الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الرابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد، وعلى كل عبد مصطفى.
وبعد، فإن المنار يدخل بهذا الجزء في العام الرابع من حياته وقد نما النمو
الطبيعي المقدَّر له من أول نشأته، وساعد حركة الإصلاح بصوته الضعيف، ولقي
صاحبه من الألاقي بعض لقي الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا
والله مع الصابرين.
من كان الله معه لا يضره كيد الكائدين، ولا يُحبط عمله إرجاف المرجفين،
وإن عظمت مظاهرهم وألقابهم، وعلت منازلهم وأحسابهم، بل جرت سنته تعالى
في خلقه بأن الضعيف ينتصر بالحق على القوي، والرشيد يغلب بالصدق والثبات
على الغويّ {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .
ما لقيتْ دعوة الحق من المعارضة بعض ما لقيت من الانتشار، ولا صادفت
من التدسية والإخفاء مثلما صادفت من التزكية والاشتهار، وما كان إلا ما كان في
الحسبان، وليس في الإمكان أبدع مما كان، ومن حاول الخروج بالكون عن سنته،
وتكليف عالم الاجتماع ما ليس في طبيعته، كان جديرًا بالخذلان، وبذلك خاب فلان
وفلان، وخفي هذا على بعض الناس فكانوا من القانطين، وضل آخرون في فهم
قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
الحق ثقيل ولا سيما على المبطلين، والجدُّ مملول ولا سيما من الهازلين؛
ولذلك أشار علينا بعض الناصحين من محبي الإصلاح بأن نضم إلى المقالات
الإصلاحية والعلمية شيئًا من النبذ الأدبية، وأن نضيف إلى انتقاد التقاليد والعادات
بعض الأخبار والملح والفكاهات؛ لأن هذا أدعى إلى ترويح النفس، وتوفير الأنس
ولهذا وسَّعنا المجلة فزدنا في صفحاتها، ونوَّعنا موضوعاتها؛ ولكننا لم نزد في
الثمن، كما زدنا في المثمن؛ لأن بضاعة العلم والدين لا تزال عندنا على قلتها في
كساد، وبضاعة الشهوات واللذات في رواج وازدياد، فيسهل على أكثر المتعلمين
منا أن ينفقوا البِدَر في سبيل الهوى، ويصعب عليهم أن يبذلوا النزر اليسير في
سبيل الهدى، فما بالك بغيرهم الخالي من مثل غيرتهم، والمحروم من الشعور
بحميتهم (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون) ووفقهم لمعرفة أنفسهم ومن معهم
لعلهم يرشدون، اللهم و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .
…
...
…
...
…
...
…
... صاحب المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الداء والدواء
خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه بضروب من التكريم، خلقه
من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، خلقه جاهلاً لا يعلم شيئًا، ثم منحه
هدايات الحواس والعقل والنبوة، خلقه فقيرًا محتاجًا إلى كل شيء، وسخَّر له
بفضله كل شيء، فالأكوان تعمل به وهو يعمل في الأكوان، ويظهر ما انطوت
عليه من الإبداع والإتقان، مستعينًا بتلك الهدايات الموهوبة، على أعماله المكسوبة
حتى يصل كل من الإنسان والأكوان إلى ما أُعد له، ويبلغ الكتاب فيهما أجله،
وأعني بالكتاب كتاب الغيب المكنون، {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل: 65-66) .
جلَّت حكمة الله جعل حياة الإنسان الفردية مثالاً ونموذجًا لحياته القومية،
يرتقي الفرد منه بالتدريج ويتربى متأثرًا بحالة الأكوان، وما تعرضه عليه شؤون
أخيه الإنسان، فمنه ما ينمو ويرتقي باطراد، ومنه ما يعرض له المرض والفساد
فتوقف سيره قبل أن يتم دوره، فإما شقاء وارتقاء، وإما موتًا وفناءً، وكذلك الأمم
في أطوارها، والشعوب في أدوارها، وهذه قصصها وأخبارها، ما سعدوا إلا بما
كانوا يعملون، وما حل بهم الشقاء إلا بما كانوا يكسبون {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن
كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 33) .
استعان أناس بالحواس على الحسنات، واستعان بها آخرون على اجتراح
السيئات، ووصل قوم بالعقل إلى أحاسن الأعمال، واستعمله آخرون في سيئ
الفعال، واهتدى بالدين أمم إلى الصراط المستقيم، ووقع به آخرون في العذاب
الأليم {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ،
{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: 213) ،
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ
الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .
غرَّ أمةً ممن كان قبلنا دينهم، فحسبوا أن انتسابهم إليه هو كافلهم وضمينهم،
وناصرهم ومعينهم؛ فقصروا في الأعمال، واستبدلوا النقص بالكمال، فحل بهم
الخزي والنكال، وما أغنى عنهم الانتساب إلى الأنبياء، والاعتماد على الأصفياء،
والاستمداد من الأولياء، ولا أفادهم قولهم: نحن شعب الله، الذي فضَّله على العالمين
واصطفاه، وحملة كتابه التوراة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ
إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران:
23-
24) .
الغرور في الدين، هو الجرثومة التي تولدت منها جميع أمراض المسلمين،
كما حل بمن كان قبلهم، وحُذِّروا أن يكونوا مثلهم، فقد جاء في الحديث المتفق على
صحته: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) ، والمسلمون يعترفون
بهذا إجمالاً؛ ولكنهم ينكرونه عند التفصيل، فإذا عدَّدت لهم البدع والتقاليد التي
فتنوا بها، وحرَّفوا معاني كتاب الله تعالى وأوَّلوه برأيهم لترويجها، يلوون ألسنتهم
إنكارًا، ويُنغضون رؤوسهم إعراضًا وازورارًا، وإذا وصفت بهذا الغرور بعض
رجال الدين، من شيوخهم وآبائهم الميتين {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا
يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} (الأنفال: 6) .
هذا الغرور في الدين، الذي أصبنا به من بعد الخلفاء الراشدين، هو نقيض
الغرور الذي رُمي به الذين سبقونا بالإيمان، والذي قال فيه القرآن: {إِذْ يَقُولُ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} (الأنفال: 49) فإن ذلك
الغرور هو تصدي ثلاثمائة ونيف من المؤمنين، لزُهاء ألف من المشركين، من
ورائهم ألوف وزحوف من الفرسان، وليس وراء أولئك المؤمنين إلا النساء
والضعفاء والصبيان، وهذا الغرور هو خذلان ثلاثمائة مليون من المسلمين،
ووقوعهم بين أنياب الحوادث، ومخالب الكوارث، لا يحمون حقيقتهم، ولا
يدافعون عن حوزتهم؛ ولكنهم يستنجدون بالقبور ولا يُنجدون، ويستنصرون
بأرواح الموتى ولا يُنصرون {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
تولدت جراثيم هذا الغرور بالدين في العصر الأول عندما فتح المسلمون البلاد
ودوَّخوا العباد، وجلسوا على كرسي السيادة، وضموا عليهم قطرَيْ السعادة،
فحسبوا أنهم غمروا بهذا الإنعام، لمجرد انتسابهم للإسلام، ثم دلهم القياس الفاسد
على أن هذا اللقب (مسلمون) يعطيهم سعادة الآخرة، كما أعطاهم سعادة الدنيا،
وكان لهم من الأحاديث الموضوعة وسوء فهم الصحيحة ما يؤيد القياس، ويمد
الوهم والالتباس، فقصروا فيما أمرهم الدين من الإصلاح للدنيا، كما قصروا في
عمل الصلاح للأخرى، فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ
القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117)[1] .
ويا ليتهم إذا عُذِّبوا بسلب سعادة الدنيا رجعوا إلى قياسهم، وخافوا أن يحرموا
سعادة الآخرة أيضًا إذا هم استرسلوا في هذا الغرور، ولم يخرجوا من هذا الديجور
ثم رجعوا إلى أنفسهم، وبحثوا عن أسباب سعادة سلفهم، وتبينوا أنها الأعمال، لا
الأماني والآمال، ثم استنوا بسنتهم، واستقاموا على طريقتهم، ولم يتكلوا على
شفاعتهم، ويجعلوها مناط سعادتهم، واعتبروا بقول خليل الرحمن عليه الصلاة
والسلام إذ قال لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} (الممتحنة: 4) وبما كان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه
أبي طالب، وبحديث الصحيحين: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل
عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال: (يا معشر قريش،
اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم
من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت
محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) نعم، وإن اعتقاد الخلف
أنهم يسعدون في الدنيا بأمداد سلفهم تكذيب للحس والعيان، واعتقاد أنهم بهم
ينجون في الآخرة إعراض عن السنة والقرآن، فالاحتجاج بعد هذا بقول فلان
وورد فلان جنون {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) .
ما وقف المسلمون بغرورهم في دينهم عند حد، بل عم عندهم كل شيء حتى
حكموه بالعلم الذي يرشد إليه، فجعلوه صادًّا عنه، وبالدنيا التي يأمر بعمرانها،
فحسبوه مؤذنًا بخرابها، وبالعقل الذي بُني عليه، فجعلوه عدوًّا له، ولما نزلت بهم
عقوبة غرورهم يئسوا من كل شيء أن ينالوه بأنفسهم، وسجلوا على أنفسهم هذا
اليأس وختموه بختم الدين وطبعوه بطابعه، حيث زعموا أنه من أشراط الساعة،
وأن الضعف إذا وقع بالمسلمين لا يرتفع إلا ما يكون من النهضة على يد المهدي
المنتظر القصيرة المدة؛ وإنما تكون بالخوارق والكرامات لا بالاستعداد والعصبية
القومية، ثم هي كإيماضة الخمود للذبال لا تلبث أن تزول سريعًا وتزول الدنيا في
أثرها بعد قليل، وقد مر في المنار تحقيق الحق في هذه التقاليد وبيان ضررها،
وأن الساعة مغيَّب عنا أمرها {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) .
فعلمنا مما تقدم أن أمراض المسلمين الاجتماعية التي جعلتهم وراء الأمم كلها
حتى التي كانوا يسودونها ترجع إلى داء واحد، وهو الغرور في دينهم وفهمه على
غير وجهه، وإن شفاء هذا الداء ليس بمحال ولا متعذر؛ وإنما المتعذر إصلاحهم مع
بقائه، وإن الدواء الذي يذهب به هو السير بالتربية والتعليم على سنن الكون وأصول
الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر المقالة، وإقناعهم بأن ارتقاء المسلمين بدينهم في
القرون الأولى لم يكن لسر خفي في الدين، ولا لحب الله تعالى لذوات الذين تسمَّوا
بالمسلمين؛ لأن الله منزه عن عشق الذوات والأعيان، وأفعاله لا تعلل بالأغراض
كأفعال الإنسان، وإنما ارتقوا به لأنه أرشدهم إلى سنن الارتقاء، وهداهم إلى الصفات
والأفعال التي بها السمو والاعتلاء، فهو كما تقدم هداية أُخذت على وجهها وحقيقتها،
فأدت إلى غايتها وأنتجت نتيجتها، فلما اختلفت الكيفية، انعكست القضية، كما
يهتدي بالحواس والعقل أقوام ويضل آخرون {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ
عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 22-23) .
أول أركان الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص الذي يصقل العقول من
صدأ الخرافات والأوهام، ويفك الإرادة من أسر الدجالين، ويعصم النفوس من حيل
المحتالين، ثم الإذعان بأن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فمن سار عليها
وصل ومن تنكبها هلك {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) حكم عام للآخرة والأولى، ثم
الاعتقاد بأن كل عمل ينافي مصلحة الأمة أو يحول دون منفعتها موجب لسخط الله
تعالى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم تصدي طائفة للاحتساب قولاً وعملاً والدعوة
إلى ما به حياة الأمة من علم وعمل ومباراتها للأمم العزيزة إلى غير ذلك مما فصَّلنا
القول فيه من قبل، وسنعيد البحث فيه إن شاء الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
ولنا الثقة بأن الكون وما فيه من الآيات، وما اكتشفه الناس من أسراره وما
يكتشفونه فيما هو آتٍ، كل ذلك خدمة لإظهار دين الفطرة على كل دين {وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وإن دعوة الحق ستكون هي الفضلى، وطريقة
الإصلاح هي الطريقة المثلى؛ ولكن لا يمكن تعيين الزمن بالتحديد {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ} (فصلت: 53)، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) ،
{لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67) .
_________
(1)
الأمم بالشرك إذا كانوا مصلحين، وهذا مشاهد وناهيك بالمسلمين واليابان.
الكاتب: محمد رشيد رضا
القسم الديني [*]
القسم الثاني من الأمالي الدينية في النبوات
(الدرس الثامن عشر)
الحاجة إلى الوحي والنبوة
تكلمنا في العدد الماضي عن الوحي من حيث إضافته إلى الله تعالى وكونه
كلامه، والاستدلال على ذلك بالعقل والنقل على الوجه الذي كان عليه الصحابة
وأئمة السلف الصالحين رضي الله عنهم، ولذلك جعلناه في قسم (الإلهيات) ،
وكان مقتضى الترتيب المعقول أن يكون هذا المبحث برمته في قسم النبوات؛ لأن
النبوة إنما تكون بوحي الله وبكلامه، ونتكلم الآن عن الوحي من حيث حاجة البشر
إليه وحال من جاؤوا به.
المسألة (53) : الأرواح الخالدة
الاعتقاد بأن للبشر أرواحًا تبقى بعد الموت، ولها حياة أخرى بعد هذه الحياة
الدنيا هو الأساس الذي قام عليه بناء الدين المطلق، فلولاه لم يكن للدين معنى ولا
فائدة، بل لم يوجد أصلاً، وكل فائدة أفادها الدين للبشر من وثنيين وموحدين
فمصدرها هذا الاعتقاد، ما علّم قدماء المصريين صناعة البناء، وما يتبعها ويلزمها
من الهندسة وجر الأثقال، حتى بنوا مثل الأهرام وغير ذلك من العلوم والصناعات
إلا الاعتقاد بخلود النفس، وكذلك قل في الكلدانيين والصينيين والهنود واليونانيين
والرومانيين والفرس والإسرائيليين والعرب.
هذا الاعتقاد فطري في البشر، ولذلك وجد في كل جيل من أجيالهم في كل
طور من أطوارهم فليس هو من استنباط الأفكار، ولا من التخيلات والتصورات
فتتحكم فيه الأنظار، نعم لما ولع الناس بالعلوم النظرية ابتلوا بالتشكيك في كل
شيء، حتى في الوجدانيات والمحسوسات، ومنهم من أنكر الروح، ولكن هذا
الإنكار لم يلتفت إليه إلا نفر قليل من المستعبدين لنظرياتهم؛ لأنهم يقربون من
السفسطائية الذين أنكروا كل شيء حتى أنفسهم وحتى إنكارهم، وقد وُجد - والحمد
لله - من النظار من رد على منكري الروح بنظريات موجبة أقوى من نظرياتهم
السالبة، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك؛ لأننا نخاطب في دروسنا قومًا لم
يبتلوا بإنكار أنفسهم وأرواحهم.
هذه مقدمة تمهيدية لبيان الحاجة إلى الوحي وإرسال الرسل، ولا بد منها في
إثبات كون الوحي هو الذي يبين طرق السعادة في الحياة الآخرة، وهذا هو جزء
الغرض وتمامه أن نبين أننا محتاجون إلى الوحي في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة
جميعًا؛ لأننا نعتقد أن في اتباع الدين سعادة الدارين كما بيناه في المسألة الأولى من
الدرس الأول.
م (54) الحاجة إلى الوحي في الدنيا
لا نزاع في أن الإنسان خُلق ليعيش مجتمعًا، أو كما يقول الحكماء:
(الإنسان مدني بالطبع) ، ولم يعط من الإلهام الفطري ما يغنيه عن التعلم
والتربية بل خلقه الله محتاجًا لكل شيء وعاجزًا عن كل شيء بنفسه، ولذلك
أعطاه خالقه استعدادًا غير محدود، وجعل رغائبه وأمانيه غير محدودة، ابتلاه
بشهوات تسوقه إلى تحصيل رغائبه، وأعطاه قوى يستعين بها على ذلك ويدافع بها
من ينازعه أو يصده عنه، ولا شك أن هذه الرغائب والشهوات تكون مثارات
للتنازع بين ذويها؛ إذ ليس في فطرة الإنسان ولا في طبيعة الأكوان ما يوقف كل
إنسان عند حد من حظوظه لا يتعداه، نعم إن نوع الإنسان يتربى بالعلم؛ ولكن هذه
التربية ما كانت كافية له في جيل من أجياله للوقوف عند حد يعيِّن لكل فرد من
أفراده حقوقه وواجباته على وجه ملزم له بالوقوف عنده إلا بالدين، وكل دين
تصلح به شؤون البشر فهو حق منبعه الوحي الإلهي، وإن كنا نجهل مبدأ كل دين
عُرف في التاريخ أنه أحدث إصلاحًا، وكيفية طروء التحريف والتغيير عليه
حتى صار إصلاحه مشوبًا بإفساد.
يبلغ البشر بالاستفادة من التربية الكونية بالتدريج الطويل مبلغًا عظيمًا، ثم
يكونون على ما أوتوه من علم وحكمة أبعد عن التهذيب والإصلاح، وهم في
نهايتهم من أهل الدين في بدايتهم، وأعظم عبرة أمامنا الأمم الأوربية؛ فإن العلوم
الكونية قد ارتقت عندهم ارتقاء لم يُعْرَف له مثل في تاريخ الإنسان وقد صلح بها
وبما بقي من آثار الدين عندهم حالهم الدنيوي؛ ولكنهم لا يقاربون في هذا الصلاح
ما كان عليه المسلمون في العصر الأول عندما كان صلاحهم بالدين وحده غير
مدعوم بالعلوم الكونية والتربية العالمية، هل بلغ ملك أوربي في العدل والرحمة
وسائر الفضائل مبلغ أحد الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل الإسلام وحوشًا ضارية
يفترس بعضها بعضًا، فرباهم الدين على الكبر تربية تعجز عنها العلوم الكونية
بدون تعليم الوحي الصحيح، وإن مخضها الدهر بضع قرون، انظر إلى فظائع
أبناء القرن العشرين في الصين، وراجع تاريخ أهل القرن الأول من المسلمين،
انظر كيف ساوى عمر بن الخطاب بين صهر الرسول عليه الصلاة والسلام وابن
عمه وبين رجل من آحاد اليهود، وكيف أن دول أوروبا لا ترضى بمساواة أحقر
صعلوك من بلادها لأعظم أمير شرقي في الحقوق، انظر كيف افتتحت تلك الشراذم
من المسلمين بلاد الروم والفرس والفراعنة فكان أهلها راضين بحكمهم مفضلين لهم
على قومهم وأبناء ملتهم؛ حتى ترك معظمهم لغته ودينه طائعًا مختارًا من غير دعاة
تناديهم ولا مدارس تربيهم، وكيف أن الأوربيين يدخلون البلاد فلا يرون من أهلها
إلا كراهة ومقتًا يتضاعف ويزداد بازدياد أيام حكمهم، مع أنه ما تسنى لهم دخول
أرض إلا بعدما جار أهلها عن صراط الدين واستهانوا بالعدل، انظر كيف كان
المسلمون في بداوتهم يدخلون البلاد، فيطهرونها من الأرجاس الظاهرة والباطنة،
وكيف أن الأوربيين ما دخلوا قرية إلا وأفسدوا أخلاق أهلها وآدابهم بالخمر والفحش
والميسر ولا سعة معنا في هذا الدرس لتمام المقابلة بين مدنية المسلمين في القرن
الأول ومدنية أوروبا في القرن العشرين، أو القرن الخامس من قرون ترقيها في
الحضارة - سنبسط الكلام عن المدنيتين في غير هذه الدروس من أجزاء المنار
الآتية إن شاء الله تعالى.
