المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (4)

- ‌غرة ذو القعدة - 1318ه

- ‌فاتحة السنة الرابعة

- ‌الداء والدواء

- ‌رواية عربية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌انتقاد الأخلاق والعادات

- ‌ثناء

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تصحيح

- ‌من الإدارة

- ‌16 ذو القعدة - 1318ه

- ‌الفضائل والرذائل [

- ‌خطبة أساس البلاغة

- ‌قصيدة جحدر في الأسد

- ‌تقريظ المنار الأنورواقتراح طلاب الأزهر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مهاجر أزهري

- ‌عريضة استرحام مسلمي بنغالة

- ‌كتاب الأمير عبد الرحمن خان

- ‌غرة ذو الحجة - 1318ه

- ‌مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

- ‌مضار اللَّثْم والتقبيل

- ‌الحنين إلى الوطن

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌ إميل القرن التاسع عشر

- ‌ملكة الإنكليز

- ‌البدع والخرافات

- ‌تهنئة واستماحة

- ‌وسام الافتخار المرصع

- ‌غرة المحرم - 1319ه

- ‌الانتقاد

- ‌الطلاق في الإسلام [

- ‌الفقه الإسلامي

- ‌العشق وحرية العرب

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينيةفي فرنسا

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 المحرم - 1319ه

- ‌أسئلة دينية وأجوبتها

- ‌الشيعة وأهل السنةاختلافهما

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌استلفات لإزالة شبهة

- ‌تصحيح غلط

- ‌تنبيه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلام

- ‌غرة صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌إظهار المدفون من تمثال فرعون

- ‌طُرَف الأعراب ونوادرهم

- ‌أسباب الحرب الروسية العثمانية

- ‌الوفد الإسلامي إلى الصين

- ‌زيارة القبور والمدرس المغرور

- ‌16 صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌تعليم العربية في المدارستأخره في تقدمه

- ‌نوادر البخلاء

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الطاعون في الكاب والمسلمون

- ‌غرة ربيع الأول - 1319ه

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌مكتوب في حق مسلوب

- ‌للفيلسوف الإسلامي

- ‌للشاعر العصري

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مصاب الصحافةوفاة بشارة باشا تقلا

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌16 ربيع الأول - 1319ه

- ‌التقليد

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌قسم الموالد والمواسم

- ‌غرة ربيع الثاني - 1319ه

- ‌التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

- ‌مدرسة خليل أغااحتفالها السنوي

- ‌المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادى الأول - 1319ه

- ‌علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلةشيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي [*]

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌عفة نساء العرب وبلاغتهن

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌تنبيه

- ‌إصلاح الطرق وأهلها

- ‌16 جمادى الأولى - 1319ه

- ‌وظائف علماء الدين

- ‌شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحيةوحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌التقاريظ

- ‌عيد الجلوس السلطاني

- ‌قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا

- ‌تعازٍ ووفيات

- ‌غرة جمادى الآخر - 1319ه

- ‌الرجال والنساء

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 جمادى الآخرة - 1319ه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌تهاني العلماء والأدباءلفضيلة مفتي الديار المصرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رجب - 1319ه

- ‌كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌ريشة صادق

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌رزء عظيم إسلاميوفاة أمير الأفغان

- ‌سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي

- ‌عودة أحمد عرابي

- ‌من إدارة المنار

- ‌مفاسد لا موالد

- ‌16 رجب - 1319ه

- ‌الاستقلال والاتكال

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌تغزل النساء

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌من إدارة المنار

- ‌غرة شعبان - 1319ه

- ‌الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌رثاء الأمير عبد الرحمن خان

- ‌انتقاد المقتطفوكتاب القسطاس المستقيم

- ‌تصحيح

- ‌الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي

- ‌الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

- ‌16 شعبان - 1319ه

- ‌الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في بلاد سيرالونمدرسة إسلامية في فوله

