المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌16 ربيع الأول - 1319ه - مجلة المنار - جـ ٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (4)

- ‌غرة ذو القعدة - 1318ه

- ‌فاتحة السنة الرابعة

- ‌الداء والدواء

- ‌رواية عربية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌انتقاد الأخلاق والعادات

- ‌ثناء

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تصحيح

- ‌من الإدارة

- ‌16 ذو القعدة - 1318ه

- ‌الفضائل والرذائل [

- ‌خطبة أساس البلاغة

- ‌قصيدة جحدر في الأسد

- ‌تقريظ المنار الأنورواقتراح طلاب الأزهر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مهاجر أزهري

- ‌عريضة استرحام مسلمي بنغالة

- ‌كتاب الأمير عبد الرحمن خان

- ‌غرة ذو الحجة - 1318ه

- ‌مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

- ‌مضار اللَّثْم والتقبيل

- ‌الحنين إلى الوطن

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌ إميل القرن التاسع عشر

- ‌ملكة الإنكليز

- ‌البدع والخرافات

- ‌تهنئة واستماحة

- ‌وسام الافتخار المرصع

- ‌غرة المحرم - 1319ه

- ‌الانتقاد

- ‌الطلاق في الإسلام [

- ‌الفقه الإسلامي

- ‌العشق وحرية العرب

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينيةفي فرنسا

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 المحرم - 1319ه

- ‌أسئلة دينية وأجوبتها

- ‌الشيعة وأهل السنةاختلافهما

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌استلفات لإزالة شبهة

- ‌تصحيح غلط

- ‌تنبيه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلام

- ‌غرة صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌إظهار المدفون من تمثال فرعون

- ‌طُرَف الأعراب ونوادرهم

- ‌أسباب الحرب الروسية العثمانية

- ‌الوفد الإسلامي إلى الصين

- ‌زيارة القبور والمدرس المغرور

- ‌16 صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌تعليم العربية في المدارستأخره في تقدمه

- ‌نوادر البخلاء

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الطاعون في الكاب والمسلمون

- ‌غرة ربيع الأول - 1319ه

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌مكتوب في حق مسلوب

- ‌للفيلسوف الإسلامي

- ‌للشاعر العصري

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مصاب الصحافةوفاة بشارة باشا تقلا

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌16 ربيع الأول - 1319ه

- ‌التقليد

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌قسم الموالد والمواسم

- ‌غرة ربيع الثاني - 1319ه

- ‌التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

- ‌مدرسة خليل أغااحتفالها السنوي

- ‌المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادى الأول - 1319ه

- ‌علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلةشيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي [*]

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌عفة نساء العرب وبلاغتهن

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌تنبيه

- ‌إصلاح الطرق وأهلها

- ‌16 جمادى الأولى - 1319ه

- ‌وظائف علماء الدين

- ‌شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحيةوحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌التقاريظ

- ‌عيد الجلوس السلطاني

- ‌قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا

- ‌تعازٍ ووفيات

- ‌غرة جمادى الآخر - 1319ه

- ‌الرجال والنساء

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 جمادى الآخرة - 1319ه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌تهاني العلماء والأدباءلفضيلة مفتي الديار المصرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رجب - 1319ه

- ‌كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌ريشة صادق

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌رزء عظيم إسلاميوفاة أمير الأفغان

- ‌سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي

- ‌عودة أحمد عرابي

- ‌من إدارة المنار

- ‌مفاسد لا موالد

- ‌16 رجب - 1319ه

- ‌الاستقلال والاتكال

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌تغزل النساء

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌من إدارة المنار

- ‌غرة شعبان - 1319ه

- ‌الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌رثاء الأمير عبد الرحمن خان

- ‌انتقاد المقتطفوكتاب القسطاس المستقيم

- ‌تصحيح

- ‌الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي

- ‌الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

- ‌16 شعبان - 1319ه

- ‌الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في بلاد سيرالونمدرسة إسلامية في فوله

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رمضان - 1319ه

- ‌فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

- ‌السياسة والساسة

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌نساء المسلمين [

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1319ه

- ‌السياسة والساسةمن نحن ومن غيرنا

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌أخبار

- ‌16 شوال - 1319ه

- ‌حياة أمة بعد موتها

- ‌الأمراء والحكامبلاء الأمة بهم

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

- ‌نساء المسلمين

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌غرة ذو القعدة - 1319ه

- ‌نساء المسلمين وتربية الدينورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مؤتمر التربية والتعليم في الهند

- ‌العربية الفصحى والعامية المصريةمناظرة

- ‌وصف الشام

- ‌16 ذو القعدة - 1319ه

- ‌الخمر أم الخبائث

- ‌حرمة الخمر [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌نساء المسلمين

- ‌مدرسة محمد علي الصناعية

- ‌الدول في سلطنة مراكش

- ‌الرقص والعفة والحجاب

- ‌الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات

- ‌غرة ذو الحجة - 1319ه

- ‌إصلاح الدولة العلية

- ‌الإسلام والمسلمون

- ‌خبر سلمان الفارسي وإسلامه

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌سوانح وبوارح

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز

- ‌خاتمة السنة الرابعة

الفصل: ‌16 ربيع الأول - 1319ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والصلاة والسلام على سيدنا

محمد، وعلى كل عبد مصطفى.

وبعد، فإن المنار يدخل بهذا الجزء في العام الرابع من حياته وقد نما النمو

الطبيعي المقدَّر له من أول نشأته، وساعد حركة الإصلاح بصوته الضعيف، ولقي

صاحبه من الألاقي بعض لقي الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا

والله مع الصابرين.

من كان الله معه لا يضره كيد الكائدين، ولا يُحبط عمله إرجاف المرجفين،

وإن عظمت مظاهرهم وألقابهم، وعلت منازلهم وأحسابهم، بل جرت سنته تعالى

في خلقه بأن الضعيف ينتصر بالحق على القوي، والرشيد يغلب بالصدق والثبات

على الغويّ {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً

وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .

ما لقيتْ دعوة الحق من المعارضة بعض ما لقيت من الانتشار، ولا صادفت

من التدسية والإخفاء مثلما صادفت من التزكية والاشتهار، وما كان إلا ما كان في

الحسبان، وليس في الإمكان أبدع مما كان، ومن حاول الخروج بالكون عن سنته،

وتكليف عالم الاجتماع ما ليس في طبيعته، كان جديرًا بالخذلان، وبذلك خاب فلان

وفلان، وخفي هذا على بعض الناس فكانوا من القانطين، وضل آخرون في فهم

قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .

الحق ثقيل ولا سيما على المبطلين، والجدُّ مملول ولا سيما من الهازلين؛

ولذلك أشار علينا بعض الناصحين من محبي الإصلاح بأن نضم إلى المقالات

الإصلاحية والعلمية شيئًا من النبذ الأدبية، وأن نضيف إلى انتقاد التقاليد والعادات

بعض الأخبار والملح والفكاهات؛ لأن هذا أدعى إلى ترويح النفس، وتوفير الأنس

ولهذا وسَّعنا المجلة فزدنا في صفحاتها، ونوَّعنا موضوعاتها؛ ولكننا لم نزد في

الثمن، كما زدنا في المثمن؛ لأن بضاعة العلم والدين لا تزال عندنا على قلتها في

كساد، وبضاعة الشهوات واللذات في رواج وازدياد، فيسهل على أكثر المتعلمين

منا أن ينفقوا البِدَر في سبيل الهوى، ويصعب عليهم أن يبذلوا النزر اليسير في

سبيل الهدى، فما بالك بغيرهم الخالي من مثل غيرتهم، والمحروم من الشعور

بحميتهم (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون) ووفقهم لمعرفة أنفسهم ومن معهم

لعلهم يرشدون، اللهم و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .

...

...

...

... صاحب المنار ومحرره

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الداء والدواء

خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه بضروب من التكريم، خلقه

من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، خلقه جاهلاً لا يعلم شيئًا، ثم منحه

هدايات الحواس والعقل والنبوة، خلقه فقيرًا محتاجًا إلى كل شيء، وسخَّر له

بفضله كل شيء، فالأكوان تعمل به وهو يعمل في الأكوان، ويظهر ما انطوت

عليه من الإبداع والإتقان، مستعينًا بتلك الهدايات الموهوبة، على أعماله المكسوبة

حتى يصل كل من الإنسان والأكوان إلى ما أُعد له، ويبلغ الكتاب فيهما أجله،

وأعني بالكتاب كتاب الغيب المكنون، {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي

شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل: 65-66) .

جلَّت حكمة الله جعل حياة الإنسان الفردية مثالاً ونموذجًا لحياته القومية،

يرتقي الفرد منه بالتدريج ويتربى متأثرًا بحالة الأكوان، وما تعرضه عليه شؤون

أخيه الإنسان، فمنه ما ينمو ويرتقي باطراد، ومنه ما يعرض له المرض والفساد

فتوقف سيره قبل أن يتم دوره، فإما شقاء وارتقاء، وإما موتًا وفناءً، وكذلك الأمم

في أطوارها، والشعوب في أدوارها، وهذه قصصها وأخبارها، ما سعدوا إلا بما

كانوا يعملون، وما حل بهم الشقاء إلا بما كانوا يكسبون {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن

كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 33) .

استعان أناس بالحواس على الحسنات، واستعان بها آخرون على اجتراح

السيئات، ووصل قوم بالعقل إلى أحاسن الأعمال، واستعمله آخرون في سيئ

الفعال، واهتدى بالدين أمم إلى الصراط المستقيم، ووقع به آخرون في العذاب

الأليم {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ،

{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: 213) ،

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ

يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ

الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .

غرَّ أمةً ممن كان قبلنا دينهم، فحسبوا أن انتسابهم إليه هو كافلهم وضمينهم،

وناصرهم ومعينهم؛ فقصروا في الأعمال، واستبدلوا النقص بالكمال، فحل بهم

الخزي والنكال، وما أغنى عنهم الانتساب إلى الأنبياء، والاعتماد على الأصفياء،

والاستمداد من الأولياء، ولا أفادهم قولهم: نحن شعب الله، الذي فضَّله على العالمين

واصطفاه، وحملة كتابه التوراة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ

إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن

تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران:

23-

24) .

الغرور في الدين، هو الجرثومة التي تولدت منها جميع أمراض المسلمين،

كما حل بمن كان قبلهم، وحُذِّروا أن يكونوا مثلهم، فقد جاء في الحديث المتفق على

صحته: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) ، والمسلمون يعترفون

بهذا إجمالاً؛ ولكنهم ينكرونه عند التفصيل، فإذا عدَّدت لهم البدع والتقاليد التي

فتنوا بها، وحرَّفوا معاني كتاب الله تعالى وأوَّلوه برأيهم لترويجها، يلوون ألسنتهم

إنكارًا، ويُنغضون رؤوسهم إعراضًا وازورارًا، وإذا وصفت بهذا الغرور بعض

رجال الدين، من شيوخهم وآبائهم الميتين {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا

يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} (الأنفال: 6) .

هذا الغرور في الدين، الذي أصبنا به من بعد الخلفاء الراشدين، هو نقيض

الغرور الذي رُمي به الذين سبقونا بالإيمان، والذي قال فيه القرآن: {إِذْ يَقُولُ

المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} (الأنفال: 49) فإن ذلك

الغرور هو تصدي ثلاثمائة ونيف من المؤمنين، لزُهاء ألف من المشركين، من

ورائهم ألوف وزحوف من الفرسان، وليس وراء أولئك المؤمنين إلا النساء

والضعفاء والصبيان، وهذا الغرور هو خذلان ثلاثمائة مليون من المسلمين،

ووقوعهم بين أنياب الحوادث، ومخالب الكوارث، لا يحمون حقيقتهم، ولا

يدافعون عن حوزتهم؛ ولكنهم يستنجدون بالقبور ولا يُنجدون، ويستنصرون

بأرواح الموتى ولا يُنصرون {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ

ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .

تولدت جراثيم هذا الغرور بالدين في العصر الأول عندما فتح المسلمون البلاد

ودوَّخوا العباد، وجلسوا على كرسي السيادة، وضموا عليهم قطرَيْ السعادة،

فحسبوا أنهم غمروا بهذا الإنعام، لمجرد انتسابهم للإسلام، ثم دلهم القياس الفاسد

على أن هذا اللقب (مسلمون) يعطيهم سعادة الآخرة، كما أعطاهم سعادة الدنيا،

وكان لهم من الأحاديث الموضوعة وسوء فهم الصحيحة ما يؤيد القياس، ويمد

الوهم والالتباس، فقصروا فيما أمرهم الدين من الإصلاح للدنيا، كما قصروا في

عمل الصلاح للأخرى، فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ

القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117)[1] .

ويا ليتهم إذا عُذِّبوا بسلب سعادة الدنيا رجعوا إلى قياسهم، وخافوا أن يحرموا

سعادة الآخرة أيضًا إذا هم استرسلوا في هذا الغرور، ولم يخرجوا من هذا الديجور

ثم رجعوا إلى أنفسهم، وبحثوا عن أسباب سعادة سلفهم، وتبينوا أنها الأعمال، لا

الأماني والآمال، ثم استنوا بسنتهم، واستقاموا على طريقتهم، ولم يتكلوا على

شفاعتهم، ويجعلوها مناط سعادتهم، واعتبروا بقول خليل الرحمن عليه الصلاة

والسلام إذ قال لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} (الممتحنة: 4) وبما كان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه

أبي طالب، وبحديث الصحيحين: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل

عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال: (يا معشر قريش،

اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم

من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت

محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) نعم، وإن اعتقاد الخلف

أنهم يسعدون في الدنيا بأمداد سلفهم تكذيب للحس والعيان، واعتقاد أنهم بهم

ينجون في الآخرة إعراض عن السنة والقرآن، فالاحتجاج بعد هذا بقول فلان

وورد فلان جنون {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) .

ما وقف المسلمون بغرورهم في دينهم عند حد، بل عم عندهم كل شيء حتى

حكموه بالعلم الذي يرشد إليه، فجعلوه صادًّا عنه، وبالدنيا التي يأمر بعمرانها،

فحسبوه مؤذنًا بخرابها، وبالعقل الذي بُني عليه، فجعلوه عدوًّا له، ولما نزلت بهم

عقوبة غرورهم يئسوا من كل شيء أن ينالوه بأنفسهم، وسجلوا على أنفسهم هذا

اليأس وختموه بختم الدين وطبعوه بطابعه، حيث زعموا أنه من أشراط الساعة،

وأن الضعف إذا وقع بالمسلمين لا يرتفع إلا ما يكون من النهضة على يد المهدي

المنتظر القصيرة المدة؛ وإنما تكون بالخوارق والكرامات لا بالاستعداد والعصبية

القومية، ثم هي كإيماضة الخمود للذبال لا تلبث أن تزول سريعًا وتزول الدنيا في

أثرها بعد قليل، وقد مر في المنار تحقيق الحق في هذه التقاليد وبيان ضررها،

وأن الساعة مغيَّب عنا أمرها {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) .

فعلمنا مما تقدم أن أمراض المسلمين الاجتماعية التي جعلتهم وراء الأمم كلها

حتى التي كانوا يسودونها ترجع إلى داء واحد، وهو الغرور في دينهم وفهمه على

غير وجهه، وإن شفاء هذا الداء ليس بمحال ولا متعذر؛ وإنما المتعذر إصلاحهم مع

بقائه، وإن الدواء الذي يذهب به هو السير بالتربية والتعليم على سنن الكون وأصول

الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر المقالة، وإقناعهم بأن ارتقاء المسلمين بدينهم في

القرون الأولى لم يكن لسر خفي في الدين، ولا لحب الله تعالى لذوات الذين تسمَّوا

بالمسلمين؛ لأن الله منزه عن عشق الذوات والأعيان، وأفعاله لا تعلل بالأغراض

كأفعال الإنسان، وإنما ارتقوا به لأنه أرشدهم إلى سنن الارتقاء، وهداهم إلى الصفات

والأفعال التي بها السمو والاعتلاء، فهو كما تقدم هداية أُخذت على وجهها وحقيقتها،

فأدت إلى غايتها وأنتجت نتيجتها، فلما اختلفت الكيفية، انعكست القضية، كما

يهتدي بالحواس والعقل أقوام ويضل آخرون {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ

وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ

عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ

أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 22-23) .

أول أركان الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص الذي يصقل العقول من

صدأ الخرافات والأوهام، ويفك الإرادة من أسر الدجالين، ويعصم النفوس من حيل

المحتالين، ثم الإذعان بأن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فمن سار عليها

وصل ومن تنكبها هلك {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *

ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) حكم عام للآخرة والأولى، ثم

الاعتقاد بأن كل عمل ينافي مصلحة الأمة أو يحول دون منفعتها موجب لسخط الله

تعالى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم تصدي طائفة للاحتساب قولاً وعملاً والدعوة

إلى ما به حياة الأمة من علم وعمل ومباراتها للأمم العزيزة إلى غير ذلك مما فصَّلنا

القول فيه من قبل، وسنعيد البحث فيه إن شاء الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ

إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

ولنا الثقة بأن الكون وما فيه من الآيات، وما اكتشفه الناس من أسراره وما

يكتشفونه فيما هو آتٍ، كل ذلك خدمة لإظهار دين الفطرة على كل دين {وَلَتَعْلَمُنَّ

نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وإن دعوة الحق ستكون هي الفضلى، وطريقة

الإصلاح هي الطريقة المثلى؛ ولكن لا يمكن تعيين الزمن بالتحديد {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا

فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

شَهِيدٌ} (فصلت: 53)، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) ،

{لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67) .

_________

(1)

الأمم بالشرك إذا كانوا مصلحين، وهذا مشاهد وناهيك بالمسلمين واليابان.

ص: 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

القسم الديني [*]

القسم الثاني من الأمالي الدينية في النبوات

(الدرس الثامن عشر)

الحاجة إلى الوحي والنبوة

تكلمنا في العدد الماضي عن الوحي من حيث إضافته إلى الله تعالى وكونه

كلامه، والاستدلال على ذلك بالعقل والنقل على الوجه الذي كان عليه الصحابة

وأئمة السلف الصالحين رضي الله عنهم، ولذلك جعلناه في قسم (الإلهيات) ،

وكان مقتضى الترتيب المعقول أن يكون هذا المبحث برمته في قسم النبوات؛ لأن

النبوة إنما تكون بوحي الله وبكلامه، ونتكلم الآن عن الوحي من حيث حاجة البشر

إليه وحال من جاؤوا به.

المسألة (53) : الأرواح الخالدة

الاعتقاد بأن للبشر أرواحًا تبقى بعد الموت، ولها حياة أخرى بعد هذه الحياة

الدنيا هو الأساس الذي قام عليه بناء الدين المطلق، فلولاه لم يكن للدين معنى ولا

فائدة، بل لم يوجد أصلاً، وكل فائدة أفادها الدين للبشر من وثنيين وموحدين

فمصدرها هذا الاعتقاد، ما علّم قدماء المصريين صناعة البناء، وما يتبعها ويلزمها

من الهندسة وجر الأثقال، حتى بنوا مثل الأهرام وغير ذلك من العلوم والصناعات

إلا الاعتقاد بخلود النفس، وكذلك قل في الكلدانيين والصينيين والهنود واليونانيين

والرومانيين والفرس والإسرائيليين والعرب.

هذا الاعتقاد فطري في البشر، ولذلك وجد في كل جيل من أجيالهم في كل

طور من أطوارهم فليس هو من استنباط الأفكار، ولا من التخيلات والتصورات

فتتحكم فيه الأنظار، نعم لما ولع الناس بالعلوم النظرية ابتلوا بالتشكيك في كل

شيء، حتى في الوجدانيات والمحسوسات، ومنهم من أنكر الروح، ولكن هذا

الإنكار لم يلتفت إليه إلا نفر قليل من المستعبدين لنظرياتهم؛ لأنهم يقربون من

السفسطائية الذين أنكروا كل شيء حتى أنفسهم وحتى إنكارهم، وقد وُجد - والحمد

لله - من النظار من رد على منكري الروح بنظريات موجبة أقوى من نظرياتهم

السالبة، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك؛ لأننا نخاطب في دروسنا قومًا لم

يبتلوا بإنكار أنفسهم وأرواحهم.

هذه مقدمة تمهيدية لبيان الحاجة إلى الوحي وإرسال الرسل، ولا بد منها في

إثبات كون الوحي هو الذي يبين طرق السعادة في الحياة الآخرة، وهذا هو جزء

الغرض وتمامه أن نبين أننا محتاجون إلى الوحي في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة

جميعًا؛ لأننا نعتقد أن في اتباع الدين سعادة الدارين كما بيناه في المسألة الأولى من

الدرس الأول.

م (54) الحاجة إلى الوحي في الدنيا

لا نزاع في أن الإنسان خُلق ليعيش مجتمعًا، أو كما يقول الحكماء:

(الإنسان مدني بالطبع) ، ولم يعط من الإلهام الفطري ما يغنيه عن التعلم

والتربية بل خلقه الله محتاجًا لكل شيء وعاجزًا عن كل شيء بنفسه، ولذلك

أعطاه خالقه استعدادًا غير محدود، وجعل رغائبه وأمانيه غير محدودة، ابتلاه

بشهوات تسوقه إلى تحصيل رغائبه، وأعطاه قوى يستعين بها على ذلك ويدافع بها

من ينازعه أو يصده عنه، ولا شك أن هذه الرغائب والشهوات تكون مثارات

للتنازع بين ذويها؛ إذ ليس في فطرة الإنسان ولا في طبيعة الأكوان ما يوقف كل

إنسان عند حد من حظوظه لا يتعداه، نعم إن نوع الإنسان يتربى بالعلم؛ ولكن هذه

التربية ما كانت كافية له في جيل من أجياله للوقوف عند حد يعيِّن لكل فرد من

أفراده حقوقه وواجباته على وجه ملزم له بالوقوف عنده إلا بالدين، وكل دين

تصلح به شؤون البشر فهو حق منبعه الوحي الإلهي، وإن كنا نجهل مبدأ كل دين

عُرف في التاريخ أنه أحدث إصلاحًا، وكيفية طروء التحريف والتغيير عليه

حتى صار إصلاحه مشوبًا بإفساد.

يبلغ البشر بالاستفادة من التربية الكونية بالتدريج الطويل مبلغًا عظيمًا، ثم

يكونون على ما أوتوه من علم وحكمة أبعد عن التهذيب والإصلاح، وهم في

نهايتهم من أهل الدين في بدايتهم، وأعظم عبرة أمامنا الأمم الأوربية؛ فإن العلوم

الكونية قد ارتقت عندهم ارتقاء لم يُعْرَف له مثل في تاريخ الإنسان وقد صلح بها

وبما بقي من آثار الدين عندهم حالهم الدنيوي؛ ولكنهم لا يقاربون في هذا الصلاح

ما كان عليه المسلمون في العصر الأول عندما كان صلاحهم بالدين وحده غير

مدعوم بالعلوم الكونية والتربية العالمية، هل بلغ ملك أوربي في العدل والرحمة

وسائر الفضائل مبلغ أحد الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل الإسلام وحوشًا ضارية

يفترس بعضها بعضًا، فرباهم الدين على الكبر تربية تعجز عنها العلوم الكونية

بدون تعليم الوحي الصحيح، وإن مخضها الدهر بضع قرون، انظر إلى فظائع

أبناء القرن العشرين في الصين، وراجع تاريخ أهل القرن الأول من المسلمين،

انظر كيف ساوى عمر بن الخطاب بين صهر الرسول عليه الصلاة والسلام وابن

عمه وبين رجل من آحاد اليهود، وكيف أن دول أوروبا لا ترضى بمساواة أحقر

صعلوك من بلادها لأعظم أمير شرقي في الحقوق، انظر كيف افتتحت تلك الشراذم

من المسلمين بلاد الروم والفرس والفراعنة فكان أهلها راضين بحكمهم مفضلين لهم

على قومهم وأبناء ملتهم؛ حتى ترك معظمهم لغته ودينه طائعًا مختارًا من غير دعاة

تناديهم ولا مدارس تربيهم، وكيف أن الأوربيين يدخلون البلاد فلا يرون من أهلها

إلا كراهة ومقتًا يتضاعف ويزداد بازدياد أيام حكمهم، مع أنه ما تسنى لهم دخول

أرض إلا بعدما جار أهلها عن صراط الدين واستهانوا بالعدل، انظر كيف كان

المسلمون في بداوتهم يدخلون البلاد، فيطهرونها من الأرجاس الظاهرة والباطنة،

وكيف أن الأوربيين ما دخلوا قرية إلا وأفسدوا أخلاق أهلها وآدابهم بالخمر والفحش

والميسر ولا سعة معنا في هذا الدرس لتمام المقابلة بين مدنية المسلمين في القرن

الأول ومدنية أوروبا في القرن العشرين، أو القرن الخامس من قرون ترقيها في

الحضارة - سنبسط الكلام عن المدنيتين في غير هذه الدروس من أجزاء المنار

الآتية إن شاء الله تعالى.

نعم إن المسلمين انحرفوا عن صراط سلفهم فأدبهم الله تعالى بسلب كثير مما كان

أعطاهم، ولذلك ذهب بهاء دينهم قبل أن تكمل مدنيتهم المادية، ونرجو أن يكون ما

حل بهم من العقوبة كافيًا لإنابتهم ورجوعهم إلى رشدهم، وعند ذلك إذا قالوا يسمع

لهم، وإذا افتخروا يشهد العالم بصدقهم في فخارهم فهم الآن حجة من لا دين له على

كل دين؛ لأن دينهم إذا لم يكن طريقًا لسعادة الدنيا فلا يمكن أن يكون سواه، وإن

قررت القوة خلاف ما قررناه.

للكلام تتمة

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) ضاق هذا العدد عن نشر تفسير القرآن لفضيلة مفتي الديار المصرية.

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رواية عربية

أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي فقال: بلغني أنه

كان رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بن مالك فَتَّاكًا شجاعًا قد أغار على أهل

حجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه

بتلاعب جحدر به ويأمره بالاجتهاد في طلبه، فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى

فتية من بني يربوع فجعل لهم جُعْلاً عظيمًا إن هم قتلوا جحدرًا، أو أتوا به أسيرًا،

فانطلقوا حتى إذا كانوا قريبًا منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به

فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرة شدوه كتافًا وقدموا به على العامل،

فوجه به معهم إلى الحجاج فلما أُدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا

جحدر بن مالك. قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان وجفاء

السلطان وكَلَب الزمان. قال: وما الذي بلغ منك فجرأ جنانك؟ قال: لو بلاني

الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان، وبهم الفرسان، ولوجدني من أنصح

رعيته، وذلك أني ما لقيت فارسًا قط إلا وكنت عليه في نفسي مقتدرًا. قال له

الحجاج: إنا قاذفون بك في حائر فيه أسد عاقر ضار فإن هو قتلك كفانا مؤنتك،

وإن أنت قتلته خلينا سبيلك. قال: أصلح الله الأمير عظمت المنة وقويت المحنة.

قال الحجاج: فإنا لسنا تاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد. فأمر الحجاج فغُلت

يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن، فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة:

تحمل عني شعرًا. وأنشأ يقول:

تأوَّبني فبت لها كنيعًا

هموم لا تفارقني حوان [1]

هي العوَّاد لا عوَّاد قومي

أطلن عيادتي في ذا المكان

إذا ما قلت قد أجلين عني

ثنى ريعانهن عليَّ ثان [2]

فإن مقر منزلهن قلبي

فقد أنفهنه فالقلب آن [3]

أليس الله يعلم أن قلبي

يحبك أيها البرق اليماني

وأهوى أعيد إليك طرفي

على عدواء من شغل وشان [4]

ألا قد هاجني فازددت شوقًا

بكاء حمامتين تجاوبان

تجاوبتا بلحن أعجمي

على غصنين من غَرَب وبان

فقلت لصاحبي وكنت أحذو

ببعض الطير ماذا تحذوان

فقالا الدار جامعة قريبًا

فقلت بل أنتما متمنيان

فكان البان إن بانت سليمى

وفي الغرب اغتراب غير دان

أليس الليل يجمع أم عمرو

وإيانا فذاك بنا تداني

بلى وترى الهلال كما أراه

ويعلوها النهار كما علاني

فما بين التفرق غير سبع

بقين من المحرم أو ثمان

فيا أخوي من جشم بن سعد

أقلا اللوم إن لم تنفعاني

إذا جاوزتما سعفات حجر

وأودية اليماني فانعياني

إلى قوم إذا سمعوا بنعيي

بكى شبانهم وبكى الغواني

وقولا جحدر أمسى رهينًا

يحاذر وقع مصقول يماني

يحاذر صولة الحجاج ظلمًا

وما الحجاج ظلامًا لجان

ألم ترني عددت أخا حروب

إذا لم أجن كنت مِجنّ جان

فإن أهلك قرب فتى سيبكي

على مهذب رخص البنان

ولم أك ما قضيت ذنوب نفسي

ولا حق المهند والسنان

قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسد ضار عاتٍ يجر

على عجل، فأرسل به فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به، فجعل في حائر [5]

وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر، فأُتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى

عنقه، وأُعطي سيفًا، والحجاج وجلساؤه في منظرة لهم فلما نظر جحدر إلى الأسد

أنشأ يقول:

ليث وليث في مجال ضنك

كلاهما ذو أنف ومحك

وشدة في نفسه وفتك

إن يكشف الله قناع الشك

فهو أحق منزل بترك

فلما نظره الأسد زأر زأرةً شديدةً، وتمطى، وأقبل نحوه، فلما صار منه

على قيد رمح وثب وثبةً شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط

ذباب السيف لهواته، فخرَّ الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على

ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبَّر الحجاج والناس جميعًا وأكرم

جحدرًا وأحسن جائزته. وأخرجه ابن بكار في الموفقيات بطوله من طريق آخر

عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، ولجحدر في الأسد قصيدة

بديعة نذكرها في جزء آخر.

_________

(1)

تأوبني: أتاني ليلاً، وكنيعًا: من كنع إذا خضع ولان، والحواني: فُسر بأنه من الحين بالفتح، وهو الهلاك فهو إذن مقلوب أصله حوائن جمع حائنة، وهي النازلة المهلكة.

(2)

ريعان كل شيء: أوله.

(3)

أنفهه: أتعبه وأعياه، والآني: المتناهي الحرارة.

(4)

العُدَواء بضم ففتح: المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه، وعدواء الشغل: موانعه.

(5)

الحائر: شبه حوض يجمع فيه ماء المطر.

ص: 13

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

بين يدينا الآن 14 مصنفًا من المطبوعات الحديثة بعضها من المؤلفات القديمة

وبعضها من الحديثة، ولم نوفق لمطالعتها فننتقدها؛ ولكننا ننوه بها في الجملة

مكتفين بتصفح بعض صفحاتها.

(إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق)

كتاب جليل وسفر كبير ألفه السيد أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني أحد

مجتهدي القرن الثامن الهجري، وقد طبعته شركة طبع الكتب العربية في مطبعة

الآداب والمؤيد بالإتقان والنظافة المعهودين في الكتب التي تطبعها، الكتاب في

أصول العقائد، وقد اقتصر فيه على ما نطق به الكتاب والسنة غالبًا، وترك الخوض

في النظريات الفلسفية التي زادوها في علم عقائد الدين؛ ولكنه توسع كغيره فيما

توسع فيه المتكلمون كمسألة خلق الأفعال، ومسألة الصفات، ونقل كثيرًا من كلام

النظار، والمزية الكبرى التي امتاز بها كتابه على كتب العقائد المتداولة أنه لم

يتعصب لمذهب مخصوص، ولم يخف اللائمة في تقرير ما يعتقده إن كان مخالفًا

لما عليه الناس؛ لأنه آثر الحق على الخلق، وهو أقرب إلى أهل الأثر منه إلى

أهل النظر، وعهدنا بأكثر المتكلمين التقصير في علم الرواية، ويمكننا أن نقول:

ينبغي لكل مشتغل بعلم الدين الاطلاع على هذا الكتاب.

***

(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)

يذكرنا التنويه بهذا الكتاب كل مصنف تطبعه هذه الشركة؛ فإنه كان نادر

الوجود، وهو من أجلّ الكتب الإسلامية ومؤلفه العلامة شمس الدين محمد بن قيم

الجوزية وهو يُطلب كسابقه من إدارة المؤيد، ومن جميع المكاتب بمصر.

