت مولانا الشيخ لأنني أحترمه منذ عرفته، ولم يتغير

ما في نفسي من سبب احترامه، بل زاد بالمنصب الذي ارتقى إليه، ولا أنكر أنني

ألفيته مستاء من نشر النقد، وغير راضٍ بالتأويل، بل قال إن البلاغة هي مطابقة

الكلام لمقتضى الحال، وأن ما كُتب هو المطابق لحال أهل الدواوين، وأنه إذا

كتب إليهم كلام بليغ لا يفهمونه، ولما قلت له إن صاحب السعادة وكيل الداخلية من

أهل العلم والفهم أجاز ذلك، وقال إن المكتوب قد يقع في يد غيره من الكتبة

والموظفين، فينبغي أن يكون بحيث يفهمه الجميع

ولا حاجة لذكر ما دار من

الكلام في هذا الموضوع؛ ولكن لابد لي أيضًا أن أبين أن السبب في ترك البسملة

والحمدلة في أول المكتوب وسائر ما يكتب من المشيخة، هو تكريم أسماء الله تعالى

واسم نبيه لما يُتوقع من رمي الأوراق وإهانتها، كذا قال الأستاذ لي وأذن بأن يُنشر

وصرح لي بأنه نهى عن الرد على المنار.

ذكرت لمولانا الشيخ من دليل حسن قصدي في كل ما كتبت وأكتب عن

الأزهر، وفي العلماء والتعليم أنني عرضت عليه مرتين أن أذاكره في كل ما أريد

كتابته في شأن الأزهر، وأكتب ما يجيزه مما أعرضه عليه؛ لأكون أنا والمنار

مشمولين دائمًا برضاه، وأنني كنت فهمت منه أنه لم يحفل بذلك، فأكد لي أنني

فهمت خلاف الواقع، وأنه قبل ما عرضت عليه من قبل ويقبله الآن، فتلقيت كلام

فضيلته بالقبول وسأعرض عليه بعد اليوم ما أعزم على كتابته في شأن الأزهر إن

شاء الله تعالي، وهو الموفق للصواب.

***

(منشورات المفسدين في مصر)

يحاول بعض السفهاء الذين يتلذذون بأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون

أن يفتحوا على الجناب العالي الخديوي الباب الذي فتحه حزب تركيا الفتاة على

مولانا السلطان الأعظم، من تجرئة الناس على الخوض في شخصه المعظم بالقول

والكتابة، وشغل فكره الشريف بمكافحة الأشخاص والبحث عن الأفراد الذين

يكتبون ويتقولون ويمثلون ويصورون، ثم تلافي ما عساه ينجم عن كتاباتهم وسعيهم

وسعايتهم في الآستانة العلية أو الديار المصرية.

وقد توسلوا إلى هذا المقصد الخسيس بالوشايات القولية والمنشورات السرية،

ومن ذلك ما نوَّهت به الجرائد اليومية من المنشور الذين يُرجفون فيه بأن بعض

زعماء المسلمين وأمراءهم قد بايعوا الجناب الخديوي بالخلافة، ومن تصوير مولانا

السلطان ومولانا الأمير يلعبان على البلياردو برأسي ليون فهمي وصالح بدرخان

وغير ذلك مما لا نذكره.

ونحن نعتقد أنه إذا لم يُقفل هذا الباب قبل تمادي السفهاء فيه؛ فإنه يتعذر

إقفاله بعد ذلك أو يتعسر، ولا وسيلة لإقفاله إلا تنزيه سمع مولانا العزيز أيده الله

عن سماع كلمة واحدة من كلام هؤلاء السفهاء، وتكريم نظره العالي عن التصويب

إلى شيء مما يكتبون بَلْهَ أشخاصهم الخسيسة، وذواتهم المنحوسة؛ فإن مولانا

السلطان الأعظم قد أعياه أمرهم، بعد أن راج في سوق السياسة سحرهم، وهو

صاحب السلطة المطلقة والإرادة النافذة والكف الفائضة، ولو أنه أيده الله تعالى

أيأسهم من سماع كلامهم، والنظر في مواقع سهامهم، لاستراح وأراح.

ثم إن لمولانا العباس - حفظه الله - من بُعد النظر وجودة الفكرة ما يمكنه به أن

يقنع مولانا السلطان الأعظم بمصدر هذه الأراجيف إذا فُرض أنها وصلت إلى يلدز

وأما مصر فلا تأثير فيها لشيء من هذا الهذيان، إلا إذا راج في المعية السنية،

وبيد مولانا الأمير إبطال هذا التأثير، وبيده تربية هؤلاء السعاة المفسدين،

والسفهاء الطامعين، ولاشك أن جميع رجال حكومته ووجوه رعيته محبون لمقامه

الكريم، ومخلصون لجنابه الفخيم، ولا يوجد فيهم من تُحَدِّثه نفسه بأن يطالبه بمثل ما

يطالب ذلك الحزب المشئوم مولانا السلطان، أو ينسب إليه تقصيرًا في أعمال

الحكومة، ولا يمكن أن يكون لكلام المرجفين أدنى تأثير في نفس أحد منهم، فكيف

يؤثر في نفسه العلية؟ كلا سوف يخسأون، ثم كلا سوف يخسأون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ

ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .

***

(إلى الجناب العالي الخديوي)

مولاي: قد كثر في بلادك نسبة الأشياء إلى لقبك الرفيع، فلا نرى إلا

(الأجزاخانة الخديوية، والقهوة الخديوية، والمطبعة الخديوية) وغير ذلك مما لا

بأس بتشرفه بالنسبة إلى هذا اللقب، ومما ينبغي تنزيه اللقب عنه، وهذه جريدة

(بشائر السلام) التي أنشئت للطعن بدين الإسلام الشريف تُطبع بالإسكندرية في

مطبعة تسمى (المطبعة الخديوية) كما هو مكتوب عليها، وربما يتوهم بعض

المطلعين عليها من غير هذه البلاد أن المطبعة منسوبة إلى سمو الخديو فعلاً،

فيعجبون كيف يصدر منها هذا الطعن الفاحش بالإسلام.

فإذا كانت حكومة بلادك التي امتازت بالحرية قد غلت فيها إلى هذا الحد في

إجازة الطعن؛ فإننا نطلب من حكمة سموك تنزيه لقبك الشريف أن ينسب إليه شيء

بغير إرادة رسمية منك، كما يفعل مولانا السلطان الأعظم أيده الله وأيدك بروح منه

بل نطلب بلسان الإخلاص صدور الأمر العالي بإبطال كل ما ينسب إلى هذا

اللقب، أو يستأذن صاحبه فتتعلق الإرادة بالإذن له.

***

(مأتم الأمير عبد الرحمن في الهند)

جاءنا من وكيلنا في بومباي أنه كان لنعي أمير الأفغان تأثير عظيم في جميع

الممالك الهندية، فاضطرب الناس واختلفت الجرائد الإنكليزية والهندية فيه، فكانت

تكذِّبه تارة، وتصدِّقه أخرى، إلى أن صدر الأمر من اللورد كرزون الحكمدار

الإنكليزي العام بالاحتفال بمأتمه العمومي يوم الاثنين غرة رجب، فاحتُفل به في

ذلك اليوم في جميع البلاد الهندية وسواحلها احتفالاً عظيمًا كالاحتفال بمأتم الملكة بلا

فرق، فكان يومًا مشهودًا عُطلت فيه دواوين الحكومة ومحاكمها وجميع المدارس،

وأُغلقت محال التجارة، وصلى المسلمون عليه جميعًا مع اختلافهم في المذاهب كل

فرقة في مسجدها بأمر كبيرها أو مجتهدها، (قال) : (وصلوا عليه بالأمس بعد

صلاة الجمعة في الجامع الكبير، وبعد الصلاة أرسل تلغراف التعزية مع التهنئة إلى

وكلاء الفقيد، ونحن نحمد الله تعالى على أنه فات هذا الخطب الجلل، ولم ينتطح

عنزان على رغم أعداء الإسلام رماهم الله بالخذلان) اهـ، فتأمل في هذا التأثير

العظيم لفقد هذا العظيم في هذه البلاد.

***

(حرب الإنكليز والبوير)

دخلت هذه الحرب في العام الثالث، وهي لا تزال سجالاً، وقد أدهش ثبات

البوير وبلاؤهم جميع الأمم والدول؛ لأنهم لم يعهدوا من شرذمة قليلة مصادمة دولة

عظيمة زمنًا يُعَدُّ بالسنين، وللحياة الاستقلالية في الأمم آيات يعتبر بها الأحياء،

ولا يحس بها الأموات.

_________

ص: 634

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌من إدارة المنار

نرجو من المشتركين الكرام في البلاد الهندية اعتبار الفاضل الشيخ عبد الله

نزيل بيت صديقنا الأستاذ الكامل الشيخ أحمد الجيتكر في بومباي وكيلاً للمنار في

الممالك الهندية، وأن يدفعوا إليه قيم الاشتراك، ويأخذوا منه وصولات مطبوعة

مختومة بختم الإدارة، ومذيلة بتوقيعه أو ختمه.

_________

ص: 640

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

ينبعث المرء إلى العمل بشعوره ووجدانه أكثر مما ينبعث بفكره وبرهانه،

وبالعمل يسعد ويشقى، وبالعمل يموت ويحيى [1] .

تأثير الشعور والوجدان أقوى في النفس من تأثير العقل والجنان، بل لا تنفذ

أحكام سلطان العقل في مملكة البدن إلا بواسطة الشعور النفسي بالحاجة إلى ما حكم

به لدفع ألم أو تحصيل لذة، فكأن الشعور وزير التنفيذ لسلطان العقل، وكثيرًا ما

يستبد هذا الوزير على ذلك السلطان إجابة لداعي عُمَّال الحواس والمشاعر، فيزعج

الجوارح إلى العمل بدون استشارته فتخسر الأعمال، وتخيب الآمال، ويسوء

المصير والمآل.

نعني بالشعور أن تحس بألم الحاجة إلى الشيء أو بلذته، وبالوجدان ما تجده

في نفسك من ذلك الألم الذي يدفعك إلى العمل بما يقتضيه، أو اللذة الداعية إلى

المداومة على العمل، فالمراد بهما واحد؛ ولذلك نكتفي بأحد اللفظين أحيانًا، ويعبر

الصوفية عن هذا المعنى بلفظ (الحال) ومن أصول طريقتهم تربية الحال بما

ينفخون من روح التأثير بعقيدة من العقائد، أو فضيلة من الفضائل في المريد،

فينبعث إلى العمل الذي هو أثر العقيدة أو الفضيلة بوجدان صادق ويبالغ فيه ما شاء

الله أن يبالغ حتى يكون ملكة راسخة في النفس، وهي ما يسمونه (المقام) يقولون

حال التوكل ومقام التوكل، وحال السخاء ومقام السخاء، وإذا كان المقام عند

الصوفية عبارة عما يسميه علماء الأخلاق من غيرهم خُلقًا وملكة، فهو إذن ما

تصدر عنه الأعمال بلا روية ولا تكلف.

العمل بمقتضى الحال والوجدان يحتاج إلى الفكر في طريق العمل ومقدماته،

ثم يرتقي الإنسان فيه مع التكلف والتأثر إلى هذه الدرجة التي يصدر فيها العمل بلا

تكلف ولا انفعال ولا ترتيب مقدمات؛ ولكنه مع ذلك يشعر بأنه متمكن من ذلك

المقام، ويتفكر في آثاره الحسنة، فإذا غاب عنه هذا الشعور والفكر فصار لا روية

ولا رؤية؛ وإنما هي أعمال كالأنفاس وحركات الجفون، فتلك نهاية الكمال في

المقام، والشيخ محيي الدين بن عربي يعبر عن هذا بمقام الترك، فيقول مقام

التوكل ومقام ترك التوكل ومقام الصدق ومقام ترك الصدق؛ وإنما يعني ترك شهوده

وتلك غاية الكمال، يصدُق المرء من غير شعور سابق يدفعه إلى الصدق عند كل

فرد من أفراده، وبدون فكر في مقدمات الصدق ونتائجه ولا ملاحظة لتلبسه بهذه

الفضيلة، ولا إعجاب بها وبآثارها، وليس محالاً أن يرتقي الإنسان في التهذيب

إلى أن تكون الأعمال الحسنة منه كحركات الجفون لا يتفكر فيها، ولا يشعر بها إلا

إذا ذكره مذكر أو نبَّهه منبه.

تلك درجات مرتبة، ومراتب متعاقبة، فالشعور والحال، ثم الملكة والمقام،

ثم الرسوخ والاطمئنان حتى لا شهود ولا عيان، إلا ما كان كومضة برق، أو

نبضة عرق.

كيف ينفخ المربي روح الشعور النافع والوجدان الشريف في النفوس؛ ليعرج

بها جنات الفضائل العالية، حيث تعيش العيشة الراضية؟ يقول الإمام الغزالي إن

العلم هو الذي يحدث الحال في النفس، والحال هو الذي يُحْدِث العمل، وعلى

العمل مدار السعادة، ويقول إن الترتيب بين هذه الثلاثة واجب لا يتخلف بمقتضى

اطراد سنة الله تعالى في الملك والملكوت، ونرى أكثر علمائنا، بل أكثر الناس

يقولون إن العلم لا يوجب العمل، وقد نازع حجة الإسلام بلفظ (يوجب) بعض من

يوصف بالإمامة من العلماء الذين لم يفهموا كلامه لتقيدهم بالاصطلاحات الكلامية،

وقد صرح هو بأنه يريد بالعلم اليقين بأن الشيء ضار أو نافع، ولا شك أن اليقين

أو الرجحان عند تعارض اعتقادين في النفس هو الذي يملك على النفس أمرها،

ويبعث فيها وجدانًا يزعجها إلى العمل؛ وإنما نظر القوم إلى العلم التصوري أو

التصديقي الضعيف الذي تتنازعه الشكوك وتعارضه تصورات أو تصديقات أخرى

هي أقوى منه، فلا يصدر عنه أثره وإنما يصدر الأثر عن الراجح القوي كما

أوضحناه في مقالة عنوانها تأثير العلم في العمل (راجع العدد الثاني من المجلد

الثاني) .

ما قاله الإمام الغزالي صحيح؛ ولكن العلم الصحيح اليقيني بالمنافع والمضار

والمصالح والمفاسد عزيز في البشر، لا سيما مصالح الأمم والمِلَل، ثم إن إيداعه

في النفوس بالتعليم على وجه يغلب تأثير التقاليد والعادات، والتأثر بما ينافيه من

المسموعات والمشاهدات، أعز وأعسر، وأقل وأندر، فلابد من تعزيز والتعليم

بالتربية العملية، بل التربية هي الأصل والتعليم يمدها ويغذيها، ويثمرها وينميها،

وهذه الطريقة طريقة الدين فإنه بعد أن أشعر النفوس عظمة الله وسلطانه وفضله

وإحسانه شرع للناس أعمالاً ووضع لهم شعائر، كان لها السلطان الأكبر على

القلوب والضمائر، فكان إحياء وجدان وشعور، وبعث همم ونشور، مقرونًا بتعليم

قويم يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.

شُرِّع الدين لإسعاد الأفراد في أنفسها، وإسعاد الشعوب في مجموعها؛ ولذلك

كان بعض أعماله عبادات تتعلق بتهذيب الأفراد، وبعضها شعائر تتعلق بالاجتماع

كأعمال الحج والعيدين وصلاة الجمعة والجماعة، وقد كان لهذه الشعائر تأثير

عجيب في الحياة الملية والاجتماعية، حيث لم تكن رسمًا صوريًّا يؤدى كما تؤدى

المغارم والديون على ما هي اليوم، وإنني لا أنسى ذلك الشعور الإسلامي الذي

يسوقني وأنا ابن بضع سنين إلى مسجد البلد الجامع لحضور صلاة التراويح وصلاة

الفجر، ولحضور الوعظ بعد العصر في رمضان، ولا أنسى تلك اللذة الروحية في

اجتماع الناس لهذه العبادات وأمثالها، لا سيما ارتفاع أصواتهم بالتكبير قبل صلاة

العيد، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد

هذا الشعور الذي يجده الصغير في نفسه بمقتضى الفطرة، ويفقده بعد أن

يعتاد هذه الأعمال من غير فهم إلا أن يتعاهد بتربية تجدد عنده في كل وطور من

أطوار العمر، فهما في هذه الشعائر يبعث فيه شعورًا يليق به، ولولا أن مَنَّ الله

تعالى عليَّ منذ تعلمت القراءة والمطالعة بعشق كتاب (إحياء علوم الدين) الذي هو

أعظم كتب علماء الإسلام تأثيرًا في النفوس - لصارت العبادة عندي عادة لا تأثير

لها، وإنما صرحت بهذا ليكون نفعه عامًّا.

ومن البلاء العظيم الذي نزل بالمسلمين التقصير في إقامة شعائر الإسلام على

أصلها، والتوسل بها إلى إحياء الشعور الملي، فقد نزعت روحها أولاً، ثم طرأت

الأمراض على صورها فغيَّرتها حتى عافها المترفون، وأعرض عنها الأكثرون،

وكأن الشعائر التي تبعث الشعور وتحرك ساكن الوجدان أمر طبيعي في الأمم؛

ولذلك لم يلبث المسلمون بعد ضعف شعائرهم أن استبدلوا بها شعائر أخرى سرت

إليهم من الأمم المخالطة؛ ولكنهم صبغوها بصبغة دينهم، ولوَّنوها بلون شرائعهم،

وهي الأعياد والمواسم التي يحتفلون بها عند قبور الصالحين، وفي بعض الأيام

الفاضلة فلهذه المواسم تأثير كبير في نفوس العامة، وهو شعور ديني لا يُنكر؛

ولكنه غير إسلامي وأبعدها من الإسلام أشدها تأثيرًا، وهو ما يسمونه الموالد

(راجع باب البدع) .

اتبع المسلمون في هذا سنن من قبلهم في الابتداع؛ فإن المسيحيين تركوا

أعياد اليهودية وهي ديانة المسيح وانتحلوا لأنفسهم أعيادًا أخذوها عن الوثنيين؛ فإن

عيد الميلاد المسيحي لم يُعرف عندهم إلا في القرن الرابع بعد المسيح، وعيد ميلاد

مريم اختُلف فيه، فقيل ابتُدع في القرن الخامس، وقيل في السابع، وقيل في

التاسع، وقيل في الحادي عشر، وعيد الشهداء لم يُعرف إلا في أواخر القرن

الرابع فكانوا يقرأون قصصهم، وتؤدى عندهم فرائض العبادة، وتذبح الذبائح،

ويولم الأغنياء الولائم، فيأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون، وأما عيد الرسل فلا

ندري متى ابتُدع؛ ولكن له ذكرًا في حوادث القرن الرابع، وكانوا يحتفلون به في

رومية عند قبري بطرس وبولس.

قلنا: إن النصارى أخذوا أعيادهم هذه عن الوثنيين، ولوَّنوها بلون دينهم،

وهذا القول قد صرَّح منهم به كثيرون من رجال التاريخ، ورجال الدين، وصرحوا

بأنهم كانوا يعبدون الشهداء والرسل، وأن ذلك سرى فيهم بالتدريج كما قال

بيوسوبر في تاريخ المانيكيين، وجاء في قصة حياة غريغوريوس توماتورغوس:

أن غريغوريوس لما رأى الجماهير الجهلاء البسطاء متمسكين بأصنامهم لما فيها من

اللذات الحسية، أذن لهم في أعياد الشهداء القديسين أن يتلذذوا ويتنعموا رجاء أن

ينتقلوا بعد ذلك باختيارهم إلى حياة حسنى وطريقة مثلى. وفي (ريحانة النفوس

في الاعتقادات والطقوس) : (إن الذين انحازوا من عبادة الأوثان إلى الديانة

المسيحية إذ وجدوا بعض أمور في أعياد الشهداء تشبه ما كانوا معتادين عليه في

أديانهم الأولى، فقد نقلوا إليهم ذلك الإكرام الذي كانوا يقدمونه لآلهتهم) .

لو لم يوجد في النصارى من يؤول لهم عبادة الشهداء ونحوهم لما انتشرت

فيهم وعمت بلادهم، وإننا نذكر عبارة من تلك التأويلات لأجل تطبيق الحديث

الشريف، قال أغوستينوس: إننا نتعلم أن نكرم الشهداء لا أن نعبدهم، بل إنما

نعبد الله وحده الذي تعبده الشهداء؛ لأنه لا يجب أن نكون مثل الوثنيين الذين نحزن

عليهم لأنهم يعبدون الموتى من الناس، ثم أوضح هذا بقوله: إننا لا نتخذهم آلهة

ولا نعبدهم كآلهة؛ فإننا لا نعطيهم هياكل ولا مذابح ولا ذبائح ولا يقدم لهم الكهنة

القرابين، حاش لله فإن هذه الأمور إنما تعمل لله فقط اهـ. أقول: لكنهم باسم

التعظيم والتكريم الذي أذن فيه وجوَّزه قد قدموا لهم الذبائح وعبدوهم عبادة حقيقية،

وإن لم يسمها بعضهم عبادة، وهذا هو السبب في تشديد النبي صلى الله عليه وسلم

النكير على تعظيم القبور واتخاذها أعيادًا؛ ولكن هي سنة الكون تنتقل العادات

والتقاليد من بعض الملل إلى بعض كما في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من قبلكم

شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)

تقلد الأمم بعضها بعضًا في الشعائر الدنيوية أيضًا؛ فإن أهل الغرب اتخذوا

لملوكهم أعيادًا لإحياء الشعور الوطني الذي يمثله رئيس الدولة في الملكية، وللدول

الجمهورية منهم أعياد باسم الحكومة التي يعتزون بها ويعززونها، وقد قلدهم

الشرقيون في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم لإرضائهم إذ كانوا لا وطن لهم ولا

وطنية، ولا دول عزيزة بملوكها قوية، ولا شك أن هذه الأعياد شعائر تبعث

الشعور بحب السلطان أو الأمير في نفوس الذين يعتقدون فيه النفع للدولة والأمة،

فينتفع بهذا المستبدون، ويغتر به المغترون، حتى يأتيهم العذاب من حيث لا

يشعرون.

يبلغ الشعور في أفراد الأمم العزيزة الحرة مبلغًا يُعَدُّ من الخوارق في نظر

الأمم المريضة المستعبَدة، فقد كثر في هاتين السنتين عدد المجانين في إنكلترا وقال

نطس الأطباء إن سبب ذلك الانفعال الشديد لخذلان الدولة في حرب الترانسفال،

وما دفع البوير إلى الاستبسال في ساحات الوغى إلا الشعور القوي بألم الاستعباد

المتوقع الذي استوى فيه النساء مع الرجال، فكن عونًا لهم في ميادين القتال،

فليعتبر قومنا إن كانوا يشعرون، أو ليموتوا ليحيى الأمراء والحاكمون. نعم قد دب

فيهم شيء من الشعور نفرد له مقالة في جزء آخر.

_________

(1)

راجع العدد الرابع من المجلد الأول.

ص: 641

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين

وحجج المسلمين

النبذة التاسعة في كتب العهدين

جعل مؤلف الأبحاث الفصل الثاني من البحث الأول في إثبات صحة التوراة

والإنجيل عقليًّا، وتقرير هذا الدليل أن الله قادر حكيم فلا بد أن يضع دستورًا

ويكتب شريعة لمخلوقاته العاقلة، كي تعلم نسبتها إلى خالقها وواجباتها نحوه،

وواجبات بعضها نحو بعض، وتعرف مصير العالمين وقصاص العصاة وثواب

الطائعين المؤمنين لئلا يكونوا فوضى لا وازع لهم ولا مشترع كالأنعام يدوس

بعضهم بعضًا، وكالأسماك يأكل صغيرَها كبيرُها، ويفني الناس بعضهم بعضًا

وتستوي الفضيلة والرذيلة، وهذا ما لا يرضى به القادر الحكيم، ثم قال: (فإذا لم

يكن ذلك الدستور وتلك الشريعة هما التوراة والإنجيل، فقل لي بعيشك ما هما، هل

يوجد كتاب قديم مقدس يفي بالغرض المقصود كالتوراة والانجيل؟ كلا

لعمري) .

(المنار)

إننا لا نؤاخذ المؤلف على تقصيره في تقرير وجه الحاجة إلى الشريعة، إذ

يعرف القراء هذا التقصير بمقابلته بما كتبناه وما سنكتبه في بيان الحاجة إلى الوحي

من دروس الأمالي الدينية؛ ولكننا نذكِّره بأمور إذا تأملها ظهر له أن حجته داحضة.

(1و2) لماذا ترك الله البشر قبل التوراة ألوفًا من السنين لا نعلم عددها من

غير شريعة إذا كان ذلك لا يرضيه؟ ولماذا لم تظهر حكمته هذه إلا في بني

إسرائيل من عهد قريب، وكل الناس عبيده والعلة تقتضي العموم؟ هذان السؤالان

يردان عليه، وعلى جميع اليهود والنصارى القائلين بقوله ولا يردان على المسلمين؛

لأن القرآن حل هذا الإشكال بقوله تعالى في الرسل: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ

وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) فنحن نعتقد أن الله أرسل رسلاً في

جميع الأمم التي استعدت بترقيها إلى فهم توحيده لا يعلم عددهم غيره تعالى.

(3)

هل كان أهل الصين كالأنعام يدوس بعضهم بعضًا، أو كالسمك يأكل

كبيرهم صغيرهم بلا وازع ولا رادع، أم كانوا أولي مدنية وفضائل قبل وجود بني

إسرائيل وبعدهم؟ والتاريخ يدلنا على أنهم كانوا أرقى من بني إسرائيل في العلوم

والمعارف والمدنية والنظام الذي تُحتاج الشريعة لأجلها، وكانوا أرقى من النصارى

أيام لم يكن عند هؤلاء إلا الديانة التي بثها فيهم مقدسهم بولس، فما زادتهم إلا عداوة

وبغضًا واختلافًا وتنازعًا وحربًا واغتيالاً في تلك العصور التي يسمونها المظلمة،

وكان الصينيون في هدوء وسلام ووفاق ووئام، ما قيل في الصينيين يقال نحوه في

الهنود، ولا يرد مثل هذا الإشكال على المسلمين؛ لأنهم بمقتضى هدى القرآن

يجوزون أن يكون الله تعالى بعث في الصين والهند أنبياء أرشدوهم إلى ما كانوا

فيه من السعادة، ثم طال عليهم الأمد، فمزجوا ديانتهم بالنزغات الوثنية الموروثة

حتى حوَّلوها عن وجهها تحويلاً، كما نعتقد مثل ذلك في النصارى إذ لا شك أن

ديانتهم في الأصل سماوية توحيدية، ثم حوَّلوها إلى عبادة البشر من المسيح وأمه

وغيرهما.

(4)

إن الأوروبيين قد استغنوا بالقوانين الوضعية عن شريعة التوراة،

وبالآداب الفلسفية عن آدابها وآداب الإنجيل فطرحوا الزهادة، ونفضوا عن

رؤوسهم غبار الذل، وقد نجحوا بهذا وارتقوا عما كانوا عليه أيام كانوا متمسكين

بهذا الكتاب الذي يسمى (المقدَّس) فكيف تقول إنه لا يوجد غيره لهداية البشرية

وتهذيب أخلاقهم، وهذا الواقع على خلافه، وهذا الإشكال لا يرد أيضًا على

المسلمين؛ لأنهم يعتقدون أن اليهود والنصارى نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به في الوحي

وطرأ على الباقي التحريف والنسخ، فلم يعد صالحًا لهداية البشر، ويعتقدون أن

الأوربيين أقرب الناس إلى دين الإسلام في أخلاقهم الحسنة كعزة النفس، وعلو

الهمة والجد في العمل والصدق والأمانة والاهتداء بسنن الكون والاسترشاد بنواميس

الفطرة، والأخذ بالدليل وغير ذلك، وأنهم كما اهتدوا إلى هذا بالبحث والتوسع في

العلم سيهتدون كذلك إلى سائر ما جاء به الإسلام من العقائد والأخلاق والفضائل

والأعمال.

(5)

إن المسلمين قد ظهر فيهم كل ما ذكره في وجه الحاجة إلى الشريعة

على أكمل وجه لم يعرف مثله في الكمال عند اليهود والنصارى، فعرفوا ما يجب

لله تعالى، وما يجب من حقوق العباد وصلح بالدين حالهم، واجتمعت كلمتهم

وتهذبت أخلاقهم، وسمت مدنيتهم في كل عصر بقدر تمسكهم به، والتاريخ شاهد

عدل.

(6)

إذا كانت التوراة قد بيَّنت كل ما ذكره من حاجة البشر إلى الشريعة

فلماذا وُجد الإنجيل؟ وإذا كانت ناقصة فلماذا جعلها الله ناقصة لا تفي بالحاجة،

وكيف يتم له الدليل بناء على هذا القول على إثبات التوراة والإنجيل بالعقل؟ وهذا

الإشكال لا يرد على المسلمين المعتقدين بصحة أصل التوراة والإنجيل؛ لأنهم

يقولون: إن كلاًّ منهما كان نافعًا في وقته، ثم عدت عواد اجتماعية ذهبت بالنفع

والفائدة، فساءت حال القوم المنتمين إلى الكتابين، فجدَّد الله الشريعة بالإسلام على

وجه فيه الإصلاح العام، فانقشع بنوره كل ظلام، وحفظ الله كتابه من التحريف

والتبديل ليرجع إليه الذين يضلون السبيل.

(7)

إذا كانت التوراة مشتملة على ما ذكره - كما تقدم - فلماذا تركها

المسيحيون فعطلوا شرائعها، وضيَّعوا حدودها كما بيناه في بعض نبذ الرد

السابقة.

(8)

إذا كانت كتب العهد العتيق والعهد الجديد إلهية حقيقية، فلماذا وُجد

فيها الاختلاف والتناقض والتهاتر ومصادمة العقل الذي لا يُفهم الدين ولا يُعرف إلا

به، وقد تكلمنا على مصادمتها للعقل قليلاً في بعض النبذ الماضية، وسنبين بعد كل

ما ادعيناه هنا تبيينًا.

(9)

إذا كانت هذه الكتب إلهية وافية بما ذكره المصنِّف من حاجة الناس

للشرائع، فلماذا وُجد فيها ما يُخل بذلك أصوله وفروعه، كتشبيه الله بخلقه ونسبة

الفواحش إلى الأنبياء الذين هم أحق الناس وأولاهم بالاهتداء بالدين الذي تلقوه عنه

سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما ينافي الآداب الصحيحة كما ألمعنا من قبل،

وسنزيد ذلك بيانًا، ونكتفي الآن بإشارات من لامية البوصيري رحمه الله تعالى،

قال في شأن العهد العتيق وأهله:

وكفاهم أن مثَّلوا معبودهم

سبحانه بعباده تمثيلا

وبأنهم دخلوا له في قبة

إذ أزمعوا نحو الشام رحيلا

وبأن (إسرائيل) صارع ربه

فرمى به شكرًا لإسرائيلا

وبأنهم سمعوا كلام إلههم

وسبيلهم أن يسمعوا منقولا

وبأنهم ضربوا ليسمع ربهم

في الحرب بوقات لهم وطبولا

وبأنه من أجل آدم وابنه

ضرب اليدين ندامة وذهولا

وبأن رب العالمين بدا له

في خلق آدم يا له تجهيلا

وبدا له في قوم نوح وانثنى

أسِفًا يعضُّ بنانه مذهولا [1]

وبأن إبراهيم حاول أكله

خبزًا ورام لرجله تغسيلا [2]

وبأن أموال الطوائف حُللت

لهموا ربًا وخيانة وغلولا

وبأنهم لم يخرجوا من أرضهم

فكأنما حسبوا الخروج دخولا

لم ينتهوا عن قذف داود ولا

لوط فكيف بقذفهم روبيلا [3]

وعزوا إلى يعقوب من أولاده

ذكرًا من الفعل القبيح مهولا

وإلى المسيح وأمه وكفى بها

صدِّيقة حلت به وبتولا

وأبيك ما أعطى يهوذا خاتمًا

لزنى بمحصنة ولا منديلا [4]

لوَّوا بغير الحق ألسنة بما

قالوه في (ليَّا) وفي راحيلا [5]

ودعوا سليمان النبي بكافر

واستهونوا إفكًا عليه مقولا [6]

وجنوا على هارون بالعجل الذي

نسبوا له تصويره تضليلا [7]

إلى أن قال:

الله أكبر إن دين محمد

وكتابه أقوى وأقوم قيلا

طلعت به شمس الهداية للورى

وأبى لها وصف الكمال أُفُولا

والحق أبلج في شريعته التي

جمعت فروعًا للهدى وأصولا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده

طلع الصباح فأطفئ القنديلا

درست معالمها ألا فاستخبروا

عنها رسومًا قد عفت وطلولا

ولا يخفى أن هذه المطاعن التي تنافي ما ذكره المصنِّف وغيره من الدليل

على حاجة البشر إلى الشريعة ولا تليق بالوحي السماوي، لا ترد على المسلمين

الذي يقولون بحقية التوراة والإنجيل لما بيَّناه في الجزء الخامس فراجعه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

بدا له، في البيت وما قبله، أي: ظهر له فيه رأي جديد، وفي سفر التكوين (6: 6) أن الرب حزن وتأسف؛ لأنه خلق آدم، ويلزمه البداء والجهل، وكذلك في نوح وقومه.

(2)

راجع (18 تك) .

(3)

يريد رمي داود بالزنا بامرأة أوريا (11 صموئيل 2) ولوط ببناته راجع (19تك) وأما روبيل فيسمونه رؤبين راجع قصة قذفه في (35 تك) .

(4)

في (38 تك) أن يهوذا زنى بكنته ظنًّا أنها بغي، ووعدها بجدي وأعطاها خاتمه وعصابته وعصاه رهنًا على ذلك، وجاءت منه بتوأم.

(5)

القصة في (29 و30 تك) .

(6)

في (11 الملوك الأول) أن النساء أملن سليمان لعبادة الأوثان (برأه الله) .

(7)

راجع (32 خروج) .

ص: 654

الكاتب: عبد العزيز محمد

التدريج الفطري

في تعليم الرسم والخط والقراءة [1]

(32)

من الدكتور أراسم إلى زوجته في 18 إبريل سنة 185

تلقيت رسم (أميل) فاغتبطت به، ولله ما تفضلت بإضافته إليه من الشرح

الذي كان كالمفتاح لمغلقه، فلولاه لما نفذ ذهني في سر خطه البربائي، لا شك أن

هذه البقعة الكبيرة السوداء تمثل العاصفة والبحر المضطرب والسماء المظلمة

بالسحب، وهذه يدي رهن لمن شاء على أني أرى فيه السفينة الغريقة، وإن كانت

قوانين علم المرئيات لم تراع في الرسم بالتدقيق، وذلك الشيء الطافي على وجه

الماء لا بد أن يكون زورق النجاة، وأما هذا الوجه المصبوغ بالمداد فلا وجه للخطأ

في معرفته، فهو وجه قوبيدون، وكأني أرى بعين الارتياح في الصورة الصغيرة

الملقاة على الأرض تلك الفتاة المغمى عليها التي نجت من الغرق، أراك تجدينني

قد فهمت ذلك الرسم الذي لا أعرف من آثار ولدي سواه، وقد علقته هو وصورته

على جدار حجرتي.

إن صناعة الأطفال تذكرنا دائمًا بطفولية الصناعة، وإن تصوير بعض أشكال

هذا العالم الخارجي هو ملكة غريزية في نوعنا، وربما كانت هي التي تميزنا عن

غيرنا من سائر الحيوانات أجلى تمييز؛ فإن إنسان (الغاب) الوحشي الذي لا

تُعرف لغته ولا تاريخه قد عُلِم عنه اليوم أنه كان في زمن ما ينقش بالظِّران

(الحجارة المحددة) على الحجر، أو على قرن الأيل القطبي صورًا سمجة لا أثر

للإتقان فيها كصورة الفيل القديم ذي الفروة المسمى بالممُّوث، كما رسم بعض

الحيوانات الأوابد الغريبة التي كان يغالبها في التسلط على الآجام والغاب.

لدينا كذلك برهان على أن مجتمعات الإنسان الأولى مارست فنون التقليد من

قبل أن تضع لنفسها قوانين ثابتة تكفل لها حاجيات معيشتها.

أستنتج مما قدَّمته أن تعليم الأطفال ينبغي أن يبدأ فيه بالرسم، وهذه هي

الطريقة التي تتلمسينها لنقل الطفل من التصوير إلى الكتابة.

لقد أحسنت النظر إذ انتبهت إلى أن حروف كتابتنا لا صلة بينها وبين ما

وضعت للدلالة عليه بشكلها، وأنه ما ثمَّ إلا المواضعة والاصطلاح؛ فإن الطفل ما

رأى في الكون شيئًا هو (أ) أو (ب) ولكن اختراع هذه الحروف هو من أعظم

الآثار وضروب فوز العقل الإنساني المخلدة في صفحات تاريخه، واذكري أن الأمم

القديمة كانت قد استعدت من زمن طويل للحروف الهجائية بممارسة الرسم، ثم

انتقلت منه إليه، فقد استمد الفينيقيون حروفهم من الكهنوتي القديم، وأما أبناء هذا

العهد فإن هذا الاتصال بين الرسم والخط مقطوع في نظر الطفل الذي يتعلم القراءة

والكتابة بخطهم؛ فإنه ينتقل فجأة إلى عالم معنوي لا يجد فيه شيئًا يسترشد به، ولا

رابطة القياس والمماثلة، وبعد هذا يندهش معلمه من استثقاله ما يراه أمامه من

العقبات، ليس هو الذي يحق له المعارضة في مثل هذه الطريقة المضادة للعقل،

بل إن كل ذي ذوق سليم وحكم صحيح يحق له ذلك.

كل ما يتعلق بالخط يحملنا على اعتقاد أن الحروف الهجائية التي اختُرعت

أولاً قلما كانت إلا صورًا لبعض أشياء كانت تنسب إليها أكثر من غيرها، والخط

ابتدئ باختصار في الرسم، وليت شعري هل محيت تلك الآثار البربائية بتمامها من

الحروف الهجائية للغات الحديثة؟ أقول إن هذا الأمر محل للشك، وإنى أعرف

رجلاً كيسًا كان يُرجع أشكال حروف لغتنا المطبوعة إلى بعض الصور الخلقية،

نعم إن مضاهاته كانت أحيانًا تشف عن بعض التكلف؛ ولكني أود عن طيب نفس

اتباع طريقته للتوفيق في ذهن أميل بين طائفتين من الأشكال تظهران لأول نظرة

متباعدتين كأن بينهما بحرًا رهوًا، فإذا رسم مثلاً سطحًا مستديرًا يمثل به الشمس

أكتب في أسفل هذا الرسم اسم هذا الكوكب بالفرنساوية Soleil معتنيًا بإظهار حرف

O مكبرًا، فإذا كان الرسم منزلاً Maison، أو ثعبانًا Serpent، أو طريقًا متعرجًا

Zigzag، أو عينًا باصرة œil بذلت جهدي في بيان وجوه الشبه التي عساها توجد

بين الحرف الأول من هذه الكلمات والأشياء التي تمثلها في الذهن؛ فإن أميل يفهم

بهذه الطريقة أن الخط هو كيفية أخرى للرسم بها يبين الإنسان مراده بأوضح مما

يحاوله بالرسم، وفى زمن أقل.

إن الذي يحيِّر الطفل ويضله هو إلزامه باتباع طريقتنا في النظر بدل أن

نستدرجه من المعلوم إلى المجهول استدرجًا سهلاً، فتريننا نبادر إلى صب المعاني

العقلية في ذهنه صبًا على حين أنه لم يكتسب بعد ملكة تمييز هيئات الأشياء المادية،

نضطره إلى ذلك بفضل ما لنا عليه من الولاية المعنوية على اختلاف درجاتها فينا؛

ولكني أرى أننا بهذه الطريقة نجني على ذهنه جناية تقضي بالأسف؛ فإن إلزامه

بالتعلم وقهره عليه يسلبان معظم ميله إلى الملاحظة والتعلم بنفسه، إن ضرر

الاستبداد في البيوت لم يكن أقل من ضرر استبداد الحكومة.

أرى أن الرسم والكتابة والقراءة هي ثلاثة ضروب من التمرين مرتبط بعضها

ببعض، بحيث لا ينبغي التفريق بينها في التربية الأولى، على أن الرسم هو الذي

تجب البداءة به؛ فإن في ذلك مزايا كثيرة أولها كفاية الطفل مؤنة ما للدرس من

السآمة والملل في أول أمره؛ فإن معظم الأطفال يكرهون الكتب، ومن منهم لا

يميل إلى الصور؟ كلا إن فيهم دافعًا طبيعيًّا يحملهم في الغالب على أن يرسموا

بأيديهم ما يقع تحت أبصارهم، فالرسم عندهم ضرب من اللعب خصوصًا إذا

مارسوه بدعوة الغريزة، واجتهدوا من أنفسهم في أن يمثلوا أشد الأشياء استمالة لهم،

ولا أنكر أن ملكة التمثيل والمحاكاة لا يستوي فيها جميع الأطفال؛ ولكن التأسي

كافٍ في تنبيهها غالبًا.

ليت شعري هل وُلد الإنسان رسامًا؟ هذا ما لا أعلمه؛ وإنما الذي يثبته لنا

التاريخ أن فنون الرسم تقدمت في جميع الأمم تقدم الكتابة والعلوم، وإذا كان الأمر

كذلك فالتاريخ يعيد نفسه في الأطفال كل يوم بأعيننا، ومن مزايا الرسم أيضًا أنه

يربي القوة الحاكمة في نفس الطفل؛ فإن في فتح أبواب الكون له قبل فتح الكتب

أمامه مبادرة لإرشاده له إلى ينبوع العلم، فمحاكاة الجماد أو الحيوان أو النبات توجه

نظره دائمًا إلى الصفات المقومة لماهية ما يحاكيه، وإن جاء الرسم ناقصًا، الرسم

هو تمثيل أشكال الأشياء وحدودها بخطوط، فيجب أن يكون الراسم قد رآها وقام

في نفسه معنى ما يميزها عن غيرها من العلامات والصفات الأصلية، وأما

الكلمات المكتوبة؛ فإنها لا تقتضي هذا العمل في الملاحظة فإنه متى عرف الطفل

التهجية وتركيب الحروف يمكنه أن يسمى عددًا لا نهاية له من الكائنات الحية

والجمادات التي ليس له بها أدنى معرفة، وتوجد له بذلك ملكة غاشة متى قويت

وثبتت بالعادة أضلت معظم العقول البسيطة التي لا هم لها إلا القشور.

لا يوجد الاستقصاء والتعمق في معرفة الأشياء إلا حيث يوجد القياس

والمضاهاة، فإذا لم يَعْتَدْ الطفل التفكر فيما يرى وملاحظته، يكون قليل الاهتمام

جدًّا بتفهم ما يقرأه.

آخر ما أذكره من مزايا الرسم أنه إعداد أولي كبير النفع في تعلم الخط، فإن

أميل بتخطيط صور الأشياء التي يستملحها تخطيطًا حسنًا أو رديئًا يمرن أصابعه

على الحركة، ويكتسب نوعًا من الخفة والدقة لتكوين الخطوط التي منها تتألف

حروفنا الهجائية؛ ولكن الغرض إنما هو إعداد الذهن للانتقال من الرسم الذي هو

كتابة الصور إلى الخط الذي هو رسم المعاني، فلو أننا تيسر لنا أن نربط في حكم

أميل التمثيل الخطي للأشياء المشهورة بالعلامات المعنوية التي تقوم مقامها، نكون

كأننا وضعنا على البحر الفاصل بينهما جسرًا، على أنه لا شيء أيسر من تصغير

الرسم في العمل؛ فإن أميل كلما رسم شجرة أو ثمرة أو حيوانًا أقول له إنك قد

رسمت حروفًا من حيث لا تدري، غير أنه توجد حروف أخرى أصعب من هذه

رسمًا وقراءة يكتبها المتعلمون، فإذا هجت فيه بهذا القول داعية الشوق وحب

الإعجاب هيجًا شديدًا أكتب له الكلمة الموضوعة للشيء الذي رسمه، وأحرضه

على محاكاتها، أفعل ذلك كله وأنا أضحك.

سواء عندي نجح في ذلك أم لم ينجح، ما دام يجتهد في كتابة تلك الكلمة ولا

شك أنه يجتهد في ذلك إذا حُمِلَ عليه بالحذق والمهارة، ولابد من إعادة الكتابة عدة

مرات قبل أن يكتسب شيئًا من ممارستها؛ ولكن الأصل باقٍ على كل حال، وبهذه

الطريقة يعرف أميل من هذا الحين السبب في الكتابة، وكيف أن الناس قد استبدلوا

برسم الأشياء حروفًا اصطلاحية تدل على ما يدل عليه الرسم، وبفضله تكون

مساحتها أصغر ووقت وضعها أقصر، هاتان هما مزيتا الخط على الرسم فقط،

وهما اللتان أطيل له الشرح فيهما؛ لأنهما أقرب إلى فهمه، وأدنى من عمله.

إن الطفل يجري في تعلمه تكوين الحروف عادة كما يجري الدولاب، فما

أحسنها طريقة للدخول في عالم المعقول.

نعم إني عرفت بعضًا من المصورين كانوا لا يستصوبون مطلقًا ترك ملكة

المحاكاة والتقليد مطلقة بلا قيد في الطور الأول من الحياة، ويرون أن الطفل إنما

يرسم في الغالب بالهوى، لا بمقتضى الفطرة كما يعتقد، وهذا الإطلاق يُفسد عليه

عمل يده بما تعتاد من عدم النظام، وإذا صدقناهم يجب في تعليم الفنون الجميلة

الولاية والتأديب، هذه مسألة يمكن اختلاف آراء الناس فيها كغيرها من المسائل؛

ولكنها على كل حال ليست محل نظري، فإني أراهن بألف بإزاء واحد على أن

أميل لن يدَّعي استحقاق جائزة رومة على الرسم، فأي وجه لي في الخوف أو

الرجاء في أن يصير بعد مصورًا، إن جل ما أرغبه أن يكون رجلاً ولا شك في أن

الشعور بما يوجد في الكون يعين على إنماء العقل والطبع، ومهما كانت رداءة

رسومه؛ فإن أقل ما فيها أنها تشهد له ببعض التفات توجه إلى ما يحيط به من

الأشكال، وهذا يكفيني منه الآن، فإذا كان ممن لهم ملكة حقيقية في الفنون، فلا بد

أن تظهر هذه الملكة فيه يومًا ما، أليس من الشواهد التي تُذْكَر في هذا المقام ذلك

الراعي الصغير الذي كان تعلم الرسم بنفسه أثناء رعي نعاجه، ولما تُكَمَّل فيه بعدُ

بواسطة التعلم في المدرسة صار الأستاذ رفاييل.