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رمضان - 1319ه

- ‌فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

- ‌السياسة والساسة

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌نساء المسلمين [

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1319ه

- ‌السياسة والساسةمن نحن ومن غيرنا

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌أخبار

- ‌16 شوال - 1319ه

- ‌حياة أمة بعد موتها

- ‌الأمراء والحكامبلاء الأمة بهم

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

- ‌نساء المسلمين

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌غرة ذو القعدة - 1319ه

- ‌نساء المسلمين وتربية الدينورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مؤتمر التربية والتعليم في الهند

- ‌العربية الفصحى والعامية المصريةمناظرة

- ‌وصف الشام

- ‌16 ذو القعدة - 1319ه

- ‌الخمر أم الخبائث

- ‌حرمة الخمر [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌نساء المسلمين

- ‌مدرسة محمد علي الصناعية

- ‌الدول في سلطنة مراكش

- ‌الرقص والعفة والحجاب

- ‌الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات

- ‌غرة ذو الحجة - 1319ه

- ‌إصلاح الدولة العلية

- ‌الإسلام والمسلمون

- ‌خبر سلمان الفارسي وإسلامه

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌سوانح وبوارح

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز

- ‌خاتمة السنة الرابعة

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السخاء والبخل

- تتمة

أَتَعَجَّبُ من ضلال عامة الناس في فهم حقيقة السخيّ، على ما له من نفوسهم

القدر العليّ، وإلباسهم البخلاء الشحاح، لبوس أهل الجود والسماح، أليس هذا

الخطأ من أهل العلم والأدب أجدر بنبث بئار العجب، بعدما رفع الله تعالى في

القرآن من ذكر أهل البر والإحسان، وجعل بذل المال في سبيله آية الإيمان،

وإمساكه آية الكفر والخسران؟ اقرأ إن شئت قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي

يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الماعون: 1- 3)، وقوله جل علاه: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ

الزَّكَاةَ} (فصلت: 6-7) وارجع إلى سورة الحجرات، واتل ما ورد في

الأعراب من الآيات، فقد بينت حقيقة المؤمنين بعد إنكار دعوى الإيمان على

أولئك المسلمين، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ

لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .

وناهيك بما ورد من الوعيد الشديد لمن يكنز المال، ووعد المتصدقين بمضاعفة

الأعمال، وبعدما جعل الشرع في أموال المسلمين وكسبهم من حرث ونسل وتجارة

ذلك الحق المعلوم، وفرض عليهم القيام بالنفقات الضرورية على من يعجز عن كسب

يذهب بضرورته، ويسدُّ من خلته، سواء كان من المسلمين، أم كان من الذميين،

وما هذا الإلزام بالبذل، إلا لتزكية النفس من رذيلة البخل، وتعويدها على الجود،

مما يسمح به الوجود، وقد ورد في معنى هذه الآيات أحاديث كثيرة من أشدها وعيدًا

حديث البخاري في الأدب، والترمذي في صحيحه وهو: (خصلتان لا يجتمعان في

مؤمن: البخل، وسوء الخلق) وفي رواية لغيرهما:(البخل والكذب) وحديث ابن

أبي شيبة وهناد والنسائي والحاكم والبيهقي وهو: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب

عبد أبدًا) .

هذا شأن السخاء والبخل في نظر الدين، وما سلم رجال الدين معه من

الخلاف في تعريفهما عندما أنشؤوا يضعون الحدود الجامعة المانعة للاصطلاحات

الشرعية لبعد العهد باللغة وما يتبادر منها، فقالت طائفة: إن البخل هو منع الواجب

من نحو زكاة ونفقة قريب. وهدم بعضهم هذا الحد قائلاً: إن الذي يعطي عياله ما

يفرضه القاضي من النفقة، ثم يضايقهم في لقمة زادوها، أو ثمرة من ماله أكلوها

يُعَدُّ بخيلاً، ومن كان بين يديه طعام فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه فهو

بخيل، وكذلك من يَرُدَّ اللحم إلى القصَّاب، والخبز إلى الخباز لنقصان حبة أو

نصف حبة يوصف بالبخل كما وصفوا مروان بن أبي حفصة.