نعم إن المسلمين انحرفوا عن صراط سلفهم فأدبهم الله تعالى بسلب كثير مما كان
أعطاهم، ولذلك ذهب بهاء دينهم قبل أن تكمل مدنيتهم المادية، ونرجو أن يكون ما
حل بهم من العقوبة كافيًا لإنابتهم ورجوعهم إلى رشدهم، وعند ذلك إذا قالوا يسمع
لهم، وإذا افتخروا يشهد العالم بصدقهم في فخارهم فهم الآن حجة من لا دين له على
كل دين؛ لأن دينهم إذا لم يكن طريقًا لسعادة الدنيا فلا يمكن أن يكون سواه، وإن
قررت القوة خلاف ما قررناه.
للكلام تتمة
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) ضاق هذا العدد عن نشر تفسير القرآن لفضيلة مفتي الديار المصرية.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رواية عربية
أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي فقال: بلغني أنه
كان رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بن مالك فَتَّاكًا شجاعًا قد أغار على أهل
حجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه
بتلاعب جحدر به ويأمره بالاجتهاد في طلبه، فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى
فتية من بني يربوع فجعل لهم جُعْلاً عظيمًا إن هم قتلوا جحدرًا، أو أتوا به أسيرًا،
فانطلقوا حتى إذا كانوا قريبًا منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به
فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرة شدوه كتافًا وقدموا به على العامل،
فوجه به معهم إلى الحجاج فلما أُدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا
جحدر بن مالك. قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان وجفاء
السلطان وكَلَب الزمان. قال: وما الذي بلغ منك فجرأ جنانك؟ قال: لو بلاني
الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان، وبهم الفرسان، ولوجدني من أنصح
رعيته، وذلك أني ما لقيت فارسًا قط إلا وكنت عليه في نفسي مقتدرًا. قال له
الحجاج: إنا قاذفون بك في حائر فيه أسد عاقر ضار فإن هو قتلك كفانا مؤنتك،
وإن أنت قتلته خلينا سبيلك. قال: أصلح الله الأمير عظمت المنة وقويت المحنة.
قال الحجاج: فإنا لسنا تاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد. فأمر الحجاج فغُلت
يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن، فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة:
تحمل عني شعرًا. وأنشأ يقول:
تأوَّبني فبت لها كنيعًا
…
هموم لا تفارقني حوان [1]
هي العوَّاد لا عوَّاد قومي
…
أطلن عيادتي في ذا المكان
إذا ما قلت قد أجلين عني
…
ثنى ريعانهن عليَّ ثان [2]
فإن مقر منزلهن قلبي
…
فقد أنفهنه فالقلب آن [3]
أليس الله يعلم أن قلبي
…
يحبك أيها البرق اليماني
وأهوى أعيد إليك طرفي
…
على عدواء من شغل وشان [4]
ألا قد هاجني فازددت شوقًا
…
بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي
…
على غصنين من غَرَب وبان
فقلت لصاحبي وكنت أحذو
…
ببعض الطير ماذا تحذوان
فقالا الدار جامعة قريبًا
…
فقلت بل أنتما متمنيان
فكان البان إن بانت سليمى
…
وفي الغرب اغتراب غير دان
أليس الليل يجمع أم عمرو
…
وإيانا فذاك بنا تداني
بلى وترى الهلال كما أراه
…
ويعلوها النهار كما علاني
فما بين التفرق غير سبع
…
بقين من المحرم أو ثمان
فيا أخوي من جشم بن سعد
…
أقلا اللوم إن لم تنفعاني
إذا جاوزتما سعفات حجر
…
وأودية اليماني فانعياني
إلى قوم إذا سمعوا بنعيي
…
بكى شبانهم وبكى الغواني
وقولا جحدر أمسى رهينًا
…
يحاذر وقع مصقول يماني
يحاذر صولة الحجاج ظلمًا
…
وما الحجاج ظلامًا لجان
ألم ترني عددت أخا حروب
…
إذا لم أجن كنت مِجنّ جان
فإن أهلك قرب فتى سيبكي
…
على مهذب رخص البنان
ولم أك ما قضيت ذنوب نفسي
…
ولا حق المهند والسنان
قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسد ضار عاتٍ يجر
على عجل، فأرسل به فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به، فجعل في حائر [5]
وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر، فأُتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى
عنقه، وأُعطي سيفًا، والحجاج وجلساؤه في منظرة لهم فلما نظر جحدر إلى الأسد
أنشأ يقول:
ليث وليث في مجال ضنك
…
كلاهما ذو أنف ومحك
وشدة في نفسه وفتك
…
إن يكشف الله قناع الشك
فهو أحق منزل بترك
…
فلما نظره الأسد زأر زأرةً شديدةً، وتمطى، وأقبل نحوه، فلما صار منه
على قيد رمح وثب وثبةً شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط
ذباب السيف لهواته، فخرَّ الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على
ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبَّر الحجاج والناس جميعًا وأكرم
جحدرًا وأحسن جائزته. وأخرجه ابن بكار في الموفقيات بطوله من طريق آخر
عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، ولجحدر في الأسد قصيدة
بديعة نذكرها في جزء آخر.
_________
(1)
تأوبني: أتاني ليلاً، وكنيعًا: من كنع إذا خضع ولان، والحواني: فُسر بأنه من الحين بالفتح، وهو الهلاك فهو إذن مقلوب أصله حوائن جمع حائنة، وهي النازلة المهلكة.
(2)
ريعان كل شيء: أوله.
(3)
أنفهه: أتعبه وأعياه، والآني: المتناهي الحرارة.
(4)
العُدَواء بضم ففتح: المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه، وعدواء الشغل: موانعه.
(5)
الحائر: شبه حوض يجمع فيه ماء المطر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهدايا والتقاريظ
بين يدينا الآن 14 مصنفًا من المطبوعات الحديثة بعضها من المؤلفات القديمة
وبعضها من الحديثة، ولم نوفق لمطالعتها فننتقدها؛ ولكننا ننوه بها في الجملة
مكتفين بتصفح بعض صفحاتها.
(إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق)
كتاب جليل وسفر كبير ألفه السيد أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني أحد
مجتهدي القرن الثامن الهجري، وقد طبعته شركة طبع الكتب العربية في مطبعة
الآداب والمؤيد بالإتقان والنظافة المعهودين في الكتب التي تطبعها، الكتاب في
أصول العقائد، وقد اقتصر فيه على ما نطق به الكتاب والسنة غالبًا، وترك الخوض
في النظريات الفلسفية التي زادوها في علم عقائد الدين؛ ولكنه توسع كغيره فيما
توسع فيه المتكلمون كمسألة خلق الأفعال، ومسألة الصفات، ونقل كثيرًا من كلام
النظار، والمزية الكبرى التي امتاز بها كتابه على كتب العقائد المتداولة أنه لم
يتعصب لمذهب مخصوص، ولم يخف اللائمة في تقرير ما يعتقده إن كان مخالفًا
لما عليه الناس؛ لأنه آثر الحق على الخلق، وهو أقرب إلى أهل الأثر منه إلى
أهل النظر، وعهدنا بأكثر المتكلمين التقصير في علم الرواية، ويمكننا أن نقول:
ينبغي لكل مشتغل بعلم الدين الاطلاع على هذا الكتاب.
***
(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)
يذكرنا التنويه بهذا الكتاب كل مصنف تطبعه هذه الشركة؛ فإنه كان نادر
الوجود، وهو من أجلّ الكتب الإسلامية ومؤلفه العلامة شمس الدين محمد بن قيم
الجوزية وهو يُطلب كسابقه من إدارة المؤيد، ومن جميع المكاتب بمصر.
***
(الحديقة الفكرية في إثبات الله بالبراهين الطبيعية)
كتاب ألفه ونشره بالطبع حديثًا صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي فريد
وجدي واسمه يدل على موضوعه، بحث فيه مباحث دينية عصرية على طريقته
الجديدة في هذه المباحث، وتكلم فيه عن الإنسان والإيمان، وعن الإيمان في دور
الفطرة، ودور الفلسفة، ودور العلم، وانتقل من هذا إلى شُبه ملاحدة الماديين
وإبطالها، ثم عقد فصلاً آخر في المادة وما وراءها، وبيان انتهاء دور الإلحاد،
وأطال في هذا الفصل الكلام في مسألة استحضار الأرواح، ثم تكلم عن الإيمان في
الدور الرابع وهو رجوع الإنسان إلى دور الفطرة الأولى، وبيان أن الإسلام هو
دين الفطرة وهذا خاتمة الكتاب، أما طبعه فحسبنا أن نقول: إنه في مطبعة الترقي،
وعلى أحسن ورق فيها، وثمنه ثمانية قروش، فنحث القراء على الاطلاع عليه،
ولا سيما أبناء المدارس النظامية الذين يدرسون العلوم العصرية، ولعلنا نوفق للعود
إلى الكلام فيه بعد تمام مطالعته.
***
(تاريخ آداب اللغة العربية)
لما علم الكاتب الأديب محمد بك دياب المفتش الثاني للغة العربية في نظارة
المعارف أن بعض علماء ألمانيا عنوا بالتأليف في تاريخ آداب لغتنا الشريفة هزته
الأريحية العربية إلى إجابة اقتراح صديق له في تأليف هذا الكتاب تاريخ آداب اللغة
وقد أصدر منه بالطبع جزآن، طُبع أولهما في مطبعة جريدة الإسلام، والآخر في
مطبعة الترقي المتقنة، وفي كل جزء منهما ما لا يستغنى عن الوقوف عليه من
الفوائد، كالكلام في نشأة اللغة وترقيها، وتاريخ الكتابة العربية والخط وتاريخ
المصنفات، وتاريخ الفنون والإنشاء فهذه الموضوعات تفتح للمشتغلين بهذا الفن
أبوابًا واسعة في البحث والتحرير.
ولا يسلم الكتاب من نقد، لا سيما في المباحث المبتكرة فقد فتحته لهذا
الغرض، فجاء أمامي الكلام على كتاب (أساس البلاغة) للزمخشري فرأيت
المصنف ذهب في الكلام عليه مذهب من يرى أنه معجم من معاجم اللغة فإنه قال:
(والكتاب ليس قاصرًا على إفادة اللغة، بل يرشد أيضًا إلى مناهج الإنشاء لكثرة ما
فيه من السجع والشواهد والأمثال) ، فجعل إفادة معاني الكلم هو الغرض الأول،
والإرشاد إلى مناهج الإنشاء أمرًا عرضيًّا وثانويًّا، ثم قال: (ولحسن ترتيبه يسهل
على الطالب الكشف منه على معاني الكلم؛ لكن ربما أبطأ به عن نوال (كذا)
المطلوب اقتصار المؤلف في الغالب على وضع الكلمات في التراكيب دون ذكر
معانيها صراحًا اعتمادًا على فهم المطالع، واستنباطه معنى الكلمة من الجملة، فلهذا
ربما يصح أن يقال: إنه كتاب مطالعة لا مراجعة، وههنا قارب الصواب، وهو أن
الكتاب إنما وضع لبيان التراكيب المختارة، والأساليب البليغة في جميع ضروب
القول ومناحيه، فهو كتاب دراسة ومطالعة حتمًا، وتدل خطبته على ذلك، فليرجع
إليها من شاء، وسننشر شيئًا من مختارات الكتاب في جزء آخر.
***
(أنيس الجليس)
هي - ولا أزيد القراء معرفة بها - المجلة النسائية العربية الوحيدة المعروفة
بحسن الاختيار للمواضيع الأدبية والتهذيبية الجديرة باطلاع السيدات عليها، وقد
دخلت في سنتها الرابعة، فنهنئ منشئتها الفاضلة البارعة ألكسندرة أفرينوه بنجاحها
ونرجو لمجلتها الغراء زيادة الاشتهار ودوام الانتشار.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
الطريق القويم للتربية والتعليم [1]
(27)
من أراسم إلى هيلانة في 2 أغسطس سنة 185
أذكر أن رجلاً فاضلاً من أصدقائي كان قد وجد في نفسه انبعاثًا إلى التربية،
فأوجب عليها الاشتغال بها، ثم إنه انتُدِب لإدارة مدرسة كان غيره أنشأها، فألفى
نظام التأديب فيها بالغًا من الشدة غايتها؛ إذ رأى فيها أفرادًا من التلامذة يُخصون
بالعقوبة دون غيرهم، فيقضون ساعات الاستراحة في فنائها كل يوم جثيًّا أو قيمًا
في مواقف الجزاء، ولم يكن يعوزها شيء مما تشرف به من طرق العقاب
كالتكليف بمضاعف العمل والحبس والمنع من الخروج؛ لأنها كانت سائرة على
الأصول القديمة القويمة، فما لبث صديقي هذا أن أبطل كل ذلك النظام التعذيبي
دفعة واحدة لعلمه بأنه لا يرهب إلا الجبناء، ولا ينشأ عنه أثر للتهذيب في نفوس
المتعلمين، وقال للتلامذة: أنا أعلم من سيعاقبكم بعد الآن إن أنتم أسأتم؛ ذلك هو
وجدانكم الذي لا ينجو من سوط عذابه من أعفي من ضرب العصا.
كان شعار هذا المربي في تعليمه: (لا قلنسوة لعالم، ولا لحمار)[2] .
وكان التلامذة قبل وجوده في المدرسة لا يتسنى لهم أن يخطوا خطوة في
دهاليزها الطويلة وفي عرصاتها وقاعاتها الفسيحة إلا وهم مصطفون مثنى مثنى
تحت رعاية كبير لهم، كانوا يسمونه ضابط الرجالة تهكمًا به، ويكرهونه من
صميم أفئدتهم ولا يفترون عن مماحكته وابتلائه بضروب الحيل والخبث، فجمعهم
المعلم الجديد ليلقي عليهم نبأ عظيمًا، فقال لهم: اعلموا أنكم من الغد أحرار، لا
سيطرة لأحد عليكم، وأنه لن يرعاكم في سيركم وسيرتكم سوى عين الواجب الذي
تشعرون به. ولا أراني بعد هذا في حاجة إلى القول بأن كلاًّ منهم بمجرد سماعه
هذا التنبيه قد اعتبر طاعة النظام من أمس الأمور به وألزمها له.
وبينما كان في يوم من الأيام مجتازًا حديقة المدرسة بصر بتلميذ تسلق عريشة
كرم ممتد على جدار عتيق، يتدفق من فوقه ضوء الشمس، وأنشأ يأكل من قطوفه
أكلاً لمًّا، فتظاهر له بالغفلة عن فعله، ورجاه أن يلتمس له أمين المدرسة، فأتاه من
فوره يتبعه الغلام النهاب والريبة تدب إلى نفسه، فقال المدير للأمين: كيف يصح
أيها السيد أن لا يعطى هذا الغلام من الطعام كفايته؛ فإنه لم يكد يخرج من قاعة
المائدة حتى جاء إلى الكرم وطفق يجني قطوفه خلسة، فأرجو أن تأخذه الآن بنفسك
وترده إلى المطعم ليأكل ما يكفيه.
كان هذا المربي أقل الناس شبهًا بمديري المدارس، وكان من أجل ذلك
محبوبًا لتلامذته، فإني كثيرًا ما رثيت لحال معلم الأطفال الذي هو شهيد الشهداء
لمقتهم إياه مع إحسانه إليهم، وعلى كل حال لست أدري إن كنت مخطئًا في ذلك،
أو مصيبًا، وإني لا أخال الطفل كفورًا بنعمة معلميه؛ ولكنهم هم الذين أرادوا أن
يطعموه من باكورة العلم صابًا وعلقمًا، كيف لا وفي التعلم سعادة المتعلمين، وفي
التمرين والتدريب حياة لكل قوة من قوى الإنسان، ولا شيء إلا وهو يطلب الوجود
والظهور والنمو، وهكذا شأن التلميذ؛ وإنما القهر هو الذي يحيل فرحه إلى ترح،
ومرحه إلى خمود؛ فإنه يجيء إلى المدرسة وللحياة فيه دوي كدوي النحل، فيجد
مديرها عابس الوجه متمسكًا بالكتب، واثقًا بها ثقة الظالم الغاشم، فيا له من تنشيط
للأحداث وترغيب لهم في التعليم! !
الكتاب الذي ينبغي أن يتعلم منه الحدث هو صحيفة الموجودات، والمدارس
خلو منها.
إنك إذا دخلت غرفة من غرف المدارس لا تجدين فيها سوى مكاتب ملطخة
بالمداد، ومقاعد من الخشب غير مستوية القوائم، وجدرانًا أربعة عارية من الزينة
وسقفًا مرفوعًا على خُشب غليظة خشنة، يمتد بينها نسيج العناكب التي هي
عوامل الضجر المحزنة، فإذا نظرت خارج تلك الغرفة من نوافذها المفتوحة رأيت
الطيور مطلقة السراح مغردة في الجو كأنها تسخر من التلامذة؛ فإن الكون
الخارجي كله أصوات وأضواء وأشكال وألوان تدعو الطفل إلى التعلم بواسطة
مشاعره، وأما هذه الغرفة فلا شيء فيها يستلفت نظره، فقلما يوجد فيها صورة
وشيء من خرائط تقويم البلدان، وما عساه يوجد من الصور فدميم قبيح، ومن
الخرائط فهو يشبه خط قدماء المصريين في غموضه وتجرده من الرونق وقصوره
عن تمام البيان، فأقسم بالله على المتولين أمر التربية أن يدخلوا في هذه المقابر
التي أعدوها للأحداث نفحة من نفحات العالم الخارجي، وشعاعًا من أشعة الحياة.