إني أرى أيضًا أن تعليم الكتابة كان يجب أن يسبق القراءة، أو أن هذين

التمرينين يجب أن يتصل أحدهما بالآخر، إن إندروبل ذلك الرجل المستنير الفكر

جدًا الذي لا بد أن تكوني سمعت شيئًا من سيرته في إنكلترا كان يبحث من سنين

عديدة عن طريقة معقولة لتعليم القراءة والكتابة، ولما كان في الهند اتفق أنه رأى

يومًا من الأيام أمام مدرسة في ضواحي مدراس ثُلَّةً من أحداث الهنود يرسمون

بأصابعهم حروفًا على الرمل، فوقف يلاحظهم ملاحظة المتأمل، وبعد أن عرف

طريقتهم ضرب بيده على جبهته قائلاً: قد وجدت مطلوبي، ليت شعري كيف

كانت هذه الطريقة؟ هي ولا شك طريقة بسيطة جدًّا ذلك أن أطفال الهنود لما كانوا

أقرب منا إلى الفطرة، وكانوا لذلك أعمل بمقتضيات العقل، كانوا يبتدئون برسم

الكلمة التي يرونها مكتوبة، ثم يبحثون عن أسماء حروفها ويتهجون مقاطعها، ثم

ينتهون بقراءتها.

أخص فائدة أراها في هذه الطريقة أنها تشغل اليد والفكر؛ فإن الذي يتعب

الطفل ويسئمه عندما يقف أمام كتاب؛ إنما هو التفاته الذي يُطلب منه بلا بصيرة؛

فإن عمل الإنسان بنفسه وبحثه وتخمينه وسيره من المعلوم إلى المجهول طريقة

فضلى في مخاتلة الضمير وخداعه.

لست والحق أقول معجبًا كثيرًا بطرق التعليم المخترعة؛ فإنها تفوق الحصر،

ومعظمها خيالية لا تنطبق على ما في العالم الخارجي مطلقًا، يحضرني أن هولانديًا

أعرفه خطر بفكره أن يجمع مجموعة من النعال، وأراك تقولين ضاحكة: هذا

خاطر غريب، نعم إنه غريب؛ ولكنه وقع فإن الإنسان لا يكون هولانديًّا بلا شيء،

وقد وجدت في خزائنه المقفلة بالزجاج كثيرًا من الأنموذجات المفيدة ففيها من

جميع الأنواع، ومن جميع البلدان والأعصر من البابوج، ونعل المشخصين إلى

جرموق الصينيين، ومن نعل متوحشي أمريكا الشمالية إلى بابوج كبراء الترك،

ففي هذه المجموعة من النموذجات المتعلقة بطبقات التاريخ المختلفة قد نسي صناع

النعال شيئًا واحدًا، ألا وهو شكل قدم الإنسان، إذا صح ما أقول فربما دعاني إلى

توجيه مثل هذا اللوم إلى واضعي طرق التعليم، ذلك أنهم يتعلقون كما ينبغي

وبعضهم ليس مجردًا من ملكة الاختراع؛ ولكن ينقصهم شيء من التفصيل وهو في

الحقيقة هين، ألا وهو شكل عقل الإنسان في أطوار حياته المختلفة.

الطريقة الفذة التي أراها تلائم حالة التلميذ؛ إنما هي سلامة ذوق معلمه، ولا

أقصد بذلك أنه لا موصل غيرها يمكننا أن نسترشد به في التربية، بل إني أعتقد

أن كثيرًا من الطرق العلمية التي استعملتها الأجيال الفطرية، ولا يزالون

يستعملونها ربما استعملت استعمالاً مفسدًا في تعليم الأطفال، فلا شك أنك سمعت

الحديث عن آلة الحاسب الصناعي، وإنني لم أقف تمام الوقوف على مزية هذه

الآلة التي دخلت في بعض المدارس لتسهيل بعض عمليات الحساب على التلامذة

بواسطة استعمال كرات من العاج؛ ولكني على يقين من أننا أخذناها عن الصينيين

وهي الحاسب الكروي المسمى في مملكة السماء (سوان بان) .

وعلى كل حال أعوذ بالله أن أنتقد مثل هذا الأخذ، بل إني آسف من عدم

رجوعنا كثيرًا إلى الطرق الصناعية والممارسات العملية للأمم المتأخرة لتسهيل

الوصول إلى بعض العلوم الأولية على المبتدئين.

هؤلاء الأقوام المتأخرون هم أطفال التاريخ، وقد عرفت الآن بعض القوانين

التي جرى عليها في جميع جهات الأرض تكوُّن اللغات والكتابة والفنون والديانات

والصناعة، وإننا لم نقف عند حد معرفة منشئ العلوم فقط، بل إن البحث في

العلامات التي تظهر فيها المعاني في أثناء الأطوار الأولى للحضارة قد أدى بنا إلى

معرفة استعداد العقل البشري وطرق الكتاب في الوصول إلى العلوم، فإما أن أكون

مخطئ خطأ فاحشًا، وما إن يكون هذا الترتيب الطبيعي في التقدم هو الذي ينبغي

اتباعه في تربية الأحداث.

إن طرق التعليم عند الأمم التي وقفت فيها حركة الترقي والتقدم عبارة عن

شؤون دائمة، وحالة وجود ومعرفة مستمرة فلا ينبغي أن تكون إلا وسيلة وقتية

للطفل، فإنه وإن كان في الأصل جاهلاً مثل هؤلاء الأمم؛ لكنه يمتاز كل يوم عن

الوحشي والبربري بملكة التحويل، التي كأنها مرسومة في أعضائه، فهو يعرج

بسرعة على معارج حالت بين الأجيال الدنيئة وبينها عقبات كؤود، فلا يقف في

عروجه هذا إلا عند الحد الذي تضعه له استعداداته وملكاته الشخصية ونوع القوم

الذين يعيشون بينهم وتأثير الزمن فيه، إن نسبة طرق التعليم إلى التربية، كنسبة

الأوضاع والقوانين إلى المجتمع، فهي لا تلائم إلا حاجة وقتية من حاجات العقل،

فيجب اعتبارها جميعها وقتية، فيكون من الحمق حصر عقل التلميذ في بعض

الأشكال التعليمية، كما كان من الجور في القرن السادس رغبة إبقاء الأمم على

نظام القرون الوسطى وعقائدها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب كتاب‌

‌ أميل القرن التاسع عشر

في التربية والتعليم.

ص: 659

الكاتب: أحمد جيتيكر

‌رثاء الأمير عبد الرحمن خان

كنا نتوقع من شعراء العربية المجيدين في مصر والشام المباراة في رثاء فقيد

الإسلام وأعظم أمرائه الذين عزّزه الله بهم في هذا الزمان الذي خربت فيه الممالك

الإسلامية بأيدي أمرائها، فإذا هم لا يزالون مشغولين بمدح من لا خير فيهم عملاً

بقاعدة أحسن الشعر أكذبه التي هدمها الإمام عبد القاهر الجرجاني (راجع المنار ج

31 م 3) فاحتجنا إلى الاقتباس من شعراء بلاد الأعاجم، فقد قرأنا في جريدة

(أمير الأخبار) الهندية قصيدة لصديقنا العالم الأديب الشيخ أحمد جيتيكر يرثي فيها

الأمير عبد الرحمن ضياء الملة والدين رحمه الله تعالى، فنشرناها تنويهًا بذلك

الفضل العظيم وتنبيهًا لفضلاء الأدباء إلى قضاء هذا الحق لمستحقه، وهي:

ببرق شملة نعيٌ يشمل الجللا [1]

فزلزل السهل في الأقطار والجبلا

أجَلْ أجَلَّ ملوك الأرض أروعهم

وأرصف الناس أخلاقًا قضي الأجلا

رزء به انهد للإسلام واأسفى

ركن ركين ونجم للعلا أفلا

يا ويلتاه ضياء الدين عاد عن الـ

ـعيون مستترًا حتى بكت ثكلاً

ماذا نقول وإنا في سنين بها

قحط الرجال فقدنا بغتة رجلا

قرمًا همامًا أريبًا حازمًا ندسًا

سميذعًا ليس هيابًا ولا وكلا [2]

مهذبًا شب في الأخطاب مقتحمًا

مجربًا ذلَّل الأخطار مكتهلا

لله سيف أقام الملك قائمه

فقام هندامه المعوَّج معتدلا

وفارس سَبَتْ الآسادَ هيبتُه

وأنزل الوعل رُعبًا أينما عقلا

بالكافرستان دين الله ضاء به

فراق أستانه والكفر عنه جلا [3]

الألمعي الذي تُضحي لفطنته

ما في النفوس من الأسرار مبتذلا

من لم يباه بملك قبل حضرته

سرير (كابل) مسرورًا ومتكلا

أتى كغيث بها والأرض مجدبة

حتى أراها خلاها بالثراء ملا

كلتا يديه من الآيات معجزة

على العجائب كل منهما اشتملا

ففي يد سحب يحيي الأنام بها

وفي يد شعل يطفي بها شعلا

من لم يزل لترقي القوم مجتهدًا

حتى غدوا يتقنون العلم والعملا

أكرم بخيل له غُرٍّ يجر بها

بحر الحديد يغطي موجه القللا

حامي حمى الهند كل الهند يشكره

لا ينكر الفضل إلا ذو قلًى غفلا

لولا الأمير لأمسى الهند مزرعها الـ

ـمخضل يرعاه خرس الروسيا هملا

إذن أتتها جنود ما لها قبل

وكان خشية بلقيس لها مثلاً

عسى الإله يرينا في خليفته

أسنى مثال فقيد أحسن البدلا

ومن يكن كحبيب الله وارثه

يرى الممات شبابًا رُد مقتبلا

فتى توارث مجدًا عن أبيه وعن

جد وكل علا كالبدر مكتملا

أشبال ليث الشرى! إنا نعيذكم

بقل وقل ثم قل من عين من فشلا

حتى نراكم كنفس وهي واحدة

فباتحادكم نستكثر الأملا

ثم لتكن غاية الإصلاح همتكم

لم يكسب الحمد من لم يصلح الخطلا

مجد بجد وجد ظل مجتمعًا

فلينتظر فرصًا وليغتنم دولا

يا رب وثِّق عرى الإسلام واحم بهم

حماه من كل جان بدد الثُّللا

واغفر لعبدك يا رحمن زلته

وارحمه والطف وأكرم روحه نزلا

أمن أديب وأرَّخ عام رحلته

حان الأمير ضياء الدين واجللا

_________

(1)

لعل (شملة) التي أضاف إليها البرق موضع أو جهة من جهات أفغانستان مما لا نعرفه، والجلل: الأمر العظيم.

(2)

الندس - بفتح فضم أو كسر - الفهِم الكيس، والسميذع - بفتح الدال المعجمة - السيد الكريم والشجاع.

(3)

الأستان - بالضم - الرستاق، وأستانة: ناحية بخراسان، قال ياقوت: أظنها من نواحي

بلخ في حدود الأفغان، وخراسان من جانب أفغانستان الغربي، هذا ما نراه أقرب إلى فهم قوله

(فراق أستانه) .

ص: 668

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌انتقاد المقتطف

وكتاب القسطاس المستقيم

عهدنا بالمقتطف الأغر العناية بتقريظ الكتب وانتقادها - لاسيما الكتب

النافعة - بأن لا يقرظ الكتاب إلا بعد قراءته، أو قراءة جملة صالحة منه يعرف بها

موضوعه ومسلكه فيه، ومما رأيناه فيه وراء حدود الغرابة الانتقاد على كتاب

(القسطاس المستقيم) لحجة الإسلام الغزالي عند تقريظه في الجزء الحادي عشر

الأخير حيث قال:

(ومما نراه في حد الغرابة من هذا الكتاب قول مؤلفه أن سائلاً سأله عما إذا

كان يزن حقيقة المعرفة بميزان الرأي والقياس، أو بميزان التعليم، فأجاب متنصلاً

من ميزان الرأي والقياس؛ لأنه ميزان الشيطان، فلا نكاد نُصدِّق أن عالمًا فاضلاً

كالغزالي ينفي ميزان الرأي والقياس، ويعتمد على ميزان التعليم في غير المعرفة

الدينية؛ ولذلك نظن أن في القسم الأول من الكتاب نقصًا، وأنه حُذف منه ما

يحصر المعرفة المقصودة هنا بالمعرفة الدينية، وإلا فإذا أُريد بها سائر المعارف

كالزراعة والصناعة والطب وكل العلوم والفنون، فالاعتماد فيها على الرأي

والقياس كالاعتماد على الحس والمشاهدة) .

(المنار)

لو طالع المنتقد الفاضل الكتاب لعلم أنه في الدين، وأن السائل سأل عن

المعرفة الدينية، فلا حاجة إلى الظن بأن في القسم الأول منه نقصًا، على أنه لا

حاجة في الوقوف على ذلك لمطالعة الكتاب كله؛ فإن وصف السائل بأنه من أهل

التعليم، وأنه يأمر باتباع الإمام المعصوم كافٍ في بيان أن السؤال عن حقيقة

المعرفة الدينية فحسب، فما بالك وقد سأل الغزالي الله فيمن يزعم من أصحابه أن

القياس ميزان المعرفة أن يكفي الدين شره (فإنه للدين صديق جاهل، وهو شر من

عدو عاقل) نعم إن السائل الذي يذكر الغزالي مناظرته في الكتاب من أهل التعليم

الباطنية القائلين بأن القلب لا يطمئن في الدين إلا إذا وُجد في كل عصر إمام

معصوم يُرجع إليه في الخلاف والمشكلات، والإمام الغزالي أنكر ذلك عليه،

وحاجَّه فيه حتى ألزمه وأقنعه، فقوله في صديق الدين الجاهل بعد ما ذكر: ولو

رزق سعادة مذهب أهل التعليم لتعلم أولاً الجدال من القرآن الكريم، حيث قال الله

تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125)

إلخ، يوقع المطلع على الكتاب في اشتباه، ويوهم أن

الغزالي من أهل مذهب التعليم؛ وإنما هو خصيمهم، ولكن قوله: (لتعلم أولاً الجدال

من القرآن) ينفي ذلك الاشتباه، ويذهب بهذا الوهم؛ فإن أهل التعليم لا يتعلمون

إلا من إمامهم المعصوم، ويسلِّمون له بكل ما يقول تسليمًا، ولعله سمى مذهب

نفسه مذهب التعليم ووصفه بالسعادة استمالة لخصمه ليُقبل عليه، فيعرف مراده من

التعليم.

الغزالى يقسِّم الناس في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام: (1) الخواص الذين لا

يعتقدون بشيء حتى يثبت عندهم بالدليل والبرهان، وهم الذين يُدْعَون بالحكمة،

وهم الذين يزنون بميزانها وهو القسطاس المستقيم الذي يذكره بعد، و (2) العوام

السُّذَّج، وهم الذين يُدْعَون بالموعظة الحسنة والإقناعيات، و (3) أهل الجدال

والمشاغبة والمراء والعناد، ولهؤلاء أحكام وأطوار، فتارة يحتاج إلى مجادلتهم

ويجب أن تكون بأحسن الطرق وأقربها إلى القبول، وأبعدها من المراء، وتارة

يسفَّهون ويجهلون، فيطلب الإعراض عنهم لقوله تعالى:{وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وتارة يعتدون على الحق بالقوة ويصدون عن سبيل الله

بالسيف، فتستبدل المجالدة بالمجادلة، ويستدل الغزالي على هذا في أثناء الكتاب

بقوله تعالى في شأن الرسل: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: 25) ِ يقول: الدعوة

بالكتاب مجردًا إنما هي للعوام، وبالميزان للخواص، والمقابلة بالحديد إنما تكون

للمُحادين المعاندين، الذين يمارون في البرهان، ويُعرضون عن البيان، فتأمل

مجمل مذهبه هذا، واقرأ ما جاء في المقتطف الأغر بعد تلك الجملة قال:

(فإذا صح ذلك فميزان المعرفة عند أهل كل دين كتبهم التي يعتقدون أنها

منزلة من إلههم، وعلى هذا النحو قال الإمام الغزالي: (إني أعرف واضع هذا

الميزان ومعلمه ومستعمله؛ فإن واضعه هو الله تعالى ومعلمه جبريل ومستعمله

الخليل ومحمد وسائر النبيين) ومتى رسخ اعتقاد الإنسان في نفسه هذا الرسوخ

سهل عليه أن يثق ثقة تامة بكل ما في كتابه، واستغنى عن كل دليل وميزان آخر)

اهـ.

(المنار)

إن المنتقد الفاضل يرى قصارى مذهب الغزالي أن يسلِّم الإنسان بكتابه الديني

تسليمًا مطلقًا، ويستغني به عن كل دليل وميزان آخر، وقد علمت مما ذكرنا عنه

آنفًا من التفصيل والتقسيم والتقييد خلاف ذلك، فكيف لو قرأت كتابه كله وتدبرته،

وإنني أحب أن يطالع الدكتور يعقوب أفندي صروف هذا الكتاب كله بدقته المعهودة،

ويصحح ما كتب عنه في المقتطف، وما أنا بموقن أنه هو الكاتب للنقد، وإن لم

يكن أحد من البشر مبرَّأ من السهو والخطأ، وأذكره بالفرق بين القياس في معرفة

الدين الذي ينفيه الغزالي، والقياس المنطقي الذي يثبته إذ يقول لا ثقة بعلم من لا

يعرف المنطق والقياس في سائر العلوم، وإن كان هذا مما يحيط به علمه الواسع.

_________

ص: 670

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تصحيح

ذكرنا في هامش مكتوب حافظ ص 589 ج 15 أن محمدًا بن الزيات كان

وزير مروان الحمار، وهو غلط سبق القلم إلى نقله من شرح الديوان مع الغفلة،

والصواب أنه كان وزيرًا للمعتصم العباسي، ثم للواثق بالله، ثم للمتوكل وعلى عهد

هذا اتخذ التنور المشهور الذي قضى فيه، ولعلنا نذكر خبره بعد.

جذيمة: كعظيمة، وتقدم في تقريظ قصة (جذيمة والزباء) ضبطه بالتصغير

سهوًا.

_________

ص: 673

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي

جرت العادة بأن تدعو محافظة مصر الكبراء والوجهاء من أهل العاصمة

لوداع سمو الخديوي المعظم عند سفره للاصطياف في الإسكندرية ولاستقباله عند

قدومه منها فَيُلَبُّوا الدعوة، وقد ارتأى بعض المقربين من جنابه العالي أن يحتفلوا

لقدومه في هذا العام بتزيين الطريق من المحطة إلى قصر عابدين المعمور، فأعلنوا

ذلك في الجرائد وفي مقدمتها جريدة المؤيد الغراء، ودعوا الناس إلى الاكتتاب،

وألَّفوا لجنة برئاسة سعادتلو عبد القادر باشا حلمي، فأقبل طائفة من الأغنياء

والوجهاء على الاكتتاب حتى بلغ ما جمعته اللجنة ألفًا ومائتي جنيه، فأنفقوا على

الزينة ألف جنيه، فكانت أحسن زينة رآها الناس في شوارع القاهرة.

أنشأوا ثلاثة أقواس أحدها عربي في ميدان المحطة، والثاني إفرنجي في

ميدان الأزبكية بالقرب من تمثال إبراهيم باشا، والثالث مصري في ميدان عابدين،

وأنشأوا بالقرب من هذا مسلتين بهيئة المسلات المصرية القديمة، وزيَّنوا المسلة

الكبرى والأقواس بالأنوار الكهربائية الملونة والنقوش الجميلة، ونصبوا على

جانبي الطريق سلاسل من أغصان الأشجار، علَّقوا فيها قناديل (فوانيس) من

الورق، وزاد الزينة بهاء وكمالاً أصحاب الدكاكين والفنادق والحانات الذين زينوا

أبوابهم بالأنوار الكهربائية والأعلام، وأكثرهم من الأجانب كما هو معلوم.

وقد أقام المحتفلون سرادقين عظيمين أمام قصر عابدين أحدهما لاستقبال

سموه، والآخر للعزف والغناء، فشرَّف الأمير - أعزه الله - ليلاً ما أُعِدَّ له إجابة

لدعوة المحتفلين، وأظهر لهم البشر والارتياح، وأثنى على عملهم وأريحيتهم،

وكانوا قرروا أن ما زاد عن نفقة الزينة من المال الذي يُجمع لها يكون إعانة لمدرسة

محمد علي الصناعية التي أنشأتها جمعية العروة الوثقي في هذا العام، فشكر لهم

الأمير وضع هذه المساعدة في محلها، وتلك عادته الممدوحة يثني على العاملين

ويذكرهم بخير.

ثم مر سموه في شارع الزينة ليلاً ذاهبًا إلى قصر القبة المعمور، وقد حُشر

الناس إلى هذا الشارع من كل صوب وناحية، فكان مزدحمًا بالألوف من الرجال

والنساء والولدان إلى ما بعد نصف الليل، وكانت تلك ليلة الجمعة التي يستريح

الأكثرون في يومها، وكان فرح الناس بالزينة مختصًّا بالأجانب وأبناء الطبقة الدنيا

من المصريين، إذ كانوا يمزقون قناديل الورق ويأخذون الشمع منها، حيث لم

يجدوا أحدًا من الشرطة يمنعهم، وبهذا قلَّ بهاء الزينة بعد الساعة التاسعة حيث كثر

هؤلاء الرعاع المعتدون، وأما الخواص فقد كانوا في همٍّ وغَمٍّ؛ لأن يوم الزينة هو

اليوم الذي تحقق فيه احتلال فرنسا بقسم من أسطولها وعسكرها في جزيرة مدللي

(متلين) بالقرب من زقاق الدردنيل، أما حكم مثل هذه الزينة شرعًا فلا يخفى على

مسلم، وربما نكتب عنه بالتفصيل في جزء آخر.

استدراك على المقالة الأولى من هذا الجزء

ذكرنا في المقالة الافتتاحية أن الشرقيين اقتدوا بالغربيين في الاحتفال بأعياد

ملوكهم وأمرائهم، وأن هذه الاحتفالات لأجل إحياء الشعور بعظمة وعزة الدولة

التي يمثلها الملك والأمير، فأما خبر الاقتداء فقد سبق به القلم على غير بينة ولا

دليل، والصواب أن الشرقيين أشد الناس تعظيمًا لملوكهم منذ القدم، وحسبك أنهم

عبدوهم من دون الله، وأنهم لا يزالون يقدسونهم بقدر ما لهم من السلطة والاستبداد،

وأما مسألة إحياء الشعور فنرى بعض الجرائد تنوِّه بضدها ذاهبة إلى أن هذه

الاحتفالات منبعثة عن الشعور بعظمة من احتُفل لأجله وحبه، وربما يصح هذا من

بعض المحتفلين الذين لهم فيه منافع تولِّد هذا الشعور؛ ولكن الظلم في إسناده إلى

الأمة مع أن القائمين به أفراد معدودون معروفون، وقد علمت من بعض كبار

الموظفين من الإنكليز بمناسبة ذكر عيد مولد ملكهم أن هذا العيد لا يكاد يعرفه

الإنكليز، ولا في لوندرة، ولا يُحتفل به، ولا بعيد الجلوس أحد إلا السفراء

والوكلاء عن الدولة في البلاد الأجنية؛ فإنهم يرفعون الأعلام ويقبلون التهاني من

سفراء سائر الدول ووكلائها، وقال إن الملك إذا قدم من سفر إلى لوندرة لا يستقبله

الكبراء والوجهاء في المحطة كما يستقبل المصريون الجناب الخديوي، ولا يزينون

له المحطة ولا الشارع الذي يمر منه، فهل كان الإنكليز فاقدي الشعور والإحساس

وغير مخلصين لملكهم؟ كلا إن الفرق بيننا وبينهم عظيم.

ولا يخفى أن الكلام عام في الاحتفالات والشعور الباعث عليها أو المنبعث

عنها لا في سمو الخديوي وحب المصريين لمقامه الكريم؛ فإن هذا مما لا نزاع

فيه.

سفر الجناب العالي إلى السودان

يسافر سمو الخديوي المعظم في هذا الشهر إلى السودان بصفة رسمية، وإننا

نرى آراء الناس مختلفة في هذا السفر، ومنهم أصحاب الجرائد، وسنذكر ذلك

مفصلاً بعد السفر إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 674

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

كان شهر رجب المنصرم شهر الموالد التي يُحتفل بها في القاهرة وضواحيها

بأسماء بعض الأولياء والأصفياء، كمولد الرفاعي والبيومي والسيدة زينب والإمام

الشافعي، فكنت ترى شوارع المدينة وأسواقها مزدحمة بالوفود القادمين من الأرياف

لحضور هذه الموالد بنسائهم وأولادهم مشاة وركبانًا، وتسمع النساء يزغردن

ويغنين راكبات على الإبل والحمير وعربات النقل، وأما مشايخ الطرق فكنت

تراهم في مُلك كبير: طبول ومزامير، وأعلام مرفوعة، وكلمة مسموعة، وأزياء

رائعة، ورعية طائعة.

رأيت شيخًا كبيرًا منهم يقود زعنفة في الطريق، وعلى رأسه عمامة حمراء

كبيرة عجراء، وهو يصيح ويتغنى، ويتمايل ويتثنى، وبيده قضيب يهش به على

الزعنفة ويشير إليهم بالأمر والنهي وهم له خاضعون ولأمره ممتثلون، بفرح

وسرور، ووجدان وشعور؛ لأن السلطة روحية دينية، لا قهرية سياسية، كسلطة

الحكام، أرباب الاستبداد والإلزام.

نعرف بالاختبار أن أمثال هؤلاء الناس لا يجدون في صلاة الجمعة والجماعة

ولا في العيدين بعضًا من هذا الشعور الديني، والفرح بالإسلام، وما فيه من سوابغ

الآلاء والإنعام، ولا تتحرك قلوبهم للوعظ والتذكير، كما تتحرك لسماع الدفوف

والمزامير، ولا يتلذذون في يوم العيد بالتكبير، كما يتلذذون في (الحضرة)

بالمكاء والصفير، والشهيق والزفير، وهذا الشعور الذي يُنسب إلى الدين هو أكبر

ما بقي في نفوس هؤلاء من سلطان الدين وتأثيره، وقد ارتفع قدر الموالد بسببه

وصار الناس ينفقون فيها النفقات العظيمة، ويعتقدون أن من اعتاد على حضورها

أو إنفاق شيء فيها، ثم ترك عادته فلا بد أن ينكب وتحل به المصائب والدواهي،

وقد نقل إلينا الثقات الخبيرون أن كثيرًا من الناس حاولوا في بعض السنين القعود

عن المولد الذي يعتادون حضوره، فكانت امرأة الواحد منهم تنذره بسوء العاقبة،

فإذا لم يبال بإنذارها تسعى في إيقاع الضرر أو الهلاك بشيء مما له من حرث أو

نسل؛ ليعتقد أن الولي تصرَّف فيه لعدم حضور مولده، ومنهن من توقع بولدها

منه - والعياذ بالله تعالى - فإذا هي لم تسع بشيء واتفق أن نزلت بهم مصيبة ?

ولا يسلم أحد من المصائب في نفسه وأهله وماله - فلا يشك هو ولا هي بأن

سبب المصيبة عدم حضور المولد.

كأن أولياء الله في اعتقاد هؤلاء الجهلاء ما وُجدوا إلا لإيذاء الناس وإرهاقهم

العسر، والفتك بهم عند أدنى تقصير في تعظيمهم؛ ولكنهم لا يغارون على دين الله

تعالى إذ لا ينتقمون من الكافرين بالله عز وجل، ولا يتصرفون بتاركي الصلاة ولا

بمانعي الزكاة، ولا يؤذون الزناة والسكارى وشهود الزور والمعتدين على حقوق

الناس! !

هذا الشعور الذي يرى أثره من العامة هو الذي يرضي الكثيرين من العقلاء

والفضلاء ببقاء العامة على هذه البدع، ولوم من ينكرها وعذله والاحتجاج عليه بأن

إنكارها يفضي إلى الشك في الدين؛ ولكن هذه السياسة باطلة فإن الحق لا يُعزز ولا

يُنصر بالباطل، وإن السكوت على هذه الأباطيل مصانعة للعوام يجعل الدين هزوًا

ولعبًا في نظر الخواص، ويطلق ألسنة أعدائه بالطعن فيه على أنه وقوع في مثل

ما أرادوا الهروب منه؛ فإن ما عليه الناس من البدع والخرافات مضاد للدين، ولا

شك أن الزيادة فيه والنقص منه سيان، ولو تنبهوا إلى مقدار فتك الخرافات في

عقول المعتقدين بها، وعلموا أنها أضعفت استعدادها، وأضلتها عن رشادها، حتى

كادت تفقد قابلية الفهم، وتُحْرَم من قبول أي علم، لا فرق بين الظن واليقين، في

أمر الدنيا وأمر الدين، لحكموا معنا بأن جناية البدع والخرافات، هي أعظم

الجنايات، وإن طلبت التذكير بالدليل، فدونك ما يأتي في التمثيل:

ولي الجيزة أو دجالها

في الجيزة شيخ من الذين يعتقد الناس فيهم الولاية، وينسبون لهم الكرامات،

وهذا الشيخ متهتك مدمن خمر يجلس في الحانات التي في الشوارع العمومية،

ويشرب في مجلس واحد أكثر من ثلاثين كأسًا، ونُقل إلينا أن بعض الأغنياء

الموصوفين بالصلاح يتقربون إلى الله - تعالى وتنزه عن تقربهم -بدفع ثمن الخمرة

التي يشربها، ويزعمون أن سؤره من الخمر فيه بركة وشفاء، فيشربون بهذه النية

وربما يتفل الخمر من فيه عليهم لأجل المباركة عليهم، ويؤكد الناقلون أن هؤلاء

الأغنياء الأغبياء معتقدون في الشيخ حقيقة لا محتالون على السُّكر باسم الدين.

ومن الناس من يعتقد أن الولي إذا تناول خمرًا للشرب يتحول الخمر في يده،

أو فيه إلى مائع آخر، وقد كان بعض الدجالين المدَّعين الولاية كالشيخ الطشطوشي

في مصر يشعوذ ويموه على الجاهلين - وأكثر الناس عندنا جاهلون - بسبب

اعتقادهم هذا، فيأتي بكأس من الخمر الصافي المسمى بالعرقى الذي يبيضُّ بالمزج،

ويجعل فيه ماء من حيث لا يشعر الحاضرون، حتى إذا وضع الكأس على فيه

مجَّ الماء فيه، فيصير أبيض اللون، ويقول الأغمار استحالت الخمرة لبنًا. وحزب

ولي الجيزة يعتقدون أنه يشرب الخمر فتنزل في جوفه خمرًا؛ ولكنه من أحباب الله-

حاش لله - الذين لا يؤاخذهم ولا يؤاخذ من ينتمي إليهم ويتصل بهم، وهذا

الاعتقاد كفر وخروج من الاسلام بلا خلاف بين الأئمة، وما أوقع الناس فيه إلا

الغلو في اعتقادهم الكرامات، وجعلها كصناعة من الصناعات، وزعمهم أن

السكوت على الخرافات إنما هو للخوف من إنكار الكرامات، على أن إنكارها ليس

بكفر، ولم يقل إمام بوجوب اعتقاد كرامة ولي مخصوص.

وهناك فتنة أكبر، وهي أن الدجال يفسر القرآن برأيه الفاسد وجهله الكاسد،

أستغفر الله، إنه رائج في سوق المعتقدين به، فهو في هذا كولي الزقازيق الشيخ

محمد أبي خليل وقد ورد في الحديث الصحيح (من فسر القرآن برأيه، فليتبوأ

مقعده من النار) وكل من ليس له دراية صحيحة بالعلوم والفنون التي يتوقف عليها

التفسير (راجع ص 207 م 3) فإنما يُفسر بالرأي والهوى، ونرى هؤلاء الجهلاء

يزعمون أن من الكرامة أن تفاض على الولي جميع العلوم فيضًا؛ ولكن العلماء

متفقون على أن علوم اللغة والشرع لا تُعرف إلا بالتلقي والتعلم، كما في فتاوى ابن

حجر الحديثية، وفي الحديث (العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم) وسنعود إلى هذا

البحث إن شاء الله.

_________

ص: 677

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

يرى الباحثون في العمران والمشتغلون بعلم الاجتماع بعد النظر في تاريخ

الأمم أن كل إصلاح وجد في العالم؛ فإنما كان بواسطة رجال فاقوا شعوبهم ببعد

النظر، وصحة الفكر، وعلو الهمة، وقوة العزيمة والإرادة، فتقدموهم ثم قَدَّمُوهم

وارتقوا بهم إلى المكانة العالية، والمنزلة السامية، ولا فصل في هذا بين الإصلاح

الديني والعلمي، والإصلاح المادي والسياسي.

ويقول هؤلاء الناظرون: ما بال بعض الممالك والأقطار تمر عليها القرون

والأعصار، وهي تضعف وتذل، وتذوب وتضمحل، ولا ينبت في أرضها رجل

عظيم، ينقذها من هذا الرجز الأليم، ما بال الشعوب الإسلامية قد تحوَّل عزها إلى

ذل، وكثرها في كل خير إلى قل، وعلمها إلى جهل، ولم يظهر فيها ملك حكيم،

ولا إمام عليم، يجدد لها مجدها، ويرجع إليها عزها، وأين مصداق ما يروونه عن

نبيهم صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من

يجدد لهذه الأمة أمر دينها؟) .

إنما يقول هذا الباحثون في الظواهر، والناظرون في الصور السطحية،

والذين يكتنهون الحقائق ويغصون في الأعماق ويفقهون الأسرار، وتنفذ أشعة

بصائرهم إلى ما وراء الأستار، يعلمون أنه ما قام مصلح في أمة من الأمم بعمل

من الأعمال تغيرت له حالة الأمة، وارتقت بهم من الحضيض إلى القمة، إلا بعد

أن استعدت تلك الأمة لقبول ذلك الإصلاح بتأثير الزمان، وتقلب الحدثان، أو

انتشار العلم والعرفان، فللإصلاح شرطان: أولهما استعداد الأمة لقبوله، والثاني

الزعيم الداعي إليه من طريقه الطبيعي مع الكفاءة والاضطلاع، فإذا ظهر مثل هذا

الكفؤ للقيام بالإصلاح في قوم ورآهم غير مستعدين لقبول إصلاحه فإنما يشتغل

بالسعي في إعدادهم وتهيئتهم للأخذ بأركان ذلك الإصلاح، ولا يدعوهم إليها في

أول الأمر، وربما يقضي عمره في إيجاد الوسائل غير بائح بسر من أسرار

المقاصد، إلا ما يودعه في أطواء الكلام، من الإجمال والإبهام، كالكناية والتورية،

وما يشبه الإلغاز والتعمية، فإذا هو صرح للقوم بالمراد، ودعاهم إلى خلاف ما

هم عليه من التقاليد والعاد، تقوم عليه القيامة، وتتوجه إليه سهام الملامة، بل

تنصب عليه قذائف القاذفين، ولعنات اللاعنين، وينزل به البلاء المبين، ويكون

في عمله من الخاسرين.

المصلح إما داعٍ ذو بيان، يستصرخ الشعور والوجدان، ويستنفر العقل

والجنان، دالاًّ على طريق الإسعاد، هاديًا إلى سبيل الرشاد، وإما ملك مستبد،

حكيم مستعد، على أمة خاملة، ورعية جاهلة، يحملها بالقهر والإلزام، على ما

يطلب ويرام، وكل منها مطالب بمراعاة استعداد الأمة ودرجة قابليتها؛ ولكن الأول

يحتاج من ذلك أكثر مما يحتاج إليه الثاني؛ لأنه يدعو النفوس إلى العمل باختيارها،

وإنما العمل الاختياري ما توجهت إليه الإرادة بباعث العلم والإذعان بأن فيه

اجتناب مفسدة، أو اجتلاب مصلحة، وليس لأحد سلطان على النفوس يفهمها ما لم

تستعد لفهمه، ويقنعها بما لا تحيط بعلمه، وإذا عجز المستبد عن التسلط على

الضمائر، والسيطرة على السرائر، فلا يعجز عن التصرف بالظواهر، بأن يلزم

الناس بالأعمال النافعة، وإن لم يعتقدوا نفعها حتى إذا جاء وقت الجني والقطوف،

عرفوا ما لم يكن معروف، فكانوا كمن يقاد للجنة بالسلاسل.

إن كون الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، قاعدة عامة شاملة للإصلاح

الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإن الله تعالى لم يبعثهم إلا مُعِدِّين،

ومصلحين للمستعدين، وقد {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) في

الجهالة والهمجية، والوقوع في شَرَك الشِّرك والوثنية،] فبعث الله النبيين مبشرين

ومنذرين [، بعدما استعد بعض الناس لفهم التوحيد وقبول الدين، ورجي أن يُعدوا

بإيمانهم الآخرين، ولنقص الاستعداد وضعف العقول أيد الله تعالى الأنبياء بالآيات

البينات، التي اعتاد الأكثرون على الخضوع لمثلها مما يخالف المألوفات، ولا

ينطبق على سائر العادات، ومع هذا كله كانوا يضربونهم ويطردونهم، وفي بعض

الأحيان يقتلونهم، ومنهم من لم يؤمن به أحد أو إلا الرجل والرجلان، ومنهم من

آمن به العدد الكثير، ثم ارتدوا وفسقوا بعد زمن قليل أو كثير، وقد بينا من قبل

استعداد العرب لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما امتازوا به على الأمم لقبول

إصلاحه (راجع ج 4 م 3) .

إنما مثل النوع الإنساني في مجموعه كمثل الفرد الواحد من أفراده، فالشعب

الجاهل من شعوبه كالطفل لا يمكن أن تجعله رجلاً كاملاً إلا بتربيته على أخلاق

الرجولية بالتدريج الطبيعي، فإذا كلَّفته بما يُكَلَّف به الرجال من عويص المسائل،

وحل عقد المشاكل، فأمرك لا يطاع؛ لأنه بما لا يستطاع، كذلك حال من يُكَلِّف

شعبًا من الشعوب أو أمة من الأمم بأن تجاري في طور ضعفها الأمم القوية،

وتباري في إبان جهلها من سبقها في جميع الطرق العلمية، من غير أن يربيها على

ذلك بالتدريج الذي عُرف من سنن الله تعالى في الأولين، كالابتداء بإزالة الموانع،

والتثنية بإدالة المنافع، أو بتقديم التخلية على التحلية كما يقول السادة الصوفية،

وإنما نعني التقديم والتأخير في المرتبة لا في الزمن.

تربية الأمم ليست بالمركب الذلول، وطريقها ليس بالطريق المعبَّد؛ وإنما

هي الحَرون في الخُزُون يتوقع راكبها الهلكة في كل حركة، وما كان بسمرك هو

المربي لألمانيا والمبدع للوحدة الجرمانية ولا بيكنسفليد هو المربي لإنكلترا ولا

غامبتا هو المربي لفرنسا ولا غورجيقوف هو المربي لروسيا ولا أمثال هؤلاء

السياسيين من الفلاسفة والعلماء، وإنما ربى أوربا كلها أولئك الذين اُضطهدوا

وأُذلوا وأُبعدوا وصُلِّبوا وقُتِّلوا تقتيلاً أن دعوا الناس لإصلاح عقائدهم وعوائدهم

وتغذية عقولهم بلبان العلم والعرفان، فأعدوا أقوامهم لكل ما هم فيه الآن من العزة

والشمم، والسيادة على الأمم، أولئك الذين كانوا يُرمون بالكفر والزندقة وإفساد

الاعتقاد والجناية على البلاد والعباد، فصاروا الآن يُوصفون بالإمامة، ويحلهم

التاريخ محل الكرامة، ويُذكرون بالتعظيم والتبجيل، وتُرفع لهم الهياكل وتُنصب

التماثيل، وأعظمهم عندي لوتر مصلح الدين، ومزيل العقبة الكبرى من طريق

جميع الأوربيين.

من أسباب الاستعداد لقبول إصلاح ما معاشرة من صلح حالهم به من قبل

ومشاهدة أطوارهم، والوقوف على أخبارهم، عندما وقفوا ببابه، وأنشأوا يأخذون

بأسبابه، ومن أسبابه أن يتسلط على الأمة من يسلبها ثوب مجدها، وينزع عنها

تاج كرامتها ويستأثر بمنافعها، ويستولي على مرافقها، ومن أسبابه أن يمر عليها

حين من الدهر مهدَّدة بقلب كيانها، وتقويض أركانها، وإزالة سلطانها، ممن يقدر

على ذلك، من الدول والممالك، ومن أسبابه أن يرى أحد شعبين متجاورين أو

متمازجين الشعب الآخر قد انسلخ من تقاليده السخيفة، وعاداته الضارة، واستبدل

بها ما عزَّ به جانبه، واتسعت في هذه الحياة مذاهبه، فصلح حاله، وكبرت في

السعادة آماله، وماذا عسانا نستفيد من تعداد الأسباب إذا كنا نجهل الموانع التي

تزاحمها فتحول دون تأثيرها، أو لم يكن لنا سبيل للخوض فيها؟

إنما عدَّدنا ما عدَّدناه تمهيدًا لذكر مثال من أمثلة الاستعداد في الشعوب

الإسلامية التي يضرب بها المثل في التأخر بعد التقدم، والانخفاض بعد الارتفاع

وهو ما كان من مسلمي الهند:

دخل الإنكليز بلاد الهند فكان أقرب الناس إلى الاستفادة منهم الوثنيون الذين

كانوا من قبل دون المسلمين في كل علم وعمل، فطفق الوثني يتعلم، والمسلم يتحسر

ويتألم، أو يشكو في نفسه ويتظلم، حتى مر الزمن الطويل، الذي انقرض به جيل

وتجدد جيل، والمسلم يعادي اللغة الإنكليزية، ويُكَفِّر متعلم العلوم الأوربية.

فلما رأى المسلمون نتائج ذلك باتساع ثروة الوثنيين وكثرة الموظفين فيهم،

واجتماع شملهم ونفوذ كلمتهم، استعد أفراد منهم إلى معرفة الحقيقة، ووجوب

سلوك الطريقة، ومن فضل الله على الناس أنهم كلما استعدوا لشيء يسَّر لهم أسبابه،

وأفاضه عليهم بها، فكان أعلاهم همة وأقواهم عزيمة هو الساعي الأول والداعي

إلى العمل، وهو السيد أحمد خان فأسس مدرسته الشهيرة في مدينة عليكره ودعا

قومه إلى التربية الصحيحة والتعليم القويم، ونبذ ما كانوا عليه من أسباب الخمول

القديم، فأجابه النزر اليسير، وكافأه الجماهير بالتفسيق والتكفير، ولولا حماية

الحكومة الإنكليزية له ومساعدتها إياه لأخرجوه أو قتلوه، حتى إذا ما ظهرت في

هذه السنين آثاره وتبين لمسلمي الهند أن الخير إنما يرجى لهم من تلامذته، وأن

السعادة إنما تفيض عليهم من ينبوع مدرسته، أشادوا بذكره، وعظَّموا من أمره،

واعترف العلماء والجهلاء والأذكياء والأغبياء بأنه المصلح العظيم، والمجدد

الحكيم، والإمام العليم، ولو قام فيهم بهذه الدعوة منذ خمسين سنة لما وجد

منهم ملبيًا، ولا صادف مصغيًا.

هذا هو السيد أحمد خان الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني ممن يتهمه

بالمروق من الدين، والتصدي بإغراء الإنكليز لإفساد عقائد المسلمين، والسيد

جمال الدين هو من أعظم المصلحين والحكماء الراسخين، وقد كان يُتهم من بعض

الناس في مصر بمثل ما يُتهم به السيد أحمد خان من بعض الوجوه، ألا يدلنا هذا

على أن مصر أبعد من الهند عن الاستعداد؟ بلى وإنني أذكر في هذا المقام كلمتين

إحداهما قالها مؤرخ مسيحي وهي:

أن السيد جمال الدين جاء قبل وقته بخمسين سنة، فالمسلمون لما يستعدوا

لفهمه والاسترشاد بعلمه. والثانية قالها صاحب أكبر جريدة إسلامية في الهند وهي:

أن المصريين لا يزالون مغترين بمثل ما كان عليه الهنديون منذ خمسين سنة،

مغترين بما بقي لهم من الحكام وفضلات الأيام، فلا ينتبهون حتى يفقدوا كل

شيء حتى الأسماء الإسلامية في كراسي الإمارة والحكم كما وقع لإخوانهم

الهنديين.

أقول وإن لم يصح حديث التجديد في كل مئة سنة: لا يكاد يمر على أمة

كأمتنا قرن من القرون يخلو من إمام عليم يصلح لتولي زعامة الإصلاح، وإنما

تظهر آثار الرجال باستعداد أقوامهم، ولذلك كان فيهم من يكتم علمه؛ لأنه لا يجد

له حملة كما نقل عن بعض الأئمة، ومنهم كان يغلبه لسانه أو قلمه على الإفصاح

بشيء من الحق فيقابله الناس بالإعراض، ويحسبونه من معضلات الأمراض، أو

يترك سدى، ويُرمى كالشيء اللَّقَا، فالإمام الغزالي صرَّح برأيه في إصلاح

المسلمين، بعدما بلغ رتبة الإمامة في جميع علوم الدين، ولكن لم يوجد من يعمل

برأيه القويم، ولا من يزن بما وضعه من (القسطاس المستقيم) ، وكذلك الإمام

أحمد بن تيمية لم يترك بدعة إلا وفنَّدها، ولا سنة إلا ودعا إليها وأيَّدها؛ ولكنه لم

يؤخذ بإرشاده إلا بعد قرون حيث جُددت الدعوة إليه من قوم مستعدين له من بعض

الوجوه، على أن إظهار الحق خير من كتمه وإخفائه، فإن لم يُفد في الإصلاح

والإسعاد، فلا بد أن يفيد في التهيئة والإعداد، ولا شك أنه يوجد في كثير من البلاد

التي استحوذ عليها الجهل من يصلح للإمامة وللقيام بالزعامة، فإن لم يقدروا على

الإصلاح فلا بد أن يهيئوا الأمة له، ويُعِدُّوها لقبوله، وربما كان السنوسي السابق

وخليفته الحاضر من المُعِدِّين لا من المصلحين، وربما كان أتباعه قد استعدوا

لنهضة عملية، أما المصريون فقد ظهر فيهم شيء قليل من بوادر الاستعداد

للإصلاح المعنوي والمادي ويرجى نموه ببقاء الحرية ودوامها.

كما مضت سنة الله تعالى في جعل الإصلاح البشري والإسعاد الكسبي على

قدر الاستعداد، جرت سنته كذلك في التكوين والإيجاد؛ فإنه قدَّر لكل مكوَّن من

المكونات أجلاً محدودًا يستعد فيه للظهور بشكل من الأشكال، أو صورة من الصور

{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) فإذا جاء الأجل الموعود، ظهر بذلك

الشكل في الوجود، وذلك من كمال النظام والحكمة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: 2) نعم إنه قدَّره بالتدريج في أزمنة متعاقبة عبَّر عنها بالأيام {الَّذِي

خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ

فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 59) .