وقال قوم: إن البخيل من يستصعب العطية في نفسه، وردّ هذا القول لإطلاق

لفظ العطية؛ فإن السخي الجواد قد يصعب عليه أن يبذل جميع ما يملك أو ما هو

في أشد الحاجة لنحو وفاء دين أو نفقة من تجب عليه نفقته، بل السخي الحقيقي

يستصعب وضع المال في غير موضعه، وإعطاءه لغير مستحقه كمن يعلم أنه ينفقه

في معصية، أو يستعين به على مفسدة.

واختلفت أقوالهم في السخاء والجود، فقال بعضهم: هو عطاء بلا مَنّ،

وإسعاف من غير رؤية. وهو قول غير مرضي؛ لأن البخيل قد يعطي لغرض من

الأغراض التي شرحناها في النبذة الأولى، ولا يمن لئلا يحبط عمله ويخيب سعيه

وقد يُسْعِف ولا يرى نفسه مُسْعِفًا لعلمه بأنه يمنُّ ليستكثر، ويُسْعِف لِيُسْعَف، وقيل:

هو العطاء من غير مسألة. وهو كما ترى. وفصل القشيري في رسالته بين

السخاء والجود، وفصل بينهما وبين البخل نقلاً عن أستاذه الدَّقاق، فقال: من

أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه

شيئًا فهو صاحب جود، ومن لم يبذل شيئًا فهو صاحب بخل. وهو قول مردود

غير محيط الحدود، وقيل: الجود: بذل الموجود. وهو قول من لا يميز في العطاء

بين التبذير والسخاء.

والحد الصحيح الذي يشهد له النص الصريح، هو أن السخاء أريحية،

وصفة نفسية، تقف بصاحبها في وسط، بين تفريط القبض وإفراط البسط، بحيث

يبذل المال بارتياح، إذا حَسُنَ في الشرع والعقل البذل والسماح، فإن بذل بغير

ارتياح فهو متكلف محمود؛ لأنه يربي نفسه على الجود، ولا يلبث أن يزول

التكلف فيكون سخيًّا، وتأنس نفسه بالبذل فيكون جوادًا حقيقيًّا، والبخل كيفية من

كيفيات النفس الخبيثة، وخلق من أخلاقها الرديئة، إذا عرض لصاحبه موجب البذل

في معروف، أو إغاثة ملهوف، أو مساعدة جمعية خيرية، أنشئت للمنافع الملية -

ينقبض صدره، وينقبض لصدره كفه، فيبخل بالدرهم والدينار، ويجود بالتعلات

ويسخو بالأعذار.

فمن أعذار البخلاء، الإحالة على المشيئة والقضاء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا

رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ويقولون: لو أراد الله بهؤلاء الفقراء خيرًا لأعطاهم،

ولو اقتضت حكمته أن يكونوا أغنياء لأغناهم. ولا يقولون: إن الله تعالى فضلنا

عليهم، فَلْنُفْض بشيء من فضل نعمه إليهم، وجعل بعضنا لبعض فتنة، فلنصبر

على منحتهم النوال كما صبروا على المحنة، وحسبنا أن اليد العليا خير من اليد

السفلى.

ومن أعذارهم أن أكثر السائلين، يظهرون على الغني بأخلاق المساكين،

فصلتهم ليست من البر، ولا يعود على المرء منها أجر، ومن أعذارهم أن إنفاق

المال في غير مقابلة عمل يغري الناس بالبطالة والكسل؛ ولذلك يذمه الأوربيون

وهم في ذلك محقون، وبذل المال وإمساكه هو سبب خسراننا وفلاحهم، وعلة

خذلاننا ونجاحهم.