كل أمة تُعنى بالتربية حق العناية ينبغي أن لا تخلو مدرسة من مدارسها من
نظارة معظمة (ميكروسكوب) لمضاعفة أجرام الأشياء التي لا تُرى بمجرد النظر
ومن مِرْقَب (تلسكوب) تسهل به رؤية أشكال أقرب الكواكب إلى الأرض، ومن
كرة جوفاء تمثل في باطنها أقسام الدنيا (جيوراما) ، ومن مَرْبى للحيوانات
والنباتات المائية، ومرآة للصور الماثلة (أستيريوسكوب) ، وبالجملة يجب أن
يوجد فيها جميع الأدوات اللازمة لتحصيل معنى الكون وآياته الكبرى في أذهان
الناشئين.
اعلمي أن اللفظ والخط طريقتان قاصرتان جدًّا عن إيصال العلوم إلى نفس
الحدث، وأن اللازم له إنما هو رؤية الأشياء، فلمربيه توجيه فكره ولو قبل تعليمه
القراءة إلى أمور كثيرة لا تخرج بحال عن متناوله وإدراكه، ورأيي فيما عليه
المربون الآن هو أنهم يفرطون في التعجيل بتعليمه بعضًا من فروع العلم كان حقها
التأجيل، وفي تأجيل بعض آخر كان أولى بالتعجيل، وكان يجب عليهم في اختيار
العلوم وترتيبها أن يرجعوا إلى درس القوانين التي يجري عليها الإنسان في نمو
جسمه ونفسه وعقله.
قولهم: (لما يجيء وقتي) ، كلمة تصدق على معظم قوى الإنسان في ساعة
ما من عمره، فالطفل يدرك من الأشياء أبعادها وعلاماتها الظاهرة؛ ولكن عقله في
غاية القصور عن الإحاطة بما بينها من الروابط، فهو أشد قصورًا عن النفوذ فيما
تجري عليه من القوانين، وعن تتبع سلسلة الأسباب التي نشأت عنها خصوصًا،
واليافع يتأثر بالقضايا الشعرية وترتاح نفسه إليها، ولا يميل إلى القضايا المنطقية
والأصول الحكمية، ومن حاول استمالته إليها فقد عبث؛ والسبب في هذا أن
ضروب الاستعداد المناسبة لهذه العلوم العقلية لما توجد فيه، أو أنه لم يوجد منها إلا
جراثيمها، فالإدراك لفظ عام يدخل في مفهومه عدة قوى متمايزة كل التمايز لا تنمو
إلا بالتدريج، ولكل منها طور كمون، ثم تظهر تابعة في ذلك لجملة من الحوادث
تتغير بتغير الأشخاص وما يحيط بهم؛ ولكنها على التحقيق محدودة بنواميس الكون
والزمان، فأفكارنا ووجداناتنا لها أعمار كأعمارنا.
الشيء الواحد يقتضي أن يتعلمه الإنسان عدة مرات ومن وجوه مختلفة، خذي
لك مثلاً: الطفل لا يرى في الوردة بادئ بدء إلا وردة، ثم إذا نمت فيه قوة الإدراك
قليلاً انتزع من شكلها ولونها ورائحتها مثالاً عقليًّا ممتازًا يعرف به الوردة كلما
وقعت في يده، وهو في هذا الطور من الحياة لا يهتم بمرتبتها التي عينها لها علماء
النبات في ترتيبهم، ولا بتركيبها ومعيشتها، فتلك طائفة من الشؤون والأفكار يجب
على مربيه الاحتراس التام من الخوض معه فيها إذا كان يعنيه أن لا يُضل مدركته
وكذلك الشأن في جميع الموجودات.
إذا أردت أن أعلم (أميل) علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) مثلاً، وهو
العلم الذي يعتبره العارفون أبا العلوم، فإني أنبهه أولاً إلى ما يوجد في الأحجار،
بل في حصا الطرق من أشكال المخلوقات العضوية المنطبعة عليها؛ فإن حبه
للاستطلاع وميله للاستئثار بالمعرفة مع مساعدة الفرص يعودانه في أقرب وقت
على تمييز أهم العلامات التي توجد في دفائن الأرض من بقايا تلك المخلوقات،
فجميع ذلك مناسب لسنه أو قريب منه، ثم بعد ذلك ببضع سنين أدعوه إلى أن
يقيس ما يكون قد جمعه من هذه النموذجات بعضه ببعض، وأن يرتبها على حسب
ما بينها من التشابه، وفي هذا الوقت دون غيره أتلطف في تسريب معنى أطوار
الأرض وعهودها إلى ذهنه، وأقص عليه تاريخها مستعينًا بتلك الحصا والحجارة،
فقد قال شكسبير: (إن في الحجارة لموعظة وذكرى)، وأنا أقول: إن فيها ما هو
أسمى من ذلك، فهي وحي يعلمنا كيف خلقت الأرض، ثم إذا بلغ إميل الثامنة
عشرة أو التاسعة عشرة من عمره؛ أي: صار في سن يؤهله لفهم كل ما أقوله له
حق الفهم استعنت بعلم طبقات الأرض على تعليمه حكمة التاريخ، فهو أمثل مقدمة
لها.
فيما كاشفتك به من أفكاري هذه غناء عن تعريفك أننا لا ينبغي لنا في تعليم
إميل أن نعول على شيء من المؤلفات الموجودة، فالوجيزة منها والصغيرة والكتب
المدرسية التي بين أيدي الأطفال جميعها وضعت لغير الوجهة التي نقصدها؛ فإنها
مختصرات علمية توهم واضعوها أنها تكون ملائمة لإدراك الأحداث بسهولة
عباراتها، وليس العيب ههنا في شكل الكتب، وإنما هو في أصل وضعها؛ فإن
أول شيء يتسنى للطفل إدراكه من نظام الكون هو ما يدركه منه الإنسان في أول
نشأته قبل تقدم العلوم وتقسيمها، فالمعلمون لا يفتؤون ينسون أن التعاريف والتقاسيم
والقوانين لم توجد إلا بعد التجارب، كما أن علوم اللغة متأخرة عنها في الوجود،
وكذلك علوم الدين. ويغيب عن أذهانهم أن علوم الإنسان لم تتكون ألبتة بالصورة
التي يتعلمها عليها الأحداث الآن؛ فإن الإنسان لم يصل إلى إيجاد طائفة من العلم
محدودة إلا بالانتقال من حادثة جزئية إلى أخرى، ومن سلسلة من الحوادث مرتبطة
بعضها ببعض إلى غيرها، وبعد أن وجدت له طائفة منها نشأ يستنبط لها القوانين
التي تضبطها، ثم تفرعت دوحة المعارف وتمايزت فروعها وانفصل كل علم عن
الآخر.
فالجري في تعليم الطفل على غير هذه الطريقة قلب لنظام عقل الإنسان،
فالمعلمون إنما يلقون عليه نتائج العلوم وخلاصاتها قبل أن تؤسس قوته الحاكمة
بمبادئها، وتدعم بمقدماتها، فترينهم ينحدرون مرة واحدة من الذروة التي رقى إليها
العلم في عصرنا بعمل الأجيال الماضية إلى ما هو فيه من حضيض الجهل، والذي
يستحسن أولئك المعلمون تسميته مبادئ العلوم إنما هو في حق الطفل من ثمرات
العقل المبالغ في تحضيرها، ومن نتائج ربط الأشياء بعضها ببعض.
أنا لا أجري على هذه الطريقة في تعليم (أميل) فإني أود قبل أن أعلمه
تاريخ الموجودات أن أعرفه بما في الكون، فأجعل له به أنسًا بأن أوجه نظره إلى
حوادث الحرارة والوضوء والكهرباء قبل تعليمه قوانين علم الطبيعة، وأعلمه شيئًا
من أوصاف أشكال الأجرام السماوية ومواقعها من قبة الفلك قبل الخوض معه في
علم الهيئة، بل إن قصدي إلى أن أشرح له في المستقبل ما أعلمه من نواميس
الكون أقل بكثير منه إلى إيقاظ وجدان الملاحظة فيه؛ فإن تعليم الطفل ليس بشيء
يذكر، وإنما الأمر الخطير هو أن يؤتى وسيلة التعلم بنفسه وتحرك فيه دواعي
الإقبال عليه، فدروسي لإميل كلها لا يكون فيها إلا ما كان له شأن في تنبيه عقله
وتقويته؛ لأنه مرجع جميع علومنا على اختلافها.
قد رأيت مما قدمته لك أنه قد قضي عليك أن تكوني (لأميل) كتابًا يأخذ عنه
علمه، فلا تستعيني بشيء من صغار الكتب وموجزاتها ومختصراتها، وعليك أن
تلتمسي له أبسط المعاني وأليقها بحالة إدراكه مع التدرج في ذلك بحسب ارتقائه في
الفهم، وأن تجعلي تعليمك مطابقًا لأحوال سنه اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
معرب من كتاب
(أميل القرن التاسع عشر)
.
(2)
القلنسوة في نظام التعليم الأوروبي شارة العلماء ينالها من أتم دراسته وأدى الامتحان فيها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المرأة الجديدة - تتمة التقريظ
وأما الفصل الخامس ففي التربية والحجاب، وأهم مسائله:
1-
قوله: إن الحجاب جعل المرأة في حكم القاصر لا تستطيع أن تباشر عملاً
ما بنفسها، مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شؤونها المعاشية بكفاءة مساوية
لكفاءة الرجل، وإن ضرره الأعظم أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها.
2-
وإنه ينبغي أن تربى كتربية الرجل في جسمها وآدابها وعقلها.
3-
وقوله: (متى انتهت تربية البنت باتخاذ ما يلزم من الوسائل لتنمية قواها
الجسمية وملكاتها العقلية وبلغت الخامسة عشرة من عمرها، ينبغي أن تطلق لها
الحرية في مخالطة الرجال؛ لأن قهر الإنسان لهواه وجعله تحت سلطان العقل
يستدعي قوة عظيمة في الإرادة، ولا توجد هذه القوة في الإرادة بإقامة الحوائل
المادية بينه وبين النقائص، ولا بمجرد حشو ذهنه بالقواعد الأدبية؛ وإنما تتولد
بالتعرض لملاقاة الحوادث والتعود على مغالبتها والتغلب عليها، فمزاولة الأعمال
ومشاهدة الحوادث واختبار الأمور ومخالطة الناس والاحتكاك بهم والتجارب كل هذه
الأشياء هي منابع للعلم والآداب الصحيحة، بها ترتقي النفوس الكريمة حتى تبلغ
أعلى الدرجات، وأمامها تنهزم النفوس الضعيفة وتهبط إلى أسفل الدركات) اهـ.
4-
وذكر قول معترض حض على النظر إلى مدنيتنا القديمة التي ذكر من
أصولها احتجاب النساء، وقال: إنها نفس الكمال: والرد عليه بوجوب أخذ الأهبة
لمقاومة سلطة العادات الموروثة إذا خشينا أن تسلبنا إرادتنا واختيارنا، وذلك
بالالتفات إلى المدنية الإسلامية، ووزنها بميزان العقل والتدبر في أسباب ارتقاء
الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، واستخلاص قاعدة من ذلك يمكننا أن نقيم عليه
بناء ننتفع به اليوم، أو في ما يستقبل من الزمان.
ثم ذكر ظهور الإسلام في جزيرة العرب وفتوحاته، وأخذ العلوم والصنائع
ممن فتح المسلمون بلادهم، وما كان من النهضة العلمية، وقال بعد ذلك ما نصه:
(على هذين الأساسين شيدت المدنية الإسلامية الأساس الديني الذي كوَّن من القبائل
العربية أمة واحدة خاضعة لحاكم واحد ولشرع واحد، والأساس العلمي الذي ارتقت
به عقول الأمة الإسلامية وآدابها إلى الحد الذي كان في استطاعتها أن تصل إليه في
ذلك العهد) ، ثم ذكر أن قوة العلم كانت ضعيفة في ذلك العصر وأكثر أصوله ظنية
وأن الفقهاء تغلبوا على رجال العلم ورموهم بالكفر والزندقة حتى نفر الناس من
دراسة العلم، قال: (ثم غلوا في دينهم وشطوا في رأيهم حتى قالوا في العلوم
الدينية نفسها: إنها لا بد أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. فقرروا أن ما
وضعه بعض الفقهاء هو الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه، وكأنهم رأوا
من قواعد الدين أن تُسد أبواب فضل الله على أهله أجمعين) ، ثم عقب هذا بكلمة
جليلة ذكر بعدها ما كان من ارتقاء العلم في أوربا وهي: (هذا النزاع الذي قام بين
أهل الدين وأهل العلم، ولا أقول: بين الدين والعلم لم يكن خاصًّا بالأمم الإسلامية،
بل وقع كذلك عند الأمم الأوربية) ، ثم ذكر بعض الاكتشافات الحديثة في العلم،
وتغلب أهله على رجال الدين واستنتج من ذلك قوله:
(فإذا كان التمدن الإسلامي بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصول
العلوم كما بيناه، فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدن كان (نموذج الكمال البشري)
يهمنا أن لا نبخس أسلافنا حقهم، ولا ننقص من شأنهم؛ ولكن يهمنا مع ذلك أن
لا نغش أنفسنا بأن نتخيل أنهم وصلوا إلى غاية من الكمال ليس وراءها غاية، نحن
طلاب حقيقة إذا عثرنا عليها جهرنا بها مهما تألم القراء من سماعها، لذلك نرى من
الواجب علينا أن نقول: إنه يجب على كل مسلم أن يدرس التمدن الإسلامي ويقف
على ظواهره وخفاياه؛ لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ويجب
عليه أن يعجب به؛ لأنه عمل انتفعت به الإنسانية وكمَّلت به ما كان ناقصًا منها في
بعض أدوارها؛ ولكن كثيرًا من ظواهر هذا التمدن لا يمكن أن يدخل في نظام
معيشتنا الاجتماعية الحالية) اهـ.
وقد بيَّن السبب في عدم هذا الإمكان من جهة العلوم الكونية قبله، وبين بعد
سبب ذلك من جهة النظامات السياسية، وانتقد السلطة المطلقة التي جرى عليها
الخلفاء والملوك، وما كان فيها من الاستبداد الذي ساعد عليه عدم تحديد الفقهاء
للعقوبات، بل تركوا أنواع التعزير مفوضة للحاكم، ثم بيَّن أنه لم يكن عندهم شيء
من العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى إن ابن خلدون لم يذكر في كتابه،
- وهو الكتاب الوحيد الذي وضع عند المسلمين في الأصول الاجتماعية - كلمة
واحدة في العائلة، ثم بين أن الحالة العائلية كانت خالية من كل نظام، ثم بيَّن ذلك من
جهة الآداب، فذكر أن المسلمين لم يأتوا للعالم بأصول جديدة فيها، وأما عملهم بها
فذكر أن التاريخ يشهد على أن كل عصر لا يخلو من الطيب والرديء، وأشار إلى
أهم ما يُنتقد على المسلمين كتمزيق الدولة العربية بالمنازعات الداخلية، وكشرب
بعض الأمراء والعظماء الخمر جهرًا في مجالس الجواري والقيان وغير ذلك، ثم قرر
بعد ذلك الرد على من قال: إن المدنية الإسلامية كانت (نموذج الكمال البشري) ،
وإن المسلمين كانوا حائزين جميع أنواع (الكمالات الأخلاقية الصحيحة) ، وقرر أن
الحجاب إذا كان عادة من عاداتهم التي لم تكن كلها كاملة فلا ينافي ذلك أنه لا يليق في
عصرنا، ثم قال ما نصه بالحرف: (وغني عن البيان أننا عند كلامنا على المدنية
الإسلامية لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنائع
والآداب والعادات التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها، ذلك لأن
عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية، فهو على ما به من
قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثرًا مناسبًا لدرجة عقول وآداب الأمم التي
سبقت، ثم حتم بوجوب بناء مدنيتنا على العلوم العصرية التي بنى عليها الأوربيون
مدنيتهم) .
والمسألة (5) من مهمات هذا الفصل البحث في زعم الذين يعترفون بتقدم
الغربيين علينا في الصنائع وإنكار تقدمهم في الآداب، ولم يُبق الإسهاب في المسألة
الرابعة مجالاً لتلخيص شيء منها، وإنما أطلت في هذه لأنها أهم مسائل الكتاب في
الحقيقة؛ ولأن الناس يلغطون فيها قولاً وكتابة على غير بصيرة، بل يكذبون على
المؤلف ويتهمونه بأنه طعن بالدين الإسلامي نفسه، وقال: إنه غير كاف لمدنية
المسلمين في هذا العصر. ونحو ذلك مما يرمي به من لا قيمة للصدق ولا للدين في
نفوسهم، نعم إن كلامه في هذا الموضوع لا يسلم من استدراك وانتقاد سنبينه في
بقية مقالاتنا في مدنية العرب، وأما خاتمة الكتاب فسنكتب عنها شيئًا في الجزء
الآتي إن شاء الله تعالى.
رأي الناس في الكتاب
ورأينا فيه
قلنا في تقريظ كتاب (تحرير المرأة) ما أعدنا معناه في تقريظ المرأة الجديدة
من أننا لم نر في مكتوب العصر شيئًا أثَّر في مسلمي مصر مثل هذين الكتابين،
وكنا قد استبشرنا لهذا التأثر لدلالته على أن في الأمة ذماء ورمقًا من الحياة يهيج
إحساسها للنفور من الضار في اعتقادهم، وإن لم يرتق إلى العناية بالنافع في الأخذ
به؛ ولكن هذا الاستبشار غير صافٍ من الكدورة، ولا محل هنا لبيان السبب في
ذلك؛ إذ لا يفي به إلا مقالة أو مقالات في شعور الأمة ووجدانها وتأثيره في أعمالها.
قلنا في الجزء الماضي: إن من الناس من قرَّظ كتاب المرأة الجديدة، ومن
انتقده، ونذكر ههنا أن المنتقدين هم الأكثرون بحسب ما يظهر لنا من كتابتهم في
الجرائد ومحاوراتهم في الأندية والسمار، يقول هؤلاء المنتقدون: إن هذا الكتاب
وسابقه ما أُلفا إلا لإقناع المسلمين بأن يعطوا نساءهم الحرية المطلقة بمعاشرة من
يردن من الرجال، وأن يكن كنساء الإفرنج مكشوفات الوجوه والرؤوس يختلفن إلى
الملاهي والمراقص، ويذهبن في التهتك كل مذهب. هذا ما يلهج به الجماهير
يتلقفه بعضهم من بعض وأكثرهم لم يقرأ الكتاب، ومنهم من يزيد على ذلك مسألة
المدنية الإسلامية والمدنية الغربية، وقد ذكرنا طعنهم فيها آنفًا.