_________

ص: 681

الكاتب: محمد رشيد رضا

تتمة الدرس (30)

من وظائف الرسل عليهم السلام

المسألة (73) الوظيفة الخامسة - حدود العقوبات وأحكام المعاملات:

خُلق الإنسان ضعيفًا، وارتقى بالتدريج، ولما تألفت المجتمعات من البيوت

والشعوب والقبائل احتاجت للوازع والمسيطر الذي يمنع ما يولده التنازع في

المصالح والمنافع الاجتماعية من البغي والعدوان، ويؤدب الذين تطغى بهم

الشهوات، فيجنون على أنفسهم وعلى الناس. ولذلك اتخذ الناس القضاة والحكام من

رؤساء الدين والدنيا؛ ولكن الحاكم والأمير إذا لجأ إلى رأيه واتبع هواه في حكمه

يضل عن سبيل الحق والعدل فلا تقوم مصلحة الناس بحكمه، وهذه قاعدة طبيعية

ثابتة، وأقوى أدلتها ظلم رؤساء البيوت لنسائهم على ما بينهم من المودة والرحمة،

وظلمهم لأولادهم على ما فُطروا عليه من الشفقة والحنان عليهم، فمن ثم كان الناس

محتاجين إلى من يضع لهم أحكامًا عادلة، ويحد لهم حدودًا مؤدِّبة يستوي فيها الناس،

وتوزن حقوقهم منها بالقسطاس، فكان كل نبي يرشد أمته بالوحي إلى ما يراها

محتاجة إليه من ذلك، ويقرها على ما يراها محسنة فيه، وأكثر اختلاف الشرائع

والأديان في هذه الوظيفة.

م (74) :

ليس من وظائف النبيين بيان طرق الكسب وأسباب المعايش، ولا تعليم

الفنون التي يتوسل بها إلى السعة والثروة كالرياضيات والطبيعيات والزراعة

والصناعة؛ لأن هذه الأمور مما يصل إليها البشر بسعيهم وكسبهم بحسب السنن

الإلهية التي أقام الله بها نظام هذا النوع، وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

إلى ذلك في مسألة تأبير النخل بقوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) .

إذا جاء في كتب الوحي ذكر السموات وكواكبها والأرض وعوالمها؛ فإنما

يجيء على سبيل الاستدلال على قدرة خالقها ومبدعها وحكمته، والتذكير بفضله

ونعمته، لا على سبيل بيان حقائقها في أنفسها وشرح وجوه الانتفاع بها، على أن

هذا الاستدلال والتذكير مما ينبه الناس إلى التوسع في العلم بهذه المخلوقات،

وطرق الانتفاع بها، وإن لم يكن مقصودًا لذاته.

***

الدرس (31)

في شبهات على الوظائف وأجوبتها

م (75) شبهة على الوظيفة الأولى:

يقول قوم: إن الأديان التي تنتسب إلى الوحي السماوي ثلاثة، ونراها لم تتفق

فيما يجب اعتقاده في الله تعالى، فبعضها يصفه بصفات البشر حتى نقائصها

كالتعب والندم والجهل والبداء والخوف والتأسف ومصارعة البشر وتسلط الشيطان

عليه بالإغراء والتهييج، كتهييجه إياه على أيوب لابتلاعه، وكالحلول في البشر

واحتمال اللعن والقتل باختياره، ونحو ذلك مما لا يرضى به المرتقون في الوثنية

فضلاً عن الموحدين، وبعضها يوجب له التنزيه المطلق والوحدة الحقيقية والمباينة

للممكنات، ثم يثبت له مع ذلك وجهًا وعينًا وسمعًا وبصرًا ويدًا وجهة مما يحتمل

التأويل، ويشهد لتلك الكتب التي وصفته بما لا يحتمل التأويل مما أشير إليه آنفًا،

ولما كان الدليل على صحة كتب هذه الأديان واحدًا، وهو وقوع الآيات الكونية

وخوارق العادات على أيدي الذين جاءوا بها، يصح لنا أن نقول: إنها تعارضت ولا

شيء يرجح أحدها على الآخر، فوجب تركها وإهمالها كلها.

وإننا نجيب عن هذه الشبهة بعد تمهيد في إثبات الدين بخوارق العادات، وهو

أنه تقدم في الدرس 29 (ص 371 م 4) أن الآيات الكونية التي يسميها المسلمون

معجزات، ويسميها النصارى عجائب لا تدل على صحة ما جاء به الوحي دلالة

برهانية؛ وإنما تؤثر في بعض النفوس فتجذبها إلى تصديق من ظهرت على أيديهم

في كل ما يقولون؛ ولكن المسلمين والنصارى متفقون على أن الآيات لا تُعتبر

تأييدًا من الله تعالى لمن ظهرت على يديه، إلا إذا كان يدعو إلى الحق ويأمر

بالخير، فالاعتراف بأنها تأييد إلهي يتوقف إذن على معرفة حقيقة الدعوة ووزنها

بميزان العقل الذي به التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر.

ففي الباب الثالث عشر من التثنية: (1 إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا

وأعطاك آية أو أعجوبة 2 ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً

لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها 3 فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم

ذلك لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن

كل أنفسكم) وهذا عن لسان موسى كما لا يخفى، وفي الباب السابع من إنجيل متى:

(كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب أليس باسمك تنبأنا وباسمك

أخرجنا الشياطين وباسمك صنعنا قوَّات كثيرة 23 فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم

قط اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) وفي الباب 24 منه: (لأنه سيقوم مسحاء كذَبة

وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا)

وهذا عن لسان المسيح.

إذًا لا بد من معرفة الحق بذاته، فإذا وجدنا نصوص الوحي متعارضة أو

وجدنا فيها ما يحكم العقل ببطلانه، فعلينا أولاً أن ننظر في طريق نقلها، فإن كان

المخالف منها للعقل أو سائر النصوص غير متواتر نحكم ببطلانه وعدم صلاحيته

لمعارضة العقل أو النص المتواتر ونسلم بالقطعي الذي يخالفه، وإن كان النصان

اللذان يخالف أحدهما الآخر أو العقل، متواترين، فلا بد من الجمع بينهما بالتأويل،

فإن لم يمكن التأويل فرضًا، فالعقل يُعذر إذا هو رفضهما معًا؛ ولكن هذا الفرض

لم يقع إذ لم يوجد نص في القرآن يخالف العقل خلافًا لا يحتمل التأويل، ولا يثبت

الآن كتاب سماوي بالتواتر اللفظي الحقيقي غير القرآن، وما يُعَدُّ متواترًا من سائر

الكتب؛ فإنما تواتره معنوي، أي أنه متواتر في جملته لا في تفصيله، فلا يحتج

بكل كلمة وكل عبارة منه.

يوجد فيما حُفظ من التوراة والإنجيل، وأودع في أطواء هذه الكتب المعروفة

ما يدل على تنزيه الله تعالى على نحو ما يوجد في القرآن، فإذا وُجد فيها أيضًا ما

ينافي التنزيه يجب تأويله إذا كان منقولاً عن لسان نبي كموسى وعيسى عليهما

السلام وعدم الاعتداد به إن لم يكن كذلك، فإن لم يمكن تأويله يحكم بعدم صحة

إسناده إلى النبي الذي نسب إليه، وبهذا تتفق الكتب في أصل الاعتقاد بالله تعالى،

أما بيان الآيات القرآنية التي تثبت لله تعالى وجهًا وعينًا ويدًا فقد تقدم في الدرس

السابع عدم منافاتها للآيات المحكمة الناطقة بالتنزيه (راجع ص 603 م 2)

ويتعذر تأويل كثير مما نُسب إلى الله تعالى في كتب العهدين وتقدمت الإشارة إلى

شيء منه آنفًا.

يتصل الكلام

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 688

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورة الثانية عشرة بين المصلح والمقلد

نهي الإمام الشافعي وأصحابه عن التقليد

لما ضم الشاب المصلح والشيخ المقلد المجلس (12) ابتدأ الثاني فقال:

المقلد: قد قلت لي مرة إنك مطَّلع على نُقُول كثيرة عن الشافعي وأتباعه، فأرجو أن

تكتفي بالمهم منها.

المصلح: نعم إن ما ورد عن الإمام الشافعي والأئمة المنتسبين إليه في العلم

والاجتهاد في اتباع الدليل، وعدم جواز الأخذ بقول أحد من غير معرفة دليله - كثير

جدًّا، فمنه ما في كتاب (الأم) وهو موجود بين أيديكم في دار الكتب الخديوية

وهو قول الإمام بمناسبة كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله

صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) وروى الحافظ البيهقي بسنده إلى

الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي وقد سأله رجل عن مسألة فقال: يُروى عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول

بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك! وأي أرض تقلني وأي سماء

تظلني إذا رويت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئًا، ولم أقل نعم على

الرأس والعين.

(قال المصلح) فهذا السؤال ومثله كثير يدلنا على شدة استعداد الناس لتقليد من

يشتهر من العلماء إلى حد أن يتركوا قول الرسول المعصوم لأقوالهم والأئمة رضي الله

تعالى عنهم كانوا يصدون الناس عن ذلك، ويفتحون لهم باجتهادهم أبواب البحث؛

ولكن الغلبة للاستعداد العام على قول كل عالم وإمام.

وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سُنة

لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول وأصَّلت

من أصل فيه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما

قاله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو قولي) وجعل يردد هذا الكلام،

وروى البيهقي أيضًا بسنده إلى الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: (إذا وجدتم في

كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله

تعالى عليه وسلم ودعوا ما قلت) فهذا مذهبه في اتباع السنة. وبه إليه قال: (إذا

كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف له عنه، وكان يروى

عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يوافقه لم يزده قوة، وحديث

رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغن بنفسه وأن كان يروى عمن دون رسول الله

صلى الله عليه وسلم حديث يخالفه لم يلتفت إلى ما خالفه) .. . إلخ.

وقال الشافعي أيضًا: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله

صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد (وصح عنه أيضًا قال:) لا

قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كل هذا من رواية البيهقي في

المدخل، وفي أعلام الموقعين لابن القيم نحوه، ومن أحسن تلك الروايات قول

أحمد بن عيسى بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول:

(كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل

بخلاف ما قلت فأنا راجع إليها في حياتي وبعد مماتي) .

المقلد: حسبي هذا عن الإمام نفسه، وأحب أن أسمع شيئًا عن أصحابه

وأتباعه.

المصلح: روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: كان أحسن أمر

الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله، وقال أيضًا:

قال لنا الشافعي (إذا صح عندكم الحديث فقولوا لي كي أذهب إليه) والإمام أحمد

من أصحاب الشافعي أي أنه جرى على طريقته في الاجتهاد وإن استقل بمذهب.

وقال الحافظ ابن حجر في (توالي التأسيس في معالي ابن إدريس) : قد

اشتهر عن الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي) قرأت بخط تقي الدين السبكي

في مصنف له في هذه المسألة ما ملخصه: إذا وجد الشافعي حديثًا صحيحًا يخالفه

مذهبه إن كملت فيه آلة الاجتهاد في تلك المسألة فليعمل بالحديث بشرط أن لا يكون

الإمام اطَّلع عليه وأجاب عليه، وإن لم يكمل ووجد إمامًا من أصحاب المذاهب

عمل به، فله أن يقلده فيه، وإن لم يجد وكانت المسألة حيث لا إجماع، قال السبكي:

فالعمل بالحديث أولى اهـ.

ونحن نقول: إن العمل بالحديث متعين حيث لا إجماع ولا حديث يعارضه مما

يرجح عليه.

وقال ابن القيم في قول الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي) هذا صريح

في مدلوله، وإن مذهبه ما دل عليه الحديث لا قول له غيره، ولا يجوز أن ينسب

إليه ما خالف الحديث، فيقال: هذا مذهب الشافعي ولا يحل الإفتاء بما يخالف

الحديث على أنه مذهب الشافعي ولا الحكم به، صرح بذلك جماعة من أئمة أتباعه

حتى كان منهم من يقول للقارئ إذا قرأ عليه مسألة من كلامه قد صح الحديث

بخلافها: اضرب هذه المسألة فليست مذهبه، وهذا هو الصواب قطعًا لو لم ينص

عليه، فكيف إذا نص عليه وأبدى فيه وأعاد، وصرح به بألفاظ كلها صريحة في

مدلولها، فنحن نشهد بالله أن مذهبه وقوله الذي لا قول له سواه ما وافق الحديث

دون ما خالفه، ومن نسب إليه خلافه فقد نسب إليه خلاف مذهبه، ولا سيما إذا

ذكر هو ذلك الحديث، وأخبر أنه إنما خالفه لضعف في سنده أو لعدم بلوغه له من

وجه يثق به، ثم ظهر للحديث سند صحيح لا مطعن فيه وصححه أئمة الحديث من

وجوه لم تبلغه، فهذا لا يشك عالم ولا يماري أنه مذهبه قطعًا، وهذا كمسألة

الجوائح [1]

إلخ.

المقلد: قد تقدم مثل هذا عن أصحاب أبي حنيفة أيضًا، ولك الحق في لوم

العلماء على عدم العمل بهذا الإرشاد، وعلى إهمال العمل بالحديث وقراءته للتبرك

فقط؛ ولكنني أعجب كيف اتفق الأكثرون على هذا.

المصلح: قد عجب من هذا كل عالم منصف حتى من يقول بالتقليد، قال

العز بن عبد السلام الذي كان يلقَّب بسلطان العلماء: (ومن العجب العجيب أن

الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مذهب إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا،

وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه؛

جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها

بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا

ذُكر لأحدهم خلاف ما وطَّن نفسه عليه تعجب منه غاية التعجب من غير استرواح

إلى دليل لما ألفه من تقليد إمامه؛ حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه،

ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب الإمام أولى من تعجبه من مذهب غيره، والبحث

مع هؤلاء ضائع مفضٍ إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة تجذبها، وما رأيت أحدًا

رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصر عليه مع علمه بضعفه

وبُعده، والأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه،

قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولا يعلم المسكين أن

هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح،

فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته، وفقنا الله

تعالى لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف

ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر دليل على لسان الخصم

وقد نقل عن الشافعي أنه قال: (ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللهم أجر الحق على

قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان معه اتبعته) اهـ.

المقلد: كلام هذا الإمام معقول، ولكن تحكيم الأدلة في المذاهب يفضي إلى

تلاشيها، أو استخلاص مذهب واحد ملفق منها، ولعل هذا هو ما تريده من توحيد

المذاهب الذي سميته الوحدة الإسلامية؛ ولكن نفوس أكثر الفقهاء لا ترضى به؛

لأنهم كما قال العز بن عبد السلام جمدوا عليها جمودًا غريبًا أعمى كل متبع مذهب

عن غيره، ولا أعرف سر ذلك وحكمته، ولعل لله تعالى حكمة في حفظ الإسلام

بحفظ هذه المذاهب.

المصلح: الأسباب في جمودهم ظاهرة، وقد أوضحها الإمام الغزالي والعز

ابن عبد السلام وغيرهما من الأئمة الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فمنها

بالنسبة إلى بعضهم المباراة والمماراة وحب الظهور وما يتعلق بذلك، ومنها المنافع

والمرافق في القضاء والإفتاء والأوقاف والجرايات بالنسبة إلى آخرين، ومنها الثقة

والاطمئنان بالتربية العلمية على المذهب والاقتصار عليه في التعلم، ثم في التعليم

والإفتاء، ومن طبع الإنسان أن ما يعتاد عليه زمنًا طويلاً يملك عليه أمره، ويؤثر

في نفسه تأثيرًا يصرفها عن كل ما عداه إلا أصحاب العقول الكبيرة والنفوس العالية

الذين تكون الحقيقة ضالتهم، والصواب وجهتهم وقليل ما هم، وأما الحكمة في ذلك

فهي ما نشاهد من تفرق المسلمين شيعًا وحرجهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا، ودينهم

واحد ينهى عن الخلاف والاختلاف كما قلنا مرارًا، ولو اجتمع العلماء في كل

عصر وحكَّموا الكتاب والسنة في كل ما استنبطه الأئمة والعلماء وأرشدوا إلى العمل

بالأرجح ما خرج بذلك أولئك الأئمة عن كونهم هداة الأمة ولصح ما يروى من أن

اختلافهم رحمة؛ لأن الحقيقة تظهر من تصادم الأفكار، والصواب يؤخذ من اختلاف

الأنظار، وبذلك يكون كل مسلم مهتديًا بكل إمام من أولئك الأئمة من غير توزيع، ولا

قول بعصمة أحد أو استقلاله بالتشريع.

المقلد: إن العز بن عبد السلام من أئمة الشافعية ويظهر من كلامه هذا أنه

كان يدَّعي الاجتهاد؛ ولكن لم يدوِّن مذهبًا، ولم يتبعه أحد.

المصلح: إنه كان شافعيًّا ثم صار مجتهدًا عن أهلية واستحقاق، وهو ممن

اتفق الناس على قوة دينه وغزارة علمه، حتى قال الإمام ابن عرفة المالكي: لا

ينعقد للمسلمين إجماع بدون عز الدين بن عبد السلام يعني في عصره؛ لأن

الإجماع إنما هو إجماع المجتهدين كما قالوه في الأصول، وما كل مجتهد يدوِّن

مذهبًا يحمل الناس على اتِّباعه، وقد قلت غير مرة أن الأئمة المشهورين لم

يستنبطوا الأحكام ليحملوا الناس على تقليدهم فيها؛ ولكن ليفتحوا لهم باب العلم،

والذين ارتقوا إلى مرتبة الاجتهاد المطلق بعد تدوين المذاهب وانتشارها أداهم

اجتهادهم إلى إرجاع الأقوال الكثيرة في كل مسألة إلى قول واحد، وهو ما كان

دليله أقوى، ولو ألَّفوا في ذلك لكان لهم مذهب يزيد به الخلاف، إذ لا يمكن أن

يأخذ به كل الناس؛ ولذلك كانوا يحاولون إقناع العلماء بذلك، ولو تسنى لهم هذا

الإقناع لجمعوا كلمة المسلمين، وهذا مطلب عزيز لا يصل إليه المسلمون إلا بعد

أن يشتغلوا بالعلم الصحيح مع استقلال الفكر أربعين سنة، ومتى نبتدئ بهذا؟

وللجلال السيوطي رسالة في ثلاث مسائل متعلقة بالاجتهاد، إحداها: هل

الاجتهاد موجود الآن أم لا؟ والثانية: هل الاجتهاد المطلق مرادف للاجتهاد

المستقل أو بينهما فرق؟ والثالثة: هل للمجتهد أن يتولى المدارس الموقوفة على

الشافعية مثلاً؟ قال (وكل من المسائل الثلاث جوابها منقول ومنصوص للعلماء،

بل ومجمع عليه لا خلاف فيه صادر من عالم؛ وإنما فيه نزاع ومكابرة من غير

العلماء الموثوق بهم) .

قال: أما المسألة الأولى فالجواب عنها من وجهين: أحدهما أن العلماء من

جميع المذاهب متفقون على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر،

واجب على أهل كل زمان أن يقوم به بعضهم، وأنه متى قصَّر فيه أهل عصر

بحيث خلا العصر عن مجتهد أثموا كلهم وعصوا بأسرهم، وممن أشار إلى ما

ذكرناه الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم صاحبه المزني وصنف - أعني المزني -

كتابًا في ذلك سماه (إفساد التقليد) وممن نص على ما ذكرناه من الفرضية وتأثيم

أهل العصر بأسرهم عند خلو العصر عن مجتهد نصًّا صريحًا الماوردي في أول

كتابه (الحاوي) والروياني في أول (البحر) والقاضي حسين في تعليقه،والزبيري

في كتاب (المسكت) وابن سراقة في كتاب (الأعداد) وإمام الحرمين في باب السيف

من النهاية، والشهرستاني في (الملل والنحل) والبغوي في أول (التهذيب)

والغزالي في (البسيط والوسيط) وابن الصلاح في (آداب الفتيا) والنووي في

(شرح المهذب) وفي (شرح مسلم) والشيخ عز الدين بن عبد السلام في (مختصر

النهاية) ، وابن الرفعة في (المطلب) والزركشي في كتاب (القواعد والبحر) وذكر

ابن الصلاح أن ظاهر كلام الأصحاب أن المجتهد المطلق هو الذي يتأدى به فرض

الكفاية، وأما المجتهد المقيد فلا يتأدى به الفرض.

فهؤلاء أئمة أصحابنا نصوا صريحًا على أن الاجتهاد في كل عصر فرض

كفاية، وأن أهل العصر إذا قصروا فيه أثموا كلهم.

وممن نص على ذلك من أئمة المالكية القاضي عبد الوهاب في (المقدمات)

وابن القصار في كتابه (في أصول الفقه) ونقله عن مذهب مالك وجمهور العلماء

والقرافي في (التنقيح) وابن عبد السلام المالكي في شرح مختصر ابن الحاجب وأبو

محمد بن ستناري في (المسائل المنثورة) وابن عرفة في كتابه (المبسوط في الفقه)

وقد سقنا عبارات هؤلاء بحروفها في كتاب (الرد على من أخلد إلى الأرض)

فليراجعه من أراد الوقوف عليه.

(الوجه الثاني) : أن جمهور العلماء نصوا على أنه يستحيل عقلاً خلو

الزمان عن مجتهد إلى أن تأتي أشراط الساعة الكبرى، وأنه متى خلا الزمان عن

مجتهد تعطلت الشريعة وزال التكليف عن العباد، وسقطت الحجة وصار الأمر

كزمن الفترة، وممن نص على ذلك صريحًا الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني

والزبيري، وإمام الحرمين في (البرهان) والغزالي في (المنخول) ونقله ابن

برهان في (الوجيز) عن طائفة من الأصولييين ورجحه ابن دقيق العيد وابن عبد

السلام من المالكية في (شرح المختصر) وجزم به القاضي عبد الوهاب في

(الملخص) وأشار إليه الشيخ أبو إسحق الشيرازي في (اللمع) وهو مذهب الحنابلة

بأسرهم نقله عنهم ابن الحاجب في مختصره، وابن الساعاتي من الحنفية في

(البديع) وابن السبكي في (جمع الجوامع) وقال ابن عرفة المالكي في كتابه في

الفقه: قد قال الفخر الرازي في (المحصول) وتبعه السراج في تحصيله والتاج

في حاصله ما نصه (ولو بقي من المجتهدين - والعياذ بالله - واحد كان قوله حجَّةً)

قال فاستعاذتهم تدل على بقاء الاجتهاد في عصرهم، قال والفخر الرازي توفي سنة

606 هذا كلام ابن عرفة.

وقد وجدت ما هو أبلغ من ذلك، فذكر التبريزي في تنقيح المحصول ما نصه:

لا يعتبر في المجمعين عدد التواتر، فلو انتهوا - والعياذ بالله - إلى ثلاثة كان

إجماعهم حجة، ولو لم يبق منهم إلا واحد كان قوله حجة؛ لأنه كل الأمة وإن كان

ينبو عنه لفظ الإجماع، وقال الزركشي في (البحر) : قال الأستاذ أبو إسحاق يجوز

أن لا يبقى في الدهر إلا مجتهد واحد، ولو اتفق فقوله حجة كالإجماع، ويجوز أن

يقال للواحد أمة، كما قال الله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً} (النحل:

120) ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين، وبه جزم ابن شريح في كتاب (الودائع)

فقال: وحقيقة الإجماع هو القول بالحق، فإذا حصل القول بالحق من واحد فهو

إجماع، وقال إلكيا الهراسي: (اختلف هل يتصور قلة المجتهدين بحيث لا يبقى في

العصر إلا مجتهد واحد والصحيح تصوره) .

ثم أجاب عن المسألة الثانية بأن ابن الصلاح والنووي وغيرهما قالوا إن

المجتهدين أصناف، مجتهد مستقل، ومجتهد مطلق منتسب إلى إمام من الأئمة

الأربعة، ومجتهد مقيَّد، وأن الصنف الأول فُقِد من القرن الرابع، ولم يبق

الصنفان الآخران، وأجاب عن المسألة الثالثة بأن المجتهد المطلق المنتسب

والمجتهد المقيد كلاهما يستحقان ولاية وظائف الشافعية مثلاً (بلا خلاف بين

المسلمين) اهـ ملخصًا.

المقلد: أراك مطلعًا على أن أكابر العلماء حكموا بأن باب الاجتهاد المطلق

المستقل قد أُقفل من القرن الرابع، فما بالك تطلب فتحه في هذا الزمان.

المصلح: إنهم لم يقولوا بأن الباب أُقفل؛ وإنما قالوا إن المجتهد المستقل فُقِدَ

وذلك أن العلماء الذين صاروا مجتهدين قد حصَّلوا الفقه على طريق الأئمة الأربعة

إذ لم يوجد غيرها ومنها ارتقوا إلى درجة الاجتهاد المطلق، فظلوا منتسبين إلى

الأئمة الذين اشتغلوا في أول الأمر بمذاهبهم، وقد كشفت لك آنفًا عن السبب في

عدم إنشاء مذاهب جديدة لهم، ومن أراد أن يسلك سبل الاجتهاد المستقل من غير

التزام طريقة واحد من الأربعة بعينه فعل، ومن هؤلاء الإمام محمد الشوكاني

المتوفى سنة 1250 للهجرة، ومذهبه أقوى المذاهب المعروفة دليلاً، وأقوم قيلاً.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الجوائح: جمع جائحة، وهي الآفة السماوية يهلك بها الزرع، فمن اشترى ثمرة وأخذتها الجوائح قبل قطعها يوضع عنه الثمن، وقد علل الشافعي حديث سفيان بن عيينة في وضع الجوائح بأنه كان ربما ترك ذكر الجوائح فلم يعول عليه ولكن الحديث صح من غير طريق سفيان، وأظهر الروايات في الباب حديث مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك بغير حق) فابن القيم يقول إن مذهب الشافعي وضع الجوائح، وإن علل ما رواه فيها؛ لأنه صح من طرق أخرى.

ص: 692

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة والأجوبة

معجزات الأنبياء والاختراعات الجديدة

(س) من محمد أفندي علي في القاهرة: لماذا انحصرت معجزات الرسل

فيما لا فائدة فيه للإنسانية؟ ولماذا لم يُجر الله على أيديهم المكتشفات والمخترعات

الحديثة والتي ستحدث حتى ينتفع بها النوع الإنساني، ولا يُحْرَم منها أصحابهم

والتابعون؟

(ج) الفائدة المقصودة من تأييد الرسل بالمعجزات هي إخضاع النفوس

وجذبها للإيمان بهم، وفي الإيمان بهم سعادتا الدنيا والآخرة، وقد كانت المعجزات

عقوبة لقوم معاندين كبعض آيات موسى عليه السلام في مصر، ورحمة لقوم آخرين

كشفاء المرضى، وإحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام، وكلا النوعين كان

لحكمة لا بد منها في سياسة البشر، وأما المعجزة العلمية الأدبية كالمعجزة الكبرى

لنبينا عليه السلام فمنفعتها أجلّ المنافع، وفائدتها أكبر الفوائد وهي باقية إلى ما شاء

الله تعالى (راجع الدرس 29) .

وأما عدم إجراء الاكتشافات والاختراعات العلمية والصناعية على أيديهم؛

فإنها من الأمور الكسبية التي يتوصل إليها البشر بجدهم واجتهادهم في عمران

الأرض، وليس هذا من وظائف الأنبياء كما عُلم من درس الأمالي السابق، على

أن كل اكتشاف واختراع لا بد أن يكون مسبوقًا بمسائل علمية وعملية لا تحصل إلا

بالتدريج كما هي سنة الله تعالى في الخلق، فلو أن نبيًّا من الأنبياء أخبر قومه

بالتلغراف وشرح لهم كيفية إنشائه لما عقلوه، ولا تيسر لهم أن يصنعوه؛ لأنه

يتوقف على ما لا يخفى من العلوم والأعمال الطبيعية والرياضية والميكانيكية، وإن

قلتم كان ينبغي أن يدعوهم إلى مبادئ هذه العلوم لينتهوا إلى غاياتها، ثم يظهر لهم

الاختراع، أقول كلا إن الواجب أن لا تضيع أوقات الأنبياء في تعليم الناس ما

يمكن أن يصلوا إليه بأنفسهم، بل الواجب هو ما قاموا به من إرشاد الناس إلى ما

بُعثوا لأجله من ترقية الأرواح وإيداعها معرفة الله تعالى، وحملها على عبادته وما

يتبع ذلك من تهذيب الأخلاق، فبذلك ترتقي عقولهم ويجتمع شملهم، فيهتدون

بالتدريج إلى العلوم والمعارف، التي يرتقي بها البشر في الدنيا ولو بعد حين.

***

الجهر بالذكر والنوبة عند المتصوفة

(س) محمد أفندي محمود الرافعي في القاهرة: قال بعد ثناء طويل على

المنار في خدمة الإسلام وتنبيه المسلمين: إن مما أخطأ القوم فيه مسألة التصوف

وأهله، قرأت أخيرًا جوابًا في ذلك للخير الرملي أردت أن يطير به المنار ويمدني

بما يراه من الصواب، وهو:

(سئل عما اعتاده السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم من اجتماعهم

بمواطن الذكر، وجهرهم بأنواعه، وضربهم النوبة ونحوها بقصد التنبيه، فأجاب

الخير الرملي ناقلاً بما حاصله: إن الأمور بمقاصدها، والشيء الواحد يتصف

بالحِلِّ والحُرْمَة باعتبار ما قصد له، وقد ورد من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير

منه، كما في البخاري، والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر ولا يعارضه حديث

(خير الذكر الخفي) لأنه حيث خيف الرياء والأذية وطلب الإسرار والإجهار

يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وقوله تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} (الأعراف: 205) فآيته مكية كآية {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} (الإسراء: 110) .

(ج) إن الذي يتصف بالحِلِّ تارة، والحرمة أخرى لاختلاف القصد؛ إنما

هو المباح في نفسه، فالعبادات المشروعة لا تكون حرامًا، والمعاصي المحظورة

لا تكون حلالاً، فإن ساءت النية في العبادة، كأن راءى بها الإنسان، فالرياء هو

الحرام لا العبادة نفسها، وإن قصد الإنسان بالمعصية فائدة له أو للناس فقصده لا

يبيح له المعصية، إلا إذا تعارض ضرران لا بد منهما، فيجب ارتكاب أخفهما،

وقد أكمل الله تعالى لنا الدين، فليس لنا أن نزيد في عبادته، ولا أن ننقص منها لا

كمًّا ولا كيفًا، فالاجتماع لذكر الله تعالى ومزجه بالعزف بآلات الطرب كالدفوف

والمزمار والشبابة ونحوها بدعة في الدين، وزيادة عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فلا

تباح بحسن القصد، كما لا يباح لنا أن نخترع كيفية لصلاة التطوع بأن نسجد في

كل ركعة ثلاث مرات لأجل زيادة الخشوع مثلاً، ولقد عمل الرسول صلى الله عليه

وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بالدين على أكمل وجوهه، فحسبنا ما صح

نقله عنهم، وأما ما ذكره من الجهر بذكر الله تعالى ودليله فهو حسن، والله أعلم.

***

زيادة عدد النصارى على عدد المسلمين

(س) من أحمد أفندي الألفي في أبو كبير (شرقية) : لماذا كانت أمتنا

الإسلامية أقل عددًا من الأمة المسيحية، مع كفالة نظام تعدد الزوجات والطلاق

عندنا بكثرة النسل، وأظن أن انتشار المسيحية قبلها لا يكون سببًا في قلتها عنها،

فاليهودية قبلهما وعددها لا يُذكر في جانب عددهما.

(ج) لا ريب في أن السبب في زيادة عدد النصارى هو انتشار دينهم قبل

الإسلام وليست بالتوالد وحده، فعندما كان المسلمون يُعَدُّون على الأنامل كان

النصارى يُعَدُّون بالملايين، ولا شك أن الإسلام نما نموًّا لم يُعهد مثله في أمة أخرى

وذلك بكثرة من دخل فيه وبكثرة النسل فقارب عدد النصارى على اتصال الدعوة

عندهم، وانقطاعها عند المسلمين منذ قرون، وأما اليهود فإنهم لا يَدْعُون إلى دينهم؛

لأنه خاص بشعب إسرائيل، ولا يكاثر شعب واحد شعوبًا كثيرة.

_________

ص: 702

الكاتب: عبد العزيز محمد

تربية قوة الخيال

والتلطف في مخاطبة الأطفال [1]

(33)

من أراسم إلى هيلانة في 22 إبريل سنة 185

أرى (أميل) على ما وصفته لي قد حُبِّبت إليه بدائع الخيال وغرائبه، وأنا

مسرور بذلك مهما بلغت درجته في نفسه؛ لأني لا أحب من الأطفال من كان مشككًا

مرتابًا؛ فإن الارتياب فيهم من دلائل نضوب قوتهم الخيالية وعقمها، ولست أدري

إن كان حنين الإنسان إلى ما وراء هذا العالم المشهود من أسباب شرفه، أو من

أمارات خسته، وكلا الأمرين في نظري سِيّانِ إذا كان هذا الحنين يرفع نفسه من

حضيض هذا الكون المادي، ويسمو بها إلى ما يتمثل في الخيال من معارج الكمال

الروحي، وإني لأقاسمك الأسف على ما يضيعه القائمون على الأطفال من قوة

الخيال التي كانوا يجوبون بها مفاوز عالم الغيب، وهم متعلقون بشعور جِنيَّاته،

ذلك لأن لله سبحانه حكمة في قسمة المواهب بين الناس حتى فيما هو أشدها خطرًا

وهو المواهب الخيالية فلم يهبها لنا عبثًا، فليس لنا أن نسعى في إماتة قوة من

قوانا لمجرد حكمنا عليها بأنها وهمية، أو خلو من الفائدة، بل الأجدر بنا في شأنها

أن نطلب لها ما يقابلها ويوازنها، فقوة الخيال مثلاً سيأتيها الزمن بما يعارضها من

قوة ملاحظة الحوادث الكونية وملكة التعقل والاستدلال، فأستحلف المربين بحق

الحياة وقدرها في نفوسهم أن لا يقسروا قوى الأطفال، وأن لا يمحوا منها شيئًا؛

فإن الإنسان لم يبلغ من الغنى بها حدًّا تزيد فيه عن حاجته.

إن لنا في الكون لعبرة، فلننظر إلى حوادثه؛ فإننا نرى جميع الموجودات في

حركة واضطراب وتغالب وجلاد ونمو وازدياد، ونشاهد أن القوى المتعاندة تزدوج

فتولد نظامًا، والفواعل المتباينة تأتلف فتُوجِد ملاءمة ووئامًا، فأي ضرر يلحق

الإنسان إذا جرى في تربية نفسه على هذا المثال اهـ.

(34)

من أراسم إلى هيلانة في 23 إبريل سنة 185

إليك مكتوبًا (لأميل) في طي مكتوبي لك وهو:

ولدي العزيز:

لقد أبهجني مكتوبك الذي أرسلته إليّ، وانشرح به صدري كثيرًا غير أني

أنبهك إلى أن هناك طريقة أخرى للكتابة هي إلى الكلام أقرب من طريقتك إليه،

وأحثك على المبادرة إلى تعلمها، فاسأل والدتك أن تعلمك طريقتها في قراءة

رسومي القلمية التي تغاير رسومك بعض المغايرة، في نفسي أمور كثيرة أروم

الإفضاء إليك بها، فهل لديك ما تحب أن تكاشفني به؛ فإني على عدم تمتعي حتى

الآن برؤيتك مشغول الفكر بك، عامر الفؤاد بحبك، فإذا وافتني كلمة منك

استبشرت بها، وهشت لها نفسي، ولست أدري كيف أصف ما أجده من الفرح،

لو منَّ الله عليّ بلقائك فضممتك إلى صدري اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب كتاب‌

‌ أميل القرن التاسع عشر

من باب الولد.

ص: 705

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعليم في بلاد سيرالون

مدرسة إسلامية في فوله

لا توجد بلاد إسلامية أُعطي أهلها حرية في التعليم كالبلاد التي استعمرها

الإنكليز، وقد عرَّب المؤيد عن بعض الجرائد مقالة عن مسلمي (فوله) من بلاد

سيراليون الإنكليزية على سواحل القاموس الأطلاطنيقي من غربي أفريقيا جاء فيها

أنهم مجتهدون في التربية والتعليم، وأنهم كانوا منذ عامين أنشأوا مدرسة صغيرة

فنجحت نجاحًا دعاهم إلى إنشاء مدرسة كبيرة، وقد احتفلوا بوضع الحجر الأساسي

لهذه المدرسة احتفالاً أجاب الدعوة إليه الحاكم الإنكليزي العام وأركان حربه،

وعدد كثير من المسلمين وغيرهم، فقابل مدير المدرسة ووكيلها الحاكم العام

بالحفاوة، وقدَّم إليه الأساتذة، وأنشد التلامذة أمامه النشيد الوطني ووضع الحاكم

الحجر الأول بيده.

ثم خطب (الفاسنوسي) وكيل المدرسة خطبة شكر فيها للحاكم عنايته

بحضور الاحتفال، وذكر أن لهذا تأثيرًا في تعظيم شأن المدرسة، ثم ذكر أن مبدأ

النشأة العلمية هو إرشاد الدكتور بليدن الذي جاءهم في سنة 1871، وحثهم على

نشر العلم، وهو اليوم مدير المدارس الإسلامية، ثم خطب الحاكم وشكر للخطيب

حسن ظنه به، وذكر أن تلك الساعة أحسن الساعات عنده لرؤيته مبدأ تقدم أهل

المستعمرة المسلمين، ومما قاله:

(وأقول لكم: إنني أعتبر المسلمين في هذه البلاد من أكبر العناصر المهمة

التي يجب الاعتناء بها؛ لأنهم أذكياء ذوو حمية ونشاط، ولهم صفات خاصة بهم،

وأخلاق مستحسنة، وسجايا مرتقية عن سجايا غيرهم) .

ثم صرح لهم بأن الحكومة مستعدة لمساعدتهم في كل وقت على التعليم وإعداد

أولادهم لخدمة البلاد تحت نظرها، ونصح لهم بأن يجتهدوا في ذلك قائلاً (إن

الزمن الذي كان يرتقي فيه الإنسان بالقوة والسلاح والحسب والنسب قد مضى،

وجاء الزمن الذي لا يفلح فيه إلا المتعلم على حسب ما يقتضيه ويناسب الأمم

المرتقية فيه) .

ثم وعد بأنه سيكتب للماجور (ناثان) الذي ساعدهم على تأسيس المدرسة

الصغرى مبشرًا له بنجاحها؛ لأنه يُسَرُّ بذلك، وقد أوصاه بهم عندما لاقاه في

إنكلترا، وقال إن الدكتور (بليدن) سيقوم بالواجب عليه من المساعدة (ولكن أنتم

المسئولون عن النجاح الحقيقي؛ فإنه منكم يطلع، وإليكم يرجع، وعليكم يسطع،

فيجب عليكم أن لا تتوانوا ولا تكسلوا فالوقت قصير، والعمل كثير، واعتمدوا

دائمًا على مساعدتي واهتمامي بكم، ورغبتي في خيركم ومصلحتكم) .

قال: ولا بد لي قبل ختام القول من الإشارة إلى شيء مهم أنبهكم عليه وهو

أنني رأيت المسلمين منقسمين إلى أحزاب مختلفة يدابر بعضهم بعضًا، ويسوءني أن

أرى هذا ولا أرى لي وسيلة لإزالته والتوفيق بينكم؛ لأنه ليس من شأن الحكومة

فيجب عليكم التدبر في حل عقد الخلاف بأقرب الوسائل لجمع كلمتكم، وما أردت

بهذا أن أشعركم بما يؤلمكم لأكدر صفوكم؛ وإنما هي فرصة سنحت لأنصح لكم،

وأنتم تعلمون أن المسلمين هنا يجب أن يكونوا جسمًا واحدًا، ولا ينبغي أن يكون

بين أعضاء الجسم الواحد اختلاف؛ لأن كل واحد يؤدي وظيفته لمنفعة الجسم كله،

واعلموا أنكم إذا اختلفتم وتنازعتم فشلتم وضعفتم، وإذا اتحدتم واجتهدتم تنجحون

ويرتفع شأنكم وتتحقق آمالكم وآمال الحكومة فيكم، ثم ختم خطابه بالشكر لهم على

حسن استقباله، فهتفوا جميعًا بالدعاء له.

_________

ص: 707

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آثار علمية أدبية

(تهنئة الأمير حبيب الله خان بإمارة الأفغان)

لحضرة العالم الأديب الشيخ أحمد جيتيكر من فضلاء بمباي (الهند)

سرى عنك الأسى يا نفس طيبي

فقد جاء البشير بنشر طيب

وعادت نضرة الأيام حتى الـ

ـقفار اليوم كالروض الخصيب

وغنَّت كل روض بالتغني

بتشبيب المهنئ والنسيب

وتغريد الفواخت مطربات

يجاوبها غناء العندليب

نعم عمَّ المراح فراح غمٌّ

طرا بكوارث اليوم العصيب

ومد يد النشاط بساط بسط

ونزهت الصدور من الكروب

فيا بشرى بها الآمال تحيا

أتت تشفي القلوب من الوجيب

وطوبى إذ بدا نجم المعالي

عقيب خفاء نجم في مغيب

وما نجم له مثل ولكن

يعبر عن بعيد بالقريب

زها عرش الخلافة إذ علاه

(حبيب) الله محبوب القلوب

فهللت العساكر من رجال

وخيل قد ملأن فضا الجيوب

وكبرت المدافع مطلقات

تدندن وهي تغني عن نقيب

وحيَّا كل حي بالتهاني

وجمع الشمل ألحان الخطيب

علا فعلا به العرش الثريا

بأسنى من سناها والثقوب

فتى جم المحاسن ليس تحصى

ومن يحصي النجوم سوى الحسيب

أغر الوجه ذو صدر رحيب

طويل الباع ذو الكف الوهوب

ذكي الخلق مرضي السجايا

نقي الجيب عن كل العيوب

محبته سرت في كل قلب

ففاح شذاه كالمسك الرطيب

فتى قد وجه الآمال حتى

حدقن حوال ناديه الرحيب

ودان له الأداني والأقاصي

وهان له الصعاب من الشعوب

نشا في معشر خُشُن فلانوا

لأخشن منهم كفًّا أريب

وأعلم بالعواقب والمبادي

وأبصر بالشواهد والغيوب

وأسخى من أخي طي عطاءً

وأرسخ من همالي [1] في الخطوب

(أرسطو) حكمة (جمشيد) جاهًا

و (رستم) حين يُدْعَى للحروب

تجلى والعفاف له شعار

فآثره على البُرد القشيب

تقلد بالإمارة وهو سيف

يضيء فرند جوهره العجيب

به شبَّت ذوائبها فأعجب

بعود شبابها بعد المشيب

أتاها وهي من عهد قديم

أبت إلا مواصلة الحبيب

فواصلها وأيدها وزيرًا

(بنصر الله) ذي الرأي المصيب

هما كالفرقدين بغير فرق

وصنوا المجد من أصل نجيب

وكالعينين في شخص بصير

وإنسانين في عيني طبيب

وكالدرين من عقد ثمين

وكالزهرين من غصن رطيب

وكالشجرين بالوادي استنارا

بنور قد علا نور الخضوب

فبورك فيهما أصلاً وفرعًا

ومَن مِن مغرس ذاك الخصيب

وزاد ضياء (كابل) بالأميرالـ

ـحبيب وبالوزير له اللبيب

وعمَّ ممالك الأفغان طرًّا

سعادة نائب [2] وسنا المنيب

ليهنكما أيا قمران ذا الملـ

ـك والتدبير خالدَي الرتوب

وزادكما إله العرش أيدا

بنصر منه والفتح القريب

وجدد في ظلالكما ارتقاء الـ

ـعلوم وسائر الفن الغريب

ولا عدم اعتناءكما مديحي

أتيت به بإخلاص المنيب

وليس الشعر من أدبي ولكن

لأمر ما وسمت به نصيبي

به الإسلام أخدمه عسى أن

يصادف دعوتي نظر المجيب

رجائي منكما حث اعتزامي

وسنى لي إلى العليا ركوبي

فدام علاكما بالعز والجا

هـ ما كرَّ الطلوع على الغروب

وإذ فاق الإمارة فليؤرخ

تفوقت الإمارة بالحبيب

سنة 1319

986 278 55

وقلنا حين زاد الملك حسنًا

أضاء الملك نصر بالحبيب

سنة

1319

803 121 340 55

وقل بالفارسية مستطيبًا

زهي شاه وخوشا ماه جيبي (كذا)

سنة

...

1319 22 312 907 46 32

أديب وآخرا أرخ دعاء

وفاق الملك ضوعف بالحبيب

سنة

1319

187 121 956 55

***

(رثاء أمير أفغانستان)

من نظم الشاعر الناثر مصطفى أفندي صادق الرافعي

يافاجع الموت ماذا ينفع الحذر

وقد عهدناك لا تبقي ولا تذر

جنت يداك أزاهير الورى فهوت

كما تناثر من أوراقه الزهر

وما بمانعهم ما قدروا وقضوا

فإن كل قضاء فوقه قدر

ليس الجبان بمغنيه تذلله ولا أُسود الشرى ناب ولا ظفر

وفي الجديدين للأحياء موعظة

وما مواعظ دهر كله عبر

يا لهف (كابل) إذ فاجأتَ كافلَها

وقد تركتَ قلوب القوم تنفطر

فَجَعتَها وفَجَعتَ العالمين بها

حتى النجوم وحتى الشمس والقمر

وجئتَ ضيغمها الضاري بمخلبه

فلم يواثبك ذاك الضيغم الهصر

كم كان يزجي المنايا للعدا زمرًا

حتى بُعثن له من ربه الزمر

وكان يأتيه ريب الدهر معتذرًا

فاليوم عنه صروف الدهر تعتذر

والمرء إن عضه ناب الحِمام ثوى

لا البيض مانعة عنه ولا السمر

وما تبسم للأيام مختبل

إلا تفجع بالأيام مختبر

والدهر يومان يوم كله كدر

لا صفو فيه ويوم بعضه كدر

سلوا المآثر عنه فهي خالدة

في كل قلب له من حبه أثر

واستخبروا الشرق ما للشمس كاسفة

فما (جهينة) إلا عندها الخبر

وفي ذهاب (ضياء الدين) مظلمة

هيهات تكشفها الأوضاح والغرر

ما شبَّ في غِيَر الأحداث فكرته

إلا أضاءت له الأحداث والغير

ومدفع الغرب في أيدي عصابته

كباتر الهند بالأفغان يفتخر

فلو رأى الكوكب السيارة خاطره

ما كان يسليه إلا إنه بشر

ولو روى الفلك الدوار حكمته

لأمست الشهب فيه كلها سور

يا شامخًا دكه ريب المنون أما اهـ

ـتز الحطيم وركن البيت والحجر

طارت بنعيك للإسلام بارقة

فانهل دمع بني الإسلام ينهمر

وذي قلوب الورى من حر جارحها

كأن نار الوغى فيهن تستعر

فما لأنباء هذا السلك خائنة

حتى المدامع خانت سلكها الدرر

***

(قضايا غرام، فهل من محام)

قال الشيخ تاج الدين محمد بن عبد المنعم التنوخي المعري الأصل الدمشقي

المتوفى سنة 669.