***

(الحديقة الفكرية في إثبات الله بالبراهين الطبيعية)

كتاب ألفه ونشره بالطبع حديثًا صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي فريد

وجدي واسمه يدل على موضوعه، بحث فيه مباحث دينية عصرية على طريقته

الجديدة في هذه المباحث، وتكلم فيه عن الإنسان والإيمان، وعن الإيمان في دور

الفطرة، ودور الفلسفة، ودور العلم، وانتقل من هذا إلى شُبه ملاحدة الماديين

وإبطالها، ثم عقد فصلاً آخر في المادة وما وراءها، وبيان انتهاء دور الإلحاد،

وأطال في هذا الفصل الكلام في مسألة استحضار الأرواح، ثم تكلم عن الإيمان في

الدور الرابع وهو رجوع الإنسان إلى دور الفطرة الأولى، وبيان أن الإسلام هو

دين الفطرة وهذا خاتمة الكتاب، أما طبعه فحسبنا أن نقول: إنه في مطبعة الترقي،

وعلى أحسن ورق فيها، وثمنه ثمانية قروش، فنحث القراء على الاطلاع عليه،

ولا سيما أبناء المدارس النظامية الذين يدرسون العلوم العصرية، ولعلنا نوفق للعود

إلى الكلام فيه بعد تمام مطالعته.

***

(تاريخ آداب اللغة العربية)

لما علم الكاتب الأديب محمد بك دياب المفتش الثاني للغة العربية في نظارة

المعارف أن بعض علماء ألمانيا عنوا بالتأليف في تاريخ آداب لغتنا الشريفة هزته

الأريحية العربية إلى إجابة اقتراح صديق له في تأليف هذا الكتاب تاريخ آداب اللغة

وقد أصدر منه بالطبع جزآن، طُبع أولهما في مطبعة جريدة الإسلام، والآخر في

مطبعة الترقي المتقنة، وفي كل جزء منهما ما لا يستغنى عن الوقوف عليه من

الفوائد، كالكلام في نشأة اللغة وترقيها، وتاريخ الكتابة العربية والخط وتاريخ

المصنفات، وتاريخ الفنون والإنشاء فهذه الموضوعات تفتح للمشتغلين بهذا الفن

أبوابًا واسعة في البحث والتحرير.

ولا يسلم الكتاب من نقد، لا سيما في المباحث المبتكرة فقد فتحته لهذا

الغرض، فجاء أمامي الكلام على كتاب (أساس البلاغة) للزمخشري فرأيت

المصنف ذهب في الكلام عليه مذهب من يرى أنه معجم من معاجم اللغة فإنه قال:

(والكتاب ليس قاصرًا على إفادة اللغة، بل يرشد أيضًا إلى مناهج الإنشاء لكثرة ما

فيه من السجع والشواهد والأمثال) ، فجعل إفادة معاني الكلم هو الغرض الأول،

والإرشاد إلى مناهج الإنشاء أمرًا عرضيًّا وثانويًّا، ثم قال: (ولحسن ترتيبه يسهل

على الطالب الكشف منه على معاني الكلم؛ لكن ربما أبطأ به عن نوال (كذا)

المطلوب اقتصار المؤلف في الغالب على وضع الكلمات في التراكيب دون ذكر

معانيها صراحًا اعتمادًا على فهم المطالع، واستنباطه معنى الكلمة من الجملة، فلهذا

ربما يصح أن يقال: إنه كتاب مطالعة لا مراجعة، وههنا قارب الصواب، وهو أن

الكتاب إنما وضع لبيان التراكيب المختارة، والأساليب البليغة في جميع ضروب

القول ومناحيه، فهو كتاب دراسة ومطالعة حتمًا، وتدل خطبته على ذلك، فليرجع

إليها من شاء، وسننشر شيئًا من مختارات الكتاب في جزء آخر.

***

(أنيس الجليس)

هي - ولا أزيد القراء معرفة بها - المجلة النسائية العربية الوحيدة المعروفة

بحسن الاختيار للمواضيع الأدبية والتهذيبية الجديرة باطلاع السيدات عليها، وقد

دخلت في سنتها الرابعة، فنهنئ منشئتها الفاضلة البارعة ألكسندرة أفرينوه بنجاحها

ونرجو لمجلتها الغراء زيادة الاشتهار ودوام الانتشار.

_________

ص: 16

الكاتب: عبد العزيز محمد

الطريق القويم للتربية والتعليم [1]

(27)

من أراسم إلى هيلانة في 2 أغسطس سنة 185

أذكر أن رجلاً فاضلاً من أصدقائي كان قد وجد في نفسه انبعاثًا إلى التربية،

فأوجب عليها الاشتغال بها، ثم إنه انتُدِب لإدارة مدرسة كان غيره أنشأها، فألفى

نظام التأديب فيها بالغًا من الشدة غايتها؛ إذ رأى فيها أفرادًا من التلامذة يُخصون

بالعقوبة دون غيرهم، فيقضون ساعات الاستراحة في فنائها كل يوم جثيًّا أو قيمًا

في مواقف الجزاء، ولم يكن يعوزها شيء مما تشرف به من طرق العقاب

كالتكليف بمضاعف العمل والحبس والمنع من الخروج؛ لأنها كانت سائرة على

الأصول القديمة القويمة، فما لبث صديقي هذا أن أبطل كل ذلك النظام التعذيبي

دفعة واحدة لعلمه بأنه لا يرهب إلا الجبناء، ولا ينشأ عنه أثر للتهذيب في نفوس

المتعلمين، وقال للتلامذة: أنا أعلم من سيعاقبكم بعد الآن إن أنتم أسأتم؛ ذلك هو

وجدانكم الذي لا ينجو من سوط عذابه من أعفي من ضرب العصا.

كان شعار هذا المربي في تعليمه: (لا قلنسوة لعالم، ولا لحمار)[2] .

وكان التلامذة قبل وجوده في المدرسة لا يتسنى لهم أن يخطوا خطوة في

دهاليزها الطويلة وفي عرصاتها وقاعاتها الفسيحة إلا وهم مصطفون مثنى مثنى

تحت رعاية كبير لهم، كانوا يسمونه ضابط الرجالة تهكمًا به، ويكرهونه من

صميم أفئدتهم ولا يفترون عن مماحكته وابتلائه بضروب الحيل والخبث، فجمعهم

المعلم الجديد ليلقي عليهم نبأ عظيمًا، فقال لهم: اعلموا أنكم من الغد أحرار، لا

سيطرة لأحد عليكم، وأنه لن يرعاكم في سيركم وسيرتكم سوى عين الواجب الذي

تشعرون به. ولا أراني بعد هذا في حاجة إلى القول بأن كلاًّ منهم بمجرد سماعه

هذا التنبيه قد اعتبر طاعة النظام من أمس الأمور به وألزمها له.

وبينما كان في يوم من الأيام مجتازًا حديقة المدرسة بصر بتلميذ تسلق عريشة

كرم ممتد على جدار عتيق، يتدفق من فوقه ضوء الشمس، وأنشأ يأكل من قطوفه

أكلاً لمًّا، فتظاهر له بالغفلة عن فعله، ورجاه أن يلتمس له أمين المدرسة، فأتاه من

فوره يتبعه الغلام النهاب والريبة تدب إلى نفسه، فقال المدير للأمين: كيف يصح

أيها السيد أن لا يعطى هذا الغلام من الطعام كفايته؛ فإنه لم يكد يخرج من قاعة

المائدة حتى جاء إلى الكرم وطفق يجني قطوفه خلسة، فأرجو أن تأخذه الآن بنفسك

وترده إلى المطعم ليأكل ما يكفيه.

كان هذا المربي أقل الناس شبهًا بمديري المدارس، وكان من أجل ذلك

محبوبًا لتلامذته، فإني كثيرًا ما رثيت لحال معلم الأطفال الذي هو شهيد الشهداء

لمقتهم إياه مع إحسانه إليهم، وعلى كل حال لست أدري إن كنت مخطئًا في ذلك،

أو مصيبًا، وإني لا أخال الطفل كفورًا بنعمة معلميه؛ ولكنهم هم الذين أرادوا أن

يطعموه من باكورة العلم صابًا وعلقمًا، كيف لا وفي التعلم سعادة المتعلمين، وفي

التمرين والتدريب حياة لكل قوة من قوى الإنسان، ولا شيء إلا وهو يطلب الوجود

والظهور والنمو، وهكذا شأن التلميذ؛ وإنما القهر هو الذي يحيل فرحه إلى ترح،

ومرحه إلى خمود؛ فإنه يجيء إلى المدرسة وللحياة فيه دوي كدوي النحل، فيجد

مديرها عابس الوجه متمسكًا بالكتب، واثقًا بها ثقة الظالم الغاشم، فيا له من تنشيط

للأحداث وترغيب لهم في التعليم! !

الكتاب الذي ينبغي أن يتعلم منه الحدث هو صحيفة الموجودات، والمدارس

خلو منها.

إنك إذا دخلت غرفة من غرف المدارس لا تجدين فيها سوى مكاتب ملطخة

بالمداد، ومقاعد من الخشب غير مستوية القوائم، وجدرانًا أربعة عارية من الزينة

وسقفًا مرفوعًا على خُشب غليظة خشنة، يمتد بينها نسيج العناكب التي هي

عوامل الضجر المحزنة، فإذا نظرت خارج تلك الغرفة من نوافذها المفتوحة رأيت

الطيور مطلقة السراح مغردة في الجو كأنها تسخر من التلامذة؛ فإن الكون

الخارجي كله أصوات وأضواء وأشكال وألوان تدعو الطفل إلى التعلم بواسطة

مشاعره، وأما هذه الغرفة فلا شيء فيها يستلفت نظره، فقلما يوجد فيها صورة

وشيء من خرائط تقويم البلدان، وما عساه يوجد من الصور فدميم قبيح، ومن

الخرائط فهو يشبه خط قدماء المصريين في غموضه وتجرده من الرونق وقصوره

عن تمام البيان، فأقسم بالله على المتولين أمر التربية أن يدخلوا في هذه المقابر

التي أعدوها للأحداث نفحة من نفحات العالم الخارجي، وشعاعًا من أشعة الحياة.

كل أمة تُعنى بالتربية حق العناية ينبغي أن لا تخلو مدرسة من مدارسها من

نظارة معظمة (ميكروسكوب) لمضاعفة أجرام الأشياء التي لا تُرى بمجرد النظر

ومن مِرْقَب (تلسكوب) تسهل به رؤية أشكال أقرب الكواكب إلى الأرض، ومن

كرة جوفاء تمثل في باطنها أقسام الدنيا (جيوراما) ، ومن مَرْبى للحيوانات

والنباتات المائية، ومرآة للصور الماثلة (أستيريوسكوب) ، وبالجملة يجب أن

يوجد فيها جميع الأدوات اللازمة لتحصيل معنى الكون وآياته الكبرى في أذهان

الناشئين.

اعلمي أن اللفظ والخط طريقتان قاصرتان جدًّا عن إيصال العلوم إلى نفس

الحدث، وأن اللازم له إنما هو رؤية الأشياء، فلمربيه توجيه فكره ولو قبل تعليمه

القراءة إلى أمور كثيرة لا تخرج بحال عن متناوله وإدراكه، ورأيي فيما عليه

المربون الآن هو أنهم يفرطون في التعجيل بتعليمه بعضًا من فروع العلم كان حقها

التأجيل، وفي تأجيل بعض آخر كان أولى بالتعجيل، وكان يجب عليهم في اختيار

العلوم وترتيبها أن يرجعوا إلى درس القوانين التي يجري عليها الإنسان في نمو

جسمه ونفسه وعقله.

قولهم: (لما يجيء وقتي) ، كلمة تصدق على معظم قوى الإنسان في ساعة

ما من عمره، فالطفل يدرك من الأشياء أبعادها وعلاماتها الظاهرة؛ ولكن عقله في

غاية القصور عن الإحاطة بما بينها من الروابط، فهو أشد قصورًا عن النفوذ فيما

تجري عليه من القوانين، وعن تتبع سلسلة الأسباب التي نشأت عنها خصوصًا،

واليافع يتأثر بالقضايا الشعرية وترتاح نفسه إليها، ولا يميل إلى القضايا المنطقية

والأصول الحكمية، ومن حاول استمالته إليها فقد عبث؛ والسبب في هذا أن

ضروب الاستعداد المناسبة لهذه العلوم العقلية لما توجد فيه، أو أنه لم يوجد منها إلا

جراثيمها، فالإدراك لفظ عام يدخل في مفهومه عدة قوى متمايزة كل التمايز لا تنمو

إلا بالتدريج، ولكل منها طور كمون، ثم تظهر تابعة في ذلك لجملة من الحوادث

تتغير بتغير الأشخاص وما يحيط بهم؛ ولكنها على التحقيق محدودة بنواميس الكون

والزمان، فأفكارنا ووجداناتنا لها أعمار كأعمارنا.

الشيء الواحد يقتضي أن يتعلمه الإنسان عدة مرات ومن وجوه مختلفة، خذي

لك مثلاً: الطفل لا يرى في الوردة بادئ بدء إلا وردة، ثم إذا نمت فيه قوة الإدراك

قليلاً انتزع من شكلها ولونها ورائحتها مثالاً عقليًّا ممتازًا يعرف به الوردة كلما

وقعت في يده، وهو في هذا الطور من الحياة لا يهتم بمرتبتها التي عينها لها علماء

النبات في ترتيبهم، ولا بتركيبها ومعيشتها، فتلك طائفة من الشؤون والأفكار يجب

على مربيه الاحتراس التام من الخوض معه فيها إذا كان يعنيه أن لا يُضل مدركته

وكذلك الشأن في جميع الموجودات.

إذا أردت أن أعلم (أميل) علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) مثلاً، وهو

العلم الذي يعتبره العارفون أبا العلوم، فإني أنبهه أولاً إلى ما يوجد في الأحجار،

بل في حصا الطرق من أشكال المخلوقات العضوية المنطبعة عليها؛ فإن حبه

للاستطلاع وميله للاستئثار بالمعرفة مع مساعدة الفرص يعودانه في أقرب وقت

على تمييز أهم العلامات التي توجد في دفائن الأرض من بقايا تلك المخلوقات،

فجميع ذلك مناسب لسنه أو قريب منه، ثم بعد ذلك ببضع سنين أدعوه إلى أن

يقيس ما يكون قد جمعه من هذه النموذجات بعضه ببعض، وأن يرتبها على حسب

ما بينها من التشابه، وفي هذا الوقت دون غيره أتلطف في تسريب معنى أطوار

الأرض وعهودها إلى ذهنه، وأقص عليه تاريخها مستعينًا بتلك الحصا والحجارة،

فقد قال شكسبير: (إن في الحجارة لموعظة وذكرى)، وأنا أقول: إن فيها ما هو

أسمى من ذلك، فهي وحي يعلمنا كيف خلقت الأرض، ثم إذا بلغ إميل الثامنة

عشرة أو التاسعة عشرة من عمره؛ أي: صار في سن يؤهله لفهم كل ما أقوله له

حق الفهم استعنت بعلم طبقات الأرض على تعليمه حكمة التاريخ، فهو أمثل مقدمة

لها.

فيما كاشفتك به من أفكاري هذه غناء عن تعريفك أننا لا ينبغي لنا في تعليم

إميل أن نعول على شيء من المؤلفات الموجودة، فالوجيزة منها والصغيرة والكتب

المدرسية التي بين أيدي الأطفال جميعها وضعت لغير الوجهة التي نقصدها؛ فإنها

مختصرات علمية توهم واضعوها أنها تكون ملائمة لإدراك الأحداث بسهولة

عباراتها، وليس العيب ههنا في شكل الكتب، وإنما هو في أصل وضعها؛ فإن

أول شيء يتسنى للطفل إدراكه من نظام الكون هو ما يدركه منه الإنسان في أول

نشأته قبل تقدم العلوم وتقسيمها، فالمعلمون لا يفتؤون ينسون أن التعاريف والتقاسيم

والقوانين لم توجد إلا بعد التجارب، كما أن علوم اللغة متأخرة عنها في الوجود،

وكذلك علوم الدين. ويغيب عن أذهانهم أن علوم الإنسان لم تتكون ألبتة بالصورة

التي يتعلمها عليها الأحداث الآن؛ فإن الإنسان لم يصل إلى إيجاد طائفة من العلم

محدودة إلا بالانتقال من حادثة جزئية إلى أخرى، ومن سلسلة من الحوادث مرتبطة

بعضها ببعض إلى غيرها، وبعد أن وجدت له طائفة منها نشأ يستنبط لها القوانين

التي تضبطها، ثم تفرعت دوحة المعارف وتمايزت فروعها وانفصل كل علم عن

الآخر.

فالجري في تعليم الطفل على غير هذه الطريقة قلب لنظام عقل الإنسان،

فالمعلمون إنما يلقون عليه نتائج العلوم وخلاصاتها قبل أن تؤسس قوته الحاكمة

بمبادئها، وتدعم بمقدماتها، فترينهم ينحدرون مرة واحدة من الذروة التي رقى إليها

العلم في عصرنا بعمل الأجيال الماضية إلى ما هو فيه من حضيض الجهل، والذي

يستحسن أولئك المعلمون تسميته مبادئ العلوم إنما هو في حق الطفل من ثمرات

العقل المبالغ في تحضيرها، ومن نتائج ربط الأشياء بعضها ببعض.

أنا لا أجري على هذه الطريقة في تعليم (أميل) فإني أود قبل أن أعلمه

تاريخ الموجودات أن أعرفه بما في الكون، فأجعل له به أنسًا بأن أوجه نظره إلى

حوادث الحرارة والوضوء والكهرباء قبل تعليمه قوانين علم الطبيعة، وأعلمه شيئًا

من أوصاف أشكال الأجرام السماوية ومواقعها من قبة الفلك قبل الخوض معه في

علم الهيئة، بل إن قصدي إلى أن أشرح له في المستقبل ما أعلمه من نواميس

الكون أقل بكثير منه إلى إيقاظ وجدان الملاحظة فيه؛ فإن تعليم الطفل ليس بشيء

يذكر، وإنما الأمر الخطير هو أن يؤتى وسيلة التعلم بنفسه وتحرك فيه دواعي

الإقبال عليه، فدروسي لإميل كلها لا يكون فيها إلا ما كان له شأن في تنبيه عقله

وتقويته؛ لأنه مرجع جميع علومنا على اختلافها.

قد رأيت مما قدمته لك أنه قد قضي عليك أن تكوني (لأميل) كتابًا يأخذ عنه

علمه، فلا تستعيني بشيء من صغار الكتب وموجزاتها ومختصراتها، وعليك أن

تلتمسي له أبسط المعاني وأليقها بحالة إدراكه مع التدرج في ذلك بحسب ارتقائه في

الفهم، وأن تجعلي تعليمك مطابقًا لأحوال سنه اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب من كتاب ‌

(أميل القرن التاسع عشر)

.

(2)

القلنسوة في نظام التعليم الأوروبي شارة العلماء ينالها من أتم دراسته وأدى الامتحان فيها.

ص: 19

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

وأما الفصل الخامس ففي التربية والحجاب، وأهم مسائله:

1-

قوله: إن الحجاب جعل المرأة في حكم القاصر لا تستطيع أن تباشر عملاً

ما بنفسها، مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شؤونها المعاشية بكفاءة مساوية

لكفاءة الرجل، وإن ضرره الأعظم أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها.

2-

وإنه ينبغي أن تربى كتربية الرجل في جسمها وآدابها وعقلها.

3-

وقوله: (متى انتهت تربية البنت باتخاذ ما يلزم من الوسائل لتنمية قواها

الجسمية وملكاتها العقلية وبلغت الخامسة عشرة من عمرها، ينبغي أن تطلق لها

الحرية في مخالطة الرجال؛ لأن قهر الإنسان لهواه وجعله تحت سلطان العقل

يستدعي قوة عظيمة في الإرادة، ولا توجد هذه القوة في الإرادة بإقامة الحوائل

المادية بينه وبين النقائص، ولا بمجرد حشو ذهنه بالقواعد الأدبية؛ وإنما تتولد

بالتعرض لملاقاة الحوادث والتعود على مغالبتها والتغلب عليها، فمزاولة الأعمال

ومشاهدة الحوادث واختبار الأمور ومخالطة الناس والاحتكاك بهم والتجارب كل هذه

الأشياء هي منابع للعلم والآداب الصحيحة، بها ترتقي النفوس الكريمة حتى تبلغ

أعلى الدرجات، وأمامها تنهزم النفوس الضعيفة وتهبط إلى أسفل الدركات) اهـ.

4-

وذكر قول معترض حض على النظر إلى مدنيتنا القديمة التي ذكر من

أصولها احتجاب النساء، وقال: إنها نفس الكمال: والرد عليه بوجوب أخذ الأهبة

لمقاومة سلطة العادات الموروثة إذا خشينا أن تسلبنا إرادتنا واختيارنا، وذلك

بالالتفات إلى المدنية الإسلامية، ووزنها بميزان العقل والتدبر في أسباب ارتقاء

الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، واستخلاص قاعدة من ذلك يمكننا أن نقيم عليه

بناء ننتفع به اليوم، أو في ما يستقبل من الزمان.

ثم ذكر ظهور الإسلام في جزيرة العرب وفتوحاته، وأخذ العلوم والصنائع

ممن فتح المسلمون بلادهم، وما كان من النهضة العلمية، وقال بعد ذلك ما نصه:

(على هذين الأساسين شيدت المدنية الإسلامية الأساس الديني الذي كوَّن من القبائل

العربية أمة واحدة خاضعة لحاكم واحد ولشرع واحد، والأساس العلمي الذي ارتقت

به عقول الأمة الإسلامية وآدابها إلى الحد الذي كان في استطاعتها أن تصل إليه في

ذلك العهد) ، ثم ذكر أن قوة العلم كانت ضعيفة في ذلك العصر وأكثر أصوله ظنية

وأن الفقهاء تغلبوا على رجال العلم ورموهم بالكفر والزندقة حتى نفر الناس من

دراسة العلم، قال: (ثم غلوا في دينهم وشطوا في رأيهم حتى قالوا في العلوم

الدينية نفسها: إنها لا بد أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. فقرروا أن ما

وضعه بعض الفقهاء هو الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه، وكأنهم رأوا

من قواعد الدين أن تُسد أبواب فضل الله على أهله أجمعين) ، ثم عقب هذا بكلمة

جليلة ذكر بعدها ما كان من ارتقاء العلم في أوربا وهي: (هذا النزاع الذي قام بين

أهل الدين وأهل العلم، ولا أقول: بين الدين والعلم لم يكن خاصًّا بالأمم الإسلامية،

بل وقع كذلك عند الأمم الأوربية) ، ثم ذكر بعض الاكتشافات الحديثة في العلم،

وتغلب أهله على رجال الدين واستنتج من ذلك قوله:

(فإذا كان التمدن الإسلامي بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصول

العلوم كما بيناه، فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدن كان (نموذج الكمال البشري)

يهمنا أن لا نبخس أسلافنا حقهم، ولا ننقص من شأنهم؛ ولكن يهمنا مع ذلك أن

لا نغش أنفسنا بأن نتخيل أنهم وصلوا إلى غاية من الكمال ليس وراءها غاية، نحن

طلاب حقيقة إذا عثرنا عليها جهرنا بها مهما تألم القراء من سماعها، لذلك نرى من

الواجب علينا أن نقول: إنه يجب على كل مسلم أن يدرس التمدن الإسلامي ويقف

على ظواهره وخفاياه؛ لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ويجب

عليه أن يعجب به؛ لأنه عمل انتفعت به الإنسانية وكمَّلت به ما كان ناقصًا منها في

بعض أدوارها؛ ولكن كثيرًا من ظواهر هذا التمدن لا يمكن أن يدخل في نظام

معيشتنا الاجتماعية الحالية) اهـ.

وقد بيَّن السبب في عدم هذا الإمكان من جهة العلوم الكونية قبله، وبين بعد

سبب ذلك من جهة النظامات السياسية، وانتقد السلطة المطلقة التي جرى عليها

الخلفاء والملوك، وما كان فيها من الاستبداد الذي ساعد عليه عدم تحديد الفقهاء

للعقوبات، بل تركوا أنواع التعزير مفوضة للحاكم، ثم بيَّن أنه لم يكن عندهم شيء

من العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى إن ابن خلدون لم يذكر في كتابه،

- وهو الكتاب الوحيد الذي وضع عند المسلمين في الأصول الاجتماعية - كلمة

واحدة في العائلة، ثم بين أن الحالة العائلية كانت خالية من كل نظام، ثم بيَّن ذلك من

جهة الآداب، فذكر أن المسلمين لم يأتوا للعالم بأصول جديدة فيها، وأما عملهم بها

فذكر أن التاريخ يشهد على أن كل عصر لا يخلو من الطيب والرديء، وأشار إلى

أهم ما يُنتقد على المسلمين كتمزيق الدولة العربية بالمنازعات الداخلية، وكشرب

بعض الأمراء والعظماء الخمر جهرًا في مجالس الجواري والقيان وغير ذلك، ثم قرر

بعد ذلك الرد على من قال: إن المدنية الإسلامية كانت (نموذج الكمال البشري) ،

وإن المسلمين كانوا حائزين جميع أنواع (الكمالات الأخلاقية الصحيحة) ، وقرر أن

الحجاب إذا كان عادة من عاداتهم التي لم تكن كلها كاملة فلا ينافي ذلك أنه لا يليق في

عصرنا، ثم قال ما نصه بالحرف: (وغني عن البيان أننا عند كلامنا على المدنية

الإسلامية لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنائع

والآداب والعادات التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها، ذلك لأن

عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية، فهو على ما به من

قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثرًا مناسبًا لدرجة عقول وآداب الأمم التي

سبقت، ثم حتم بوجوب بناء مدنيتنا على العلوم العصرية التي بنى عليها الأوربيون

مدنيتهم) .

والمسألة (5) من مهمات هذا الفصل البحث في زعم الذين يعترفون بتقدم

الغربيين علينا في الصنائع وإنكار تقدمهم في الآداب، ولم يُبق الإسهاب في المسألة

الرابعة مجالاً لتلخيص شيء منها، وإنما أطلت في هذه لأنها أهم مسائل الكتاب في

الحقيقة؛ ولأن الناس يلغطون فيها قولاً وكتابة على غير بصيرة، بل يكذبون على

المؤلف ويتهمونه بأنه طعن بالدين الإسلامي نفسه، وقال: إنه غير كاف لمدنية

المسلمين في هذا العصر. ونحو ذلك مما يرمي به من لا قيمة للصدق ولا للدين في

نفوسهم، نعم إن كلامه في هذا الموضوع لا يسلم من استدراك وانتقاد سنبينه في

بقية مقالاتنا في مدنية العرب، وأما خاتمة الكتاب فسنكتب عنها شيئًا في الجزء

الآتي إن شاء الله تعالى.

رأي الناس في الكتاب

ورأينا فيه

قلنا في تقريظ كتاب (تحرير المرأة) ما أعدنا معناه في تقريظ المرأة الجديدة

من أننا لم نر في مكتوب العصر شيئًا أثَّر في مسلمي مصر مثل هذين الكتابين،

وكنا قد استبشرنا لهذا التأثر لدلالته على أن في الأمة ذماء ورمقًا من الحياة يهيج

إحساسها للنفور من الضار في اعتقادهم، وإن لم يرتق إلى العناية بالنافع في الأخذ

به؛ ولكن هذا الاستبشار غير صافٍ من الكدورة، ولا محل هنا لبيان السبب في

ذلك؛ إذ لا يفي به إلا مقالة أو مقالات في شعور الأمة ووجدانها وتأثيره في أعمالها.

قلنا في الجزء الماضي: إن من الناس من قرَّظ كتاب المرأة الجديدة، ومن

انتقده، ونذكر ههنا أن المنتقدين هم الأكثرون بحسب ما يظهر لنا من كتابتهم في

الجرائد ومحاوراتهم في الأندية والسمار، يقول هؤلاء المنتقدون: إن هذا الكتاب

وسابقه ما أُلفا إلا لإقناع المسلمين بأن يعطوا نساءهم الحرية المطلقة بمعاشرة من

يردن من الرجال، وأن يكن كنساء الإفرنج مكشوفات الوجوه والرؤوس يختلفن إلى

الملاهي والمراقص، ويذهبن في التهتك كل مذهب. هذا ما يلهج به الجماهير

يتلقفه بعضهم من بعض وأكثرهم لم يقرأ الكتاب، ومنهم من يزيد على ذلك مسألة

المدنية الإسلامية والمدنية الغربية، وقد ذكرنا طعنهم فيها آنفًا.

إن كان الكتابان أُلفا لهاتين الغايتين، أو اشتملا عليها، فنحن وجميع المسلمين

بل وجميع العقلاء نقول: إنهما باطلان جديران بالمقت والرفض؛ لأن ذلك يجر إلى

فتنة في الأرض وفساد كبير، ويكون به خيار نسائنا في التهتك والتبذل أبعد غورًا

من شر نساء الإفرنج؛ لأن لهؤلاء من التربية والعلم الذي لم يصلن إليه إلا بعد عدة

قرون ما ليس لنا شيء منه، ونحن لما نبتدئ بالتربية ابتداء؛ ولكن هل الكتابان

كما يقولون؟ الجواب ما قلناه في تقريظ كتاب تحرير المرأة في العام الماضي من

أن المؤلف غالى في بيان مضار التشديد والمبالغة في الحجاب، وبالغ جدًّا في

جعل نجاح المسلمين متوقفًا على إزالة الحجاب المعهود في الأذهان، والموجود أثره

في الأعيان، بحيث إن هذه المغالاة والمبالغة المصوغة في قالب الأسلوب الكتابي

المؤثر تذهب بوجدان القارئ إلى وجوب تمزيق هذا الحجاب؛ لأنه لم يحجب إلا

العلوم والفضائل عن نصف الأمة.

وقد رأينا من أفاضل المعتدلين في الإنكار على كتاب المرأة الجديدة من قال: إن

هذا هو الضرر الحقيقي من قراءة الكتاب، وقال: إنني كنت أقرأه فأشعر بوجداني قد

تغير واعتقادي بوجوب بقاء الحجاب قد تزلزل واضطرب، فأترك القراءة ليثوب إليّ

وجداني الأول، ويسكن اعتقادي فيه، ثم أعود إليها. فقلت له: ربما تكون هذه

المغالاة مقصودة للمؤلف؛ لأن الداعي إلى شيء ينبغي له لأجل إرجاع من يدعوهم

إلى الاعتدال الذي هو الحق أن يقف على الطرف المقابل لما هم فيه، فإن كانوا في

جانب التفريط يقف في جانب الإفراط؛لينتهي التجاذب بينه وبينهم إلى الوسط، ولو

وقف في الوسط وجذبهم وجذبوه يخرج كل منهما عنه، أو يبقى في محله ولا فائدة في

ذلك، ومن هنا يقول الناس: لا بد من شيء من الباطل لأجل الوصول إلى الحق.

وقد قال الإمام الغزالي: إن وعد القرآن ووعيده مبني على هذه القاعدة فمثل قوله

تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) إنما يعالج الذين غلبت عليهم خشية الله،

والخوف من عذابه، وأفرطوا فيها حتى كادوا يقنطون من رحمته تعالى، وأما

الذين غلب عليهم التهاون وأدى بهم الإفراط في الرجاء إلى الغرور وكادوا يأمنون مكر

الله وعذابه وتجرؤوا على المعاصي، فيجب أن يُعالجوا بمثل قوله تعالى:

{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا

بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) وإذا ذكروا تلك الآية ذُكِّروا بمثل قوله

تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82)

وهكذا يجب أن يكون المرشد كالطبيب يعطي كل مريض ما مست إليه حاجته ويناسب

حاله.

ثم إن من فوائد هذه المبالغة أن أثارت أفكار الناس للبحث، وكل الباحثين أو

جلهم موافق له على سوء حالة المرأة المصرية والمسلمة، ووجوب تربيتها وتعليمها،

وقد كان المانع الأكبر منهما عند الجماهير هو الحجاب؛ ولكنهم يخالفونه في توقف

التربية والتعليم في كمالهما على تخفيف الحجاب أو منعه، فإذا انتهت هذه المناقشات

بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، ويكون

الفضل الأكبر في ذلك لقاسم بك يعترف له بعض المنصفين الآن، ويحفظه التاريخ

إلى آخر الزمان.

استفتاء البابلي في المرأة الجديدة

من أعجب ما أحدثه كتاب (المرأة الجديدة) في نفوس الناس أن محمد أفندي

عبده البابلي كتب إلى فضيلة مفتي الديار المصرية كتابًا مفتوحًا وزَّعه على الناس

ونشره في الجرائد يسأل فيه: (هل رفع الحجاب عن المرأة وإطلاقها في سبيل

حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب المرأة الجديدة يسمح به الشرع الشريف

أم لا؟) ، ثم طبع استلفاتًا إلى هذا الكتاب المفتوح، ووزَّعه في الأزقة والشوارع،

وأرسله إلى الجرائد قبل أن يرسله إلى فضيلة المفتي المخاطب به، حتى إن الإستاذ

المفتي لم يعلم به إلا بعد أن أطلعته أنا عليه، ونحن نجيب هذا السائل المستلفت

فنقول:

(1)

إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود في مثله، ولم يفهم أحد من

العقلاء معنى توزيع السؤال مطبوعًا على الناس، لا سيما قبل إيصاله إلى المسؤول

بل أنا في شك من إرساله إليه قياسًا على الاستلفات الذي رآه عندي لأول مرة،

ولا يقال: إن الغرض الفائدة؛ لأن الفائدة إنما تكون في الجواب، وربما كان أكثر

الذين وُزِّع عليهم الكتاب المفتوح والاستلفات من خالي الذهن عن كتاب المرأة

الجديدة، فيظهر أن للسائل غرضًا غير الإفادة.