إن كان الكتابان أُلفا لهاتين الغايتين، أو اشتملا عليها، فنحن وجميع المسلمين
بل وجميع العقلاء نقول: إنهما باطلان جديران بالمقت والرفض؛ لأن ذلك يجر إلى
فتنة في الأرض وفساد كبير، ويكون به خيار نسائنا في التهتك والتبذل أبعد غورًا
من شر نساء الإفرنج؛ لأن لهؤلاء من التربية والعلم الذي لم يصلن إليه إلا بعد عدة
قرون ما ليس لنا شيء منه، ونحن لما نبتدئ بالتربية ابتداء؛ ولكن هل الكتابان
كما يقولون؟ الجواب ما قلناه في تقريظ كتاب تحرير المرأة في العام الماضي من
أن المؤلف غالى في بيان مضار التشديد والمبالغة في الحجاب، وبالغ جدًّا في
جعل نجاح المسلمين متوقفًا على إزالة الحجاب المعهود في الأذهان، والموجود أثره
في الأعيان، بحيث إن هذه المغالاة والمبالغة المصوغة في قالب الأسلوب الكتابي
المؤثر تذهب بوجدان القارئ إلى وجوب تمزيق هذا الحجاب؛ لأنه لم يحجب إلا
العلوم والفضائل عن نصف الأمة.
وقد رأينا من أفاضل المعتدلين في الإنكار على كتاب المرأة الجديدة من قال: إن
هذا هو الضرر الحقيقي من قراءة الكتاب، وقال: إنني كنت أقرأه فأشعر بوجداني قد
تغير واعتقادي بوجوب بقاء الحجاب قد تزلزل واضطرب، فأترك القراءة ليثوب إليّ
وجداني الأول، ويسكن اعتقادي فيه، ثم أعود إليها. فقلت له: ربما تكون هذه
المغالاة مقصودة للمؤلف؛ لأن الداعي إلى شيء ينبغي له لأجل إرجاع من يدعوهم
إلى الاعتدال الذي هو الحق أن يقف على الطرف المقابل لما هم فيه، فإن كانوا في
جانب التفريط يقف في جانب الإفراط؛لينتهي التجاذب بينه وبينهم إلى الوسط، ولو
وقف في الوسط وجذبهم وجذبوه يخرج كل منهما عنه، أو يبقى في محله ولا فائدة في
ذلك، ومن هنا يقول الناس: لا بد من شيء من الباطل لأجل الوصول إلى الحق.
وقد قال الإمام الغزالي: إن وعد القرآن ووعيده مبني على هذه القاعدة فمثل قوله
تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) إنما يعالج الذين غلبت عليهم خشية الله،
والخوف من عذابه، وأفرطوا فيها حتى كادوا يقنطون من رحمته تعالى، وأما
الذين غلب عليهم التهاون وأدى بهم الإفراط في الرجاء إلى الغرور وكادوا يأمنون مكر
الله وعذابه وتجرؤوا على المعاصي، فيجب أن يُعالجوا بمثل قوله تعالى:
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) وإذا ذكروا تلك الآية ذُكِّروا بمثل قوله
تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82)
وهكذا يجب أن يكون المرشد كالطبيب يعطي كل مريض ما مست إليه حاجته ويناسب
حاله.
ثم إن من فوائد هذه المبالغة أن أثارت أفكار الناس للبحث، وكل الباحثين أو
جلهم موافق له على سوء حالة المرأة المصرية والمسلمة، ووجوب تربيتها وتعليمها،
وقد كان المانع الأكبر منهما عند الجماهير هو الحجاب؛ ولكنهم يخالفونه في توقف
التربية والتعليم في كمالهما على تخفيف الحجاب أو منعه، فإذا انتهت هذه المناقشات
بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، ويكون
الفضل الأكبر في ذلك لقاسم بك يعترف له بعض المنصفين الآن، ويحفظه التاريخ
إلى آخر الزمان.
استفتاء البابلي في المرأة الجديدة
من أعجب ما أحدثه كتاب (المرأة الجديدة) في نفوس الناس أن محمد أفندي
عبده البابلي كتب إلى فضيلة مفتي الديار المصرية كتابًا مفتوحًا وزَّعه على الناس
ونشره في الجرائد يسأل فيه: (هل رفع الحجاب عن المرأة وإطلاقها في سبيل
حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب المرأة الجديدة يسمح به الشرع الشريف
أم لا؟) ، ثم طبع استلفاتًا إلى هذا الكتاب المفتوح، ووزَّعه في الأزقة والشوارع،
وأرسله إلى الجرائد قبل أن يرسله إلى فضيلة المفتي المخاطب به، حتى إن الإستاذ
المفتي لم يعلم به إلا بعد أن أطلعته أنا عليه، ونحن نجيب هذا السائل المستلفت
فنقول:
(1)
إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود في مثله، ولم يفهم أحد من
العقلاء معنى توزيع السؤال مطبوعًا على الناس، لا سيما قبل إيصاله إلى المسؤول
بل أنا في شك من إرساله إليه قياسًا على الاستلفات الذي رآه عندي لأول مرة،
ولا يقال: إن الغرض الفائدة؛ لأن الفائدة إنما تكون في الجواب، وربما كان أكثر
الذين وُزِّع عليهم الكتاب المفتوح والاستلفات من خالي الذهن عن كتاب المرأة
الجديدة، فيظهر أن للسائل غرضًا غير الإفادة.
(2)
لا يخفى على السائل وغيره أن الاستفتاء عن كتاب يستلزم أن يقرأ
المفتي ذلك الكتاب كله، وذلك تكليف الشطط؛ لأن أصحاب الأعمال الكثيرة كمفتي
القطر المصري يجب أن يختصر في الأسئلة التي تلقى إليهم؛ لأن كثرة أعمالهم لا
تسمح لهم بقراءة الأسئلة المطولة والجواب عنها الذي يستدعي التفصيل والتطويل
غالبًا، وإننا نعلم أن الأسئلة التي ترفع إلى شيخ الإسلام في دار الخلافة لا يكتفون
فيها بالاختصار حتى يذكرون الجواب، ويسألون عنه، فيكتب شيخ الإسلام كلمة
(أولور) إذا كان الجواب بالإيجاب، وكلمة (أولماز) إذا كان سلبًا.
والسائل يعلم أن مفتي الديار المصرية هو رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية
التي هي أعظم جمعية للمسلمين في البلاد العربية كلها، وهو أيضًا عضو عامل في
مجلس شورى القوانين، ومجلس الأوقاف الأعلى، وله أعمال أخرى في نظارة
الحقانية، وهو شيخ رواق الحنفية الذي هو أعظم رواق في الأزهر وناظر على
أوقاف كبيرة، وعضو في مجلس إدارة الأزهر، ويؤلف ويقرأ في الأزهر درسًا في
علم البلاغة، ودرسًا في تفسير القرآن الشريف، ولا يخفى ما يستلزمه هذا الدرس
من المطالعة والمراجعة، ويعلم أنه من الدقة في أعماله بحيث إذا رُفع إليه استفتاء من
المحاكم عن قتل جانٍ، يقرأ جميع أوراق القضية، وإن كانت تعد بالمئات، ويعلم
أيضًا أنه مقصود من الناس بقضاء المصالح، فلا يخلو يوم من عدة أشخاص يطلبون
منه قضاء مصالحهم، فهل مثل هذا يستفتى عن كتاب، ويكلَّف بقراءته ليبين رأيه
فيه؟ كلا، إنه يجب على شيخ الجامع الأزهر أن يؤلف بمعرفة المفتي ومساعدته
لجنة من العلماء لانتقاد الكتب التي تنشر بين المسلمين، يكون أفرادها من البارعين
في جميع الفنون، بحيث ينتقد كل صنف ما هو عالم به، ثم ينشر ذلك في الجرائد؛
فإن في الكتب المنسوبة للمتقدمين ما ينشر، وفيه من الإفساد في الدين والدنيا فوق ما
يتصوره كل منتقد على كتاب المرأة الجديدة.
(3)
إن الفتوى في الكتاب لا يمكن أن يفهمها أحد إلا إذا اطلع على السؤال،
والسؤال يدخل فيه الكتاب كله، فيحتاج كل من اطلع على الفتوى أن يقرأ الكتاب
أولاً، فإذا كان ضارًّا تكون الفتوى سببًا في إذاعة الضرر.
(4)
إذا أفتى مفتي الديار المصرية في الكتاب، فلا شك أن فتواه تكون
بمقتضى مذهب الحنفية الذي عينته الحكومة ليفتي به، فإذا لم توافق فتواه غرض
صاحب الكتاب يمكنه أن يقول كما قال في كتابيه: إن إصلاح شؤون المسلمين يتوقف
على عدم التقيد بقول إمام واحد، بل يجب أن ينظر في المصلحة وتطبق على قول
أي إمام، ولا يخفى أنه نقل عن بعض الأئمة في تحرير المرأة جواز كشف الوجه
والكفين، وجواز معاملة الرجال في غير خلوة، وهذا كل ما يطلبه من إبطال
الحجاب.
كل هذا يدلنا على أن السائل أخطأ في السؤال، وأنه لا يلقى جوابًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قسم
الأحاديث الموضوعة
الموضوعات في العلماء والزهاد
ذكرنا في الجزأين 27 و 28 من السنة الماضية بعض الأحاديث الموضوعة
في تعظيم العلماء وإطرائهم، وبقي علينا بقية منها، وأن نذكر الأحاديث
الموضوعة في انتقادهم على عدم العمل، وانتقاد العباد بغير علم، وأكثر
الموضوعات في الإطراء وضعها علماء السوء لتعظيم أنفسهم على المتصوفة الذين
تخصهم العامة بالتعظيم والإكرام واعتقاد الولاية، وأكثر تلك الأحاديث الانتقادية
وضعها مدعو الإصلاح والولاية للحط من شأن العلماء الذين يظهر من عملهم أنهم
لا يريدون بعلمهم إلا المال والجاه، وهكذا كانت المحاسدة بين الفريقين إلا من
عصم ربك من المخلصين؛ ولكن الانتصار كان للعلماء إلا في الأزمنة التي ساد
فيها الجهل، وصار الأمراء كالعامة في اعتقاد جهلة مدعي الولاية أوالمتظاهرين
بالصلاح، وآل الأمر إلى مشاركة العلماء لهم في هذا الاعتقاد والتظاهر به؛ لئلا
يتهموا وتنحرف عنهم العامة، فيفوتهم الانتفاع منها، ولا تنس استثناء المخلصين،
وقليل ما هم.
فمن هذه الموضوعات حديث: (يكون في آخر الزمان علماء يُرَغِّبون الناس
في الآخرة ولا يرغبون، ويُزَهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينبسطون عند
الكبراء، وينقبضون عند الفقراء، وينهون عن غشيان الأمراء (أي: زيارتهم
والتردد عليهم) ولا ينتهون، أولئك الجبارون عند الرحمن) وفي إسناده نوح بن
أبي مريم أحد المشهورين بالكذب، ولا يغرنك كون مضمونه واقعًا الآن، فتستدل
به على صحته؛ فإنهم ما وضعوه إلا لواقع متحقق، وما كل صحيح المعنى يصح
رواية.
ومنها حديث: (يأتي على أمتي زمان يحسد الفقهاء بعضهم بعضًا، ويغار
بعضهم على بعض كتغاير التيوس) ، في إسناده متهم بالوضع، وإن صح معناه.
ومنها حديث: (من فتنة العَالِم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع) ، وهو
موضوع.
ومنها حديث: (هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشرار الشرار شرار
العلماء، وخيار الخيار خيار العلماء) ، لم يوجد وإن صح معناه.
ومنها حديث: (لا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض)، قالوا: إسناده
لا يصح.
ومنها حديث: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة
الأوثان) ، وهو موضوع، وقال ابن حبان: باطل. وفي إسناده من يتهم بالوضع،
وذكر له في اللآلئ المصنوعة طرقًا لا يصح منها شيء.
ومنها حديث: (المتعبد بغير فقه كالحمار في الطاحونة، ما اتخذ الله من ولي
جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه) ، قال ابن حجر: ليس بثابت. قلت: كانوا يحتجون به
على الجهال الأميين الذين يدَّعون الولاية، ويصدقهم العوام لتظاهرهم بالصلاح،
وما كان هؤلاء ينتهون عن دعواهم؛ لأن لهم من العامة قوة يغلبون بها الحق على
قاعدة بسمارك، وقد أنكر بالحديث أحد العلماء على أحد أدعياء الأولياء الجهلاء،
وكان لم يره، وبلغ الولي ذلك، فاتفق أن اجتمعا في مجلس مصادفة، فابتدر الولي
العالم بقوله: (اتخذني وعلمني) ، فعدها له الناس مكاشفة وزادوا به اعتقادًا؛ لأن
كرامة وهمية كهذه تهدم ألف قاعدة من قواعد العلم والدين، وهذا العلم الذي يسميه
الصوفية (اللدني) لا يتناول علوم الرواية والأحكام كالحديث والفقه واللغة كما بينه
الفقيه ابن حجر في الفتاوى الحديثية؛ ولذلك تجد أكابر الصوفية الصادقين يحتجون
بالأحاديث الموضوعة؛ إذ لم يكونوا من المحدثين؛ ولكن أين من يعقل ويفهم؟
ومنها حديث: (أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في
الدنيا فلم يطلبه، ورجل علم علمًا، فانتفع به من سمعه منه دونه) ، قال ابن
عساكر منكر.
ومنها حديث: (من نصح جاهلاً عاداه)، قالوا: لم يرد مرفوعًا، أي لم
ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كلام بعض السلف، أقول: إذا
أراد قائله بالجاهل الأحمقَ السفيهَ فله وجه، وأما إذا أراد غير العالم فهو خطأ
وضلال يقتضي ترك التعليم والنصيحة، وفي ذلك محو الدين بالمرة.
ومنها حديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا معشر العلماء إني لم أضع
علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم، قوموا فإني قد غفرت لكم) ، رواه ابن عدي عن واثلة
ابن الأسقع مرفوعًا، وقال: هذا منكر، لم يتابع عثمان بن عبد الرحمن القرشي عليه
الثقات. وله إسناد آخر عند ابن عدي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا، وقال: في
إسناده طلحة بن يزيد متروك، وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل.
ومنها حديث: (إن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي
فيه بين المشرق والمغرب، كما يضيء الكوكب الدري) ، رواه أبو نعيم والخطيب،
قال في الميزان: هذا خبر باطل.
ومنها حديث: (إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر،
فيأمر الله جبريل أن يأتيهم ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن
أصحاب الحديث، فيقول الله تعالى: ادخلوا الجنة على ما كان منكم طالما كنتم
تصلون على نبيي في دار الدنيا) ، قال الخطيب: موضوع، والحمل فيه على الرقي
يعني محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي، وقد ذكره الذهبي في الميزان، وقال: إنه
وضع هذا الحديث. أقول: حيَّا الله تعالى علماء الحديث.
ومنها حديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا
عالمًا) ، رواه ابن عبد البر وضعَّفه؛ ولكن قال صاحب الذيل: هو من أباطيل
إسحق الملطي. وقال في المقاصد: طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة
قادحة. وقال البيهقي: هو متن مشهور وليس له إسناد صحيح. أقول: وسبب
شهرته عناية العلماء بحفظ الأربعينات رجاء أن يكون ثابتًا في الواقع وإن لم يصح
سنده.
وقد ورد في العلماء والعباد أحاديث أخرى تكلم فيها بعض، واحتج بها
آخرون، منها حديث: (شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين
يأتون العلماء) ، روى ابن ماجه شطره الأول بسند ضعيف. وروي بلفظ (العلماء
أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل
فاحذروهم واعتزلوهم) ، قيل: هو موضوع وفي إسناده مجهول ومتروك. وتعقب
ذلك.
وما زال العلماء العاملون والصوفية المخلصون يحتجون بهذا الحديث، وما
ورد في معناه؛ لأنه مؤيد بسيرة السلف الصالح، وكانوا يتهمون كل عالم يغشى
مجالس الأمراء والسلاطين إلا إذا كان بمقدار ما يؤدي النصيحة الواجبة ولم يأخذ
من عطاياهم شيئًا، وإحياء علوم الدين طافح بآثار السلف في ذلك، وقد انقلب
الأمر الآن؛ فإننا نرى من الناس من يستدل على حسن حال المنتسبين إلى العلم
والصلاح بالقرب من الملوك والأمراء، وربما يعدون من كراماتهم ما يمنحونه من
الحلي والحلل الذهبية والفضية التي تسمى النياشين وكسوة الرتبة والتشريف، فلا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها حديث: (أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) ، رواه أحمد والطبراني،
والقراء: العلماء، والله أعلم.
_________
الكاتب: حافظ إبراهيم
انتقاد الأخلاق والعادات
لمعري العصر في فلسفة الشعر محمد أفندي حافظ إبراهيم
لحاظك والأيام جيش أحاربه
…
فهذي مواضيه وهذي كتائبه
وهمين ضاق القلب والصدر عنهما
…
غرام أعانيه وعيش أغالبه
وليل كمطل القوم كابدت طوله
…
وأيقنت أني لا محالة صاحبه
كأن دياجيه صحيفة ملحد
…
تخط بها أعماله ومثالبه
قريت به جيش الصبابة والأسى
…
وأنزلته صدرًا تداعت جوانبه
وعلمت نفسي كظم غيظي ولم أبح
…
بما فعلت بين الضلوع قواضبه
تماسكت حتى لو رأى القوم حالتي
…
رأوا رجلاً هانت عليه مصائبه
رجائي في قومي ضعيف كأنه
…
جنان وزير سودته مناصبه
ودائي كداء الدين عز دواؤه
…
وحظي كحظ الشرق نحس كواكبه
فياليت لي وجدان قومي فأرتضي
…
حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه
ينامون تحت الضيم والأرض رحبة
…
لمن بات يأبى جانب الذل جانبه
يضيق على السوري رحب بلاده
…
فيركب للأهوال ما هو راكبه
فما هي إلا أن تجشمه النوى
…
وما هو إلا أن تشد ركائبه
ويحرج بالرومي مذهب رزقه
…
فتفرج في عرض البلاد مذاهبه
أقاسم إن القوم ماتت قلوبهم
…
ولم يفقهوا في السِفْر ما أنت كاتبه
إلى اليوم لم يُرفع حجاب ضلالهم
…
فمن ذا تناديه ومن ذا تعاتبه
فلو أن شخصًا قام يدعو رجالهم
…
لوضع نقاب لاستقامت رغائبه
ولو خطرت في مصر حواء أمنا
…
يلوح محياها لنا ونراقبه
وفي يدها العذراء يسفر وجهها
…
تصافح منا من ترى وتخاطبه
وخلفهما موسى وعيسى وأحمد
…
وجيش من الأملاك ماجت مواكبه
وقالوا لنا رفع الحجاب محلل
…
لقلنا نعم حق ولكن نجانبه
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ثناء
قد حذت جريدة طرابلس حذو المنار بالكلام في الموضوعات، فاستحقت بذلك
الثناء.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
ضاق هذا الجزء عن هذا الباب، وسنثبته في الجزء الآتي ويدخل فيه باقي
ترجمة ملكة الإنكليز وغير ذلك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تصحيح
ذكرنا في الصفحة 862 من الجزء الماضي أن سعادتلو عبد الغني باشا العابد هو
شقيق صاحب العطوفة الشهير أحمد عزت بك العابد الكاتب الثاني لمولانا السلطان
الأعظم، وكان ذلك سبق قلم، والصواب أنه ابن عمه لا شقيقه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
من الإدارة
من ينقصه شيء من أعداد سنة المنار الثالثة، أو فهرس المجلد الثاني، فليطلبه
يُرْسَل إليه، وأما فهرس المجلد الثالث فسيوزع مع الجزء الآتي إن شاء الله تعالى،
ونرجو من غيرة المشتركين الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك أن يتفضلوا بإرسالها،
ونخص بالذكر أهل تونس والجزائر ومراكش وجاوة والهند، ولهؤلاء الخيار في
إرسال القيمة حوالة على إدارة البوسطة، أو على أحد البنوك في القاهرة.