ما ضر قاضي الهوى العذري حين ولي

لو كان في حكمه يقضي علي ولي

وما عليه وقد صرنا رعيته

لو أنه مغمد عنا ظُبَى المقل

يا حاكم الحب لا تحكم بسفك دمي

إلا بفتوى فتور الأعين النجل

ويا غريم الأسى الخصم الألد هوى

رفقًا علي فجسمي في هواك بلي

أخذت قلبي رهنًا يوم كاظمة

على بقايا دعاوٍ للهوى قِبَلي

ورمت مني كفيلاً بالأسى عبثًا

وأنت تعلم أني بالغرام مَلي

وقد قضى حاكم التنبريح مجتهدًا

عليَّ بالوجد حتى ينقضي أجلي

لذا قذفت شهود الدمع فيك عسى

أن الوصال بجرح الجفن يثبت لي

لا تسطون بعسَّال القوام على

ضعفي فما آفتى إلا من الأسل

هددتني بالقلى حسبي الجفا وكفى

(أنا الغريق فما خوفي من البلل)

ولغيره:

عيناه قد شهدت بأني مخطئ

وأتت بخط عذاره تذكارا

ياحاكم الحب اتَّئِد في قتلتي

فالخط زور والشهود سكارى

ولنا في أيام الدراسة والطلب:

أتيت قاضي الهوى أشكوه مظلمتي

إذ لج بي منه هجران وتبريح

ولي شهيدان: قلب خافق قلق

ومدمع دافق فاضت به الروح

فقال ما لك في دعواك بينة

فالعين نمامة والقلب مجروح

_________

(1)

جبل في الهند من أعظم جبال الأرض.

(2)

المراد به الوزير بحسب اصطلاحهم.

ص: 709

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(الصدر الأعظم)

توفي الصدر الأعظم خليل رفعت باشا، وكان ليّن العريكة، ضعيف العزيمة

- أو كما قال المؤيد - لم تكن له إرادة مع إرادة مولاه السلطان، ونقول على كل

حال تغمده الله برحمته التي وسعت كل شيء.

وقد أقر مولانا السلطان الأعظم أيد الله دولته، وأنفذ بها شوكته، عيون الأمة

العثمانية إذ عهد بمنصب الصدارة العظمى إلى ابن بجدتها وأبي عذرها صاحب

الدولة والفخامة سعيد باشا الصدر الأسبق، فهو خير وزراء الدولة في هذا العصر،

وأكبر رجالها والأتراك يكنونه بأبي الأمة، وفقه الله تعالى لما فيه نجاح الدولة

العلية وترقية الأمة العثمانية، آمين.

***

(أمنية في إصلاح مراكش)

كنا تمنينا لو يستعين سلطان مراكش على إصلاح بلاده الإداري والحربي

بمولانا السلطان الأعظم، ولما اتصلت بنا الأخبار في هذه الأيام عن الاضطراب

في بلاد مراكش، وامتداد عنق فرنسا - بل يدها - إليها وقع في النفس فجأة أمنية لو

تحققت لكانت كافية في الإمداد والإسعاد، تمنينا لو يكون صاحب الدولة مختار باشا

الغازي هو الوزير الأول المفوض لسطان المغرب، فمن لنا بأن يعتقد ذلك السلطان

اعتقادنا، ويطلب هذا الرجل العظيم من أعظم سلاطين المسلمين.

***

(الاحتفال السنوي للجمعية الخيرية الإسلامية)

سيكون هذا الاحتفال في هذه السنة في 25 شعبان، وهو أنفع الاحتفالات التي

تكون في مصر وأبهجها وأبدعها، والناس يقبلون عليه أكثر مما يقبلون على غيره

من الاحتفالات الأخرى، وهذا من دلائل الشعور بالمنافع العمومية الذي انبثَّ في

نفوس المصريين.

وإذا كان نجاح الأعمال الاجتماعية، والسعي في المصالح العمومية، هما

البرهانان على كمال الرجولية، فلا شك أنه لا يوجد عندنا برهان على رجولية أحد

إلا القائمين بأمر هذه الجمعية، وحظ كل مصري من الكمال بقدر مساعدته لهم

ومعاونته إياهم، والمساعدة على قدر الاستطاعة، وكل امرئ أعلم بمبلغ استطاعته

فلينظر في درجة كماله.

***

(امرأة خير من الرجال)

يصفون من تأخر البلاد ويذكرون من ضعف الأمة وتقهقرها والبلاء الذي

يخشى أن يفضي إلى الفناء؛ لأنه مثار كل شقاء، هو كون كل فرد منا لا يفكر إلا

في أمر نفسه، ومن هو كنفسه كزوجته وولده الصغير، وعدم الاهتمام بأمر الأمة

والعمل لمصلحة البلاد، وما أفضل الناس من ينقطع إلى طلب العلم ليعيش به، ولا

من ينقطع للعبادة ليُعَظَّم ويُكَرَّم في الدنيا وفي الآخرة، ولا من يسميهم الناس عظماء

وأمراء؛ وإنما أفضل الناس أنفعهم للناس؛ لأن الإنسان خلق اجتماعي فمن يخدم

الجماعة يكون أرقى في الإنسانية ممن لا يخدم إلا نفسه، بل ذلك هو الإنسان وما

سواه حيوان.

ومن البلاء أن من يوفق من أغنيائنا لبذل شيء من المال في المصالح العامة

يضعه في غير موضعه، فإما أن يبني مسجدًا حيث تكثر المساجد وتزيد على عدد

المصلين، فيكون كمسجد ضرار مفرقًا لا جامعًا، وإما أن يبني زاوية أو تكية تكون

مأوى للكسالى والبطالين، وإما أن يوقف عقارًا على عمل ضار يعده الجهلاء نافعًا

كبناء الأضرحة والقباب عليها، ومما حدث في هذه البلاد التي أنشأت تستنشق نسيم

الحياة الاجتماعية أن امرأة بَرَّة من ناحية المطيعة التابعة لأسيوط اسمها الحاجة

بخيتة بنت محمود، قد وقفت لأعمال خيرية بذلت فيها المال حيث ينبغي أن يبذل،

إذ بنت في بلدتها مسجدًا ومكتبًا لتعليم القرآن وعقائد الدين وأحكامه، ورتبت

النفقات الكافية لهما وللعلماء والمدرسين في مدينة أسيوط، وأوقفت عشرة أفدنة من

أطيانها على الجمعية الخيرية الإسلامية مساعدة لها على تعليم أولاد فقراء المسلمين

وإعانة الضعفاء والبائسين، وقد كتب إليها صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد

عبده مفتي الديار المصرية ورئيس الجمعية كتاب شكر هذا نصه:

(مصر: في 22 جمادى الثانية سنة 1319 عدد 171

حضرة السيدة بخيتة بنت محمود

بلغنا من حضرتي الفاضلين عبد الرحمن بك حسنين النميس وحسين بك

فهمي أن الله قد أرشدك إلى وقف عشرة أفدنة على الجمعية الخيرية الإسلامية

ليكتبها الله بك في سجل أعمالك الصالحة الباقية، فحمدنا الله تعالى على أن جعل

في بلادنا من النساء الخيِّرات من يسبقن الرجال في فضائل الأعمال، وإنا نشكره

جل شأنه على نعمته، ونشكرك على عملك الفاضل، وقد عرضت هذا العمل على

أعضاء الجمعية فكلفوني بأن أشكرك بالنيابة عنهم، كما شكرتك بالأصالة عن نفسي

وأسأل الله أن يكثر في المسلمين من أمثالك والسلام) .

...

...

...

...

...

التوقيع

من بَلَّغ المرأة الفاضلة كتاب الرئيس؟ ذهب صاحب السعادة أحمد باشا

حشمت مدير أسيوط إلى بلدها في طائفة من أهل الفضل والوجاهة في أسيوط،

منهم عبد الرحمن بك النميس، وحسين بك فهمي، والدكتور أحمد أفندي السعيد

طبيب مدرسة الجمعية الخيرية في أسيوط، والشيخ عبد الرحمن أحمد أحد أساتذتها

والخواجة دوس المطيعي، فتلقاهم أهل البلدة بالحفاوة، وساروا بهم إلى دار

المحسنة الفاضلة، فرحبت بهم أحسن ترحيب.

وابتدأ المدير بالثناء عليها، وفضلها على جميع نساء الوطن، وعلى كثير من

رجاله، ثم خطب صاحب العزة حسين بك فهمي خطبة نافعة بيَّن فيها للحاضرين

مكانة هذه المراة الفاضلة، وفضل عملها المبرور، وقد لقبها صاحب السعادة أحمد

حشمت باشا (بست البلد) وأمر الحاضرين بأن يطلقوه عليها، ثم انفضوا

مسرورين، ولنا أن نقول لأغنيائنا الأشحة.

ولو كان النساء كمن ذكرنا

لفضلت النساء على الرجال

***

(أمثلة لطفولية الأمة)

قلنا غير مرة أن أمتنا كالطفل في الحياة الاجتماعية، وأوضحنا هذا في

مقالتين نُشرتا في آخر المجلد الثاني من المنار، عنوان أحدهما (طفولية الأمة وما

فيها من الحيرة والغمة) وعنوان الثانية (الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة)

ومما نقوله كثيرًا بمناسبة ذكر التعليم الذي تحيا به الأمم: إن أمتنا لما تشرع في

التعليم الابتدائي؛ وإنما يصح أن يكون الزمان قد أعد جماعة منها إلى ما يسمونه

(القسم التحضيري) الذي استعد أو يستعد للتعلم الابتدائي في مدارس الاجتماع،

وإننا نذكر ههنا ثلاثة أمثلة على طفولية الأمة نلقنها لأهل هذا القسم التحضيري:

(المثال الأول شركة الاقتصاد الإسلامية)

لاشك أن الشركات من أكبر الدروس الاجتماعية العملية، وقد أراد جماعة من

القسم الذي نسميه تحضيريًّا أن يبتدءوا بدرس الشركات بعدما تعلموا العلوم العالية

في مدارس الحكومة، وبعضهم تعلم في أوربا وأخذوا الشهادات في اللغات وعلوم

الاقتصاد والحقوق وغيرهما، وكان منهم الموظفون والمحامون، فسنوا لهم قانونًا

وألَّفوا شركة وجعلوا لهم جمعية عمومية ومجلس إدارة، ثم جمعوا من السهام مبلغًا

من المال.

ماذا عملوا بعد ذلك؟ عملوا عمل العجائز والزمنى الذين لا يقدرون على

التصرف بأنفسهم إذ اشتروا ببعض المال سهامًا من بعض الشركات الأجنبية العاملة

كشركة الماء، وشركة الأسواق، ثم علم بعض المشتركين بأن أسعار السهام قد

نزلت بعد حرب الترانسفال، فطلب بعضهم ما دفعه فأخذه بعد إمساك الشركة ما

أصابه من الخسارة، وصبر الآخرون راجين أن يقوم مجلس الإدارة بعمل آخر

يربح ما يعوض الخسارة؛ ولكن المجلس حار ولم يدر ماذا يعمل، ثم دعا الجمعية

العمومية للمشاورة في حل الشركة، فحلوها على خسارة ثلاثين في المائة، فمن لم

يحضر فعليه أن يذهب إلى مكتب أمين الصندوق عزتلو محمد بك فريد المحامي،

ويأخذ ما بقي له.

وهذه العبرة لا تقضي علينا باليأس من الأعمال الاجتماعية؛ وإنما تقوي

الرجاء لأنه مر علينا زمن لا نفتكر فيه بهذه الأشياء حين كنا كالجنين، وقد ارتقينا

فصرنا كالطفل يحاول المشي، فيقع بين كل خطوة وأخرى، ولا بد أن يكون رجلاً

إن شاء الله تعالى.

(المثال الثاني مجلة الموسوعات)

سمعنا أن مجلة الموسوعات أُنشئت لمباراة مجلة المقتطف، وإغناء

المصريين والمسلمين عنها، وكان يكتب على ظهرها أنه يحررها لجنة من أعاظم

الكُتَّاب، ولا شك أن لجنة من أعاظم الكُتَّاب أقدر على الإفادة والإجادة من كاتب أو

كاتبين؛ ولكن المجلة سارت الخَوْزَلَى ثم القهقرى ثم عثرت فسقطت، وهذا لا

يصح أن يكون أيضًا مدعاة لليأس، فما هو إلا طفل تحرك بروح حية، ويرجى أن

يقوم ويمشي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

(المثال الثالث رجال الصحافة في مصر)

الجرائد مدارس اجتماعية وأصحابها وكتابها كمديري المدارس ونظارها

وأساتذتها، ونراهم على ذلك يتسابون ويتشاتمون ويتخاصمون ويتنازعون كالأطفال

لا كما يكون من اختلاف آراء الرجال، والعبرة الكبرى في الحادثة الأخيرة من

حوادثهم، وهي أن أصحاب الجرائد اليومية اقترحوا على الحكومة أن تأذن لهم

بإرسال مكاتبين يرافقون موكب سمو الخديوي في زيارته للسودان، وليكتبوا أخباره

لجرائدهم عن عيان، واحتجوا على الحكومة بأن هذا معهود في أوربا، فأرادت

الحكومة أن تُعَرِّفهم أنه لا فرق بينها وبين حكومات أوربا؛ وإنما الفرق العظيم

بينهم وبين أصحاب الجرائد في أوربا، فعهدت إلى أصحاب الجرائد العربية

بانتخاب واحد منهم ينوب عنهم، فاجتمعوا أولاً في إدارة جريدة المؤيد وارتأوا أن

يدعوا جميع أصحاب الجرائد الأسبوعية لمشاركتهم، فدعوهم واجتمع من حضر في

إدارة جريدة الأهرام، فاقترح بعضهم أن يكون المنتخَب من أصحاب الجرائد

الأسبوعية، فتنازعوا واختصموا، وخرج البعض مغضبًا، ثم اجتمعوا في إدارة

المقطم فكانوا أكثر خصامًا ونزاعًا وخلابة وخداعًا، ثم انقسموا إلى طائفتين خرجت

طائفة من المجلس، ومنها جميع المسلمين وصاحب جريدة مصر القبطية، ومدير

جريدة الرائد المصري السوري، وأما الذين بقوا في المقطم فهم سوريون إلا

صاحب جريدة الوطن فهو قبطي؛ وإنما ذكرنا أجناسهم ومللهم؛ لأن لذلك دخلاً في

النزاع والاختلاف، ثم انتخبت كل طائفة مندوبًا من أصحاب الجرائد الأسبوعية،

وعرضوا الانتخابين على نظارة الداخلية، فأرسلته إلى حكومة السودان أو للحربية

لأجل الترجيح، ثم استقال كل من المنتخبين، واختارا محرر جريدة أسبوعية

أخرى، فأجاز ذلك منتخبوهما، وبذلك انحسم النزاع.

_________

ص: 714

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

الصوم والناس. العبادة. معرفة الله. البعث. جاهلية المدنية الأوربية.

التكوين حسب العلم العصري الموافق للقرآن. الحياة والبقاء. الأرواح. الحاجة

إلى الدين. الإسلام والمدنية. شكوى المسلمين. دعوة المرتابين إلى الحق.

أقبل شهر الصيام فرحَّب به المؤمنون، وتبرَّم منه المنافقون، واستهان به

الزنادقة المارقون، فالمؤمن في صيام وصلاة، وصلة وزكاة، وبِرٍّ ومواساة،

وعكوف على كتاب الله، والمنافق في كذب ومداجاة، وإسرار يخالف ما أظهره

وأبداه، يستخفي بإفطاره من الناس ولا يستخفي من الله، كأنه لا يعلم أنه يبصره

حيث كان ويراه، والمارق المرتد يجاهر بالإفطار، وتُمد له الموائد في نصف

النهار، فيأكل الطعام ويشرب العقار، ويفجر مع أمثاله من الفجار، ضلال مع

إصرار، لا ندم يعقبه ولا استغفار أولئك هم الفاسقون {كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ

كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 3-4) .

{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ

السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلَاّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس: 17-23) أمره بالصلاة فكسل، وأمره بالزكاة فبخل، وأمره بالصوم

فشرب وأكل، ولو عرف الله لآثر طاعته على شهوته وهواه، ولو عرف نفسه

لعرف ربه، وابتغى رضوانه وقربه، وارتقى بذلك عن اللذة الحسية البهيمية، إلى

اللذة الروحانية الإنسانية، فصلى طلبًا لمرضاته، وتلذذًا بمناجاته، وصام ابتغاء

وجه ربه الأعلى، الذي يعلم الجهر وأخفى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 88) .

نعم لكل موجود ممكن وجهان، وجه إلى عالم الكون والفساد الذي تفنى عن

قريب صوره، ويمحى أثره، ووجه إلى الوجود الحق الذي استفاد وجوده من

وجوده، واستمد ما به بقاؤه من كرمه وجوده، إذ هو {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ

ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن

مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ

ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى} (القيامة: 36-40) .

بلى إن الكيماوي يحلل بعض الأجسام المركبة ويرجعها إلى عناصرها

البسيطة، فتراها قد فنيت وتلاشت، ثم يعيدها بالتركيب إلى شكلها الأول فتراها

خلقًا جديدًا، هذا والكيماوي رجل مثلك يشكو الجهل والضعف {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ

العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) أفرأيت الحي الذي استمد الحياة منه كل الأحياء،

القيوم الذي قامت بقدرته الأرض والسماء، يعجز عن فعل ذلك بك وهو الفعَّال

لما يريد {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: 15) .

هؤلاء الزنادقة المرتابون في النشأة الأخرى الذين تركوا الصوم والصلاة

واتبعوا الشهوات يتوكأون في هذا العصر على العلم الطبيعي في ارتيابهم أو

جحودهم، وهم أعرق في الجهل به من أمثالهم في زمن الجاهلية الأولى؛ فإن

علمهم الطبيعي ينطق بأن العدم المحض مُحال، وأن الإعدام والإيجاد إبطال صور

وأشكال وتجديد صور وأشكال، وأن هذه الكواكب السماوية، وهذه الأرض كانت

كلها مادة واحدة منتشرة كالدخان والهباء، ثم انفتق رتقها فكانت أجرامًا كروية

متعددة، ثم نشأ في هذه الأرض وهي إحداها ما نراه فيها من العوالم الحية وغير

الحية، وكان كل ذلك الإبداع والإحكام بترتيب كامل ونظام يدل على أنه صادر عن

علم وحكمة وإرادة وقدرة {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً

فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) .

عرفوا قليلاً من ظواهر أشكال هذه المخلوقات وقواها وخواصها، وعرفوا أن

أعلاها وأكملها المخلوقات الحية، وأن أكمل الأحياء منها الإِنسان، أفلا يدلهم هذا

على أن الحياة التي بها قوام أكمل المخلوقات هي أكمل الموجودات، وعلى أن

كمالها في مراتب الوجود بالنشوء والارتقاء يدل على رسوخها فيه؟ وإذا عرفوا هذا

وضموه إلى علمهم بأن أجزاء المادة التي لا حياة لها لا تقبل عدم المحض؛ وإنما

تنحل منها صورة فتدخل أجزاؤها في تكوين صورة أخرى من المخلوقات الحية،

ألا ينتج لهم مجموع هذه المعارف أن الحياة التي تلابس المادة الميتة فتجعلها خلقًا

جديدًا ينمو ويرتقي أجدر بالبقاء، وأولى بالارتقاء لا سيما هذا الإنسان الذي هو

أكمل ما في هذه الأكوان، بلى {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ

الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَاّ الَّذِينَ

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ

بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ} (التين: 1-8) .

حياة الأحياء معلومة بالضرورة لا تحتاج إلى دليل، وإن ما به الحياة مجهول

في كنهه وحقيقته معلوم بأثره، وإن أكمل مراتب الحياة وأعلى درجاتها هو ما كان

من أثره العلم والحكمة والإرادة، وهو ما يسمى باللغة العربية روحًا، وإن أفراد

الأرواح متفاوتة في الارتقاء، كما أن أنواع جنسها - وهو ما به الحياة - متفاوتة

كما قلنا آنفًا، وإن أعلى الأرواح رتبة وأكملها هو ما كانت علومه ومعارفه أعلى

وأكمل، وإن أكمل المعارف والعلوم هو ما كان موضوعه أعلى وأكمل، وأثره أنفع

وأفضل، وإن ذلك هو معرفة الله تعالى الذي منه مبدأ كل هذه الوجودات وإليه

مرجعها إذ هو الحي القيوم بنفسه الذي حيي وقام به غيره؛ لأن قيام الأشياء وثبوتها

وحياة الحي منها لم يكن بالمصادفة والاتفاق، ولا يصح أن يكون علة لنفسه لئلا

يكون سابقًا عليها، ولا أن يكون سببه عدميًّا؛ لأن العدم لا يُتَصَوَّر فكيف يخلق

ويُصَوِّر؟ وَيَلي معرفة الله تعالى معرفة سننه في خلقه وشرائعه التي يصلح بها أمر

عباده في أرواحهم وأجسادهم، وهي ما يسمى العمل بها عملاً صالحًا؛ وإنما

صلاحه بكونه أنفع للناس وأفضل كما ثبت بالنظر والتجربة، ولهذا جعل تعالى

الفلاح وهو الفوز بسعادة الدنيا والآخرة مقرونًا بالإيمان، وهو معرفة الله تعالى

بالعمل الصالح الذي به تصلح النفوس والشؤون {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ

فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: 1-2) الآيات.

إذا تسنَّى للإنسان أن يعرف بطول الزمان وتقلب الحدثان ما به تصلح شؤونه

الدنيوية في أفراده ومجموعه من غير أن يسترشد بالوحي الذي هو تعليم يفيض من

عين الكرم والفضل على بعض الأرواح العالية التي يُعدَّها الله لذلك فهل له من

سبيل إلى معرفة ما يصلح به الروح ليرتقي بذلك إلى حياة أعلى من هذه الحياة؟

فإنه يعتقد بأن العدم محال، وأن الارتقاء سنة من سنن الوجود، ثم إن كل فرد من

أفراده يوقن من ذلك بأن وجوده الحاضر سيبطل ويفنى، أفلا يتعين عليه إذن أن

يؤمن بنشأة أخرى وحياة ثانية كما أخبر النبيون والمرسلون {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ

عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) .

الحق أقول: إن الإنسان كان قريبًا من العجماوات، وإنه لم يصعد في مراقي

الوجود بهذا التدريج البطيء إلا بهداية أفراد خصهم البارئ الحكيم بالإلهام الصحيح

والوحي إليهم روحًا من أمره أقدرهم به على هداية الناس في كل طور بقدر

استعدادهم، وإن هؤلاء الأوربيين الذين يتوهمون هم ومقلدوهم المخدوعون بمدنيتهم

أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه من معرفة المصالح والمنافع في شؤون الحياة الدنيا

بأنفسهم، من غير استرشاد بشيء من الوحي قد كذبوا في وهمهم وضلوا في

حسبانهم؛ فإنهم ما وصلوا إلى ذلك إلا بعدما اقتبسوا من الدين أصوله ومبادئه

وكثيرًا من فروعه ومقاصده، واعتبروا بتاريخ الإنسان أيام لا هادي له إلا الدين،

وقد صرح بعض فلاسفتهم بأنهم أخذوا استقلال الفكر واستقلال الإرادة من الإسلام،

وهما أصل كل تقدم ونجاح، وكذلك الاعتبار بسنن الكون ونواميس الطبيعة

والاعتماد على ثباتها وعدم تغييرها ولا تحويلها فهو مأخوذ من القرآن، وإن لم

يهتد به كما يجب أهل القرآن، وقل مثل ذلك في الحكومة الشوروية، وجعل

الحكومة بمعرفة الأمة وتحت سلطتها فهذا أصل ارتقائهم السياسي، كما أن ما قبله

أصل ارتقائهم العلمي، وهو مأخوذ من الإسلام وإن لم يعمل به المسلمون حتى

صاروا حجة على دينهم، وعلى كل دين كما تقدم بيانه في المنار مرارًا.

إذا كان كل خير أصابه الإنسان في دنياه متصلاً نسبه بهداية الدين فهل

يستغني هذا الخلق الضعيف عن إرشاد الدين فيما يتعلق بحياته الأخرى، أليس له

في هذه الحياة حواس ومشاعر يستعين بها في شؤونها، وليس له مثل ذلك في إعداد

نفسه وتأهيلها لتلك؟ فتبصر يا من أغواه التفرنج في أمرك، واعلم أنه قد دلاك

بغرور، وقذفك في تَيْهُور واستعبدك للشهوات، وهبط بك إلى دركة الحيوانات،

ففسد بأسك، وضاع وطنك وجنسك فخسرت الدنيا والدين، وذلك هو الخسران

المبين.

أنت تشكو من سوء الحال وضياع الاستقلال واختلال الأعمال، وتلتمس لذلك

الأسباب وتطرق للخروج منه كل باب؛ ولكن الانغماس في الشهوات جعل على

عينيك غشاوة، وفي سمعك وقرًا، فأنت الآن لا تسمع ولا ترى، فإن استطعت أن

تكسر من سَوْرة هذه الشهوات وتفل من حدها وتتفلت من عُقُلها، وتنطلق من

قيودها، فتكون إنسانًا مستقلاً، فحيتئذ يسهل عليك أن تعرف كيف ذلت أمتك بعد

عزها وضاعت بلادها بعد منعتها، ويسهل عليك السعي في تلافي ذلك، ولا سبيل

لك إلى الخلاص من ذلك الرق والاستعباد إلا بالدين، فارجع إليه وأقم أركانه وشيِّد

بنيانه، وها أنت ذا في الشهر الذي شرعه الدين لتأديب الشهوات، والتغلب على

العادات وجعل النفس الأمارة بالسوء خادمة مأمورة، وملكة الرذائل والشرور أَمة

خاضعة مقهورة.

شرعتُ في الكتابة قاصدًا بيان فضل الصائمين، والنعي على المفطرين من

المسلمين الجغرافيين، ثم بدا لي أن المسلم لا يفطر في رمضان عامدًا متعمدًا إلا إذا

كان مرتابًا في أصل الدين، غير مؤمن باليوم الآخر، ولهذا أطلت فيه المقال

بالنسبة إلى هذا المقام، فمن كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر، مسلِّما بالدين، عالمًا أن

فيه الفلاح والسعادة، واسترجاع ما فقدنا من السلطان والسيادة، فليؤدب بالصوم

نفسه، ويكتسب به ملكة الحكم عليها، فبذلك يحفظها في الدنيا من أكثر الأمراض؛

لأنها تنشأ من الإفراط في الشهوات، ويتبع هذا حفظ العِرض والمال والاستعانة

على تربية الأولاد، ويحفظها في الآخرة بما يعطيه الصوم من النور الروحاني

بمراقبة الله تعالى وحبه، والرغبة في رضوانه وقربه، وبما في الصوم من تهذيب

النفس وتزكيتها وإعدادها بهذا الترقي المعنوي لنعيم ذلك العالم الأخروي، وقد بيَّنا

منافع الصوم الروحية والجسدية في مقالتين نشرتا في المجلد الثاني من المنار تحت

عنوان (الصيام والتمدن) فليراجعهما من شاء (ص 673 و 695) .

ومن كان في شك من دينه فعليه أن يطيل البحث والسؤال من غير مراء ولا

جدال، ولا يغرنه ترك أئمته الأوربيين للدين؛ فإن الدين الذي تركوه ليس دين

زمنهم، ولم يكونوا يعرفوه على وجهه الذي كان عليه المسيح عليه السلام؛ لأن

دين المسيح هو دين اليهود ما نسخ على لسانه إلا قليل من أحكامه، وزاد فيه بعض

حكم ونصائح، فكان ممهدًا بذلك للدين العام الذي كان أهم وظائفه البشارة به،

والذي قال عن صاحبه أنه روح الحق الذي يبين للناس كل شيء، ولا يغرنه أيضًا

سوء حال المسلمين المخذولين الفاسدي الأخلاق؛ فإنه ليس لهؤلاء من الإسلام إلا

الاسم، ولا حظ لهم من كتابه إلا التبرك بالتلاوة والرسم، فهم بعدم القيام بحقوق

القرآن كالذين قال الله تعالى فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ

الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ

الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) والمنار قد بيَّن بعدهم عن الإسلام في جميع أجزائه،

فنقم عليه بعضهم أنه يعيب المسلمين وعذره في ذلك أنه يعظم الإسلام ويمدحه

ويبين حقيقته، وهذا يتوقف على الإزراء بمن أهانوه بانتسابهم إليه، حتى نفَّروا

الناس منه.

في الإيمان سعادة الآخرة وسعادة الدنيا، فيا أيها الشاكون، ويا أيها الجاحدون

تعالوا أبين لكم الحق، وأكشف لكم الشبهات عن وجهه، لا تَهْلِكُوا وتُهْلِكُوا أمتكم

بالأسوة السيئة، اتقوا الله في أنفسكم، وفيمن تجرِّئونهم على هدم أركان الإسلام

وانتهاك حرماته، وخذوا بالاحتياط إن كنتم تعقلون.

_________

ص: 721

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السياسة والساسة

ما السياسة ومن الساسة؟ السياسة من جملة علوم، أستاذها الفلك الدائر الذي

حضر في حلقته الأولون والآخرون، واستفاد من نظامه العلماء والجاهلون؛ فإن

ارتباط المسببات بالأسباب ما عرف بادئ بدء إلا بتعريف هذا الأستاذ الأعظم،

وليست السياسة إلا البحث عن أحوال العالم المجتمع وأسباب تغيرها، واتخاذ كل

طائفة أسباب السمو على غيرها بحسب اعتبارها، وما الساسة إلا علماء هذه

الأسباب وخطباء هذه المعاهد.

قلت: الفلك الدائر، ولعلي أغربت وأبعدت؛ ولكن ليس كل إغراب محرمًا في

شرع البيان، بل أنا لم أغرب ولم أبتدع؛ ولكنني اتبعت المثل السائر الذي شاع

ضربه وتصريفه في ارتفاع قوم وسقوط آخرين، ألم تسمعوهم يقولون: فلك دوَّار

يعلي وينزل.

الفلك لا يعلي ولا ينزل؛ ولكنه كناية عن النواميس والطبائع التي هو أبوها

الأقدم، لا تسل ما هو هذا الفلك الدائر، ولكن سل ما هي هذه النواميس والطبائع؟

هذه النواميس هي الأحكام الثابتة للكائنات في بساطتها وتركيبها، هذه الطبائع

هي المزايا الراسخة للموجودات على ما هي، هذه هي التي إن ظهرت تمجد آثارها

وإن بطنت تسبح أسرارها، هذه التي تجلت للإنسان فصار وحيدًا بين أقرانه

الحيوانات، وسلطانًا على عوالم الأرض، وما الإنسان لولا انكشافها له إلا كبعض

هذه الحيوانات السوائم، بل ما الحيوان لولا انكشاف شيء يسير منها له إلا كهذا

النبات النامي.

قف عند هذه النواميس إن شئت، واصعد إن شئت بعقلك إلى بارئها جل

جلاله، أسند الآثار إليها إن شئت، وأسند إن شئت لبارئها تعالى كماله، قل مثلاً:

النار محرقة أو المحرق بارئ النار سبحانه، وقل المطر تنزله الأسباب، أو تنزله

الملائكة بإذن البارئ ما أعظم سلطانه، لا نناقشك في هذا لأنا رأيناك لا تمد يدك

إلى النار خشية من إحراقها، ووجدناك تتناول الأغذية والأشربة رجاء إشباعها

وإروائها، ولم نرك تأكل وتشرب العبارات فلا تناقشنا أنت على تعبيرنا، بل إن

كان قريبًا وجب حقه عليك، وإن كان غريبًا فالأمر في تركه إليك، وإن استصعب

عليك أخذ المقصود من هذه النبذة، فدعها لغيرك وخذ أنت غيرها:

السياسة علم أحوال الأمم، علم أحوال الأمة الواحدة، علم أحوال النفس.

ليست هذه ثلاثة علوم متغايرة، بل ثلاث درجات متلاصقة، يطلق هذا الاسم على

كل واحدة منها، هن ثلاث درجات لا يرسخ العالم في واحدة منها إلا أن يحيط

نظره بالباقيتين، ويصح أن يقف في واحدة منها إذا تمكن فيها قدمه، ويكون معينًا

لمن وقف في غيرها.

من هذه الدرجات الثلاث يكون رقي الأمم على أيدي علمائها إلى مناط

السعادات، ويكون جلي المآرب دانيًا لها، والذين عدموا علماء لهذه الدرجات

واقفون في الدون، راضون بالهون يشرف عليهم الأعلون إشراف الطائر ذي

الأجنحة على الدواب الزواحف، ومتى شاءوا التقفوها غذاء وزقوا بها أفراخهم.

هذه هي السياسة وستُسألون أيها القوم ماذا أعددتم منها أمام المناظرين،

وستُحاسبون وقد أُحصيت أحوالكم، واستُمعت أقوالكم، وشوهدت فعالكم هل لكم

مواقف في هذه المعارج؟ هل اقتطفتم شيئًا على هذه المراقي؟ هل ساوت مناكبكم

مناكب أهل المواكب؟

السلامة كجنة فيها غرفات، والسياسة كسياج فيه أبواب: منها باب التربية

والتعليم، ومنها باب معرفة طبائع الأقاليم، ومنها باب معرفة الزمان وأهله،

واختبار حلوه ومره، وحزنه وسهله، ومنها باب معرفة ما كان في غابر الأزمان،

ومنها باب تأليف القلوب وجمع القبائل والشعوب، ومنها باب الحذر من الخصوم

وقهرهم بالمدافعة أو بالهجوم، ومنها باب المداراة والمداجاة، ومنها باب التحرش

والمفاجأة، ومنها باب التفقه في الحكم وهو باب الأبواب ولب اللباب، فأنتم

مسؤولون أي الأبواب معكم مفتاحها، وأي الغرفات معكم مصباحها، هل أنتم داخل

الأبواب أم خارجها؟ هل أنتم ضربتم السياج عليكم وغلَّقتم الأبواب؟ أم ضربوه

دونكم وصدكم الحُجاب؟

يسألونك لمن السياسة اليوم؟ السياسة لمن علت همتهم فجابوا من الأرض

البحر والبر، وعرفوا من الناس الفاجر والبر، ومن الطبائع النفع والضر،

السياسة لمن نفذت عزيمتهم فرضخ لسلطانهم اليم، واستكان لبعض تدبيرهم الجو،

وناجتهم الأرض دالة إياهم على غوامض أسرارها، وخفايا كنوزها، وخافتهم

النفوس فسكنت لأحكامهم، وترجتهم العقول فتعلقت بمعارفهم، السياسة لمن

يعرفون أسباب القوة ويعلمون التصرف بالضعيف.

أنا لم أمدح قومًا معينين؛ ولكني عرفت أوصاف الذين بيدهم مقاليد السياسة

العظمى، فمن وجد ما يعارض به كلامي فليفعل.

وأنا لم أنفِ بهذا كل معرفة وخير عن قوم معينين؛ ولكني أبين ولا حرج

فأقول: إنا أيها المسلمون اعتدنا أن نستهزئ بالأسباب كثيرًا، وبهذا خسرنا ما

خسرنا.

فبيْنا نسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سُوقَة نَتَنَصَّفُ

أفليس من استهزائنا بالأسباب استهزاؤنا بالأفراد الذين يريدون إصلاحًا؟

وهل الذين نهضوا بالأمم الأخرى إلا أفراد أمثالهم؟ ومن ظن أن هنالك سببًا

لخسراننا غير استهزائنا بالأسباب فليقل، فأية سياسة لنا إذا كنا نستهزئ بالأسباب؟

هذا ما عندي والسلام على النظام العام.

...

...

...

...

...

دمشق

...

...

...

...

...

ع. ز

تتبعها مقالة

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 728

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم

ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)

(1)

قال صلى الله عليه وسلم: (من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم

أن فيهم أولى بذلك منه، وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله ورسوله وجميع

المسلمين) [1] فهل أمراؤنا وعمالنا أعلمنا بالكتاب والسنة.

(2)

وقال صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم

فيما أحب أو كره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع عليه ولا

طاعة) [2] ، أفلا يكفر أكثر المسلمين اليوم من يدعوهم إلى العمل بهذا الحديث المتفق

عليه.

(3)

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله؛ إنما

الطاعة في المعروف) [3] .

(4)

وقال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى سلطانًا بما يُسْخِط ربه خرج

من دين الله) [4] .

(5)

(استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا لكم، فضعوا

سيوفكم على عواتقكم، ثم أبيدوا خضراءهم) [5] أليست هذه سيطرة فعَّالة للأمة

على الأمراء والحكام، فمن أين جاءت السلطة المطلقة في الإسلام؟

أليس ملوك المسلمين أولى بأن يعاهدوا الأمة عند المبايعة على تحكيمها في

دمائهم إذا خالفوا شريعتها من ملوك الإنكليز الذين يبيحون لمجلس الأمة دماءهم إذا

خالفوا قوانين البلاد وتقاليدها المتبعة؟ بلى لأن المسلمين ملزمين بالعمل بالشريعة

وتقييد السلطة للدين والدنيا معًا بخلاف أولئك.

(6)

وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا هل سمعتم؟ سيكون بعدي

أمراء - في غير هذه الرواية هنا زيادة: يكذبون ويظلمون - فمن دخل عليهم

فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على

الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني

وأنا منه وهو وارد على الحوض) [6] .

(7)

وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم

يحدِّثونكم فيكذِّبونكم، ويعملون فيسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا

قبيحهم، وتصدقوا كذبهم، فاعطوهم الحق ما رضوا به، فإذا تجاوزوا فمن قُتل

على ذلك فهو شهيد) [7] فانظروا كيف حكَّم الأمة بالأئمة والأمراء، وجعلها هي

المعطية وهي المانعة، وأمرها بالخروج عليهم إذا لم يرضوا بالحق، وعَدَّ المقتول

في هذا السبيل شهيدًا، فهل يقول أحد بعد أن نوع الحكومة في الإسلام غير

معروف؟ ألا يجب تربية الأمة على الاستقلال لتقيم به هذه الركن.

***

آثار السلف عبرة للخلف

الخطبة الأولى للخليفة الأول رضي الله عنه

لما بويع أبو بكر رضي الله عنه صعد المنبر فنزل مرقاة من مقعد النبي

صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد أيها الناس فقد وليت

عليكم ولست بخيركم لوددت أن قد كفاني هذا الأمرَ أحدُكم.

اعلموا أيها الناس أن أكيس الكيس التُّقى، وأن أحمق الحمق الفجور، إلا أن

الصدق عندي الأمانة، والكذب الخيانة، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له

بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه؛ إنما أنا متبع ولست بمبتدع

فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، ولا

يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالفقر، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا عمُّهم الله

بالبلاء، فأطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم،

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وفي رواية: قوموا إلى صلاتكم [8] ) .

قوله رضي الله عنه (وإن زغت فقوِّموني) قد اقتدى به عمر بن الخطاب

رضي الله عنه من بعده في عبارته المشهورة (من رأى منكم في عوجًا فليقوِّمه)

وعثمان رضي الله عنه في قوله (أمري لأمركم تبع) وقد روي عنهم مثل هذا كثيرًا

وكان يوعظون قولاً وكتابة فيحمدون من يعظهم ويأمرهم بالخير، على هذا بُنيت

الخلافة الإسلامية، فهدم ركنها بنو أمية وحاولوا جعل السلطة مطلقة أو استبدادية،

وساعدهم مَن بعدهم على ذلك بالتدريج، وساعد الملوك بعض الفقهاء فجعل لهم من

السلطة والتصرف المطلق ما لم يجعله لهم الدين، وكان أول من جاهر بالمنع من

نصيحة الملك أو الخليفة جهرًا عبد الملك بن مروان فقد قال على المنبر: (من قال

لي اتق الله ضربت عنقه) فضعف بهذا أمر الشورى، وبطلت سيطرة الأمة على

أمرائها فاستبدوا وجعلوا بأس الأمة بينها شديدًا، وحارب بعضهم بعضًا لأجل

الفتوح والغلب وإزالة سلطة وإدالة أخرى منها حتى حَلَّ بالمسلمين ما هم فيه من

البلاء المبين.

***

الخطبة الأولى للخليفة الثاني رضي الله عنه

عن سعيد بن المسيب قال: لما وُلِّي عمر بن الخطاب خطب الناس على منبر

رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس إني

علمت أنكم كنتم تؤنسون مني شدة وغلظة، وذلك أني كنت مع رسول الله صلى الله

عليه وسلم وكنت عبده [9] وخادمه، وكان كما قال الله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ

رَّحِيمٌ} (التوبة: 128) ، فكنت بين يديه كالسيف المسلول إلا أن يغمدني أو

ينهاني عن أمر فأكف، وإلا أقدمت على الناس لمكان لينه، فلم أزل مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راض، والحمد لله على

ذلك وأنا به أسعد، ثم قمت ذلك المقام مع أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه

وسلم وكان كما قد علمتم في كرمه ودَعَته ولينه، فكنت خادمه كالسيف بين يديه أخلط

شدتي بلينه إلا أن يتقدم إلي فأكف وإلا أقدمت، فلم أزل على ذلك حتى توفاه الله وهو

عني راضٍ والحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد.

ثم صار أمركم إليّ اليوم وأنا أعلم، فسيقول قائل كان يشتد علينا والأمر إلى

غيره، فكيف به إذا صار إليه، واعلموا أنكم لا تسألون عني أحدًا فقد عرفتموني

وجربتموني وعرفتم من سنة نبيكم ما عرفت، وما أصبحت نادمًا على شيء أكون

أحب أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه إلا وقد سألته، فاعلموا أن شدتي

التي كنتم ترون قد ازدادت أضعافًا إذا صار الأمر إليّ على الظالم والمعتدي،

والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويهم، وإني بعد شدتي تلك واضع خدي بالأرض

لأهل العفاف والكف منكم والتسليم، وإني لا آبى إن كان بيني وبين أحد منكم شيء

من أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحببتم منكم، فلينظر بيني وبينه أحد منكم،

فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم. ثم

نزل) [10] .

وعن الحسن قال: إن أول خطبة خطبها عمر حمد الله وأثنى عليه ثم قال:

(أما بعد فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبي فمن كان بحضرتنا

باشرناه بأنفسنا، ومهما غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة فمن يحسن نزده حسنًا،

ومن يسئ نعاقبه، ويغفر الله لنا ولكم) [11] .

فانظر كيف وطَّن نفسه على قبول تحكيم من يريدون منهم إذا كان لأحد عليه

حق، وكيف وطنها على قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وفق الله

أمراءنا وحكامنا للاهتداء بهديهم والسير على سنتهم؛ فإن الدين يعتز بالخلف كما

اعتز بالسلف، ونكون من المفلحين، وظاهر أن هذين الخليفتين العادلين ما سارا

هذه السيرة من أنفسهما؛ وإنما تعلماها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة

ذلك الأحاديث السابقة ومثلها كثير.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس.

(2)

رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر.

(3)

رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن علي.

(4)

الطبراني والحاكم عن عبادة بن الصامت.

(5)

رواه الإمام أحمد عن ثوبان.

(6)

رواه الترمذي وصححه والنسائي وابن حبان عن كعب بن عجرة ورواه غيرهم عنه وعن غيره.

(7)

رواه الطبراني عن أبي سلالة وله طرق أخرى.

(8)

ملخص من رواية البيهقي عن الحسن وابن إسحاق عن أنس بإسناد قال ابن كثير إنه صحيح، والدينوري عن عبد الله بن عكيم، وفي بعض ألفاظها اختلاف.

(9)

وقع في هذه الرواية لفظ (عبد) وهو لم يُعهد منهم، وإن كان مفسرًا بالخادم، فعله حُكي بالمعنى.

(10)

رواه أبو حسين بن بشران في فوائده، وأبو أحمد الدهقان في الثاني من حديثه، والحاكم واللالكائي.

(11)

رواه ابن سعد والبيهقي، ولعل كل راوٍ ذكر من الخطية شيئًا مما حفظه بمناسبة اقتضت ذلك.

ص: 732

الكاتب: محمد رشيد رضا

تتمة الدرس (31)

في شبهات على وظائف الرسل وأجوبتها

المسألة (76) شبهة على الوظيفة الثالثة:

يقولون: إن الأديان السماوية الثلاثة لم تتفق أيضًا في أمر الآخرة، فبعضها

يجعلها روحانية محضة، وبعضها يجعلها للناس إنسانية يتمتع فيها الناس بلذات

الروح والجسد جميعًا، وبعضها ينكر الزواج فيها ويخالفه الدين الآخر، فيقول إن

فيها أزواجًا مطهرة عما يُعهد من النساء في الدنيا، وبعضها يقول: إن الحساب على

الأعمال يكون في الدنيا، وبعضها يقول: إن ذلك يكون في الآخرة بعد الموت.

والجواب عن هذه الشبهة يُعلم من تقرير هذه الوظيفة، ومن الجواب عن

الشبهة الأولى، ومن مقدمة الدرس (30) وهو تحكيم القرآن المنقول بالتواتر

الصحيح كل كلمة من كلماته، وكل حرف من حروفه، وجعله هو الأصل وتأويل

ما يخالفه إذا أمكن، والحكم بعدم صحة روايته إذا لم يمكن، فإذا فرضنا صحة ما

نُقل عن السيد المسيح عليه السلام من قوله عن أهل الملكوت لا يزوجون ولا

يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله، فالمجال في تأويله واسع من حيث إن كلام

المسيح كان أمثالاً وألغازًا، وهذه الأناجيل التي تحكي شيئًا من تاريخه وكلامه تدلنا

على أنه كان يقول القول فلا يفهمه تلامذته، فإذا أخذوه على ظاهره يسمعون بعدُ ما

يخالف ذلك الظاهر، فيتبين لهم خطأ فهمهم، وفي العهد الجديد دلائل كثيرة على أن

الدعاة الأول الذين يسمونهم الرسل كانوا يُظْهِرُون للضعفاء خلاف ما عليه الأمر في

نفسه بحسب العلم، ومنه تصريح بولس في (8 كور) بأن العلم يقتضي عدم

ضرر أكل ما ذُبح للأوثان، وأن هذا الأكل لا يبعد عن الله وعدمه لا يقرب منه؛

ولكن الأكل يعثر الضعفاء، أي يوقعهم في عبادة الأوثان، وذكر في الباب (9)

الذي بعده أنه صار لليهود كيهودي ليربح اليهود ويجذبهم إلى اعتقاده، فالكتب التي

بنيت على هذا الأساس لا يصح أن يؤخذ كل شيء فيها على ظاهره، وإن فرضنا

أنه نُقل عن أصحابها بنصه، على أنه لم يُنقل إلا بالمعنى، وبعض الأناجيل لا تعرف

اللغة التي كُتبت بها يقينًا، وهل يصعب على أهل هذا الكتاب الذين أوَّلوا قول المسيح

أنه ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام بأنه يموت ويعود بعد ثلاث أن يؤولوا قوله (لا

يتزوجون؟)

لتأويل هذا النفي وجوه منها تعيين المراد بلفظ الملكوت، فقد ورد هذا اللفظ

في أمثال كثيرة للسيد المسيح عليه السلام، وأشهرها عند النصارى يوم مجيئه

ومحاسبة الناس يوم الدينونة، ويقولون إنه يكون في الدنيا قبل فناء عالمها كما تقدم

في الشبهة، وقد أخذوا هذا من ظواهر الأقوال، وإن لم تصح كلها، فقد روى متى

أنه قال بعدما ذكر آيات مجيئه (الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا

كله) وهو تصريح بأن الملكوت يأتي قبل انقضاء ذلك الجيل، ولم يبهم عليهم إلا

اليوم والساعة، وقال إنه لا يعلم بهما أحد إلا الله وحده، ثم ضرب لهم مثلاً لذلك

أيام نوح والطوفان، قال (لأنه كما كان الناس في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون

ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء

الطوفان وأخذ الجميع كذلك يكون مجيء ابن الإنسان) فالظاهر أن المسيح أراد أن

يخوِّف الرجل اليهودي الذي سأله عن المرأة التي تزوجت باثنين لأيهما تكون في

الملكوت، ويبين له أن ذلك يوم عظيم ينقطع فيه الزواج، وأنه يجب الاستعداد له

ولم يخبره بما يكون بعده من النعيم لئلا يتمادى في الغرور، ومن أكبر النعيم أن

يكون للإنسان زوج يسكن إليها، وذلك أولى من شرب الخمر الذي صرَّح بإثباته

في قوله بعد أن أخذ الكأس وشكر وأعطاهم وأمرهم بالشرب (وأقول لكم إني من

الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في

ملكوت أبي) والحاصل أن للملكوت مبدأ وهو يوم الحساب، وهو الذي لا أكل فيه

ولا شرب ولا زواج وله غاية، وهي كما في آخر (25متى) عن المسيح

(فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية) وفي ذلك اليوم يشرب

الخمر مع تلامذته، وكل ما يناسب الخمر من اللذات الجسدية فحكمه حكم الخمر،

وقد ورد في القرآن العزيز أحكام عن ذلك اليوم متناقضة في الظاهر متوافقة في

الحقيقة؛ لأن بعضها محمول على وقت الحساب كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ

أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: 92-93) وبعضها محمول على وقت

آخر كقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن: 39)

وللجمع بين الآيتين وجه آخر.