(2)

لا يخفى على السائل وغيره أن الاستفتاء عن كتاب يستلزم أن يقرأ

المفتي ذلك الكتاب كله، وذلك تكليف الشطط؛ لأن أصحاب الأعمال الكثيرة كمفتي

القطر المصري يجب أن يختصر في الأسئلة التي تلقى إليهم؛ لأن كثرة أعمالهم لا

تسمح لهم بقراءة الأسئلة المطولة والجواب عنها الذي يستدعي التفصيل والتطويل

غالبًا، وإننا نعلم أن الأسئلة التي ترفع إلى شيخ الإسلام في دار الخلافة لا يكتفون

فيها بالاختصار حتى يذكرون الجواب، ويسألون عنه، فيكتب شيخ الإسلام كلمة

(أولور) إذا كان الجواب بالإيجاب، وكلمة (أولماز) إذا كان سلبًا.

والسائل يعلم أن مفتي الديار المصرية هو رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية

التي هي أعظم جمعية للمسلمين في البلاد العربية كلها، وهو أيضًا عضو عامل في

مجلس شورى القوانين، ومجلس الأوقاف الأعلى، وله أعمال أخرى في نظارة

الحقانية، وهو شيخ رواق الحنفية الذي هو أعظم رواق في الأزهر وناظر على

أوقاف كبيرة، وعضو في مجلس إدارة الأزهر، ويؤلف ويقرأ في الأزهر درسًا في

علم البلاغة، ودرسًا في تفسير القرآن الشريف، ولا يخفى ما يستلزمه هذا الدرس

من المطالعة والمراجعة، ويعلم أنه من الدقة في أعماله بحيث إذا رُفع إليه استفتاء من

المحاكم عن قتل جانٍ، يقرأ جميع أوراق القضية، وإن كانت تعد بالمئات، ويعلم

أيضًا أنه مقصود من الناس بقضاء المصالح، فلا يخلو يوم من عدة أشخاص يطلبون

منه قضاء مصالحهم، فهل مثل هذا يستفتى عن كتاب، ويكلَّف بقراءته ليبين رأيه

فيه؟ كلا، إنه يجب على شيخ الجامع الأزهر أن يؤلف بمعرفة المفتي ومساعدته

لجنة من العلماء لانتقاد الكتب التي تنشر بين المسلمين، يكون أفرادها من البارعين

في جميع الفنون، بحيث ينتقد كل صنف ما هو عالم به، ثم ينشر ذلك في الجرائد؛

فإن في الكتب المنسوبة للمتقدمين ما ينشر، وفيه من الإفساد في الدين والدنيا فوق ما

يتصوره كل منتقد على كتاب المرأة الجديدة.

(3)

إن الفتوى في الكتاب لا يمكن أن يفهمها أحد إلا إذا اطلع على السؤال،

والسؤال يدخل فيه الكتاب كله، فيحتاج كل من اطلع على الفتوى أن يقرأ الكتاب

أولاً، فإذا كان ضارًّا تكون الفتوى سببًا في إذاعة الضرر.

(4)

إذا أفتى مفتي الديار المصرية في الكتاب، فلا شك أن فتواه تكون

بمقتضى مذهب الحنفية الذي عينته الحكومة ليفتي به، فإذا لم توافق فتواه غرض

صاحب الكتاب يمكنه أن يقول كما قال في كتابيه: إن إصلاح شؤون المسلمين يتوقف

على عدم التقيد بقول إمام واحد، بل يجب أن ينظر في المصلحة وتطبق على قول

أي إمام، ولا يخفى أنه نقل عن بعض الأئمة في تحرير المرأة جواز كشف الوجه

والكفين، وجواز معاملة الرجال في غير خلوة، وهذا كل ما يطلبه من إبطال

الحجاب.

كل هذا يدلنا على أن السائل أخطأ في السؤال، وأنه لا يلقى جوابًا.

_________

ص: 26

الكاتب: محمد رشيد رضا

قسم‌

‌ الأحاديث الموضوعة

الموضوعات في العلماء والزهاد

ذكرنا في الجزأين 27 و 28 من السنة الماضية بعض الأحاديث الموضوعة

في تعظيم العلماء وإطرائهم، وبقي علينا بقية منها، وأن نذكر الأحاديث

الموضوعة في انتقادهم على عدم العمل، وانتقاد العباد بغير علم، وأكثر

الموضوعات في الإطراء وضعها علماء السوء لتعظيم أنفسهم على المتصوفة الذين

تخصهم العامة بالتعظيم والإكرام واعتقاد الولاية، وأكثر تلك الأحاديث الانتقادية

وضعها مدعو الإصلاح والولاية للحط من شأن العلماء الذين يظهر من عملهم أنهم

لا يريدون بعلمهم إلا المال والجاه، وهكذا كانت المحاسدة بين الفريقين إلا من

عصم ربك من المخلصين؛ ولكن الانتصار كان للعلماء إلا في الأزمنة التي ساد

فيها الجهل، وصار الأمراء كالعامة في اعتقاد جهلة مدعي الولاية أوالمتظاهرين

بالصلاح، وآل الأمر إلى مشاركة العلماء لهم في هذا الاعتقاد والتظاهر به؛ لئلا

يتهموا وتنحرف عنهم العامة، فيفوتهم الانتفاع منها، ولا تنس استثناء المخلصين،

وقليل ما هم.

فمن هذه الموضوعات حديث: (يكون في آخر الزمان علماء يُرَغِّبون الناس

في الآخرة ولا يرغبون، ويُزَهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينبسطون عند

الكبراء، وينقبضون عند الفقراء، وينهون عن غشيان الأمراء (أي: زيارتهم

والتردد عليهم) ولا ينتهون، أولئك الجبارون عند الرحمن) وفي إسناده نوح بن

أبي مريم أحد المشهورين بالكذب، ولا يغرنك كون مضمونه واقعًا الآن، فتستدل

به على صحته؛ فإنهم ما وضعوه إلا لواقع متحقق، وما كل صحيح المعنى يصح

رواية.

ومنها حديث: (يأتي على أمتي زمان يحسد الفقهاء بعضهم بعضًا، ويغار

بعضهم على بعض كتغاير التيوس) ، في إسناده متهم بالوضع، وإن صح معناه.

ومنها حديث: (من فتنة العَالِم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع) ، وهو

موضوع.

ومنها حديث: (هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشرار الشرار شرار

العلماء، وخيار الخيار خيار العلماء) ، لم يوجد وإن صح معناه.

ومنها حديث: (لا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض)، قالوا: إسناده

لا يصح.

ومنها حديث: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة

الأوثان) ، وهو موضوع، وقال ابن حبان: باطل. وفي إسناده من يتهم بالوضع،

وذكر له في اللآلئ المصنوعة طرقًا لا يصح منها شيء.

ومنها حديث: (المتعبد بغير فقه كالحمار في الطاحونة، ما اتخذ الله من ولي

جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه) ، قال ابن حجر: ليس بثابت. قلت: كانوا يحتجون به

على الجهال الأميين الذين يدَّعون الولاية، ويصدقهم العوام لتظاهرهم بالصلاح،

وما كان هؤلاء ينتهون عن دعواهم؛ لأن لهم من العامة قوة يغلبون بها الحق على

قاعدة بسمارك، وقد أنكر بالحديث أحد العلماء على أحد أدعياء الأولياء الجهلاء،

وكان لم يره، وبلغ الولي ذلك، فاتفق أن اجتمعا في مجلس مصادفة، فابتدر الولي

العالم بقوله: (اتخذني وعلمني) ، فعدها له الناس مكاشفة وزادوا به اعتقادًا؛ لأن

كرامة وهمية كهذه تهدم ألف قاعدة من قواعد العلم والدين، وهذا العلم الذي يسميه

الصوفية (اللدني) لا يتناول علوم الرواية والأحكام كالحديث والفقه واللغة كما بينه

الفقيه ابن حجر في الفتاوى الحديثية؛ ولذلك تجد أكابر الصوفية الصادقين يحتجون

بالأحاديث الموضوعة؛ إذ لم يكونوا من المحدثين؛ ولكن أين من يعقل ويفهم؟

ومنها حديث: (أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في

الدنيا فلم يطلبه، ورجل علم علمًا، فانتفع به من سمعه منه دونه) ، قال ابن

عساكر منكر.

ومنها حديث: (من نصح جاهلاً عاداه)، قالوا: لم يرد مرفوعًا، أي لم

ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كلام بعض السلف، أقول: إذا

أراد قائله بالجاهل الأحمقَ السفيهَ فله وجه، وأما إذا أراد غير العالم فهو خطأ

وضلال يقتضي ترك التعليم والنصيحة، وفي ذلك محو الدين بالمرة.

ومنها حديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا معشر العلماء إني لم أضع

علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم، قوموا فإني قد غفرت لكم) ، رواه ابن عدي عن واثلة

ابن الأسقع مرفوعًا، وقال: هذا منكر، لم يتابع عثمان بن عبد الرحمن القرشي عليه

الثقات. وله إسناد آخر عند ابن عدي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا، وقال: في

إسناده طلحة بن يزيد متروك، وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل.

ومنها حديث: (إن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي

فيه بين المشرق والمغرب، كما يضيء الكوكب الدري) ، رواه أبو نعيم والخطيب،

قال في الميزان: هذا خبر باطل.

ومنها حديث: (إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر،

فيأمر الله جبريل أن يأتيهم ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن

أصحاب الحديث، فيقول الله تعالى: ادخلوا الجنة على ما كان منكم طالما كنتم

تصلون على نبيي في دار الدنيا) ، قال الخطيب: موضوع، والحمل فيه على الرقي

يعني محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي، وقد ذكره الذهبي في الميزان، وقال: إنه

وضع هذا الحديث. أقول: حيَّا الله تعالى علماء الحديث.

ومنها حديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا

عالمًا) ، رواه ابن عبد البر وضعَّفه؛ ولكن قال صاحب الذيل: هو من أباطيل

إسحق الملطي. وقال في المقاصد: طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة

قادحة. وقال البيهقي: هو متن مشهور وليس له إسناد صحيح. أقول: وسبب

شهرته عناية العلماء بحفظ الأربعينات رجاء أن يكون ثابتًا في الواقع وإن لم يصح

سنده.

وقد ورد في العلماء والعباد أحاديث أخرى تكلم فيها بعض، واحتج بها

آخرون، منها حديث: (شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين

يأتون العلماء) ، روى ابن ماجه شطره الأول بسند ضعيف. وروي بلفظ (العلماء

أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل

فاحذروهم واعتزلوهم) ، قيل: هو موضوع وفي إسناده مجهول ومتروك. وتعقب

ذلك.

وما زال العلماء العاملون والصوفية المخلصون يحتجون بهذا الحديث، وما

ورد في معناه؛ لأنه مؤيد بسيرة السلف الصالح، وكانوا يتهمون كل عالم يغشى

مجالس الأمراء والسلاطين إلا إذا كان بمقدار ما يؤدي النصيحة الواجبة ولم يأخذ

من عطاياهم شيئًا، وإحياء علوم الدين طافح بآثار السلف في ذلك، وقد انقلب

الأمر الآن؛ فإننا نرى من الناس من يستدل على حسن حال المنتسبين إلى العلم

والصلاح بالقرب من الملوك والأمراء، وربما يعدون من كراماتهم ما يمنحونه من

الحلي والحلل الذهبية والفضية التي تسمى النياشين وكسوة الرتبة والتشريف، فلا

حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومنها حديث: (أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) ، رواه أحمد والطبراني،

والقراء: العلماء، والله أعلم.

_________

ص: 35

الكاتب: حافظ إبراهيم

‌انتقاد الأخلاق والعادات

لمعري العصر في فلسفة الشعر محمد أفندي حافظ إبراهيم

لحاظك والأيام جيش أحاربه

فهذي مواضيه وهذي كتائبه

وهمين ضاق القلب والصدر عنهما

غرام أعانيه وعيش أغالبه

وليل كمطل القوم كابدت طوله

وأيقنت أني لا محالة صاحبه

كأن دياجيه صحيفة ملحد

تخط بها أعماله ومثالبه

قريت به جيش الصبابة والأسى

وأنزلته صدرًا تداعت جوانبه

وعلمت نفسي كظم غيظي ولم أبح

بما فعلت بين الضلوع قواضبه

تماسكت حتى لو رأى القوم حالتي

رأوا رجلاً هانت عليه مصائبه

رجائي في قومي ضعيف كأنه

جنان وزير سودته مناصبه

ودائي كداء الدين عز دواؤه

وحظي كحظ الشرق نحس كواكبه

فياليت لي وجدان قومي فأرتضي

حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه

ينامون تحت الضيم والأرض رحبة

لمن بات يأبى جانب الذل جانبه

يضيق على السوري رحب بلاده

فيركب للأهوال ما هو راكبه

فما هي إلا أن تجشمه النوى

وما هو إلا أن تشد ركائبه

ويحرج بالرومي مذهب رزقه

فتفرج في عرض البلاد مذاهبه

أقاسم إن القوم ماتت قلوبهم

ولم يفقهوا في السِفْر ما أنت كاتبه

إلى اليوم لم يُرفع حجاب ضلالهم

فمن ذا تناديه ومن ذا تعاتبه

فلو أن شخصًا قام يدعو رجالهم

لوضع نقاب لاستقامت رغائبه

ولو خطرت في مصر حواء أمنا

يلوح محياها لنا ونراقبه

وفي يدها العذراء يسفر وجهها

تصافح منا من ترى وتخاطبه

وخلفهما موسى وعيسى وأحمد

وجيش من الأملاك ماجت مواكبه

وقالوا لنا رفع الحجاب محلل

لقلنا نعم حق ولكن نجانبه

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ثناء

قد حذت جريدة طرابلس حذو المنار بالكلام في الموضوعات، فاستحقت بذلك

الثناء.

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

ضاق هذا الجزء عن هذا الباب، وسنثبته في الجزء الآتي ويدخل فيه باقي

ترجمة ملكة الإنكليز وغير ذلك.

_________

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تصحيح

ذكرنا في الصفحة 862 من الجزء الماضي أن سعادتلو عبد الغني باشا العابد هو

شقيق صاحب العطوفة الشهير أحمد عزت بك العابد الكاتب الثاني لمولانا السلطان

الأعظم، وكان ذلك سبق قلم، والصواب أنه ابن عمه لا شقيقه.

_________

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌من الإدارة

من ينقصه شيء من أعداد سنة المنار الثالثة، أو فهرس المجلد الثاني، فليطلبه

يُرْسَل إليه، وأما فهرس المجلد الثالث فسيوزع مع الجزء الآتي إن شاء الله تعالى،

ونرجو من غيرة المشتركين الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك أن يتفضلوا بإرسالها،

ونخص بالذكر أهل تونس والجزائر ومراكش وجاوة والهند، ولهؤلاء الخيار في

إرسال القيمة حوالة على إدارة البوسطة، أو على أحد البنوك في القاهرة.

_________

ص: 40

الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى

‌الفضائل والرذائل [

1]

] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[2]

قالوا: للإنسان كمال مفروض عليه أن يسعى إليه. وقالوا: إنه عرضة لنقص

يجب عليه الترفع عنه. وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في

التلوث برذيلة من الرذائل. فما هي الفضائل؟ وما هي الرذائل؟

الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها

كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل؛

فإن من سجية كل منهما البذل في الحق والمنع إذا اقتضاها الحق، فكل يعرف حده

فيقف عنده، فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفَّاء لا

يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة

وفي طبيعته الإيثار بالرغائب، وهكذا إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب

من الصفات الفاضلة تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها

في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في

شخصين مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها،

ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة فيهما، وعلى هذا النحو يكون الأمر في

الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة

الاتحاد بين الآحاد تميل بكل منهما إلى الآخر، وتجذب الآخر إلى من يشاكله حتى

يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته

غاية واحدة.

مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع

الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله لا يتجاوزه بما يمس حقًّا للآخر، فبه

يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه

العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع وهو في

هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازًا عن

بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع حتى

يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد، والأفراد فيها كأعضاء تختلف

في الوظائف والأشكال؛ وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير

حظها من الوجود ليعود إليه نصيب من عملها الكلي، كما أودع الله في أعضاء

أبداننا وبنيتنا الشخصية، والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في

كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته كاليد بها البطش

والتناول وليس بها الإبصار، والعين بها الإبصار وتمييز الأشكال والألوان وليس

من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة وإن شئت قلت: الفضائل في عالم

الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام

الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحُفظت

النسبة بينه وبين الكواكب الأخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز

العليم؛ حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها، كذلك شأن الفضائل في

الاجتماع الإنساني بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود، ويثبت البقاء

النوعي إلى أن يأتي أمر الله.

أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارس والوازع، والجالب والدافع،

وجميع من يدبر أمورها، ويسوسها في شؤونها؛ إنما هم أفراد منها من هاماتها،

أو من لهازمها (من الأعلياء والأوساط بل وسائر الأطراف) ، ويكون كل واحد

منها قائمًا بحق الكل، ولا يختار مقصدًا يعاكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية

تميل به عن غاية الكل، ولا يهمل عملاً يتعلق بالأمة حتى يكون الجميع كالبنيان

المتين لا تزعزعه العواصف، ولا تدركه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة

قوة تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار فهي

الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق.

إن أمةً هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد،

فمثلهم في اختلاف الأعمال كمثل المتدابرين على محيط دائرة، يتفارقان في مبدأ

السير؛ ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مآخذهم لجلب منافعهم

كجاذبي طرف خيطة واحدة (حبل واحد) كل آخذ بطرف مع تعادل القوتين، ففي

جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر

فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك

الأفراد من هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم تكون كأنصاف دائرة مركزها

حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وأنهم في

جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه.

يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية، وتمتاز بالميل إليه عن

سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن نواله

إذا توافر للأمة حظها من هذه المزايا، فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة

أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن

فرد من أفرادها، فضلاً عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من

آلات عمله، وقطع سببًا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدًا من الآحاد، ولا

يزدري بعمله ويحسب الشخص من الأمة، وإن كان صغيرًا بمنزلة مسمار صغير

في آلة كبيرة لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه.

عليك أن تنظر في حقائق هذه الصفات الفاضلة لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر

الذي بيَّناه - التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام والعفة والسخاء

والقناعة والدماثة (لين الجانب) والوقار والتواضع وعظم الهمة والصبر والحلم

والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس) ، والنجدة والسماحة والصدق

والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد والعفو والرفق والمروءة والحمية

وحب العدالة والشفقة - أترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم، أو

غلبت في أفرادها يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام العام؟ هل يوجد مثار للخلاف

والتنافر بين عاقلين حُرين صادقين وفيَّين كريمين شجاعين رفيقين صابرين حليمين

متواضعين وَقُورين عفيفين رحيمين؟

أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتًا

لأحيتها، أو قفرًا لأنبتتها، أو جدبًا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله

عليها، ولا قامت لها من الوحدة سياجًا لا يُخرق وحرزًا منيعًا لا يُهتك، وإن أولى

الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: (إنما بعثت لأتمم مكارم

الأخلاق) ، الفضيلة حياة الأمم تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة وتحفظها

من الانحلال المؤدي إلى الزوال {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا

مُصْلِحُونَ} (هود: 117) .

أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس من طبيعتها التحليل والتفريق

بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) ، والبذاء (التطاول على الأعراض

بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام) ، والسفه والبله والطيش والتهور والجبن

والدناءة والجزع والحقد والحسد والكبرياء والعجب واللجاج والسخرية والغدر

والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان، ألقت

بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في

الوفاق؛ فإن طبيعة كل منهما، إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما

السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب لمن يشاركه في الجنسية أو الملية

أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل، والإنسان مجبول بالطبع على

النفرة ممن يتعدى على حقوقه، أو يمنعه حقًّا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين

سفيهين جبانين بخيلين (كل منهما يمنع الآخر حقه) شرهين حاقدين حاسدين

متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه) لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين،

هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته

قاضيًا بانتباذ كل من صاحبه، وإن لم تكن داعية؟ وكفى بخلقه وصفته باعثًا قويًّا

للتنابذ.

هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها، ونثرت أعضاءها، وبددتها

شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي أن تسطو على هذه الأمة

قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر؛ فإن حاجاتهم

في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، ولا بد من قوة خارجة

تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة، هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم

صار بأسهم بينهم شديدًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض

أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم ويفتخرون بالانتماء إليهم،

يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم،

ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحًا، وكل جليل منهم حقيرًا، إذا نطق أجنبي

بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم، ونفائس الحكم، وإذا غاص

أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق، وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه

من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف

ومن المحال أن يوجد بيننا خبير. ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب،

ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها، يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت

على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من

أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم وجمع كلمتهم،

ويقعدون له بكل سبيل يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار،

تراهم بتضارب أخلاقهم، وتعاكس أطوارهم، كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم

لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم،

فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه

الأخلاق يجعلهم منبعًا للشر، ومبعثًا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكَلِب أول

ما يبدأ بِعَضّ صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق أول ما يفتك بمربيه

ومهذبه، ثم يثني بطبيبه ومعالج دائه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من

نحو الجزام، والآكلة يمزقون الأمة قطعًا وجذاذات، بعدما يشوهون وجهها،

ويشوشون هيئتها، أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسايس؛ لتغلب النذالة

على سائر أوصافهم، فيتَنفَّجُون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلاً عن

عليتهم، وبهذا يمكِّنون الذلة في نفوسهم لمن دونهم، ويطبعونها على الخضوع

للغرباء، بل الأعداء الألداء من طبقة إلى طبقة، حتى تضمحل الأمة وتُنسخ هيئتها

وتفنى في أمة أو ملة أخرى سنة الله في تبدل الدول وفناء الأمم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ

إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) أعاذنا الله من هذه

العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من الصير إلى هذه النهاية.

بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتُمحَّص النفوس من الرذائل

حتى تستعد الجمعيات البشرية إلى الاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد، كل

مولود يولد على الفطرة، مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل

ينال كمال الفضيلة من آبائه وأسلافه؟ أنى يكون لهم حظ منها، وقد كانوا ناشئين

على مثل ما نشأ عليه وليدهم، يرشدنا رائد الحق إلى أن الاعتدال في أصول

الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل

بآثارها إنما يكون بالدين، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به، فيصيبوا حظًّا

وافرًا مما يرشدنا إليه، فيتمتعوا بحياة طيبة وعيشة مرضية، إلا إذا قام رؤساء

الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول

ودعوة الناس إلى العمل بها، وتنبيه الغافلين عن رعايتها، وتذكير الساهين عن

هديها، أما إذا أهمل خَدَمَة الدين وظائفهم، أو تهاونوا في تأدية أعمالها ضعف

اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية، وأظلمت البصائر

بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعاشية، ومال ميزان

الاختيار مع الهوى، فحشرت إلى الأنفس أوفاد الرذائل، فيحق على الناس كلمة

العذاب، ويحل بهم من الشقاء ما أشرنا إليه سابقًا.

هذه علل الخراب في كل أمة، ولقد ظهر أثرها في أمم لا تحصى عددًا من

بداية كون الإنسان إلى الآن، ولم يزل آثار بعضها يشهد على ما فتكت به الرذائل

بعدما بدَّلوا وغيّروا كما في طائفة (الدهيرومنك) من سكنة الأقطار الهندية

المعروفين عند الأوربيين بطائفة (ياريا) {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ

كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} (الروم: 42) فالدين هو السائق إلى السعادة في الدنيا

كما يسوق إليها في الآخرة.

تقلب قلب الدهر على بعض طوائف من المسلمين في أقطار مختلفة من

الأرض، وسلبهم تيجان عزهم، وألقاها على هامات قوم آخرين، واليوم ينازع

طوائف أخرى، ولا نخاله يتغلب عليهم، فكشف هذا عن نوع من الضعف، ولا

يكون ناشئًا إلا عن شيء من الإهمال في اتباع أوامر الشرع الإسلامي ونواهيه

بحكم قول الله في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد يكون ذلك وربما لا ينكر الآن أن كثيرًا من عامة المسلمين وإن

صحت عقائدهم من حيث ما تعلق به الاعتقاد، إلا أنهم لا ينهجون في بعض

أعمالهم منهاج الشريعة الغراء، وهذا مما يُحْدِث ضعفًا في الأمة بقدر الميل عن

جادة الاعتدال في الفضائل والأعمال {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) .

إلا أن المسلمين لم يزالوا على أصول الفضائل الموروثة عن أسلافهم، ولهم

حسن الإذعان لما جاء به شرعهم، وكتاب الله متلوّ على ألسنتهم وسنة نبيهم

يتناقلونها رواية ودراية وسير الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مرسومة على

صفحات نفوس الخاصة منهم، فليس ما طرأ على بعضهم من الغفلة عن متابعة

الشرع وما تسبب عنه من الضعف في القوة إلا عرضًا لا يبقى، وحالاً لا يدوم.

انظر نظرة إنصاف إلى ما أودعته آيات القرآن من غرر الفضائل وكرائم

الشيم، وإلى حرص المسلمين على احترام كتابهم وتبجيله، تجد من نفسك حكمًا باتًّا

بأن علماء الديانة الإسلامية لو نشطوا لأداء وظائفهم المفروضة عليهم بحكم وراثتهم

لصاحب الشرع والمحتومة على ذمتهم بأمر الله الموجه إلى الذين يعقلونه وهم هم

في قوله الحق: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وبالحض الإلهي المفهوم من

قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} (التوبة: 122)(المؤمنين) {طَائِفَةٌ

لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) ولو قاموا يعظون العامة بما ينطق به القرآن ويُذَكِّرونهم بما

كان عليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الناهجون على سنته من

الأخلاق المحمودة والأعمال المبرورة؛ لرأيت الأمة الإسلامية ناشطة من عقالها

متضافرة على إعادة مجدها وصيانة ولايتها العامة من الضعف، وبيضة دينها من

الصدع كل ذلك في أقرب وقت، ولن تكون إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.

ولا ريب أن الراسخين في العلم من أهل الدين الإسلامي يعلمون أن ما أصيب

به المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة إنما هو مما امتحنهم الله به جزاء على بعض

ما فرطوا، وليس للناس على الله حجة، فالرجاء في هممهم وغيرتهم الدينية

وحميتهم الملية أن يوجهوا العناية إلى رتق الفتق قبل اتساعه، ومداواة العلة قبل

استحكامها، فَيُذَكِّروا أبناء الملة بأحكام الله، ويحكموا بينهم روابط الأخوة والألفة

كما أمر الله في كتابه وعلى لسان نبيه، ويبذلوا الجهد لمحو اليأس والقنوط الذي

ملك أفئدة البعض منهم، ويقنعوهم بأنه لا ييأس من لطف إلا الذين في قلوبهم

مرض، وفي عقائدهم زيغ، ويسيروا بهم في سبيل يجمع كلمتهم ويوحد وجهتهم

ويقوي فيهم إباءة الضيم والنفرة من الذل، ويحرك فيهم روح الأنفة حتى لا تسمح

نفس أحدهم أن يأتي الدنية في دينه، ويكشفوا لهم حقيقة وعد الله ووعده الحق في

قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .

_________

(1)

مقالة من العروة الوثقى والعنوان لنا.

(2)

(الذاريات: 55) .

ص: 41

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورات بين المصلح والمقلد

أصل الجفر ومعناه، إضافته إلى الشيعة، إنكار نسبته لجعفر الصادق،

الرواية والمروي، الباطنية وعصمة آل البيت وعبادتهم، ادّعاء الحاكم الألوهية،

المتكلمون وردهم على المعتزلة دون الباطنية ونحوهم، سبب الجدل بين الفقهاء،

المنار والعلماء والأولياء، إسناد الجفر إلى سيدنا علي ورده، معنى الجفر

وموضوعه، ملحمة ابن عربي، التصوير والصور، صدق الجفر والملاحم وكذبها،

الجفر والأمراء والملوك، الزايرجة والرمل والمندل والبروج.

المحاورة الخامسة

الجفر والزايرجة

لما عاد الشيخ المقلد والشاب المصلح إلى المحاورة، والمضي في المباحثة

والمناظرة، بدأ الأول بإعادة الشكر والثناء على الثاني لإهدائه مقدمة ابن خلدون

وإظهار الاغتباط بها وقال:

المقلد: إنني نظرت في فهرس المقدمة قبل المطالعة فرأيت ذكر الجفر

والزايرجة، فكان هذان البحثان أول شيء قرأته في هذا الكتاب؛ ليكون لي منهما

مادة من جنس مادتك أناظرك بها، فأما الجفر فألفيت مؤلفها يميل إلى إنكاره،

ويذكر أن هارون بن سعيد العجلي رأس الزيدية - فرقة من الشيعة - هو الذي يروي

كتاب الجفر عن جعفر الصادق رضي الله عنه، وأنه كان مبينًا لما سيقع لأهل

البيت على العموم، ولبعض الأشخاص على الخصوص بحسب ما أعطاهم الكشف

الذي يقع لمثلهم من الأولياء، قال: وكان مكتوبًا عند جعفر في جلد ثور صغير،

فرواه عنه هارون العجلي وكتبه وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه؛ لأن الجفر

في اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم علمًا على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه

تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق، وبعد

هذا أنكر ابن خلدون صحة الرواية في ذلك مع أنه أثبت الكرامة لجعفر وآله عليهم

الرضوان، ولا إخال إلا أنك تبعت هذا الرجل في إنكار الجفر، وإن كان عدم

صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي في الواقع ونفس الأمر، وأما كلامه

في الزايرجة فلا أخفي عنك أنني لم أفهمه.

المصلح: إنني أود لو تطَّلع على كل ما اطَّلعت أنا عليه مما نتكلم فيه لما في

ذلك من الاقتصاد في زمن المناظرة، ومن سهولة الإقناع والاقتناع، ولا يختلجن

في نفسك أنني أقلد ابن خلدون أو غيره في شيء مما أقول؛ وإنما أطَّلِع على ما

نقله هو وغيره، وأعتقد ما يترجح عندي بعد النظر الطويل، وأما قولك: إن عدم

صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي فلعلك تريد به أن عدم العلم بصحتها لا

يقتضي أن المروي غير واقع لجواز وقوعه مع عدم تصدي الثقات لنقله وروايته؛

ولكن لا يسعك أن تنكر أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا

بالرواية الصحيحة، فإذا لم توجد لا يسمح لنا الدين ولا العقل أن نقول بثبوته، وإذا

أنكرناه بناء على أن الأصل عدمه لا نُعذل ولا نُلام فكيف إذا وجد من التهم ما يقتضي

الإنكار، وهو ما يقصه علينا التاريخ من سيرة فرق الشيعة المنتحلين لهذه البدع، لا

سيما في عهد العبيديين الذين روجوا مذهب الباطنية الذي زلزل دين الإسلام زلزالاً،

وخرج بمسلمي الشيعة من الاعتقاد بعصمة آل البيت وإلحاقهم في ذلك بالأنبياء إلى

عبادتهم والقول بألوهيتهم فإذا كان شاعر المعز يقول في مظلته:

أمديرها من حيث دار لشد ما

زاحمت تحت ركابه جبريلا

ويقول:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

فإن الحاكم لا يزال يُعبد إلى اليوم، وكل ما قرأته عليك في وصف الله تعالى

من رسالة دين الدروز في محاورتنا الماضية؛ فإنهم يريدون به الحاكم العبيدي،

وكذلك النصيرية يعبدونه، وهم أشد الناس عناية بتعرف علم الغيب من الجفر

والنجوم.

المقلد: إني لأعجب لعلمائنا من المتكلمين والفقهاء كيف يسكتون عن هؤلاء

الضالين المضلين، ولا يزال يرد الأولون على المعتزلة، وقد انقرضوا وانقرض

مذهبهم، ويرد الفقهاء بعضهم على بعض وكلهم من أهل السنة والجماعة.