_________
الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى
الفضائل والرذائل [
1]
] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[2]
قالوا: للإنسان كمال مفروض عليه أن يسعى إليه. وقالوا: إنه عرضة لنقص
يجب عليه الترفع عنه. وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في
التلوث برذيلة من الرذائل. فما هي الفضائل؟ وما هي الرذائل؟
الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها
كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل؛
فإن من سجية كل منهما البذل في الحق والمنع إذا اقتضاها الحق، فكل يعرف حده
فيقف عنده، فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفَّاء لا
يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة
وفي طبيعته الإيثار بالرغائب، وهكذا إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب
من الصفات الفاضلة تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها
في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في
شخصين مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها،
ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة فيهما، وعلى هذا النحو يكون الأمر في
الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة
الاتحاد بين الآحاد تميل بكل منهما إلى الآخر، وتجذب الآخر إلى من يشاكله حتى
يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته
غاية واحدة.
مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع
الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله لا يتجاوزه بما يمس حقًّا للآخر، فبه
يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه
العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع وهو في
هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازًا عن
بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع حتى
يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد، والأفراد فيها كأعضاء تختلف
في الوظائف والأشكال؛ وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير
حظها من الوجود ليعود إليه نصيب من عملها الكلي، كما أودع الله في أعضاء
أبداننا وبنيتنا الشخصية، والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في
كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته كاليد بها البطش
والتناول وليس بها الإبصار، والعين بها الإبصار وتمييز الأشكال والألوان وليس
من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة وإن شئت قلت: الفضائل في عالم
الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام
الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحُفظت
النسبة بينه وبين الكواكب الأخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز
العليم؛ حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها، كذلك شأن الفضائل في
الاجتماع الإنساني بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود، ويثبت البقاء
النوعي إلى أن يأتي أمر الله.
أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارس والوازع، والجالب والدافع،
وجميع من يدبر أمورها، ويسوسها في شؤونها؛ إنما هم أفراد منها من هاماتها،
أو من لهازمها (من الأعلياء والأوساط بل وسائر الأطراف) ، ويكون كل واحد
منها قائمًا بحق الكل، ولا يختار مقصدًا يعاكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية
تميل به عن غاية الكل، ولا يهمل عملاً يتعلق بالأمة حتى يكون الجميع كالبنيان
المتين لا تزعزعه العواصف، ولا تدركه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة
قوة تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار فهي
الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق.
إن أمةً هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد،
فمثلهم في اختلاف الأعمال كمثل المتدابرين على محيط دائرة، يتفارقان في مبدأ
السير؛ ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مآخذهم لجلب منافعهم
كجاذبي طرف خيطة واحدة (حبل واحد) كل آخذ بطرف مع تعادل القوتين، ففي
جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر
فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك
الأفراد من هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم تكون كأنصاف دائرة مركزها
حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وأنهم في
جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه.
يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية، وتمتاز بالميل إليه عن
سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن نواله
إذا توافر للأمة حظها من هذه المزايا، فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة
أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن
فرد من أفرادها، فضلاً عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من
آلات عمله، وقطع سببًا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدًا من الآحاد، ولا
يزدري بعمله ويحسب الشخص من الأمة، وإن كان صغيرًا بمنزلة مسمار صغير
في آلة كبيرة لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه.
عليك أن تنظر في حقائق هذه الصفات الفاضلة لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر
الذي بيَّناه - التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام والعفة والسخاء
والقناعة والدماثة (لين الجانب) والوقار والتواضع وعظم الهمة والصبر والحلم
والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس) ، والنجدة والسماحة والصدق
والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد والعفو والرفق والمروءة والحمية
وحب العدالة والشفقة - أترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم، أو
غلبت في أفرادها يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام العام؟ هل يوجد مثار للخلاف
والتنافر بين عاقلين حُرين صادقين وفيَّين كريمين شجاعين رفيقين صابرين حليمين
متواضعين وَقُورين عفيفين رحيمين؟
أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتًا
لأحيتها، أو قفرًا لأنبتتها، أو جدبًا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله
عليها، ولا قامت لها من الوحدة سياجًا لا يُخرق وحرزًا منيعًا لا يُهتك، وإن أولى
الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: (إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق) ، الفضيلة حياة الأمم تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة وتحفظها
من الانحلال المؤدي إلى الزوال {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: 117) .
أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس من طبيعتها التحليل والتفريق
بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) ، والبذاء (التطاول على الأعراض
بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام) ، والسفه والبله والطيش والتهور والجبن
والدناءة والجزع والحقد والحسد والكبرياء والعجب واللجاج والسخرية والغدر
والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان، ألقت
بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في
الوفاق؛ فإن طبيعة كل منهما، إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما
السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب لمن يشاركه في الجنسية أو الملية
أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل، والإنسان مجبول بالطبع على
النفرة ممن يتعدى على حقوقه، أو يمنعه حقًّا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين
سفيهين جبانين بخيلين (كل منهما يمنع الآخر حقه) شرهين حاقدين حاسدين
متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه) لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين،
هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته
قاضيًا بانتباذ كل من صاحبه، وإن لم تكن داعية؟ وكفى بخلقه وصفته باعثًا قويًّا
للتنابذ.
هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها، ونثرت أعضاءها، وبددتها
شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي أن تسطو على هذه الأمة
قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر؛ فإن حاجاتهم
في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، ولا بد من قوة خارجة
تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة، هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم
صار بأسهم بينهم شديدًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض
أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم ويفتخرون بالانتماء إليهم،
يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم،
ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحًا، وكل جليل منهم حقيرًا، إذا نطق أجنبي
بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم، ونفائس الحكم، وإذا غاص
أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق، وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه
من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف
ومن المحال أن يوجد بيننا خبير. ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب،
ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها، يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت
على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من
أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم وجمع كلمتهم،
ويقعدون له بكل سبيل يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار،
تراهم بتضارب أخلاقهم، وتعاكس أطوارهم، كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم
لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم،
فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه
الأخلاق يجعلهم منبعًا للشر، ومبعثًا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكَلِب أول
ما يبدأ بِعَضّ صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق أول ما يفتك بمربيه
ومهذبه، ثم يثني بطبيبه ومعالج دائه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من
نحو الجزام، والآكلة يمزقون الأمة قطعًا وجذاذات، بعدما يشوهون وجهها،
ويشوشون هيئتها، أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسايس؛ لتغلب النذالة
على سائر أوصافهم، فيتَنفَّجُون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلاً عن
عليتهم، وبهذا يمكِّنون الذلة في نفوسهم لمن دونهم، ويطبعونها على الخضوع
للغرباء، بل الأعداء الألداء من طبقة إلى طبقة، حتى تضمحل الأمة وتُنسخ هيئتها
وتفنى في أمة أو ملة أخرى سنة الله في تبدل الدول وفناء الأمم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) أعاذنا الله من هذه
العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من الصير إلى هذه النهاية.
بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتُمحَّص النفوس من الرذائل
حتى تستعد الجمعيات البشرية إلى الاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد، كل
مولود يولد على الفطرة، مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل
ينال كمال الفضيلة من آبائه وأسلافه؟ أنى يكون لهم حظ منها، وقد كانوا ناشئين
على مثل ما نشأ عليه وليدهم، يرشدنا رائد الحق إلى أن الاعتدال في أصول
الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل
بآثارها إنما يكون بالدين، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به، فيصيبوا حظًّا
وافرًا مما يرشدنا إليه، فيتمتعوا بحياة طيبة وعيشة مرضية، إلا إذا قام رؤساء
الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول
ودعوة الناس إلى العمل بها، وتنبيه الغافلين عن رعايتها، وتذكير الساهين عن
هديها، أما إذا أهمل خَدَمَة الدين وظائفهم، أو تهاونوا في تأدية أعمالها ضعف
اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية، وأظلمت البصائر
بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعاشية، ومال ميزان
الاختيار مع الهوى، فحشرت إلى الأنفس أوفاد الرذائل، فيحق على الناس كلمة
العذاب، ويحل بهم من الشقاء ما أشرنا إليه سابقًا.
هذه علل الخراب في كل أمة، ولقد ظهر أثرها في أمم لا تحصى عددًا من
بداية كون الإنسان إلى الآن، ولم يزل آثار بعضها يشهد على ما فتكت به الرذائل
بعدما بدَّلوا وغيّروا كما في طائفة (الدهيرومنك) من سكنة الأقطار الهندية
المعروفين عند الأوربيين بطائفة (ياريا) {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} (الروم: 42) فالدين هو السائق إلى السعادة في الدنيا
كما يسوق إليها في الآخرة.
تقلب قلب الدهر على بعض طوائف من المسلمين في أقطار مختلفة من
الأرض، وسلبهم تيجان عزهم، وألقاها على هامات قوم آخرين، واليوم ينازع
طوائف أخرى، ولا نخاله يتغلب عليهم، فكشف هذا عن نوع من الضعف، ولا
يكون ناشئًا إلا عن شيء من الإهمال في اتباع أوامر الشرع الإسلامي ونواهيه
بحكم قول الله في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد يكون ذلك وربما لا ينكر الآن أن كثيرًا من عامة المسلمين وإن
صحت عقائدهم من حيث ما تعلق به الاعتقاد، إلا أنهم لا ينهجون في بعض
أعمالهم منهاج الشريعة الغراء، وهذا مما يُحْدِث ضعفًا في الأمة بقدر الميل عن
جادة الاعتدال في الفضائل والأعمال {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) .
إلا أن المسلمين لم يزالوا على أصول الفضائل الموروثة عن أسلافهم، ولهم
حسن الإذعان لما جاء به شرعهم، وكتاب الله متلوّ على ألسنتهم وسنة نبيهم
يتناقلونها رواية ودراية وسير الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مرسومة على
صفحات نفوس الخاصة منهم، فليس ما طرأ على بعضهم من الغفلة عن متابعة
الشرع وما تسبب عنه من الضعف في القوة إلا عرضًا لا يبقى، وحالاً لا يدوم.
انظر نظرة إنصاف إلى ما أودعته آيات القرآن من غرر الفضائل وكرائم
الشيم، وإلى حرص المسلمين على احترام كتابهم وتبجيله، تجد من نفسك حكمًا باتًّا
بأن علماء الديانة الإسلامية لو نشطوا لأداء وظائفهم المفروضة عليهم بحكم وراثتهم
لصاحب الشرع والمحتومة على ذمتهم بأمر الله الموجه إلى الذين يعقلونه وهم هم
في قوله الحق: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وبالحض الإلهي المفهوم من
قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} (التوبة: 122)(المؤمنين) {طَائِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) ولو قاموا يعظون العامة بما ينطق به القرآن ويُذَكِّرونهم بما
كان عليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الناهجون على سنته من
الأخلاق المحمودة والأعمال المبرورة؛ لرأيت الأمة الإسلامية ناشطة من عقالها
متضافرة على إعادة مجدها وصيانة ولايتها العامة من الضعف، وبيضة دينها من
الصدع كل ذلك في أقرب وقت، ولن تكون إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.
ولا ريب أن الراسخين في العلم من أهل الدين الإسلامي يعلمون أن ما أصيب
به المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة إنما هو مما امتحنهم الله به جزاء على بعض
ما فرطوا، وليس للناس على الله حجة، فالرجاء في هممهم وغيرتهم الدينية
وحميتهم الملية أن يوجهوا العناية إلى رتق الفتق قبل اتساعه، ومداواة العلة قبل
استحكامها، فَيُذَكِّروا أبناء الملة بأحكام الله، ويحكموا بينهم روابط الأخوة والألفة
كما أمر الله في كتابه وعلى لسان نبيه، ويبذلوا الجهد لمحو اليأس والقنوط الذي
ملك أفئدة البعض منهم، ويقنعوهم بأنه لا ييأس من لطف إلا الذين في قلوبهم
مرض، وفي عقائدهم زيغ، ويسيروا بهم في سبيل يجمع كلمتهم ويوحد وجهتهم
ويقوي فيهم إباءة الضيم والنفرة من الذل، ويحرك فيهم روح الأنفة حتى لا تسمح
نفس أحدهم أن يأتي الدنية في دينه، ويكشفوا لهم حقيقة وعد الله ووعده الحق في
قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
_________
(1)
مقالة من العروة الوثقى والعنوان لنا.
(2)
(الذاريات: 55) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
المحاورات بين المصلح والمقلد
أصل الجفر ومعناه، إضافته إلى الشيعة، إنكار نسبته لجعفر الصادق،
الرواية والمروي، الباطنية وعصمة آل البيت وعبادتهم، ادّعاء الحاكم الألوهية،
المتكلمون وردهم على المعتزلة دون الباطنية ونحوهم، سبب الجدل بين الفقهاء،
المنار والعلماء والأولياء، إسناد الجفر إلى سيدنا علي ورده، معنى الجفر
وموضوعه، ملحمة ابن عربي، التصوير والصور، صدق الجفر والملاحم وكذبها،
الجفر والأمراء والملوك، الزايرجة والرمل والمندل والبروج.
المحاورة الخامسة
الجفر والزايرجة
لما عاد الشيخ المقلد والشاب المصلح إلى المحاورة، والمضي في المباحثة
والمناظرة، بدأ الأول بإعادة الشكر والثناء على الثاني لإهدائه مقدمة ابن خلدون
وإظهار الاغتباط بها وقال:
المقلد: إنني نظرت في فهرس المقدمة قبل المطالعة فرأيت ذكر الجفر
والزايرجة، فكان هذان البحثان أول شيء قرأته في هذا الكتاب؛ ليكون لي منهما
مادة من جنس مادتك أناظرك بها، فأما الجفر فألفيت مؤلفها يميل إلى إنكاره،
ويذكر أن هارون بن سعيد العجلي رأس الزيدية - فرقة من الشيعة - هو الذي يروي
كتاب الجفر عن جعفر الصادق رضي الله عنه، وأنه كان مبينًا لما سيقع لأهل
البيت على العموم، ولبعض الأشخاص على الخصوص بحسب ما أعطاهم الكشف
الذي يقع لمثلهم من الأولياء، قال: وكان مكتوبًا عند جعفر في جلد ثور صغير،
فرواه عنه هارون العجلي وكتبه وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه؛ لأن الجفر
في اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم علمًا على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه
تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق، وبعد
هذا أنكر ابن خلدون صحة الرواية في ذلك مع أنه أثبت الكرامة لجعفر وآله عليهم
الرضوان، ولا إخال إلا أنك تبعت هذا الرجل في إنكار الجفر، وإن كان عدم
صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي في الواقع ونفس الأمر، وأما كلامه
في الزايرجة فلا أخفي عنك أنني لم أفهمه.
المصلح: إنني أود لو تطَّلع على كل ما اطَّلعت أنا عليه مما نتكلم فيه لما في
ذلك من الاقتصاد في زمن المناظرة، ومن سهولة الإقناع والاقتناع، ولا يختلجن
في نفسك أنني أقلد ابن خلدون أو غيره في شيء مما أقول؛ وإنما أطَّلِع على ما
نقله هو وغيره، وأعتقد ما يترجح عندي بعد النظر الطويل، وأما قولك: إن عدم
صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي فلعلك تريد به أن عدم العلم بصحتها لا
يقتضي أن المروي غير واقع لجواز وقوعه مع عدم تصدي الثقات لنقله وروايته؛
ولكن لا يسعك أن تنكر أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا
بالرواية الصحيحة، فإذا لم توجد لا يسمح لنا الدين ولا العقل أن نقول بثبوته، وإذا
أنكرناه بناء على أن الأصل عدمه لا نُعذل ولا نُلام فكيف إذا وجد من التهم ما يقتضي
الإنكار، وهو ما يقصه علينا التاريخ من سيرة فرق الشيعة المنتحلين لهذه البدع، لا
سيما في عهد العبيديين الذين روجوا مذهب الباطنية الذي زلزل دين الإسلام زلزالاً،
وخرج بمسلمي الشيعة من الاعتقاد بعصمة آل البيت وإلحاقهم في ذلك بالأنبياء إلى
عبادتهم والقول بألوهيتهم فإذا كان شاعر المعز يقول في مظلته:
أمديرها من حيث دار لشد ما
…
زاحمت تحت ركابه جبريلا
ويقول:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
…
فاحكم فأنت الواحد القهار
فإن الحاكم لا يزال يُعبد إلى اليوم، وكل ما قرأته عليك في وصف الله تعالى
من رسالة دين الدروز في محاورتنا الماضية؛ فإنهم يريدون به الحاكم العبيدي،
وكذلك النصيرية يعبدونه، وهم أشد الناس عناية بتعرف علم الغيب من الجفر
والنجوم.
المقلد: إني لأعجب لعلمائنا من المتكلمين والفقهاء كيف يسكتون عن هؤلاء
الضالين المضلين، ولا يزال يرد الأولون على المعتزلة، وقد انقرضوا وانقرض
مذهبهم، ويرد الفقهاء بعضهم على بعض وكلهم من أهل السنة والجماعة.