ومن وجوه تأويل نفي الزواج في الآخرة على تقدير صحة نقله أنه ليس كما

يكون في الدنيا؛ لأن الحياة الآخرة طور أعلى من هذه الحياة، فتشبيهها بها في

القرآن يشبه أن يكون تمثيلاً وتقريبًا لها من بعض العقول الضعيفة قال تعالى في

رزق الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} (البقرة: 25) وقال

عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة: 17) وفي

الحديث: (إن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)

وقال بعض علمائنا إن كل ما ورد في أمر الآخرة فهو من المتشابهات التي لا يعلم

تأويلها إلا الله تعالى.

م (77) شبهة على الوظيفة الرابعة:

ويقولون: إن وظيفة تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس مما يجب أن تتفق فيه

الأديان الإلهية، ولا نرى فيه بين المسيحية والإسلامية إلا الخلاف فكل من كتب

عن المسيح أثبت أنه كان يأمر بترك الدنيا والإعراض عنها بالمرة، مع أن القرآن

يُعِدُّ الاستخلاف والسيادة في الأرض أثرًا من آثار الإيمان والعمل الصالح، وأثبتوا

أيضًا أن المسيح كان يأمر بإذلال النفس وإهانتها، والقرآن يُعِدُّ عزة النفس من

صفات المؤمنين أو من خصائصهم، وأثبتوا أيضًا أن المسيح كان يقول إن الغني لا

يدخل ملكوت السموات، والإسلام يفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، كما

رجحه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم وغيره، ومثل هذا الخلاف كثير.

والجواب عن هذه الشبهة أن نقول إن مجموع تلك النقول الورادة في المعاني

التي ذُكر فيها الخلاف تُثْبِت في الجملة أن السيد المسيح عليه السلام كان يأمر

بالمغالبة في الزهد والتواضع، وربما جاء في بعض العبارات المنقولة عنه بالمعنى

ما لم يقله، فيخرج بذلك الكلام إلى الذي لا يرضاه، والحكمة في تلك المبالغة أن

اليهود الذين بعث فيهم والرومانيين السائدين عليهم كانوا قد غلوا في حب الدنيا،

والانغماس في شهواتها، والتهتك في لذاتها غلوًّا كثيرًا، وتناهوا في الكبرياء

والعنجهية وعتوا عتوًّا كبيرًا، والقاعدة الحكيمة أن من يدعو المتغالى في شيء إلى

الاعتدال فيه يبالغ في ضد ذلك الشيء، فكان بهذا ممهدًا لدين الإسلام الذي وضع

قواعد الاعتدال من أول الأمر؛ لأن العالم الإنساني في مجموعه كان قد استعد لذلك

في الجملة، ولا شك أن دين الله تعالى واحد ومقصد الأنبياء الدعاة إليه واحد، فإذا

أردنا أن نفرق بينهم ونقول هذا دين مستقل ليس مبنيًّا على سابقه ولا يتصل به

لاحقه، فهناك الجناية على الجميع، وإذا جعلنا المسيح مصدقًا لما بين يديه من

التوراة، ومبينًا لليهود بعض الذي يختلفون فيه بسبب التمسك بالظواهر والمحافظة

على الرسوم والتقاليد، وجعلنا محمدًا مصدقًا لموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام،

ومبينًا للناس كافة حقيقة دين الله تعالى في كل زمان بفضل زيادة وبيان استعد

لهما بالارتقاء نوع الإنسان، فتلك هي الخدمة الصحيحة للدين {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا

أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ

مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (البقرة: 285)

{يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً

وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) .

م (78) شبهة على الوظيفة الخامسة:

ويقولون: إن القوانين الوضعية هي أحسن وأصلح من الشرائع التي تنسب

إلى الديانات السماوية؛ فإن أحكام التوراة لا تصلح لأن تحكم بها الأمم المرتقية في

مراتب المدنية، والشريعة الإسلامية كذلك، ولولاه لم يتركها الملوك والأمراء

المسلمون، ويستبدلوا بها القوانين الأوربية في غير ما يتعلق بالدين والاعتقاد إلا

الأمراء الذين لا يزالون في طور البداوة أو الهمجية كبلاد مراكش فإنهم يحكمون

فيها بالشريعة الإسلامية، وهم بذلك أبعد عن العدالة وحفظ الحقوق من أهل مصر

الذين يحكمون بالقانون، وإن المسلمين في مصر يشكون من المحاكم الشرعية ما لا

يشكون من المحاكم الأهلية النظامية.

والجواب عن هذه الشبهة ظاهر لمن عرف دين الإسلام، وما اشتملت عليه

شريعته من العدالة والقسط، وما عليه أكثر القائمون عليها من الفساد والجهالة

والظلم والغواية، وأما الشريعة اليهودية فإنما كانت لشعب خاص إلى زمن محدود،

ثم نُسخت فلا يحتج بعدم صلاحيتها الآن.

الشريعة الإسلامية ترجع أحكامها كلها إلى حفظ خمسة أشياء يسمونها الكليات

الخمس، وهي حفظ الدين الذي يهذِّب الأخلاق ويزكي النفوس، وحفظ الدم،

وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، وهذه الأركان مبنية فيها على أساس

العدل والمساواة بين المحكومين بها، من غير تفرقة بين من يدين الله بها ومن يدينه

بسواها، قال تعالى في شأن اليهود: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ

يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقال عز وجل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ

عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي لا يحملنكم بغض

بعض الناس على عدم العدل، بل اعدلوا في العدو والصديق والقريب والبعيد،

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ

أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن

تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135)

وسيرة الخلفاء الراشدين شاهدة بأنهم أعدل من حكم في الدنيا، ولم يكن لهم علم إلا

ما جاءهم به الدين؛ لأنهم كانوا من قبله أميين.

ثم أحدث المسلمون لعلم الشريعة اصطلاحات وألفوا فيها المصنفات كما هو

الشأن في كل العلوم المدونة، واشترطوا في القضاة أن يكونوا مجتهدين ليستنبطوا

الأحكام الجزئية حافظة للعدل والمساواة في تلك الأمور الكلية؛ ولكن أكثر المسلمين

أبوا بعد ذلك إلا أن يقولوا: إن الاجتهاد قد أغلق بابه، وأسدل حجابه، وإن الأحكام

إنما تؤخذ من عبارات المؤلفين المتقدمين وألفاظهم فما وافقها فهو العدل، وما خالفها

فهو الظلم والجهل، ثم تلاعبت بالكثيرين منهم الأهواء، واستبداد السلاطين

والأمراء، وكان من ذلك ما كان، وهو ما نشاهد أثره الآن، وهذا الذي قلته لا

يخفى على بصير عرف التاريخ؛ فإن اللورد كرومر وكيل إنكلترا السياسي في

مصر، قال يوم مشكلة المحاكم الشرعية وعزم الحكومة المصرية على ندب بعض

القضاة الأهليين لإصلاح محكمة مصر الشرعية الكبرى ما معناه: إنني لا أصدق

أن فقد العدل من المحاكم الشرعية الذي أنطق ألسنة الناس بالشكوى هو من الشريعة

الإسلامية؛ فإن شريعة قامت بها دول واهتدت بها أمم، ووجد من أهلها العلماء

والفلاسفة لا تكون إلا عادلة؛ وإنما منشأ هذا الخلل التقاليد الإكليركية (أي تقاليد

رجال الدين) وحسبك بهذه الشهادة من هذا السياسي الكبير.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 737

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين

وحجج المسلمين

النبذة العاشرة - كتب العهدين أيضًا

بيَّنا في النبذة التاسعة التي نُشرت في الجزء (17) ما قاله الفاضل صاحب

كتاب الأبحاث في إثبات كتب العهدين من طريق العقل، وفنَّدنا قوله تفنيدًا، ونذكر

ههنا أنه بعد ما ذكر حاول الاحتجاج على استحالة تغيير التوراة والإنجيل، فكانت

حجته الداحضة على ذلك أن الديانتين اليهودية والمسيحية كانتا منتشرتين في الشرق

والغرب (وكان الكتاب لا سيما الإنجيل مترجمًا إلى كل لغات الأقوام التي دخل

بينهم كالعربية والأرمنية والحبشية والقبطية واللاتينية من اللغتين اليونانية

والعبرانية الأصليتين (قال) فكيف يُعقل أن هؤلاء الألوف يجتمعون ويتفقون

على تغييره مع اختلافهم في اللغة والعقيدة، سيما أن المسيحيين كانوا شيعًا كل

واحدة تناظر الأخرى، ولا شك أن قول المسلمين بتغيير الكتاب هو دعوى بدون

دليل، وإلا فليخبرونا أين الآيات المتغيرة، وما هي وما أصلها وما الغاية من

تغييرها، فإن عجزوا - ولا مراء أنهم عاجزون - قل لهم كيف جاز لكم هذا الادعاء

والعالم الحكيم لا يقدم على أمر إلا ولديه ما يثبت مدعاه) اهـ.

والجواب عن هذه المغالطة سهل على الناظر في كتب العهدين التي يسمون

مجموعها التوراة والإنجيل، وفي كتب تواريخ الكنيسة والتاريخ العام، وأما المسلم

الذي لم يطلع على ذلك فيكفيه أن يقول: إن كل ما خالف القرآن فهو ليس من التوراة

ولا من الإنجيل؛ لأن القرآن ثابت بالبرهان القطعي ومنقول بالتواتر حفظًا وكتابة،

وتلك الكتب ليست كذلك، ووحي الله لا يخالف بعضه بعضًا إلا ما كان من قبيل

الأحكام المنسوخة، فلا بد من ترجيح القرآن عند التعارض فيما دون ذلك؛ لأنه هو

الثابت القطعي كما اعترف بذلك كثيرون من علماء النصرانية، فقد جاء في كتاب

(السيوف البتارة، في مذهب خريستفورس جباره) لمحمد أفندي حبيب الذي كان

تنصر، ثم رجع إلى الإسلام بعد ما اختبر غيره: (إن المستر ستوبارت رئيس

مدرسة لامارتينيبار في لكنؤ بالهند الإنكليزية صرَّح في كتابه المسمى (الإسلام

ومؤسسه) صحيفة 87 بما يأتي بالحرف الواحد: (عندنا براهين قوية عديدة

للتصديق بأن القرآن الموجود الآن هو عين ألفاظ النبي محمد الأصلية كما لقَّنَ

وأملى بمراقبته وتعليمه) وبهذا قال موير المعدود في الوقت الحاضر أمهر وأحذق

وأكبر عدو للإسلام) إلى آخر ما استشهد به.

أما التغيير والتبديل والتحريف في كتب العهدين، فالمسلمون لا يقولون إن

هذه الكتب كلها سماوية منقولة عن الأنبياء نقلاً صحيحًا، وإن اليهود والنصارى

غيَّروها بعدما انتشروا في الشرق والغرب، ونقلها كل قوم دخلوا في اليهودية أو

النصرانية إلى لغتهم؛ وإنما البحث في أصلها وكاتبيها في أول الأمر، ومن تلقاها

عنهم قبل ذلك الانتشار العظيم، وهذا هو الأمر المُشْكِل، والداء المعضل، الذي لا

يجد أهل الكتاب له دواء ولا علاجًا، من كتب الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى

عليه السلام. يقولون: إن موسى كتبها وأودعها ما كلَّمه به الرب، فكانت تاريخًا له

ولشريعته الإلهية، كيف يصح هذا الجواب وهذه الكتب تتكلم عن موسى بضمير

الغيبة، وفي آخر فصل منها ذكر موته ودفنه؟ يزعم بعضهم أن هذا الفصل كتبه

يشوع، وأنى يصح هذا وفي الفصل الحكاية عن يشوع، وأنه امتلأ روحًا وحكمة،

فسمع له كل بني إسرائيل، فهذه حكاية عنه من غيره، ثم كيف يدلس يشوع ويلحق

بكتاب موسى ما ليس منه من غير أن ينسبه إلى نفسه، ولعلهم استدلوا على ذلك

بأن يشوع قد ابتدئ بواو العطف فإن أول عبارة فيه هي: (وكان بعد موت موسى

عبد الرب)

إلخ، وهناك دليل على أن الفصل الأخير ليس ليشوع أقوى من

الحكاية عنه ومن تبرئته من التدليس، وهو أن الفصل المذكور بعد حكاية دفن

موسى هذه الجملة (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم) فهي تدل على أن الجملة

كتبت بعد موسى بزمن طويل، ولو كانت ليشوع لم تكن كذلك، وحسبنا أنهم من

ذلك في شك مريب فكيف يوثق بهذا الكتاب ويقال إنه متواتر وعمَّن التواتر

والأصل مشكوك فيه.

في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ما نصه: (24 فعندما

كمَّل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي

تابوب عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد

الرب إلهكم ليكون هناك شاهدًا عليكم 27 لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.

هوذا وأنا بعدُ حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي 28

اجمعوا إليَّ كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد

عليهم السماء والأرض 29 لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن

الطريق الذي أوصيتكم به)

إلخ.

فهذه هي التوراة التي كتبها موسى على حدة في كتاب مخصوص هي كلام الله

الذي صدَّقه القرآن فأين هي، ماذا فعل بها أولئك الذين قال فيهم موسى إنهم

يفسدون بعده ويزيغون عن طريق الحق الذي هو التوراة، وماذا أصاب التوراة من

فسادهم وزيغهم وغلظ رقابهم؟ التوراة معناها الشريعة، وهذه الأسفار الخمسة

كتب تاريخية يوجد فيها من أحكام تلك الشريعة مثلما يوجد في كتب السيرة النبوية

عند المسلمين من آيات القرآن وأحكامه، وليست السيرة هي القرآن والشرع

الإسلامي، وكما يوجد في السيرة النبوية مع التحري في روايتها ما يصح وما لا

يصح فأجدر بتاريخ موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أن يوجد فيها ما يصح

وما لا يصح، وهي لم يتحر فيها كاتبها بعض تحري رواة المسلمين لسيرة نبيهم،

بل قدمنا أن كاتبي تلك التواريخ مجهولون.

اعترف صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة

المسيحية) استظهارًا بأن نسخة موسى (رُفعت من مكانها مرة ووقعت في خطر لما

غلبت عبادة الأصنام في ملك منسا وأمون وانقطعت عبادة الله الحقيقية بين

الإسرائيليين، وفي تلك المدة طرحت بين الرثث [1] حيث وجدت في ملك يوسيا

الصالح، ثم قال: (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى

الآن، ولا نعلم ماذا كان من أمرها، والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما خرَّب

بختنصر الهيكل، وربما ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن الكتب

المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ متفرقة من الكتب

المقدسة وأصلح غلطها؛ وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية)

فهل ينخدع المطَّلع على هذه الأقوال وأمثالها بقول صاحب كتاب (الأبحاث)

إن الكتاب كان محفوظًا بين الألوف بلغات كثيرة؟ هؤلاء علماء اللاهوت في

مذهبه يعترفون أن اليهود فُقدت منهم عبادة الله بعدما تغلبت عبادة الأصنام، وأن

نسخة التوراة الوحيدة فُقدت، ويعترفون أن اليهود يُقرُّون بأن جميع كتبهم فُقدت

لأنها كانت في الهيكل، وقد خربه الوثنيون وقد أخذوا الكتب، وأتلفوها، فلم يبق

لهم مستند لأصل دينهم إلا زعم يوسيفوس بأن كل سبط من أسباط بني إسرائيل كان

عنده نسخ من التوراة؛ ولكن أين هذه النسخ إن صح قوله - وهو رواية واحد بما

يؤيد دينه - فتلك هي النسخ التي أتلفها بختنصر، فيبقى معنا شيء واحد وهو

ادعاء أن عزرا الكاتب كتب جميع كتب اليهود كما كانت، بل صحح غلطها الأول

وكتبها أحسن مما كانت، وههنا يسأل المسلمون عن الدليل على ذلك، وعن سبب

وقوع الغلط في النسخ حتى احتاجت إلى إصلاح عزرا، وعن نسخة التوراة التي

هي شريعة مستقلة كما كتبها موسى، وعن السند المتصل المتواتر إلى عزرا بذلك؟

ثم إنهم يقولون: إذا جاز أن يُصحح عزرا الكاهن خطأ الكتب المقدسة فلم لا يجوز

ذلك لمحمد رسول الله وخاتم النبيين؟ اللهم إن الغرض مرض في القلب يحول بينه

وبين قبول الحق، فألهم اللهم هؤلاء الناس بأن يطلبوا الحق بصدق وإخلاص

وافصل بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاصلين.

هل جاء في كتبهم المقدسة أن عزرا كتب التوراة وسائر الكتب المقدسة كما

كانت؟ كلا إنه جاء في الفصل السابع من سفر عزرا أنه في ملك أرتحشستا ملك

فارس صعد عزرا (وذكر نسبه إلى هارون، وهو يدلي إليه بخمسة عشر أبًا) هذا

من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وأنه

جاء إلى أورشليم في الشهر الخامس من السنة السابعة لأرتحشستا الملك، قال

10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة

وقضاء 11 وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشستا إلى عزرا الكاهن

كاتب وصايا الرب وفرائضه على اسرئيل 12 من أرتحشستا ملك الملوك إلى عزرا

الكاهن كاتب شريعة إله السماء) إلى آخره.

هذا هو دليلهم من كتابهم المقدس على أن عزرا كتب التوراة والكتب المقدسة

بالإلهام بعد فقدها، وهو كما ترى لا يدل على ذلك، بل قصارى ما يعطيه أنه كان

من كتبة الدين أو الشرع كما نقول أن فلانًا الصحابي كاتب الوحي، فلو فرضنا أن

القرآن فُقد من المسلمين، وأنه لم يحفظ في الصدور، ثم ادَّعينا أن معاوية كتبه

بالإلهام؛ لأنه وُصف في بعض كتب التاريخ الدينية بأنه كاتب الوحي، فهل يقبل

منا أهل الكتاب هذا الدليل.

ثم إن الملك أرتحشستا الذي شهد لعزرا هذه الشهادة التي لا نعرف سببها أمره

مبهم في التاريخ لا ينطبق على روايات العهد العتيق المضطربة في سفر نحميا،

وسفر عزرا فلا يعرف أهو أرتحشستا الأول الذي هو أزدشير الملقب عند الفرس

بزرادشت أم هو أرتحشستا الثاني فإن ذكر عزرا له بعد داريوس يدل على أنه

الأول، والتاريخ ينقض هذا. ولا نطيل في بيان الاضطراب فليرجع إليه من شاء

في كتب التاريخ، وفي دائرة المعارف ملخص منه، وهذا الاضطراب يُبطل الثقة

بالرواية، والمسلمون لا يقبلون خبرًا عن نبيهم رووه بالإسناد المتصل القريب، إذا

كان فيه مثل هذا الاضطراب العجيب.

يتصل الكلام

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الرثث: جمع رثة بالكسر، وهي سقط المتاع والخلقان، كالخرق البالية وغيرها مما يلقى في أسوأ مكان ولا يلتفت إليه.

ص: 743

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

‌آثار علمية أدبية

(استنهاض همم)

قصيدة أنشدت في الاحتفال الثامن لجمعية ندوة العلماء الهندية المخصوصة

بعلماء الدين من نظم صديقنا الأستاذ الفاضل الأديب أحمد الجيتكير، قال بعد أبيات

في حمد الله والصلاة والسلام على نبيه:

وبعد يا معشر الإسلام مالكمو

لا تشعرون وإن الخطب قد عظما

عفَّى ديارَ علوم الدين قاطبة

نسج الدبور وأرياح جرت نقما [1]

يا للمدارس أضحت وهي دارسة

يا للمكاتب تبكي العلم والعلما

أما سمعتم بكاها وهي صارخة

صراخ ثكلى على مولودها اخْتُرِما

هذي المشاعر ضيم الدهر عطَّلها

ورُدَّ واردها غيظًا فما كظما

هذي الشعائر لم تبقِ الصروف لها

مقدار عشر العشير الوزن والقيما

وارحمتاه لأرض الدين ينقصها

ريب المنون ممدًا سيلها العرما

وارحمتاه لدين فلَّ عصبته

من كل حام حماه راسخ قدما

وارحمتاه لدين لات عدته

فمد بالنهب أيدي غصبها الخُصما [2]

وارحمتاه لدين قال نادبه

واللرجال وواسيفاه واقَلَما

يا للبقية صونوا الدين تنتصروا

يصونكم ويرد المجد والحشما

إني محذركم من وقع واقعة

يُمسي الوليد لديها هيبة هرما

ألا خذوا حذركم في كل آونة

فما اتقى النار إلا كيِّسٌ حزما

ووثقوا عروة الإسلام أوهنها

تفرق فيكم قد حل مخترما

هذي اختلافاتكم كم سخَّفت بكمو

وسفَّهت عرب الإسلام والعجما

أليس أكمل هذا الدين ربكمو

أما أتم عليكم فضله النعما

ياليت شعري ففيما ذا اختصامكو

وما الذي بعده ترضونه حكما

كم ذا التنازع ريح العز أذهبها

كم ذا التشاجر ويحًا أثمر الندما

كم ذي الفتاوى وكم تكفير إخوتكم

كم ذا التشاتم واذُلاه واندما

هذا الذي فتَّر الإسلام نهضته

هذا الذي قصَّر الإعزام والهمما

هذا الذي حيَّر الأحرار ترقية

هذا الذي غيَّر الأخلاق والشيما

الله الله كونوا أصدقاء كما

كانت معاشرة أسلافنا القدما

الله الله إن كنتم لهم خلفًا

فتابعوهم مع الإحسان لا جرما

وثقفوا أود الأحداث تربية

حتى تقوم بهم سوق الكمال نُما

ضيعتموهم إذ الأقوام غيركمو

حازوا الفنون وفاقوا في النهى حكما

إلام هيهات عنهم تغفلون وكم

لا ترقبون لهم إلا ولا ذمما

غدًا سيسأل كل عن رعيته

فما جوابكم يا معشر العلما

هذا بلاغ فيا قوم اسمعوه وعوا

ويرحم الله من أوعاه معتزما

ثم السلام على من لاذ متبعًا

هدي النبي بحبل الله معتصما

***

(القمر)

زهته الملاحة حتى سفر

وخلَّى الدلال لذات الخفر

وبات يسامر أهل الهوى

وقد طاب للعاشقين السمر

يحدثنا عن بني (عذرة)

ويروي لنا عن (جميل) خبر

و (ليلى) وعن حب مجنونها

وعمن وفى للهوى أو غدر

ويذكرنا فعلات الردى

بأهل البوادي وأهل الحضر

كحظ السعيد إذا ما ارتقى

وحط الشقي إذا ما انحدر

أرى كل شيء له آية

وآية هذي الليالي العبر

فياقمر الأفق ماذا الزما

ن جيل تجلى وجيل غبر

ويوم يمر ويوم يكر

فإنا نُساء وإنا نُسر

بربك هل هذه الباقيات

تقص من الغانيات الأثر

وهل في فؤاد الدجى لوعة

فإن غاب عنه سناك اعتكر

كغانية فارقت صبها

فأرخت عليها حداد الشعر

إذا ما سهرنا لما نابنا

فما للنجوم وما للسهر

أترثي لمن بات تحت الدجى

يقلب جنبيه حرُّ الضجر

على لوعة يصطلي نارها

وجمر الهوى في حشاه استعر

وقد بسط البدر فوق الربى

بساطًا فقام عليه الزهر

إلى أن طوته يمين الصبا

وقد بللته عيون السحر

وباح الصباح بأسراره

فحجبت الشمس وجه القمر

...

...

...

(مصطفى صادق الرافعي)

_________

(1)

عفت الريح المنزل: درسته ومحته، والتشديد للمبالغة.

(2)

لات زيدًا حقه يلوته والاته: نقصه إياه [لا يلتكم من أعمالكم شيئًا] ولاته عن وجهه: صرفه وحبسه عنه.

ص: 749

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نساء المسلمين [

1]

ملخص محاورات بين الكاتبة الفاضلة فاطمة علية هانم كريمة العلامة جودت

باشا أحد وزراء الدولة العلية رحمه الله تعالى، وبين بعض نساء الإفرنج

السائحات.

ابتدأت الكاتبة هذه المحاورات بمقدمة في الطور الجديد الذي دخل فيه العالم

من الاجتماع وسهولة المواصلات والعناية بالسياحة، وذكرت أن السائحين من

الإفرنج يعنون بمعرفة أحوال المسلمين، كما هو شأنهم في العناية بكل شيء، وأنها

علمت من محاورات نساء الإفرنج ومما كتبوه من قصص السياحات أنهم يُخطِئون

ويَهمون كثيرًا في اعتقادهم في نساء المسلمين وبيوتهم، وأن السبب في ذلك عدم

إمكان اجتماع السائحين بالنساء المسلمات، وكون السائحات قلما يجتمعن إلا بالنساء

التركيات اللواتي تربين تربية إفرنجية بمعرفة المربيات المعروفات بلقب

(أنستيتوتريس) قالت: (فهؤلاء التركيات قد تعلمن اللغة الفرنسوية لا لأجل اكتساب

المعارف والعلم؛ ولكن ليكن أوربيات خالصات، فبجهلهم بالدين ونبذهم العادات

الملية ظهريًّا كان الحديث معهن كالحديث مع أهل البيوت الإفرنجية في بك أوغلي -

قسم من الآستانة يسكنه الإفرنج - فلا يستفيد السائح منهن الحقيقة؛ فإنهن إذا سُئلن

عن أحوال المعيشة الإسلامية يسكتن عن بيان استقامة الدين وطهارته، ويُفضن في

الكلام بحدة وشدة على مسائل الحجاب، فيكن بجهلهن سببًا في طعن الأجانب في

الدين الذي استنرنا بمشكاته وتشرفنا بآياته) .

قالت: وإن من أهل البيوت الإسلامية من يظن أن في تعليم النساء العلوم

والمعارف إثمًا، فلا يخصون بالإنكار تعلم اللغة الفرنسوية؛ وإنما ينكرون ما زاد

على الضروري من اللغة التركية أيضًا، ولعمر الحق إن هؤلاء لا يعلمون ما بلغ

إليه الأزواج المطهرات والبنات الزاكيات، وكثير من العالمات الأديبات في الصدر

الأول للإسلام من رفيع الدرجات في العلم والفضل.

إن كشف وجوه النساء غير محرم شرعًا، وإنما الواجب عليهن ستر

شعورهن؛ ولكننا نرى بعضنا يعكس القضية، فيسترن الوجه ويكشفن عن الشعر،

فالحد الوسط مفقود عندنا فنحن بين أمواج الحيرة لا ندري أين تقذفنا، ولا شك أن

الخير في الاعتدال في جميع الأحوال وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

والواجب على السياح الراغبين في الوقوف على الحقائق أن يتعرفوها من

أهل البيوت العائشين على الأصول الإسلامية، المحافظين على دينهم وعاداتهم

الملية، العارفين مع ذلك اللغة الفرنسوية، لا من المترجمين الذين يجيبون عن كل

ما يُسألون عنه، وإن كانوا لا يعلمون.

ومعلوم أن الأوربيين لا يعترضون على شيء من أحكام ديننا الموافقة للعقل

والحكمة؛ وإنما يتخيلون ويظنون أن نساء المسلمين مظلومات مهضومات،

فيبالغون في المؤاخذة على ذلك، وقد اطلعت على أوهامهم في أثناء محاوراتي

لبعض السائحات الوجيهات، ورأيت نفسي مضطرة إلى بيان ما دار بيننا في ذلك

على الوجه الآتي:

المحاورة الأولى

في يوم من شهر رمضان الشريف أُخْبِرْنَا أن نبيلة أوربية تدعى مدام ف

وراهبة زاهدة ترغبان مشاهدة طعام الإفطار في منزلنا، وفي أصيله جاءتا، وبعد

أن طافتا في حديقة الدار الخارجية نصف ساعة استأذنتا في الدخول فذهبت

لاستقبالهما؛ لأن وظيفة الترجمة في الدار مفوضة إلى هذه العاجزة وصحبني

جاريتان لتحملا ردائيْ الزائرتين ومظلتيهما.

وعند دخولهما حييتهما باللغة الإفرنسية وصافحتهما، ومدت يدها مدام ف..

إلى الجارية التي كانت بجانبي لتصافحها، فلم يكن من الجارية إلا أن أخذت المظلة

من يدها، وهذه الجارية هي رئيسة الخدم عندنا، وأخذت الجارية الأخرى ردائيهما

وبرطلتيهما، ودخلنا بهما إلى غرفة الضيوف، ثم عرفتهما بربة البيت وأفراده

حسب العادة المتبعة وقدم إليهما الحلوى والقهوة على النسق التركي. وذكرت الكاتبة

هنا سنهما وعدم زيارتهما الآستانة من قبل.

ثم إن مدام ف.. طلبت أن ترى غرفة مفروشة على الطراز التركي،

فعجبت أنها لم تر فيها غير مقعد بسيط، ثم رغبت إليَّ أن أطوف بها على سائر

الغرف ففعلت مظهرة لها الارتياح لذلك، وفي أثناء ذلك التفتت إلى رئيسة الخدم

وكانت واقفة أمامها وقالت: إنني عند الدخول مددت يدي لهذه السيدة فلم تقبلها؛

وإنما أخذت المظلة من يدي وأراها الآن واقفة لا تجلس معنا فما سبب ذلك؟ قلت:

إنها جارية، قالت: وما شأن البنات اللواتي بالقرب منها؟ قلت: هن مثلها.

ف.. حسن جدًّا؛ ولكنني أيتها السيدة أرى في أذنيها قرطين ثمينين، وفي

إصبعها خاتمًا، وعلى صدرها ساعة جميلة وسلسلة حسنة، وكنت حسبتها سيدة،

وقد أدهشني امتيازها بالحلي على غيرها من الجواري، فهذه الفتاة الواقفة في

الجانب الآخر لا تتحلى إلا بقرط ليس بذي قيمة، وهذه الجارية الأخرى ليس لها إلا

ساعة عادية فما سبب هذا التفاوت.

أنا: إن الجارية التي حسبتِها سيدة هي رئيسة الخدم عندنا، أي أنها بمنزلة

مديرة لسائر الجواري تعلمهن القيام بشؤونهن وخدمة أنفسهن في اللباس والنظافة

والزينة حتى يحسنَّ ذلك بأنفسهن، وربة البيت تلقي تبعة كل تقصير منهن عليها،

وقد أهداها سيدها ما ترين من الحلي لكثرة خدمتها، وهي تعلمت من رئيسة كانت

قبلها، وهذه الجارية الفتاة جاءتنا وهي بنت أربع، ولها عندنا عشر سنين، ولما

تُكَلَّف بعمل، وستُكَلَّف بعد اليوم، وهذان القرطان قد اشترتهما مما اقتصدته من

مرتبها الشهري، وكذلك صاحبة الساعة، وهي أحدث عهدًا من هذه.

ف.. متعجبة مستأذنة في طلب التفصيل: أين رئيسة الخدم السابقة؟

أنا: قد انتهت وظيفتها، وقد زوجناها ولها ثلاثة أولاد وهي في بيت زوجها.

ثم سألت ف.. عن انتخاب رئيسة الخدم، وعن الرواتب للجواري والهدايا

للقديمات، وعن كيفية ابتياعهن، وسنبين في الجزء الآتي الجواب عن الأخير؛

لأنه كان تمهيدًا للبحث في الرق والإماء والتسري وغير ذلك من الفوائد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

نُشرت هذه المحاورات ومقدمتها في جريدة (ترجمان حقيقت) التركية منذ سنتين، وعُربت لجريدة الثمرات الغراء تعريبًا ضعيفًا، ونحن نأتي بملخصها بعبارة أصح من الأول.

ص: 752

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البدع والخرافات

اختلاف العوائد في التسحير

نشرنا في مناري رمضان من السنة الماضية الأحاديث الموضوعة في

رمضان وفي الصوم، وبعض البدع التي فشت بين الناس في هذا الشهر الشريف،

ومما عده صاحب المدخل - رحمه الله تعالى - من البدع تسحير المؤذنين، وذكر

أنه ينهى عنه، ثم عقد فصلاً مخصوصًا لاختلاف عادات البلاد في التسحير، قال

فيه ما ملخصه مع حفظ حروف الأصل:

(اعلم أن التسحير لا أصل له في الشرع الشريف؛ ولأجل ذلك اختلفت فيه

عوائد بعض الأقاليم، ألا ترى أن التسحير في البلاد المصرية بالجامع يقول

المؤذنون: تسحروا وكلوا واشربوا، وما أشبه ذلك مما هو معلوم من أقوالهم،

ويقرأون الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: 183)

إلخ ويكررون ذلك، ثم يسقون على زعمهم، ويقرأون من قوله تعالى: {إِنَّ

الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: 5) إلى قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ

القُرْآنَ تَنزِيلاً} (الإِنسان: 23) والقرآن العزيز ينبغي أن يُنزه عن موضع بدعة

أو على موضع بدعة) وذكر إنشاد القصائد ثم قال:

ويسحرون أيضًا بالطبلة يطوف بها أهل الأرباع وغيرهم على البيوت

ويضربون عليها، هذا الذي مضت عليه عادتهم وكل ذلك من البدع، وأما أهل

الإسكندرية وأهل اليمن وبعض أهل المغرب فيسحرون بدق الأبواب على أصحاب

البيوت وينادون عليهم قوموا كلوا، وهذا نوع من البدع نحو ما تقدم، وأما أهل

الشام؛ فإنهم يسحرون بدق الطار وضرب الشبابة والغناء والهنوك والرقص واللهو

واللعب وهذا شنيع جدًّا.. . وأما أهل المغرب فإنهم يفعلون قريبًا من فعل أهل

الشام، وهو أنه إذا كان وقت السحور يضربون بالأبواق سبعًا أو خمسًا فإذا قطعوا

حُرِّم الأكل إذ ذاك عندهم.

ثم أطال في التشنيع على المغاربة كما شنَّع على أهل الشام على أن ما ذكره

عنهم غير معروف اليوم ولا سمعنا به، وذكر من عادات المغاربة العجيبة أنهم

عندما يمرون بالنفير والأبواق على باب مسجد يسكتون احترامًا لبيت الله، ثم إنهم

يفعلون ذلك في منار المسجد في شهر التوبة والعبادة، ثم حذر من التمادي بالأنس

بالعادة، وردَّ على من قال إن التسحير بدعة حسنة ثم قال:

وإذا كان كذلك فينبغي أن يُنهى الناس عما اعتادوه من تعليق الفوانيس التي

جعلوها عَلَمًا على جواز الأكل والشرب وغيرهما ما دامت معلقة، وعلى تحريم

ذلك إذا أنزلوها، وذلك يُمنع فعله لوجوه. وذكر أربعة وجوه:

(1)

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض إيقاد النار ولا ضرب الناقوس

ولا النفخ بالقرن للإعلام بالصلاة، ورضي بالأذان فكان علامة للصلاة والصوم.

و (2) أن في ذلك تغريرًا لجواز أن تنطفئ بنفسها فيراها من يكون مضطرًّا

لنحو أكل أو شرب فيمتنع ويتضرر.

و (3) أنه قد ينساها أو ينام عنها الموكل بها حتى يطلع الفجر.

و (4) أنها قد تشتبك ولا يقدر الموكل بها على خلاصها.

ونحن نقول: إن المؤلف رحمه الله تعالى قد شدد جدًّا، حتى جعل بعض

العادات بدعًا دينية، والبدعة إنما تكون حرامًا إذا كانت في الدين، وأما التفنن في

العادات المباحة فليس بمحرم إلا إذا فعل باسم الدين أو ظنه الناس من الدين، ولا

شك أن صرف أموال الأوقاف لا يجوز في غير مشروع.

***

مستقبل الإسلام في رأي

المسلمين الجغرافيين

عثرنا بالمصادفة على مقالة في جريدة اللواء عنوانها (مستقبل الإسلام)

وهي لرجل جزائري منحته الجريدة لقب (العالم) وذكرت أن مقالته نشرت في

(مجلة المسائل السياسية والاستعمارية) ويظهر لمتصفح المقالة أن كاتبها تلقى

خواص الإسلام ومزاياه من المسلمين الجغرافيين، لا من الكتاب والسنة وسيرة

السلف الصالح؛ ولذلك لم يفده ذكاؤه في التمييز بين ما هو من الإسلام، وما هو

من جماهير المنتسبين إليه اليوم، فغلط كثيرًا، ونسب للإسلام ما هو بريء منه.

فمن ذلك أن الذين يعتنقون الإسلام يتولاهم (اضطراب داخلي عظيم فتقف

عندهم كل حركة، وتدخل أعضاؤهم في دور ملل شديد) ونحن نقول: معاذ الله أن

يكون هذه صحيحًا، فإن الذي يدخل في الإسلام يزول من قلبه كل اضطراب

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} (الرعد: 28) ويدخل في دور من النشاط كما نشط المسلمون في العصر الأول لكل

عمل مفيد.

ومنه زعمه أن مميزات المسلم: (قنوعه بالقليل وعدم طموح أنظاره نحو

الأمور العالية البعيدة، وتفضيله الحياة المتوسطة المصحوبة بالسكون والراحة على

الحياة الرفيعة المقرونة بالمشاغل والمتاعب) وزعمه أن زهادة المسيح لا توجد إلا

في المسلمين، وكل هذه الصفات مما رزئ به المسلمون الجغرافيون؛ ولكن الإسلام

إنما يمدح من القناعة ما يزكي النفس من الطمع فيما في أيدي الناس بالباطل ولم

يسلم منه المسلمون الجغرافيون؛ وإنما وُجدت عندهم قناعة الكسل التي هي ضد

الإسلام بدليل المباينة بين أهل الصدر الأول في جدهم وكدهم وعدم رضاهم بما

دون السيادة على جميع الأمم، وما عرفوا بالسكون عن طلب المعالي والسيادة، ولا

بحب الراحة التي غلبت علينا في هذه القرون النحسة التي ضاع فيها الإسلام

والمسلمون.

ومنه زعمه أن المسلم غير ميال للسياحة، وهو إنما يصدق على المسلم

الجغرافي أيضًا، أما الإسلام الحقيقي فقد وصف الله تعالى أهله بقوله: (السائحين

والسائحات) [*] وأمرهم بالسياحة في آيات كثيرة من كتابه ولم يأمرهم بالوضوء

للصلاة إلا في آية واحدة {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (النمل: 69)

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا

تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .

ولا أنكر أن هذا الكاتب أصاب في بعض ما كتبه لا سيما تنديده بما وقع فيه

المسلمون من الجهل وقبول الخرافات والأوهام وقوله إنهم لا ينقرضون، وإن

انقرض الرومان والفراعنة من قبلهم وعلل ذلك بأن الأمم التي لها دين سماوي لا

تنقرض واستدل على ذلك باليهود، وإن أدري أعالم مسلم كتب تلك المقالة أم هي

دسيسة أسندت إلى هذا اللقب لتروج بين المسلمين ويطمئنوا إلى تلك المزايا الضارة

والأخلاق القاضية بالضعف والخمول، وأنت ترى أن بحثها ليس في مستقبل

الإسلام؛ وإنما هو في وصف المسلمين إلا الكلمة الأخيرة في عدم الانقراض.

***

نبي الطب الجديد

كُتب أيضًا إلى تلك الجريدة من مديرية القليوبية: أن في مركز نوى رجلاً

يدَّعي أنه أوحى إليه جبريل عليه السلام في المنام فلقنه الطب وعلَّمه مداواة العلل

والأسقام مهما اختلفت أنواعها، واشترط عليه أن يأخذ عن كل مريض يطببه

خمسين قرشًا فقيرًا كان أو غنيًّا، ذكرًا أو أنثى، وليدًا أو كهلاً، ويدَّعي أن الوحي

أباح له الخلوة مع الرجال خمس دقائق فقط، ومع النساء أربعين! ! ! ويعلل ذلك

بأن سائر النساء مريضات بالبواسير ولا يمكن استئصال هذا الداء منهن في أقل من

تلك المدة، وهناك حالات استثنائية يخلو فيها مع المرأة دون الرجل أكثر من

أربعين دقيقة، وذلك إذا كان بها ريح يمنعها من الحمل على زعمه، ومن الناس

من اغتر بهذه الدعاوى الباطلة فصدَّقوها.

(المنار)

إن الاعتقاد بوقوع خوارق العادات على الوجه الذي يتلقفه الناس بعضهم من

بعض واعتقاد أن كل من يأتي بأمر غريب لا يعهدونه فهو مؤيد من الله - هما

الاعتقادان اللذان أعدا الناس لقبول الدجل والانخداع للحيل، وإن ذهب بذلك

دينهم ومالهم وانتهكت أعراضهم، وقد ذكرت الجريدة من إقبال النساء والرجال على

هذا المتنبي المحتال، ولكن له أمثالاً من مدعي الولاية لا ينفر عنهم أحد.

_________

(*) لا توجد آية في القرآن بهذا اللفظ (ص 759 سطر 13) ولكن وردت آيتان: في واحدة منهما لفظ (السائحون) وهي [التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ](التوبة: 112) وفي الأخرى لفظ (سائحات)[عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً](التحريم: 5) ولم ترد اللفظتان معًا في آية واحدة.

ص: 756

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السياسة والساسة

من نحن ومن غيرنا

الرسالة الثانية

سيقول الذين يرونني مغرمًا بالحقائق بعد أن يسمعوا كلامي في الرسالة

الأولى: أَوَأنت أيضًا راضٍ عن السياسة وأهلها، وضارب فيها بسهم، ومشترك بها

مع حزب؟ وهل تقدر أن تحب الحقائق وتتحزب؟ على سؤالهم بنيت هذه الرسالة

الثانية:

لا تبحث عن ماضي الإنسان الذي أوصله إلى هذا الحاضر، بل اكتف بمعرفة

حالته الحاضرة.

لا يفتح الإنسان عينيه على شيء في هذا الوجود قبل الثدي الذي يدر عليه

اللبن، ولا يعشق شيئًا من هذا الكون قبل المحسنة عليه بهذا الدر، لا تسل ما هو

إدراك الإنسان وكيف عشقه للأشياء، فذلك مما لم يدرك بعد، ولكن صور في

ذهنك وليدًا وطاؤه حجر الأم، وغطاؤه ذراعاها، وغذاؤه يفيض به ثدياها، أول ما

يناغي هُتافٌ باسمها ودعاء لرحمتها، مَن يكون معبوده غير معبودها وقد علَّمته

اسمه أول ما تكلم، وإسناد كل شيء إليه أول ما ميز، ومحبة حزبه وكراهية

مناظريه وأعاديه أول ما ودعه حضانها، واستقبله تدريبها، وكيف لا يقبل ذهنه

غراسها ومعها والده وجده، وعمه وخاله، وعمته وخالته، والخوادم وأهل الحي

أجمعون.

أترى هذا الولد إذا كبر وترعرع، وعظم إدراكه واتسع، ينظر ما لم ينظره

والداه في المعتقدات؟ قل هيهات هيهات!

حدَّث التاريخ عن نفر من هذا القبيل؛ ولكنهم قليل، وهب أنه رأى ما رأى

فهل تخال أنه يستطيع أن يظهر وأن يقول ويجهر؟ قل هيهات ثم هيهات، حصل

شيء من هذا فيما غبر؛ ولكنه أقل وأندر، ثم هب أنه ظهر، وقال وجهر، فمن

تظن أنه يستمع له؟ والكل جازمون أي جزم، أن ما ذهب إليه الآباء هو الحزم،

ومخالفته نقص في المروءة والعزم، نعم كان شيء من هذا في القرون ولكنه إن أثمر

على قلة فبعد موت الغارس، ومن ذا الذي يسمح أن يُعذب ويهان على غراسه في

حياته، وينتظر أن يمدحه الدائسون عليه بعد مماته؟

إذا فهم هذا من فهم فلا جناح علينا أن نقول: إن الإنسان إذا كان عاقلاً عارفًا

فلم يعذر نفسه في هذه المداخل لا ينصف إذا هو لم يعذر غيره ممن لا عقل لهم

كعقله، ولا همة لهم كهمته، بل الطامع أن يكون الناس كعقل رجل واحد ومسلكه لا

يصح أن نسميه عاقلاً عارفًا بعد أن قرأنا في سنن الوجود ناموس الاختلاف والتضاد

الذي عرفناه راسيًا ثابتًا، وإن لم نعرف حكمته حتى اليوم.

والعاقل لا يملك نفسه أن يتعجب كثيرًا من الأغلاط وشيوعها؛ ولكن تعجبه

هو محل التعجب؛ لأننا لم نر مبصرًا يتعجب من أعمى، ولا حيًّا من ميت، ولا

صحيحًا من مريض، وما هذا التعجب إلا أثر من نسيان هذا الناموس وتفرعاته.

ثم هو إن تعجب أو لم يتعجب عائش في مجتمع فلا بد من أن يجد سبيلاً معهم

من السكوت أو الموافقة أو المخالفة بالمعروف إذا رأى من زمانه دولة للبرهان،

فهو في أي سبيل محتاج للسياسة.