فإن قيل لهؤلاء وأولئك: إن كنتم صادقين في اعتذاركم، وممسكين لما ذكرتم

من تعلاتكم وأعذاركم، ومُسْتَنين بسنة الأوربيين؛ لأنهم في نظركم من المصيبين،

وليست أيديكم بسلاسل البخل مغلولة، ولإبداء الشح الذميم مشلولة، فامسكوا عن

السائلين، وامنعوا الكسالى والبطَّالين، فالشريعة قد ذمت السؤال، وورد: إن الله

يكره العبد البطَّال؛ ولكن ما تقولون في العجزة والضعفاء، واليتامى والفقراء؟ هل

تجدون لكم عذرًا في تركهم سدى، أو تجدون على نار تقليد الأوربيين هدى؟ وما

تقولون في الإنفاق على المدارس العلمية، والجمعيات الدينية، التي بها نجح

الأوربيون، لا بالبخل والشح كما تزعمون؟ فلماذا لا تتلون فيها تلوهم، ولا

تحذون حذوهم؟ ألم يأتكم في كل يوم أنباء بذلهم الألوف والملايين على معاهد العلم

والصناعة والدين [1] ؟

ولا تحسبن أيها القارئ الكريم، الذي لم يكتنه خُلق الشَّحَاح اللئيم، أن هذه

الحجج الناصعة، والبراهين القاطعة، تقطع لسانه أو تمحو بهتانه، فتكون للسانه

خير عقال، وتحل يديه من السلاسل والأغلال، كلا إنه بعد بيان الآيات، ليتعذر

بعدم الثقة بالجمعيات، فإن كانت مؤسسة لإعانة العجزة والبائسين، يقول: إنما نحن

في حاجة إلى تربية أولاد الفقراء والمساكين. وإن كان من موضوعها التربية الملية

يقول: نحن أحوج إلى المدارس الصناعية، وإن كان من موضوعها ذلك، وقيل له:

إنه لا يتم إلا بمساعدة أمثالك. يقول: ليس عندنا استعداد للقيام بما يكون به الإسعاد

ولا يسمع لمن يقول: يجب إذن أن نسعى في إيجاد ذلك الاستعداد، ولا يتم ذلك إلا

بالبذل والإمداد؛ لأنه يرى أن إضاعة المال أن يدخل في غير الصندوق، أو يخرج

لغير الاستغلال، ويصح أن يقال في هؤلاء الأشحاء، ما قيل في الجبناء؛ لأن

الجبن والشح من جب واحد.

يرى الجبناء أن الجبن حزم

وتلك خديعة الطبع اللئيم

وأختم القول بأنه لا عذر لمسلم في دينه، ولا لوطني في وطنه، ولا لإنسان

في إنسانيته أن يرى أمته تتلاشى وتنحلّ، وملته تذوب وتضمحل، وهو يعلم أن

حياة الأمم في هذا العصر بالمال؛ لأنه هو الذي يرقي العلوم والفنون، وهو الذي

يربي النفوس والأخلاق، وهو الذي يوجد الصناعة، وينمي التجارة ويثمر الزراعة

وهو الذي ينهض بالدولة ويعطيها القوة والصولة، بل هو كل شيء؛ إذ لا يتم

بدونه شيء، يعلم هذا كله ثم لا يجود لإنقاذها بشيء من فضل ماله، لا سيما في

هذه البلاد المصرية، وفيها مثل الجمعية الخيرية، القائمة على خير أساس، ينفع

البلاد والناس، ومثل جمعية العروة الوثقى وجمعية المساعي المشكورة، وغيرهما

من الجمعيات الدينية الأدبية كجمعية شمس الإسلام، وجمعية مكارم الأخلاق،

وجمعية شمس المكارم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليساعد هذه الجمعيات

كلها أو بعضها، أو ما يوافق مشربه منها بحسب الاستطاعة {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن

سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ

اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .

_________

(1)

آخر أنباء المنح الكبيرة نبأ المثري الكبير كارنجي الإسكتلندي الذي وهب مدارس وطنه مليوني جنيه، وثروة هذا الرجل تقدر بخمسين مليون جنيه، ولم ننس ذلك اليوناني العظيم الذي توفي في السنة الماضية عن مليوني جنيه اكتسبها من القطر المصري، وأوصى بثلاثين ألف جنيه؛ منها ألف جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية بمصر، وهي هبة لم تر مثلها الجمعية من أغنياء المسلمين، ولو كان في مصر ألف كريم كهذا اليوناني (ليلا بوبلو) يُعَضِّدون هذه الجمعية لأنشئت في القطر مدارس صناعية، بل ومدرسة كلية تكون منبعًا لنهضة جديدة، ومن العار على كل غني في مصر أن لا يكون لهذه الجمعية مثل هذه المدارس، ولو شئنا أن نسرد ما نشرته الجرائد العربية لا سيما المقتطف من أخبار الهبات العلمية في أميركا وأوربا لاحتجنا إلى عدة مقالات.

ص: 241

الكاتب: محمد رشيد رضا

الدرس العشرون

الوحي وأقسامه

م (60) إمكان الوحي:

تقدم أن إثبات النبوة يتوقف على إثبات كون الإنسان مركبًا من جسد وروح،

وأن الروح ليست من عالم الملك المادي المشهود؛ وإنما هي من ملكوت أعلى

مغيب بحقيقته عنا، وقد عرفنا أرواحنا بآثارها، لا بكنهها وأسرارها، وكما يمتاز

أفراد من الناس بالقوة الجثمانية على سائر أهل قطرهم، أو على سائر الناس

كقيصر روسيا السابق إسكندر الثالث الذي كانت تلين في يديه المعادن، حتى إن

كان ليغمز الريال الروسي من وسطه بأصبعه، فيصير مجوفا كالفنجانة، ويضع

فيه زهرة ويعطيها لإحدى عقائل النساء في مجلسه ذاك، كذلك يكون لبعض

الأناسي قوة روحانية يفوقون فيها سائر البشر، فإذا كان من أثر القوة الجسدية ما

ذكرنا عن قيصر روسيا السابق؛ فإن من آثار قوة الروح في البشر ما هو أظهر من

ذلك وأبعد في التفاوت بين أفراد الناس.

آثار القوة الروحية سعة العقل والعرفان وشدة العزيمة والإرادة المساعدة على

العمل بما يحيط به العقل من المعرفة بالمصالح، حتى إننا نرى الرجل الواحد يحيي

أمة أو أممًا بعد مماته، ويجمع شملها بعد شتاتها، ويعمل ما تعجز عنه الملايين

كعمل السلطان صلاح الدين، في قهر ملوك أوربا وإعادة سلطة المسلمين، وكعمل

بسمرك في الوحدة الألمانية، وواشنطون في تحرير البلاد الأميركانية، حتى إن

بعض أهل الزيغ والجحود توهموا أن ما أعطيه الأنبياء من سياسة البشر وإصلاح

شؤونهم وتقويم مدنيتهم هو نحو ما ذكرنا عن هؤلاء الملوك والسياسيين، وما أبعد

ما يتوهمون؛ فإن هؤلاء الرجال ظهروا في أمم لها أديان تهديها، وشرائع وقوانين

تحكم بها، وجيوش منظمة تحمي حقيقتها، وتدافع عن حوزتها؛ ولكنها أساءت

استعمالها، أو رزئت بإهمالها، فأرشدوها إلى الانتفاع بما وهبت فعملت بإرشادهم

وأسعدوها بالرأي الصحيح فسعدت بإسعادهم، فأين هذا من حال الأنبياء

والمرسلين، الذين بُعثوا في أقوام وثنيين، يدعونهم إلى ترك ما هم عليه من

الاعتقادات، ونبذ ما ألفوه من التقاليد والعادات، ولم يكن لهم في إبان ظهورهم قوة

مُلك يعتمدون عليها، ولا شرائع يقتبسون منها، وهل قياس هؤلاء بأولئك، إلا

كقياس الحدادين بالملائك، وإنما ضربنا بهم المثل لبعد المسافة بينهم وبين سائر

الناس، كما أن المسافة بينهم وبين الأنبياء في البعد على نحو تلك النسبة أو أبعد

منها.