المصلح: إن أكثر ما تراه من الجدل والرد والإنكار من العلماء بعضهم على

بعض ناشئ عن الأهواء؛ فإن المعتزلة هم السبب في وجود علم الكلام، خاضوا

في أمور لم يخض فيها السلف الصالح فانبرى آخرون لمناضلتهم، وبعد ذلك

تداعت دعائم العلم والنظر، ولما يبق للمقلد من المتأخرين إلا حكاية ألفاظ المتقدمين

وإن ذهبت فائدتها بذهاب وقتها، والاكتفاء بالسكوت عن البدع والضلالات التي

حدثت بعد أولئك الأئمة كالأشعري وأصحابه وتكفير من يسأل عنها وتضليله، إلا

أن تنشر وتُلوَّن بلون الدين، ويوجد لها أتباع وأنصار كبدع أهل الطريق، فحينئذ

يناضلون عنها بالتحريف والتأويل، ويعكسون الحكم فيرمون منكرها بالكفر أو

التضليل، كما هو مشاهد في كل جيل وقبيل، وأما الفقهاء فقد بيَّن حجة الإسلام

الغزالي في كتاب العلم من إحياء علوم الدين أن السبب في مجادلاتهم ومناضلاتهم

هو التزلف إلى الأمراء والخلفاء، والتزاحم على منصب القضاء، ولذلك تجد

الوطيس لم يحم إلا بين الحنفية والشافعية؛ لأن المناصب كانت محصورة فيهم،

على أن الحكم عليهم بالسكوت لا يصح على عمومه، فلا بد في كل عصر من فرد

أو أفراد ينصرون الحق ويخذلون الباطل؛ ولكن غلبة الجهل على الأمة تسوّل لها

الباطل وتزينه في نفوسها فتعمى عن الحق ولا تبصره، وقد نُشر في الجزء الثالث

من منار السنة الثالثة نبذة في حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم نقل فيها

عن الفقيه ابن حجر الهيتمي أن الاشتغال بالروحانيات هو الذي أضل الحاكم

العبيدي حتى ادَّعى الألوهية وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة، فأحب أن تقرأ تلك

النبذة.

المقلد: إن المنار جريدة ضارة تهين العلماء، وتنكر الأولياء، فلا أحب أن

أراها، بل أحمد الله أنني لم أطلع عليها قط.

المصلح: سبحان الله، كيف يصح لك وأنت من أهل علم الدين أن تحكم على

ما لم تر، والله يأمرك أن تتبين وتتثبت فيما يجيئك من الأنباء عن الفساق الذين

يغتابون الناس، ويسعون بينهم بالنميمة، لا توجد عندنا جريدة تُعلي من قدر

العلماء كالمنار؛ لأنها تجعل في أيديهم زمام الأمة، وتنيط بهم أمر إصلاحها،

وإرجاعها إلى مجدها الأول بإصلاح التربية والتعليم، ولا يذمه منهم إلا من يشعر

من نفسه بالقصور عن القيام بشيء من هذا الإصلاح، وأما الأولياء فالمنار لا

ينكرهم؛ وإنما ينهى عن إطرائهم والغلو فيهم بأن يُدْعَون مع الله تعالى، ويطلب

منهم ما لا يطلب إلا منه سبحانه، ولولا خشية الخروج عن موضوعنا لقرأت لك

بعض كلامه في ذلك.

المقلد: كنت أسمع أن الجفر مأخوذ عن سيدنا علي كرم الله وجهه، وينسبون

للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس سره جفرًا يسمونه الشجرة النعمانية،

ويقولون: إنه يحتوي على جميع الحوادث العظيمة إلى يوم القيامة.

المصلح: نعم إن من الناس من يزعم ما ذكرت كالجرجاني، وقال ابن طلحة:

الجفر والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي وهو يخطب على المنبر في

الكوفة؛ والآخر أسرَّ به إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتدوينه فكتبه علي

حروفًا متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر فاشتهر بين الناس؛ لأنه وجد فيه ما

جرى للأولين والآخرين. أقول: وكانوا يزعمون أن الجفر إخبار عن المغيبات

صريحة أو رموزًا، ولما أرادوا أن يجعلوه علمًا أدخلوه في علم الحرف والعدد الذي

هو بعد الروحانيات في المرتبة، واختلفوا في وضعه وتكسيره فمنهم من كسره

بالتكسير الصغير، وزعموا أنه جعفر الصادق، ومنهم من يضعه بالتكسير المتوسط

وهو الذي توضع به الأوفاق الحرفية، ومنهم من يضعه بطريق التركيب الحرفي

أو العددي، ومن الناس من خلط بين الجفر والتنجيم وسمى كل ما كتب في الملاحم

والحدثان جفرًا، وإن كان مبنيًّا على القرانات.

ومنهم من يعتقد أن الجفر لا يكون إلا عن كشف، وأن الرموز الحرفية والعددية

وغيرها لم يضعها الشيخ محيي الدين بن عربي في جفره، إلا لأجل الإبهام لكيلا يطلع

الناس على الغيب، فتفسد شؤونهم، وقد اطلعت أنا على الشجرة النعمانية، فإذا هي

رموز لا يُفهم منها شيء، وبالجملة لم يثبت أن لهذا الجفر أصلاً علميًّا يُرجع إليه في

معرفة الغيب، وإلا لارتقى وتسنى تحصيله لكل أحد، ولم يعط الله تعالى علم الغيب

لأحد إلا ما أخبر به بعض الأنبياء عليهم السلام من أحوال الآخرة والملائكة والجن مما

ثبت في الوحي فنصدق بالقطعي منه إيمانًا وتسليمًا، نعم لا ننكر أن في الناس محدَّثين

وملهمين يخبرون بشيء أن سيقع فيقع كما قالوا، لكن هذا نادر ومخصوص

بالجزئيات، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى

مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) .

المقلد: رأيت في مقدمة ابن خلدون أنه وقف على ملحمة منسوبة لابن

العربي الحاتمي الذي هو الشيخ الأكبر فيها أوفاق عددية، ورموز ملغوزة، وأشكال

حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة، وتماثيل من حيوانات غريبة، وقد أنكرها ابن

خلدون، وقال: الغالب إنها غير صحيحة؛ لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة

ولا غيرها، وكان الأولى أن ينكر نسبها للشيخ الأكبر لوجود الصور والتماثيل فيها؛

لأن التصوير حرام يجل عنه ولي من أكابر الأولياء.

المصلح: ربما يعتقد ابن عربي وابن خلدون أن الصور المحرمة هي ما لها

علاقة بالدين كصور الأنبياء والأولياء؛ لأنها ربما تُعَظَّم تعظيمًا دينيًّا، فتكون أوثانًا

تعبد عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فالنهي عن التصوير كالنهي عن بناء القبور

وتشريفها واتخاذ المساجد عليها، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين، فقد لعن النبي

صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بها، وأما الصور التي لا علاقة لها بالدين ولا

هي مظنة التعظيم فلا تدخل في علة النهي، أما قرأت في صحيح البخاري وغيره

حديث القرام (الستار) المصور الذي كان عند عائشة رضي الله عنها، وكيف أمر

النبي صلى الله عليه وسلم بهتكه؛ لأنه كان منصوبًا كالصور التي كانت تُعْبَد في

الكعبة وطمسها، ثم لما زالت صفة التعظيم باتخاذ القرام وسادة كان عليه السلام

يتكئ عليها مع بقاء الصور فيها.

المقلد: هذا تعليل مخالف لكلام الفقهاء، وأُجِلُّ الشيخ الأكبر عن القول به.

المصلح: أما علمت أن الشيخ الأكبر غير مقلد للفقهاء ولا لغيرهم، وأنه

صرح في فاتحة الفتوحات بأنه لا يتقيد بمذهب سني ولا معتزلي ولا غير ذلك،

وصرح بأن ليس كل ما يقوله المعتزلي باطلاً

إلخ، وعلم أن بعض الناس ينسبه

إلى مذهب ابن حزم الظاهري فأنكر ذلك وأنشد:

ويعزوني إلى قول ابن حزم

ولست أقول ما قال ابن حزم

المقلد: لقد صح من أخبار الجفر شيء كثير، وذلك كقول الشيخ الأكبر في

الشجرة النعمانية على ما يقولون: (إذا دخل س في ش ظهر قبر محيي الدين)

وقد كان كذلك؛ فإن السلطان سليمًا هو الذي أظهر قبر الشيخ عندما دخل الشام وبناه

وأجرى عليه الأوقاف.

المصلح: يوجد في هذه الجفور الرمزية وغير الرمزية أخبار تقع، وقد

رأيت في جفر منسوب إلى الإمام علي كرم الله وجهه (ويل للإسكندرية من

الأساطيل البحرية) ، وفي موضع آخر (ويل للقاهرة من العاهرة) ، وذلك أن من

يخبر بأشياء كثيرة من شأنها أن تقع لا بد أن يصدق بعضها، ولو كان الجفر حقًّا

لوقع كل ما أخبر به، وأما الرموز فمجال التضليل فيها واسع وميدانه فسيح؛ لأن

هذه الحروف تصدق على أشياء كثيرة وتنطبق عليها من غير أن تكون موضوعة

لها، ولم يوضع ذلك إلا لخداع الأمراء والملوك لابتزاز أموالهم وابتغاء الزلفى

عندهم، وما أراك إلا قد قرأت قصة الدانيالي في مقدمة ابن خلدون [1] ، وما ذكره

عن ملحمة الباجريقي الصوفي [2] ، وقد ذكرت لك من قبل أن كلمة تصدق تخدع

الجهلاء، فيظنون أن الكلام كله صحيح.

المقلد: نعم قرأت ذلك، وإني أخبرك بخبر من هذا القبيل جرى لصاحبي

الشيخ المصري العالم بالزايرجة والحرف؛ ولكنه من الأسرار التي لا أسمح لك أن

تذكرها عني، ذلك أن الأمير.. . تنازع هو وحرمه في أمر ذي بال لا ينبغي

التصريح به، وإنما يقال في الجملة: إنه ارتكب ما يوجب حدًّا شديدًا، فعاقبته عليه

بجناية ساءته وإن كانت خيرًا له، وأنكرت عليه أن العقوبة من قِبَلَها، فاستحضر

الشيخ ليكشف له الحقيقة بالزايرجة، فلما وقف على القصة بالإجمال والتمويه علم

أن المصلحة والمنفعة في تبرئة الحرم المصون مما يتهمها به الأمير، فزعم بعد

إعماله وحسابه أن الأمر جاء من طبيعته لا من قبلها وانصرف بمال كثير.

المصلح: انظر إلى أمراء المشرق وملوكه الذين تروج عندهم هذه

الخزعبلات كيف يزدادون تعاسة وشقاء عامًا بعد عام، فمستقبلهم دائمًا شر من

ماضيهم، وانظر إلى ملوك أوروبا الذين يستعدون للمستقبل بما تعطيهم العلوم

الصحيحة وسنن الكون كيف يزدادون قوة وعزة وارتقاء.

المقلد: هل الرمل من قبيل الزايرجة والجفر؟ فإني أراك درست هذه الأشياء.

المصلح: الزايرجة ضرب من أعمال الحساب وتكسير الحروف يُقصد به

معرفة الغيب، وعدَّه ابن خلدون من فروع السيمياء، والرمل من قبيل الزايرجة،

قال ابن خلدون: استنبطه قوم من عامة المنجمين وسموه خط الرمل نسبة إلى المادة

التي يضعون فيها عملهم، وفصل القول في محصول صناعتهم الباطلة، ولعلك

قرأته فهو صناعة، والغيب لا يمكن أن يعرف بصناعة، ومن آية بطلان هذا العمل

أنه لا يروج إلا في سوق الجهالة كما قال ابن خلدون في أهله وهو: (ولقد نجد في

المدن صنفًا من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه

فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه، فتغدو عليهم

وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم

في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل،

ويسمونه المنجم، وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب، ونظر في المرايا

والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في

الشريعة من ذم ذلك، وأن البشر محجوبون عن الغيب)

إلخ ما قرأت، وأنت

ترى أنهم زادوا في هذا الزمان أمورًا أخرى كالنظر في ورق اللعب، والنظر في

الكف، ومن ذلك كتاب البروج لأبي معشر وغيره يحسبون اسم الرجل واسم أمه

بالجُمَّل، ويسقطون من المجموع اثني عشر مرة بعد أخرى حتى لا يبقى إلا اثنا

عشر أو دونها، فينظرون في الباب الذي يوافق العدد الباقي، ويتعرفون منه تاريخ

ذلك الرجل في جميع شؤونه، وحسبك في فساد هذا أن المتفقين في اسم الأب والأم

تكون شؤونهم متحدة، وإننا لنشاهد فيهم السعيد والشقي والغني والفقير والمالك

والمملوك فحسبنا يا مولاي بحثًا في هذا الهذيان، ولنتكلم في الجد الذي هو أصل

موضوعنا، فقبل الشيخ منه ذلك، وانصرفا على موعد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

قال ابن خلدون: حكى المؤرخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيام المقتدر (الخليفة) وراق ذكي يعرف بالدانيالي يبل الأوراق، ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة، ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريده منهم من

الدنيا، وأنه وضع في بعض دفاتره م مكررة ثلاث مرات، وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر فقال له: هذا كناية عنك، وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما يرضاه ويناله من الدولة ونصب لذلك علامات يموه بها عليه، فبذل له ما أغناه به، ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً، فجاءه بأوراق مثلها، وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها، وأنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء، وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدنيا في أيامه، وأوقف مفلحًا على هذه الأوراق، وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النوع مما وقع، ومما لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأُعجب به مفلح ووقف عليه المقتدر، واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سببًا لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز اهـ.

(2)

وقال قبل ذلك: ووقفت بالمشرق أيضًا على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي، وكلها ألغاز بالحروف، وذكر منها أبيات منها بعد ذكر رجل يسمى الأعرج الكلبي يأتي من المشرق:

إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من الـ

ـزلزال ما زال حاء غير مقتطن

طاء وظاء وعين كلهم حبسوا هلكًا وينفق أموالاً بلا ثمن

ثم ساق حكاية الدانيالي وقال:

والظاهر أن هذا الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع، ولقد سألت عنها أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفًا بطرائقهم فقال: (كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية، وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف يومئ إلى رجال معينين عنده ويلغز عليهم بحروف بعينها في ضمنها لمن يراه منهم، وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها، فتنوقلت عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة وهو أمر ممتنع؛ إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف

قبله ويوضع له، وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه) ، فرأيت من كلام هذا الرجل الفاضل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 51

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خطبة أساس البلاغة

(خير منطوق به أمام كل كلام، وأفضل مصدَّر به كل كتاب، حمد الله

تعالى ومدحه بما تمدّح به نفسه في كتابه الكريم، وقرآنه المجيد، من صفاته

المجراة على اسمه لا على جهة الإيضاح والتفصلة، ولا على سبيل الإبانة والتفرقة؛

إذ ليس بالمشارك في اسمه المبارك {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ

وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) وإنما هي تماجيد لذاته المكونة

لجميع الذوات، لا استعانة ثم بالأسباب، ولا استظهار بالأدوات، وأولى ما قُفّي به

حمد الله الصلاة على النبي العربي المستل من سلالة عدنان، المفضل باللسان،

الذي استخزنه الله الفصاحة والبيان، وعلى عترته وصحابته مَدَارِهِ العرب وفحولها

وغرر بني معد وحجولها.

هذا - ولما أنزل الله كتابه مختصًّا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي

تقطعت عليها أعناق العتاق السبق، وَوَنَت عنها خُطا الجياد القرَّح، كان الموفق

من العلماء الأعلام أنصار ملة الإسلام، الذابّين عن بيضة الحنيفية البيضاء

المبرهنين على ما كان من العرب العرباء، حين تحدوا به من الأعراض عن

المعارضة بأسلات ألسنتهم، والفزع إلى المقارعة بأسنة أسلهم، من كانت مطامح

نظره، ومطارح فكره، الجهات التي توصل إلى تبين مراسم البلغاء، والعثور

على مناظم الفصحاء، والمخايرة بين متداولات ألفاظهم، ومتعاورات أقوالهم،

والمعايرة بين ما انتقوا منها وانتخلوا، وما انتفوا عنه فلم يتقبلوا، وما استركوا

واستنزلوا، وما استفصحوا واستجزلوا، والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه

الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم

احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حَظِيّ، وفهمه فيه جاحظيّ.

وإلى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير إليه محمود بن عمر الزمخشري عفا

الله عنه في تصنيف كتاب (أساس البلاغة) وهو كتاب لم تزل نعام القلوب إليه

زفافة، ورياح الآمال حوله هفافة، وعيون الأفاضل نحوه روامق، وألسنتهم بتمنيه

نواطق، فلبَّت له العربية وما فصح من لغاتها، وملح من بلاغاتها، وما سمع من

الأعراب في بواديها، ومن خطباء الحلل في نواديها، ومن قراضبة نجد في أكلائها

ومراتعها، ومن سماسرة تهامة في أسواقها ومجامعها، وما تراجزت به السقاة على

أفواه قُلُبها، وتساجعت به الرعاة على شفاه علَبها، وما تقارضته شعراء قيس

وتميم في ساعات المماتنة، وتزاملت به سفراء ثقيف وهذيل في أيام المفاتنة، وما

طولع في بطون الكتب ومتون الدفاتر من روائع ألفاظ مفتَّنة، وجوامع كلم في

أحشائها مجتنة.

ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى

تحت استعمالات المفلقين، أو ما جاز وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها من التراكيب

التي تملح وتحسن، ولا تنقبض عنها الألسن، لجريها رسلات على الأسلات،

ومرورها عذبات على العذبات، ومنها التوقيف، على مناهج التركيب والتأليف،

وتعريف مدارج التركيب والترصيف، بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددًا،

ومتناظمة لا طرائق قِدَدًا، مع الاستكثار من نوابغ الكلم الهادية إلى مراشد حر

المنطق، الدالة على ضالة المنطيق المفلق، ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب

الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة والكناية عن التصريح.

فمن حصل هذه الخصائص، وكان له حظ من الإعراب الذي هو ميزان

أوضاع العربية ومقياسها، ومعيار حكمة الواضع وقسطاسها، وأصاب ذروًا من

علم المعاني، وحظي برَسٍّ من علم البيان، وكانت له قبل ذلك كله قريحة صحيحة

وسليقة سليمة، فحُل نثره، وجزل شعره، ولم يطل عليه أن يناهز المقدمين،

ويخاطر المقرمين، وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولاً، وأسهله متناولاً،

يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير

أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا

بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه، والله سبحانه وتعالى

الموفق لإفادة أفاضل المسلمين، ولما يتصل برضا رب العالمين.

(المنار)

نشرنا هذه الخطبة لتكون هادية لطلاب البلاغة إلى منهاجها ومرشدة مريدي

الفصاحة إلى ينابيعها وأثباجها، ولم نفسر ألفاظها الغريبة، ونشرح مغازيها العجيبة

لنبعث همة التلامذة إلى المراجعة والمكاشفة، ونحملهم على المباحثة والمشارفة،

وننصح لهم أن يحفظوها، ثم يقلدوها ويحتذوها، فهكذا فليكتب الكاتبون، وهكذا

فليسمع الساجعون، وإلا فلا.

_________

ص: 61

الكاتب: جحدر

‌قصيدة جحدر في الأسد

ذكرنا في الجزء الماضي أن جحدرًا لما قتل الأسد أنشد قصيدةً، وهذه هي:

يا جمل إنك لو رأيت بسالتي

في يوم هيج مردف وعجاج [1]

وتقدمي لليث أرسف نحوه

عنى أكابره عن الإخراج [2]

جهم كأن جبينه لما بدا

طبق الرحا متفجر الأثباج [3]

يرنو بناظرتين يحسب فيهما

من ظن خالهما شعاع سراج

شَثن براثنه كأن نيوبه

زرق المعاول أو شباة زِجاج [4]

وكأنما خيطت عليه عباءة

برقاء أو خَلَق من الديباج [5]

قرنان محتضَران قد ربَّتهما

أم المنية غير ذات نتاج [6]

وعلمت أني إن أبيت نزالة

إني من الحجاج لست بناج

فمشيت أرفل في الحديد مكبلاً

بالموت نفسي عند ذاك أناجي

والناس منهم شامت وعصابة

عبراتهم لي بالحلوق شواجي

ففلقت هامته فخرّ كأنه

أطم تقوض مائل الأبراج [7]

ثم انثنيت وفي قميصي شاهد

مما جرى من شاخب الأوداج

أيقنت أني ذو حفاظ ماجد

من نسل أملاك ذوي أتواج [8]

فلئن قذفت إلى المنية عامدًا

إني لخيرك بعد ذاك لراج

علم النساء بأنني لا أنثني

إذ لا يثقن بغيرة الأزواج

_________

(1)

المردف: من أردف القوم إذا دهمهم.

(2)

الرسف والرسفان مشي المقيد.

(3)

الجهم: بالفتح الوجه الغليظ المجتمع في سماجة، ويقال: جهم ككتف وجهيم كأمير، وصاحبه أجهم ويوصف به الأسد، والثبج: مجرى الماء ووسط الشيء ومعظمه وأعلاه، ومن الحيوان ما بين الكاهل إلى الظهر ويختلف الاستعمال، يقال: ركب ثبج البحر أي معظمه، والجمع أثباج وثبوج.

(4)

الشثن: الغليظ، والمعاول جمع معول كمنبر: الفأس العظيمة ينقر بها الصخر، ووصفها بالزرقة كما يصفون النصل إذا كان صافيًا، والشباة: الحد، والزجاج بالكسر جمع زج، وهو بالضم: الحديدة في أسفل الرمح.

(5)

البرقاء: اللامعة، أو التي اجتمع فيها بياض وسواد أو صفرة، والخلق: العتيق.

(6)

يعني بالقرنين نفسه والأسد.

(7)

الأطم: بضمتين الحصن، والأبراج: هنا الأركان.

(8)

جملة أيقنت جواب (لو رأيت) في البيت الأول، والأملاك: الملوك، والأتواج، التيجان، والخطاب في البيت بعده للحجاج.

ص: 64

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المنار الأنور

واقتراح طلاب الأزهر

جاءنا من بعض المشتغلين بعلم الأدب في الجامع الأزهر تحت هذا العنوان ما

يأتي:

حضرة مولانا الأستاذ

إني إذا كتبت إليك فإنما أهدي لبحرك دُرَّه، ولغيثك قطره، وأقدم لك بعض

ما اقتبسته منك، فلو كنتُ خطيب إياد، أو ابن زياد، أو الكاتب الذي تعقد ذؤابة

قلمه بالسماك ونجمه، وتسير معانيه كالفلك الدوار بما فيه، وأتيت بما فات الأوائل،

ولم تستطعه الأواخر، لقلت: إن لساني في بيانك شحذته، وقلمي من بنانك أخذته،

على أنَّا قد آوينا منك إلى ركن شديد، وهيهات أن نستضيء بغير المنار أو نهتدي

بغير الرشيد.

وتالله إني لا أجد عبارة أصوّر بها ما في القلوب من إطلاعكم الحق مطالعه،

وإلزامكم الباطل مضاجعه، وتقدم المنار حتى دخل في السنة الرابعة؛ فإن التصوير

شيء ما ألفناه، والتعبير عن الوجدان مثال ما احتذيناه، ومنا من يخال أنه

كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه.

فإذا كان المنار قد حمل إلى الأقطار نفحة سارت بها الرياح، وطلع على أهلها

طلوع الصباح، فلينهج لأهل الأزهر منهاجًا في الأدب يسلكونه، وليضع لهم مثالاً في

الإصلاح يحتذونه، حتى يكون تصوير الشعور عندنا من الشعائر، ونقتدر على

وصف جليات الظواهر وخفيات الضمائر، فنكون من حملة الأقلام، وتؤدي بدايتنا

إلى الغاية المطلوبة والسلام.

...

...

...

...

محمد سعيد الرافعي

(المنار)

نشكر للكاتب الأديب حسن ظنه بنا، ولولا شغفنا باشتغال الأزهريين بالكتابة

والأدب، واغتباطنا بما نراه من نجابتهم لما خالفنا سنتنا بنشر هذا التقريظ.

أما المنهاج الذي أقترحه فأحيله وإخوانه المشتغلين بالأدب على قراءة خطبة

أساس البلاغة المنشورة في هذا الجزء، واتباع ما ترشد إليه، وأزيدهم الحث على

مطالعة كتاب الأغاني وكتاب نهج البلاغة والجزء الثالث من إحياء علوم الدين، إن

لم يطالعوا الكتاب كله، ثم العمل بكتابة المقالات في الموضوعات المختلفة

وتعريضها للانتقاد فمن لا يَنتقد ولا يُنتقد، ولا يناظر الفضلاء ويساجل الأدباء، لا

يسلم من الخطأ والخطل، ولا يتنبه لتجنب الزيغ والزلل، وإن شئت فقل: لا يكمل

له علم ولا عمل، وإننا نقترح عليهم أن يتناظروا في المواضيع الآتية:

1-

هل غاية طلب العلم تحصيل ملكة الفهم، أم تحصيل ملكة العلم؟

2-

فوائد قراءة الحواشي ومضارها.

3-

هل يُطلب من علماء الدين معرفة علوم الكون ولو إلمامًا أم لا؟

4-

هل يجب على علماء الكلام استبدال الرد على فلاسفة هذا العصر ومبتدعته

بالرد على قدماء الفلاسفة والمبتدعة الذين انقرضوا أم لا؟

5-

هل انتشر الدين الإسلامي بكونه حقًّا يلائم حال البشر أم بالقوة والسيف؟

6-

هل أفادت الجرائد البلاد العربية أم أضرت بها؟

7-

هل نفع الشرقيين دخول الأجانب بلاد الشرق أم أضر بها؟

فهذه سبعة مواضيع متى رأينا أقلامهم تجول فيها نقترح عليهم غيرها،

والمنار مستعد لنشر مناظراتهم بشرط الاختصار في النبذ، وإن تعددت في موضوع

واحد، والنزاهة التامة في التخاطب.

(س) من حضرة القانوني البارع صاحب الإمضاء بحروفه:

لا أرى ختم الكتابة بحرف أو حرفين من اسم صاحبها لا يُفهم أو لا يُفهمان،

ولا أرى لذلك معنًى عامًّا ذا شأن في كل الأحوال، فكثيرًا إن لم يكن في الأغلب

يختتم الكاتب كتابته بحرف أو حرفين من اسمه إن لم يبالغ في التستر والتخفي،

فلا يرمز حتى ولا بما يعرف بالنقطة.

لماذا؟ هذا لا يبغى ولا نريد أن تكون العلة عيبًا في الكتابة لوجه من الوجوه

التي ترمي إليها؛ فإن الكاتب لا يقصد لنفسه هذا العيب حتى يضطر إلى التخفي

عن معرفة الناس، أو لا يرضاه لنفسه فيعمل، وإن عمل فما أنا بالمعترض عليه هنا

لرمزه أو لعدم الرمز مطلقًا، وإنما لكتابته مع ذلك، وإنما الذي أعنيه بإنكاره إخفاء

نفسه مطلقًا صاحب الكتابة التي لا عيب فيها مطلقًا، بل التي هي مفيدة، وأوجه

الإفادة كثيرة، وهذا هو الأغلب في ما أراه من الكتابات ذات إخفاء الاسم كله، أو إلا

ما هو في حكم الكل.

هذا تعجب مني، لذلك طلبت إليَّ نفسي مني مرات إظهاره، وعلى لسان

مناركم الوضَّاح لأهتدي منه إلى الحقيقة، فلعلي مخطئ إلى أن أنفذت الإرادة هذه

المرَّة، وحسبكم اختياري لكم وما أنتم بأولي الحاجة وعليكم السلام في الأول، وفي

الختام، 23 فبراير سنة 1901

...

...

...

...

...

كتبه

...

...

...

...

... مراد فرج

...

...

...

...

... المحامي بمصر

جواب المنار

من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد كأساتذة المدارس وبعض

الموظفين، ومن الناس من لا يحب إظهار اسمه إذا كتب، إما ترفعًا؛ لأن الجرائد لم

تزل غير مقدورة قدرها عندنا، وإما خوفًا من الحكم على كلامه بما يعتقد الناس من

مشربه؛ لأن الأكثرين يعرفون حق القول وباطله بقائله لا بذاته، ويريد هؤلاء أن

يعودوا الناس على خلاف ذلك، ومن هؤلاء من يرمز إلى اسمه بالحروف أو يختار

لقبًا مصنوعًا يُعرف بهذا أو ذاك بين خاصته وتلك فائدة خاصة، وللرمز فوائد

أخرى عامة منها: عدم اشتباه الكاتبين الذين لا يصرحون بأسمائهم لا سيما إذا

تكررت الكتابة في موضوعات مختلفة، ومنها أن يميز الناس بين المقالات فيعرفوا

رأي صاحب هذا الرمز من رأي غيره ويعرفوا مقصده وغرضه، فيقبلون عليه أو

يعرضون عنه، واعتبر ذلك بمقالات (أسباب ونتائج) ، ومقالات (حكم ومواعظ)

التي نشرت في المؤيد من بضع سنين، فقد عُرف صاحبها بسداد الرأي حتى

اعتنى الفاضل محمد علي كامل صاحب دار الترقي وبجمعها وطبعها لتعم فائدتها،

وإن قيل: إن العناوين في مثل هذا كافية للتمييز ومعرفة وحدة المصدر أو تعدده.

فنقول: إن العناوين مباحة لكل أحد، ولا يكاد يتفق كاتبان على رمز واحد لاسمهما،

وإن الكاتب الواحد يكتب في مواضيع مختلفة لا يصح أن يلتزم لها عنوانًا واحدًا،

ومن الفائدة في الرمز سهولة التعريف عند إرادته، فإذا قلت لك: إن ما كان يكتب

في المؤيد منذ سنتين بإمضاء (م ر) هو لي، والمراد بالحرفين محمد رشيد أمكنك

أن تتذكرها إن كنت قرأتها، ولا يمكنني أن أعرفها بعناوينها.

_________

ص: 65

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(الحيوان والإنسان أو خاتمة رسائل إخوان الصفا)

هذه الرسائل مشهورة عند أهل العلم والاطلاع، فمنهم من يتنافس فيها لما

احتوت عليه من الفلسفة والتصوف وغرائب العلوم، ومنهم من يحظر النظر فيها

لذلك، وقلّ من يعرف مؤلفيها وهم على ما نُقل عن أبي حيان التوحيدي: زيد ابن

رفاعة، وأبو سليمان محمد بن مشعر البستي، وأبو حسن علي بن هارون الزنجاني،

وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي وآخرون، ومرادهم بتأليفها إلباس الفلسفة لباس

الدين؛ ليقبلها أو يقبل عليها منكروها من جماهير المسلمين، وأسلوبهم في كتابتها

غريب تلذ قراءته، وتستملح عبارته، وعذرهم في هذا الطريق الوعر، والمركب

الخشن، أنهم فُتنوا بفلسفة اليونان، ورأوا أنه لا بد منها للإنسان، ورأوا المسلمين

يناصبون المشتغلين بها ويناهضونهم، ويضللونهم ويكفرونهم، وحسبوا أن هذا

الملك لا يُعارض، وصاحبه ينهض ولا يُناهض، فخاب الأمل، وحبط العمل،

وكانوا عند تأليف رسائلهم بثوها في الوراقين، لتنتشر بسرعة في العالمين، وربما

كانوا في أنفسهم مخلصين؛ ولكن ما عتَّم أن عتمت، وبطنت عقيب أن ظهرت،

إلى أن أحيت الطباعة رفاتها، والأمور مرهونة بأوقاتها.

طُبعت الرسائل في الهند فراجت حتى لا تكاد توجد نسخها، وطُبع منها في

مصر الجزء الأول، ولم يتسن لطابعه إتمامها، وفي هذه الأيام تصدى النشيط

الفاضل، محمد علي أفندي كامل، لطبع الجزء الأخير الذي هو زبدة الرسائل

وخاتمتها في مطبعة دار الترقي المتقنة بشكل لطيف، على ورق نظيف.

وهذا الجزء يصف تداعي الحيوانات على الإنسان، لدى ملك الجان، وما

جرى بينهم من المحاورات، والمناظرات والمجادلات، ونتيجة ذلك حكم ملك الجان

بأن تكون أنواع الحيوان، في تصرف الإنسان، فنحث أهل العلم والفضل،

وذوي الذكاء والنبل، على الاطلاع على هذا الأسلوب الساحر، مما ترك الأول

للآخر، ولكن رأينا أن لا تُحتذى هذه الرسائل بمزج الفلسفة بالدين، فذلك مضيعة

للأمرين.

***

(تاريخ دولة آل سلجوق)

من إنشاء الشهير عماد الدين محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني، واختصره

الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني رحمهما الله تعالى، والكتاب كله سجع

مما يسمونه السهل الممتنع، والوقوف على تاريخ هذه الدولة الإسلامية العظيمة لا

يستغني عنه من يهمه الوقوف على شؤون المسلمين ومعرفة أحوالهم الاجتماعية،

وقد طُبع على نفقة شركة طبع الكتب العربية في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا

على ورق جيد وثمنه عشرة قروش أميرية.

