الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: إسحاق طيلر
الإسلام والمسلمون
المقالة الثانية للقس إسحاق طيلر
كتبها بعدما جاء مصر ليختبر حال المسلمين؛ إذ قيل له إنه مبالغ في مدح
دينهم ونشرتها جريدة (سنت جمس غازت) الإنكليزية تحت العنوان المذكور
بتاريخ 18 أفريل سنة 1888.
إني ذهبت إلى مصر أحد أقطار الإسلام ومقصدي الوحيد أن أطلع في ذلك
المكان على الأعمال المجموعة في القرآن من الآداب والأخلاق والتقوى والمعرفة،
وأعلم بقدر الإمكان ما هي العقائد الحقيقية المتعلقة بالمسلمين ذوي التربية. ما لقيت
مانعًا لمقصدي هذا؛ لأني لم أكن مجاهدًا لأربح تلامذة. أقول الحق: إن المسلمين
تأثروا بما يتهمون به عنادًا، وإن أمرهم الظاهر قد شُبِّه على النصارى، فكيف
نحكم نحن معشر النصارى عليهم بالكفر بعد أن نسمع قولهم لنا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) ؟ لماذا
يسألوننا تسلطت على قلوبهم حزازة أبدية كهذه (كذا) .
إني أقر وأعترف بأني تعجبت غاية التعجب لما رأيت المسلمين راضين بأن
يتكلموا معنا عن موضوع عقائدهم، وحاضرين للاعتراف بذنوبهم، قال لي أحد
علماء الإسلام الذي هو عالم بكتابنا وبالقرآن ككثيرين من أمثاله: (نحن لا نرى
من المعصية البحث في الدين، بل هو محبوب عندنا؛ لأن الحق إنما يظهر به
ويتبين الرشد من الغي) تعالوا نبحث في هذه المادة حتى تروا في أي شيء نوافقكم
وفي أي شيء نخالفكم، عسى أن لا يكون إصلاح ذات البين أمرًا صعبًا، لا
ريب أنه حدث عندنا ما كان يجب علينا تركه؛ لأنا زدنا أشياء كثيرة على ديننا
الطاهر الموجود في كتابنا الإلهي، كذلك فعلتم أنتم من قبلنا حتى انقلبت الأمور
عليكم من تهاونكم في حفظ الدين عن الشوائب، أكثر عقائدنا الاعتيادية وأعمالنا
ليس لها سند من القرآن أكثر مما للنصارى في أناجيلهم من السند بالنسبة إلى
سجودهم للتماثيل، وعبادتهم لمريم عليها السلام، إن رجعنا إلى خالص تعليم نبينا
صلى الله عليه وسلم كما في كتاب الله، ورجعتم إلى خالص تعليم عيسى عليه
السلام وحوارييه كما في الإنجيل الأصلي، فلا نجد ما يفرق بيننا وبينكم، مسيحيتكم
السابقة ليست مردودة عندنا؛ ولكنا نعتقد أن تعليمات عصر عيسى عليه السلام
والحواريين غشيتها الأباطيل منذ أيام قسطنطين الأول، ورفض تلك الأباطيل
واجب، سيأتي زمان تترك فيه هذه المفاسد كلها، ويبقى على الأرض دين واحد
خالص، كل إنسان يقدر على قبوله.
إني قبل ذلك كنت قد رأيت القبط في عبادتهم لمريم واعتكافهم للتماثيل الذين
يتعلم منهم المسلمون المصريون عقائدهم المخصوصة المتعلقة بالمسيحية؛ ولذلك
ظننت أن صديقي كان مدركًا لقضيته وحسب. إن الإنكليزي المتمدن بالنسبة إلى
المسلم العاقل مشابه للقبطي الجاهل. لا يدخل في العقل أن نترقب أن المسلمين
سيتركون عقائدهم وصور عبادتهم التي تربوا فيها بمحض أمرنا وإرادتنا ويقبلون
رسومات مرسلي النصارى الضيقة، الذين يجتهدون أن يردوهم عن دينهم إلى
إحدى العقائد المتناقضة الموجودة بين الرومانيين أو البروتستانيين، المسلمون
يسهل عليهم أن يقبلوا كتب العهد الجديد أو الأناجيل؛ لكن لهم الحق كالبروتستانيين
في أن يفسروا أو يؤولوا تلك الكتب كما يشاؤون، وهم يرفضون رفضًا تامًّا كل
صور العقائد المخترعة، كالبنود التسعة والثلاثين المتعلقة بالكنيسة الإنكليزية،
واعتراف الكنيسة الوستمنسترية، أو القضايا المثلثة الأسنان وأمثال ذلك.