م (61) ضروب الوحي وأنواعه:

الوحي في اللغة اختصاصك أحدًا بكلام، أو إعلام تخفيه عن غيره، وأصله

الإشارة السريعة كما قال الراغب. ووحي الله إلى الأنبياء عبارة عما يختصهم به من

المعارف التي يريد أن يعملوا بها، وأن يبلغوها الناس للاهتداء بها؛ بحيث يكونون

على بينة من ربهم، وثقة تامة بأن ذلك من لدنه سبحانه وتعالى، ولا يعلم كنه

الوحي وحقيقته إلا من اختصهم الله تعالى به. وقصارى ما يصل إليه علمنا أن

نعرف بالدليل أنهم صادقون في دعوى الوحي وتبليغنا عن العليم الحكيم الرحمن

الرحيم ما مست حاجتنا إليه، وسبق التنبيه عليه، وأن نفهم ما ورد عنهم في ذلك

الوحي من بيانه، ورسومه وأقسامه.

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ

يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51) فالآية

الشريفة ناطقة بأن طرق كلام الله لأنبيائه ثلاثة: أحدها: الوحي بلا واسطة، وقد

غلَّب هذا الإطلاق في العرف والاصطلاح؛ وإنما تكون للنبي تلك الأنواع أو بعضها

بالقوة الروحانية الفائقة التي فطره الله تعالى عليها.

من وظيفة تلك القوة وآثارها تمزيق الحجب المادية التي حجبت الروح عن

معالمها، وكسر المقاطر الحسية [1] التي عاقتها عن العروج إلى عالمها، فتعرج

بإذن الله تعالى إلى الملكوت، وتتصل بمن شاء الله تعالى من عماره المقربين،

تتصل بالمَلَك المسمى بروح القدس والروح الأمين {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ

أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ

عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) .

يتلقى النبي بهذا العروج الروحاني عن الله تعالى من المعارف التي لا ينالها

الناس بكسبهم ما هم في أشد الحاجة إليه في نظام جمعياتهم، وإصلاح أحوال

معيشتهم؛ ولتطهير عقولهم من أدران الشرك والجهل بالله تعالى، وتنظيف نفوسهم

من لوث الأخلاق الذميمة والسجايا الرديئة، وتحليتهم بالعقائد الحقة والأخلاق

الفاضلة والآداب الصحيحة والعبادات البدنية المرضية التي تمدّ العقائد والأخلاق

والآداب، وتُسْتَمَدُّ منها؛ لأنها كالبريد بين العقل والنفس، وبين الجسد والحس.

وهذا التلقي قد يكون بالإلهام، وعبرت عنه الآية بالوحي المطلق، وهذا الحرف

مستعمل في القرآن بمعنى الإلهام كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ

اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً} (النحل: 68)

إلخ، وقال جل ذكره: {وَأَوْحَيْنَا

إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية، وليس كل موحى إليه بالإلهام

الصحيح نبيًّا مرسلاً، بل النبي هو الموحى إليه بالدين الذي يُرشد به الناس،

وكذلك يقال في مكالمة المَلَك التي وقعت للسيدة مريم عليها السلام، وهي ليست

بنبية على الصحيح الذي عليه الجمهور، والرؤيا الصادقة من هذا القسم، وكانت

أول وحي نبينا عليه الصلاة والسلام كما ورد في حديث البخاري المشهور، وأدخل

بعضهم الإلقاء في القلب في معنى وحي الإلهام، واستدلوا عليه بقول عبيد ابن

الأبرص:

وأوحى إليّ الله أن قد تآمروا

بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي

نعم إنه يريد بالوحي أن الله خلق في قلبه علمًا بذلك لا يعرف مصدره، وهذا

هو الإلهام. ولكن ورد في الحديث ذكر الإلقاء والنفث في الروع مضافًا إلى روح

القدس، فيدل على أنه يكون من القسم الثالث وهو الوحي بواسطة الرسول، والكل

وحي، وهذا الأول ما يكون بغير واسطة.