***

(تتمة البيان في تاريخ الأفغان)

كان السيد جمال الدين الأفغاني الفيلسوف الإسلامي الشهير كتب رسائل سماها

(البيان في الإنكليز والأفغان) كان لها وقع شديد في البلاد الإنكليزية عندما نُشرت

في الجرائد المصرية التي أنشأها تلامذة السيد في مصر بإرشاده، وردَّت عليها

الجرائد الإنكليزية معظمة شأن السيد معجبة به، ولم يكن قد اشتهر اسمه في أوربا

فتصدى هو للرد عليها؛ حتى إن المستر غلادستون اضطر إلى الرد على السيد

بنفسه، ثم سأل السيد تلامذته أن يملي عليهم تاريخ الأفغان فأملى عليهم مقالات

نشرت في جريدة مصر التي كانت يصدرها في الإسكندرية فقيد الأدب والصحافة

أديب بك إسحاق، وسمى مجموعها تتمة البيان في الإنكليز والأفغان، وذكر فيها

محاربة الإنكليز للأفغان والاستيلاء على بلادهم، ثم إخراج الأفغان لهم منها بالقوة

وفيها ذكر أصل الأفغان وتاريخهم وعاداتهم وسائر شؤونهم، وقد عثر على هذا

التاريخ الأديب النشيط علي أفندي يوسف الكريدلي صاحب ومحرر جريدة العلم

العثماني، وطبعه في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا على ورق جيد وصدَّره برسم

أمير الأفغان الحالي الأمير عبد الرحمن وأهداه إياه، وفيه أيضًا رسم السيد جمال

الدين، وثمن النسخة منه خمسة قروش أميرية، ويباع في جميع المكاتب الشهيرة

في القاهرة.

***

(وردة)

أسطورة علمية تاريخية تمثل أخلاق المصريين وعاداتهم في عهد رمسيس

الثاني، وترسم للقارئ نظام حكومتهم وما وصلوا إليه من التقدم في العلوم والمعارف،

أبرزها من الآثار القديمة وأوراق البردي الدكتور جورج إيبرس الألماني، ونقلها إلى

العربية صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الغراء

ونابغي الناشئة المصرية في هذا العصر، وقد كان سبقه إلى تعريبها من حيث لا يعلم

الدكتور العالم الشهير يعقوب أفندي صروف محرر مجلة المقتطف، ولم يطبعها؛

لأنه لم يستأذن بطبعها من مؤلفها؛ ولكن محمد أفندي مسعود استأذن قبل أن يُعَرِّب،

وقد طُبع الجزء الأول منها وهو يزيد على ثلاثمائة صفحة بالحرف الصغير، وتُطلب

من مُعَرِّبها في إدارة المؤيد بمصر، فنحث جميع القراء على مطالعتها.

***

(تنبيه مهم جدًّا)

لدينا مقالة لفضيلة مفتي الديار المصرية في أعظم شبهة على الدين في كتب

المسلمين، وهي مسألة الغرانيق، وتفسير الآية التي استدل بها عليها، وستنشر في

باب التفسير من الجزء الآتي.

_________

ص: 69

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مهاجر أزهري

من أيام جاء إلى محل الإفتاء في الجامع الأزهر رجل إنكليزي اسمه المستر

هستنج، وطلب مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار

المصرية، وعند مقابلته ابتدره بقوله: جئت ثلاث مرات لمقابلة حضرتكم فلم

أجدكم هنا وهذه الرابعة، والغرض أن أعرض لكم أن لي أملاكًا في جهة ممباسة

في أفريقة سكانها مسلمون؛ لكنهم لا يعرفون من دينهم إلا قليلاً، ولما علموا

برحلتي هذه إلى مصر طلبوا مني قبل السفر أن أحضر لهم عالمًا دينيًّا يعلمهم أحكام

دينهم، قال: ويمكنني أن أساعد من يسافر معي لهذه الغاية بأن أنقله على نفقتي من

ساحل زنجبار إلى المحل الذي نقصده، وأتكفل هناك بنفقة أكله وأعطيه بيتًا يسكنه،

وعليه أن ينفق على نفسه من هنا إلى ساحل زنجبار، ولا بد له هناك من الإقامة

زمنًا يتعلم فيه لغة القوم ليتمكن من إرشادهم. فعهد إليه فضيلة المفتي أن يراجعه

بعد أيام في ذلك.

وقد وقع هذا الطلب على الأستاذ وقعًا شديدًا لعلمه بأن العلماء المتخرجين من

الأزهر يأبون الوظائف في بلاد السودان بالرواتب الكثيرة؛ ولأنه إذا لم يوجد في

الأزهر وهو أكبر المدارس الإسلامية وأشهرها من يسهل عليه أن يهاجر إلى الله

تعالى لمجرد الإرشاد ونشر الدين، فذاك أكبر عار على هذه المدرسة، بل على

المسلمين كلهم الذين نشر أسلافهم الدين في كل مكان، ثم هو الآن يضمحل

ويتلاشى ولا يغار عليه أحد من علمائه الذين لا عمل لهم إلا قراءة علومه، فرأى

بعض الحاضرين أثر الحيرة في الأمر باديًا على الأستاذ، فقال له: أنا أعرف رجلاً

من النابغين في الأزهر المتصدرين لامتحان التدريس أرجو أن يقبل الهجرة لهذه

الخدمة الإسلامية، وهو الشيخ محمود عزوز. وكان الأمر كذلك.

وفي أثناء هذه المدة تقدم الشيخ محمود هذا للامتحان فنجح فيه، وأعطي

درجة العالمية من الدرجة الثالثة بالاستحقاق كما علمناه من المصدر الصحيح، وقد

استحضره فضيلة المفتي وذكَّره بسيرة سلف الأمة وكبار الأئمة رضي الله تعالى

عنهم، وكيف كانوا يهاجرون لأجل حديث واحد يتلقونه أو نشر للدين عند قوم

يقبلونه، ودعاه إلى الرحلة لممباسة ابتغاء وجه الله تعالى، وثقة بوعده، فلبى

وأجاب، ثم عرض الأستاذ المفتي خبره على ولي النعم مولانا الخديو المعظم وذكر

لسموه ما رآه من إخلاصه فسُرَّ حفظه الله سرورًا عظيمًا، وجادت مكارمه بمبلغ من

المال إعانة له على سعيه المشكور كما هو دأبه في تعضيد كل عمل ينفع الدين

والأمة، ويقال: إن المبلغ الذي أعطي له مائة جنيه جزى الله تعالى سموه أفضل

الجزاء.

ثم إن فضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر أعطى لحضرة الشيخ محمود

المذكور منشورًا يخاطب به مسلمي البلاد التي يهاجر إليها، يوصيهم فيه بالثقة

بحامل المنشور والاعتماد عليه في فهم الدين وتلقي أحكامه الشريفة النافعة، وقد

سافر بالفعل في ليلة الثلاثاء الماضية، وودعه في محطة مصر كثيرون من إخوانه

الأزهريين وغيرهم، وزوَّده أكابر شيوخه في الأزهر الشريف بالدعوات الصالحة،

وكان نسي أخذ إجازة السفر، فكتب صاحب السعادة محافظ العاصمة رسالة برقية

إلى محافظة السويس بالوصية به، وإعطائه باسبورت السفر، فنسأل الله تعالى أن

يُسَهِّل أمره، وينفع به، ويجعل رحلته فاتحة خير وقدوة صالحة للأزهريين،

فيوفقون للانتشار في الأرض لنشر الدين آمين.

_________

ص: 72

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عريضة استرحام مسلمي بنغالة

نشرت جريدة وطن الهندية صورة عريضة عن لسان مسلمي أيالة بنغالة في

غربي الهند الذين يبلغون زهاء أربعين مليونًا (كذا) إلى مولانا السلطان الأعظم

عبد الحميد خان يطلبون فيها أمرين جليلين، أحدهما: تعيين قنصل للدولة العلية في

مدينة كلكتة عاصمة هذه الأيالة يمثل الدولة العلية في عظمتها، والخلافة الإسلامية

في جدتها، ويرجع إليه المسلمون في الشؤون التي تقوي الرابطة بينهم وبين

مسلمي السلطنة العثمانية، ويفضون إليه بالحقوق والمصالح المتعلقة بخليفتهم،

ومن ذلك أنهم جمعوا مبلغًا عظيمًا لإعانة سكة حديد الحجاز، ويحتاجون إلى من

يرشدهم إلى كيفية إرساله، وذكروا من فوائد هذا الأمر امتداد التجارة العثمانية؛

لاعتقادهم أن ما يتجر به في بلادهم من الطرابيش ونحوها هو من بلاد الدولة ومنه

فائدة لها.

والأمر الثاني: أن يصدر أمره المطاع بإدخال لغة مسلمي الهند (الأوردو) في

دار الفنون التي أسست في دار الخلافة الإسلامية يوم عيد الجلوس الفضي، وجعلها

من اللغات التي تُعَلَّم جبرًا لا اختيارًا، وذكر في العريضة بعض فوائد رابطة اللغة

وهي فوق ما ذكر، ثم التمست جريدة وطن من أصحاب الجرائد الإسلامية الشهيرة

في مصر والشام ودار السعادة أن يضموا أصواتهم إلى صوت صاحبها بهذا الطلب

إن استحسنوه، وذكرت المنار فيما ذكرته منها.

ونحن نستحسن هذا الطلب ونقول:إن منافعه جليلة جدًّا في كلا الأمرين؛ أما

تعيين قنصل للدولة في كلكتة كما عينت في بومباي وكراش بندر ومدراس مما لا

تُقَدَّر منافعه إذا كان أولئك القناصل من الرجال الأكفاء الذين يقدرون سلطة الدولة

العلية الروحية قدرها، ويعرفون كيف يستفيدون منها، وحسبك ما جاء في عريضة

الاسترحام من أهل بنغالة نساء ورجالاً وأطفالاً يعتقدون أن للسلطان عبد الحميد خان

سلطة غيبية وراء الطبيعة والأسباب، فيتوسلون إلى الله عند الحاجة لدفع ضر أو

لجلب خير باسمه الشريف؛ وذلك لأنهم يعتقدون أن ما يقرؤونه في الجرائد التركية

والعربية من مدائحه وفضائله وفواضله ومعارفه وعوارفه وصلاحه وإصلاحه، وكل

ذلك من خوارق العادات الدالة على أنه (ولي من أولياء الله تعالى جعله الله في هذا

الحين رحمة للعالمين) واستخدام هذا الاعتقاد بالحكمة له شأن لا يكتنه الفكر كنهه،

وأما تعلم لغة الأوردو فمن الضروري أن تعلم أيضًا في مصر والشام ومراكش لأفراد

كثيرين يكونون وصلة بين الشعوب الإسلامية في الجملة، أما الاتصال الحقيقي الذي

يرجوه طلاب الوحدة الإسلامية فلن يكون إلا بتعميم اللغة العربية كما بيناه في المجلد

الأول من المنار.

_________

ص: 74

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الأمير عبد الرحمن خان

نقلت الجرائد الهندية فصولاً ضافية من تاريخ حياة الأمير عبد الرحمن خان

الذي ألفه بلغة (البشتو) ؛ أي: لسان الأفغان، وتُرجم إلى الإنجليزية و (الأوردو)

فأحببنا تعريبها ملخصة، وإثباتها على صفحات المنار تفكهة للقراء الكرام، ولما

انطوت عليه من الكلمات الحماسية والإشارات السياسية سيما أن الكلمة إذا صدرت

من محلها وأربابها كان لها من الامتزاج بأجزاء النفوس والوقع على الأسماع ما لا

يكون لغيرها، وقد اعترف بفضل هذا الأمير وسياسته وشدة تيقظه جميع الدول

الغربية (والفضل ما شهدت به الأعداء) ، نشرت تلك الجرائد نقلاً عن الكتاب

المذكور ما تعريبه:

إن أطواري وشؤوني التي جبلت عليها لا تلائم كثيرًا مما عليه بعض ملوك

زماني؛ وذلك لأن أحدهم إنما همه التمتع بالملاذ ولبس التاج، والقناعة من الملك

بالتحية والألقاب، وإناطة مهام السلطنة بالوزراء والولاة، وإغفال أمور الرعية

والاحتجاب عنهم، وأما أنا فلست ممن يغتر بتلك الترهات والخزعبلات، ويلقي

بزمام مملكته إلى غيره، ويقنع من الملك بالاسم واللقب بعد أن كنت أعلم أن الأمة

إنما ولتني أمرها لما تعلمه في من الكفاءة والسهر على مصالحها، والذب عن

حوزتها، فأنا المسؤول عن ذلك لا غيري؛ إذ كل راعٍ مسؤول عن رعيته، فلهذا لا

أَكِل أمرًا من الأمور إلى أحد من أمرائي وأركان دولتي، بل أنا الذي أدير شؤون

المملكة وأحكم نظامها وأشيد دعائمها؛ وإنما عمالي وأمرائي آلة أديرها بيدي كيف

أردت وشئت.

وإن بعض الملوك يرى أن مباشرة الأعمال باليد والمشي على الأقدام مخل

بآداب الملوك، وعندي أن مباشرة أمور الرعية والمشي في مصالحها والتردد إلى

المحال المقدسة كالجوامع والزيارات ومجالس العلم، والذهاب إلى بعض المحاكم

والدوائر ولو سعيًا على الأقدام مما يكتب في صحائف حسنات الملوك، ويحيي به

ذكرهم بعد موتهم، وكيف أستنكف عن ذلك وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة

والسلام لا يستنكفون عنه؟ وهذا سيد البشر قد كان يعين أهله في أمور المنزل، فإذا

كنا مسلمين فلم لا نقتدي به وهو سيد الأولين والآخرين؟

ومن المعلوم أن كل إنسان ميال بالطبع إلى شيء تألفه نفسه في هذه العاجلة،

وأنا ميال إلى التعب والعناء فيما به قوام مملكتي، وأرى أن ذلك التعب هو في

الحقيقة عين الراحة، وقد تدربت عليه حتى صار لي طبعًا، ولهذا تراني مع ما

يعتورني من الأمراض والآلام الشديدة لا أنفك مصروف الأفكار والحواس إلى تدبير

أمور الأمة ورأب صدعها ولم شعثها، ولا أدع قلوب الناس معلقة بغيري، بل أنا

الذي أتصفح عرائضهم سطرًا سطرًا، فأوقع عليها بخط يدي، ولذلك لا يكاد يوجد

أحد من الأفغان إلا وعنده أوراق عليها كتابة قلمي، وقد أحطت علمًا بأحوال

رعيتي فقيرها وأميرها، فلا تخفى علي منهم خافية إلا ما تكن صدورهم وتنطوي

عليه قلوبهم.

وإن لي في كل بيت عينًا أبصر بها جميع أعمالهم وأطوارهم، وبابي مفتوح

وبري ممنوح للصادر والوارد، وإني مستعد لمواجهة كل أحد وقضاء حاجته وسماع

دعواه، ومن كانت له عندي حاجة ومنعه عن الحضور لدي عذر فليكتبها ويرسلها

إلي، وليجعل العنوان على الظرف هكذا يصل إلى الأمير؛ فإنه لا يتجرأ أحد على

فضها حتى أكون أنا الذي أفضها وأقرأها وأرد جوابها بيدي، ومن أراد مواجهتي

فصدَّه بعض الحاشية، فليكتب إلي بذلك، ويكاشف به بعض عيوني؛ أي:

(الشرطة السرية) ؛ فإني أعاقب له خصمه ولا عذر لمن يتأخر من رعيتي عن

مقابلتي لحاجة أو زيارة؛ فإني لا أحتجب عن أحد.

وتصب في معاملي أنواع الأسلحة الجديدة، وقصري مدجج بالأسلحة حتى

محل منامي وقاعة جلوسي، ويوجد تحت وسادتي مسدسان وذو شطوب يماني

وبندقيتان من الطراز الجديد، كل ذلك أعددته لطوارق الحدثان، ونوائب الزمان،

وفرسي الأدهم لا يزال أمام عيني مسرجًا ملجمًا عليه حقيبة مشحونة نضارًا أحمر،

وجنودي الجرارة أبناء الموت وليوث الحرب على أهبة وتعبئة مستعدة لأدنى إشارة

تصدر مني، وإني لأعلم أنه وإن كانت الكثرة تغلب الشجاعة، إلا أن القلة قد تغلب

الكثرة أيضًا إذا كان أمرها واحدًا ورأيها مجتمعًا، وإن الرجل الشجاع الحازم قادر

على التحفظ بما لديه والذب عن حماه، وشر الملوك من يكون طالعه على قومه

ورعيته مشؤومًا، فلا أحب أن أكون ذلك الرجل، وقد كان يخطر في بالي أن أتخلى

عن الملك وأنزوي في بعض الكهوف والمغائر لإعداد الزاد ليوم لا ينفع فيه مال ولا

بنون، وأدع قومي يخوضون غمار الفتن ويصطلون أوزار الحروب ويتساقون

كؤوس المنون؛ ولكني خشيت أن يسألني رافع السماء وباسط الأرض عندما أوقف

بين يديه وحيدًا فريدًا: لماذا أغفلت أمور عبادي ونمت عن إصلاح شؤونهم؟ فهذا

الذي يصدني عن ذلك، ويحملني على رؤية مصالحهم قائمًا وقاعدًا ومتكئًا ومستلقيًا

على فراشي، وربما أخذتني السُنة والأوراق في يدي وعلى صدري وقد شغلت بذلك

عن جميع شؤوني الذاتية، وأصبحت لا أتمكن من الدخول إلى الحرم أكثر من مرتين

في العام بعد أن كنت أزورهن في الأسبوع مرتين، وإن لكل من ولدي نصر الله خان

وحبيب الله خان ثلاثة آلاف روبية في الشهر للنفقات الضرورية، وهذا علاوة على

ما هو مقرر لهما من المآكل والملابس، وما هو مرتب لحرمهما وحشمهما، وتبلغ

رواتب حرمي من خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف روبية في الشهر مع ما يلزمهن من

النفقات.

وإنه يسوءني ما أراه من تقدم الأمم الغربية، وتقاعس المسلمين عامة، وقومي

خاصة، وأود لو يستفيق المسلمون من سباتهم الذي أربى على سبات أصحاب أهل

الكهف، ويسترجعون أيامهم ويحافظون على مآثر أسلافهم ومفاخر آبائهم وأجدادهم

الذين وطَّدوا لهم الملك ودوَّخوا لهم البلدان، وهيهات هيهات ذلك؛ لأن الداء إذا

أعضل عز دواؤه.

بيد أني لا آلو جهدًا في إحكام دعائم مملكتي وإصلاح شؤونها وتربية الأمة

الأفغانية، وإني لأعلم أن بعض الناس يتربصون بي الدوائر ويتمنون لي الحمام

الذي لا بد منه، ويرون حياتي شجًى في حلوقهم، وقذًى في عيونهم، وما أظن أن

أحدًا من الملوك نعته ألسنة الجرائد مرارًا وهو حي يرزق غيري اهـ.

هذا وإن الأمير يحيا كل الليل في مصالح العباد، وسماع التواريخ وسير

الأوائل، وسياسات الملوك ومسامرة أرباب الفضل والكمال، ولا يزال هكذا إلى

الفجر، فيتوضأ ويصلي الصبح جماعة، ويقرأ ورده وما تيسر من كتاب الله المجيد

وهو مستقبل القبلة إلى ارتفاع الشمس، فيضطجع على سريره، وربما نام في

بعض الأحيان على كرسيه الجالس عليه أو على الحصير الذي هو مصلاه، فينام

إلى الساعة السابعة من النهار، ثم يهب من نومه فيدخل عليه الحكماء والأطباء

فيجسون نبضه، ثم يدخل مغتسله فيغتسل ويبدل ثيابه، ويشرب الشاي، ويتناول

ما تيسر من الطعام، ثم يدخل الأطباء فيجسون نبضه، ثم يدخل عليه وزراؤه

وأمراؤه وأرباب الحوائج، فيأمر وينهى ويقضي بما تقتضيه سياسته، وبعد

المغرب يدخل عليه سماره من الأمراء والعلماء وأرباب البيوتات وأهل الكمال في

كل فن على اختلاف طبقاتهم، ولا يخلو مجلسه من أعلى الناس إلى أدناهم حتى

(البنكية) وهم الذين يرفعون القاذورات من الكنف والشوارع، ولا يزال على ما

ذكر إلى الصبح، فيفعل ما فعل بالأمس وهلم جرًّا.

والأمير مسلم متمسك قوي الاعتقاد مثابر على العمل بالكتاب والسنة وأقوال

السلف والخلف؛ حتى إنه ليعتقد بوهميات الأمور؛ من ذلك ما حكاه في كتابه المتقدم

الذكر وترجمته:

(قد كنت في عنفوان الشباب أعتقد أن التمائم والعوذ لا تجدي شيئًا، وأظن

أن ما كتب في خواصها ترهات لا أصل لها، إلى أن هديت إلى تميمة كتبها بعض

الصلحاء بزعم أنها تقي من الرصاص فما صدَّقت بذلك، وظننت أنها حيلة ساسانية

ثم خطر لي أن أجربها، فربطتها في دراجة وأطلقت عليها الرصاص مرارًا

عديدة، وفي كل مرة تخطئه يدي حتى إن الرصاص كاد يحرق ريشها ولم يصبها،

فزال من فكري ما كنت أتوهمه، وربطت تلك التميمة بعضدي. وكان الأمير يقرأ

مرة في القرآن المجيد فبلغ قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا

يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) فكرر الآية مرارًا وأطال فيها

الفكر، ثم قال: عسى أن يرشدني ربي إلى عمل ينفعني في ذلك اليوم ويقيني حر

جهنم.

(المنار)

صريح هذا الكلام أن حكومة الأمير مطلقة مفوضة لإرادته؛ ولكنه يسلك بها

مسلك الإصلاح، فليست عيونه وجواسيسه لمصلحة شخصه؛ ولكنها لمصلحة البلاد

والأفغان قوم أشداء أولو عصبية، ولولا حزم الأمير واحتياطه لما تمكن من الإصلاح

الذي قام به؛ ولكنه إذا لم يؤسس حكومة شوروية يُخشى أن يزول من بعده هذا

الإصلاح وتُضعف أمته العصبيات والتحزبات المعهودة فيها.

وأما مسألة تميمة الرصاص فلعله أذاعها لييأس أعداؤه من اغتياله، وإلا فإن

التجربة برمي طائر الدراجة بالرصاصة وعدم إصابته غير كافية في إثبات منفعتها؛

لجواز أن يخطئ الرامي الجمل فما بالك بالطائر، وظاهر أن الاعتقاد بالتمائم ليس

من الدين كما بيناه في المجلد الثاني والثالث من المنار.

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

تمهيد، مصارعة الحق والباطل، رفع الإسلام مقام الأنبياء وحكمه بعصمتهم،

عيث عشاق الروايات وإفسادهم في الدين، الروايات واختلافها في مسألة الغرانيق،

مخالفة المحققين لها، الرجوع إلى أهل العلم الصحيح في إزالة الحيرة، الطعن في

رواية تفسير التمني بالقراءة، الطعن في حديث الغرانيق رواية، الطعن فيه دراية،

عصمة الأنبياء، الوجوه الدالة على بطلان حديث الغرانيق، تفسير الآيات على

الوجه الموافق لأسلوب القرآن وفيه المقابلة بين الآيات وآيات سورة آل عمران في

المحكمات والمتشابهات، التفسير الثاني، أماني الأنبياء، سنة الله فيهم وفي أقوامهم،

تأويل ثالث، وسواس الشيطان، اللغات في الغرنوق ومعانيه، عدم ملائمة معانيه

لوصف الآلهة، انتفاء نقل ذلك عن العرب، الجزم بأن الحديث من وضع الأعاجم.

***

حديث الغرانيق صار مشهورًا عند المتأخرين لوجوده في كثير من كتب

التفسير التي تتناولها الأيدي، ولو صح لكان أكبر شبهة على الدين؛ ولكن المقلد

البحت الذي لا نظر له لا يبالي بالشبه ويقبل كل نقل، وإن كان الفرع فيه ينفي

الأصل، وطلاب العَنَت يتشبثون بأهداب الشبه، فيجعلونها معاول تهدم الأركان

الثابتة، وتنفي القضايا المبرهنة، ولذلك كثر الطعن في هذه الأيام بدين الإسلام،

من دعاة النصرانية، وبعض المفتونين بالشبه المادية، وأقوى تكأة لهؤلاء الطاعنين

ما قاله بعض المفسرين في مسألة زيد وزينب، وفي مسألة الغرانيق، ومسألة

أخرى، ولما كان كشف الشبهات وتخليص الحق من شوائب الباطل على وجه تثق به

النفوس، وتطمئن إليه القلوب، من وظائف أئمة الدين، وأكابر العلماء الراسخين،

لجأ قوم إلى حكيم الإسلام في هذا العصر، وإمام المسلمين في كل بادية ومصر،

مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، في أن يجلي لهم الحق

في المسألة الأولى، فأجاب بما هو الحكمة وفصل الخطاب، ونشرناه في المنار،

ليشتهر في الأقطار، ثم سأله آخرون في هذه الأيام عن الثانية، فأجاب بما أزال

الالتباس، ومحص ما في صدور الناس.

جعل المسألة أولاً موضوع درس في الأزهر حضره الجماهير، والجم الغفير،

ثم كتبها لتُنشر في المنار، وتتناقل في الأمصار، وهاك ما جاء من فضيلته، بنصه

وعبارته:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي

أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا

يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ

بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ

اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى

تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: 52-55) .

قد يجد الباطل أنصارًا، فيتبوأ من نفوسهم دارًا، ويتخذ له منها قرارًا،

وتذهب على ذلك الأيام بعد الأيام، وتمضي عليه الأعوام إثر الأعوام، وهو يلعب

بأهله، ويغلب أهواءهم بحيله، حتى يقصروا نظرهم عليه، ولا يجدوا ملجأ منه

إلا إليه، فإذا أوتوا من ناحيته رضوا، وإذا عرض لهم الحق أعرضوا، ولا يزالون

كذلك إلا أن تنحل به عراهم وتفسد بعلله قواهم، والحق لا يزال يعرض نفسه،

يستخدم مرة لينه وأخرى بأسه، وهو الشاب الذي لا يهرم، والعامل الصبور الذي

لا يسأم؛ وإنما يُعرِض بوجهه عن الأغبياء، ويُولِّي ظهره الأشقياء، ثم لا ينفك

يرحمهم، ولا يبرح يتعهدهم، يسفر عليهم محيّاه، ويرسل إليهم أشعة من سناه،

فإذا وافاهم وقد وهنت مُنَنَهُم [1] ، ومَرهت عيونهم [2] ، وحلك ليلهم، واشتد خبلهم،

صاح بهم منه صائح، ورَمحهم من جنده رامح [3] ، فقِلق بالباطل مكانه، وزُلزلت

من حوله أركانه، وفزع يطلب النصير، وثار يلتمس المجير، فلا يجد إلا أسبابًا

تقطعت به، وأعضادًا فُتَّ فيها بسببه [4] ، وقد رنَّقَ قومه [5] ، وعبس يومه،

فيحملق إلى الحق يأخذه ببصره، ويستنزله بنظره، ولكن خاب الظن، وبطل الفن

ثم لا يلبث وهو الباطل أن يتحول عنده اليأس أملاً، ويجد من اليبس بللاً، فيظن

وهو هو أن الحق ناصره، وأن ستقوى به أواصره، فسيتنصر بجنده، ويطلب

النجدة من عنده، وأقرب ما يكون خصم إلى الهلكة إذا اطمأن إلى عدوه، وأمل

الخير في دنوه، هذا شأن الباطل وأهله، مع تقلبه في ملله ونحله.

يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهي (القرآن) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء

والمرسلين، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر في

الفضائل وصالح الأعمال، وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم، وما نسبه إليهم

المعتقدون بأديانهم، ولا يخفى على أحد من أهل النظر في هذا الدين القويم أنه قد

قرر عصمة الرسل كافة من الزلل والتبليغ والزيغ عن الوجهة التي وجه الله

وجوههم نحوها من قول أو عمل، وخصَّ خاتمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فوق

ذلك بمزايا فُصِّلت في ثنايا الكتاب العزيز.

عصمة الرسل في التبليغ عن الله أصل من أصول الإسلام، شهد به الكتاب

وأيدته السنة وأجمعت عليه الأمة، وما خالف فيه بعض الفرق فإنما هو في غير

الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه، ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان

حق لا يرتاب منه مليٌّ يفهم ما معنى الدين.

مع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانًا يعملون على هدمه وتوهين ركنه، أولئك

عشاق الروايات وعبدة النقل، نظروا نظرة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ

مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (الحج: 52) الآية، وفيما روي عن ابن عباس رضي الله

عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ، والأمنية القراءة؛ فعمي عليهم وجه التأويل الحق

على فرض صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في

زعمهم، فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختل طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق

في أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ، وأعرضوا

عنه وجفاه قومه وعشيرته؛ لعيبه أصنامهم، وزرايته على آلهتهم، أخذه الضجر من

إعراضهم ولحرصه على إسلامهم وتهالكه عليه تمنى أن لا ينزل عليه ما ينفرهم،

لعله يتخذ ذلك طريقًا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ما

تمناه حتى نزلت عليه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1) وهو في نادي

قومه.

وروي أنه كان في الصلاة وذلك التمني آخذ بنفسه، فطفق يقرأها فلما بلغ

قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: 20){أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) التي تمناها بأن وسوس له بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل

السهو والغلط فمدح تلك الأصنام، وذكر أن شفاعتهن ترتجى، فمنهم من قال: إنه

عندما بلغ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: 20) سها فقال: تلك الغرانيق العُلى

وإن شفاعتهن لترتجى، ومنهم من روى (الغرانقة العلى) ، ومنهم من روى (أن

شفاعتهن ترتجى) بدون ذكر الغرانقة والغرانيق، ومنهم من قال: إنه قال: (وإنها

لمع الغرانيق العلى) ومنهم من روى (وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن

لهي التي ترتجى) ففرح المشركون بذلك، وعندما سجد في آخر السورة سجدوا معه

جميعًا.

قال ابن حجر العسقلاني: وتعدد الطرق وصحة ثلاثة منها وإن كانت مرسلة

يدل على أن للواقعة أصلاً صحيحًا، وهذه الأسانيد الصحيحة - في رأيه - وإن

كانت مراسيل يحتج بها من يرى الاحتجاج بالحديث المرسل، بل ومن لا يراه

كذلك؛ لأنها متعددة يعضد بعضها بعضًا اهـ، ولولا خوف التطويل لأتيت بجميع

تلك الروايات ما صح عنده منها وما لم يصح، ولكن لا أرى حاجة إليه في مقالي

هذا.

روى ذلك ابن جرير الطبري وشايعه عليه كثير من المفسرين، وفي طباع

النفس أُلْف الغريب، والتهافت على العجيب، فولعوا بهذه التفاسير واتخذوها عقدة

إيمانهم حتى ظنوا - وبعض الظن إثم - أن لا معدل عنها، ولا سبيل في فهم الآية

سواها، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها، وذهب إليه الأئمة في بيانها،

حتى ثارت ثائرة الشبه هذه الأيام في نفوس كثير منهم، وهم يزعمون أنهم مسلمون،

وأحسوا أن ذلك الضرب من التفسير لا يتفق مع أصل العصمة في التبليغ، وأن

فيه من الحجة للعدو ما لا سبيل إلى دفعه فلجؤوا إلى أهل العلم الصحيح يلتمسون

منهم بيان المخرج مما سقطوا فيه، وتوهموا أنهم يقررون لهم ما ألفوا، ثم ينقذونهم

من الحيرة مع ثباتهم على ما حرَّفوا، ولكن ضل رأيهم، وخاب ظنهم، وسيقامون

على المنهج، ويرون الحق ناصعًا أبلج.

في صحيح البخاري: وقال ابن عباس في {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي

أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي

الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال: أمنيته قراءته (إلا أماني) يقرؤون ولا يكتبون.

اهـ. فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال) بعدما فسرها بالحديث رواية

عن ابن عباس، وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين، فما يدَّعيه الشراح أن

الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة، ثم حكايته تفسير

الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال) : يفيد أنه غير معتبر عنده.

وقال صاحب الإبريز: إن تفسير تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة

مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواها علي

ابن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس

وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث، وأن المحققين على تضعيفه

اهـ، هذا ما في الرواية عن ابن عباس، وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن

المحققين يضعفون راويها.