كل مسلم يؤمن بالله الواحد القهار، النافذ أمره في السماء والأرض، وبرسالة
عيسى عليه السلام الملقب عندهم بالمسيح ومعجزاته، ويؤمن بوجوب الصلاة،
وببقاء النفس في الآخرة، إما في الرحمة وإما في العذاب، وبإلهامية الكتب المنزلة
من قبل، أمة محمد صلى الله عليه وسلم متقية جدًّا، وبعض أدعيتهم وصور
مناجاتهم حسنة للغاية؛ حتى إنه لا يمكن لأحد من المستحقرين أن يجد فيها كلمة
واحدة يعترض عليها، وهي أقل صعوبة لكثيرين منا يوافقونهم فيها من بعض
الأدعية الشفاهية البروتستانية لله، أو الصلوات الرومانية لمريم، خذ الفاتحة مثلاً
لك، وهي دعاء يدعو بها المسلمون ربهم وقت الصلاة، أو اقرأ هذا الدعاء اللهم
انصرنا وارحمنا واهدنا إلى الصراط المستقيم، إنا نؤمن بك ونتوب إليك ونستعينك
ونتوكل عليك، ونقر بأنك أصل الخيرات كلها، إنا نشكر لك ولا نزال نرى آلاءك
علينا، لك نسجد ولا نمشي مع الذين يخالفون إرادتك، اللهم إياك نعبد وأمامك
نركع، وبين يديك نقدم صلواتنا وتسبيحاتنا، نسألك من رحمتك، ونخاف من
غضبك الجدير به المسيئون [1]، دعاء آخر يسمى عندهم دعاء داود النبي وهو هذا:
(رب هب لي من محبتك، هب لي أن أحب الذين يحبونك، أوزعني أن أعمل
صالحًا ترضاه، اجعل محبتك أحب إلي من نفسي وأهلي، وأعز من الغنى، وألذ
من الماء البارد) لا يصعب أن يُؤلَّف من صحف أدعية المسلمين كتاب صلاة، إن
لم يذكر مأخذها يكون مقبولاً في البلاد المسيحية.
إن كل عقيدة من العقائد الإسلامية قد أخذ بها بعض الأحزاب المسيحية
والمؤلفين المسيحيين، مثلاً المسلمون كلهم من دون مضايقة لا يقدرون أن يقبلوا
توصيف الله الموجود لدى الكنيسة الوستمنسترية، واعتقاده بمسألة التقدير واقتدار
الله تعالى كاعتقاد القسيس كالفين في ذلك، ورأيهم في المؤاخاة الإيمانية عين رأي
الوسليين، وفي مسألة القداسة والكهنوت أو الإمامة هم يشابهون الهزهازيين ومستر
بريت، وفي مسألة التثليث رأيهم كرأي الموحدين منا ومستر شمبرلين، وفي
العشر والزكاة مذهبهم مذهب لورد سلبورن ومستر برست فوردهوب، وعقيدتهم
في الوحي والإلهام عين عقيدة الحبر الشستري، وأفكارهم في عذاب الآخرة كأفكار
دوكتر بوسي، وبالنسبة إلى داومه يميلون إلى عقيدة أرشديقوذ فراد وهم أسرع من
بعضنا في قبول عقائد دوكتر كمينك في مجيء عيسى الثاني، أو في قبول عقيدة
القسيس بودي في أعمال الملائكة في الأرض، لهم الوفاق التام مع أحسن الإلهيين
الإنكليز في أن المقصود من الصلاة ليس أن نتبع إرادة الله لإرادتنا، بل إرادتنا
لإرادته، إن مرسليهم ودعاتهم وهم أكثر شرفًا من جند النصرة بيننا كحزب
الجنرال بوذيناون بتعليم واحد مخصوص، وهو الخلاص بالإيمان، ويصرفون في
إيجاب عمل واحد وهو الامتناع عن السكر، ما من عقيدة من عقائد الإسلام إلا
ونراها قد تمسك بها بعض الذين يسمون عندنا مسيحيين، وما يمكن أن نرى أحدًا
من المسلمين قد تمسك بمفتريات أو أباطيل كثيفة كالموجودة بين فلاحي جنوبي
إيطاليا.