المصلح: إن أكثر ما تراه من الجدل والرد والإنكار من العلماء بعضهم على
بعض ناشئ عن الأهواء؛ فإن المعتزلة هم السبب في وجود علم الكلام، خاضوا
في أمور لم يخض فيها السلف الصالح فانبرى آخرون لمناضلتهم، وبعد ذلك
تداعت دعائم العلم والنظر، ولما يبق للمقلد من المتأخرين إلا حكاية ألفاظ المتقدمين
وإن ذهبت فائدتها بذهاب وقتها، والاكتفاء بالسكوت عن البدع والضلالات التي
حدثت بعد أولئك الأئمة كالأشعري وأصحابه وتكفير من يسأل عنها وتضليله، إلا
أن تنشر وتُلوَّن بلون الدين، ويوجد لها أتباع وأنصار كبدع أهل الطريق، فحينئذ
يناضلون عنها بالتحريف والتأويل، ويعكسون الحكم فيرمون منكرها بالكفر أو
التضليل، كما هو مشاهد في كل جيل وقبيل، وأما الفقهاء فقد بيَّن حجة الإسلام
الغزالي في كتاب العلم من إحياء علوم الدين أن السبب في مجادلاتهم ومناضلاتهم
هو التزلف إلى الأمراء والخلفاء، والتزاحم على منصب القضاء، ولذلك تجد
الوطيس لم يحم إلا بين الحنفية والشافعية؛ لأن المناصب كانت محصورة فيهم،
على أن الحكم عليهم بالسكوت لا يصح على عمومه، فلا بد في كل عصر من فرد
أو أفراد ينصرون الحق ويخذلون الباطل؛ ولكن غلبة الجهل على الأمة تسوّل لها
الباطل وتزينه في نفوسها فتعمى عن الحق ولا تبصره، وقد نُشر في الجزء الثالث
من منار السنة الثالثة نبذة في حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم نقل فيها
عن الفقيه ابن حجر الهيتمي أن الاشتغال بالروحانيات هو الذي أضل الحاكم
العبيدي حتى ادَّعى الألوهية وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة، فأحب أن تقرأ تلك
النبذة.
المقلد: إن المنار جريدة ضارة تهين العلماء، وتنكر الأولياء، فلا أحب أن
أراها، بل أحمد الله أنني لم أطلع عليها قط.
المصلح: سبحان الله، كيف يصح لك وأنت من أهل علم الدين أن تحكم على
ما لم تر، والله يأمرك أن تتبين وتتثبت فيما يجيئك من الأنباء عن الفساق الذين
يغتابون الناس، ويسعون بينهم بالنميمة، لا توجد عندنا جريدة تُعلي من قدر
العلماء كالمنار؛ لأنها تجعل في أيديهم زمام الأمة، وتنيط بهم أمر إصلاحها،
وإرجاعها إلى مجدها الأول بإصلاح التربية والتعليم، ولا يذمه منهم إلا من يشعر
من نفسه بالقصور عن القيام بشيء من هذا الإصلاح، وأما الأولياء فالمنار لا
ينكرهم؛ وإنما ينهى عن إطرائهم والغلو فيهم بأن يُدْعَون مع الله تعالى، ويطلب
منهم ما لا يطلب إلا منه سبحانه، ولولا خشية الخروج عن موضوعنا لقرأت لك
بعض كلامه في ذلك.
المقلد: كنت أسمع أن الجفر مأخوذ عن سيدنا علي كرم الله وجهه، وينسبون
للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس سره جفرًا يسمونه الشجرة النعمانية،
ويقولون: إنه يحتوي على جميع الحوادث العظيمة إلى يوم القيامة.
المصلح: نعم إن من الناس من يزعم ما ذكرت كالجرجاني، وقال ابن طلحة:
الجفر والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي وهو يخطب على المنبر في
الكوفة؛ والآخر أسرَّ به إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتدوينه فكتبه علي
حروفًا متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر فاشتهر بين الناس؛ لأنه وجد فيه ما
جرى للأولين والآخرين. أقول: وكانوا يزعمون أن الجفر إخبار عن المغيبات
صريحة أو رموزًا، ولما أرادوا أن يجعلوه علمًا أدخلوه في علم الحرف والعدد الذي
هو بعد الروحانيات في المرتبة، واختلفوا في وضعه وتكسيره فمنهم من كسره
بالتكسير الصغير، وزعموا أنه جعفر الصادق، ومنهم من يضعه بالتكسير المتوسط
وهو الذي توضع به الأوفاق الحرفية، ومنهم من يضعه بطريق التركيب الحرفي
أو العددي، ومن الناس من خلط بين الجفر والتنجيم وسمى كل ما كتب في الملاحم
والحدثان جفرًا، وإن كان مبنيًّا على القرانات.
ومنهم من يعتقد أن الجفر لا يكون إلا عن كشف، وأن الرموز الحرفية والعددية
وغيرها لم يضعها الشيخ محيي الدين بن عربي في جفره، إلا لأجل الإبهام لكيلا يطلع
الناس على الغيب، فتفسد شؤونهم، وقد اطلعت أنا على الشجرة النعمانية، فإذا هي
رموز لا يُفهم منها شيء، وبالجملة لم يثبت أن لهذا الجفر أصلاً علميًّا يُرجع إليه في
معرفة الغيب، وإلا لارتقى وتسنى تحصيله لكل أحد، ولم يعط الله تعالى علم الغيب
لأحد إلا ما أخبر به بعض الأنبياء عليهم السلام من أحوال الآخرة والملائكة والجن مما
ثبت في الوحي فنصدق بالقطعي منه إيمانًا وتسليمًا، نعم لا ننكر أن في الناس محدَّثين
وملهمين يخبرون بشيء أن سيقع فيقع كما قالوا، لكن هذا نادر ومخصوص
بالجزئيات، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى
مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) .
المقلد: رأيت في مقدمة ابن خلدون أنه وقف على ملحمة منسوبة لابن
العربي الحاتمي الذي هو الشيخ الأكبر فيها أوفاق عددية، ورموز ملغوزة، وأشكال
حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة، وتماثيل من حيوانات غريبة، وقد أنكرها ابن
خلدون، وقال: الغالب إنها غير صحيحة؛ لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة
ولا غيرها، وكان الأولى أن ينكر نسبها للشيخ الأكبر لوجود الصور والتماثيل فيها؛
لأن التصوير حرام يجل عنه ولي من أكابر الأولياء.
المصلح: ربما يعتقد ابن عربي وابن خلدون أن الصور المحرمة هي ما لها
علاقة بالدين كصور الأنبياء والأولياء؛ لأنها ربما تُعَظَّم تعظيمًا دينيًّا، فتكون أوثانًا
تعبد عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فالنهي عن التصوير كالنهي عن بناء القبور
وتشريفها واتخاذ المساجد عليها، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين، فقد لعن النبي
صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بها، وأما الصور التي لا علاقة لها بالدين ولا
هي مظنة التعظيم فلا تدخل في علة النهي، أما قرأت في صحيح البخاري وغيره
حديث القرام (الستار) المصور الذي كان عند عائشة رضي الله عنها، وكيف أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بهتكه؛ لأنه كان منصوبًا كالصور التي كانت تُعْبَد في
الكعبة وطمسها، ثم لما زالت صفة التعظيم باتخاذ القرام وسادة كان عليه السلام
يتكئ عليها مع بقاء الصور فيها.
المقلد: هذا تعليل مخالف لكلام الفقهاء، وأُجِلُّ الشيخ الأكبر عن القول به.
المصلح: أما علمت أن الشيخ الأكبر غير مقلد للفقهاء ولا لغيرهم، وأنه
صرح في فاتحة الفتوحات بأنه لا يتقيد بمذهب سني ولا معتزلي ولا غير ذلك،
وصرح بأن ليس كل ما يقوله المعتزلي باطلاً
…
إلخ، وعلم أن بعض الناس ينسبه
إلى مذهب ابن حزم الظاهري فأنكر ذلك وأنشد:
ويعزوني إلى قول ابن حزم
…
ولست أقول ما قال ابن حزم
المقلد: لقد صح من أخبار الجفر شيء كثير، وذلك كقول الشيخ الأكبر في
الشجرة النعمانية على ما يقولون: (إذا دخل س في ش ظهر قبر محيي الدين)
وقد كان كذلك؛ فإن السلطان سليمًا هو الذي أظهر قبر الشيخ عندما دخل الشام وبناه
وأجرى عليه الأوقاف.
المصلح: يوجد في هذه الجفور الرمزية وغير الرمزية أخبار تقع، وقد
رأيت في جفر منسوب إلى الإمام علي كرم الله وجهه (ويل للإسكندرية من
الأساطيل البحرية) ، وفي موضع آخر (ويل للقاهرة من العاهرة) ، وذلك أن من
يخبر بأشياء كثيرة من شأنها أن تقع لا بد أن يصدق بعضها، ولو كان الجفر حقًّا
لوقع كل ما أخبر به، وأما الرموز فمجال التضليل فيها واسع وميدانه فسيح؛ لأن
هذه الحروف تصدق على أشياء كثيرة وتنطبق عليها من غير أن تكون موضوعة
لها، ولم يوضع ذلك إلا لخداع الأمراء والملوك لابتزاز أموالهم وابتغاء الزلفى
عندهم، وما أراك إلا قد قرأت قصة الدانيالي في مقدمة ابن خلدون [1] ، وما ذكره
عن ملحمة الباجريقي الصوفي [2] ، وقد ذكرت لك من قبل أن كلمة تصدق تخدع
الجهلاء، فيظنون أن الكلام كله صحيح.
المقلد: نعم قرأت ذلك، وإني أخبرك بخبر من هذا القبيل جرى لصاحبي
الشيخ المصري العالم بالزايرجة والحرف؛ ولكنه من الأسرار التي لا أسمح لك أن
تذكرها عني، ذلك أن الأمير.. . تنازع هو وحرمه في أمر ذي بال لا ينبغي
التصريح به، وإنما يقال في الجملة: إنه ارتكب ما يوجب حدًّا شديدًا، فعاقبته عليه
بجناية ساءته وإن كانت خيرًا له، وأنكرت عليه أن العقوبة من قِبَلَها، فاستحضر
الشيخ ليكشف له الحقيقة بالزايرجة، فلما وقف على القصة بالإجمال والتمويه علم
أن المصلحة والمنفعة في تبرئة الحرم المصون مما يتهمها به الأمير، فزعم بعد
إعماله وحسابه أن الأمر جاء من طبيعته لا من قبلها وانصرف بمال كثير.
المصلح: انظر إلى أمراء المشرق وملوكه الذين تروج عندهم هذه
الخزعبلات كيف يزدادون تعاسة وشقاء عامًا بعد عام، فمستقبلهم دائمًا شر من
ماضيهم، وانظر إلى ملوك أوروبا الذين يستعدون للمستقبل بما تعطيهم العلوم
الصحيحة وسنن الكون كيف يزدادون قوة وعزة وارتقاء.
المقلد: هل الرمل من قبيل الزايرجة والجفر؟ فإني أراك درست هذه الأشياء.
المصلح: الزايرجة ضرب من أعمال الحساب وتكسير الحروف يُقصد به
معرفة الغيب، وعدَّه ابن خلدون من فروع السيمياء، والرمل من قبيل الزايرجة،
قال ابن خلدون: استنبطه قوم من عامة المنجمين وسموه خط الرمل نسبة إلى المادة
التي يضعون فيها عملهم، وفصل القول في محصول صناعتهم الباطلة، ولعلك
قرأته فهو صناعة، والغيب لا يمكن أن يعرف بصناعة، ومن آية بطلان هذا العمل
أنه لا يروج إلا في سوق الجهالة كما قال ابن خلدون في أهله وهو: (ولقد نجد في
المدن صنفًا من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه
فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه، فتغدو عليهم
وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم
في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل،
ويسمونه المنجم، وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب، ونظر في المرايا
والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في
الشريعة من ذم ذلك، وأن البشر محجوبون عن الغيب)
…
إلخ ما قرأت، وأنت
ترى أنهم زادوا في هذا الزمان أمورًا أخرى كالنظر في ورق اللعب، والنظر في
الكف، ومن ذلك كتاب البروج لأبي معشر وغيره يحسبون اسم الرجل واسم أمه
بالجُمَّل، ويسقطون من المجموع اثني عشر مرة بعد أخرى حتى لا يبقى إلا اثنا
عشر أو دونها، فينظرون في الباب الذي يوافق العدد الباقي، ويتعرفون منه تاريخ
ذلك الرجل في جميع شؤونه، وحسبك في فساد هذا أن المتفقين في اسم الأب والأم
تكون شؤونهم متحدة، وإننا لنشاهد فيهم السعيد والشقي والغني والفقير والمالك
والمملوك فحسبنا يا مولاي بحثًا في هذا الهذيان، ولنتكلم في الجد الذي هو أصل
موضوعنا، فقبل الشيخ منه ذلك، وانصرفا على موعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
قال ابن خلدون: حكى المؤرخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيام المقتدر (الخليفة) وراق ذكي يعرف بالدانيالي يبل الأوراق، ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة، ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريده منهم من
الدنيا، وأنه وضع في بعض دفاتره م مكررة ثلاث مرات، وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر فقال له: هذا كناية عنك، وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما يرضاه ويناله من الدولة ونصب لذلك علامات يموه بها عليه، فبذل له ما أغناه به، ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً، فجاءه بأوراق مثلها، وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها، وأنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء، وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدنيا في أيامه، وأوقف مفلحًا على هذه الأوراق، وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النوع مما وقع، ومما لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأُعجب به مفلح ووقف عليه المقتدر، واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سببًا لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز اهـ.
(2)
وقال قبل ذلك: ووقفت بالمشرق أيضًا على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي، وكلها ألغاز بالحروف، وذكر منها أبيات منها بعد ذكر رجل يسمى الأعرج الكلبي يأتي من المشرق:
إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من الـ
…
ـزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء وظاء وعين كلهم حبسوا هلكًا وينفق أموالاً بلا ثمن
ثم ساق حكاية الدانيالي وقال:
والظاهر أن هذا الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع، ولقد سألت عنها أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفًا بطرائقهم فقال: (كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية، وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف يومئ إلى رجال معينين عنده ويلغز عليهم بحروف بعينها في ضمنها لمن يراه منهم، وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها، فتنوقلت عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة وهو أمر ممتنع؛ إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف
قبله ويوضع له، وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه) ، فرأيت من كلام هذا الرجل الفاضل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطبة أساس البلاغة
(خير منطوق به أمام كل كلام، وأفضل مصدَّر به كل كتاب، حمد الله
تعالى ومدحه بما تمدّح به نفسه في كتابه الكريم، وقرآنه المجيد، من صفاته
المجراة على اسمه لا على جهة الإيضاح والتفصلة، ولا على سبيل الإبانة والتفرقة؛
إذ ليس بالمشارك في اسمه المبارك {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) وإنما هي تماجيد لذاته المكونة
لجميع الذوات، لا استعانة ثم بالأسباب، ولا استظهار بالأدوات، وأولى ما قُفّي به
حمد الله الصلاة على النبي العربي المستل من سلالة عدنان، المفضل باللسان،
الذي استخزنه الله الفصاحة والبيان، وعلى عترته وصحابته مَدَارِهِ العرب وفحولها
وغرر بني معد وحجولها.
هذا - ولما أنزل الله كتابه مختصًّا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي
تقطعت عليها أعناق العتاق السبق، وَوَنَت عنها خُطا الجياد القرَّح، كان الموفق
من العلماء الأعلام أنصار ملة الإسلام، الذابّين عن بيضة الحنيفية البيضاء
المبرهنين على ما كان من العرب العرباء، حين تحدوا به من الأعراض عن
المعارضة بأسلات ألسنتهم، والفزع إلى المقارعة بأسنة أسلهم، من كانت مطامح
نظره، ومطارح فكره، الجهات التي توصل إلى تبين مراسم البلغاء، والعثور
على مناظم الفصحاء، والمخايرة بين متداولات ألفاظهم، ومتعاورات أقوالهم،
والمعايرة بين ما انتقوا منها وانتخلوا، وما انتفوا عنه فلم يتقبلوا، وما استركوا
واستنزلوا، وما استفصحوا واستجزلوا، والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه
الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم
احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حَظِيّ، وفهمه فيه جاحظيّ.
وإلى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير إليه محمود بن عمر الزمخشري عفا
الله عنه في تصنيف كتاب (أساس البلاغة) وهو كتاب لم تزل نعام القلوب إليه
زفافة، ورياح الآمال حوله هفافة، وعيون الأفاضل نحوه روامق، وألسنتهم بتمنيه
نواطق، فلبَّت له العربية وما فصح من لغاتها، وملح من بلاغاتها، وما سمع من
الأعراب في بواديها، ومن خطباء الحلل في نواديها، ومن قراضبة نجد في أكلائها
ومراتعها، ومن سماسرة تهامة في أسواقها ومجامعها، وما تراجزت به السقاة على
أفواه قُلُبها، وتساجعت به الرعاة على شفاه علَبها، وما تقارضته شعراء قيس
وتميم في ساعات المماتنة، وتزاملت به سفراء ثقيف وهذيل في أيام المفاتنة، وما
طولع في بطون الكتب ومتون الدفاتر من روائع ألفاظ مفتَّنة، وجوامع كلم في
أحشائها مجتنة.
ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى
تحت استعمالات المفلقين، أو ما جاز وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها من التراكيب
التي تملح وتحسن، ولا تنقبض عنها الألسن، لجريها رسلات على الأسلات،
ومرورها عذبات على العذبات، ومنها التوقيف، على مناهج التركيب والتأليف،
وتعريف مدارج التركيب والترصيف، بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددًا،
ومتناظمة لا طرائق قِدَدًا، مع الاستكثار من نوابغ الكلم الهادية إلى مراشد حر
المنطق، الدالة على ضالة المنطيق المفلق، ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب
الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة والكناية عن التصريح.
فمن حصل هذه الخصائص، وكان له حظ من الإعراب الذي هو ميزان
أوضاع العربية ومقياسها، ومعيار حكمة الواضع وقسطاسها، وأصاب ذروًا من
علم المعاني، وحظي برَسٍّ من علم البيان، وكانت له قبل ذلك كله قريحة صحيحة
وسليقة سليمة، فحُل نثره، وجزل شعره، ولم يطل عليه أن يناهز المقدمين،
ويخاطر المقرمين، وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولاً، وأسهله متناولاً،
يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير
أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا
بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه، والله سبحانه وتعالى
الموفق لإفادة أفاضل المسلمين، ولما يتصل برضا رب العالمين.