وأما قصة الغرانيق فمع ما فيها من الاختلاف الذي سبق ذكره جاء في تتميمها

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفطن لما ورد على لسانه، وأن جبريل جاءه بعد

ذلك فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين، قال له: ما جئتك بهاتين، فحزن لذلك

فأنزل الله عليه {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) الآيات تسلية له كما أنزل لذلك قوله:

{وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاّتَّخَذُوكَ

خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ

وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 73-75) وفي بعض

الروايات: أن حديث الغرانيق فشا في الناس حتى بلغ أرض الحبشة فساء ذلك

المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52)

الآية، قال القسطلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير

واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحاق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة اهـ

وكفى في إنكار حديث أن يقول فيه ابن إسحاق: إنه من وضع الزنادقة مع حال ابن

إسحاق المعروفة عند المحدثين.

وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا

رواه أحد بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون

بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ثم نقل عن أبي بكر ابن

العلاء ما يدل على سقم الرواية واضطراب الرواة فيها، وما يقضي عليها بالوهن

والسقوط عن درجة الاعتبار، وقال الإمام أبو بكر بن العربي - وكفى به حجة في

الرواية والتفسير -: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له.

قال القاضي عياض: والذي ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم

قرأ {وَالنَّجْمِ} (النجم: 1) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن

والإنس اهـ، وقد يكون ذلك لبلاغة السورة وشدة قرعها وعظم وقعها، ثم قال

القاضي: قد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم

ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة

غير الله وهو كفر، أو أن يتسود عليه الشيطان ويشبّه عليه القرآن حتى يجعل فيه

ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى

يُفهمه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم، أو يقول

ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل نفسه عمدًا، وذلك كفر أو سهو، وهو

معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم

من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدًا ولا سهوًا، أو أن يشبه عليه ما يلقيه

المَلَك مما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا

عمدًا ولا سهوًا ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ

الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} (الحاقة: 44-46) ،

وقال: {إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 75) .

(ووجه ثانٍ) : وهو استحالة هذه القصة نظرًا وعرفًا؛ وذلك أن هذا الكلام لو

كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل

التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين،

وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف

بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟

(ووجه ثالث) : أنه علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضَعَفَة

القلوب والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى

الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة [6] ،

وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه

القصة شيئًا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها

على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في

قصة الإسراء، قال: ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي

حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت [7] ، وما ورد عن معاند فيها كلمة، ولا عن

مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلها واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض

شياطين الإنس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على

ضعفاء المسلمين.

(ووجه رابع) : ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ

عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الإسراء: 73) الآيتان، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي

رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، ولولا أن ثبته لكاد يركن

إليهم شيئًا قليلاً، فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم

يركن إليه قليلاً فكيف كثيرًا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون

والافتراء بمدح آلهتهم وأنه صلى الله عليه وسلم قال: افتريت على الله وقلت ما

لم يقل، وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى

في الآية الأخرى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ

وَمَا يُضِلُّونَ إِلَاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} (النساء: 113) قال

القشيري: ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه

الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الأنباري:ما قارب رسول الله

ولا ركن. انتهى المطلوب من كلام القاضي رحمه الله، وقد أورد بعد ذلك كثيرًا من

القول في توهين الرواية وتكذيبها.

أما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رُويت مرسلة من ثلاث طرق على شرط

الصحيح، وأنه يحتج بها

إلخ ما سبق فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز: إن

العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين، فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها لا

يقبل على أي وجه جاء، وقد عدَّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من

الأخبار التي يجب القطع بكذبها، هذا لو فرض اتصال الحديث فما ظنك بالمراسيل؟

وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به فيما هو من قبيل الأعمال

وفروع الأحكام، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالرسل وما جاؤوا به فهي

هفوة من ابن حجر يغفر الله له.

هذا ما قاله الأئمة جزاهم الله خيرًا في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل

لها، ولا عبرة برأي من خالفهم، فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير وإن بلغ

أربابها من الشهرة ما بلغوه، وشهرة المبطل في بطله لا تنفخ القوة في قوله، ولا

تحمل على الأخذ برأيه.

تفسير الآيات

والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتمله ألفاظها وتدل عليه

عباراتها والله أعلم:

لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئًا من القرآن أن قوله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (الحج: 52) الآيات، يحكي قدرًا

قُدِّرَ للمرسلين كافة لا يعدونه، ولا يقفون دونه، ويصف شنشنة عُرفت فيهم وفي

أممهم، فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى أن جميع الأنبياء والمرسلين

قد سلط الشيطان عليهم، فخلط في الوحي المُنَزَّل إليهم؛ ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ

الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته

إلخ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في

اختصاص الله تعالى لأنبيائه، واختيارهم من خاصة أوليائه، فلندع هذا الهذيان

ولنعد إلى ما نحن بصدده.

ذكر الله لنبيه حالاً من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ليبين له سنته فيهم،

وذلك بعد أن قال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ

إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ

كَانَ نَكِيرِ} (الحج: 42-44) إلى آخر الآيات، ثم قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ

إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن

رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (الحج: 49-52)

إلخ، فالقصص السابق كان في تكذيب

الأمم لأنبيائهم، ثم تبعه الأمر الإلهي بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه:

إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعيم، وأما

الذين سعوا في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة ليحولوا عنها

الأنظار، ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله، ويعاجزوا

بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ أي: يسابقونهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن

القول، وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها كما يقع عادة من أهل الجدل

والمماحكة، هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم، وأعقب ذلك بما يفيد

أن ما ابتُلي به النبي صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات قد ابتُلي به

الأنبياء السابقون، فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل

والتحريف ويضادون أمانيه ويحولون بينه وبين ما يبتغي بما يلقون في سبيله من

العثرات، فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا يجب أن تفسر الآية

وذلك يكون على وجهين:

(الأول) : أن يكون تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة وهو معنى قد

يصح، وقد ورد استعمال اللفظ فيه، قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله

عنهما:

تمنى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حِمَام المقادر

وقال آخر:

تمنى كتاب الله أول ليله

تمنى داود الزبور على رسل

غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل المعنى المفهوم من

قولك: (ألقيت في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه، ولا يكون قد

أراده أو نسبت إليه ما لم يقله تعللاً بأن ذلك الحديث يؤدي إليه، ونسبة الإلقاء إلى

الشيطان؛ لأنه مثير الشبهات بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر

من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه ويكون المعنى: وما أرسلنا قبلك من رسول

ولا نبي إلا إذا حدَّث قومه عن ربه، أو تلا وحيًا أُنزل إليه فيه هدًى لهم قام في

وجهه مشاغبون يحوِّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه، ويقولون عليه ما لم يقله،

وينشرون ذلك بين الناس؛ ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق

ويبطل الباطل، ولا يزال الأنبياء يصبرون على ما كُذِّبوا وأوذوا، ويجاهدون في

الحق، ولا يعتدَّون بتعجيز المعجزين، ولا بهزء المستهزئين، إلى أن يظهر الحق

بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة، فينسخ الله تلك الشبهة، ويجتثها من

أصولها، ويثبت آياته ويقررها، وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث

من الطيب، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض - وهم ضعفاء العقول - بتلك الشبه

والوساوس، فينطلقون وراءها، ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة

فيتخذونها سندًا يعتمدون عليها في جدلهم، ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم،

ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلموا أنه الحق من ربك، فيصدِّقوا به

فتخبت وتطمئن له قلوبهم.

والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقر

بالعقل في قرارة اليقين، وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم،

وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين، وسواء

أرجعت الضمير في (أنه الحق) ، إلى ما جاءت به الآيات المحكمة من الهدى الإلهي

أو إلى القرآن وهو أجلها، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين.

هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا، وهم الذين هداهم الله إلى الصراط

المستقيم، ولم يجعل للوهم عليهم سلطانًا، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم، وأما

الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب، أو أهل العناد وزعماء الباطل

وقساة الطباع الذين لا تلين أفئدتهم، ولا تبش للحق قلوبهم، فأولئك لا يزالون في

ريب من الحق أو الكتاب لا تستقر عقولهم عليه، ولا يرجعون في متصرفات

شؤونهم إليه، حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقون حسابهم عند ربهم، أو إن

امتد بهم الزمن، ومادَّهم الأجل، فسيصيبهم {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: 55)

يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر، ويقذفون إلى مطارح الذل

وقرارات الشر، فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان

لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته.

ما أقرب هذه الآيات في مغازيها إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: {هُوَ

الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ

اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) وقد قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ

وَلَا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} (آل عمران: 10) ثم قال:

{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ} (آل عمران: 12)

إلخ الآيات، وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى، فالذين في قلوبهم

زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، والراسخون في العلم هم الذين

أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم فيقولون: آمنا به كل من

عند ربنا. فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم، وأولئك هم الذين

يفتنون بالتأويل، ويشتغلون بقالٍ وقيل، بما يلقي إليهم الشيطان، ويصرفهم عن

مرامي البيان، ويميل بهم عن محجة الفرقان، وما يتكئون عليه من الأموال

والأولاد لن يغني عنهم من الله شيئًا، فستوافيهم آجالهم، وتستقبلهم أعمالهم، فإن لم

يوافهم الأجل على فراشهم، فسيغلبون في هراشهم [8] .

وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم رفع الله

الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يستبقيه وما يذهب ببقائه،

وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران لا مدخل لها في آيات سورة الحج.

هذا هو الوجه الأول في تفسير آيات {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) إلى آخرها على

تقدير أن تمنَّى بمعنى قرأ، وأن الأمنية بمعنى القراءة والله أعلم.

(الوجه الثاني في تفسير الآيات)

إن التمني على معناه المعروف، وكذلك الأمنية وهي أفعولة بمعنى المنية

وجمعها أماني كما هو مشهور، قال أبو العباس أحمد بن يحيى: التمني حديث

النفس بما يكون وبما لا يكون، قال: والتمني سؤال الرب، وفي الحديث (إذا تمنى

أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه) وفي رواية فليكثر، قال ابن الأثير: التمني تشهي

حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. وقال أبو بكر:

تمنيت الشيء؛ أي: قدرته وأحببت أن يصير إلي. وكل ما قيل في معنى التمني

على هذا الوجه فهو يرجع إلى ما ذكرنا ويتبعه معنى الأمنية.

ما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قومًا إلى هدًى جديد، أو شرع سابق

شرعه لهم، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولاً، أو جاء به

غيره إن كان نبيًّا ليحمل الناس على اتِّباع من سبقه إلا وله أمنية في قومه، وهي

أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه، ويستشفوا ممن دائهم بدوائه، ويعصوا

أهواءهم بإجابة ندائه، وما من رسول إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته،

وتصديقهم برسالته - منه على طعامه الذي يطعم، وشرابه الذي يشرب، وسكنه الذي

يسكن إليه، ويغدو عنه ويروح عليه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك

في المقام الأعلى، والمكان الأسمى، قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى

آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف: 6) وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ

وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) وقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى

يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) وفي الآيات ما يطول سرده مما يدل على أمانيه

صلى الله عليه وسلم بهداية قومه وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه إلى نور ما جاء

به.

وما من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ألقى الشيطان في

سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات، ووسوس في صدور الناس،

وسلبهم الانتفاع بما وُهبوا من قوة العقل والإحساس، فثاروا في وجهه، وصدوه

عن قصده، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد

يقهرونه، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع

ضعيف الأنصار - ظنوا الحق من جانبهم، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما

عمد إليه فتنة لهم.

غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم، أو من المستضعفين

فيهم؛ ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان، وليكون الاختيار

المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله، ولكيلا يشارك الحق الباطل في

وسائله، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله، أنصار الباطل في كل زمان هم

أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور

بالزخارف، والزهو بكثرة المعارف، وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في

الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم، وتصرف نظرهم عن سبيل

رشدهم، فإذا دعا إلى الحق داعٍ عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفتن،

وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله بخلوصها من هذه الشواغل،

وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة، فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه

على دعوته قام أولئك المغرورون يقولون: {مَا نَرَاكَ إِلَاّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ

اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ

كَاذِبِينَ} (هود: 27) .

فإذا استدرجهم الله على سنته وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالاً، افتتن

الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم؛

ولكن الله غالب على أمره، فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات، ويرفع هذه

الموانع وتلك العقبات، ويهب السلطان لآياته فيحكمها، ويثبت دعائمها، وينشئ من

ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلتهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة

الشيطان هي السفلى، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي

الأَرْضِ} (الرعد: 17) .

وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين تسلية لنبينا

صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه، وعدٌ له بأن سيكمل له دينه، ويتم

عليه وعلى المؤمنين نعمته، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن

يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ

صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3) ، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ

وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ

الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:

214) هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية ويدل عليه ما سبق من الآيات ويرشد

إليه سياق القصص السابق في قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} (الحج: 42)

إلخ، وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى

الصحيح، وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز وإني أنقله بحروفه وما هو

بالبعيد عن هذا بكثير، قال بعد ذكر أماني الأنبياء في أممهم وطمعهم في إيمانهم،

وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه

الثاني:

(ثم الأمة تختلف كما قال تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن

كَفَرَ} (البقرة: 253) فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له

في الرسالة الموجبة لكفره، وكذا المؤمن أيضًا لا يخلو أيضًا من وساويس؛ لأنها

لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة وبحسب

المتعلقات، إذا تقرر هذا فمعنى تمنى أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير

والرشد والصلاح والنجاح، فهذه أمنية كل رسول ونبي، وإلقاء الشيطان فيها يكون

بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساويس الموجبة لكفر بعضهم، ويرحم الله

المؤمنين،فينسخ ذلك من قلوبهم ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة،

ويبقي ذلك عز وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به، فخرج من هذا أن

الوساويس تُلقى أولاً في قلوب الفريقين معًا غير أنها لا تدوم على المؤمنين وتدوم على

الكافرين) اهـ، وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه تتبين الأحق

بالترجيح.

لو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي، وانتقض الاعتماد

عليه كما قاله القاضي البيضاوي وغيره، ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في

المنسوخ يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية

وهو العصمة، وما يقال في المخرج عن ذلك ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل،

على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العُلى لم يرِد لا في نظمهم ولا في

خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريًا على ألسنتهم إلا ما جاء في

معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح، وهذا يدل على أن القصة من

اختراع الزنادقة كما قال ابن إسحاق، وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت، ولا

يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسمًا لطائر مائي أسود وأبيض،

أو هو اسم الكركي أو طائر يشبهه، والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسَمْوأل

وفردوس وقرطاس وعُلابط) معناه الشاب الأبيض الجميل، وتسمى الخصلة من

الشعر المفتلة الغرنوق، كما يسمى به ضرب من الشجر، ويطلق الغرنوق

والغرانق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات، ويقال: لِمَّة غُرانِقة

وغُرانِقِية؛ أي: ناعمة تفيئها الريح، أو الغرنوق: الناعم المستتر من النبات

إلخ

، ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام، حتى يُطلق عليها في فصيح القول

الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام، فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات

الأعاجم ومختلقات الملبسين ممن لا يميز بين حر الكلام، وما استعبد منه لضعفاء

الأحلام، فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية، عما تقتضيه الدراية، {رَبَّنَا لَا

تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) .

***

(الحديث المرسل) هو الذي سقط من سنده من بعد التنابعيي، والجمهور

يتوقفون عن الاحتجاج به لجواز أن يكون الساقط غير الصحابي.

_________

(1)

المنن: جمع منة بالضم، وهي القوة.

(2)

مرهت العين: خلت من الكحل أو فسدت لتركه.

(3)

رمحه: طعنه بالرمح، والرامح ذو الرمح.

(4)

الفت: الدق والكسر بالأصابع ويقولون (فت في عضده) إذا كسر قوته وفرق عنه أنصاره.

(5)

رنق القوم بالمكان (بتشديد النون) : أقاموا، وفي الأمر خلطوا، والطائر خفق بجناحيه ورفرف ولم يطر.

(6)

الفينة: كالعيلة الساعة والحين.

(7)

التشغيب: تهييج الشر.

(8)

الهراش: المواثبة والمخاصمة، الحديث المرسل: هو الذي سقط من سنده من بعد التابعي، والجمهور يتوقفون عن الاحتجاج به لجواز أن يكون الساقط غير صحابي.

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مضار اللَّثْم والتقبيل

أمريكا مصدر العجائب، ومعدن الغرائب غير أن العجائب والغرائب فيها

فُقِدَتْ بتجاوزها حدود التواتر الصفات اللاصقة بالشواذ، والنوادر؛ لأنها حلت عند

أهلها محل الأشياء العادية عند غيرهم.

ومن أعجب ما أتحفتنا به من غرائبها ما قرره حاكم ولاية نيوجرزي إحدى

ولاياتها من منع أشهى الأشياء إلى الإنسان، وموضوع تغزل الشعراء في كل زمان

وأول ما ينبعث إليه بعامل الغريزة كل عاشق ولهان، وأقوى مؤكد للألفة في قلوب

الأحباب، وهو:(لثم الثغور أو رشف الرضاب) .

القارئ لهذا الخبر يحكم من أول وهلة أن الآمر بالمنع مصاب بخبل في عقله،

ولكن الأطباء أجمعوا على حسن صنعه؛ لأن جراثيم الأمراض المعدية كالحمى

الوافدة مثلاً مقرها المنخران والفم، فإذا لثم واحد آخر في ثغره وكان أحدهما

مصابًا بهذا الداء أصيب الثاني به في الحال بالعدوى من الأنف أو الفم، فالأولى

بمن يريد وقاية نفسه من الأمراض أن لا يعرك مارن أنفه بمارن أنف من يُقَبِّل ثغره

كما يفعل المتوحشون سكان بعض سواحل المحيط الهادي، بل يحسن به أن يصافح

من يريد السلام عليه باليد؛ فإن اليد خير وسيلة لتبادل التحية بين المهذبين.

ولا يخلو الحال من أن ينتقد قصار العقول على حاكم نيوجرزي؛ لكونه أصدر

قرارًا لا يمكنه القيام بالرقابة على تنفيذه، ويسخر به، والسخرية في مثل هذه

الأحوال أقرب ما يتدرع به الجهال؛ ولكن كم ألوف من المنشورات والقرارات التي

لو عمل بنصوصها لاتقيت المعاطب، ودُرئت المصائب لم تلبث ممثلة في حيز

خواطر الحكام إلا ريثما يجف مدادها، ثم اندرجت في طي النسيان ودخلت في خبر

كان.

فقرار حاكم نيوجرزي لم يكن والحالة هذه مظهرًا من مظاهر الجنون، ولا

عملاً قصد به مجرد التحكم في مرؤوسيه من الأهالي؛ إذ لم يسلم عقل عاقل أن

رجلاً تعهد إليه أمور ولاية بأسرها، وينقاد لأوامره جميع سكانها، يقضي شهورًا

وأيامًا في تشييد معالم قراره على أساسات متينة من الأسانيد العلمية بدون أن يأنس

ميلاً من الأهالي إلى إبطال عادة التقبيل الواضحة الأضرار بتأثيرها المادي في

صحة الإنسان.

فإن الرجل شاهد من القوم في إبان الأمر تذمرًا شديدًا من إبطال عادة قديمة

شائعة بينهم، وهي تقبيل الإنجيل بعد حلف اليمين أمام القضاة، وتتبع آثار

المناقشات التي قامت بين القضاة والشهود بسبب ما كان يراه الفريق الأول من

وجوب التقبيل، وما كان ينزع إليه الفريق الثاني من الامتناع عنه، واعتبر بما

جنح إليه الشهود من الإصرار على الإباء وتفضيلهم دفع الغرامة المقررة قانونًا في

مثل هذه الأحوال على تقبيل كتاب لمسته شفاه ألوف غيرهم من قبل، وليس

الغريب في الحادثة كلها تعنت فريقي القضاة والشهود وتمسكهما بما ذهب كل منهما

إليه، وإنما الغريب اتحاد السلالة السكسونية في النزعات والأميال؛ فإنه ما شاع

خبر الشروع في منع التقبيل بنيوجرزي، حتى قامت قيامة الميكروبيين في إنكلترا

وكندا وأستراليا ورفعوا أصواتهم مطالبين بمنع تقبيل الكتاب المقدس أمام القضاة،

وحدثت بينهم وبين هؤلاء حادثات أفضت إلى مثل النتيجة التي أدى الخلاف إليها

بين الفريقين في ولاية نيوجرزي.

وكما يعود إلى الأمريكيين الفضل في اقتراح إبطال تقبيل الإنجيل، يعود

إليهم فضل حل هذه المشكلة على أحسن الطرق، حيث قرروا تجليد هذا الكتاب

بمادة السلولوئيد (مادة من السلولوز القاعدة في تركيبها النثر والكافور) ، بدلاً عن

الجلد؛ لأنه بحالته الجديدة يمكن غسله وتطهيره بالمواد المطهرة عقب كل قبلة.

ولكن مسألة القبلة بوجه العموم كانت قد أخذت دورًا مهمًّا في المناقشات بين

الناس، واتسع خرقها، ولم يكن تجليد الإنجيل بالسلولوئيد حاسمًا لها؛ إذ تألفت في

الحال عصابة من الأهالي دعت نفسها (عصابة منع التقبيل) ، وسلمت مقاليد

زعامتها لأحد نطس الأطباء، فأثارت حربًا عوانًا على اللثم والتقبيل، وأبانت

بالبراهين القاطعة مقدار ضررهما بالصحة، ومن هذه الأدلة: أن اليابانيين يجهلون

عادة التقبيل، ولذا كانت جسومهم أبعد من جسوم غيرهم عن الأمراض، وقد

ناقضه في هذه الدعوى طبيب أمريكي عاش طويلاً بمدينة طوكيو عاصمة اليابان

حيث قال: إن اليابانيين لا يجهلون عادة التقبيل العامة في جميع الشعوب، وغاية

الأمر أن حكومتهم منعت من تقبيل الأطفال خوفًا من وصول الأمراض إليهم

بالعدوى.

ومهما يكن من الأمر فقد استدرجت العصابة إلى حزبها كبار الأطباء، وثقات

العلماء، وقرروا إصدار منشور ببيان ما يدعو إلى التخلي عن عادة التقبيل المضرة؛

فإن القبلة تنقسم إلى قسمين: قبلة يقصد بها مجرد الشهوة وهي لا يختلف اثنان في

ضررها، إذ امتزاج اللعابين بارتشاف الرضاب أقوى موصل للجراثيم من المريض

إلى السليم، وقبلة اصطلاحية وهي التي اتفق الناس عليها لإظهار شوق، أو

الاعتراف بصنيع حسن، وتكون عادة في الوجنة أو اليد، ولسنا نرى أن ترك أثر

من لعاب الفم قد يكون مشحونًا بجراثيم الأمراض المعدية عليهما يعد من مظاهرات

الشوق، أو دلائل الشكر إذا كان مصير ذلك الأثر أن يكون مركزًا تنبعث منه

جراثيم العدوى إلى الكثيرين بواسطة من وسائط الانتقال التي يضيق المقام عن

حصرها، ولذا ننصح القراء بترك تلك العادة القبيحة فوق ضررها، ونرجو أن

يقوم بيننا أمثال والي ولاية نيوجرزي؛ ليرشدونا إلى الصواب في أخص أمورنا

وأجلها وأنفعها لنا.

...

...

...

...

...

م. م

_________

ص: 100

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحنين إلى الوطن

قال في المسامرة: حدثنا أبو مصعب بن محمد بن مسعود الخشني الخطيب

الأديب قاضي كورة حيان بمسجد الأخضر بمدينة أشبيلية قال: لما حُملت نائلة بنت

الفرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه كرهت فراق أهلها، فقالت

لضب أخيها:

ألست ترى بالله يا ضب أنني

مرافقة نحو المدينة أركُبا

أما كان في أولاد عمرو بن عامر

لك الويل ما يغني الخباء المحجَّبا

أبى الله إلا أن أكون غريبة

بيثرب لا أم لدي ولا أبا

قال: وأنشدني ابن سكر بها بمسجد الشهداء:

ألا يا حبذا وطني وأهلي

وصحبى حين تذكرني الصحاب

بلاد من غرانقة كرام

بهم حلَّى تميمتي الشباب

وما عسل ببارد ماء مزنٍ

على ظمأ لشاربه يشاب

بأشهى من تلقيكم إلينا

فكيف لنا به ومتى الإياب

وأنشدتني خديجة بنت عبد الوهاب بن هبة الله الصوفي القصار قول

الأعرابية التي كان يهواها بعض خلفاء بني العباس، فتزوج بها، فلم يوافقها هواء

البلاد، فلم تزل تنحل وتعتل وتتأوه مع ما هي عليه من النعيم واللذة والأمر والنهي

فسألها عن شأنها فأخبرته بما تجد من الشوق إلى البراري، وأحاليب الرعاء،

وورود المياه التي تعودت، فبنى لها قصرًا على رأس البرية بشاطئ الدجلة سماه

المعشوق، يقابل مدينة سامرا من الجانب الآخر، وأمر بالأغنام والرعاء أن تسرح

بين يديها وتتراءى أمامها، فلم يزدها ذلك إلا اشتياقًا إلى وطنها، فمر بها يومًا في

قصرها من حيث لا تشعر بمكانه، فسمعها تنتحب وتبكي حتى ارتفع صوتها وعلا

شهيقها، وكبد الخليفة يتقطع رحمة فسمعها تقول:

وما ذنب أعرابية قذفت بها

صروف النوى من حيث لم تك ظنت

تمنت أحاليب الرعاة وخيمة

بنجد فلم يقض لها ما تمنت

إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه

وبرد حصاه آخر الليل حنت

لها أنة عند العشاء وأنة

سحيرًا ولولا أنَّتاها لجُنَّت

فخرج عليها الخليفة وقال: قد قضي ما تمنيت، فالحقي بأهلك من غير

طلاق، فما مر عليها وقت أسرَّ من ذلك، وسرى ماء في وجهها من حينها، فعجب

الخليفة، والتحقت بأهلها بجميع ما كان عندها في قصرها، وكان الخليفة يهواها

ويغشاها في أهلها إذا تصيد اهـ.

أقول: ومن هذا الباب قول بعضهم:

وحبَّب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

_________

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)

كتاب جديد ظهر في عالم الطباعة، جديد في وجوده، جديد في مباحثه

ومسائله، جديد في حكمته وفلسفته، وإرشاده وسياسته، حملت به فكرة عالم عامل،

ومحنك عاقل، حلب الدهر شطريه، وعرف ما له وما عليه، ولما تم حمله وأراد أن

يظهر في الوجود فضله، وضعته تلك الفكرة الوقَّادة، والقريحة النقادة، في أرض

الحرية، من هذه البلاد المصرية، فكانت جريدة المؤيد أول مهد له تمهد، ثم لم يلبث

أن تم فصاله، وظهر في إثر ولاده كماله، وتم له استقلاله، وعم القارئين نواله.

أطال هذا الرجل النظر في الاستبداد، فرأى أنه هو المخرب للبلاد، وتبصر

مليًّا في الاستعباد، فعلم أنه هو المهلك للعباد، فدرس من هذين الأمرَين الأمرَّين

طبائعهما، وتعرف مصارعهما، ثم أتحف ناشئة قومه بنتيجة علمه، وثمرة عقله

وفهمه، فوضع لهم بدر التمام، على طرف الثمام، وقرب إليهم ما كان على بعد

سنين وأعوام، فجعله على مسافة يوم وأيام.

يشتمل الكتاب على خطبة في سبب تأليفه وإهدائه للناشئة، ومقدمة في علم

السياسة والدعوة للكتابة في الاستبداد، ويليه فصول في تعريف الاستبداد وذويه،

والاستبداد والدين، والاستبداد والعلم، والاستبداد والمجد، والاستبداد والمال،

والاستبداد والأخلاق، والاستبداد والتربية، والاستبداد والترقي، والاستبداد

والتخلص منه، وفي هذا الفصل 25 بحثًا من أهم المباحث السياسية والاجتماعية

ذكرها المؤلف، (تذكرة للكُتَّاب ذوي الألباب، وتنشيطًا للنجباء على الخوض فيها

بترتيب) ، وهذا الفصل الأخير وما فيه مما لم يُنْشَر في المؤيد.

أشار المؤلف لاسمه برمز (الرحالة ك) ليحكم الناس على القول بذاته لذاته،

وللناس شغف بمعرفة الفضلاء النابغين من أمتهم، وحفظ أسمائهم وألقابهم في ألواح

القلوب ودفاتر التاريخ، فأما الذين يعرفون شخص الأستاذ الهمام السيد الشيخ

عبد الرحمن أفندي الكواكبي الحلبي وفضله، فيقولون: أجدر بهذا الكتاب أن يكون

له، وأما الذين لا يعرفونه فليحفظوا هذا الاسم الذي يطابق الرمز إلى أن يجيء يوم

يستبدل فيه هذا الرحالة التصريح، بالرمز والتلميح.

والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد بشكل كتاب (المرأة الجديدة) ،

وصفحاته 183، وثمنه خمسة قروش، ويباع في مكتبة الترقي، ومكتبة هندية،

ومكتبة الهلال، ومن يدفع سبعة قروش أميرية يرسل إليه الكتاب مضمونًا حيث

كان، والطلب يكون بهذا العنوان (القاهرة صندوق البوسطة نمرة 517 محمد

أفندي الوكيل) ، فنحث كل قارئ على قراءته، ونرجو من مؤلفه أن يكتب لنا كتابًا

آخر في المباحث 25 التي وضعها تذكرة للكتاب، فلا يوفيها حقها غيره.

***

(تنبيه الأفهام، إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام)

كتاب جديد اسمه يدل على شرف موضوعه وفائدة مباحثه، من إنشاء صديقنا

الكاتب الفاضل رفيق بك العظم الشهير بغيرته وإجادته بما لا يجيد فيه إلا الأقل من

كتابنا، والكتاب مؤلف من تسع مقالات، خمس منها نُشرت في مجلة الموسوعات،

فكانت في المكانة الأولى مما يُنشر فيها، وقد وُشِّي ذيل هذه المقالات بهوامش

زادت في فوائدها، وأجدر بالذين يبحثون في هذه الأيام عن المدنية الإسلامية كيف

كانت، ولم زالت، وكيف ينبغي أن تكون، وما النسبة بينها وبين المدنية الغربية أن

يقرؤوا هذه المقالات ويتدبروها، ويتوسعوا في مسائلها بحثًا وحوارًا وكتابة وخطابة

ودعوة إلى العمل وقيامًا به، وسنُتحف قراء المنار بشيء منها عند سنوح الفرصة،

وعسى أن يسبقونا إلى قراءتها برمتها، وهي تُطلب من صاحبها ومن مكتبة الترقي

وغيرها.

***

(دليل الحيران في الكشف عن آيات القرآن أو (ترتيب زيبا))

لا يوجد مسلم يشتغل بالكتابة والعلم إلا ويحتاج للمراجعة والكشف عن آيات

من القرآن في أوقات كثيرة، ومثل المسلمين من يشتغل بعلوم دينهم ولسانهم العربي،

فمن لم يكن حافظًا يُضيع وقتًا طويلاً في طلب كل آية يحتاج إلى الوقوف عليها؛

ولذلك مست الحاجة إلى طريقة تُسَهِّل المراجعة على طالبها، وقد سبق المتقدمون

إلى اتخاذ طرائق لم نعرف منها إلا ما عرفنا به الطبع فمنها كتاب (نجوم الفرقان

في أطراف القرآن) ، وهو يذكر جميع كلمات القرآن مرتبة على حروف المعجم،

ويذكر في جانب كل كلمة رقم السورة أو السور التي وقعت فيها، ورقم الآية أو

الآيات بالعدد، وقد طُبع في ألمانيا، وجعلت أرقامه إفرنجية، ومنها (ترتيب زيبا)

للحاج صالح ناظم ومعناه (الترتيب الجميل) ، وهو مرتب على حروف المعجم

بحسب أوائل الآيات غالبًا، فمتى عرفت أول الآية تكشف في فصل الحرف

المبدوءة به تجدها، وقد جعل الفصول لأكثر الحروف على أنواع؛ لكل كلمة مما

يكثر في الكلام نوع، فالآيات المبدوءة بكلمة (إن) نوع، والمبدوءة بكلمة (إذا)

نوع، والمبدوءة بأدوات الاستفهام على أنواع، وعلى ذلك فقس، وكان هذا الكتاب

قد طُبع في الآستانة العلية، ونفدت نسخه، فانبرى في هذه الأيام الفاضل الهمام

إبراهيم بك رمزي، فأعاد طبعه على نفقته في مطبعة التمدن المتقنة؛ ولكنه غير

اسمه بما ذكر في العنوان، وثمن النسخة منه 10 قروش، وهو يُطلب من المطبعة

المذكورة بجوار إدارة المؤيد بمصر.