في المسائل المختلف فيها بيننا وبينهم يستدل المسلمون لها بالكتب المقدسة
العبرانية في إثبات حقية عقائدهم وأعمالهم، مثلاً هم يثبتون إباحة تعدد الزوجات
وأخذ الإماء الواردة في القرآن بما فعل داود وسليمان ويعقوب وإبراهيم والأنبياء
العظام أولو الاحترام عليهم السلام، وإن لمتهم على الاسترقاق أجابوك
كالأمريكانيين المستعبدين في أيامنا، أن ذلك غير منهي عنه حتى في الأناجيل؛
لأن فليمون كان مالك عبد أبق منه إلى القديس بولس وهو رده إلى مولاه، وكان
يأمر العبيد أن يكونوا خاضعين لسادتهم؛ لكنهم مع كونهم مستمسكين بتعدد
الزوجات وبنكاح الإماء والاسترقاق لأنها غير منهي عنها في القرآن والتوراة وكذا
الإنجيل، فعدد كثير منهم يعتقدون بالجزم أنها غير مفيدة، أي لعدم تحقق شروط
إباحة تعدد الزوجات الآن من العدل بينهن والتسوية إلخ.
أما الحروب المقدسة الأولى التي حصل منها ظفر المسلمين، فهم يبرهنون
عليها محتجين بما فعل بنو إسرائيل في فتح كنعان ويسألوننا: أما كان الخلفاء أرحم
من يوشع بن نون عليه السلام أو من صموئيل النبي عليه السلام حين أمر بقتل
أجاج والعمالقة، أو من إلياس النبي عليه السلام إذ قتل أربعمائة وخمسين كاهنًا
لبعل، وإن اعترضت عليهم أن هذه الوقائع إنما هي مذكورة في تاريخ اليهود
أجابوك بأن تاريخ النصارى لا يخلو أيضًا من الحروب الدينية، أو أن الدين
المسيحي انتشر بالسيف، يصعب على الإنسان أن يجد في تاريخ الإسلام ما يساوي
استئصال الجبليين على يد البوسطانيين أو تعميده الإجباري لسبعين ألف وثني في
آسيا الصغرى، أو نأتي إلى زمان أقرب ونقول لا يمكن أن يلام الإسلام على
تعديات فظيعة، مثل ما ارتكب أينوسنت الثالث على الألبيجيين، أو كقتال سنت
برتالمو أو كمحاربات شارلمين الاستئصالية للسكسونيين، أو كإجلاء المغربيين
والمورسقين من أسبانيا، أو كتعديات الأعصر الوسطى على اليهود، فلتقس قتل
الصليبيين لعشرة آلاف من المسلمين حين سخَّروا تلك البلدة، أو قتل سبعين نفسًا
من المسلمين حين فتح كودفري دي بوليون لأورشليم بالرحمة التي أظهرها عمر بن
الخطاب رضي الله عنه حين فتحها المسلمون أول مرة، أو حينما استردها صلاح
الدين من الصليبيين ثاني مرة، ما أكبر الفرق! المسلمون يدَّعون - وأنا أفتكر أنهم
على الحق - أن تواريخهم أقل تلويثًا بالدماء من تواريخ النصارى، وإن قلت إن
الصليبيين قد مضى تاريخهم قالوا وكذا مضى تاريخ الهلاليين.
لكن هذه المسائل التي فاتت فوت العمد من فكر القسيس مكوم مكول نتركها له
أن يشتغل بها في مقالته الآتية التي سيكتبها في الإسلام والتمدن في جريدة
كونتمبوري، أنى أقر بأني أحب كثيرًا أن أكون حاضرًا حين وقوع البحث بين ذلك
المجادل الماهر وبعض خلاني المسلمين الذين لا يكونون أقل مهارة منه، ولا أدنى
علماء الشرف المقسوم في ظني متوقف على فصل القاضي بين الخصمين.