(المنار)
نشرنا هذه الخطبة لتكون هادية لطلاب البلاغة إلى منهاجها ومرشدة مريدي
الفصاحة إلى ينابيعها وأثباجها، ولم نفسر ألفاظها الغريبة، ونشرح مغازيها العجيبة
لنبعث همة التلامذة إلى المراجعة والمكاشفة، ونحملهم على المباحثة والمشارفة،
وننصح لهم أن يحفظوها، ثم يقلدوها ويحتذوها، فهكذا فليكتب الكاتبون، وهكذا
فليسمع الساجعون، وإلا فلا.
_________
الكاتب: جحدر
قصيدة جحدر في الأسد
ذكرنا في الجزء الماضي أن جحدرًا لما قتل الأسد أنشد قصيدةً، وهذه هي:
يا جمل إنك لو رأيت بسالتي
…
في يوم هيج مردف وعجاج [1]
وتقدمي لليث أرسف نحوه
…
عنى أكابره عن الإخراج [2]
جهم كأن جبينه لما بدا
…
طبق الرحا متفجر الأثباج [3]
يرنو بناظرتين يحسب فيهما
…
من ظن خالهما شعاع سراج
شَثن براثنه كأن نيوبه
…
زرق المعاول أو شباة زِجاج [4]
وكأنما خيطت عليه عباءة
…
برقاء أو خَلَق من الديباج [5]
قرنان محتضَران قد ربَّتهما
…
أم المنية غير ذات نتاج [6]
وعلمت أني إن أبيت نزالة
…
إني من الحجاج لست بناج
فمشيت أرفل في الحديد مكبلاً
…
بالموت نفسي عند ذاك أناجي
والناس منهم شامت وعصابة
…
عبراتهم لي بالحلوق شواجي
ففلقت هامته فخرّ كأنه
…
أطم تقوض مائل الأبراج [7]
ثم انثنيت وفي قميصي شاهد
…
مما جرى من شاخب الأوداج
أيقنت أني ذو حفاظ ماجد
…
من نسل أملاك ذوي أتواج [8]
فلئن قذفت إلى المنية عامدًا
…
إني لخيرك بعد ذاك لراج
علم النساء بأنني لا أنثني
…
إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
_________
(1)
المردف: من أردف القوم إذا دهمهم.
(2)
الرسف والرسفان مشي المقيد.
(3)
الجهم: بالفتح الوجه الغليظ المجتمع في سماجة، ويقال: جهم ككتف وجهيم كأمير، وصاحبه أجهم ويوصف به الأسد، والثبج: مجرى الماء ووسط الشيء ومعظمه وأعلاه، ومن الحيوان ما بين الكاهل إلى الظهر ويختلف الاستعمال، يقال: ركب ثبج البحر أي معظمه، والجمع أثباج وثبوج.
(4)
الشثن: الغليظ، والمعاول جمع معول كمنبر: الفأس العظيمة ينقر بها الصخر، ووصفها بالزرقة كما يصفون النصل إذا كان صافيًا، والشباة: الحد، والزجاج بالكسر جمع زج، وهو بالضم: الحديدة في أسفل الرمح.
(5)
البرقاء: اللامعة، أو التي اجتمع فيها بياض وسواد أو صفرة، والخلق: العتيق.
(6)
يعني بالقرنين نفسه والأسد.
(7)
الأطم: بضمتين الحصن، والأبراج: هنا الأركان.
(8)
جملة أيقنت جواب (لو رأيت) في البيت الأول، والأملاك: الملوك، والأتواج، التيجان، والخطاب في البيت بعده للحجاج.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المنار الأنور
واقتراح طلاب الأزهر
جاءنا من بعض المشتغلين بعلم الأدب في الجامع الأزهر تحت هذا العنوان ما
يأتي:
حضرة مولانا الأستاذ
إني إذا كتبت إليك فإنما أهدي لبحرك دُرَّه، ولغيثك قطره، وأقدم لك بعض
ما اقتبسته منك، فلو كنتُ خطيب إياد، أو ابن زياد، أو الكاتب الذي تعقد ذؤابة
قلمه بالسماك ونجمه، وتسير معانيه كالفلك الدوار بما فيه، وأتيت بما فات الأوائل،
ولم تستطعه الأواخر، لقلت: إن لساني في بيانك شحذته، وقلمي من بنانك أخذته،
على أنَّا قد آوينا منك إلى ركن شديد، وهيهات أن نستضيء بغير المنار أو نهتدي
بغير الرشيد.
وتالله إني لا أجد عبارة أصوّر بها ما في القلوب من إطلاعكم الحق مطالعه،
وإلزامكم الباطل مضاجعه، وتقدم المنار حتى دخل في السنة الرابعة؛ فإن التصوير
شيء ما ألفناه، والتعبير عن الوجدان مثال ما احتذيناه، ومنا من يخال أنه
كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه.
فإذا كان المنار قد حمل إلى الأقطار نفحة سارت بها الرياح، وطلع على أهلها
طلوع الصباح، فلينهج لأهل الأزهر منهاجًا في الأدب يسلكونه، وليضع لهم مثالاً في
الإصلاح يحتذونه، حتى يكون تصوير الشعور عندنا من الشعائر، ونقتدر على
وصف جليات الظواهر وخفيات الضمائر، فنكون من حملة الأقلام، وتؤدي بدايتنا
إلى الغاية المطلوبة والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد سعيد الرافعي
…
(المنار)
نشكر للكاتب الأديب حسن ظنه بنا، ولولا شغفنا باشتغال الأزهريين بالكتابة
والأدب، واغتباطنا بما نراه من نجابتهم لما خالفنا سنتنا بنشر هذا التقريظ.
أما المنهاج الذي أقترحه فأحيله وإخوانه المشتغلين بالأدب على قراءة خطبة
أساس البلاغة المنشورة في هذا الجزء، واتباع ما ترشد إليه، وأزيدهم الحث على
مطالعة كتاب الأغاني وكتاب نهج البلاغة والجزء الثالث من إحياء علوم الدين، إن
لم يطالعوا الكتاب كله، ثم العمل بكتابة المقالات في الموضوعات المختلفة
وتعريضها للانتقاد فمن لا يَنتقد ولا يُنتقد، ولا يناظر الفضلاء ويساجل الأدباء، لا
يسلم من الخطأ والخطل، ولا يتنبه لتجنب الزيغ والزلل، وإن شئت فقل: لا يكمل
له علم ولا عمل، وإننا نقترح عليهم أن يتناظروا في المواضيع الآتية:
1-
هل غاية طلب العلم تحصيل ملكة الفهم، أم تحصيل ملكة العلم؟
2-
فوائد قراءة الحواشي ومضارها.
3-
هل يُطلب من علماء الدين معرفة علوم الكون ولو إلمامًا أم لا؟
4-
هل يجب على علماء الكلام استبدال الرد على فلاسفة هذا العصر ومبتدعته
بالرد على قدماء الفلاسفة والمبتدعة الذين انقرضوا أم لا؟
5-
هل انتشر الدين الإسلامي بكونه حقًّا يلائم حال البشر أم بالقوة والسيف؟
6-
هل أفادت الجرائد البلاد العربية أم أضرت بها؟
7-
هل نفع الشرقيين دخول الأجانب بلاد الشرق أم أضر بها؟
فهذه سبعة مواضيع متى رأينا أقلامهم تجول فيها نقترح عليهم غيرها،
والمنار مستعد لنشر مناظراتهم بشرط الاختصار في النبذ، وإن تعددت في موضوع
واحد، والنزاهة التامة في التخاطب.
(س) من حضرة القانوني البارع صاحب الإمضاء بحروفه:
لا أرى ختم الكتابة بحرف أو حرفين من اسم صاحبها لا يُفهم أو لا يُفهمان،
ولا أرى لذلك معنًى عامًّا ذا شأن في كل الأحوال، فكثيرًا إن لم يكن في الأغلب
يختتم الكاتب كتابته بحرف أو حرفين من اسمه إن لم يبالغ في التستر والتخفي،
فلا يرمز حتى ولا بما يعرف بالنقطة.
لماذا؟ هذا لا يبغى ولا نريد أن تكون العلة عيبًا في الكتابة لوجه من الوجوه
التي ترمي إليها؛ فإن الكاتب لا يقصد لنفسه هذا العيب حتى يضطر إلى التخفي
عن معرفة الناس، أو لا يرضاه لنفسه فيعمل، وإن عمل فما أنا بالمعترض عليه هنا
لرمزه أو لعدم الرمز مطلقًا، وإنما لكتابته مع ذلك، وإنما الذي أعنيه بإنكاره إخفاء
نفسه مطلقًا صاحب الكتابة التي لا عيب فيها مطلقًا، بل التي هي مفيدة، وأوجه
الإفادة كثيرة، وهذا هو الأغلب في ما أراه من الكتابات ذات إخفاء الاسم كله، أو إلا
ما هو في حكم الكل.
هذا تعجب مني، لذلك طلبت إليَّ نفسي مني مرات إظهاره، وعلى لسان
مناركم الوضَّاح لأهتدي منه إلى الحقيقة، فلعلي مخطئ إلى أن أنفذت الإرادة هذه
المرَّة، وحسبكم اختياري لكم وما أنتم بأولي الحاجة وعليكم السلام في الأول، وفي
الختام، 23 فبراير سنة 1901
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
كتبه
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... مراد فرج
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المحامي بمصر
جواب المنار
من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد كأساتذة المدارس وبعض
الموظفين، ومن الناس من لا يحب إظهار اسمه إذا كتب، إما ترفعًا؛ لأن الجرائد لم
تزل غير مقدورة قدرها عندنا، وإما خوفًا من الحكم على كلامه بما يعتقد الناس من
مشربه؛ لأن الأكثرين يعرفون حق القول وباطله بقائله لا بذاته، ويريد هؤلاء أن
يعودوا الناس على خلاف ذلك، ومن هؤلاء من يرمز إلى اسمه بالحروف أو يختار
لقبًا مصنوعًا يُعرف بهذا أو ذاك بين خاصته وتلك فائدة خاصة، وللرمز فوائد
أخرى عامة منها: عدم اشتباه الكاتبين الذين لا يصرحون بأسمائهم لا سيما إذا
تكررت الكتابة في موضوعات مختلفة، ومنها أن يميز الناس بين المقالات فيعرفوا
رأي صاحب هذا الرمز من رأي غيره ويعرفوا مقصده وغرضه، فيقبلون عليه أو
يعرضون عنه، واعتبر ذلك بمقالات (أسباب ونتائج) ، ومقالات (حكم ومواعظ)
التي نشرت في المؤيد من بضع سنين، فقد عُرف صاحبها بسداد الرأي حتى
اعتنى الفاضل محمد علي كامل صاحب دار الترقي وبجمعها وطبعها لتعم فائدتها،
وإن قيل: إن العناوين في مثل هذا كافية للتمييز ومعرفة وحدة المصدر أو تعدده.
فنقول: إن العناوين مباحة لكل أحد، ولا يكاد يتفق كاتبان على رمز واحد لاسمهما،
وإن الكاتب الواحد يكتب في مواضيع مختلفة لا يصح أن يلتزم لها عنوانًا واحدًا،
ومن الفائدة في الرمز سهولة التعريف عند إرادته، فإذا قلت لك: إن ما كان يكتب
في المؤيد منذ سنتين بإمضاء (م ر) هو لي، والمراد بالحرفين محمد رشيد أمكنك
أن تتذكرها إن كنت قرأتها، ولا يمكنني أن أعرفها بعناوينها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهدايا والتقاريظ
(الحيوان والإنسان أو خاتمة رسائل إخوان الصفا)
هذه الرسائل مشهورة عند أهل العلم والاطلاع، فمنهم من يتنافس فيها لما
احتوت عليه من الفلسفة والتصوف وغرائب العلوم، ومنهم من يحظر النظر فيها
لذلك، وقلّ من يعرف مؤلفيها وهم على ما نُقل عن أبي حيان التوحيدي: زيد ابن
رفاعة، وأبو سليمان محمد بن مشعر البستي، وأبو حسن علي بن هارون الزنجاني،
وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي وآخرون، ومرادهم بتأليفها إلباس الفلسفة لباس
الدين؛ ليقبلها أو يقبل عليها منكروها من جماهير المسلمين، وأسلوبهم في كتابتها
غريب تلذ قراءته، وتستملح عبارته، وعذرهم في هذا الطريق الوعر، والمركب
الخشن، أنهم فُتنوا بفلسفة اليونان، ورأوا أنه لا بد منها للإنسان، ورأوا المسلمين
يناصبون المشتغلين بها ويناهضونهم، ويضللونهم ويكفرونهم، وحسبوا أن هذا
الملك لا يُعارض، وصاحبه ينهض ولا يُناهض، فخاب الأمل، وحبط العمل،
وكانوا عند تأليف رسائلهم بثوها في الوراقين، لتنتشر بسرعة في العالمين، وربما
كانوا في أنفسهم مخلصين؛ ولكن ما عتَّم أن عتمت، وبطنت عقيب أن ظهرت،
إلى أن أحيت الطباعة رفاتها، والأمور مرهونة بأوقاتها.
طُبعت الرسائل في الهند فراجت حتى لا تكاد توجد نسخها، وطُبع منها في
مصر الجزء الأول، ولم يتسن لطابعه إتمامها، وفي هذه الأيام تصدى النشيط
الفاضل، محمد علي أفندي كامل، لطبع الجزء الأخير الذي هو زبدة الرسائل
وخاتمتها في مطبعة دار الترقي المتقنة بشكل لطيف، على ورق نظيف.
وهذا الجزء يصف تداعي الحيوانات على الإنسان، لدى ملك الجان، وما
جرى بينهم من المحاورات، والمناظرات والمجادلات، ونتيجة ذلك حكم ملك الجان
بأن تكون أنواع الحيوان، في تصرف الإنسان، فنحث أهل العلم والفضل،
وذوي الذكاء والنبل، على الاطلاع على هذا الأسلوب الساحر، مما ترك الأول
للآخر، ولكن رأينا أن لا تُحتذى هذه الرسائل بمزج الفلسفة بالدين، فذلك مضيعة
للأمرين.
***
(تاريخ دولة آل سلجوق)
من إنشاء الشهير عماد الدين محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني، واختصره
الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني رحمهما الله تعالى، والكتاب كله سجع
مما يسمونه السهل الممتنع، والوقوف على تاريخ هذه الدولة الإسلامية العظيمة لا
يستغني عنه من يهمه الوقوف على شؤون المسلمين ومعرفة أحوالهم الاجتماعية،
وقد طُبع على نفقة شركة طبع الكتب العربية في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا
على ورق جيد وثمنه عشرة قروش أميرية.
***
(تتمة البيان في تاريخ الأفغان)
كان السيد جمال الدين الأفغاني الفيلسوف الإسلامي الشهير كتب رسائل سماها
(البيان في الإنكليز والأفغان) كان لها وقع شديد في البلاد الإنكليزية عندما نُشرت
في الجرائد المصرية التي أنشأها تلامذة السيد في مصر بإرشاده، وردَّت عليها
الجرائد الإنكليزية معظمة شأن السيد معجبة به، ولم يكن قد اشتهر اسمه في أوربا
فتصدى هو للرد عليها؛ حتى إن المستر غلادستون اضطر إلى الرد على السيد
بنفسه، ثم سأل السيد تلامذته أن يملي عليهم تاريخ الأفغان فأملى عليهم مقالات
نشرت في جريدة مصر التي كانت يصدرها في الإسكندرية فقيد الأدب والصحافة
أديب بك إسحاق، وسمى مجموعها تتمة البيان في الإنكليز والأفغان، وذكر فيها
محاربة الإنكليز للأفغان والاستيلاء على بلادهم، ثم إخراج الأفغان لهم منها بالقوة
وفيها ذكر أصل الأفغان وتاريخهم وعاداتهم وسائر شؤونهم، وقد عثر على هذا
التاريخ الأديب النشيط علي أفندي يوسف الكريدلي صاحب ومحرر جريدة العلم
العثماني، وطبعه في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا على ورق جيد وصدَّره برسم
أمير الأفغان الحالي الأمير عبد الرحمن وأهداه إياه، وفيه أيضًا رسم السيد جمال
الدين، وثمن النسخة منه خمسة قروش أميرية، ويباع في جميع المكاتب الشهيرة
في القاهرة.
***
(وردة)
أسطورة علمية تاريخية تمثل أخلاق المصريين وعاداتهم في عهد رمسيس
الثاني، وترسم للقارئ نظام حكومتهم وما وصلوا إليه من التقدم في العلوم والمعارف،
أبرزها من الآثار القديمة وأوراق البردي الدكتور جورج إيبرس الألماني، ونقلها إلى
العربية صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الغراء
ونابغي الناشئة المصرية في هذا العصر، وقد كان سبقه إلى تعريبها من حيث لا يعلم
الدكتور العالم الشهير يعقوب أفندي صروف محرر مجلة المقتطف، ولم يطبعها؛
لأنه لم يستأذن بطبعها من مؤلفها؛ ولكن محمد أفندي مسعود استأذن قبل أن يُعَرِّب،
وقد طُبع الجزء الأول منها وهو يزيد على ثلاثمائة صفحة بالحرف الصغير، وتُطلب
من مُعَرِّبها في إدارة المؤيد بمصر، فنحث جميع القراء على مطالعتها.
***
(تنبيه مهم جدًّا)
لدينا مقالة لفضيلة مفتي الديار المصرية في أعظم شبهة على الدين في كتب
المسلمين، وهي مسألة الغرانيق، وتفسير الآية التي استدل بها عليها، وستنشر في
باب التفسير من الجزء الآتي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مهاجر أزهري
من أيام جاء إلى محل الإفتاء في الجامع الأزهر رجل إنكليزي اسمه المستر
هستنج، وطلب مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار
المصرية، وعند مقابلته ابتدره بقوله: جئت ثلاث مرات لمقابلة حضرتكم فلم
أجدكم هنا وهذه الرابعة، والغرض أن أعرض لكم أن لي أملاكًا في جهة ممباسة
في أفريقة سكانها مسلمون؛ لكنهم لا يعرفون من دينهم إلا قليلاً، ولما علموا
برحلتي هذه إلى مصر طلبوا مني قبل السفر أن أحضر لهم عالمًا دينيًّا يعلمهم أحكام
دينهم، قال: ويمكنني أن أساعد من يسافر معي لهذه الغاية بأن أنقله على نفقتي من
ساحل زنجبار إلى المحل الذي نقصده، وأتكفل هناك بنفقة أكله وأعطيه بيتًا يسكنه،
وعليه أن ينفق على نفسه من هنا إلى ساحل زنجبار، ولا بد له هناك من الإقامة
زمنًا يتعلم فيه لغة القوم ليتمكن من إرشادهم. فعهد إليه فضيلة المفتي أن يراجعه
بعد أيام في ذلك.