_________

ص: 105

الكاتب: عبد العزيز محمد

التعليم الفطري والمدارس [1]

(المكتوب 48) من أراسم إلى هيلانة في 15 أغسطس سنة 185.

لو أني عُهِدَ إليّ ببناء مدرسة كبرى للناشئين في أمة من الأمم العظيمة،

لبذلت وسعي في أن أبث في جدرانها من العلم روحًا وعقلاً.

ذلك لأن القائمين على التعليم لم يزالوا في سبات من الغفلة عما كان لمعاهدة

التربية من التأثير في خيال المتعلمين خصوصًا في سنيهم الأولى، ولقد كان القدماء

أنفذ منا إدراكًا في سر التعليم بالمشاهدة، وجروا في ذلك على نواميس الفطرة

الإنسانية الحقة.

ليست المعابد والبِيع عند جميع الأمم إلا مدارس اتخذها الكهنة والقسيسون في

الأديان القديمة والحديثة صحفًا لمجموع عقائدهم ومذاهبهم، بما وجدوه لذلك من

الوسائل الكبرى في فن العمارة، ونحت التماثيل، وصناعة التصوير، وبقاء

العبادات إلى الآن يدلنا على درجة انتقاش الرموز والصور الاعتقادية في أذهان

العامة؛ فإن مخترعات الخيال التي يبرزها الرسم للوجود الخارجي في صور فخيمة

تبقى شائعة بين الناس بعد فناء الفكرة التي أنتجتها بعدة قرون، يشهد لذلك بقاء

مظاهر المعتقدات الجمادية، مع أن الأمم قد كفت من عهد بعيد عن توهم أنها لا

تزال على عادتها في عبادتها.

إذا كنا قد رفعنا هياكل للآلهة الباطلة كالحرب والروع والظفر بالأعداء وجميع

بلايا الإنسان ومصائبه، فما لنا لا نرفع للعلم هيكلاً؟ وأي كلفة في هذا العمل على

أمة عظيمة؟ لا يقال: إن أول عائق دونه هو قلة المال وغلاء المواد اللازمة

لإقامته؛ لأني أرى أننا في غنى عن الذهب والمرمر والخشب النفيس، وفي مقدورنا

أن لا نتعرض في إنشائه لشيء من صنوبر لبنان، ولا من نفائس المعادن التي تم بها

العظم والجلال لهيكل سليمان؛ فإن في الجبس، بل في الورق المقوى غناء عن ذلك

كله في سبيل التربية، إذا وجد له أناس صُنُع اليدين يهيئونه ويستخدمونه في الدلالة

على المعاني، وقد أصبح اليوم من الميسور تحصيل أهم مثل الأشياء الخلقية

والصناعية بنفقات زهيدة، وذلك بفضل ما اخترع من إفراغ صب المواد في

القواليب، وإن فيما يوجد بمعاهد التمثيل عندنا من تماثيل الزينة وصورها لبرهانًا

ناطقًا بأن في قدرة المصور أن ينقل الرائي إلى رومة [2] وأثينا [3] ومنفيس [4] ببعض

جولات يتحرك بها قلمه، وبشيء من المغالطات البصرية؛ لأنه متى أتقن تمثيل ما

يمثله من الأشياء في شكله ولونه، كاد أن يُحْدِث في الخيال ما يُحْدِثه أصله من الأثر،

فلا عبرة بالمادة، وبما يُتخذ من الوسائل لبث الروح فيها ما دامت الصورة تنبه

المشاعر وتؤدي إلى العقل معنى صحيحًا لما يُراد تعريفه إياه.

كل دين إذا استكنهناه رأيناه يرجع إلى فهم ما ذهب إليه أربابه من الآراء في

خلق العالم ونظامه؛ لكن فهم هذه الآراء هو في الغالب غاية في الصعوبة، وإنه

لولا الاستعانة بالرموز في إدراكها لنبت عنها عقول الكافة نبوًّا كليًّا، وأما الهيكل

الذي أقصد رفعه للعلم، فهو معرض تتجلى فيه الحوادث على الناشئين، بل هو

تاريخ حي محسوس للعالم الذي يعيشون فيه مواده كلها موجودة؛ لكنها متفرقة فيما

عندنا من المتاحف والمكتبات والمجموعات، ونحن عنها غافلون، فليس من الحق أن

يُكَلَّف اليافع بالتماسها في أماكنها؛ لأن ما في هذه الأماكن من العظام النخرة،

والحيوانات المصبرة، وجذاذ الأوثان المكسرة؛ إنما يفيد العلماء، وأما الأحداث

فاللازم لإفادتهم إيجاد مشهد تجتمع لهم فيه المُثل الحية الكبرى للإنسان وغيره من

المخلوقات على صورة جاذبة لنفوسهم.

هذه معارضنا العامة التي تقام في باريس ولوندرة قد تعلم منها الجهلة (وهم

في كل أمة سوادها الأعظم) من مناشئ الصناعة وتوزع الأجيال على سطح

الأرض، وأحوال الترقي في الأمم المختلفة أكثر مما يتعلمونه من جميع الكتب التي

وضعت في التدبير السياسي وتقويم البلدان، فكيف إذا عزَّزت مشاهدة الأشياء،

وكملت بتعليم خاص؟ تلك المعارض لا يتسنى إقامتها مسانهة، وهي فوق ذلك لا

تحتوي إلا على طائفة من الوقائع والأمور المخصوصة، وإذا كنت قد نوهت بها؛

فإنما قصدت بذلك أن أبين لك ما يعود على الأحداث من الفائدة، إذا أقيم لهم معهد

آخر للعلوم تمثل لهم فيه صورها.

أصبح علم الكرة الأرضية خلوًا مما يستميل نفوس المتعلمين مورثًا للسآمة

والضجر بمين ما رسمناه له من الخرائط وألفناه فيه من الكتب، أفلا يكون الحال

على خلاف ذلك لو أن هذه الخرائط استعيضت بقماش تصور عليه الأرض وما

فيها تصويرًا إذا جال النور في أرجائه ضاعف مغالطة بصر الطفل، فخيَّل له أنه

على الجانب الآخر للمحيط مثلاً؟ وليس يلزم لذلك إلا مصور صادق في عزيمته

باذل نفسه من أجل البلوغ إلى غايته.

قام بفكر أمريكي شجاع اسمه جون بانفارد يومًا من الأيام أن يصور مجرى

نهر المسيسبي [5] ، فركبه وحده في قارب مكشوف مصرًّا على إنفاذ فكره، غير مبالٍ

بما كان يعترضه من الصعوبات الكثيرة، ويعتريه من الآلام الشديدة، فيبست يداه

وخشنتا بسبب استعمال المجذاف، واحترق جلده بحر الشمس، فصار عما قليل

كواحد من هنود أمريكا في لونه، وقضى أسابيع كاملة، بل شهورًا لم يصادف فيها

إنسانًا يكلمه، ولم يكن له رفيق سوى قرينته، بلى كانت هذه الرفيقة تتكلم بأعلى

صوت كلامًا حقًّا لا خطأ فيه يُفْهِم بعض طيور النهر والأجمة، وكان يخرج في كل

مساء من قاربه إلى البر ويوقد نارًا، فيشوي عليها ما يصطاده، ثم يرقد ملتفًّا في

غطائه مكفئًا فوقه القارب؛ ليكون له جُنة دون الحيوانات الوحشية، وسقفًا يقيه طل

الليل، وكان عند شروق الشمس يهب من نومه ويمضي عامة يومه في اجتياز

النهر من شاطئ إلى آخر على التوالي طلبًا لمنظر جديد، فكان يسترعي طرفه في

مكان خليج عميق، وفي آخر أسراب من الطيور، وتستلفته في ثالث جزيرة

صغيرة علتها خضرة نضرة، وهو لا يفتر عن تسويد ما يلاحظه فلم يغادر شيئًا مما

يستحق التصوير إلا رسمه خطفًا واختلاسًا، ولما فرغ من تقييد إشاراته وملاحظاته

اتخذ له في المدينة المسماة لويسفيل بولاية كنتوكي [6] بيتًا من الخشب، حيث أنشأ

يصور ما قيده على القماش وما كان أطوله، فقد بلغ ذرعه ثلاثة أميال.

لا شك في أن ذلك المصور كان أهلاً لأن يأتي بطرفة من الطرف، وإن كان

رسم مناظر المسيسبي ليس في الحقيقة إلا حكاية صادقة لسفره خطها قلم الرسم خطًّا

بطيئًا، ونحن على كل حال نرجو الله سبحانه أن يقيض لنا من يحتذي مثال جون

بانفارد من المصورين، وأن يهبهم من الإقدام والإخلاص للعمل ما وهبه؛ فإنه لو

تحقق ذلك لأصبحنا بسطح الكرة التي نسكنها أعلم مما نحن الآن بكثير.

وليت شعري: أي مانع يحول دون إنفاذ عمل كهذا يكون تاريخًا للأرض ومن

يقطنها من الأمم؟ ربما قيل: إن ذلك هو ما يقتضيه من إنفاق المال الكثير. فأقول:

هذا مُسَلَّم؛ ولكنا ننفق في تبديل سلاح بآخر، أو طريقة من طرق القتال بغيرها أو

في بناء بارجة، أو إقامة حكومة جديدة متوسطة مدة بقائها ثمانية عشر شهرًا على

الأكثر - أضعاف ما تقتضيه منا طريقة التربية المؤسَّسة على نواميس الفطرة

الإنسانية.

لا شأن لنا في ذلك، وعلينا التسليم والامتثال؛ فإن هيكلاً كالذي وصفته

تتجلى فيه الوقائع والمعاني إنما هو صورة من صور الخيال لا وجود له في الخارج

ولن يوجد بلا شك، فيجب علينا إذن بناؤه في المستقبل في ذهن (إميل) بمواد

أخرى اهـ.

(المنار)

إن ما قاله المؤلف في الأديان غير مُسَلَّم على إطلاقه، ويظهر أنه لم يطلع على

الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة، والمرشد إلى سنن الفطرة في التربية والتعليم،

وإن كان يستنير بأشعة شمسه من حيث لا يشعر.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

مُعَرَّب من باب الولد من كتاب‌

‌ إميل القرن التاسع عشر

.

(2)

رومة هي عاصمة إيتاليا الآن وكانت في غابر الأزمان عاصمة مملكة الرومانيين، ثم عاصمة لولايات السلطنة الروحية، ومقرًّا للبابا كما أنها مقره الآن.

(3)

أثينا هي مدينة شهيرة من القدم في بلاد اليونان، وهي الآن قاعدة حكومة تلك البلاد.

(4)

منفيس مدينة كانت عاصمة لمصر في الأزمان الغابرة أطلالها قريبة من القاهرة.

(5)

المسيسبي نهر عظيم في أمريكا الشمالية يصب في خليج المكسيك بالقرب من مدينة نوفل أورليانس وطوله 5500كيلو متر.

(6)

كنتوكي هي إحدى الولايات المتحدة بأمريكا الجنوبية سكانها 1855450 نفسًا وعاصمتها فرنكفورت.

ص: 108

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ملكة الإنكليز

تقدم في الجزء الثاني والثلاثين من السنة الثالثة ذكر مولد هذه الملكة العاهلة

ونشأتها وجلوسها وتتويجها وزواجها، ونلم هنا بباقي سيرتها.

أخلاقها ودينها:

تقدم في مطاوي الكلام ما يُشْعِر بدماثة أخلاق الملكة فيكتوريا وتهذيبها،

ويُؤْثَر عنها شدة التمسك في مذهبها البروتستانتي؛ ولكنها كانت تُظهر الاستياء من

التحامل على رعاياها الكاثوليك، ومما يُؤثر عنها في المحافظة على يوم الأحد أن

أحد الوزارء أراد أن يعرض عليها أوراقًا ذات بال في مساء السبت، فرأى الوقت

يضيق عن النظر فيها، فاستأذنها بأن يحضر لعرضها في صباح اليوم التالي فقالت:

إن غدًا الأحد يا حضرة اللورد. فقال: إن مصلحة البلاد لا تسمح بالتأجيل.

قالت: إذن لا بأس. وفي صبيحة ذلك اليوم حضر ذلك الوزير سماع الوعظ في

الكنيسة مع الملكة كعادة أمثاله، وكان الوعظ في (الواجب على المسيحي يوم الأحد)

فلما انتهى قالت الملكة للوزير: (هل أعجبك الوعظ؟) قال: كثيرًا يا جلالة

الملكة. قالت: (لا أخفي عنك أنني أنا التي أوعزت إلى الخطيب بهذا الموضوع

فعسى أن يؤثر كلامه فينا) ، ثم أمرته أن يحضر في اليوم التالي لعرض الأوراق

ففعل، ويُؤثر عنها أنها قالت: (إن السر في عظمة إنكلترا هو الكتاب المقدس.

وقالت: إن التجارة وحدها لا تجعل الأمة عظيمة وسعيدة، وإنكلترا إنما بلغت ما

بلغت من العظمة والسعادة بمعرفة الإله الحقيقي)

نعم إن الإنكليز أشد تمسكًا بالدين، وأقل تعصبًا على المخالفين من جيرانهم

الفرنساويين، ولذلك تقدموا عليهم؛ ولكن البوير أشد تدينًا من الإنكليز؛ ولذلك

انتصروا عليهم وقاووهم إلى الآن، ولا يزال الحرب بينهما سجالاً مع أنهم في الإنكليز

كالشامة في جلد البعير، فليعتبر شبان المصريين الذين يتوهمون أن المدنية إنما تكون

بالكفر والتعطيل، واتباع الشهوات البهيمية، والغرور بالزخارف الظاهرية.

سياستها:

الممالك إنما تنهض وترتقي برجالها ووزرائها المسؤولين المحنكين، ودولة

إنكلترا أغنى الدول بالساسة، وقد رزقت الملكة فيكتوريا بأنصار منهم نهضوا

بالبلاد في عهدها نهوض الأسود وهم: واللورد ملبرن، والسر روبرت بيل، واللورد

جون رسل، واللورد بامرستون، واللورد بيكنسفيلد، وأرل دربي، وأرل إبردين،

والمستر غلادستون، واللورد روزبري، واللورد سالسبري، هؤلاء هم الذين تولوا

الوزارة الكبرى على عهدها، ولهم من سائر الوزراء والنواب والحكام أعوان

وأنصار على شاكلتهم؛ لأنهم نتائج تعليم وتربية واحدة، ويظن كثيرون أن الملكة

لم تكن إلا آلة صماء لا عمل لها بذاتها، ولا إرادة لها في حكومتها، والصواب أنها

كانت تنظر الأشياء الكلية وتبدي رأيها فيها، ومن الشواهد على هذا أن اللورد

ملبرن حاول إقناعها بالأدلة الخطابية بأن تُصَدِّق على مشروع مهم، وكان يخاف أن

لا ينجح في ذلك، فنوه بأمر المشروع ما شاء أن ينوه، وقال: إنه يا جلالة الملكة

عظيم الأهمية. فقالت له: (إن أعظم المسائل وأهمها عندي الآن هو أمر التوقيع

على مشروع لم أقتنع به) .

وقد اتسع عمران الدولة البريطانية على عهدها، فقد كانت مساحة البلاد

الإنكليزية ومستعمراتها يوم تولت عليها 8329000 ميل مربع، وعدد سكانها

168 مليونًا، وما تولت عنها إلا ومساحتها تزيد على 11250000 ميل مربع،

وسكانها يزيدون على 400 مليون، وكان دخل الحكومة الإنكليزية حين وُليت 50

مليون جنيه من بلادها، و25 مليونًا من الهند، وبلغ قبل أن وَلَّت 120 مليونًا من

بريطانيا وحدها، ونحو 70 مليونًا من الهند، وثلاثين من أستراليا و20 مليونًا من

سائر المستعمرات.

وكان للملكة نفوذ شخصي عظيم في أوربا لكونها امرأة، ولكبر سنها،

ولوشيجة الرحم المشتبكة بينها وبين أعظم ملوك الأرض كعاهل الألمان، وقيصر

الروس، فكانت تحل بكتاب تخطه بيمينها ما لا تحله النفاثات في عقد السياسة منه

بواقع الرجال، ولذلك يُظن أن بريطانيا قد فقدت بفقدها شمس المجد ونجم السعد،

وأنها لن تكون بعدها كما كانت، والله علام الغيوب.

* * *

(تهنئة واستماحة) : نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك وبمناسبة العيد

وترك عمال المطبعة العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة

فنرجوهم السماح.

(وسام الافتخار المرصع) أنعم مولانا السلطان الأعظم أيده الله تعالى على

أخلص المخلصين لذاته الكريمة عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي

الشأن الذي هو جدير به، فنهنئ عطوفته بذلك.

_________

ص: 113

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البدع والخرافات

والتقاليد والعادات

السنيون والشيعة في حمص

كتب إلينا الأديب المهذب الحاج محمد طه السكاف الحمصي رسالةً مطولةً

يشرح فيها أمورًا تقع في بعض القرى التابعة لحمص من الخلاف والنزاع والتفرّق

والشقاق بين الفريقين الذين يدعون أهل السنة، والذين يدعون الشيعة، وذكر

بعض المسائل الخلافية التي يكثرون فيها الجدال والمراء كمسح الرجلين في

الوضوء، والمتعة، والمفاضلة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن أعجب

ما ذكره قوله: إن العلماء في حمص يُكَفِّرُون الشيعة بمسألة مسح الرجلين، ويمنعون

الناس من أكل ذبائحهم مع أنها مسألة اجتهادية، ويشهد لمذهب الشيعة فيها ظاهر

القرآن؛ فإن إعراب {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة: 6) على قراءة

النصب بالعطف على المحل، أقرب من إعرابها على قراءة الجر بأن الأرجل

مجرورة بالمجاورة، بل هذا غير معروف عن العرب في مثل هذا التركيب، ولا

ينافي صحة المسح ثبوت الغسل في السنة؛ فإنه مسح وزيادة، ولذلك أرجحه بالعمل

مع الاعتقاد بمقابله، وعهدنا بالعلماء الراسخين أنهم يتوقفون عن تكفير من يخالفهم

في الأصول الدينية إذا كان متأولاً، وإن كان مما يكفرون به غير المتأول.

وذكر الكاتب مسألة فظيعة جدًّا، وهي أن رجلين أحدهما الملازم مصطفى أغا

والثاني أحمد بن علي الداغستاني شتماه ولعناه وضرباه على وجهه بالنعال، حتى

كاد يموت؛ ذلك بأنهما اتهماه ببغض سيدنا الصِّدِّيق رضي الله عنه وشتمه، وما كان

الصديق شتامًا ولا لعانًا ولا معتديًا ولا راميًا للناس بالبهتان، وقد كانا سألاه عن

الصديق فذكره بالخير واستمطر له الرضوان من الرحمن، فلم يعبآ بقوله، ولكن بما

نم عليه الفاسقون، ثم إنه ثبتت براءته عند القاضي الشرعي بعدما لبث في السجن

سبعة عشر يومًا.

هؤلاء الناس يزعمون أنهم على هدى الإسلام، وسنة النبي عليه الصلاة

والسلام، الذي أُمر أن يخاطب عبادة الأصنام، بمثل {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ

فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لَاّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24-

25) ولولا هذه الطريقة الإلهية المثلى لما أَلَّفْتَ قلوبهم

{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ

حَكِيمٌ} (الأنفال: 63) .

هؤلاء المتحمسون المتعصبون وأمثالهم هم الذين فرَّقوا كلمة هذا الدين،

وجعلوا أهله شيعًا حتى صار بأسهم بينهم شديدًا، وذهبت ريحهم، وخبت

مصابيحهم، وتقوضت صياصيهم، وتمكن العدو من نواصيهم، وذاقوا مرارة

الخلاف، وآن لهم أن يعودوا إلى الائتلاف، فعسى أن يكون العلماء أول من يسعى

بجمع كلمة المسلمين ووحدتهم.

***

بعض البدع في زيارة قبور الأولياء

قال العلامة الآلوسي في باب الإشارة من تفسير سورة النور ما نصه: قوله

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا

عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء

أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه

بالاستئناس؛ فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره

ذلك. واطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله

تعالى أسرارهم، فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من

الأدب، ويجمع حواسه، ويعتمد بقلبه طالبًا الإذن، ويجعل شيخه واسطة بينه وبين

الولي المَزُور في ذلك، فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني

فليدخل وإلا فليرجع. وهذا هو المعنيُّ بأدب الزيارة عندهم، ولم نجد ذلك عن أحد

من السلف الصالح، والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي

أحدهم: أأدخل يا أمير المؤمنين، أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.

أو نحو ذلك، ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين، وهو

أيضًا مما لم نعرفه عن أحد من السلف، ولا ذكره فقهاؤنا، وما أظنه إلا بدعة، ولا

يعد فاعله إلا مضحكة للعقلاء، وكون المَزُور حيًّا في قبره لا يستدعي الاستئذان في

الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور،

كما يتأدب معه حيًّا كما لا يخفى.

وقد رأيت بعد كتابتي هذه في (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم)

صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه: قال بعضهم: وينبغي

أن يقف - يعني الزائر - بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء.

انتهى، وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى.

ومنه يُعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم

مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى، فاحفظ ذاك، والله يعصمنا من البدع

وإياك اهـ.

***

الموالد

جاء في جريدة الوطن الغراء تحت هذا العنوان ما نصه:

حضرات القراء أو المشتركين من عوام المسلمين وعلمائهم وفقرائهم

وأغنيائهم، لا تتوهموا أني مسيحي أو إسرائيلي أو بوذي، لا وشرف الإسلام وذويه

ما أنا إلا رجلاً مسلمًا (كذا) أبًا وأمًّا وجدودًا، قد كنت في شبيبتي جاهلاً،

والشباب جنون لا أدري ما هو الدين ولا ما هي الفضيلة، كنت أغضب إذا أرشد

العالم إلى الحقيقة، وأجاري الجهلاء في تسميته (فيلسوف) أي: غير مسلم حسب

زعمهم، مع أن المعنى بضد ذلك، وأفرح وينتعش فؤادي من خزعبلات الجهلاء

التي ما أضر العوام إلا الإصغاء إليها، ولا أوقف الدين في أحرج المواقف إلا

تقاعس العلماء وتركهم هؤلاء الجهلاء يخوضون صفوف الدين، ويهددون حصونه

بترهاتهم الكاذبة حتى مَنَّ الله عليّ بذرة من العقل، وأبلغني من العمر التاسعة

والعشرين، وأرشدني إلى الطريق القويم، فذهبت إلى طنطا في المولد الرحبي هذا

العام، ونظرت الموكب الذي يقوم به رجال الطرق والأشاير نظرة أفقدت حواسي

من شر ما لاقيته من الخرافات التي أفضت بالدين الإسلامي في البلاد المصرية إلى

هذه الدرجة، لقيت اللصوص والمتفقهين يذكرون الله بألسنتهم وعيونهم تتغازل مع

النساء، وأفواههم ترسل واسع التقبيل إليهن.

لقيت الفقهاء يرتلون آيات القرآن في الطريق، لقيت الطبل والزمر يشنفان

الآذان، لقيت المغنيين ينشدون (عزيز حبك) ، و (كان عقلك فين) ، لقيت

النساء حاملات أولادهن على أكفهن خلف المواكب يزغرتن كأن السيد يزف للختان

أو للتأهيل.

هل أصل الموكب يا حضرات العلماء كان كما نراه الآن؟ وهل كانت هذه

الخرافات موجودة فيه في الزمن السابق، أم كان بخلاف ذلك؟ وهل هذه البدع من

ضمن واجبات الدين والسيد محتاج إليها أم لا؟ أسئلة نوجهها إلى حضراتهم

ونرجوهم الإجابة عليها، وعن الباعث لتغاضيهم عن إبطال هذه العادات الخبيثة

حتى نكتفي مؤنة تضاحك الغير علينا ولهم جزيل الفضل اهـ بحروفه.

...

...

...

... إسماعيل يسري

...

...

...

...

...

بالقرشية

***

النعل المعبودة

إن في مقام الشيخ الكلشني المشهور بالولاية نعلاً عتيقة منسوبة لهذا الشيخ،

يعتقد عوام المصريين أن فيها سرًّا عجيبًا، وهي أن نقاعتها تطفئ نار العشق، وتُبَرِّد

حرارة الغرام، وأنها على العاشقين برد وسلام، وأن لها فوائد أخرى، وهي دائمًا

منقوعة في الماء، فيأتي النساء والرجال ويشربون من مائها للتبرك به، ومن كانت

تتهم زوجها أو غير زوجها ممن يهمها شأنهم بالعشق تسقيه شيئًا من هذا الماء ولو

بحيلة لا يشعر بها، كأن تجعل الماء الذي تجتلبه من نقاعة النعل في سقائه أو

تمزجه بشرابه، سمعت هذا من كثيرين، وسأقصد مشاهدته بنفسي إن شاء الله

تعالى، أما كون هذه عبادة فسيأتي بعد.

_________

ص: 116

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تهنئة واستماحة

نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك، وبمناسبة العيد وترك عمال المطبعة

العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة، فنرجوهم السماح.

_________

ص: 116

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وسام الافتخار المرصع

أنعم مولانا السلطان الأعظم أيّده الله تعالى على أخلص المخلصين لذاته الكريمة

عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي الشأن، الذي هو جدير به، فنهنئ

عطوفته بذلك.

_________

ص: 116

الكاتب: محمد عبده

‌الانتقاد

من مقالات مولانا الأستاذ الحكيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده

مفتي الديار المصرية

ما وعظك مثل لائم، وما قوَّمك مثل مقاوم

الانتقاد نفثة من الروح الإلهي في صدور البشر تظهر في مناطقهم سوقًا

للناقص إلى الكمال، وتنبيهًا يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به،

الانتقاد قاصف من اللائمة تتنفس عنه القلوب، وتنفتق به الألسنة لتقريع الناقصين

في أعمالهم، ودفع طلاب الكمال إلى منتهى ما يمكن لهم

جعل الله للحياة قوامًا

وقوام الحياة بالإدراك

إنما الإنسان كون عقلي، سلطان وجوده العقل، فإن صلح السلطان ونفذ حكمه

صلح ذلك الكون وتم أمره، إن الله لم يهمل العقل من ناصرين عزيزين حاذقين

أحدهما له والثاني له وعليه، أما الأول فما قرن الله به من غريزة الميل للأفضل،

والاصطفاء للأمثل، وأما الثاني فما ألزمه الصانع من الانقباض عن الدون،

والنفور عن منازل الهون، فذاك يحدوه وهذا يسوقه، وذاك يزين له الطلب، وهذا

يزعجه إلى الهرب، وكل منازل العقل صعود إلا أدناها فعجز يقف بأهله على

شفير العدم، وكل منزلة بعد الأدنى دنو من الكمال، غير أن ما يسمو إليه العقل،

أشبه بما ينبسط إليه الوجود، يمتد إلى غير نهاية، ويرتفع دون الوقوف عند غاية،

فليس يصل منتجع الكمال إلى مقام إلا ويرمي بطرفه إلى أبعد منه، ومساقط العجز

وبيئة المقام كثيرة الآلام، تستوكرها أفاعي الهموم، وغائلات الغموم، وقد جعلها

الله من وراء العقل كلما التفت إليه راعه هول منظرها فتحفز عنها، إلى منجاة منها،

ولا يزال يزجيه الخوف وتطير به الرغبة حتى يدنو من رفرف السعادة الأعلى.

ولكن كلال البصائر البشرية قد يقف بها عند مظاهر غرارة، وظواهر ختارة

فتخالها طلبتها، وتحسبها منيتها، ولا تدري أن بها هلكتها وفيها منيتها، فمثلها مثل

الطير ينظر إلى الحب المنثور وَيَغْبَى عن الفخ المنصوب، فإذا سقط للالتقاط وقع

في يد الحابل، أو مثل المفترس يلوح له لائح الفريسة ولا يشعر بما أعد له صائده،

فإذا وثب عليها أتاه الصائد من مقتله، وأعجله عن مأكله.

لهذا وكَّل الله بالعقل منبهًا لا يغفل، وحسيبًا لا يمهل، وكالئًا لا ينام، يزعج

الواقف، ويحثحث المتريث، ويمسك الراجف، ما سكن ساكن إلى حال، ولا قنع

قانع بمنال، إلا هتف به: إن ما تطلب أمامك. ولا أوغل موغل فيما لا ينفعه، ولا

أوضع موضع إلى ما يضره إلا صاح به: تعست الجدود، وأضرعت الخدود،

فخفض من سيرك، وقوّم من سيرك وإلا فالذل مقيلك، والهلكة مصيرك. ذلك

الواعظ الحكيم والمؤدب العليم هو (الانتقاد) ينبث في الفؤاد، ثم يتجلى في البيان

على أسلة اللسان، فيفقهه العالمون، ولا يهمله العاملون {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ

النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) أودع في كل ناطق بصرًا بشأن غيره أشد إحاطة

من بصره بشأن نفسه، ومكَّن كلاًّ من تمييز أحوال الآخر حسنها من قبيحها،

وفسادها من صحيحها، ثم دفعه للنطق بما ألهمه، والقضاء بما أحكمه فكان لكل

إنسان أبصار بعدد الناظرين إليه، والعارفين بما عليه عمله، كلها كبصره تريه

الخير فيطلبه، وتكشف له الشر فيجتنبه، وجعل الله الناقدين أقسامًا، فمنهم ناظر

إلى الفضل لا يعدوه فهو يذكر المنقبة، ويغض عن المثلبة، ومن هذا القسم

المفرطون في الوفاء من الأصدقاء، ومنهم رقباء النقائص وجواسيس العيوب

يروون المساءات، ويسكتون عن الحسنات.

وفيهم الحسَّاد، وأهل الأحقاد، ومنهم ناظرون بالعينين، عارفون بالوجهين،

يذكرون للكمال نبله، ويلزمون النقص ويله وهؤلاء في أعلى المنازل، وفيهم

الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، ومن الناقدين

فاسقون يكتمون ما يعرفون، ويهرفون بما لا يعلمون، وهم في أخس المنازل، وليس

في الناس إلا من تجتمع هذه الأقسام له أو عليه، وما جعل الله بشرًا يسلم منها،

ويحرم من بعضها، فكأنها التي قال فيها:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} (مريم: 71)

وكلها صدى صوت الكمال الإلهي الأعلى ينادي الكاملين أن يستزيدوا، والناقصين أن

يستجيدوا.

هل لجاحد أن يصغِّر قدر هذا الحسيب على أي وجه كان حسابه؟ أو لجاهل

أن ينكر حكمة الله في تقييضه لنا؟ أو لواهم أن يذهب إلى أنه ليس من نظام

الفطرة؟ وإني أحيلك على خواطر نفسك إذا بلغك وأنت غربي مثلاً أن ملك الصين

غدر بأحد أوليائه، أو استصفى أموال رعيته، أو كلفهم ما لا يطيقون احتماله، أو

أهمل في مصلحة بلاده، حتى تجرأ عليها أعداؤها، أو جَبُن عن دفع حادث ألمّ به

وكان يستطيع دفعه، ألا ترى من قلبك امتعاضًا عليه ومن نفسك إزراءً بعمله،

وفي لسانك لهجة بلومه وهو منك على بعد المشرقين؟ ولئن وصلت إليك روايات

عدله ورعايته حقوق بلاده، وحفظه لذمامه وجدت إليه من فؤادك ميلاً، ومن رأيك

لعمله استحسانًا، ومن لسانك عليه ثناءً.

ولو شئت حاكمتك إلى مذاهب ميلك عندما تنظر في تاريخ لمن سبقك؛ فإن

مثَّل لك النظر فضلاً في سيرة، أو خزية في جريرة، ألست تجد من ميلك انبساطًا

إلى فواضل الغرر، وانقباضًا عن مخازي العرر، ثم انطلاقًا إلى نشر ما وجدت،

ثم رأيت عضدًا منك لأحدهما كأنه قائم يستنصر فأنت تنصره، وتغيظًا على الآخر

كأنما يدعوك لعونه فأنت تخذله.

لا جرم أن النقد نائرة غريزية تقدح شررها على السابقين واللاحقين، وكل

نقد فحشوه لوم، حتى ما كان منه قاصرًا عند بث المحمدة والإقرار بالفضيلة؛ فإن

حمد الكامل عذل للناقص على التقصير، وإزعاج للمحمود وزجر له عن ملابسة

الإعياء، فكأني وصاحب الثناء يقول: ألا أيها القاعدون انهضوا، ويا أيها

المبرزون اركضوا، واحذروا الوقفة فإنها بداية القهقرى، تلك أقلام الحق، في

ألسنة الخلق، لا يصم عن ندائها إلا أصم، ولا يغبى عن إنذارها إلا أيهم.