هناك تهمة أخرى وهي أن الإسلام غير متقدم؛ لكن هذا شيء يمكن القول به
في حق كل الأديان الشرقية، وهي مسألة جنسية أو إقليمية لا دينية، الكنيسة
القبطية أبطأ في تقدمها من الإسلامية، كتب صلواتهم وسبك عبادتهم وترتيب سعيهم
هي عين ما كان في القرن الثالث من دون أدنى تغير، في ظني أن التقدم بين القبط
هو أقل جدًّا مما حصل بين المسلمين، ومثل ذلك يقال في الهنود وأصحاب بدها
وأتباع كونفوشيوس وغيرهم، لعل أهل الشرق مبرؤون من حرصنا؛ لكن القسيس
ملكوم مكول لا يحسب هذا شيئًا وينسب الفرق إلى الدين، ويوضح الكل بفرضه أن
كل تقدم للمسلمين خارج عن دائرة القرآن نوع من الكفر - أي على زعمه - سلَّمنا
أن هذه عقيدة القسيس ملكوم مكول؛ لكنها ليست من عقائد المسلمين أنفسهم، هم
يقرون علانية أنهم كسائر الشرقيين متأخرون في اكتساب العلوم الجديدة؛ لكنهم
يفتخرون بتلك النهضة العلمية المتعلقة بأيام العرب المضيئة، والرغبة إلى التقدم
والتربية عندهم من النوادر.
إن شيخ مدرسة الأزهر الذي مقامه كمقام الويس شنسلر في مدارسنا الكلية
سأل وزير المعارف في مصر حديثًا أن يهيئ وسيلة لتربية ألف ومائتين من تلامذة
العلوم الإلهية في الفنون الدنيوية، سمعت من محمدي عالم كان مدرسًا في إحدى
مدارس الحكومة أنه ذات يوم أعلن في بعض الجرائد الوطنية أن له النية أن يُعطي
درسًا لبعض تلامذة مدرسة الأزهر، وفي أسبوع واحد جاء أكثر من ستمائة طالب
يستأذنونه بالدخول في الصف.
لعل التعليم الأنفع لهؤلاء التلامذة معرفة التواريخ؛ لكن الصعوبة في هذه هي
عدم وجود كتب متينة صالحة تحكى عن الدينيين بروح الإنصاف والمحبة، سألت
يومًا تلميذًا من تلامذة الأزهر هل قرأت كتب التواريخ؟ قال نعم عندي كتاب لكني
لا أحبه، قلت له لماذا؟ أجاب لأنه يتهضم نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله
الباطل إنه كان مفتريًا، ظهر أن الكتاب كان عمل بطرس بادلي وهب له من أحد
المرسلين الأمريكانيين فلا عجب أنه لم يحبه، هل نحب نحن أن يهب المرسلون
الإسلاميون كتبًا لتلامذة مدارسنا الإلهية مكتوبًا فيها أن مؤسس بنيان المسيحية كان
مفتريًا.
إني أترك لمقالتي الآتية بيان المذاكرة في موضوع دين المسيح وذكر رغبة
كثير من المسلمين في إصلاح الحال، حتى قال لي أحدهم لا يبعد أن يحصل بين
المسيحيين والمسلمين مودة تامة، وتماس بأيدي الصداقة والأخوة وزوال أسباب
الحرب إن شاء الله.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... إسحاق طيلر
_________
(1)
هكذا عربت عبارته الإنكليزية، والظاهر أنه أخذ هذا من دعاء القنوت المأثور وهو:(اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق) نحفد: نسرع، وملحق - بكسر الحاء - بمعنى لاحق، وإنما أوردته لأنه أشتهر عند بعض أصحاب المذاهب دون البعض.
الكاتب: محمد رشيد رضا
القضاء في الإسلام
الترغيب والترهيب
قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في
النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق وجار في
الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) [1] ومَن أجدر
بالنار ممن يقضي بغير الحق، فيضيع على الناس حقوقهم بجهله أو بهواه؟ والحق
هو ما كان عليه الأمر في نفسه، فالمبطل من الخصمين من يخفيه، والمحق من
يطلب إظهاره. وإصابته في الحكم هي العدل، فالحق والعدل لا يعرفان من كلام
المصنفين والمؤلفين؛ وإنما كلام العلماء يبصر القاضي ويهديه إلى طريق الحق،
وهو يصل إليه باجتهاده وتحريه وتوفيق الله تعالى، واستدلوا بالحديث على أن
القاضي لا يكون إلا رجلاً.