هذا النوع من التلقي عن الله تعالى يحصل في روح النبي دفعة واحدة من

غير أن تكون الروح متعلقة بشيء من الأشياء التي تشغلها عن الحس؛ لتجتمع

الهمة ويتم الانسلاخ عن العالم المادي، والاتصال بالعالم الروحاني، وهو الوحي

بدون واسطة مطلقًا، وأما النوع الثاني فهو ما يقيض فيه للنبي ما تتعلق به نفسه

ويشتغل به حسه، حتى تجتمع الهمة ويصح توجه الروح وتبلغ الكمال في قوتها

العقلية، بعد الانقطاع عن الشواغل الكونية، فيكون ذلك حجابًا له بين عالم الغيب

وعالم الشهادة، ويأتيه الوحي من وراء هذا الحجاب، ومن ذلك النار التي رآها

موسى عليه السلام في الشجرة فطار إليها لبه، وعلق بها قلبه، وانحصرت في

مشكاتها روحه، فكان منها فتوحه، وجاءه منها العلم والحكم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى

تَكْلِيماً} (النساء: 164) وكل كلامه تعالى يسمى وحيًا، ولذلك قال عز وجل:

{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (طه: 13) .

وبقي التلقي عن الله تعالى بواسطة المَلَك المسمى بالروح، وهو القسم الثالث

المُعَبَّر عنه في الآية بقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ} (الشورى: 51)

إلى النبي ويُعَلِّمه بما يلقيه في قلبه بإذنه تعالى ما يشاء سبحانه أن يوحيه كما قال:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ} (الشعراء: 193-

194) فهذه الآية تدل على أن المَلَك يُلْقِي ما يريد الله إلقاءه للنبي في القلب، فهو

خطاب للروح لما يكون بينهما من الاتصال، وقد ورد في الصحيح أن المَلَك كان

يتمثل بهيئة الإنسان ويؤيده قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً

سَوِياًّ} (مريم: 17) وهل يكون كلامه حينئذ ككلام البشر كما في حديث الإيمان

والإسلام والإحسان، أم هو مناجاة روحية على كل حال كما هو ظاهر قوله تعالى:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أم يكون تارة

هكذا، وتارة كذلك؟ الله ورسوله أعلم.

م (62) الوقوف عند النصوص:

علينا أن نفهم النصوص وما لنا أن نزيد فيها ولا ننقص منها؛ لأن هذا مما لا

يُعْرَف إلا بالقياس، ولا مجال في حقيقته للعقل ولا للحواس، وما اختلف المختلفون

وفرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا همُّ كل فرقة الرد على الأخرى، إلا لتسمية هذا الوحي

بأنواعه كلام الله تعالى، وإيحائه تكليم الله عز وجل، ولو لم يرد إلا لفظ الوحي

والإيحاء، والتعليم والإنباء، كقوله تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} (النساء: 113) وقوله تبارك اسمه: {نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: 3) لما

كان لهم أن يقولوا ما قالوه في الصفة النفسية والصفة اللفظية، ولا أن يثبتوا له

سبحانه صوتًا وحروفًا إلى غير ذلك مما نمسك عن الخوض فيه عملاً بهدي

الراشدين، وفي الحديث الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أحيانًا

كصوت السلسلة على الصفوان) ، ولعل ذلك حجاب كنار موسى، وقد علمنا من

الآية أن القرآن الكريم أطلق لفظ التكليم على الوحي الذي بمعنى الإلهام، ورؤى

المنام، والذي بواسطة الحجاب، والذي بواسطة الروح الذي ينزل على القلب،

وظواهر الآيات تنأى بك عن قياس التمثيل، وتربأ بنفسك عن القال والقيل، والله

يقول الحق وهو يهدي السبيل.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المقاطر: جمع مقطرة، وهي خشبة فيها ثقوب توضع فيها أرجل المحبوسين.

ص: 251