افرض أمامك شخصين ينسب أحدهما إلى الفرس والآخر إلى الروس،

أفرأيت إن قلت للفارسي هل تكره الروس الذين هم بشر مثلك ومثل قومك، فقال

لك لا، فقلت له لم تتحزب مع الفرس على الروس وهم أمثال بعضهم عندك، فقال

لا أستطيع التوفيق بين مصلحتيهما المختلفتين، ولا بد لي من التحزب مع أحد

الفريقين، ولا يرتاب أحد أن الأولى بي تحزبي مع الذين منهم أمي وأبي، وفيهم

داري وعقاري، وحليلتي وصغاري، وأعرف لغتهم ويعرفون لغتي، وقضيت

بينهم شطرًا كبيرًا من عمري أتقول له: هذا ينافي الحكمة والفلسفة، ويباين حب

السلام والفضيلة، ويغاير العدل والحقيقة؟ وأرأيت إن قلت له يمكنك أن تكون

بينهم ولا تتحزب معهم فحجك بأن الاجتماع يقتضي الاشتراك، أتقول له: هذه

القضية غير مسلَّمة، وإن أقام لك عليها البراهين وأورد الأمثال؟

ثم أرأيت إن قلت للروسي هل تكره الفرس؟ فقال نعم، فقلت له: لماذا؟

فقال: لأنهم ليسوا على ديني، فقلت له: فما دينهم إذن؟ فقال: لا أعلم ولكن هكذا

سمعت أبي وجدي - أفتحاجه أنت وتجادله بعدما برهن منطقه على أن الأنعام أعقل

منه؟ وهل الفارسي أعقل منه إذا أجاب كما أجاب هذا وكان مذهبه التقليدي فيه

مذهب المقلد المسكين فيه؟

بنو هذا النوع شأنهم في الاختلاف عجيب، وأعجب شيء أن أكثرهم لا

يعلمون حقيقة المذهب الذي ينتسبون إليه، فضلاً عن مذهب المخالف، فهم إنما

يقاتلون عن أسماء المذاهب لا عن حقيقتها وكنهها.. . وقد ضربت هذا المثل ليعلم

كل واحد أن العقلاء الحكماء معذورون في التحزب فضلاً عن الحمقى والغافلين؛

لأن الشاذ في قومه الذي لا يرجو أن ينال نصيبًا ماديًّا أو أدبيًّا من فوزهم إذا فازوا

لا يأمن أن يكون له نصيب من بأسائهم إذا خابوا وقهروا؛ لأن الخصم لا يُميز،

بل أنصباء الفوز يخص بها فريق دون آخرين، وأما أنصباء البأساء فإنها تتوزع

على الكل، وقد قيل من قديم:(الرحمة تخصص والبلاء يعم) هذا إذا ترك

الشاذ وشأنه من قبل الجمهور وهيهات، على أنه ليس مجهولاً أن أولي العزم من

الحكماء يحاربون الأغراض السافلة مهما حالت، ويحازبون المقاصد السامية حيث

وجدت، وتراهم يصبرون حتى يفوزوا وتحيى بهم السعادات العامة التي ما زالت

تستفاد من إرشادهم أو يقضوا كرامًا مخلدين ذكرًا في العالمين جميلاً مأسوفًا عليهم

كثيرًا.

قلت: إن أكثر بني هذا النوع الذين هم العوام، وهم كل البشر إلا قليلاً لا

يعلمون حقيقة المذهب الذي هم عليه، وبرهان هذا الكلام من أوضح الواضحات

لمن استقرأ؛ لأنه صادر عن الحس والمشاهدة ونضرب نحن الأمثال بالمسلمين

الآن:

هؤلاء المسلمين فرق شتى يكفر بعضهم بعضًا، وكلهم يقولون آمنا بأن النبي

الذي اسمه محمد عليه السلام جاء من عند الله بكتاب اسمه القرآن، ثم أكثرهم لا

يعلمون ما هو ذلك الكتاب الذي جاء به؛ لأنهم إما أعاجم لا يعلمون ذلك الكتاب

العربي وإن تعلموا قراءة حروفه، وإما أعراب أميون لا يقرأون الكتاب إلا قليلاً،

وإذا نظرت إلى الفرق واحدة واحدة تجد الأمر كذلك.. . هؤلاء العوام قاطبة تسأل

أحدهم ما مذهبك فيقول لك حنفي أو شافعي أو مالكي أو حنبلي أو.. أو.. فإذا

سألت الحنفي مثلا ما هو مذهب الحنفية تجده يقول لك لا أعرف؛ وإنما قد كان أبي

حنفيًّا فصرت مثله، فهو إذن لا يعرف إلا اسم المذهب، وربما لا يعرف اسم

الرجل الذي انتسب هذا المذهب لاسم بنته (حنيفة) ولقد بلغ الجهل ببعض العوام

أن سألني: أي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم أهو حنفي أم مالكي أم.. أم..

وما أظن أن أمثال هذا السائل الجاهل قليلون ولا أتعجب من ذلك، وقلت يومًا

لبدوي من (عَنَزَة) ما مذهبكم؟ فقال لي: لو سألت غيري لقال لك: نحن موالك

(يعني مالكية) ولكن الصحيح الذي عليه المعول لا مذهب لنا ولا كتب عندنا؛ وإنما

قد سمعنا أن المالكية لا يعتبرون الكلب نجسًا فأحببنا هذا القول؛ لأن الكلاب تطوف

على أوانينا كثيرًا! .

ماتت الفرق الإسلامية التي أساس مذاهبها العلم فقط كفرق المعتزلة والجبرية

المحضة مثلاً، ولم يبق منها إلا أحاديث مذاهبها في كتب العقائد يحارب أسماءها

قراءُ هذه الكتب، أما الفرق التي أساسها أغراض سياسية فهي حية باقية والموجود

منها اليوم هذه:

(1)

أهل السنة، ومذاهب هؤلاء وطرائقهم واختلافاتهم وعددهم أكثر من

باقي الفرق؛ لأنهم أخذوا من الكل وحشوه في كتبهم فكل مشتهٍ يجد فيها شهوته،

وسموا أنفسهم على اختلافهم أهل السنة.

(2)

شيعة العجم والعراق.

(3)

شيعة اليمن والحجاز.

(4)

دروز وهم فرقة قليلة العدد بالنسبة لباقي الفرق.

(5)

نصيرية وهم أكثر من الدروز.

(6)

إسماعيلية وهم أقل منهما، وهذه الفرق الثلاث متقاربة كلها باطنية،

وربما اعترض المسلمون بعَدِّ هؤلاء معهم، أما نحن فنراعي الظاهر هنا.

(7)

إباضية.

(8)

وهابية.

سلني هل تعرف كل فرقة من هؤلاء حقيقة مذهب الثانية؟ كلا بل تلعن كل

واحدة الأخرى من غير معرفة، وأغرب ما في الباب جهل الذين انتحلوا لأنفسهم

اسم السنة بحقيقة الوهابية الذين هم دعاة الكتاب والسنة، كما يعرفه كل مختبر

أحوالهم ومستمع أقوالهم.

لا تنكر علينا التطويل بهذا فمنه استبانت لك حقائق مهمة تفيدك في هذا

الموضع ومواضع أخر، ومنه تعرف عذرنا إذا بحثنا عن أحوال الأمم، وأحوال

هذه الأمة وأحوال نفوسنا، سمِّ هذا البحث بالسياسة أو باسم آخر، فقد عرفت أننا

رواد معانٍ لا رواد ألفاظ.

وهل علينا بعد هذا من حرج إذا قلنا نحن كذا وغيرنا كذا بعد الإيمان بأن

الغيرية طبيعية وأن لها أحكامًا.

سيبقى في نفوس القراء شوق لمعرفة من نحن فنوصيهم أن لا يتعرفوا أنانيتنا-

أي حقيتنا - من أسماء أشخاصنا، ولا من الأسماء التي ننتمي إليها، فالذي

تسميه أمه سلطانًا مثلاً لا يجب أن يصير سلطانًا بالفعل، بل عليهم أن يتعرفونا بما

نقول، وأن يسألوا عنا ما لديهم من العقول، فمن عرف الحق بالرجال شط، ومن

عرف الرجال بالحق بلغ المحط.

على أنه لا بأس أن نبين في فهرست إجمالي من نحن ومن غيرنا ليكون

كمؤنس لمن سأل عن سياستنا قبل سماع قضاياها:

(1)

نحن بشر نرى أن الميزان في درجات البشر العلم والعمل، فمن

كانت في كفتهم العلوم النافعة والأعمال الرافعة كانوا أعلى وبسياسة الأنام أولى،

ومن كانت في كفتهم الجاهليات والأعمال الرديئة كانوا محتاجين للتعليم لئلا يطغوا

في الأرض.

(2)

نحن أولو مصالح معاشية يهمنا أن تحميها سلطنة عادلة قوانينها،

موافقٌ رئيسها.

(3)

نحن أهل مدن نرى حاجتها للمعارف وإصلاح الأخلاق والعوائد.

(4)

نحن جماعة متعاونون داعون إلى الإصلاح، وبه متذاكرون، والسلام

على النظام العام.

...

ع. ز

_________

ص: 761

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]

(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم

ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)

(8)

وقال صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويُحبونكم،

وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم،

وتلعنونهم ويلعنونكم) [1] وفي رواية الترمذي عن عمر رضي الله عنه (وتدعون

لهم ويدعون لكم) وهي بمعنى تصلون عليهم ويصلون عليكم هنا، ولو علم أمراء

المسلمين اليوم مكانتهم في قلوب الأمة، لا سيما الخاصة منها، وماذا يقولون فيهم،

لعرفوا من أي الفريقين هم، على أن منهم من يعتقدون أن الأمة عدوة لهم؛ ولذلك

اتخذوا عليها الجواسيس والعيون.

(9)

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا

يجتهد لهم ولا ينصح إلا لم يدخل معهم الجنة) [2] .

(10)

وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فلم

يَحُطهم بنصيحته كما يحوط أهل بيته فليتبوأ مقعده من النار) [3] .

(11)

وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما والٍ ولي شيئًا من أمر أمتي فلم

ينصح لهم ويجتهد لهم كنصيحته وجهده لنفسه، كبَّه الله تعالى على وجهه يوم القيامة

في النار) [4] فمن لنا بمن يوصل مثل هذا الحديث إلى الأمراء الذين يهملون أمور

الرعية، ويصرفون همتهم كلها إلى تنمية أرزاقهم وتكثير غلاتهم لعيالهم والادخار -

ليعتبروا به إن كانوا مؤمنين.

(12)

وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما راعٍ استرعي رعية فلم يَحُطْها

بالأمانة والنصيحة ضاقت عليه رحمة الله التي وسعت كل شيء) [5] .

(13)

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به

مغلولاً يوم القيامة حتى يفكَّه العدل أو يوبقه الجور) [6] .

(14)

وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة

أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غش الله وغش رسوله وغش

جماعة المسلمين) [7] وهذا الحديث بمعنى الحديث الأول في النبذة الماضية الذي

هو في صحيح مسلم، والمراد بالأفضل هنا من يزيد على غيره في العلم بالعمل

الذي استُعمل لأجله، فإن كان العمل حربيًّا يجب أن يولَّى الأعلم بفنون الحرب،

وكذلك إن كان علميًّا أو إداريًّا، ويعتبر مع العلم الهمة والأخلاق التي من أثرها العمل

بالعلم. ومن أكبر أسباب ضعف المسلمين أن أمراءهم صاروا يولون العمال بالهوى

لما أعطوه من السلطة المطلقة التي تخالف ما جاء به الإسلام، قال عمر رضي الله

عنه: (من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك، فقد خان الله ورسوله

والمؤمنين) .

(15)

وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع

وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة

راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده وهو

مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته وكلكم راع

وكلكم مسئول عن رعيته) [8] ولا يخفى أن الإمام هو الأمير الحاكم، والمسئولية في

الدنيا بمعنى المطالبة شرعًا بإقامة العدل والأمانة في العمل، فمن خالف يُعاقب ولو

بالعزل، وفي الآخرة يسأله الله ويجزيه الجزاء الأوفى.

(16)

وقال صلى الله عليه وسلم: (إنه سيفتح لكم مشارق الأرض

ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدَّى الأمانة) [9] .

احتجاب الأمراء والحكام

(17)

وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فأغلق

بابه دون المسلمين أو المظلوم أو ذوي الحاجة أغلق الله دونه أبواب رحمته عن

حاجته وفقره أفقر ما يكون إليه) [10] .

(18)

وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين

فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه يوم القيامة دون حاجته وخلته

وفقره) [11] .

(19)

وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فأغلق

بابه دون ذوي الفقر أو الحاجة أغلق الله عن فقره وحاجته باب السماء) [12] .

(20)

وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا

فاحتجب عن ضَعَفَة المسلمين وأولي الحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة) [13] .

(21)

وقال صلى الله عليه وسلم: (من احتجب عن الناس لم يحتجب عن

النار) [14] .

ومما فتن به أمراء المسلمين عندما استبدوا بالسلطة المطلقة بدعة الاحتجاب

دون الرعية، لا سيما الفقراء وذوي الحاجة فطغوا واستكبروا وعتوا عتوًّا كبيرًا

حتى سلط الله عليهم الأمم الأجنبية، فصارت تنتزع ملكهم من أيديهم، وأغلق الله

دونهم أبواب رحمته في الدنيا فلم يجدوا حيلة لإعادة سلطتهم المطلقة {وَلَعَذَابُ

الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} (فصلت: 16) .

وسنبين بعدُ الأحاديث الواردة في هلاك الأمة بظلم أئمتها وأمرائها.

آثار السلف عبرة للخلف

روى ابن المبارك وابن راهويه ومُسدَّد عن عتاب بن رفاعة بن رافع قال:

بلغ عمر بن الخطاب أن سعدًا اتخذ قصرًا وجعل عليه بابًا وقال: (انقطع الصُّويت)

فأرسل عمرُ محمدَ بن مسلمة وكان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد بعثه،

فقال: ائت سعدًا واحرق عليه بابه، فقدم الكوفة فلما أتى الباب أخرج زنده فاستورى

نارًا، ثم أحرق الباب، فأتي سعدٌ فأُخبر ثم وُصف له صفته فعرفه فخرج إليه سعد،

فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: (انقطع الصويت) فحلف

سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد: نفعل الذي أمرنا ونؤدي عنك ما تقول، وأقبل -

أي سعد - يعرض عليه أن يزوده فأبى، ثم ركب راحتله حتى قدم المدينة فلما أبصره

عمر قال: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أديت، وذكر - أي محمد - أنه أسرع

السير وقال: قد فعلت وهو - أي سعد - يعتذر ويحلف بالله ما قال، فقال عمر: هل

أمر لك بشيء؟ قال: ما كرهت من ذلك؟ إن أرض العراق أرض رقيقة، وأهل

المدينة يموتون حولي من الجوع فخشيت أن آمر لك بشيء فيكون لك البارد ولي

الحار، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يشبع المؤمن دون

جاره) اهـ. ولعل في آخر الكلام حذفًا أوتحريفًا.

وروى ابن سعد عن موسى بن أبي جبير عن شيوخ من أهل المدينة قالوا:

كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: أما بعد فإني فرضت لمن قِبَلي في

الديوان [15] ولذريتهم ولمن ورد علينا بالمدينة من أهل المدينة وغيرهم ممن توجه

إليك وإلى البلدان، فانظر من فرضت له فنزل بك فاردد عليه العطاء وعلى ذريته

ومن نزل بك ممن لم أفرض له فافرض له على نحو مما رأيتني فرضت لأشباهه

وخذ لنفسك مائتي دينار - أي في السنة - فهذه فرائض أهل بدر من المهاجرين

والأنصار، ولم أبلغ بهذا أحدًا من نظرائك غيرك؛ لأنك من عمال المسلمين

فألحقتك بأرفع ذلك، وقد علمت أن مؤنًا تلزمك، فوَفِّر الخراج وخذه من حقه، ثم

عف عنه بعد جمعه، فإذا حصل إليك وجمعته أخرجت عطاء المسلمين وما يُحتاج

إليه مما لا بد منه، ثم انظر فيما فضل بعد ذلك فاحمله لي، واعلم أن ما قبلك من

أرض مصر ليس فيها خمس؛ وإنما هي أرض صلح وما فيها للمسلمين فيء تبدأ

بمن أغنى عنهم في ثغورهم، وأجزأ عنهم في أعمالهم ثم نقص (كذا في نسخة كنز

العمال ولعلها تفيض) ما فضل بعد ذلك على من سمى الله.

واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه

{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) يريد أن يُقتدى به، وأن معك أهل

ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط فقال

(استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا) ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال

صلى الله عليه وسلم: (من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة)

احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لك خصمًا فإنه من

خاصمه خصمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة وآنست من نفسي ضعفًا،

وانتشرت رعيتي، ورق عظمي، فأسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرِّط، والله

إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك ضياعًا أن أسأل عنه يوم القيامة) .

فانظروا أيها المسلمون وتأملوا سيرة سلفكم الذين ملكتم بهم الأرض، وكيف

أكل خلفهم الأموال وظلموا أهل الذمة والمعاهدين حتى دالت لهم الدولة مصداقًا لقوله

صلى الله عليه وسلم (إذا ظُلم أهل الذمة أُديل للعدو) أي عادت لهم الدولة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما في الجزء التاسع عشر.

(1)

رواه مسلم عن عوف بن مالك.

(2)

رواه مسلم عن معقل بن يسار.

(3)

رواه أحمد عن معقل بن يسار.

(4)

رواه الطبراني عن معقل بن يسار أيضًا.

(5)

رواه الخطيب في التاريخ عن عبد الرحمن بن سمرة.

(6)

رواه البيهقي عن أبي هريرة بهذا اللفظ، ورواه بألفاظ أخرى فيها بعض الاختلاف في اللفظ دون المعنى كثيرون، منهم سعيد بن أبي منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد، والطبراني عن سعبد بن عبادة، وابن عساكر عن أبي الدرداء.

(7)

رواه أبو يعلى في مسنده عن حذيفة ورواه غيره.

(8)

رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.

(9)

رواه أحمد عن رجل من محارب، ورواه أبو نعيم عن الحسن مرسلاً.

(10)

رواه أحمد وابن عساكر عن أبي الشماخ الأزدي عن ابن عم له من الصحابة.

(11)

رواه أبو داود وابن سعد البغوي عن أبي مريم الأزدي وكذلك الطبراني وابن قانع والحاكم والبيهقي.

(12)

رواه أبو سعيد النقاش في القضاء عن أبي مريم.

(13)

رواه أحمد والطبراني عن معاذ.

(14)

رواه ابن منده عن رباح.

(15)

الديوان: الكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية والصلة.

ص: 773

الكاتب: عبد العزيز محمد

الصحة في تغيير الهواء

وتربية الخيال والذاكرة بمحاسن الغبراء [*]

(35)

من هيلانة إلى أراسم في 20 يونية سنة 185

كان (أميل) عليلاً وكنت مشفقة عليه في بداية مرضه من الحمى الحصبية؛

ولكنه لم يصب بالحصبة، والسبب في عدم إخبارك بذلك هو أن الدكتور كان قد

تعهد بأن يكاشفك بسير المرض، ثم إنه لما لم يجد فيه أدنى خطر عليه رأى من

العبث أن يوقظ ما نام من همومك، ويحرك ما سكن من دواعي قلقك، ولقد عجلت

إليه العافية، فلم يمض عليه خمسة عشر يومًا حتى رُد له لباس الصحة وثابت إليه

أوابد القوى، وأما أنا فكان شأني غير ذلك؛ لأن ما قاسيته من التعب في ليالي

سقمه التي لازمت فيها السهاد وما كان يساورني فيها من الحزن والإشفاق - قد

تزعزعت له صحتي، ووهت به عافيتي، وللطب الإنكليزي في مثل حالتي هذه

دواء لابد أن يكون هو سيد الأدوية على ما أرى، وسندي في هذا الرأي ما أراه من

ثقة الأطباء به في وصفه لمرضاهم، ومن إذعان هؤلاء له طيبة به نفوسهم وهذا

الدواء هو تغيير الهواء.

نعم إن الهواء الذي نستنشقه في مرازيون جيد غير أن أخص ما يعول عليه

أطباء الإنكليز في إيصائهم المرضى بتغيير الهواء لتجديد قواهم، إنما هو الانتقال

من مكان إلى آخر، والنظر في مجالي الكون ومشاهده وتغيير ما التزموه من

عاداتهم، وإني والحق أقول قد أعجبت بهذا الرأي بعض الإعجاب لأني أعلم أن

ضواحينا التي يتوارد عليها السياح كثيرًا غاصة بضروب المحاسن الحقيقية، ولهذا

السبب لم أعارض في هذا الرأي، بل أذعنت له إذعان المريض المطيع الذي يجل

أحكام العلم ويكبرها.

لم تكلفنا معدات السفر كبير عمل ولا مزيد عناية؛ فإن السيدة وارنجتون

بفضل خبرتها بطرق البلاد وجهاتها قد تكفلت بأن تُشْرِعَ لنا طريق السير، وسقط

قوبيدون على مركبة عتيقة من المركبات المكشوف مقدمها مرت عليها أيام كانت

فيها أسعد حالاً بأصحابها، وعلى فرس مُذْك (كبير السن) لا يزال فيه على كآبة

منظره من القوة ما يقدره على احتمال مشاق الصعود والهبوط في أنجاد هذه الجهة

وأغوارها الكثيرة، فاستأجرناهما بأجرة قليلة، وفي صبيحة يوم ظعننا استوى

الزنجي البار على كرسي المركبة استواء السائق المختال المعجب بنفسه.

كان وجه (أميل) وقد زال شحوبه وعاد إليه لونه يتلألأ فرحًا، ويزهر بشرًا

وطلاقة؛ لأنه لا شيء يلذ للأطفال كتوقع الحوادث؛ ولكنا لم نصادف في طريقنا

شيئًا منها نقص عليك حكايته فلم نلاق سلَبَة ولا حوشًا ولا أسارى مقيدين في

مغارات الصخور، مع أننا قد جبنا أرضين مقفرة تحدها سواحل قحلة مهجورة

معرضة لجميع ما يطرأ من ضروب هياج البحر وطغيانه.

لم يكن خروجي إلى التنزه لمحض التداوي بتغيير الهواء، بل كنت أرمي إلى

غرض آخر أيضًا، وهو أن ينفعل (أميل) بما يشاهده من المناظر الخلوية

وصورها المدهشة، فتنتعش لها في نفسه آثار حية، فإنه يقال أن أول شيء بعث

في نفس بايرون [1] تباشير ولعه ولهجه بالشعر؛ إنما هو منظر ما يوجد في

هضاب إيقوسيا من البحيرات وقمم الجبال، ولست اعتقد أن (أميل) سيكون

بايرون عصره، بل لا أجد شيئًا من الحق في التطلع إلى ذلك؛ ولكني أتكدر

وأحزن أن رأيته من حيث هو إنسان لا يتأثر بما هو مسطور في صفحات الكون

من جيد الشعر وبديعه.

قد وهمت فيما علقته على هذا السفر القصير من الأمل الكثير في تنبيه القوى

الحاسة في (أميل) وها أنذا اعترف لك بخطأي صاغرة، إذ قد تبين لي أني

تعجلت في هذا الأمل فإني رأيته لا يشوقه إلا النظر إلى الجزئيات واستطلاع وقائع

الخلوات، وهو من حداثة السن بحيث يصعب عليه إدراك الأشياء في جملتها

ومجموعها.

أرى أن الطريقة المثلى في تنبيه الأطفال، وبث روح الملاحظة في نفوسهم

أن لا تطلب منهم الملاحظة ولا يحملون عليها، وقد سرت على هذه الطريقة في

سياستي (لأميل) فلم أشذ عنها إلا مرة واحدة، ذلك أننا كنا في رأس ليزارد [2]

وما أكثر عجائبه، وإن أردت تخيلها فمثل لنفسك صخورًا هائلة على جميع الأشكال

بعضها قائم وبعضها ساقط، وشيء منها متصل وآخر منفصل يهيج بينها البحر

ويصطخب، ومنها ما غمره البحر فطوَّق جيده بقلادة من الزبد، ولم يبد منه سوى

رأس مخروطي أملس مصقول، لا تفتأ الأمواج تغسله، ثم تصور أن بصرك يتتبع

من بعيد خط السواحل فيرى ما يتخللها من نقطة إلى أخرى من الصدوع العظيمة

والوهاد والمغارات المظلمة، فإذا وقف الإنسان وسط هذه المشاهد الكبرى كانت

حيرته في اختيار المكان الذي يشرف منه عليها، وقفت أنا و (أميل) تجاه

(كينانس كوف) وهو أحد الخُلج التي يُرى فيها البحر أجمل ما يكون وسط الأطلال

وقطع الصخور، وأخذت بيده ثم قلت له انظر إلى هذه المكان نظرًا بليغًا وانقشه

في حافظتك فلعلك لن ترى هذا المنظر بعد

اليوم.

كأني بك تقول هل القوة الذاكرة مما يأتمر بأمرنا فنأمرها بالحفظ والذكر؟

فأجيبك بأن لي بعض الحق أن أعتقد هذا إذا رجعت إلى ما دلتني عليه تجربتي،

ذلك أني أيام كنت فيما يقارب سن (أميل) سافر والداي إلى مقاطعة أوفرني [3]

وأخذاني معهما، وفي يوم من أيام إقامتنا هناك صعدنا على إحدى شعاف الجبل

المسمي مُنْدُور، وهناك نشدني الله والدي جاهرًا بصوته أن لا أنسى ما كنت أشاهده

في تلك الساعة ما دمت حية، ولا أراك إلا سائلي عن نتيجة هذا الإقسام فاعلم أن

جميع ما كان ينبسط أمام ناظري في ذلك الوقت من المشاهد المحدقة بي وهي

مشاهد الجبال والربى والوديان لا يزال مرسومًا في لوح ذاكرتي، ومن هذا تعرف

السبب الذي حملني على اتباع هذه الطريقة مع (أميل) نعم إن والدي قد أوصاني

بعد هذه المرة بحفظ منظر آخر لا أذكره الآن، فلم يجد ذلك شيئًا في الحفظ، وأنا

أستنتج من ذلك أنه إذا تيسر في وقت ما أن يكون للمربي شيء من السلطان على

حافظة الأطفال؛ فإن هذا السلطان من الأمور التي لا ينبغي الإفراط في استعمالها.

إذا وُكِّل (أميل) لنفسه كان دهشه بالأشياء التي يراها أكثر من إعجابه بها،

وهذا مما يحملني على اعتقاد أنه لابد في رؤية الأمور على حقيقتها كمال الرؤية من

شيء من الخيال، خذ لذلك مثلاً وهو أن الطفل لا يعرف من البحر سوء دائرة

الأفق التي يحويها بصره، وهي دائرة ضيقة بالنسبة للواقع؛ فإن حجاب المسافات

يحول بينه وبين ما وراءها من بقية البحر، فإذا كان الشاعر يفنى عن شهوده

وترتفع نفسه إذا وقف أمام مشهد المياه الجليل، فذلك لأنه ينظر بفكره إلى ما وراء

الأفق من امتداد المحيط؛ فإنه متى انفك ساعة من ربقة عجز المشاعر الظاهرة

تتسع في خياله حدود العالم المشهود، فيضيف إلى هذه البقعة المائية المضطربة

التي لا يرى منها إلا جزءًا حقيرًا مهما كانت دقة بصره صورة عدم التناهي

والجلال، وكلاهما من مدركات العقل لا دخل للحس فيهما، وبالجملة فإنه يرى

الجلال والعظم في ماهية البحر ومعناه الذهني لا في صورته المرئية.

إن خلو نفس (أميل) من ملكة التفكير التي لا بد أن تظهر فيه بتقدمه في

السن يكشف له سر عدم اكتراثه بما يراه من مناظر الكون، بل تقليده غيره في

الإعجاب بها كما يبين لي من انبعاث شوقه إلى بعض جزئيات ما كانت تخطر

ببالي مطلقًا، ولهجه بها لهجًا شديدًا ذلك أن معظم الصخور التي يتكون منها رأسًا

ليزارد ولندس إند (طرف أرض) وضع لكل صخرة منها اسم خاص بها، كأنه

يخاطب الخيال ويوقظه فيريك الدليل الخريت منها صور العمود وعرين الأسد

والمطبخ والمنافيخ والمقلاة والفرس ورأس الدكتور جونسن ووجه الدكتور مسنتاكن

وغيرها فمن هذه الأسماء ما ينطبق ولا شك على مناسبات خرافية تختلف درجة

قربها أو بعدها من الحقيقة، غير أن منها أيضًا ما هو مبني على وجود وجوه شبه

ظاهرة للعيان بين مسمياته الأصلية وبين تلك الصخور التي وضع لها، ومن

المحتمل أن تكون هذه الألعاب الكونية والصور الاتفاقية والحجارة التي تمثل هيئة

الإنسان أو شكل شيء من الأشياء مع عدم نحتها بالمنحات هي التي بعثت في

نفوس الأولين فكرة صناعة التماثيل، ومهما كان أصل هذه الصناعة؛ فإن هذا الفن

الفطري الاضطراري الذي نقشته على الصوان يد الخالق القادر هو من الغرائب

غير المألوفة التي هاجت شوق (أميل) إلى معرفتها؛ فإنه كان يجتهد من نفسه في

إدارك ما بين قطع الصخر وبين بعض الأشياء المعروفة له تمام المعرفة من وجوه

الشبه التي لم تغرب أيضًا - كما تدل عليه أسماء تلك القطع - عن فكر صيادي

السواحل السذج البسلاء.

من عهد أن رأيت جميع النموذجات الأصلية لفن العمارة ظاهرة في المغارات

وسلاسل الصخور لم يسعني إلا الارتياب في أن هذا الفن من مخترعات الإنسان،

ذلك لأنك تجد فيها أصل النافذة القوسية والقباب بما يقوِّمها من الارتفاع والانحناء

والدعائم الثقيلة والعمود الرفيع المخطط والشبابيك الطويلة المقبوة والعماد وغيرها

من الأشكال الكثيرة، فليس على الخيال إلا أن يتوجه إلى هذه الكتل الصخرية

المتراكمة حتى يميز النظر من بينها مُثُلاً لمعابد عتيقة وصفوفًا من تماثيل صخرية

ذات وجوه ناقصة وزخرفًا رمزيًا ووحوشًا خرافية لو فصلت من الصخر لكانت

شخوصًا مستقلة.

إني على كوني لست من العلماء، ولا من الأثريين كان بودي أن أعلم (أميل)

في هذه الفرصة الجميلة بأن ألقي في ذهنه معنى للآثار السلتية [4] التي لا تخلو

منها بعض جهات كورنواي وأكثرها شيوعًا هو كما تعلم الدوائر القسيسية [5]

والأحجار الطويلة القائمة في الأرض على قواعدها كالمسلات والرؤوس الصوانية

الطبيعية التي صارت بعد عمل صناعي قليل هي الحصون الأولي للبلاد، تحميها

من لصوص البحر، ولقد كان أشد هذه الآثار استمالة لي مدرَّج بيدين في رأس

ليزارد.

ومما يحمل على الظن بأن يد الإنسان هي التي نحتت هذا المدرج في

الصخر ما يشاهد في بعض أرجائه من آثار أعمال تلك اليد الفطرية التي محا

نصفها كرور العصور، وما نبت من الأعشاب الدقيقة على سطح الصخور، ومن

الأقوال المروية في شأن ذلك المدرج أن الدوائر العظيمة الناتئة في سمك الحجر

كانت فيما غبر من الزمن صفوف درجات، وأن السلت قد انتهزوا حينئذ فرصة

وجود منحنى خطته يد الفطرة، ووهدة يزيد البحر في قاعها فجعلوها مسرحًا

لأبصار النظار وعملوا لجمعهم حولها، إذا صحت هذه الرواية فليت شعري ماذا

كان المنظر الذي كان يحشر الناس له في هذا المكان؟ إن كان ذلك هو الكون

وعظمه؛ فإنه مشهد جدير بإثارة وجدان الإعجاب والإكبار خصوصًا في هذه البقعة؛

ولكني أرجح أن ذلك الاجتماع كان لقضاء بعض المناسك الدينية لوجود جملة من

الصخور السوداء ناهدة على سطح الأمواج تجاه المدرج، يقال أن القسيسين كانوا

يتخذونها مذابح للقرابين وتلك شعائر أقل ما فيها العظم والجلال.

يوجد أيضًا في هذه الناحية حجارة عمودية يتألف من تناسقها دوائر متناسبة

الأجزاء تسمى بالكروملك، يكتنفها نبات الخلنج الأدكن المحزن، فيورث رائيها

الغم والخوف؛ ولكن أنى (لأميل) أن يكون له كبير اشتغال بمثل هذه الآثار

القديمة، وهي خلو من أثر صناعة النقش ومجهولة التاريخ وكيف يرجي منه

الاهتمام بها؟ على أني أرى أن نفسه قد انفعلت بآثار كامنة فيها لما شاهدناه ستظهر

فيه يومًا من الأيام، وإني أستند في هذا الأمر على أمر صبياني جدًّا، غير أن كل

شيء في عالم الطفولة هو أكبر مما يظن به ودونك قصة هذا الأمر:

كان يوم 11 يونية عيد ميلاد (أميل) فأراد أن يشهر هذا اليوم العظيم بمأدبة

خفيفة موافاة لما تقضي به عادة أهل البلد الذي نسكنه، وفوق ذلك فإنه في هذا العيد

قد عمد إلى اختراع افتحره افتحارًا، فقد أخذ بثوبي وسار بي إلى بستان، فرأيت

فيه وأنا في غاية الدهش كومًا من الأحجار المتوسطة في الحجم مرتبة ومرصوفًا

بعضها فوق بعض بنوع من الحذق والصناعة، وعددتها فوجتها سبعة، فعلمت من

ذلك أنه قد استفاد من مدرسة قدماء السلت؛ فإنه لما فهم من الآثار التي زرناها على

طول الساحل أنها أقيمت تذكارًا لحادثة من الحوادث، طبَّق ما رآه على نفسه،

فأصبح كما ترى وله أن يقول ما قاله هوراس [6] من قبله وهو (قد رفعت لنفسي

أثرًا) .

على أني أسائل نفسي لماذا يسمى سن (أميل) بسن التمييز والتعقل؟ فليت

شعري أي شيء يتعقله الطفل في السابعة من عمره؟ لا أراه يتصور الجزئيات فإنه

لم يعمر من الزمن ما يكفيه لتصورها، ولا يدرك الكليات فإنه يجب لإدراك هذه أن

يكون العقل قد وصل إلى حد معلوم من الرشد، وإني إذا حكمت بمقتضى ما أدتني

إليه تجربتي واختباري أقول إن (أميل) لا يزال أكثر انبعاثًا إلى العلم بالأشياء منه

إلى الحكم عليها، فالذي يهمه ويشغله إنما هو كيفيات الموجودات الظاهرة، وبعض

دلائل الفكر وأماراته، وسأبين لك مرادي بمثل آخذه من ضروب تسلينا فانتظره في

المكتوب الآتي اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) معرب من باب الولد من كتاب‌

‌ أميل القرن التاسع عشر

.

(1)

بايرون: هو اللورد بايرون الشاعر الإنكليزي مؤلف القصص الكثيرة التي منها قصة الغلام هارولد وقصة الدون جوان ولد في سنة 1788 ومات سنة 1824.

(2)

هو رأس من رؤوس سواحل إنكلترا في الطرف الجنوبي الغربي لقومتيه كورنواي.

(3)

مقاطعة أوفرني: هي إقليم قديم من أقاليم فرنسا قاعدته كليرمونت فيراند ألفت منه ومن جزء من الهوت لوار والكروز مقاطعتا كانتال وبوي دودوم.

(4)

السلتية: نسبة إلى السلت وهم شعوب قديمة من الناس كانوا يقطنون بلاد الفول وشمال إيطاليا وبريطانيا العظمى وأيرلاندا.

(5)

نسبة إلى القسيسين؛ لأنهم هم الذين كانوا مختصين بهذه الدوائر فلا توجد في غير محالهم.

(6)

هوراس: هو شاعر لاتيني شهير وُلد في سنة 68 ومات في سنة 8 ق م.

ص: 778

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آثار علمية أدبية

(رمضان)

فديتك زائرًا في كل عام

تحيِّي بالسلامة والسلام

وتقبل كالغمام يفيض حينًا

ويبقى بعده أثر الغمام

وكم في الناس من دنف مشوق

إليك وكم شجي مستهام

رمزت له بألحاظ الليالي

وقد عجز الزمان عن الكلام

فظل يعد يومًا بعد يوم

كما اعتادوا لأيام السقام

ومدَّ له رواق الليل ظلاًّ

يرف عليه أجنحة الظلام

فبات وملء عينيه منام

لتنفض عنهما كسل المنام

ولم أر قبل حبك من حبيب

كفى العشاق لوعات الغرام

فلو تدري العوالم ما درينا

لحنَّت للصلاة وللصيام

وما كلُّ الأنام ذوي عقول

إذا عدُّوا البهائم في الأنام

بني الإسلام هذا خير ضيف

وقد يغشى الكريم ذرى الكرام

يلمُّكم على خير السجايا

ويجمعكم على الهمم العظام

فشدُّوا فيه أيديكم بعزم

كما شدَّ الكميُّ على الحسام

وقوموا في لياليه الغوالي

فما عاجت عليكم للمقام

وكم نفر تغرهم الليالي

وما خلقوا ولا هي للدوام

وخلوا عادة السفهاء عنكم

فتلك عوائد القوم اللئام

يحلون الحرام إذا أرادوا

وقد بان الحلال من الحرام

ومن روَّته مرضعة المعاصي

فقد جاءته أيام الفطام

* * *

(حسن التعليل في التمثيل)

بنو آدم أعداء

على السراء والضرا

وما حياك باسِمُهم

وإن أبدى لك البشرا

ففي الصدر حزازات

تكاد تمزق الصدرا

ولو كادوا النجوم هوت

من الخضراء للغبرا

فما الدنيا إذا فكَّرْ

تَ غير جهنم الصغرى

ألست ترى بها أممًا

وكل تلعن الأخرى

لقد جرّبتُ أهليها

فلم أر فيهم خيرًا

(ومثلهم لنا الكفر

اوي والصبان والفرَّا)

فعمرو ضارب زيدًا

وزيد ضارب عمرا

...

...

...

... مصطفى صادق الرافعي

* * *

(تشطيران للأديبة المصرية الشهيرة السيدة زينب فواز)

(ومصباح كأن النور منه)

يحاكي ثغره البسَّام جهلا

زها منه ضياء كي يضاهي

(محيَّا من أحب إذا تجلى)

(أغار على الدجى بلسان أفعى)

فبدد شمله خذلاً وذلا

وبارز كوكب الجوزاء منه

(فشمَّر ذيله فَرَقًا وولَّى)

* * *

(أمنت إلى هذا وذاك فلم أجد)

من الخلق من أرجوه في عالم الحس

وما رمت من أبناء دهر معاند

(أخا ثقة إلا استحال إلى العكس)

(فأصبحت مرتابًا بمن شط أو دَنَا)

ولو كان في المريخ أو جبهة الشمس

وأيقنت أن لا خل في الكون يرتجى

(من الناس حتى كدت أرتاب من نفسي)

* * *

(قصيدة بدوية سليقية في واقعة سياسية)

كُتب إلى جريدة الأهرام الغراء من مسقط ما نصه:

صرف القنصل الإنكليزي زمنًا طويلاً وهو يحاول الوصول إلى منجم للفحم

الحجري في صور، فبذل لذلك كل مسعى وحبط في المرتين الأولي والثانية؛ ولكن

حبوطه لم يثنه عن عزمه، وظل متلعًا عنقه إلى المنجم وفاتحًا عينيه للقبض على

المغنم، وسار ثالث مرة فوقف الأعراب في وجهه في وادي (رفصة) وردوه، فاتفق

مع سلطان عمان على أن ينجده بالهدايا والأموال، فجاء السيد فيصل يحمل التحف

ليغوي بها الأعراب، فهبت على مركبه ريح صرصر فابتلع البحر الهدايا وضاعت

من يده؛ ولكنه اتكل على المال الذي أعطاه إياه الإنكليز، فوزع على مشايخ القبائل

مبلغًا جسيمًا فرضي بعضهم بأن يسمح للقنصل بالوصول إلى المنجم والوقوف عليه،

وأبى الآخرون وسار القنصل مخفورًا فلما كاد يصل ظهرت ألوف العربان،

وأطلقت البنادق؛ ولكنهم أُقنعوا بأن القنصل لا يريد الاستيلاء على المعدن أو

الأرض، بل هو يريد رؤيته فسلموا له بذلك بعد مال وفير قسم بينهم، وما مكث

القنصل عند المنجم سوى بضع ساعات إذ وقف على حاله وعمقه وموقعه، وأشار

عليه المشايخ الذين يخفرونه بالقفول سريعًا مخافة العطب، والقصة كلها نظمها أحد

مشائخ الجعليين شعرًا، وهذا الشيخ المسن أعمى لا يرى، وهو ينظم الشعر عفوًا

ارتجالاً، والكتاب تتلقاه عنه وتسطره، وهذه هي القصيدة وفيها الدلالة الكافية

ننشرها على علاتها كالفكاهة؛ ولأنها الآن أنشودة كل عربي وبدوي في تلك

الأصقاع.

حدث أخي عن العجب

وعن العلا وعن الحسب

وعن الخيانة أنها

عار قبيح في العرب

طلب النصارى [1] أرضنا

بمكيدة يومًا طلب

متعللاً بسياحة

... وقناصة تقضي الأرب

فأقام منا عصبة

في رده حتى ذهب

لما دعا عيسى [2] أجبـ

ـناه فحيا من وثب

فمضى ونحن أمامه

لنضم شملاً للعرب

جئنا لجعلان فلم

نلق خلافًا مقتضب

فتواثقوا وتعاقدوا

في منعه عما طلب

وبنو مشرف [3] قابلوا الـ

ـبالوز [4] بالمنع الألب

منعوه من أمرار رفـ

ـصتهم فرد على العقب

وسليل [5] تركي تهد

دهم فلم يخشوا عطب

لله درهم ودر

رئيسهم حين انتدب

فرأى النصارى أننا

في البأس كالسيف العضب

فغدا وكاتب فيصلاً

فأجابه لما كتب

فأتى إلى صور لكي

يقضي لهم ذاك الأرب

في مركب قد جاءها

وله متاع قد ذهب

قد سلط الله على

ما عنده بحرًا لجب

ودعا القبائل كي يخا

دعهم بمال أو نشب

فنما إلينا أمره

وأتى إلينا المحتسب

عيسى وأصحاب له

جاءوا لنا بالمنترب [6]

ووراءهم جند كثـ

ـير كالتراب إذا حسب

حرث وحجريون والـ

ـهشم الغضارفة النجب

مع آل حبس [7] أو وهيـ

بة [8] أو رواحة [9] تنتدب

ندب [10] ورحبيون أيـ

ـضًا والسيابي المنتصب

مع آل أسود إن دعوا

يتواثبون على الميب [11]

أو عامر [12] وبنو ريا

م والقبائل نجتنب

من غافري أو هتا

ويٍّ [13] تراهم كالشهب

فأتى إلينا داعيًا

لنرد فيصل للعقب

فرأى البسالة في وجو

هـ القوم منا تلتهب

سرنا لنحمي الدار عن

أهل المعاصي والريب

حتى نزلنا بالفليـ

ـج [14] من المكان المنتخب

سرنا وصادفنا العدو

ومكانه منا قرب

لله وقفتنا بأم

اللخم [15] إذ حمي اللهب

وترى التفاق [16] موجها

ت للعدو المضطرب

وترى الكماة من الرجا

ل كأسد غاب تنتشب

وترى المنايا في وجو

هـ القوم تلمع كالشهب

والشمس في كبد السما

ء على القماحد تلتهب

والأرض تشعل نارها

وحصاؤها شبه الحطب

وهلال نجل سعيدنا [17]

أورى الحروب لنا وشب

لما غدا متقحمًا

لجج المنون ولم يهب

فهناك بان أخو البسا

لة والجبان المكتئب

لو لم يكن عيسى أرا

د العفو عنهم أو أحب

لرأيتهم جزر السبا

ع مقطعين إرب إرب

فتصير أم اللخم أم

اللحم مهما تنتسب

أو يرجعون كأنهم

شعر تساقط عن جرب

وتحامت العربان طرًّ

اعن ضياع ينتسب

إلا الصوايع [18] كالأُلى

قد صوَّعوا بين العرب

لبسوا متى نصروا النصا

رى كل عار مكتسب

فتشخصوا أشرافهم

يتصارعون على العطب

ويسوسهم رجل [19] على

حال الضلال نشا وشب

جاءوا وقنصلهم أما

مهم كصنم منتصب [20]

كانوا كرامًا يُحسبو

ن من الكرام أولي الحسب

فغدوا عبيدًا للنصا

رى فانظرن هذا العجب

واستثن من أشرافهم

قومًا لهم فينا رتب

جند الأمير ومن غدا

عند الأمير متى وثب

أعني سعيدًا نجل سا

لم المهذب إذ ندب

فهو الذي قد كان في الـ

أعداء سهمًا قد وصب

في عصبة نصروا الإلـ

ـه مع الذي فيه احتسب

فأتى بجمع من بني

حسن [21] غضاريف نجب

فاشتد عند وصولهم

حبل الهدى من غير جب

فلهم إذا طاب الثنا

طيب الثنا بين العرب

إذ هم غدوا إخواننا

قد ساعدونا في الوصب

وانزاح عن أفكارنا

بوصولهم كل التعب

واذكر محمد بن شا

مس [22] الذي في المجد خب

أَوَمَا رأيت ثباته

... يوم الزلازل تضطرب

فلقد سما بتقدم

يوم الخؤن قد انقلب

وغدا عبيد الباليو

ز كمثل نمل في سرب [23]

قد ورَّثوا أبناءهم

ثوب المذلة والعطب

فلسان كل الخلق تُهـ

ـدي نحوهم شتمًا وسب

والحمد لله الذي

رد الأعادي للعقب

في خيبة من سعيهم

خابوا وخاب المنقلب

_________

(1)

كملة اصطُلح عليها بمعنى الإنكليز لا غير؛ لأن النصارى الآخرين في عرفهم أعداء الإنكليز.

(2)

أي عيسى بن صالح شيخ قبيلة الحرث غزا مسقط سنة 95 وأخذ من أهلها دية كبيرة.

(3)

أي المشارفة لهم قلعة الرفصة على مضيق في جبال المنجم.

(4)

أى الباليوز وسيأتي بالياء، وهنا بدونها للضرورة، وتحقير للاسم والمسمى، وهو القنصل بلغة من لغات الهند.

(5)

أي فيصل بن تركي صاحب مسقط، ويقال له السيد، وقد تلقب بعض أسلافه بالإمام، وهو يدعي أنه سلطان ولا أحد في بلاد العرب يوافقه، ولاسيما لصغر نفسه مع الإنكليز، ولو كان سلطانًا حقًّا لباع منهم مملكته.

(6)

قرية من الشرقية التي هي قطر من عمان.

(7)

أي الحبوس.

(8)

أي آل وهيبة.

(9)

أي بنو رواحة.

(10)

أي الندابيون.

(11)

جمع الميبة وهي في عمان المتراس كناية عن المساكرة.

(12)

أي العوامر.

(13)

أسماء الحزبين المتشاق إليها قبائل عمان.

(14)

قرية.