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله ألا تستعملني،
قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم
القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) [2] وفي حديث
آخر أنه قال له: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب إليك ما أحب لنفسي لا
تَأَمَّرن على اثنين ولا تَوَليَنَّ على يتيم) [3] في الحديث دليل على أن الضعيف لا
يُولَّى القضاء. والضعف على إطلاقه، فيشمل ضعف الرأي وضعف العزيمة
والإرادة وضعف النفس بأن يكون ممن يغلب عليه الخجل والحياء من الصدع بالحق
أو يكون سريع التأثر والانفعال قريب الانخداع، ومن الضعف أن يكون مهينًا
عند الناس غير محترم ولا موقر لحال فيه تقتضي ذلك كالإفراط في الدعابة والإلمام
بالخسائس والمحقرات.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من جُعِل قاضيًا بين الناس فقد ذُبح بغير
سكين) [4] الحديث تمثيل لخطر المنصب وحرج الموقف؛ فإن القاضي إذا جار وظلم
كان له الخزي وسوء الأحدوثة في الدنيا، وسخط الله وعقوبته في الآخرة، وإن عدل
أسخط نصف المتقاضين كما قيل:
إن نصف الناس أعداء لمن
…
وُلِّي الأحكام هذا إن عدل
هكذا حمل أكثر العلماء الحديث على التنفير من القضاء وبيان الخطر فيه،
وقالوا: إن قوله (بغير سكين) تهويل للذبحة وبيان لشدتها؛ لأن أهون الذبح ما كان
بسكين، فإن كان بمحدد آخر كالظرَّان كان أشبه بالخنق وسخروا من قاضٍ قال إن
ذلك إشارة إلى الرفق وإراحة المذبوح، ولهذا الحديث وأمثاله كان أهل الدين
والورع من السلف يتحامون القضاء ويفرون منه، فكان ذلك سببًا في جعل هذا
المنصب العظيم في أهل الطمع والدهان للأمراء والسلاطين، وكانت هذه السنة من
أقتل أمراض المسلمين، وأفتك أدوائهم في الدنيا والدين.
وحمل أبو العباس أحمد بن القاص الحديث على جهاد النفس وترك الهوى،
وقال: إنه لا يفيد كراهية القضاء وذمه، واستشهد لذلك بأحاديث ذكر فيها الذبح
وأطال في بيان ذلك، وأيده بما ورد في تعظيم شأن الحكم بين الناس في الكتاب
والسنة، وأنه وظيفة الأنبياء عليهم السلام وذكر من وَلِيَ القضاء من الصحابة
عليهم الرضوان، ولا حاجة إلى هذا كله في تأويل الحديث؛ فإن الترهيب له أهل
وقد علم قاضي الجنة من قاضي النار.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى
نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده) [5] وفي حديث الصحيحين الوارد
في مطلق الإمارة لم يشترط الإكراه عليها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (يا عبد
الرحمن بن سمرة لا تسأل عن الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها
وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) وهذا الإطلاق هو الظاهر، وتؤيده الرواية
الأخرى؛ لأن الذين يتهافتون على القضاء والإمارة هم الذين يبتغون بالمناصب
المال والجاه، لا إقامة العدل وتعزيز الحق؛ ولذلك يطلبونها بالشفعاء، وقلما يسأل
المستعد للشيء الطالب للحق شفيعًا يوصله إليه؛ لأنه يعتمد في الغالب على
استعداده، إلا إذا كان في أمة وحكومة ضاع الحق بينهم، وحينئذ يفضل البعد
والهرب من المناصب غالبًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله مع القاضي ما لم يَحِفْ عمدًا)[6] وقال
صلى الله عليه وسلم (إن الله مع القاضي ما لم يَجُر، فإذا جار تبرأ الله منه ولزمه
الشيطان) [7] ونكتفي بهذا القدر من أحاديث الترغيب والترهيب، فمقام القضاء
مقام رفيع، وعلى قدر الارتفاع يكون خطر السقوط، وسيأتي بآدابه وأحكامه في
الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن بريدة، وله ألفاظ أخرى.
(2)
رواه أحمد ومسلم.
(3)
رواه أحمد ومسلم.
(4)
رواه أحمد وأصحاب السنن - إلا النسائي - عن أبي هريرة ورواه غيرهم أيضًا.
(5)
رواه أبو داود والترمذي عن أنس، وقال حسن غريب وفي رواية (واستعان عليه) بدل (وسأل فيه الشفعاء) ، وبدل كلمة (الإكراه)(ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه) ويشهد لها حديث الصحيحين.
(6)
أحمد عن معقل بن يسار والطبراني عن ابن مسعود.
(7)
الترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن أبي أوفي.