وقد وقع هذا الطلب على الأستاذ وقعًا شديدًا لعلمه بأن العلماء المتخرجين من
الأزهر يأبون الوظائف في بلاد السودان بالرواتب الكثيرة؛ ولأنه إذا لم يوجد في
الأزهر وهو أكبر المدارس الإسلامية وأشهرها من يسهل عليه أن يهاجر إلى الله
تعالى لمجرد الإرشاد ونشر الدين، فذاك أكبر عار على هذه المدرسة، بل على
المسلمين كلهم الذين نشر أسلافهم الدين في كل مكان، ثم هو الآن يضمحل
ويتلاشى ولا يغار عليه أحد من علمائه الذين لا عمل لهم إلا قراءة علومه، فرأى
بعض الحاضرين أثر الحيرة في الأمر باديًا على الأستاذ، فقال له: أنا أعرف رجلاً
من النابغين في الأزهر المتصدرين لامتحان التدريس أرجو أن يقبل الهجرة لهذه
الخدمة الإسلامية، وهو الشيخ محمود عزوز. وكان الأمر كذلك.
وفي أثناء هذه المدة تقدم الشيخ محمود هذا للامتحان فنجح فيه، وأعطي
درجة العالمية من الدرجة الثالثة بالاستحقاق كما علمناه من المصدر الصحيح، وقد
استحضره فضيلة المفتي وذكَّره بسيرة سلف الأمة وكبار الأئمة رضي الله تعالى
عنهم، وكيف كانوا يهاجرون لأجل حديث واحد يتلقونه أو نشر للدين عند قوم
يقبلونه، ودعاه إلى الرحلة لممباسة ابتغاء وجه الله تعالى، وثقة بوعده، فلبى
وأجاب، ثم عرض الأستاذ المفتي خبره على ولي النعم مولانا الخديو المعظم وذكر
لسموه ما رآه من إخلاصه فسُرَّ حفظه الله سرورًا عظيمًا، وجادت مكارمه بمبلغ من
المال إعانة له على سعيه المشكور كما هو دأبه في تعضيد كل عمل ينفع الدين
والأمة، ويقال: إن المبلغ الذي أعطي له مائة جنيه جزى الله تعالى سموه أفضل
الجزاء.
ثم إن فضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر أعطى لحضرة الشيخ محمود
المذكور منشورًا يخاطب به مسلمي البلاد التي يهاجر إليها، يوصيهم فيه بالثقة
بحامل المنشور والاعتماد عليه في فهم الدين وتلقي أحكامه الشريفة النافعة، وقد
سافر بالفعل في ليلة الثلاثاء الماضية، وودعه في محطة مصر كثيرون من إخوانه
الأزهريين وغيرهم، وزوَّده أكابر شيوخه في الأزهر الشريف بالدعوات الصالحة،
وكان نسي أخذ إجازة السفر، فكتب صاحب السعادة محافظ العاصمة رسالة برقية
إلى محافظة السويس بالوصية به، وإعطائه باسبورت السفر، فنسأل الله تعالى أن
يُسَهِّل أمره، وينفع به، ويجعل رحلته فاتحة خير وقدوة صالحة للأزهريين،
فيوفقون للانتشار في الأرض لنشر الدين آمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عريضة استرحام مسلمي بنغالة
نشرت جريدة وطن الهندية صورة عريضة عن لسان مسلمي أيالة بنغالة في
غربي الهند الذين يبلغون زهاء أربعين مليونًا (كذا) إلى مولانا السلطان الأعظم
عبد الحميد خان يطلبون فيها أمرين جليلين، أحدهما: تعيين قنصل للدولة العلية في
مدينة كلكتة عاصمة هذه الأيالة يمثل الدولة العلية في عظمتها، والخلافة الإسلامية
في جدتها، ويرجع إليه المسلمون في الشؤون التي تقوي الرابطة بينهم وبين
مسلمي السلطنة العثمانية، ويفضون إليه بالحقوق والمصالح المتعلقة بخليفتهم،
ومن ذلك أنهم جمعوا مبلغًا عظيمًا لإعانة سكة حديد الحجاز، ويحتاجون إلى من
يرشدهم إلى كيفية إرساله، وذكروا من فوائد هذا الأمر امتداد التجارة العثمانية؛
لاعتقادهم أن ما يتجر به في بلادهم من الطرابيش ونحوها هو من بلاد الدولة ومنه
فائدة لها.
والأمر الثاني: أن يصدر أمره المطاع بإدخال لغة مسلمي الهند (الأوردو) في
دار الفنون التي أسست في دار الخلافة الإسلامية يوم عيد الجلوس الفضي، وجعلها
من اللغات التي تُعَلَّم جبرًا لا اختيارًا، وذكر في العريضة بعض فوائد رابطة اللغة
وهي فوق ما ذكر، ثم التمست جريدة وطن من أصحاب الجرائد الإسلامية الشهيرة
في مصر والشام ودار السعادة أن يضموا أصواتهم إلى صوت صاحبها بهذا الطلب
إن استحسنوه، وذكرت المنار فيما ذكرته منها.
ونحن نستحسن هذا الطلب ونقول:إن منافعه جليلة جدًّا في كلا الأمرين؛ أما
تعيين قنصل للدولة في كلكتة كما عينت في بومباي وكراش بندر ومدراس مما لا
تُقَدَّر منافعه إذا كان أولئك القناصل من الرجال الأكفاء الذين يقدرون سلطة الدولة
العلية الروحية قدرها، ويعرفون كيف يستفيدون منها، وحسبك ما جاء في عريضة
الاسترحام من أهل بنغالة نساء ورجالاً وأطفالاً يعتقدون أن للسلطان عبد الحميد خان
سلطة غيبية وراء الطبيعة والأسباب، فيتوسلون إلى الله عند الحاجة لدفع ضر أو
لجلب خير باسمه الشريف؛ وذلك لأنهم يعتقدون أن ما يقرؤونه في الجرائد التركية
والعربية من مدائحه وفضائله وفواضله ومعارفه وعوارفه وصلاحه وإصلاحه، وكل
ذلك من خوارق العادات الدالة على أنه (ولي من أولياء الله تعالى جعله الله في هذا
الحين رحمة للعالمين) واستخدام هذا الاعتقاد بالحكمة له شأن لا يكتنه الفكر كنهه،
وأما تعلم لغة الأوردو فمن الضروري أن تعلم أيضًا في مصر والشام ومراكش لأفراد
كثيرين يكونون وصلة بين الشعوب الإسلامية في الجملة، أما الاتصال الحقيقي الذي
يرجوه طلاب الوحدة الإسلامية فلن يكون إلا بتعميم اللغة العربية كما بيناه في المجلد
الأول من المنار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب الأمير عبد الرحمن خان
نقلت الجرائد الهندية فصولاً ضافية من تاريخ حياة الأمير عبد الرحمن خان
الذي ألفه بلغة (البشتو) ؛ أي: لسان الأفغان، وتُرجم إلى الإنجليزية و (الأوردو)
فأحببنا تعريبها ملخصة، وإثباتها على صفحات المنار تفكهة للقراء الكرام، ولما
انطوت عليه من الكلمات الحماسية والإشارات السياسية سيما أن الكلمة إذا صدرت
من محلها وأربابها كان لها من الامتزاج بأجزاء النفوس والوقع على الأسماع ما لا
يكون لغيرها، وقد اعترف بفضل هذا الأمير وسياسته وشدة تيقظه جميع الدول
الغربية (والفضل ما شهدت به الأعداء) ، نشرت تلك الجرائد نقلاً عن الكتاب
المذكور ما تعريبه:
إن أطواري وشؤوني التي جبلت عليها لا تلائم كثيرًا مما عليه بعض ملوك
زماني؛ وذلك لأن أحدهم إنما همه التمتع بالملاذ ولبس التاج، والقناعة من الملك
بالتحية والألقاب، وإناطة مهام السلطنة بالوزراء والولاة، وإغفال أمور الرعية
والاحتجاب عنهم، وأما أنا فلست ممن يغتر بتلك الترهات والخزعبلات، ويلقي
بزمام مملكته إلى غيره، ويقنع من الملك بالاسم واللقب بعد أن كنت أعلم أن الأمة
إنما ولتني أمرها لما تعلمه في من الكفاءة والسهر على مصالحها، والذب عن
حوزتها، فأنا المسؤول عن ذلك لا غيري؛ إذ كل راعٍ مسؤول عن رعيته، فلهذا لا
أَكِل أمرًا من الأمور إلى أحد من أمرائي وأركان دولتي، بل أنا الذي أدير شؤون
المملكة وأحكم نظامها وأشيد دعائمها؛ وإنما عمالي وأمرائي آلة أديرها بيدي كيف
أردت وشئت.
وإن بعض الملوك يرى أن مباشرة الأعمال باليد والمشي على الأقدام مخل
بآداب الملوك، وعندي أن مباشرة أمور الرعية والمشي في مصالحها والتردد إلى
المحال المقدسة كالجوامع والزيارات ومجالس العلم، والذهاب إلى بعض المحاكم
والدوائر ولو سعيًا على الأقدام مما يكتب في صحائف حسنات الملوك، ويحيي به
ذكرهم بعد موتهم، وكيف أستنكف عن ذلك وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة
والسلام لا يستنكفون عنه؟ وهذا سيد البشر قد كان يعين أهله في أمور المنزل، فإذا
كنا مسلمين فلم لا نقتدي به وهو سيد الأولين والآخرين؟
ومن المعلوم أن كل إنسان ميال بالطبع إلى شيء تألفه نفسه في هذه العاجلة،
وأنا ميال إلى التعب والعناء فيما به قوام مملكتي، وأرى أن ذلك التعب هو في
الحقيقة عين الراحة، وقد تدربت عليه حتى صار لي طبعًا، ولهذا تراني مع ما
يعتورني من الأمراض والآلام الشديدة لا أنفك مصروف الأفكار والحواس إلى تدبير
أمور الأمة ورأب صدعها ولم شعثها، ولا أدع قلوب الناس معلقة بغيري، بل أنا
الذي أتصفح عرائضهم سطرًا سطرًا، فأوقع عليها بخط يدي، ولذلك لا يكاد يوجد
أحد من الأفغان إلا وعنده أوراق عليها كتابة قلمي، وقد أحطت علمًا بأحوال
رعيتي فقيرها وأميرها، فلا تخفى علي منهم خافية إلا ما تكن صدورهم وتنطوي
عليه قلوبهم.
وإن لي في كل بيت عينًا أبصر بها جميع أعمالهم وأطوارهم، وبابي مفتوح
وبري ممنوح للصادر والوارد، وإني مستعد لمواجهة كل أحد وقضاء حاجته وسماع
دعواه، ومن كانت له عندي حاجة ومنعه عن الحضور لدي عذر فليكتبها ويرسلها
إلي، وليجعل العنوان على الظرف هكذا يصل إلى الأمير؛ فإنه لا يتجرأ أحد على
فضها حتى أكون أنا الذي أفضها وأقرأها وأرد جوابها بيدي، ومن أراد مواجهتي
فصدَّه بعض الحاشية، فليكتب إلي بذلك، ويكاشف به بعض عيوني؛ أي:
(الشرطة السرية) ؛ فإني أعاقب له خصمه ولا عذر لمن يتأخر من رعيتي عن
مقابلتي لحاجة أو زيارة؛ فإني لا أحتجب عن أحد.
وتصب في معاملي أنواع الأسلحة الجديدة، وقصري مدجج بالأسلحة حتى
محل منامي وقاعة جلوسي، ويوجد تحت وسادتي مسدسان وذو شطوب يماني
وبندقيتان من الطراز الجديد، كل ذلك أعددته لطوارق الحدثان، ونوائب الزمان،
وفرسي الأدهم لا يزال أمام عيني مسرجًا ملجمًا عليه حقيبة مشحونة نضارًا أحمر،
وجنودي الجرارة أبناء الموت وليوث الحرب على أهبة وتعبئة مستعدة لأدنى إشارة
تصدر مني، وإني لأعلم أنه وإن كانت الكثرة تغلب الشجاعة، إلا أن القلة قد تغلب
الكثرة أيضًا إذا كان أمرها واحدًا ورأيها مجتمعًا، وإن الرجل الشجاع الحازم قادر
على التحفظ بما لديه والذب عن حماه، وشر الملوك من يكون طالعه على قومه
ورعيته مشؤومًا، فلا أحب أن أكون ذلك الرجل، وقد كان يخطر في بالي أن أتخلى
عن الملك وأنزوي في بعض الكهوف والمغائر لإعداد الزاد ليوم لا ينفع فيه مال ولا
بنون، وأدع قومي يخوضون غمار الفتن ويصطلون أوزار الحروب ويتساقون
كؤوس المنون؛ ولكني خشيت أن يسألني رافع السماء وباسط الأرض عندما أوقف
بين يديه وحيدًا فريدًا: لماذا أغفلت أمور عبادي ونمت عن إصلاح شؤونهم؟ فهذا
الذي يصدني عن ذلك، ويحملني على رؤية مصالحهم قائمًا وقاعدًا ومتكئًا ومستلقيًا
على فراشي، وربما أخذتني السُنة والأوراق في يدي وعلى صدري وقد شغلت بذلك
عن جميع شؤوني الذاتية، وأصبحت لا أتمكن من الدخول إلى الحرم أكثر من مرتين
في العام بعد أن كنت أزورهن في الأسبوع مرتين، وإن لكل من ولدي نصر الله خان
وحبيب الله خان ثلاثة آلاف روبية في الشهر للنفقات الضرورية، وهذا علاوة على
ما هو مقرر لهما من المآكل والملابس، وما هو مرتب لحرمهما وحشمهما، وتبلغ
رواتب حرمي من خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف روبية في الشهر مع ما يلزمهن من
النفقات.
وإنه يسوءني ما أراه من تقدم الأمم الغربية، وتقاعس المسلمين عامة، وقومي
خاصة، وأود لو يستفيق المسلمون من سباتهم الذي أربى على سبات أصحاب أهل
الكهف، ويسترجعون أيامهم ويحافظون على مآثر أسلافهم ومفاخر آبائهم وأجدادهم
الذين وطَّدوا لهم الملك ودوَّخوا لهم البلدان، وهيهات هيهات ذلك؛ لأن الداء إذا
أعضل عز دواؤه.
بيد أني لا آلو جهدًا في إحكام دعائم مملكتي وإصلاح شؤونها وتربية الأمة
الأفغانية، وإني لأعلم أن بعض الناس يتربصون بي الدوائر ويتمنون لي الحمام
الذي لا بد منه، ويرون حياتي شجًى في حلوقهم، وقذًى في عيونهم، وما أظن أن
أحدًا من الملوك نعته ألسنة الجرائد مرارًا وهو حي يرزق غيري اهـ.
هذا وإن الأمير يحيا كل الليل في مصالح العباد، وسماع التواريخ وسير
الأوائل، وسياسات الملوك ومسامرة أرباب الفضل والكمال، ولا يزال هكذا إلى
الفجر، فيتوضأ ويصلي الصبح جماعة، ويقرأ ورده وما تيسر من كتاب الله المجيد
وهو مستقبل القبلة إلى ارتفاع الشمس، فيضطجع على سريره، وربما نام في
بعض الأحيان على كرسيه الجالس عليه أو على الحصير الذي هو مصلاه، فينام
إلى الساعة السابعة من النهار، ثم يهب من نومه فيدخل عليه الحكماء والأطباء
فيجسون نبضه، ثم يدخل مغتسله فيغتسل ويبدل ثيابه، ويشرب الشاي، ويتناول
ما تيسر من الطعام، ثم يدخل الأطباء فيجسون نبضه، ثم يدخل عليه وزراؤه
وأمراؤه وأرباب الحوائج، فيأمر وينهى ويقضي بما تقتضيه سياسته، وبعد
المغرب يدخل عليه سماره من الأمراء والعلماء وأرباب البيوتات وأهل الكمال في
كل فن على اختلاف طبقاتهم، ولا يخلو مجلسه من أعلى الناس إلى أدناهم حتى
(البنكية) وهم الذين يرفعون القاذورات من الكنف والشوارع، ولا يزال على ما
ذكر إلى الصبح، فيفعل ما فعل بالأمس وهلم جرًّا.
والأمير مسلم متمسك قوي الاعتقاد مثابر على العمل بالكتاب والسنة وأقوال
السلف والخلف؛ حتى إنه ليعتقد بوهميات الأمور؛ من ذلك ما حكاه في كتابه المتقدم
الذكر وترجمته:
(قد كنت في عنفوان الشباب أعتقد أن التمائم والعوذ لا تجدي شيئًا، وأظن
أن ما كتب في خواصها ترهات لا أصل لها، إلى أن هديت إلى تميمة كتبها بعض
الصلحاء بزعم أنها تقي من الرصاص فما صدَّقت بذلك، وظننت أنها حيلة ساسانية
ثم خطر لي أن أجربها، فربطتها في دراجة وأطلقت عليها الرصاص مرارًا
عديدة، وفي كل مرة تخطئه يدي حتى إن الرصاص كاد يحرق ريشها ولم يصبها،
فزال من فكري ما كنت أتوهمه، وربطت تلك التميمة بعضدي. وكان الأمير يقرأ
مرة في القرآن المجيد فبلغ قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) فكرر الآية مرارًا وأطال فيها
الفكر، ثم قال: عسى أن يرشدني ربي إلى عمل ينفعني في ذلك اليوم ويقيني حر
جهنم.
(المنار)
صريح هذا الكلام أن حكومة الأمير مطلقة مفوضة لإرادته؛ ولكنه يسلك بها
مسلك الإصلاح، فليست عيونه وجواسيسه لمصلحة شخصه؛ ولكنها لمصلحة البلاد
والأفغان قوم أشداء أولو عصبية، ولولا حزم الأمير واحتياطه لما تمكن من الإصلاح
الذي قام به؛ ولكنه إذا لم يؤسس حكومة شوروية يُخشى أن يزول من بعده هذا
الإصلاح وتُضعف أمته العصبيات والتحزبات المعهودة فيها.
وأما مسألة تميمة الرصاص فلعله أذاعها لييأس أعداؤه من اغتياله، وإلا فإن
التجربة برمي طائر الدراجة بالرصاصة وعدم إصابته غير كافية في إثبات منفعتها؛
لجواز أن يخطئ الرامي الجمل فما بالك بالطائر، وظاهر أن الاعتقاد بالتمائم ليس
من الدين كما بيناه في المجلد الثاني والثالث من المنار.
_________