(15)

اسم مكان.

(16)

جمع (تفق) أي: بندقية، مأخوذة من (تفنك) العجمي.

(17)

هلال بن سعيد شيخ الحجريين.

(18)

فخذ من قبيلة بني أبي حسن.

(19)

عامر بن سالم شيخ الصوايع.

(20)

تعريض بكبره وافتخاره، فهو طويل القامة، وله أنف طويل اعوج به، لقَّبته العرب أبا منقار وهو مكروه عندهم كرهًا شديدًا، فهو والسيد فيصل في المحبة كالأخوين، وكذلك رتبتهما في اعتبار العرب.

(21)

أي بني أبي حسن.

(22)

هو من أعيان قبيلة المشايخ.

(23)

تعريض بأن القنصل ومن معه وصلوا المكان المعروف باسم اللخم السابق ذكره، وهو قريب من معدن فحم كان يقصده القنصل، ووعده السيد فيصل بإعطائه إياه، فإذا بالعرب أظهروا أنفسهم فوق الجبال وأطلقوا بنادقهم إلى السماء بقصد التخويف لا غير، إلا أن بعض المطلقين أخطأوا بحيث وقع بعض الرصاص بقرب من القنصل ومن معه، فألقوا أنفسهم من فوق مراكبهم إلى الأرض، ودبوا إلى الغيران وشقوق الصخور ولبدوا فيها، إلى أن أتاهم شيوخ العرب وسكَّنوا خواطرهم، ثم ساروا بهم إلى مكان الفحم فردوهم إلى الوراء.

ص: 787

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(مقدمة التفسير وتفسير الفاتحة ومسائل أفعال العباد والغرانيق وزيد وزينب)

الفاتحة يحفظها كل مسلم؛ لأنها جزء من صلاته، وينبغي له أن يفهم معناها

وفهمها من كتب التفسير يصعب على غير العلماء؛ لأنها ممزوجة بالاصطلاحات

العلمية والإعراب، وقد فسرها الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية تفسيرًا دينيًّا

خالصًا يسهل على كل قارئ فهمه، ونشرنا تلخيص ذلك في المنار.

ومسألة إسناد أفعال العباد إليهم تارةً، وإلى الله تعالى تارةً أخرى من أعظم

المشكلات الاعتقادية، وقد فسر الأستاذ الإمام الآيات التي توهم التناقض فيها بما

يرفع الإشكال ونشرناه في المنار.

ومسألة الغرانيق التي هي أكبر الشبهات على الوحي، ومسألة زيد وزينب

التي هي أكبر مطعن للمخالفين على النبي صلى الله عليه وسلم، قد اضطرب في

تفسير الآيات التي اتخذت شبهة في المسألتين المفسرون، ففسرها الأستاذ الإمام في

مقالتين نشرتا في المنار أيضًا.

وقد رأيت أن يُطبع تفسير الفاتحة، وتفسير الآيات المتعلقة بهذه المسائل على

حدة ليعم نفعه، فأنفذت ذلك، وساعدني على الطبع والنشر صديقي الفاضل الشيخ

أحمد عمر المحمصاني، ويُطلب الكتاب من إدارة المنار، ومن سائر المكاتب

الشهيرة، وثمنه قرشان ونصف قرش.

***

(كتاب غاية البيان، لما به ثبوت الصيام والإفطار في رمضان)

أهدانا هذا الكتاب الوجيز من تأليفه الأستاذ الفاضل الشيخ محمود محمد

خطاب السبكي أحد المدرسين في الجامع الأزهر، ألَّفه لبيان أن الكتاب والسنة وما

صح عن الأئمة هو أن الصيام والإفطار إنما يكونان برؤية الهلال، أو إكمال العدة

وأنه لا يجوز العمل بقول الحاسب والمنجم، وقد أورد النقول من كتب الفقه في

المذاهب الأربعة حتى كتب الشافعية الذين يقول بعضهم: إن للمنجم والحاسب العمل

بعلمه في حق نفسه فقط، وجاء المؤلف بما يضعف هذا القول الذي اعتمده بعض

الفقهاء، وقد قرَّظ الكتاب جماعة من علماء المذاهب الأربعة وأولهم شيخهم الأكبر

شيخ الجامع لهذا العهد.

***

(الرسالة البديعة - في الرد على من طغى فخالف الشريعة)

وأهدانا الأستاذ المذكور هذه الرسالة أيضًا في الرد على أهل الطرق الذين لم

يوافقوا في ذكرهم الكتاب والسنة، وهي جواب سؤال عرض عليه، وقد وافقه في

الجواب جماهير علماء الأزهر، وفي مقدمتهم شيخهم الأكبر لهذا العهد، وكان

يومئذ شيخ السادة المالكية، وقد بيَّن في هذه الرسالة أحكام الإنشاد في الذكر

والسماع والرقص والطبول والدفوف والمزامير التي يستعملونها، وشدد النكير على

ذلك، وذكر بعض شبهاتهم على إباحة هذه البدع وبيَّن بطلانها، وذكر أيضًا بدعهم

في تشييع الجنائز، ثم شرب الدخان في مجالس القرآن وغيرها، ثم تكلم في البدع

والعادات القبيحة المحرمة التي يأتيها الناس في ليلة الزفاف، وقد ذكر أمور غريبة

جدًّا ما كنا نظن قبل قراءتها أنه يوجد في البشر مثلها، فهي مما يستحي الإنسان،

لا سيما المسلم من سماعه أو قراءته، فكيف انتهى الناس في التسفل إلى فعله.

***

(تحفة الأبصار والبصائر - في كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر)

وأهدانا هذا الأستاذ أيضًا هذه الرسالة له، وموضوعها معروف من اسمها

وعليها تقريظ شيخ الأزهر الأسبق الأستاذ الشيخ حسونة النواوى وأشهر شيوخ

الأزهر ومنهم الأستاذ شيخ الأزهر لهذا العهد، وسنقتبس شيئًا منها أيضًا إن شاء

الله تعالى، وإننا نشكر لهذا الأستاذ الهمام عنايته بالكتابة فيما ينفع الناس، وهم في

أشد الحاجة إليه، ونسأل الله أن ينفع به وبتآليفه.

***

(كتاب محك النظر)

من الترقي في العلم اليوم انتداب بعض الفضلاء لطبع كتب الأئمة الأولين من

علماء الإسلام، ومن هذه الكتب (محك النظر) في المنطق للإمام الغزالي وهو

يخالف كتب الفن التي بين أيدينا في ترتيبه وتقسيمه وتعبيره وأسلوبه؛ فإنه يتكلم

على التصديقات قبل التصورات؛ لأنها المقصود الأهم ويقسم الكلام فيها إلى ثلاثة

فنون: الفن الأول في السوابق، وفيه فصول في الألفاظ والمعاني والقضايا

وأحكامها، والفن الثاني في محك القياس من المقاصد، وهو طرفان أحدهما في نظم

القياس، والثاني في محك النظم وشرطة، والثالث في مادة القياس

إلخ.

أما أسلوبه فأسلوب الكتاب البلغاء وحسبك أن تقول أسلوب الغزالي المعهود

في الإحياء وغيره من القوة والسهولة والبيان والبسيط والتمثيل، أذكر من بيانه

قوله في تعريف اليقين: (أما اليقين فلا تعرفه إلا بما أقوله، وهو أن النفس إذا

أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت فلها ثلاثة أحوال (أحدها) أن تتيقن

وتقطع به، ويضاف إليه قطع ثانٍ، وهو أن يقطع بأن قطعه به صحيح، ويتيقن

بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا غلط ولا التباس، ولا يجوز الغلط لا في

تيقنه بالقضية، ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه، ويكون فيه آمنًا مطمئنًا قاطعًا

بأنه لا يتصور أن يتغير فيه رأيه، ولا أن يطلع على دليل غاب عنه، فيغير

اعتقاده، ولو حكي نقيض اعتقاده عن أفضل الناس، فلا يتوقف في تجهيله وتكذيبه

وخطأه، بل لو حكي له أن نبيًّا مع معجزة - كذا ولعل الأصل ذا معجزة - قد

ادعى أن ما تيقنه خطأ ودليل خطأه معجزته، فلا يكون له تأثير بهذا السماع، إلا

أن يضحك منه ومن المحكي عنه، فإن خطر بباله أنه يمكن أن يكون الله قد أطلع

نبيه على سر انكشف له - لعله به - نقيض اعتقاده، فليس اعتقاده يقينًا) اهـ،

ومثَّل ببعض اليقينات البديهية، فأنت ترى أن هذا البسط ضروري في كتب التعليم

وتعلم أن الذين لا يأخذون العلم بمثل هذا الإيضاح يكون علمهم دائمًا مبهمًا مظلمًا

لا تنكشف به الحقائق، ألا ترى أن أكثر الذين يتعلمون المنطق بكتب المتأخرين

المبهمة الموجزة لا يفرقون بين الظن واليقين، وأن أحدهم يتوهم أن سكونه للتسليم

بقول فلان العالم وثقته به عين اليقين، وهو مع ذلك إذا ثبت له أن ذلك العالم رجع

عن ذلك القول يرجع هو عنه أيضًا، وذلك شأنهم في العلم والدين فأين علم اليقين

وحق اليقين.

وغاية ما أقول في تقريظ هذا الكتاب: إنه ينبغي لكل طالب علم أن يطالعه

ليميز بين العلم الحي الذي تتغذى منه العقول وبين غيره، وقد طُبع على نفقة

الفاضلين الشيخ محمد بدر الدين النعساني الحلبي، والشيخ مصطفى القياني

الدمشقي، ويُطلب من المكاتب الشهيرة في مصر.

_________

ص: 794

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(رحلة سمو الخديوي إلى السودان وخطبته)

كنا وعدنا قبيل سفر العزيز إلى السودان بأن نكتب شيئًا من آراء الناس في

هذه الرحلة بعد السفر، ولما أن نشرت الجرائد خطبة سموه لم نر حاجة لذكر رأي

آخر؛ ولكننا ننشرها دون خطبة السردار التي هي ترحيب بسموه، وإعراب عن

الأمل بترقي عاصمة السودان وتدرجها في العمران حتى تصير عاصمة عظيمة،

ومتجرًا كبيرًا في السودان، وقد كانت خطبة سعادة السردار والحاكم العام للسودان

باللغة الإنكليزية، وقد أجابه سمو الخديوي بالعربية، وفي بعض الجرائد أن خطبة

سموه كانت مهيأة من قبل وهذا نصها:

يا سعادة السردار وحاكم السودان العام، ويا حضرات الضباط والعساكر

والموظفين وعلماء ومشايخ وأعيان وأهالي السودان، إني أشكركم على الخطاب

الذي حييتموني به، وإني أؤكد لكم بأني أعد من أعظم المسرات لي رؤيتي إياكم

في هذه البلاد الشاسعة التي قربتنا منها السكة الحديدية العجيبة التي ملأتني ارتياحًا

وابتهاجًا الآن، وقد رأيت هذه البلاد وعرفت الصعوبات والمشقات التي لاقاها من

كانت لهم يد في الحملات، التي كانت نتيجتها محو سلطة عبد الله التعايشي وإعادة

العدل والراحة والسكون في جميع أنحاء السودان (العلمان الإنكليزي والمصري

اللذان يخفقان بجانب بعضهما هما إشارة إلى الحكومة المشتركة التي أخذت على

عاتقها حماية الأهالي من الوقوع في شرك أهل الظلم والفساد، وابتداء عصر هناء

وسعادة في هذه الديار) ولقد سرني أيضًا ما أشاهده من تقدم مدينة الخرطوم في

العمران، واعتقدوا أني سأحفظ لكم أحسن ذكرى لاحتفائكم بي في هذه الزيارة

الأولى، وإني ليشملني السرور كلما سمعت بتحسن أحوالكم وتقدمكم في الرفاهة

التي أرى شواهدها بدت في كل الأرجاء، هذا وإني أنعم الآن بكل ارتياح ببعض

النشانات على بعض كبار علماء الدين، وسأنعم بها فيما بعد على الضباط

والموظفين والأهالي الذين يعرض عنهم لي سعادة السردار والحاكم العام بناء على

التقارير السنوية التي ترد له من المديريات، ثم أكرر لكم تشكري على احتفائكم بي

احتفاء صادرًا عن حسن نية وخلوص طوية اهـ.

***

(فتنة الكويت)

كان من أمر هذه الفتنة أخيرًا أن الدولة العلية رفعت رايتها على بناء الإمارة،

فأنزلها الإنكليز المرابطون هناك في البحر، ورفعوا مكانها راية شيخ الكويت أو

أميره، وذلك عدوان عظيم، وقد كتب إلينا من مكة المكرمة ما نصه: (يدور

عندنا في بعض الأندية (ولا نادي) الحديث في فتنة الكويت التي نخشى أن تطير

منها شرارة إلى الحجاز؛ فتثير الكامن وتظهر الحقيقة وينجلي المجاز، فما تنفع

القوات وأساسها خراب، وما تنفع الطاعة وصاحبها في خلاب) وهذه العبارة تثير

كامن الوساوس، وتبعث ميت الهواجس، وتدل على أن هناك أمرًا خفيًا، واتفاقًا

سريًا، ولعله يكون أمرًا فريُّا.

***

(مدرسة محمد علي الصناعية)

يسر كل غيور على أمته أن جمعية العروة الوثقى الإسلامية هبت في هذا

العام لإنشاء مدرسة صناعية تنسب إلى اسم محمد علي باشا الكبير، وقد جعل

الاكتتاب لتأسيسها تحت رياسة وزير مصر الشهير صاحب الدولة مصطفى رياض

باشا، وكان أول المتبرعين مولانا الخديو المعظم تبرع بمائة جنيه، وقد تبرع

أخيرًا جناب اللورد كرومر بمائة جنيه إنكليزي أرسلها لدولة الوزير مع كتاب شكر

على هذا العمل النافع الذي يحث المصريين عليه دائمًا، وقد بلغ الاكتتاب زيادة عن

خمسة آلاف وثلاثمائة جنيه، فنحث أهل الغيرة على البذل في هذا العمل العظيم؛

لأن البلاد في أشد الحاجة إليه.

_________

ص: 798

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أخبار

عُني صديقنا الكاتب الفاضل رفيق بك العظم بتأليف تاريخ سماه (أشهر

مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة) يمثل فيه المدنية الإسلامية بطريقة لم

يسبقه إليها مؤرخ مسلم، وقد صدر الجزء الأول منه في سيرة الخليفة الأول

وقائده الحربي الشهير خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وجعل ثمنه 6 قروش

ليسهل اقتناؤه، وسنقرظه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.

***

نرجئ منار غرة شوال إلى نصف الشهر، وقد علم القراء من قبل حكمة ذلك،

وقد ضاق هذا الجزء عن نبدة (نساء المسلمين) والموعد ما بعده.

_________

ص: 800

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حياة أمة بعد موتها

جمعية اليهود الصهيونية

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا

فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .

كنا نتحدث في أيام العيد مع صاحب الدولة رياض باشا في حال المسلمين وما

يحتاجونه من الإصلاح، فجاء ذكر اليهود عند ذكر ركن كل إصلاح وتقدم وهو

(المال) وذكرنا الجمعية الصهيونية ومساعيها في إعادة السلطة والمُلك إلى شعب

إسرائيل، فقال الوزير: إنه اطلع في هذه الأيام على كتاب لبعض الأوربيين

المحادين لليهود ألَّفه صاحبه للوقيعة والإزراء بهم، فكان كله تعظيمًا في الحقيقة

وتبجيلاً، ومما فيه أنَّ أزِمَّةَ المنافع في باريس أو فرنسا بأيدي اليهود، وقد رغَّب

إليَّ بعض أفاضل المصريين بتعريبه لا ليستاء الإسرائيليون؛ ولكن ليعتبر

المسلمون.

أنى يعتبر المسلمون بأحوال البشر، وما في الأرض من الآيات والعبر،

وعلي أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقر، وقلوبهم في أكنة لا يصل إليها وعظ

الواعظين، ولا تنبيه المنبهين، فالعبرة بعيدة عنهم ما دامت هذه الحوائل والموانع

بينهم وبينها، وسننبه عليها في هذه المقالة، وإن كنا فصَّلنا القول فيها من قبل؛ فإن

أكثر قومنا ينسون النافع ويحتاجون إلى التكرار.

لو كنا نسمع أخبار الأمم سماع تدبر، أو نعقل الحوادث بحكمة وتبصر، لما

كنا نضرب المثل إلى اليوم بذُلِّ اليهود وضعفهم، ونخشى أن نكون في يوم من

الأيام مثلهم ونحن لا نعرف أنفسنا ولا نعرفهم، لا نعرف من فضلنا عليهم في

الحياة الاجتماعية إلا أن بعض بلادنا لا تزال تحت رياسة أمراء منا، وأنهم

محرومون من السلطة، ويا ليتنا كنا نبصر الطريق التي تسير فيه أمراؤنا بتلك

البقايا من البلاد؛ لنعلم أهو طريق سلفنا العدول الصالحين الذين ورثوا الأرض

لأنهم صالحون لعمارتها؟ أم هو طريق خلفهم المستبدين الجائرين الذين أضاعوا

أكثر الممالك الإسلامية حتى لم يبق لنا منها إلا ذلك البعض الذى أعمانا الغرور به

على ما نشاهد من استبداد الأجانب علينا فيه.

ثم يا ليتنا كنا نبصر الطريق الذي يسير اليهود فيه الآن؛ لنعلم هل هو طريق

سلفهم الذين كانوا مغرورين بالنسب الشريف (سلالة الأنبياء) واللقب الضخم

(شعب الله - أبناء الله وأحباؤه) والاعتماد على بركة التوراة في الاستفتاح على

الأمم والانتصار على المناصبين من غير عمل بما ترشد إليه من الاتحاد والاعتصام؟

أم هو طريق آخر اعتبروا فيه بسنن الله في خلقه فحافظوا على لغتهم وجامعتهم

الملية مع تشتتهم في جميع أقطار الأرض، وتقرب بعضهم من بعض بالتعاضد

والتعاون، وأخذوا بجميع علوم العصر وفنونه النافعة، وبرعوا في جمع المال الذى

هو أساس القوة والعزة في هذا العصر؟ أليس هذا هو الطريق الذى استقام عليه

الإسرائيليون في هذا العصر، فنبتت شوكتهم المخضودة، وعادت عزتهم المفقودة،

ولا ينقصهم أن يكونوا أعظم أمة على سطح الأرض إلا الملك، وهم يسعون إليه

من طريقه الطبيعي، وإن اليهودي الواحد اليوم أعز من ملك من ملوك الشرق؛

فإن أية دولة أوربية تهدد أعظم سلطان شرقي بالقول والفعل وتحمله بالقوة على أن

يهين نفسه، وقد حاولت دولة فرنسا أن تهين رجلاً يهوديًّا فقامت عليها القيامة،

وكادت تشب فيها الحروب الداخلية المجتاحة لولا أن تداركتها، وذلك في مسألة

دريفوس التي لم ينسها أحد ممن عرفها.

لليهود جمعيات ملية كثيرة - ولا نجاح للأمم إلا بالجمعيات - ولم نسمع بذكر

الجمعية الصهيونية إلا من نحو خمس سنين، وهي جمعية سياسية غرضها

الاستيلاء على البلاد المقدسة لتكون مقر ملكهم وعرش سلطانهم، وقد جاء ذكر هذه

الجمعية في العدد السادس من منار السنة الأولى (ص 44 و 45) وفيه أن حركة

هذه الجمعية ظهرت فجأة في النمسا وألمانيا وإنكلترا وأميركا، ولم تكن تُظهر

في أول الأمر طلب الملك؛ وإنما كانت تتظاهر بحب نقل فقراء اليهود المهاجرين

والمُخْرَجِين (المنفيين) إلى بلاد فلسطين؛ ليعمروها ويعيشوا في ظل السلطان

آمنين، وكأنها وثقت بقوتها الآن، فخرجت من مضيق الكتمان، وقد بعثت منذ

أشهر المستر إسرائيل زنفويل من لندرة إلى الآستانة للمساومة في شراء القدس

الشريف ويقال إنه لقي من الحضرة السلطانية التفاتًا وانعطافًا، وبعد رجوعه خطب

في الجمعية فقال ما مثله بالعربية:

(إن اليهود سيرجعون بكثرة إلى فلسطين مملكتهم القديمة التي لا يمكن أن

تغرب شمسها من سماء أفكارهم، وسيبلغ عددهم فيها سنة 2000 أي آخر القرن

العشرين المسيحي مائتي ألف ألف (مليونين) نفس، وسيجعلون تلك الأراضي

جنات عالية قطوفها دانية، وينشئون فيها حدائق ذات بهجة، ويصلون أطرافها

وأرجاءها بالسكك الحديدية، ويقيمون فيها حكومة منتظمة خاصة بها تكون نموذج

الكمال لجميع الأمم والأجيال، فيكون شعب إسرائيل منارًا على جبل صهيون

تهتدي به الأمم كلها إلى المدنية الفضلى في الأحوال الاجتماعية والسياسية

والقضائية والأدبية والزراعية وسائر الشؤون المعاشية، ومن قوانينه تتعلم دول

أخرى طرق الرشاد في تدبير الممالك، كما تتعلم الأمم والشعوب من نظامه

الاجتماعي حقيقة المدنية، ومن سيادته الروحية معنى الديانة الحقيقية) .

قال: (وبالجملة فإني معتقد بنجاح الآمال في امتداد ملة اليهود بعد رجوعهم

إلى فلسطين، ويمكن أن يقال إنه منذ زمن المسيح إلى هذا العهد لم يطلع العالم

على شيء من حياة الإسرائيليين وأعمالهم، وقد كانوا مضطهدين من المسيحيين

والوثنيين في كل مملكة، فكان ذلك هو السبب في بقائهم بما قرَّب بعضهم من بعض وألف بين قلوبهم، ومنعهم من مخالطة غيرهم والتزوج ممن سواهم) .

ثم قال: (وغاية ما يرمي إليه اليهود هو جمع النقود الكافية لابتياع أرض

فلسطين من السلطان الذي ستكون الحركة الكبرى تحت سيادته، وقد بلغ ما جُمع

إلى الآن ألف ألف ريال أميركاني (مليون) وفي كل مدينة وكل قرية يتبوءها

اليهود في مشارق الأرض ومغاربها فرع من الجمعية الصهيونية يجمع المال لهذا

الغرض، وكل ما جمع فهو من الفقراء؛ لأن الأغنياء مشغولون بمنافعهم الشخصية

عن إعطاء هذا المشروع حقه من العناية والاهتمام، على أن تهاون الأغنياء لا

يخمد نار الحمية الملية في نفوس الفقراء، يدل على ذلك جمع النقود بسرعة من كل

صوب وانهمار صيبها من كل أفق، ويرجى أن نوفق في بضع سنين لجمع مقدار

من النقود يكفي لبلوغ الغاية ونيل الأمنية)

إلخ.

أظن أن الخطيب مبالغ في نسبة أغنياء اليهود إلى عدم العناية بمساعدة

الجمعية الصهيونية، ولعل الحكمة في ذلك تنشيط الفقراء والمتوسطين على البذل

بقدر الإمكان، ثم يكون الأغنياء هم الذين يُتمون العمل إتمامًا، وإلا فمن ينكر كرم

البارون هرش والإنفاق من سعته على شراء المستعمرات لقومه، ومتى بسط مثل

هذا الغني السخي يده لمساعدة هذه الجمعية، فقل قد قرب مجيء ذلك اليوم العظيم.

جمع فقراء اليهود ألف ألف ريال لهذا العمل ولديهم مزيد، وهذا بعدما عمموا

المعارف في طائفتهم، فهل ينشط المسلمون في مصر وهم يقربون من عدد يهود

الأرض لمساعدة الجمعية الخيرية بجمع ألف ألف قرش على إنشاء مدرسة كلية في

القطر المصري؟ ؟

هذا، ومن تصريح الجمعية الصهيونية بمقاصدها السياسية على رؤوس

الأشهاد للصحيفة العبرانية الفرنساوية التي نشرها فرع الإسكندرية في غرة الشهر

لدعوة اليهود إلى سماع الخطب والمناقشات ليلاً في قاعة الملهى العباسي، وقد

اُفتتحت بما معناه بالعربية الصحيحة:

دعوة صهيونية ليهود الإسكندرية

(أيها الإخوان: إن شعبنا ما برح يعلل النفس بأن تكون له أمة (دولة) ولم

يتوان في السعي ولن يتوانى مهما عارضته الصوارف، وناهضته الصوادف، وقد

مضي على أولئك الذين دافعوا الدفاع الأخير عن بيتنا المقدس ألفا سنة، كانت الأيام

فيها تساورنا وتحاول محونا من لوح الوجود، فعجزت بأبنائها عن زلزال عقائد

إسرائيل، وإن قواعد ديننا وأحكام شريعتنا تقضي علينا بأن نستمسك بعروة وطننا

القديم، ونعتقد أن سيعود إلينا مجدنا التليد ومكانتنا السامية، تمزق شعب إسرائيل

كل ممزق، وتفرق شمله في الأرض؛ ولكن بلاد صهيون كانت معهد الارتباط بين

أفراده فهي مأمن السرب، وفرجة الكرب، وبسببها بقينا حافظين للعهود، محافظين

على سنن الآباء والجدود.

إن أعاصير الظلم والاضطهاد وعواصف التعصب والعناد التي تعصف

باليهود لتمسكهم بدينهم - قد اضطرتنا إلى العمل بما تكنه السرائر، وإظهار ما

انطوت عليه الضمائر، والخروج من مضيق الاستعداد إلى فضاء الإيجاد،

فالمشروع الصهيوني يطالبنا الآن بالمبادرة إلى العمل، والمسارعة إلى اتخاذ الحيل

ويحذرنا عاقبة الفتور والكسل، حسبنا أننا مُخْرَجُون (منفيون) من كل مكان،

مبغضون من كل إنسان، يرمينا الشانئ بذلك الوصف الشائن الذي نُبزنا من أجله

بلقب (اليهودي التائه) على حبنا للإصلاح وخدمتنا الجليلة لكل بلاد تبوأناها

وإعلاء شأن المدنية في كل مملكة استوطناها، إذا لا علاج لهذا الامتهان إلا الاتحاد

والاعتصام لتأييد النهضة الملية التي تأسست في النمسا من أفاضل شعبنا لحفظ

حقوقنا المقدسة، وقد أشرعنا الطريق للسير وما بقي علينا إلا أن نسلكه.

إخواننا: عليكم نعتمد في نجاح المشروع الصهيوني في أرض مصر،

فلنسلك مسالك إخواننا في الأقطار البعيدة، فقد مهدوا لنا السبيل، فإذا عضدناهم

فساعة الفوز آتية بعد زمن قليل، ويناجينا الشعور بحاجة بعضنا إلى بعض بأن

ستبادرون إلى إجابة دعوتنا وحضور ليلتنا لسماع الخطب في ملهى (منفراتو)

الساعة 9 من مساء السبت 11 الشهر (الإفرنكي) ونحن في انتظاركم شاكرين لكم

سلفًا محبة صهيون)

...

قسم جمعية بارخورشبا الإسكندرية

ماذا عسانا نقول الآن في تنبيه قومنا إلى الاعتبار باتحاد اليهود، وسعيهم

لاسترجاع مجدهم، بل لأن تكون لهم مملكة تقتدي بها جميع الممالك فيكونوا أئمة

للعالمين؟ نعيد بعض ما قلناه في العدد السادس من السنة الأولى عند ذكر خبر

الجمعية ولم يكن أحد يذكر عنهم أنهم يطلبون الملك، إلا ما أشرنا إليه في ذلك العدد

من أنفسنا، ذكرنا يومئذ خبر هذه الحركة الصهيونية عن مجلة المقتطف الغراء

لفوائد بيناها هنالك، نذكر منها هنا الفائدة الثالثة وهي:

(3)

إيقاظ قوم قد رزءوا بالخمول، وكاد يعمهم الذهول، واستلفاتهم (كذا)

إلى الروابط المحكمة بين اليهود مع تفرقهم في الممالك وتشتتهم في الأقطار،

وكيف يمدون سواعدهم لمساعدة إخوانهم ومعاضدة قومهم من وراء البحار وشعوف

الجبال، ولم يصدهم تنائي الديار، عن المواصلة في الأفكار، والتعاون بالدرهم

والدينار، الذي يُحقق به كل أمل، ويناط به كل عمل، فيا أيها القانعون بالخمول

أقنعوا رؤوسكم (ارفعوها) وحدِّقوا أبصاركم، وانظروا ماذا تفعل الشعوب والأمم

أصيخوا لما تتحدث به العوالم عنكم، أترضون أن يسجل في جرائد جميع الدول

فقراء أضعف الشعوب الذين تلفظهم جميع الحكومات من بلادها هم من العلم

والمعرفة بأساليب العمران وطرقه بحيث يقتدرون على امتلاك بلادكم واستعمارها

وجعل أربابها أجراء، وأغنيائهم فقراء

تفكروا في هذه المسألة واجعلوها

موضوع محاوراتكم لتتبينوا هل هي حقة أم باطلة، صادقة أم كاذبة، ثم إذا تبين

لكم أنكم مقصرون في حقوق أوطانكم وخدمة أمتكم وملتكم فانظروا وتأملوا وتفكروا

وتذاكروا وتحاوروا وتناظروا في مثل هذا الأمر فهو أخلق بالنظر من اختلاق

المعايب، وانتحال المثالب، وإلصاقها بالبرآء، وأحرى بالمحاورة من التذقح

والتجني على إخوانكم؛ فإن في الخير شغلاً عن الشر، وفي الجد مندوحة عن

الباطل {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) اهـ.

هذا ما قلناه من نحو أربع سنين فماذا نقول اليوم؟ لا ينفع القول مهما بالغ

المنذر في البيان، وأدلى بالحجة والبرهان، أو يزول ذلك الوقر من المسامع وتزاح

تلك الغشاوة عن الأبصار، وأعني بالوقر ما ملأ أسماع الناس وقلوبهم من إطراء

الأمراء والحاكمين، وإقناع النفوس بأن سعادة الأمة إنما تفيض من سماء عظمتهم،

فما عليها إلا الاتكال عليهم وتعظيمهم وبذل النفس والنفيس في التقرب إليهم،

وأعني بالغشاوة تلك التمويهات التي يغشُّون بها الجمهور ليطمئن إلى الأقوال،

ويغفل عن نتائج الأفعال، وليس من موضعنا بيان نتائج سياسة كل أمير من أمراء

المسلمين، فمجموعها ما نحن فيه، فإن لم يكونوا هم المبسلين للأمة والمضيعين لها

بسلطتهم المطلقة فلا شك أنهم لم يحفظوها من الإبسال والهلكة، ولا نريد من مقالنا

هذا أن تخرج الأمة عليهم؛ فإن هذا يكون عونًا للأجانب على سرعة الإجهاز علينا

ولكننا نريد أن لا تعتمد الأمة عليهم، بل تسعى بكل ما في طاقتها لتحصيل العلوم

النافعة والثروة الواسعة والتربية الرافعة، فمن كان من أمرائهم محسنًا كانت الأمة

عونًا له إذ هي قوام الملك وعماده، وعدته وعتاده، ومن كان مسيئًا جبروا نقص

إساءته بإحسانهم حتى إذا صاروا أمة حقيقية لها رأي عام قوَّموه أو قوَّموا خلفه

بتقييده بالشرع والشورى سالكين في ذلك الطرق الحكيمة التي لاتُخشى مغبتها، ولا

تُحذر عاقبتها.

_________

ص: 802

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأمراء والحكام

بلاء الأمة بهم

(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم

ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)

(22)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي

الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني

أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي تعالى لأمتي أن لا يهلكوا

بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي عز

وجل قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا

أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو

اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يفني بعضًا. وإنما أخاف على

أمتي الأئمة المضلين) [1] الحديث، السنة: القحط، والبيضة: حوزة الشيء

وأصل القوم ومجتمعهم وعشيرتهم، ويقال لجماعة المسلمين بيضة الإسلام، وإذا

سألنا التاريخ يخبرنا بأن الأجانب لم يستولوا على بلاد إسلامية، ولم يستبيحوا

بيضة طائفة من المسلمين إلا بمساعدة المسلمين، فأهل مراكش كانوا عونًا لفرنسا

على أخذ الجزائر، والأفغانيين أعانوا الإنكليز على الهنود، والجندي المصري فتح

السودان ورفع الراية الإنكليزية عليه، وما كان المسلمون ليفعلوا هذا إلا بأمر أئمتهم

أي أمرائهم، ولذلك كان يخاف النبي عليه السلام على أمته الأئمة المضلين.

(23)

وقال صلى الله عليه وسلم: (لست أخاف على أمتي غوغاء تقتلهم

ولا عدوًّا يجتاحهم؛ ولكني أخاف على أمتي أئمة مضلين إن أطاعوهم فتنوهم،

وإن عصوهم قتلوهم) [2] في هذا الحديث شيء من بيان معنى الخوف في الذي

قبله، ومن البلاء أننا لا نرى أميرًا مسلمًا ينزع من نفسه عن الاستبداد ويقيد نفسه

بالشرع والمشاروة حتى تكون الأجانب هي التي تغل يده وتقيده.

(24)

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله؛

ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله) [3] وقد عرفنا أهله من الأحاديث التي أوردناها

في الجزئين السابقين من المنار.

(25)

وقال صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين

ولاة السوء) [4] وذلك أنهم يستعينون على إفساده بعلماء السوء الذين يفتونهم بما

يهوون ويعظمونهم على ظلمهم وفسقهم فيقتدي الناس بهم فيفسد عليهم دينهم.

(26)

وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي إذا صلحوا صلحت

الأمة: الأمراء والفقهاء) [5] وهذا مؤيد لتفسير الحديث قبله.

(27)

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته ما

لم تُحْدِثُوا عمالاً تنزعه منكم، فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه فالتَحَوْكُم

كما يُلْتَحَى هذا القضيب) [6] وهذا تصريح بأن الملك لا ينزع من المسلمين إلا

بواسطة أمراء السوء؛ ولكن الأمير مهما كان ظالمًا لا يعدم أعوانًا يحسِّنون عمله

ويغشون الأمة به ما دام أميرًا، فلا تظهر سيئاته للناس كلهم إلا بعد موته يوم لا

ينفعهم ظهورها، ولو شئنا لذكرنا شهادات التاريخ الماضي. وتاريخ هذا العصر

الجرائد، وأكثرها خاطئة كاذبة، ممالئة مواربة.

(28)

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس

أفسدهم) [7] وهذا الحديث مختصر مما بعده ومصداقه ظاهر مشاهد.

(29)

(ستكون من بعدي أمراء فأدوا إليهم طاعتهم؛ فإن الأمير مثل

المِجَنّ يتقى به، فإن صلحوا واتقوا وأمروكم بخير - وفي نسخة: بمعروف - فلكم

ولهم وإن أساءوا وأمروكم به فعليهم، وأنتم منه براء، وإن الأمير إذا ابتغى الريبة

بالناس أفسدهم) [8] أي هذا شأنه. ومن طرق الإفساد ما يبينه الحديث الآتي. وقوله

عليه السلام (فلكم ولهم) ظاهر؛ فإن سعادة الأمير على حسب سعادة الرعية، وفي

الحديث تقديم ذكر الرعية على ذكر الأمير؛ لأنها الأصل، وأما قوله عليه السلام

(فعليهم) أي إذا لم تطيعوهم كما هو الحكم الشرعي، وذكرنا بعض الأحاديث فيه من

قبل.

(30)

وقال صلى الله عليه وسلم: (إنك إذا ابتغيت عورات الناس أفسدتهم

أو كدت أن تفسدهم) [9] ومن أمرائنا من يتخذ العيون والجواسيس للبحث عن

عيوب الناس وتتبع عوراتهم، وقد أفسدوا بها كثيرًا وأضلوا كثيرًا.

(31)

وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون بعدي سلاطين الفتن على

أبوابهم كمبارك الإبل لا يعطون أحدًا شيئًا إلا أخذوا من دينه مثله) [10] .

(32)

وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم

سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإذا كانت

أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من

ظهرها) [11] أي فعليكم أن تستميتوا في نصر الحق وتأييده غير وجلين من الموت؛

لأنه خير من حياة كهذه.

(33)

وقال صلى الله عليه وسلم: (ستكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون

فمن ناوأهم نجا، ومن اعتزلهم سلم أو كاد، ومن خالطهم هلك) [12] ناوأهم أي

عاداهم أو عارضهم، وفي رواية نابذهم. قال العلماء: يجب الإنكار على من أمن

على نفسه، فإن خاف أن يقتلوه يسقط الوجوب ويبقى الجواز، فإن قُتل فتلك

الشهادة الفضلى، وورد في الحديث ما يؤيد ذلك، وقال في المعتزل (سلم أو كاد)

لأن اعتزالهم قد يتضمن إقرارهم على ما هم فيه من الجور والمنكر، وأعظم الجور

أن تكون سلطتهم فوق شرع الله تعالى، قال الغزالي في المعتزل: سلم من إثمهم

ولكن لم يسلم من عذاب إن نزل يعمه.

(34)

عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كيف بك

يا أبا عبد الرحمن إذا كان عليك أمراء يطفئون السنة ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها)

فقلت فكيف تأمرني يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يسألني ابن أم عبد كيف يفعل! لا طاعة لمخلوق في معصية الله)[13] وقد أطفأ

أمراؤنا من عدة قرون السنة حتى خرجوا عن هديها في الغالب، وأحيوا في هذا

الزمان سنة الإفرنج حتى التهتك الذي يفسد أخلاق الأمة كالمراقص وما في معناها

وقصورهم حانات خمور يتقربون بذلك إلى الإفرنج، إلا من عصمه الله تعالى

(راجع حديث 25) .

آثار السلف عبرة للخلف

(1)

روى أبو بكر بن أبي شيبة والبخاري والدارمي والحاكم والبيهقي

في السنن عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال

لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها:

تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت قالت: ما بقاؤنا على هذا

الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ [*] قال

بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس

وأشراف يأمرونهم ويطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أمثال أولئك يكونون على

الناس) ما كانت هذه الأعرابية الفاضلة تعلم أن سيكون للمسلمين مدنية لها رؤساء

مكلفون بإقامة شعائر الدين والقيام بشؤون النظام العام فضرب لها المثل برؤساء

القبائل في بداوة الجاهلية.

(2)

روى البيهقي عن ابن اسحاق قال في خطبة أبي بكر يومئذ، أي يوم

البيعة (وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران؛ فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم

وأحكامهم وتتفرق جماعتهم ويتنازعون فيما بينهم، هنالك تترك السُّنة وتظهر البدعة

وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح، وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله

ورسوله واستقاموا على أمره قد بلغكم ذلك وسمعتموه عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم) {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46)(فنحن الأمراء وأنتم الوزراء إخواننا في الدين وأنصارنا عليه) .

وفي خطبة عمر بعده (نشدتكم الله يا معشر الأنصار ألم تسمعوا رسول الله

صلى الله عليه وسلم أو من سمعه منكم وهو يقول: الولاة من قريش ما أطاعوا

الله واستقاموا على أمره؟ فقال من قال من الأنصار: بل الآن ذكرنا، قال: فإنا لا

نطلب هذا الأمر إلا بهذا، فلا تستهوينكم الأهواء فليس بعد الحق إلا الضلال فأنى

تصرفون) .

إذا كان شرط بقاء الأمر في قريش طاعة الله ورسوله والاستقامة على ذلك

فمن أين جاءت لمن عداهم السلطة المطلقة التي يضعون بها القوانين المخالفة

للشرع، ويصدرون الأوامر بالعفو عمن أمر الله بإقامة الحدود عليهم؟ ولماذا يطبق

المنتصرون للدين بالقول الآيات الواردة فيمن لم يحكم بما أنزل الله على القضاة

وحدهم وينسون الأمراء والملوك الذين شرعوا لهم ما لم يأذن به الله وولوهم القضاء

وألزموهم الحكم بتلك القوانين؟

(3)

روى البخاري وأبو عبيد وابن سعد والبيهقي عن عائشة قالت:

(لما استخلف أبو بكر قال: لقد علمت قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي

وقد شغلت بأمر المسلمين فيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين

فيه) .

(4)

روى ابن سعد عن عطاء بن السائب قال: (لما بويع أبو بكر أصبح

وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق، فقال عمر أين تريد؟ قال السوق، قال

تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين، قال فمن أين أطعم عيالي؟ فقال عمر: انطلق

يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إلى أبي عبيدة، فقال: أفرض لك قوت رجل من

المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم وكسوة الشتاء والصيف إذا أخلقت شيئًا رددته

وأخذت غيره) في هذا الأثر فوائد جمة منها فضل الاحتراف الذي ترفع عنه

كبراؤنا حتى افتقر كثير من البيوتات لذلك، ومنها أن الحاكم العام ليس له أن

يحترف لئلا يشغله ذلك عن المصلحة العامة، ومنها أن سنة الراشدين أن لا يفرض

الإمام الأعظم لنفسه شيئًا حتى تكون الأمة هي التي تفرض له وعليه الرضا بحكمها

ومنها أن العدل أن يفرض له ما يكفي للمعيشة المتوسطة بالنسبة إلى صنفه،

فيكون قريبًا من كل طبقات الأمة في حاله، من أعطى أمراء المسلمين بعد ذلك أن

يأكلوا أموال الأمة بغير حساب ويهبوا منها بحسب أهوائهم وشهواتهم؟ أيصح أن

يكون رئيس جمهورية سويسرة وقومه أقرب إلى العمل بسنة سلفنا من أئمتنا

وأمرائنا إذ فرضت له الأمة راتبًا يكفيه أن يعيش كالمتوسطين في بلده، ومن ذلك

أنه يركب في الدرجة الثانية إذا أراد السفر، وقد اشترطت الأمة عليه ذلك فإذا

خالف لا يعيدون انتخابه، ديننا وضع هذه الأصول الإصلاحية وغيرنا يتمتع

بسعادة العمل بها ويفوز بثمراتها، ونحن نقدس أمراءنا الذين أضاعوها، ونقول

لجهلنا: ما بالنا ننكسر والأجانب ينتصرون، ما بالنا نذل وهم يعزون، ما بالنا نفتقر

وهم يستغنون، ما بالنا نُستعبد وهم يسودون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ

وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) القرى: الأمم، والمراد بالظلم: الشرك

والكفر، كما ورد في الحديث الصحيح، وقد أوضحنا أسباب هلاك الأمم بالعقل والنقل

في المجلد الأول من المنار فليراجع.

(5)

وفي رواية البيهقي عن الحسن أن أبا بكر لما غدا إلى السوق فمنعه

عمر (قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله يشغلني عن عيالي،

قال: نفرض لك بالمعروف، قال: ويح عمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من

هذا المال شيئًا، فأنفق سنتين في وبعض أخرى ثمانية آلاف درهم فلما حضره

الموت، قال: قد كنت قلت لعمر: إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا

فغلبني فإذا أنا مت خذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال، فلما أُتي

بها عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا) .

_________

(1)

رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ثوبان.

(2)

رواه الطبراني عن أبي أمامة.

(3)

رواه أحمد والحاكم عن أبي أيوب.

(4)

الحارث عن ابن مسعود.

(5)

أبو نعيم في الحلية وابن النجار عن ابن عباس.

(6)

أحمد والطبراني والحاكم عن أبي مسعود الأنصاري.

(7)

أبو داود عن جبير بن نفير وكثير بن مرة والمقدام وأبى أمامة.

(8)

الطبراني عن شريح بن عبيد، قال أخبرني جبير بن نفير وكثير بن مروة وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب وأبو أمامة.

(9)

رواه أبو داود عن معاوية.

(10)

الطبراني والحاكم عن عبد الله بن الحرث مرفوعًا وله شواهد موقوفة ومرسلة.

(11)

الترمذي عن أبي هريرة.

(12)

ابن أبي شيبة عن ابن عباس.

(13)

عبد الرازق في الجامع وأحمد.

(*)(بعد النبي) متعلق بـ (بقاؤنا) .

ص: 809

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين

وحجج المسلمين

النبذة الحادية عشرة

عصمة الأنبياء والخلاص

{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن

دُونِ اللَّهِ وَلِيًًا وَلَا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ

فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 123-124) .

ذكرنا في نبذة سابقة أننا طلاب مودة والتئام، وأن المناقشات في الأديان

والمذاهب قليلة الجدوى، وربما أضرت ولم تنفع؛ لأن أكثر الناس مقلدون، وما

أضيع البرهان عند المقلد! ! وقلنا: إن هؤلاء المبشرين الإنجيليين اضطرونا إلى

الرد على تمويههم بما يرسلون إلينا من الكتب والجرائد التي تطعن في عقائد

المسلمين، ويلحون علينا بأن نرد عليها، وقد انضم إلى إلحاحهم طلب كثيرين من

المسلمين يقولون ليس في القطر مجلة إسلامية أنشئت لخدمة الدين مع العلم إلا

المنار، فيجب عليها رد الشبهات التي توجه إلى الإسلام، فبهذا وذاك صار من

الواجب علينا بحكم ديننا الرد على هذه الكتب والجرائد ونأثم شرعًا بتركه.

(كلما داويت جرحًا سال جرح) كنا نردُّ على آخر كتاب لهم جمع خلاصة

شبهاتهم، وإذا نحن بجريدة (بشائر السلام) ترد إلينا من غير طلب ولا سبق مبادلة،

ثم في هذه الأيام أرسلت إلينا جريدة (راية صهيون) الإنجيلية مكتوبًا عليها:

(أرجو الاطلاع على مقالة خطية الأنبياء والرد عليها) .

تكاثرت الظباء على خراش

فما يدري خراش ما يصيد

ولكن القليل من آيات الحق يكفي لإزهاق الكثير من الباطل، لذلك نقول:

ابتداء هذه المقالة (إن المسلمين يقولون: إن الله أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم

وأعظمهم ستة، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - أي المسيح - ومحمد،

وكثيرون يقولون بأن كل هؤلاء الأنبياء كانوا بلا خطية، ولذلك كانوا قادرين على

إيهاب الخلاص لتلاميذهم؛ ولكن لو كانوا خطاة فما كانوا يتيسر لهم ذلك، إذ لا

يمكن للخطاة أن يخلصوا الآخرين من الخطية) هذا ما قاله بحروفه، ثم تعقبه

بدعوى أن من عدا المسيح من هؤلاء الأنبياء كانوا عصاةً مذنبين مستدلاًّ بما جاء

في قصصهم في كتب العهد العتيق.

فأما معصية آدم فمعروفة، وأما نوح فذكر أنه شرب الخمر، واعترف الكاتب

بأن التوراة لم تذكر له خطيئة غير هذه؛ ولكنه جزم بأنه لابد أن يكون خاطئًا،

وأما إبراهيم (فقد ورد عنه أنه كذب مرتين من باب الخوف من الناس) وأما

موسى فذكر الكاتب من خطيئته أنه (حينما أمره الله أن يذهب إلى فرعون قد أظهر

خوفًا عظيمًا وجبنًا زائدًا جعل الله أن يغضب عليه، وحينما كان بنو إسرائيل في

البرية بعد خروجهم من أرض مصر قد فرط موسى مرة بشفتيه حتى أن الله لم

يسمح له نظرًا لهذا الذنب أن يدخل أرض كنعان، بل جعله أن يموت في القفر)

واستدل على خطيئاتهم من القرآن العزيز بما ورد من الآيات في طلبهم المغفرة إلا

المسيح فإنه لم يرد عنه ذلك، وختم المقالة بعد كلام طويل في الثناء على السيد

المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة المسلمين إلى الإيمان به - وهم المؤمنون حقًّا -

والاتكال عليه في خلاصهم - وهم لا يتوكلون إلا على الله وحده - ويعني بالإيمان

به أن يكون موافقًا لمذهب بروتستنت فإنه كتب نبذة في الصفحة الأولى من هذا

العدد بأن سائر الطوائف (مسيحيون بالظاهر، وأما في الحقيقة فليسوا كذلك) وأن

الله سيلقيهم في النار التي لا تطفأ، أما الرد على المقالة فمن وجوه:

(الأول) أن أفضل الأنبياء عند المسلمين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى

ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ويسمونهم أولي العزم، وليس آدم منهم لقوله تعالى

{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) ومن العلماء من منع التفاضل بين الرسل،

وقال: إن ذلك لا يُعرف إلا بالوحي.

(الثاني) أن المسلمين لا يعتقدون أن الأنبياء هم الذين ينجون الناس بسبب

عصمتهم من العذاب، ويدخلونهم بجاههم في رحمته؛ وإنما يعتمدون على الله تعالى

وحده في ذلك، ويعتقدون أن سبب النجاة الإيمان الصحيح والعمل الصالح، وأن

الأنبياء ما أرسلوا إلا مبشرين ومنذرين، فهم يُعَلِّمون الناس الإيمان الصحيح

المقبول عند الله تعالى والعمل الصالح الذي يرضيه، فمن آمن وعمل صالحًا ترجى

له النجاة بفضل الله تعالى الذي وفقه وهداه، ومن كفر بعد بلوغ الدعوة بشرطها فلا

يزيد الظالمين كفرهم إلا خسارًا.

(الثالث) أن هؤلاء المعترضين لم يعرفوا معنى عصمة الأنبياء عند

المسلمين، فتوهموا أنهم يقولون بذلك لإثبات أن الأنبياء ينجون الناس؛ لأنهم

معصومون، فنجيبهم بأن المسلمين قام عندهم الدليل العقلي على ذلك، وهو أن الله

تعالى جعل الأنبياء هداة ومرشدين ليُقتدى بهم، فلو ابتلاهم بالمعاصي التي هي

مخالفة الشريعة التي يأتون بها لما كانوا أهلاً للهداية؛ لأن الله أودع في فطرة البشر

أن يقتدوا بالأفعال أكثر من الأقوال، وقد أخبرونا أن الله تعالى أمر بالاقتداء بهم،

فلو كانوا يرتكبون مخالفة أمره لكان في أمره بالاقتداء بهم تناقض وأمر بالشر وهو

محال، وليس معنى عصمتهم أنهم مخالفون للبشر في جميع أطوارهم فلا يخافون

مما يخيف في الدنيا، ولا يتألمون مما يؤلم ولا يتوقون الشر (سنوضح هذا المقام في

الأمالي الدينية بعد) .

(الرابع) أنه لم يُنقل عن سيدنا نوح في العهد العتيق إلا شرب الخمر،

وفي هذه الأناجيل أن المسيح شرب الخمر أيضًا، فإن قلنا بأن من لم يُنقل عنه أنه

عصى يصلح أن يكون مخلِّصًا للناس، فنوح يصلح لذلك كالمسيح، بل إن من

صالحي هذه الأمة المحمدية كثيرين لم تحفظ عليهم المعصية.

(الخامس) ما نقله عن سيدنا إبراهيم مصرح بأنه كان للضرورة وإرادة

التخلص من شر وظلم أكبر من كذبة في الظاهر لها تأويل في نفس القائل كقول

إبراهيم عن زوجته: (هذه أختي) يعني في الدين، ومن القواعد المعقولة

والمشروعة أنه إذا تعارض ضرران يجب ارتكاب أخفهما، فإذا حاول ظالم أن

يغتصب امرأتك ليسترقها أو يفجر بها وقدرت أن تنجيها منه بكلمة كاذبة - وجب

عليك ذلك، وتكون الكذبة معصية في الصورة طاعة في الحقيقة.

(السادس) أن ما ذكره عن سيدنا موسى من الخوف ليس فيه معصية لله

ومخالفة لشريعته؛ وإنما هو شأن من الشؤون البشرية الجائزة وهو خوف هيبة

وإجلال للوظيفة العظيمة التي كُلِّف بها.

(السابع) إذا لم يصح الدليل العقلي على عصمة الأنبياء، فعدم نقل

المعصية عن المسيح لا ينافي وقوعها منه؛ لأنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم

وجوده في نفسه.

(الثامن) أن طلب الأنبياء المغفرة من الله تعالى لا يدل على أنهم كانوا بعد

النبوة عصاة مخالفين لدين الله تعالى؛ ولكنهم لمعرفتهم العالية بالله تعالى، وما

يجب له من الشكر والتعظيم يعدون ترك الأفضل إذا وقع منهم في بعض الأوقات

ذنبًا وتقصيرًا، ألم تر أن للمقربين من الملوك والسلاطين ذنوبًا غير مخالفة القوانين

يطلبون من الملوك العفو عنها (ولله المثل الأعلى) وسيأتى إيضاح ذلك في الأمالي

الدينية.

(التاسع) إذا فرضنا أن دليل المسلمين على عصمة الأنبياء غير صحيح،

فلا حجة للمسيحيين عليهم في شيء؛ وإنما ذلك شبهة على الدين المطلق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 816

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌طهارة الأعطار ذات الكحول

والرد على ذي فضول

بعدما انتشر الجزء الثالث عشر الذي ذكرنا فيه بحث طهارة الأعطار

الإفرنجية كتب إلينا عالم فاضل من الصعيد: أعجب العلماء والفضلاء بما كتبتموه

في مسألة الأعطار الإفرنجية؛ ولكن أكثر الناس لا يقتنعون إلا بكلام الميتين ولو

أقمت لهم سبعين دليلاً، وجئت بالله والملائكة قبيلاً، لذلك أذكركم بأن العلامة ابن

العماد الفقيه الشافعي صاحب كتاب المعفوات قد صرح بطهارة الخمر في كتابه

(رفع الإلباس عن وهم الوسواس) فلو ذكرتم نص عبارته لاطمأن لها أولئك

المقلدون

إلخ.

وما كان يخطر في بال ذلك الفاضل أن بعض العوام الذين يقلدون كل مؤلف

ميت، وينكرون على كل حي يتطفل على موائد العلم ويلفق رسالة مخصوصة في

الرد على المنار، فقد أرسل إلينا السائل عن الأعطار الإفرنجية ورقات في ذلك

بإمضاء (مختار بن أحمد مؤيد باشا ابن نصوح باشا العظمي) تصفحناها وإن كنا

نعرف أن ملفقها ممن لا ينبغي إضاعة الوقت في شيء مما يكتبه؛ لأنه عامي مغرم

بالشهرة العلمية يجرئه على التأليف لقبه (بك) ولقب أبيه وجده (باشا) ومداهنة

المتملقين من المتعممين للأغنياء وتصحيحهم له ما يكتب؛ وإنما تصفحناها على

طولها - وهي 16 صفحة - لمعرفة مكانة ملفقها، ثم رفعنا من قدرها بالرد عليها

لئلا يكون علق بذهن السائل الذي أرسلت إليه شيء من أوهامها.

الرسالة مؤلفة من الفضول والتعريض المبني على سوء الظن بغير شبهة ولا

دليل، والتطويل بما ليس من الموضوع كالكلام في تحريم الخمر، وفي كون كل

مسكر محرمًا، وفي أن المسكرات مضرة، وأنه يحرم بيعها ونحو هذا مما لا نزاع

فيه، وأنى لمثل ملفقها أن يحرر محل النزاع في مسألة ويتكلم فيه، ومن العجيب

تبجحه بأنه أراد الاختصار، وأنه لو أراد الرد بالتفصيل على جواب المنار لاحتاج

إلى تأليف كتاب أكبر منه! ! وياليت هذه الورقات كانت في الرد على المنار؛ فإننا

لو حذفنا منها السؤال والجواب المنقولين من المنار والنصوص المنقولة من الكتب

في تحريم شرب الخمر وبيعه وعبارات الدعوى والتعريض وتحريف بعض الآيات

لم يبق منها صحيفة ترتقي إلى أن تكون من الشبهات على الموضوع، وإننا

نستخلص ذلك ونبين فساده لأنه مما يخطر في بال العوام أو يغتر به من يسمعه

منهم.

أما محل النزاع فهو أن جواب المنار في مسألة الأعطار الإفرنجية من وجهين

(أحدهما) اجتهادي مبني على الرجوع إلى الكتاب والسنة في مسائل الدين، وهو

أن المجيب لم يطلع فيهما على دليل يعتد به في نجاسة الخمر فضلاً عن الأعطار

التي فيها جزء كيماوي مما يوجد في الخمر (ثانيهما) تقليدي مبني على التسليم

بقول أكثر الفقهاء الذين قالوا بنجاسة الخمر، وبيان أن قولهم هذا لا يستلزم أن

يكون العطر الذي فيه جزء كيماوي من الخمرة خمرًا نجسًا مثلها، وهذا بيان

موضح بتسعة وجوه، وأما الأمور التي تتعلق بالموضوع من رسالة سعادة مختار

بك فهي مع بيان الحق فيها:

(1)

زعمه أني أسأت الظن بالأئمة الأربعة (رضي الله تعالى عنهم)

وزعمت أنهم حرَّموا على الأمة شيئًا بغير برهان من الله ورسوله، وزعمه هذا

يقتضي أن كل مخالف أحدًا في رأيه أو قوله فهو مسيء للظن به، فكل عالم له قول

أو رأي مسيء للظن بجميع الأئمة والعلماء المخالفين له فيه، كلا إن الذي يتبع

الدليل يقول ما ظهر له ويعذر مخالفه ويعلم أنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه إلا بدليل

ظهر له، وأنه معذور ومأجور وإن لم يوافق الحق ويرى أنه مكلف بما ظهر له بعد

البحث بقدر الطاقة لا بما ظهر لمخالفه.

(2)

دعواه أن الإجماع قد انعقد على نجاسة الخمر: وهو معذور على هذه

الدعوى؛ لأن بعض من ألَّف في الفقه ذكرها، وغاية ما يصل إليه علم مثله أن

يرى في كتاب شيئًا فيسلم به تسليمًا، أما الوصول إلى التحقق من الدعوى، وإلى

وجه كون الإجماع حجة فهو بعيد على مثله من العامة، وإذا سلَّمنا بذلك وبطل

الطريق الأول من جوابنا في إثبات طهارة الأعطار الإفرنجية فهل تنفعه هذه

الدعوى في إثبات أن العطر الذي يقول الكيماويون أن فيه مادة الكحول هو خمر

بالإجماع، الإجماع لا يعرف إلا بالنقل الذي لا معارضة فيه، ولا نقل في هذه

الأعطار، فتعين أن تكون مسألة اجتهادية إن كان هناك وجه للقول بنجاستها.

والتحقيق أن دعوى الإجماع غير صحيحة، وما الوصول إلى معرفة الإجماع

على قول الجمهور بإمكانه ووقوعه بالأمر السهل، قال حجة الإسلام في كتابه

(فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ما نصه: (ولو أنكر ما ثبت بالإجماع فهذا

فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصلون لعلم

أصول الفقه، وأنكر النظام كون الإجماع حجة أصلاً، فصار كون الإجماع حجة

مختلفًا فيه) وقال في فصل آخر منه: (وأما ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من

أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد، فيتفقوا على

أمر واحد اتفاقًا بلفظ صريح، ثم يستمروا عليه مدة عند قوم وإلى تمام انقراض

العصر عند قوم، أو يكاتبهم إمام في أقطار الأرض فيأخذ فتاويهم في زمان واحد

بحيث تتفق أقوالهم اتفاقًا صريحًا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلاف بعده، ثم النظر

في أن من خالف بعده هل يكفر؟ لأن من الناس من قال إذا جاز في ذلك الوقت أن

يختلفوا فيحمل توافقهم على اتفاق - أي مصادفة - ولا يمتنع على واحد منهم أن

يرجع بعد ذلك وهذا غامض أيضًا) .

ولهذه الصعوبة والغموض قال بعضهم: إن الإجماع غير ممكن، وقيل إنه

ممكن ولكن لا يقع، وقيل بل وقع ولكن لا سبيل إلى العلم به، ثم اختلفوا في

الاحتجاج به بعد فرض العلم بوقوعه، واشترط القائلون بكونه حجة قطعية نقله

بالتواتر وليس هذا بيسير أيضًا، فكم من مدَّع للإجماع قد خولف وأنكر عليه،

وأقرب الطرق إلى معرفة الإجماع والتواتر نقله بالعمل، وأبعدها ما كان موضوعه

الترك، فإذا نقل الألوف عن الألوف عملاً دينيًّا فهو دليل على أنه مشروع، أما

نقل الترك بالإجماع فمتعذر لأنه أمر عدمي ومعرفة سببه إن نُقل في غاية الغموض

وقد صدق الإمام الغزالي في قوله إن العلم بالإجماع لا يحصل بمطالعة تصنيف

ولا تصنيفين، وأنى لعامي مثل مختار بك بهذا الاطلاع.

وقد قال بطهارة الخمر نفسها فقيه المدينة الإمام ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك

كما في شرح المهذب للإمام النووي وكذلك الإمام داود، قال العلامة الفقيه أحمد ابن

العماد في كتابه (رفع الإلباس عن وهم الوسواس)[1] ما نصه: (ومنه الخمر

وهي نجسة خلافًا لربيعة شيخ مالك وداود؛ فإنهما قالا بطهارتها كالسم الذي هو

نبات الحشيش والمسكر، وحكى الغزالي وجهًا في المحترمة، ووجهًا في أن باطن

حبات العنب المستحيلة خمرًا طاهرًا، وحكى الشيخ تقي الدين رحمه الله في شرح

الموطأ طهارة - بياض في الأصل - والمحترمة هي التي اعتصرت بقصد أن تُتخذ

خلاًّ) ثم ذكر القول بأن ما اعتصره أهل الكتاب من المحترمة، أي بناء على عدم

تكليفهم بفروع الشريعة فكل خمور أهل الكتاب طاهرة على هذا الوجه.

(3)

بحثه في كون الكحول مفسدة واستدلاله بثلاثة أمور:

(الأمر الأول) كونه من المسكرات، وكون كل خمر نجسًا، ويرده (أولاً)

أن الكلام في العطر لا في الكحول، والعطر ليس شرابًا مسكرًا ووجود الكحول فيه

لا يجعله خمرًا؛ لأنه موجود في اللبن الحامض الطاهر بلا خلاف، وفي النبيذ

الحلال الطاهر في مذهب الإمام أبي حنيفة الذي ينتمي إليه المعترض، وإن لم

يعرف مذهبه، وفي غير ذلك كما ذكرنا في وجوه جواب السؤال و (ثانيًا) أن أبا

حنيفة خص الخمر بالنيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد وسكن عن

الغليان، واكتفى صاحباه بالغليان والاشتداد، وما عدا الخمر من المسكرات كالباذق

والمنصف والطلا فقد اختلف الحنفية في نجاسته، هي هل مغلظة كالخمر أم مخففة

وفي ظاهر الرواية أن نجاستها خفيفة حتى يعتبر فيها الكثير الفاحش، فلو فرضنا

أن هذه الأعطار مثلها فلا يحكم ببطلان صلاة من تعطر بها، إلا إذا بلغ تضمخه

بها ربع الثوب فأكثر وهذا لا يكاد يوجد.

(الأمر الثاني) كون هذا الكحول من المواد المحرقة والعناصر القابلة

الالتهاب قال: (وما كان كذلك فتأثيره في الجسم أمر مسلَّم) ولم يذكر ما هو التأثير

المسلَّم، وظاهر السياق أن العطر الذي فيه الكحول يضر بجسم من يتطيب به إذا

أصابه وهي دعوى تكذبها التجربة، وللكحول منافع في الطب كثيرة يعرفها أهلها.

(الأمر الثالث) كون (كل ذي ذوق سليم يحكم بأفضلية أعطار البلاد

الشرقية على هذه الأعطار الإفرنجية) وفيه أن الحكم بأفضلية الأعطار الشرقية

يقتضي الحكم بفضيلة الأعطار الإفرنجية، لا بأن فيها مفسدة، ولعله لم يفهم أن

العبارة تفيد هذا المعنى لأنه حجة عليه، على أن هذه مسألة اقتصادية، وكلامنا في

حكم الطهارة والنجاسة لذاته لا لأهل الشرق خاصة؛ فإن أهل الغرب مكلَّفون

بالإسلام وفيهم الآن مسلمون.

(4)

تحريفه الوجه التاسع من وجوه جواب المنار، وهو أنه ثبت في

الكيمياء أن مادة الكحول توجد في غير هذه الأعطار من الأكل والشرب والدواء،

لاسيما المتخمر منها كالعجين واللبن الحامض، فإذا حكمنا بنجاسة ذلك كله نوقع

الأمة في الحرج المنفي بالنص، فجاء المعترض ينفي الحرج في استبدال الأعطار

الشرقية بالأعطار الإفرنجية، ونحن لم نقل أن الحرج في الاستبدال، وإن أدري

أذلك عن سوء قصد أم عن سوء فهم.

(5)

إيراده حديثًا ورد في آنية أهل الكتاب وهو (إن وجدتم غيرها فلا

تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها) واستدلاله به على أنه لا ينبغي أن

ننخدع لأواني الأعطار الإفرنجية المزخرفة، فقد نهينا عن أوانيهم، وأحسن في

كونه لم يستدل بالحديث على نجاسة أوانيهم مع أن أبا ثعلبة رضي الله عنه

السائل عن الأواني ذكر أنهم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، أما كون الحديث

إرشادًا للكمال في المعاملة والاستعمال، وغير دال على النجاسة فأدلته كثيرة،

وأعظمها حل طعامهم بنص القرآن في سورة المائدة، وهي آخر ما نزل، ومنها ما

ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وأكل

من الشاة التي أهدتها إليه يهودية خيبر ومنها أنه أكل من الجبن المجلوب من بلاد

النصارى - رواه أحمد وأبو داود - وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إليه

يهودي. رواه أحمد.

له بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

ابن العماد توفي سنة 808، وتوجد نسخة من كتابه هذا في دار الكتب الخديوية بخط يحيى ابن محمد المناوي كتبت سنة 1902 كذا في الفهرس، ولم أتبين ذلك من الكتاب.

ص: 821

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

نحن ولا كفران لله كما

قد قيل في السارب أخلى فارْتَعَى

إذا أحس نبأة رِيعَ وإن

تطامنت عنه تمادى ولها

نهال للخطب الذي يروعنا

ونرتعي في غفلة إذا انقضى

إذا أزعج الصائح الغنم السائمة بنبأة شديدة تجفل مرتاعة وتترك الرعي هنيهة

ثم لا تلبث أن تعود إليه بعد سكوت الصائح، فإذا عاد إلى الصيحة عادت، فإذا

طامن لَهَتْ وتمادت، ذلك مثلنا في رأي ابن دريد قاله من نحو ألف عام أيام كنا في

أوج مجدنا، وبحبوحة عزنا، وهو إنما يصدق علينا في هذه القرون الأخيرة التي

غلبت علينا فيها المعيشة الفردية، وإن كانت خسيسة بهيمية، وجهلنا معنى الأمة

ومقوماتها، والحياة الاجتماعية وحسناتها، فلا يبالي الواحد منا بما ينزل بالأمة،

إلا إذا آلمه هو وأهمه، وإننا لنعد انطباق مثل السائمة علينا مبدأ ارتقاء وشعور

جديد في الدهماء.

ما أكثر النبآت والهيعات التي أجفلت المصريين في غضون هذه السنين؛

ولكنها لم ترتق بهم إلى تدارك الخطب وترك اللهو واللعب، ألم تر أن نبأة

المحاكم الشرعية القارعة، وصيحة إصلاحها الصادعة، كانت قد راعت الناس

واعتقدوا أن غرض الحكومة سيطرة المحاكم الأهلية على المحاكم الشرعية، أو

إدغامها فيها لتمحى بالكلية، ولما سكت الصائح عاد أهل هذه المحاكم إلى ما كانوا

عليه لا يصلحون عملاً، ولا يقوِّمون درأ ولا يقيمون عوجًا، وسكت عنهم الناس

الذين أجفلتهم الصيحة الأولي لا ينذرونهم بعودة الافتيات، ولا يوصونهم بالاستعداد

لما هو آت، فماذا ينظرون، إذ ظلوا في غفلتهم يعمهون؟ {مَا يَنظُرُونَ إِلَاّ

صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ

يَرْجِعُونَ} (يس: 49-50) ولكل شيء قيامة، إذا حلَّت لا تنفع الندامة.

وهذه صيحة استبدال اللغة العامية السخيفة، باللغة الصحيحة الشريفة -

استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير - قد طرقت المسامع، وآلمت الطبائع،

أستغفر الله، إنه لم يؤلم الطبائع إلا هذا السجع؛ ولكن الصيحة حركت الألسنة

والأقلام إلى تفويق سهام الملام، وإقامة الحجة على الصائح بأنه يقصد منفعة

قومه لا منفعة الذين يدعوهم إلى ترك لغة دينهم وشريعتهم وعلومهم وآدابهم التي

ضعف بضعفها فيهم كل مقوم من مقومات حياتهم، وفي محوها من ألواح التعليم

محو أمتهم من لوح الوجود الاجتماعي، وماذا عسى يُفيد الاحتجاج بالقول إذا لم

يؤيده العمل والسعي في ترقية اللغة الصحيحة، وجعلها لغة التخاطب والتعامل؟

أرأيت أيها القارئ إذا اتخذنا جفول أهل الشعور من هذه الصيحة وسيلة لاستنجاد

القائمين على تعليم اللغة والإلحاح عليهم بوجوب إصلاح التعليم بحيث يستعمل

المتعلم اللغة في القول والكتابة، أيقولون أن هذه لُباب النصيحة أم يقولون إنه إهانة

للعلماء والمدرسين، وإنما حياتنا بتعظيمهم وتبجيلهم والرضا بكل ما يكون منهم

سواء اغْتُنِمَتْ الفرصة أم فاتت، وعاشت لغة القرآن أم ماتت؟

أعني بصيحة اللغة كتابًا ألفه المستر ويلمور المستشار في محكمة استئناف

مصر الأهلية باللغة الإنكليزية، يدعو فيه إلى جعل اللغة العامية المصرية لغة

التعليم العامة بدلاً من اللغة العربية الصحيحة، ويحاول إقناع المصريين بأن هذا

خير لهم وأقوم سبيلاً، وما هي بالصيحة الأولى؛ وإنما هي ترجع لصوت (ولهلم

سبتا بك) الألماني أمين دار الكتب الخديوية من قبل (المتوفى سنة 1883) فإنه

وضع حروفًا إفرنجية للغة العامية المصرية لأجل إحيائها، وألف كتابًا في صرفها

وكتابًا في أمثالها وقصصًا عامية، ونشر ذلك باللغتين الألمانية والفرنسوية؛

ليرغب أوروبا في تنفيذ مشروع تعليم اللغة العامية بالحروف الإفرنجية، وجعلها

لغة العلم والتعليم، وقد انتدب بعض أغنياء الإفرنج منذ سنين لذلك، وأرصد له

مالاً جمًّا ونشرت يومئذ كراسة في الحث عليه وترغيب الآخذ به بالمال، ووزعت

هذه الكراسة مع الجرائد اليومية الكبرى حتى المؤيد، وكتبنا وقتئذ مقالتين مطولتين

في الرد والتنفير عن المشروع فنَّدنا فيهما وجوه الخديعة والخلابة وكشفنا الغطاء

عن ضروب التدليس والتلبيس في الموضوع بلهجة شديدة، فليرجع إليهما من شاء

في العددين 5 و 6 من السنة الأولى.

لم نكتف في المقالتين بتفنيد وجوه منافع المشروع التجارية والتعليمية

والوطنية التي زعمها ناشر الكراسة يومئذ؛ ولكننا نبهنا أيضًا على تقصيرنا في

إحياء اللغة الصحيحة ونشرها بالتعليم القويم حتى كادت تمحى وتزول، وحتى

صار بعض الناس يعتقد أن إحياءها محال، وعلى الخطر الذي يتهددها إذا تمادينا

في إهمالنا وإغفالنا؛ ولكن قومنا لا يروق لهم إلا القدح والطعن في الأجانب ومدح

أنفسهم، وإذا لم يضرهم هذا لما منحهم الأجانب من الحرية فإنه لا ينفعهم ولا يقيهم

من سهام الأجانب؛ وإنما الذي يقيهم وينفعهم هو النظر في تقصير أنفسهم والتبصر

في عيوبها، ثم الرجوع عليها باللائمة، وحملها على اتقاء السهام التي تصوبها

إليهم حرب تنازع البقاء بالمِجن الدافع، والتدبير النافع.

ليت المؤيد الأغر لم ينشر مقدمة كتاب المستر ويلمور لأجل عرضها على

الكتاب للرد عليها، فقد كان الأولى أن يبطل شبهاته من غير أن ينشرها ويقررها؛

فإن من الناس من يلتاث بالشبهة وإن كانت تتضاءل افتضاحًا، وتدق في نظره

الحجة وإن كانت تتبختر اتضاحًا، على أنه لا خوف على المصريين من الانخداع

لتلك الشبهات مهما موهها صاحبها مادامت شبهات قولية، كما أنه لا رجاء في

اقتناع المستر ويلمور وأمثاله بما نكتب ونقول؛ وإنما العبرة بالأعمال ومن الناس

من إذا قال فعل وبعضهم يقول ما لا يفعل:

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم

مذق اللسان يقول ما لا يفعل

لهذا ختمنا المقالة الثانية من تينك المقالتين بهذه العبارة:

(إذا ألقي ما شرحناه على المتحذلقين من المصريين ينغصون رؤوسهم،

ويحدجون بأبصارهم، ويقولون: إكبار وتهويل، وصياح وعويل، وما هو إلا

كلام بكلام، أما العقلاء فيعلمون أنه كلام حق، وأن الإفرنج إذا قالوا فعلوا، وإذا

عملوا أدركوا، وأنهم ما دخلوا قرية ولا خالطوا أمة إلا أفسدوا كيانها وجعلوا أعزة

أهلها أذلة وكذلك يفعلون، إن نفوس سكان الولايات المتحدة نيف (كذا) وسبعون

مليونًا وليس فيهم هندي من السكان الأصليين، لا أبعد عليك في المثال، هذه بلادك

التي تسكنها أيها العاقل انظر فيها إن كان لك بصر، واعقل إن كان لك لب، ثم

ارجع إليَّ باللوم والتفنيد، أو بالشكر والتحبيذ) .

أرأيت يا من نسي الصيحة الأولى كيف تبعتها الرادفة، فتدبر وتفكر واعلم

أن الخَطْب لا يُدفع بخطب الخطباء، ولا بكتابة الأدباء، وإن كان لا بد من قول

ينفع إذا ضر السكوت وخيفت مغبته؛ وإنما يجب العمل لإحياء اللغة العربية بالفعل

فإذا صدقتنا في العمل لحفظ لغتنا المقدسة فلا يقدر أحد على إضاعتها مهما بلغت

قوته، وعلت صيحته، ومن أضاع حقه فلا يلومن الناس على إضاعته أو هضمه

لمنفعة أنفسهم.

إذا ما أهان امرؤ نفسه

فلا أكرم الله من يكرمه

فعلى من يدَّعي الغيرة على لغة دينه وملته، وقد رأى المعاول هيئت لتقويض

أركانها، وهدم بنيانها، أن يجدد لها بيتًا معمورًا، ويجعل عليها حجرًا محجورًا،

فإذا قال كلمة في الهادمين، فليقل عشرًا في البنائين؛ لأنك إذا أنصفت - وغير

الإنصاف لا يفيد - لا يمكنك أن تقول في محاول الهدم إلا أنه يفعل ذلك لمصلحة

قومه وأمته لا لمصلحتنا ولك مع المكلف بالبنيان كلام كثير إذا أحسن البناء، وكلام

كثير إذا أبى أو أساء، وأقترح الآن شيئًا واحدًا وهو تعوُّد متعلمي اللغة الكلام

العربي الصحيح، واستنجاد مشيخة الأزهر الشريف وطلب مساعدتها على ذلك

ليكون علماؤنا هم القدوة لنا في إنقاذ لغة الدين من مخالب المغتالين، وذلك بأن تلزم

المدرسين والمتعلمين بالنطق بالعربية الصحيحة في الدروس، ثم في غير الدروس

وإن لزهاء عشرة آلاف متعمم لتأثيرًا كبيرًا في إحياء هذه السنة التي هي حياة

جميع الفروض والسنن.

أما إصلاح التعليم لترتقي به اللغة فقد كتبنا فيه مرارًا كثيرة، ولو كان لنا

مساعدون يطالبون بالقول والكتابة لنفع القول وأفاد، وبلغنا به المراد، وإن لنا

لحملة على معلمي العربية في المدارس؛ فإن أكثرهم مقصر في أداء ما يفرضه

عليه ديوان المعارف، وكان الواجب عليهم أن يجتهدوا في الزيادة عليه إذا وجدوا

إليه سبيلاً.

_________

ص: 827

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نساء المسلمين

تابع المحاورة الأولى بين فاطمة علية هانم كريمة جودت باشا

وبعض نساء الإفرنج

ذكرنا في آخر ما أوردناه في الجزء التاسع عشر أن مدام ف

سألت مؤلفة

المحاورات عن رواتب الخدم، وكيفية انتخاب رئيستهن، وعن كيفية ابتياعهن،

ووعدنا بالجواب عن الأخير لفائدته، أما الانتخاب والراتب فأخبرتها أن ربة البيت

تختار أمهر الجواري وأذكاهن لرياسة الخدم، وأن سيدهن يعطيهن رواتب شهرية

زيادة على مؤنتهن، ويجهز الجارية التي تشب وتريد التزوج بجهاز لائق، وربما

اقترن هو بها، أما الابتياع فقد أجابت عنه بما كتبته وهو: (أن ثمن الجارية يُدفع

للبائع فلا تستفيد هي منه؛ وإنما هو لسيدها الأول أو أقاربها، والدين الإسلامي

جعل للجواري علينا حقًّا يجب أداؤه، ولذلك نكافئهن بما علمت) .

(ف..: يظهر أن الجواري من نوع الخوادم.

أنا: نعم إنهن يشبهن اللواتي يخدمن بالمشاهرة أو المسانهة؛ وإنما تكون

الخادمة بأجرة معينة إلى أجل محدود؛ لأن الإجارة تكون فاسدة مع الجهل بالأجرة

أو مدة العمل، وأما الجارية فإن مدة خدمتها غير معلومة، وكذلك ما ينفق عليها في

أثنائها فهي شبيهة بالإجارة الفاسدة؛ ولكن التعامل جرى بهذا وما ينفق عليها يكون

بحسب سعة سيدها وصدقها في الخدمة، فهي قيمة تعرف بالعُرْف والعادة المتبعة،

والشريعة توجب علينا عتق الجارية بعد تسع سنين في حال السعة وبيعها في حال

الحاجة من ذي مروءة يعتقها [1] ، على أن العرف والعادة قضيا بالعاب والذام على

الذين يمسكون الجواري بعد سبع سنين ولا يعتقونهن.

أما أهل المروءة والدين من ذوي البيوتات فلا يمسكون الجارية أكثر من سبع

سنين؛ لأن في الدين أسبابًا كثيرة تقضي بعتق الرقيق، فمن ذلك أن من يقول: إذا

أصبت كذا فعلي أن أعتق عبدًا، فيصيب ذلك، يجب عليه العتق وفاء بالنذر، ومن

الناس من تصيبه النعمة فيعتق قيامًا بفضيلة الشكر، ومن ذلك أن من أفسد صوم

يوم واحد من رمضان وجب عليه أن يعتق عبدًا إذا قدر، فإن لم يستطع فعليه أن

يصوم شهرين متتابعين - وفي كلامها 61 يومًا - ومن العادات المتبعة عندنا أن

الجارية التي تخدم الطفل الصغير يعتقها سيدها في اليوم الذي يُرسل فيه ذلك الولد

إلى المدرسة، وأكثر الصغار يرسلون في السنة الرابعة، فكأن مدة رق المربيات

أربع سنين.

ف: ما أحسن ما تقولين إلا أن الخادمة تخدم حيث تشاء، والجارية مكرهة

على البقاء في منزل سيدها وإن كان ظالمًا.

أنا: إن تبرمت الجارية من منزل وأرادت تركه يكفي في ذلك أن تقول

بيعوني فيجاب طلبها، وقد جرت العادة بأن لا تُباع لمن لا يلائمها، وأما الشرع

فإنه أوصى بالأرقاء وحسن معاملتهم، وحرَّم الظلم والجفاء، فمن ظلم رقيقه فالحاكم

الشرعي يجازيه بما تفرضه العدالة متى وصل الأمر إليه.

ف: يستفاد من هذا أنه لا فرق بين الجواري والخوادم.

أنا: كلا إنه ليس للخوادم علينا من الحقوق مثلما للجواري، فليس للخادمة إلا

أجرها الشهري، وإذا استغنينا عنها نأذن لها بأن تذهب حيث تشاء، وهي التي تُعِدُّ

لنفسها الجهاز إذا أرادت الزواج، وإذا فارقها زوجها فلسنا مكلفين بها، فهي التي

تبحث لنفسها عن منزل تخدم فيه لتعيش، والجارية التي يفارقها زوجها تعود إلى

دار سيدها كأنه بيت أبيها، وهو يختار لها الزوج الملائم كما أنه يتولى أمر أولادها

ويربيهم ويعلمهم، ومن يظلمها زوجها ترجع إلى سيدها ليدافع عنها وينصرها،

وإذا توفي زوجها ولم يترك لها ما يكفيها ترجع بأولادها إلى بيت سيدها كهذه

الجارية التي ترينها من الكَوّ (النافذة الكبيرة) آخذة بيد ولدها الصغير طائفة به في

فناء الدار، وكفالة المعتوق إذا عجز عن القيام بأمر نفسه واجبة شرعًا على سيده

يُلزمه بها القاضي إذا هو امتنع، وفي مقابلة هذا إذا مات العتيق عن مال يكون

للمعتق نصيب منه فهو إذن معدود من أهل البيت وأفراد الأسرة - فات الكاتبة أن

تذكر هنا حديث: (مولى القوم منهم) والمولى: العتيق، ويُطلق على السيد وهو

الأصل - وإننا فوق هذا كله نأتمن الجواري على مفاتيح صناديقنا ولا نأتمن الخوادم

إلى هذا الحد؛ لأن شدة صلة الجارية بسيدها تمنعها من الخيانة كما لا يخون الأولاد

والديهم إلا نادرًا، ولهذه العناية لم يتفق أن جارية أَبَقَتْ تاركة كنف سيدها ولجأت

إلى أهلها، مع أنهن مطلقات السراح يذهبن حيث شئن.

مدام ف..: لا جرم أن هذا لنفورها من أهلها الذين باعوها.

أنا: عفوًا أيتها المدام فإن سمحت أنبأتك بالحقيقة.

ف..: عجبًا تستأذنين في شيء أنا أرجو بيانه بكل رغبة؛ فإن ما سمعته

منك في الأرقاء يباين ما كنت أعلمه من كل وجه، فأرجوك أيتها السيدة مواصلة

الحديث.

أنا: إذا وُلد للجراكسة بنت جميلة ينوّمونها بالهمهمة والتغريد، وأغانيهم

لهؤلاء البنات مشتملة على ذكر مستقبلهن في الآستانة كقولهم (إنك ستكونين في

الآستانة زوجة لأحد الباشوات فلا تنسي الأهل والأقربين) كطريقة الإفرنج في ذلك

إذ يُسمعون أطفالهم لقب (جنرال ومارشال) لينشئوهم على حب الجندية، ومتى

صارت البنت الجركسية تفهم القول يملأون سمعها بذكر سعادة عمتها وخالتها في

الآستانة فيشتغل خيالها بذلك، ويكون قلبها متعلقًا بقرب يوم السعادة الموعود حتى

إذا قاربت الإعصار أو الإرهاق، وصارت تستحي من الكلام مع والديها بذلك

تكاشف به والدتها وأترابها شاكية من إرجاء إرسالها إلى الآستانة، فكل من البنت

والوالدين ينتظر ذلك اليوم الذي يظفرون فيه بخاطب لا يكلفهم نفقة ولا جهازًا، بل

هو الذي يمطر على تلك الغادة الحلي والجواهر، ويغمرها بالسعادة والنعيم،

فتفيض على أهلها من فضل نعمتها ما تفيض، فهي تنفصل منهم ببسالة وشهامة

ولسان حالها يقول بعزة وصلف: (إنني لا أحملكم عناء في اختيار زوج لي؛ فإن

جمالي البارع الذي أراه في المرآة هو الذي يختار لي، وسترون كيف أكافئكم على

عنايتكم بي إلى أن بلغت هذا الطول) وظاهر أيتها المدام أنهم إذا لم يرسلوها إلى

الآستانة؛ فإنها تكون لهم عدوًّا وحزنًا.

لها بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

لا ندري من أين جاءت الكاتبة بهذا الحكم الذي نسبته إلى الشرع.

ص: 832

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(أشهر مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة)

لنا كلمة في كتب التاريخ العربية قلناها منذ سنين، وهي أن هذه الكتب

جمعت مادة من جزئيات الحوادث والوقائع لمن يريد أن يؤلف في علم التاريخ،

وذلك أن العلم أحكام وقواعد كلية تُستنبط من الجزئيات، وأول من اهتدى إلى علم

التاريخ أو فلسفة التاريخ هو الحكيم العربي ابن خلدون الشهير فوضع مقدمته في

فلسفة التاريخ بعد جمع مواد تاريخه كلها، أي بعد تسويده على ما اعْتَقَدَ، وكان

ذلك في عصر تدلي العلم والمدنية في الأمة الإسلامية، لهذا لم يكن لتلك المقدمة

النفع المنتظر حتى دالت العلوم إلى الغرب فنقلوها إلى لغاتهم، وكانت الأصل لعلوم

العمران والسياسة والاجتماع التي توسع الإفرنج فيها ما شاءوا، وكانت كتب

التاريخ هي المنبع لهذه العلوم بما نقَّحوها وهذَّبوها وأوردوا الحوادث فيها مقرونة

بعللها وأسبابها موصولة بذكر آثارها ونتائجها، وطالما تمنينا على الفضلاء ومنينا

أنفسنا بوضع تاريخ إسلامي على هذا النسق، فحقق الله رغبتنا بما وفق صديقنا

الحميم الكاتب الفاضل رفيق بك العظم الشهير لتأليف كتاب مطول في ذلك، وهو

ما رأيت اسمه في العنوان، ونوهنا به في آخر الجزء الماضي.

رأى المؤلف أن يبرز هذا التاريخ الإسلامي في لباس كتب سير الرجال

ومناقب العظماء؛ ليكون أقرب إلى القبول والتأثير، فجعله تاريخًا لأشهر علماء

المسلمين في السياسة والحرب من الخلفاء والملوك والقواد الذين شادوا للإسلام

صروح العز والمجد.

ويذكر بمناسبة كل شأن من شؤونهم في أخلاقهم وأعمالهم ما لذلك الشأن في

نفسه من التأثير في العمران، وما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن لا يكون، وقد

أطلق لقلمه الحرية في بيان ما يراه حقًّا وصوابًا مع النزاهة في التعبير، والتلطف

في التصوير، والتنبيه على مواضع الاعتبار، وطرق الاستبصار، وجعل الكتاب

أقسامًا لكل دولة كبيرة قسم يمثله في سيرة أعظم رجالها، وقد صدر الجزء الأول

من القسم الأول المخصوص بدولة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، وفيه

سيرة الخليفة الأول وقائده الشهير خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهما.

وفي هذا الجزء من المباحث المفيدة بحث الخلافة، وبحث الردة وحقيقتها،

وأنها ليست كما يتوهم الكثيرون أن الذين قاتلهم الصِّدِّيق كانوا قد تركوا الإسلام

ورجعوا إلى الشرك، وبحث السياسة الإسلامية، وبحث القضاء في الإسلام،

وبحث الحكومة الإسلامية والعمال والكتاب، وبحث الألقاب والرتب، وبحث حكم

أهل الذمة وأصل الامتيازات التي للنصارى في البلاد الإسلامية، وغير ذلك من

الفوائد التي لا توجد في غير هذا الكتاب، وقد رغب إلينا صديقنا المؤلف أن ننتقد

الكتاب كما هو شأن من يكتب لينفع، فنعده بأننا بعد أن نُتم مطالعته نظهر ما عساه

يظهر لنا أنه يُستدرك عليه لتكون الخدمة أكمل وأتم، ونحث كل قارئ بالعربية أن

يقرأ هذا الكتاب لينتفع به، ويكون عونًا للمؤلف على تأليف بقية الأجزاء ونشرها.

***

(الفقه والتصوف)

مجموعة مؤلفة من ثلاث رسائل في انتقاد كتب الفقه والأصول والتصوف

لكاتبها العالم الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الزهراوي، وقد كنا نشرنا الرسالة

الأولى في المنار، وطلبنا من العلماء والفقهاء أن يكتبوا إلينا رأيهم فيها، وذكرنا

أن لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في أسباب الخلاف تصلح أن تكون جوابًا على

هذه الرسالة، وأننا سننشرها وملخصها في المنار، ثم وردت علينا الرسالة الثانية

مع رسالة التصوف فلم نشأ نشرهما على احترامنا حرية البحث والنقد، واعتقادنا

أن العلم لا يرتقي إلا بها، وذلك لأن مثل هذا النقد لا يكون مفيدًا إلا إذا تناوله

الخواص بالمناظرة المعتدلة، وإننا نرى أهل العلم الديني يلجأون في بلاد الاستبداد

إلى مقاومة من يخالفهم بالقوة، ونراهم في بلاد الحرية لا يحفلون بما يدور بين

حملة الأقلام وغيرهم من أمثال هذه المباحث، ولا يردون على ما يرونه منكرًا منها؛

لأنهم بمعزل عن العالم وسيره، وقد صرحنا عند نشر الرسالة الأولى بأن السبب

فيه إطلاعهم على بعض ما يدور بين الكُتاب ليكونوا على بينة منه، فلم يفد.

ولا سعة عندنا في الوقت لتعقب كل كاتب وإبداء رأينا فيما يكتبه، وقد كتبنا

رأينا في الفقهاء والصوفية في السنة الأولى، ونتذكر أننا قرأنا ذلك يومئذ على

فضيلة شيخ الأزهر وبعض علمائه، فقال الشيخ في المقالة إن كلامها شرعي لا

يعترض عليه، وذلك أننا ذكرنا محاسن القوم وذكرنا ما لا يوافق الشرع أو

المصلحة العامة مما يؤثر عن مجموعهم؛ ولكن رسالة الفاضل الزهراوي

مخصوصة بالمساوي؛ ولذلك كان يجب أن لا يطلع عليها إلا الخواص فطبعها خطأ،

وإن كان قصد مؤلفها حسنًا، فنحن نُجِلُّ غيرته ونحترم حريته ونمدح شجاعته،

على أنه أفرط فيها، ونتمنى أن يطلع العلماء على رسالته وينتقدوها.

***

(استدراك على مقالة السياسة والساسة الأخيرة)

فاتنا أن نستدرك في الجزء الماضي على هذه المقالة بعد العزم على ذلك، فإن

في بعض القول مجالاً للوهم، لا يهتدي فيه كل فهم، فمن ذلك قوله: (ماتت

الفرق الإسلامية التي أساس مذهبها العلم فقط كفرق المعتزلة والجبرية المحضة

مثلاً) يتوهم بعض الناس أن الكاتب يرجح هذه المذاهب وينفي العلم عن سواها،

وليس كذلك وإنما يعني أن قوامها البحث العلمي بدون أخذ الأمراء والحكام بها

وتأييدهم إياها، وفيه أن بعض الخلفاء العباسيين انتصر لبعض عقائد المعتزلة،

وكأنه لم يعتد به لأن المنتصرين لم يكونا هما السبب في القول بما انتصرا له ولم

يطل الأمد على ذلك، وفيه أيضًا أن عقيدة الجبر المحض لم تمت على ما فيها من

الجهالة والضرر، فإن كان الذين اخترعوها ودعوا إليها ودافعوا عنها قد انقرضوا،

فقد قام بنصرها من هم أقوى منهم تأثيرًا وأعز نصيرًا وهم أكثر فرق المتصوفة،

ولا تكاد تجد الآن عاميًّا من المسلمين إلا وهو يجادل في هذه العقيدة ويؤيدها بالعقل

والنقل، وكأن الكاتب لم يعتد بهذا لأن هؤلاء الجبرية لا يتمسكون بهذه العقيدة

ويناضلون دونها إلا بالنسبة لما يطلب منهم من الكمالات الشخصية والمنافع العامة

والاعتذار عن تقصيرهم في التمسك بدينهم وخدمة أمتهم.

ومن ذلك عدَّه أهل السنة في المذاهب التي أساسها الأغراض السياسية، يذهب

الوهم إلى أنهم غير مؤيدين بالعلم بقرينة قوله في المعتزلة والجبرية؛ ولكنه قال

هناك (فقط) وظاهر أن أهل السنة هم الذين نبغوا في كل العلوم الإسلامية،

والوهم في عبارته واضح وقد سماهم في الأصل (الحشوية) وحُذفت هذه الكلمة

من الأصل بإذن من جاء بالرسالة، ولعل الكاتب يرى أن أهل السنة هم أهل

الحديث وأن الذين يسمون بهذا الاسم غير متبعين السنة؛ ولذلك وقعوا فيما وقعوا

فيه من الخلاف وآثاره، ويظهر من كلامه بعد أنه يرى أن الوهابية أقرب من

غيرهم إلى هذا اللقب؛ لأن مذهبهم الحديث، ويظهر أيضًا أنه ليس مقلدًا لمذهب

معين والله أعلم.

***

من قصيدة للشاعر المجيد الشيخ مصطفى المنفلوطي يهنئ بها فضيلة مفتي

الديار المصرية بالعيد.

رويدك ما بعد الذي نلت غاية

ترام لمرتاد فأين تريد

ورحماك بالحساد إن نفوسهم

تقَطَّعُ أحشاء لها وكبود

يريدون ما لا يرتضي المجد والعلا

وما الله والإسلام عنك يذود

وما لك ذنب غير أنك سيد

وهل يذنب الإنسان حين يسود

ألست الذي أعلى بنا العلم بعدما

هوى وأجار الحق وهو طريد

وقام بأمر الدين يحرس مجده

ويكلأه والحارسون هجود

وجاهد فيه وحده وكأنما

له عُدد من بأسه وعديد

فبيَّنه للناس أبلج واضحًا

منيرًا وآيات الكتاب شهود

_________

ص: 836