على ذلك قام النظام الإنساني فلولا الانتقاد ما شب علم عن نشأته، ولا امتد

ملك عن منبِته، أترى لو أغفل العلماء نقد الآراء وأهملوا البحث في وجوه المزاعم

أكانت تتسع دائرة العلم، وتتجلى الحقائق للفهم، ويعلم المحق من المبطل؟ أو لو

أغمض الأعداء والأولياء عن سياسة السائس، وتدبير الحاكم، وهجروا النظر في

قوة الملك، ولم يقرعوا كل عمل بمقارع النقد، أكانت تستقيم محجة، وتعتدل حجة

وتعظم قوة؟ كلا بل كان يتحكم الغرور، وتتحكم الغفلة، ويعود الصواب خطلاً

والنظام خللاً، تلك سنة الله في الأولين، وهي كذلك في الآخرين.

فالمغبوط في حاله من يستمع قول اللائمين، ويستطلع خواطر المعترضين،

ويتصفح وجوه المنكرين، ذلك روح الحياة فيه يطلب حاجاته، ويتحفظ من آفاته،

وليس فيما يملك الحازمون أنفس لديهم، من الإنحاء عليهم، بما ينبههم إذا غفلوا،

ويعلمهم إذا جهلوا، ويهديهم إذا ضلوا، وينعشهم إذا زلوا، وكما توجد نفائس

الإرشاد هذه عند الأولياء، توجد عند الأعداء، بل هي عند هؤلاء أجود، فإنهم

يرفعون للمعايب أعلامًا بينة حتى لا تعود فيها شبهة لناظر، وأحجى بالعقل أن لا

يمج من الانتقاد شيئًا حتى أكاذيب أهل الضغينة، ورجوم ذوي السخيمة على

مخالفتها للحقيقة؛ فإن أباطيل اللوم تكون للعقل بمنزلة المسالح تقام في الثغور زمن

السلم حذرًا مما عساه يطرقها من عدوان المغيرين عليها، وأقل ما يكون من العاقل

فيها أن يقول: قيل فينا ولم نعمل فكيف بنا لو عملنا؟ فهي إن لم تهده إلى مطلب

ضل عنه، ولم تَرُّد إليه فائتًا كان ينفلت منه، فقد تحفظه من السقوط فيما يجعل

الكذب صدقًا والباطل حقًّا، فمن فسق لسانه، وخالف بيانه جنانه، وجاء يغير

الحق في ثلب غيره، فقد أفسد نفسه لصلاح عدوه، ولله ما يقول بعض الصوفية:

جزى الله الأعداء عنا كل خير فلولاهم ما نزلنا منازل القرب، ولا حللنا حظائر

القدس.

هذا وقد كفر قوم نعمة الانتقاد فظنوا الله فيه عبثًا - نعوذ بالله - فوقروا عنه

آذانهم، وعطَّلوا من ناحيته سمعهم، وجعلوا أصابعهم في صماليخهم [1] ، من صواعق

زجره، وقواصف نهيه وأمره، وضربوا بينهم وبين أهل النقد حجبًا، وأقاموا دونهم

أستارًا، وخيل لهم الجهل أن صممهم عنه يقيهم منه، وأن قبوعهم في أُهُب الغفلة [2]

يدرأ عنهم سهام اللوائم، كأنهم لا يعلمون أن ذلك وقوع في أشد مما خافوا، واندفاع

إلى شر مما رهبوا، فمثلهم كمثل بعض الطيور إذا رأى الصائد غمس رأسه في الماء

ظنًّا منه أنه متى أغمض عن طالبه أغمض الطالب عنه، فيكون بذلك قد يسر للصائد

صيده، وسهل عليه كيده.

ومن ثم تجدهم في عمى عن شؤونهم، وتخبط في أعمالهم قد لزموا خطة من

الهون لو أبصر عقلهم بعض أطرافها لماتوا جزعًا من هول ما فيها، كل ذلك وأسلات

الألسن وأسنة الأقلام لا تألو في تقريعهم، بل وصوت الحق الصريح يناديهم من

عمائق ضمائرهم، بئس ما اشتريتم لأنفسكم لو كنتم تعلمون. وليُّهم عاتب، وعدوهم

عائب، وهم في غفلة من هذا، بل لا يشعرون.

أولئك الذين ختم الله على سمعهم، وطبع على قلوبهم فمرقوا من ناموس

الفطرة الإلهية فهم أموات الأرواح، مضطربو الأشباح، ولا تنشق عنهم قبور

الخمول حتى ينشرهم الله في حياة أخرى يخضعون فيها للأحكام الكونية، ويعملون

على السنن الإلهية، فلينتظروا إنا معهم من المنتظرين.

_________

(1)

الصماليخ: ج صملاخ وصملوخ، وهو داخل خرق الأذن ويطلق على وسخها.

(2)

الأُهُب بضمتين جمع إهاب ككتاب، وهو الجلد الذي لم يدبغ أو أعم.

ص: 121

الكاتب: أحد علماء حلب

‌الطلاق في الإسلام [

1]

إن إباحة تفارق الزوجين هي نقطة متوسطة بين التغالي في الإطلاق

الموجودة في الزنا الذي هو صحبة ساعة، وبين التغالي في القيد الذي هو التزام

عدم انفكاك الاقتران مدى العمر، وحد وسط بين طرفي الإفراط والتفريط كما هو

مشرب المنهج الإسلامي في كل الأمور، وفيه تسهيل للزواج والمناكحات الرادعة

عن الالتجاء للزنا يستصعب الزواج إذا لم يمكن الفراق، وإننا لا ننكر ما في

التفارق من المضار التي ربما تحدث عنه؛ ولكنها لا ترجح عما فيه من المنافع

التي تستلزمه عند الموازنة الصحيحة، ولا يخفى أن ما تساوى طرفاه نفعًا وضررًا

فالشأن فيه الإباحة التي هي الأصل في كل أمر، وجانب الإطلاق مرجح عن جانب

القيد إذا تساويا.

هذا وإن الطلاق كذلك إذا لم يكن لعذر، أو إلجاء ضرورة فليس بمباح تمامًا

كسائر المباحات في الشرع الإسلامي، بل هو من قسم المكروهات التي لا

يستحسنها الشرع الإسلامي، ويُعتبر الطلاق شأن السفهاء؛ لأن الشرع الإسلامي

ينهى عن الجفاء بكل أنواعه، ويحث على الشفقة والإنصاف والمروءة وحفظ الوداد

والعهد، وإنما الطلاق لا بأس به إذا لم يمس بشيء من هذه المذكورات؛ أي: إذا لم

يكن فيه مخالفة للإنصاف والمروءة

إلخ، فلا يكون الطلاق حينئذ إلا كناية عن

فَرَج، ومخرج من ضنك المعيشة التي ربما تحدث بين الزوجين، ولا مناص عنه إلا

بافتراقهما واستغناء كل منهما عن الآخر، أو استعواضه من هو خير له منه؛ إذ

ربما يبقيان على كره منهما أو أحدهما، فيكون نكد العيش الدائم لولا الطلاق.

أترى إذا كان الرجل عنينًا والمرأة شابة حسناء، وصار هو يحب الانفراد

والانزواء، وصارت هي تميل لإتيان ما تأتي النساء، ولم يكن لأحدهما حاجة

بالآخر، فعلام نلزمها بالتزام ما لا يلزمهما من الحجر الدائم عن مبتغاها؟ أرأيت

إذا تباغضا لأسباب ما؛ فعلام نلزم كلاًّ منهما بالتزام صحبة بغيضة مدى عمره؟

أرأيت إذا علم الرجل أن امرأته زانية وأراد أن يفارقها بدون أن يفضحها، ويثبت

عليها ما يخل بشرفها، أرأيت إذا عجز عن إثبات ما علمه من إتيانها الزنا فكيف

نجبره على هذا الضيم؟ ولقد رأينا كثيرًا في بلادنا ممن يتدينون بتحريم المفارقة

بدون ثبوت الزنا، يعلمون الزنا من نسائهم ولا يقدرون على إثبات ما علموه،

فيمكثون على هذا الضيم مدى عمرهم، كاتمين غيظهم بالرغم عنهم، فلمثل هذه

الحكم إباحة الطلاق لا لأجل محض الشهوة.

ولذلك لا ترى من أهل الإسلام المتربين على فضائل الأخلاق الإسلامية من

يطلق زوجته لغير عذر مقبول من مثل هذه الأعذار، فإن قيل: (فعلى هذا ينبغي أن

يكون إبطال عقد الزواج متوقفًا على رضا كل من الطرفين معًا كسائر العقود، أو بيد

كل منهما؛ فأيهما لم يطب عيشه لدى صاحبه يفارقه، لا أن يكون الرجل هو المالك

لذلك دون المرأة) فنقول: ليست أصول تفارق الزوجين في نظام الإسلام كما يتوهمه

الغالط، بل إن تفارق الزوجين إما أن يكون بإبطال عقد الزوجية وفسخ المقاولة بحيث

يرد كل منهما ما تملكه بالعقد، فتسترد المرأة ما ملكته للرجل من إباحة نفسها له دومًا

واختصاصه بها، ويسترد الرجل ما جعل لها من المال بمقابلة هذه الإباحة الدائمة كله

أو بعضه بحسب ما يتراضيان عليه حين التفاسخ، فهذا التفارق بالتفاسخ يتوقف على

رضاء الطرفين كسائر العقود ويسمى هذا النوع بالخلع أو المخالعة، وإما أن يكون

تفارق الزوجين على صورة الطلاق، وهي أن يترك الرجل حق استباحته الدائمة

للمرأة مع استكمال المرأة كل ما جعل وشرط لها من المال والنقد، فهذا أمر موكول

للزوج إلا إذا شرط في أصل عقد الزواج بينهما أن يكون للمرأة أيضًا حق تطليق

نفسها من الزوج، فيراعى هذا الشرط.

وحينئذ متى شاءت طلقت نفسها واستردت تمليك بُضعها الدائم لزوجها بدون

أن يسترد هو شيئًا، أو أن يمتنع عن تأدية ما شرط لها حين العقد، وبذلك تعلم أن

أصول المفارقة بين الزوجين منظور فيها لصورة أصل عقد الازدواج وصورة

نقضه وانفكاكه، وأن ما شرط في أصل العقد مرعي وليس للزوج إلا الرجحانية

على المرأة بأنه إذا لم يشترط في العقد شيء كان أمر الطلاق بيده دونها، وحيث

كان هذا أمرًا معلومًا مشهورًا بين سائر أفراد الملة الإسلامية، فيمكن لكل امرأة أن

تشترط في زواجها أن يكون أمر طلاقها بيدها، فتساوي الرجل في هذا الاستحقاق؛

وإنما كان أكثر النساء لا يشترطن ذلك لعدم الثقة منهن أن يتثبتن كتثبت الرجال

على محافظة بقاء الزوجية؛ لأنهن بمقتضى تركيبهن الطبيعي أقل احتمالاً وتصبرًا

وأشد خفة وطيشًا من الرجال، وأسرع تأثرًا بالغضب لرقة بشرتهن ونقاوة عصبهن،

وكثيرًا ما يستفزهن الغضب من سبب جزئي لإيقاع الطلاق بدون استيجاب السبب

له، فيوقعن الطلاق في حال استيلاء الحدة عليهن، ثم يندمن على ما فرط منهن،

فلو اُشترط الطلاق لهن دائمًا لفشا وقوعه، وكثر توقعه، مع أن كثرة وقوعه بغير

السبب الداعي يستوجب الندامة، وكثرة توقعه مخل بانتظام الراحة والتئام الألفة

الروحية، وهو متوقع من جانبهن أكثر من توقعه من جانب الرجال.

ولذلك كانت الأرجحية للرجل على المرأة في الطلاق بأن الأصل فيه أن يكون

بيده دونها إذا جرى العقد على غير اشتراط شيء، وللمرأة ما يقابل هذه الرجحانية

التي للرجل، وهي كون المهر الذي هو كالثمن يلزم من جانبه لها لا من جانبها له،

وكذلك كل ما يقضي لها من النفقة أسوة أمثالها والمصارف البيتية عائدة عليه دون

أن تكلف هي بأدنى شيء، حتى إن عليها أن يقدم لها الطعام مطبوخًا مهيئًا بدون

أن تتكلف بطبخه، وليس له أن يكلفها بشيء من الخدم الشاقة أو السافلة مع أنه

مكلف بتكبد المشاق في سبيل الكسب لأجل النفقة عليها إلا إن سامحته ببعض نفقتها

أو سايرته بالتزام ما لا يلزمها من بعض خدمتها، وعليه كل نفقة ما يولد لهما من

الأولاد حتى ليس له أن يجبرها على إرضاع ولدها، بل عليه أن يستأجر له

مرضعًا غيرها إذا امتنعت هي عن إرضاعه.

ولا يخفى أن الأرجحية التي أعطيت للمرأة هي الأنسب بضعفها، والأرجحية

التي أعطيت للرجال هي الأنسب بقوة تثبتهم، لا سيما وأنه قد دفع المهر الأول،

ثم يلزمه عند المفارقة دفع المهر المؤخر، فقل أن يسمح الرجل بتضييع هذه

الأموال التي يدفعها في المهر الأول والمهر الثاني بدون سبب ملجئ وداع قوي،

وحيث كان الأصل في نظام الزوجية أن يدفع الرجل للمرأة ما يرضيها من المهر

أسوة أمثالها، وأن يشترط لها عند المفارقة مهرًا ثانيًا كان الأصل في المفارقة التي

تقتضي خسارته في هذه الأموال دونها أن تكون موكولة إليه، ولا يخفى على

المنصف المتبصر مناسبة الأصلين في الجانبين ولياقتهما بحال الطرفين، فلا يقال:

لماذا لم يكن الأصل في الزواج أن يكون المهر من المرأة والرجحانية لها في أمر

المفارقة؟ أو أن يكون بدون مهر ولا رجحانية لأحدهما على الآخر في شأن الطلاق،

بل أي منهما أراد الطلاق أوقعه؛ لأن المرأة إذا ملكت أمر الطلاق كذلك أكثرت

إيقاعه رغمًا عن الزوج، وليس كذلك الرجل، ولذلك لا تكاد ترى من يطلق زوجته

إلا بعد نفورها، وطلبها الطلاق، أو تسببها له، كما أن الرجل بحسب ما فيه من

زيادة الاستعداد الطبيعي للكسب ينبغي أن يكون هو المعيل للمرأة، فلذلك كان عليه

المهر والنفقة.

نعم قد يكون الأنسب بحال الطرفين بالنسبة لبعض الأفراد مخالفة هذا الأصل،

وحينئذ يمكن الجري على خلافه بواسطة الاشتراط؛ وإنما كان هذا الأصل بالنظر

لما هو الأصلح بالنسبة لحال الأكثر، ثم إن من لم تشترط الطلاق لنفسها، ولا

يمكنها مفارقة زوجها عن أمرها إذا ظلمها حقها بعدم إيفاء ما يترتب عليه لها، أو

كلفها فوق ما يترتب له عليها ترفع أمرها للحاكم، فينهى الزوج، فإن لم ينته يجبره

على طلاقها، أو يفرق بينهما مع تغريم الرجل كل ما أعطاه وشرطه لها حين العقد،

فيكون حكمها كحكم من اشترطت الطلاق لنفسها فلا يتمكن الرجل من ظلم المرأة،

ولا المرأة من ظلم الرجل ولا يجبران على ضيم بكل حال، ثم إنهما مهما تفارقا

فلهما أن يتلافيا ما فرط منهما ويتراجعا اهـ. بالحرف.

(المنار)

نشرنا المقالة بحروفها على ما فيها من الخطأ اللغوي لما هي عليه من الصواب

والسداد في المعنى والإبانة عن محاسن الحنيفية السمحة. لله در كاتبها الفاضل، وقد

كنا نتذاكر في مسألة الطلاق مع صاحب الدولة رياض باشا فقال: زاد علينا الإفرنج

المنتقدون في التوسع بالطلاق؛ حتى قرروا أخيرًا أن يستقل به كل من الرجل والمرأة

بعدما كان مشروطًا عندهم باتفاقهما.

_________

(1)

المقالة لأحد علماء حلب وجاءت في رسالة مكاتب المؤيد في الآستانة العلية.

ص: 127

الكاتب: كمال الدين المرغناني

‌الفقه الإسلامي

كتب بعض الشيوخ من أهل العلم الواقفين على أحوال العصر المتألمين من

تأخر المسلمين وضعفهم مكتوبًا مطولاً إلى صديق له في القاهرة ينتقد فيه كتب العلم

الإسلامية كلها، ويبرِّئ الدين من الفنون المنسوبة إليه كالكلام وأصول الفقه وفروعه،

ويقول: إنها كلها علوم ضارة ذهبت ببساطة الدين وسهولته، وشغلت عن علوم

الدنيا التي تعطي أصحابها القوة والعزة. فكتب إليه صديقه وهو من الكتاب الفضلاء

الباحثين في الشؤون الإسلامية مكتوبًا رد فيه بعض ما جاء في المكتوب، وسلَّم

بالبعض، فأحببنا أن يطلع علماؤنا لا سيما أهل الأزهر الشريف على بعض ما يدور

بين نبهاء المسلمين من البحث؛ ليعلموا بالإجمال أن صراخنا ونداءنا إياهم طالبين

إصلاح كتب التعليم وطريقته في غاية الاعتدال، فاخترنا الجواب؛ لأن صاحبه لم

يغلُ فيه غُلوّ الأول في الإنكار، وإن كان لا يخلو مما ينكره عليه الفقهاء وها هو

بحروفه:

كتابك أيها الفاضل ينبئ عن توغل الفكر في مرامي بعيدة مدى الغاية، وما

استخرجه من الحقائق من خبايا التاريخ أمور يوافقك على بعضها أخوك، وبعضها

نظريات تحتاج إلى دقيق تأمل ويضيق عن الإلمام بأطراف المناقشة فيها هذا الكتاب،

فأرى إرجاءها إلى فرصة الاجتماع - إذا تيسّر - أَوْلى.

وإنما هناك مسألة أحب أن لا يفوتني الآن النظر فيها رغبة في تعديل ما في

نفسك من جهتها وإيقافًا لك على فكري الصراح فيها، عسانا نجمع طرفي الرأي

إلى دائرة واحدة نتلاقى فيها عند نقطة الحقيقة التي لا خلاف فيها.

ذهبت إلى أن علم الفروع إنما هو مجموع قوانين وضعها البلخية والكرخية

إلخ من سميت، وأن هذه القوانين ليست من علوم الدين، وربما حملتها على محمل ما

سردت من العلوم التي رأيتها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، وأرى في هذا مغالاة

في الفكر فيها نظر يظهر لك ظهورًا جليًّا فيما يلي:

أنا أعتقد وأنت تعتقد أن لا بد لكل أمة قذفت بنفسها إلى مضمار الحياة من

قانون جامع لجزئيات الحوادث تحفظ به نظامها، وتمهد سبل الترقي لمجتمعها،

والإسلام وإن جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية والحياة الاجتماعية، إلا أن ما

جاء به إنما هو قواعد كلية، وليس من شأنه وشأن الأديان عامة أن تحيط

بالجزئيات التي لا تتناهى في جانب الترقي والاجتماع؛ وإنما كانت الإحاطة

بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل من الأمة؛ في وضعها عند الحاجة،

وإرجاعها إلى تلك القواعد والأصول على طرق معروفة اصطلح عليها علماء

الأصول من المسلمين، وقد فعل علماؤنا ما يجب عليهم من هذا القبيل وأحاطوا

بكثير من الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم منها من تحديد

بعض العقوبات، وترتيب المحاكمات، والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق

الشخصية تفريقًا يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة خصمًا

وحكمًا فيها في آن واحد، ولهذا أسباب كثيرة لا يسهل بيانها إلا بعد معاناة صعوبة

الاستقصاء، وليس هذا محله.

هذا والحق أولى أن يقال ويتبع، ومثلك أيها الصديق مَنِ انقاد للحق وظَاهَرَ

أهله؛ فإن علماءنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين يكاد

لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها، إلا أنه مشوش بكثرة ما

اختلفوا فيه حتى على المسألة الواحدة، ومنشأ هذا على ما أرى انفراد الآحاد

بالتشريع [1] حتى من المخرجين والمرجحين، بحيث يجوز الواحد منهم ما يمنعه

الآخر وبالعكس، وسببه التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى

يتناولها من شاء، ومن ليس بمعصوم من الأفراد، وهي السلطة العظيمة التي لم

تسلمها أمة متمدنة قبل المسلمين للآحاد منفردين قط؛ وإنما كانت تُسَلَّم إلى ثقات كل

أمة مجتمعين لا منفردين.

لو فهم المسلمون منذ استفحل أمرهم وعظمت للقوانين الجامعة لفروع

الحوادث حاجتهم معنى ما يسمى عند علمائهم الإجماع، وأن من قواعد دينهم الكلية

التكافل العام على مصالحهم العامة، وأن كل مصالحهم في الحقيقة إنما هي مرتبطة

بأُسّ المصالح وحياة الوجود ألا وهو القانون الكافل لراحة الجميع وسعادتهم -

لاستفادوا من هذا إلى الآن فوائد لا يستقصيها العقل، ولما تركوا أمر القوانين

فوضى لا يعتمد فيه إلا على قال فلان وأفتى بخلافه فلان، بل لكانوا عهدوا بتفريع

الأحكام واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس

الحاجة في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان.

ولكن لمّا لم يفهموا هذه القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين؛ هل

يجوز تركهم هملاً؟ كلا لا يجوز. إذن فوضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع الذي

ذهبت إلى أنه مجموع قوانين وضعها فلان وفلان لازم، وهم المتفضلون ودهماء

المسلمين هم الملومون.

ولا يخفى على فهمك أن تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد ليس فيه من

حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما شاء من

الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك، وهو الأحوط أيضًا في الدين

والدنيا، والفرق بين ما يضعه الواحد وبين ما يضعه الجمع عظيم جدًّا لا يخفى

على بصير؛ إذ إن ما يشعر به الواحد في نفسه من الحاجة أو يبلغه من العلم قد

يشعر الآخر بخلافه أو يحيط بما لا يحيط به ذاك، ولا تتمحص حقيقة الحاجة

العامة إلا باشتراك جماعة عظيمة بمثل هذا الشعور، واحتكاك الأفكار بطول

التجارب لهذا، ولكي يعلِّمنا الله سبحانه وتعالى فائدة تبادل الفكر وأصول الشورى

خصوصًا في المصالح العامة - أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باستشارة

أصحابه بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) أي: في

الشأن، وهذا أمر، والأصل فيه الوجوب كما قرره الأصوليون، ويتلو هذا في مرتبة

التعليم حديث التأبير المشهور وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبروا فأنتم

أدرى بأمر دنياكم) .

من هذا نعلم الفرق بين ما تمحصه العقول من الأمور ذات الشأن فلا تصدر

إلا عن علم الجميع بمصلحتهم عامة، وعلم كل فرد بمصلحته المستمدة من تلك

خاصة، فما بالك به في التشريع خصوصًا، وأن الإجماع فيه يدعو إلى ارتباط

الأحكام برباط الاتفاق عليها من جمهور المتشرعين، والعمل بها عند سائر الناس،

ويندفع بهذا خطر الفوضى القانونية التي يتخبط فيها المسلمون منذ أجيال كثيرة؛

لكثرة الخلاف بين الأئمة والمخرجين من علماء كل مذهب على مسائل المعاملات،

فضلاً عن العبادات، وما أراني إلا معترفًا لك بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام

المعاملات بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت، وباضطراب

اعتقادك بفوائدها نوهت.

وأما ما قلته من أن علم الفروع ليس من علوم الدين، وإنما هو مجموع

قوانين وضعها المتقدمون، فليس ذلك كذلك، بل رأيي فيه أنه من علوم الدين

باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه داخل تحت

حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث حدثت بعد

للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين.

والذي أراه أن إطلاق علم الدين على الفروع لازم من لوازم البقاء والاستمرار

لأحكام الإسلام، وباعث على احترام هذا العلم احترامًا ينفع المسلمين كما ينفع كل

أمة تحترم الشرائع والقوانين، وإذا حملته على محمل ما ذكرته من العلوم من حيث

كونك تراها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، فيكفي في تعديل فكرك من هذا

القبيل إمعان نظرك فيما سبق بسطه لديك لتعلم - وأنت أعلم به - مني أن مسوغ

الاجتهاد الذي هو تشريع في الفروع ميسور لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة

الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من العصور، ومنه يتضح لديك تيسر جعل

الفروع موافقة لحالة كل زمان ومكان إذا نهض أهل العلم والفضل للنظر في هذا

الأمر، وشرعوا بوضع كتب خاصة بأحكام المعاملات يتفق على اعتبارها دستورًا

للعمل جمهور أهل المذاهب، وهذا وإن كان يتوقف على ما يسمونه التلفيق إلا أنه

لا يمنع من التوفيق؛ لأن التلفيق جائز عند فقهائنا في العبادات فما بالك به في

المعاملات.

لا جرم أن علماءنا في هذا بين أمرين كلاهما لا يمنع من تحرير علم الفروع

وجعله صالحًا لحالة الزمان والمكان؛ وذلك أنهم إما أن يعتبروا أن كل ما حرَّره

الأئمة وقرروه هو من الدين الذي هو حق لا ريب فيه، فيلزمهم في هذه الحالة

التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة

لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب خاص ليس فيه أدنى شائبة من

مثارات الخلاف؛ ليكون أشبه بقانون عام شامل لسائر حاجات الاجتماع يعمل به

المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما حرره الأئمة من الدين، بل

يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة اختلافهم في الأحكام منعًا

وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال يجوز لهم الاجتهاد كما

جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا في العصر مراعى

فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع فيها الآن من ضروريات

الحياة الاجتماعية، وعليها بُني ترقي الحكومات والأمم الغربية ترقيًا لم تكن تحلم

به الأمم من قبل، لا سيما وأن الذي جوَّز للسلف التوسع في الأمور السياسية عندما

مست الحاجة إليها حتى وضعوا لها كتبًا خاصة مستندة إلى أصول الشريعة كالأحكام

السلطانية والخراج وغيرها، يجوز للخلف التوسع فيما تمس إليه الحاجة الآن

وتقتضي التوسع فيه حالة الزمان.

على أن الشعور بالحاجة إلى إصلاح أمر القوانين الاجتماعية عند المسلمين قد

دب في العقلاء دبيب البرء في الأطراف، ولا بد أن يعم سائر الجسم، فنرجو الله

سبحانه وتعالى أن ينبه علماءنا الكرام إلى تلافي أمر هذه الحاجة صونًا لعلم الفروع

من أن يُهْجَر، وحرصًا على علوم الشريعة من أن تصبح العناية بها أقل من العناية

بالقوانين الوضعية التي ألجأت الحاجة بعض الحكومات الإسلامية إلى استعمالها

دون القوانين الأساسية، ويراها بعضهم أجمع لحاجات الاجتماع، وهي وإن لم تكن

كذلك ألبتة إلا أنها بسلامتها من مثارات الاختلاف وتقيد الحاكم والمحكوم بقيود

خاصة منها لا تترك مجالاً للرأي، ومكانًا للقيل والقال - قد جعلت الرغبة إليها أميل

والطريق إلى انتظام الشؤون العامة بها أسد.

هذا فكري في النقطة التي اخترت أن أتجاذب وإياك أطراف البحث فيها الآن،

وقد رأيت ما احتاج إليه النظر فيها من التطويل الممل، فلو تناول البحث سائر ما

في كتابك لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير، فالله نسأل أن يوفقنا وإياك لخدمة الأمة

والدين ويجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم آمين.

(المنار) :

إن كثرة الخلاف في الفقه، والاضطراب في التصحيح والترجيح المؤدي إلى

الاختلاف في الفتوى والقضاء، وما في هذا من الضرر واختلال المصالح، ثم ما

في كتب الفقه من الصعوبة في الترتيب والتبويب، كل ذلك أشعر المسلمين من

زمن بعيد إلى الحاجة إلى إصلاح كتب الفقه ووضع كتاب، أو كتب في الأقوال

السديدة التي تنطبق على مصلحة الأمة في هذا العصر على وجه قريب التناول

سهل الفهم، ثم قوي الفكر في الإصلاح حتى انتهى إلى القول بأن كتب الفقه التي

بين أيدينا مضرة، وأن أكثر ما فيها من مخترعات عقول الناس الذين أكثرهم من

الأعاجم، كما جاء في كتاب الشيخ المردود عليه بهذا الجواب.

وأكثر المعتدلين في الشرق والغرب على الوجه الأول، وقد كتب إلينا بعض

الفضلاء في الجزائر من مدة بما يأتي:

رأيت مقالة تناسب مشرب مجلتكم المفيدة، فأحببت أن أبعث بها إليكم

لتدرجوها فيها إن شئتم بعد تمهيد ترتبط به:

في الجزء الثاني صفحة 24 من رحلة العلامة الشهير المرحوم الشيخ أبي

سالم عبد الله العياشي المسماة بماء الموائد المطبوعة في حاضرة فاس أواسط جمادى

الثانية عام 1316 ما نصه:

(إني كنت أود لو أن الله قيض لهذه الأمة من يجمع أربعة من محققي علماء

كل مذهب من هذه المذاهب الأربعة الموجودة، ويختار لكل واحد جماعة من أهل

مذهبه يستعين بهم في المطالعة وتحقيق ما يشكل عليه من فروع الديانات، فيأمر

الأربعة بالاجتماع في محل واحد في وقت مخصوص من ليل أو نهار بقصد تأليف

ديوان في فروع الفقه، ويتخذ لهم كُتَّابًا مهرة يستعينون بهم، ويجري على الجميع من

الجرايات ما يكون سببًا لفراغ بالهم لما هم بصدده، وبعد مراجعة كل واحد منهم مع

أصحابه ما يحتاج إليه من كتب مذهبه في المحل الذي يؤلفون فيه - يجتمعون،

فيتتبعون فروع الديانات الجزئيات من أول مسألة مدونة في الفقه على قدر طاقتهم

إلى آخرها، فيذكر كل واحد مشهور مذهبه في كل نازلة، فإذا علموا مشهور

المذاهب في كل مسألة مسألة نظر من تصدى للكتابة والتأليف عندهم إلى المسائل

المتفق عليها بينهم، فأثبتها ولا يحكي شيئًا من الخلاف فيها، ثم المسائل المختلف

فيها يقتصر فيها على قول ثلاثة منهم إن اجتمعوا، ويحذف قول الرابع، ثم إن قال

اثنان بقول واثنان بقول جعلها ذات قولين مشهورين، ثم إن تباينت آراؤهم في

النازلة وهو قليل حكاها بلا تشهير، وتكون مسألة خلاف ويقدم ما كان منها مستندًا

إلى كتاب، ثم ما استند إلى سنة، ثم ما استند إلى أثر صحابي قوي، ثم ما أخذ من

الاجتهاد، فإذا أُلِّف الديوان على هذا الوصف، وحمل الناس على اتِّباعه - كان أقرب

لضبط الانتشار الواقع الآن، وكثرة الخلاف الواقع بين أهل المذاهب والتعصبات

الفاحشة المؤدية إلى تضليل بعضهم بعضًا

إلخ، انتهى ما تعلق بنقله الغرض

بنصه وفصه.

...

...

...

... كمال الدين المرغناني

من الجزائر في 23 من شوال سنة 1318

(المنار)

أما رأينا في الفقه فموافق لما جاء في المحاورة بين المصلح والمقلد، وقد

ضاق عنها هذا الجزء وما قبله، وستُنشر في الجزء الآتي إن شاء الله.

_________

(1)

حيثما جاء التشريع هنا فالمراد به التفريع فاحترس.

ص: 132

الكاتب: محمد رشيد رضا

(الدرس 19)

الحاجة إلى الوحي والنبوة

بيَّنا وجه حاجة الإنسان إلى الوحي لسعادته في الحياة الدنيا، من حيث إنه

نوع اجتماعي أودع في طبيعة أفراده من الرغائب والحظوظ ما يقتضي التباين

والتنازع، كما أُودِع فيها من حب الاجتماع والعجز عن تحصيل معظم ما تطالبها به

الفطرة ما يدعو إلى التعاون، الذي يعارضه التخالف والتغابن، ولا يتم للنوع

ارتقاؤه - بل ولا بقاؤه - مع هذه الغرائز المتعارضة؛ فمن ثَمَّ كان محتاجًا إلى إرشاد

يوافق بين آثار هذه الغرائز وعوارضها، بما يذهب بتعارضها، ويعرف كل فرد من

الأفراد حدّه، ويجعل له من نفسه وازعًا يوقفه عنده، ولم تكمل له هذه الحاجة إلا

بالدين.

ويرد على هذا القول ثلاث شبهات إحداها: أن الإنسان لا يتربى إلا بالكون وما

يعرض عليه من شؤونه وأطواره، فالذي تثبت له الوقائع الكونية أنه ضار يرغب

عنه ويجتنبه، والذي تثبت له أنه نافع يرغب فيه ويجتلبه، ولذلك لم تنتفع الأمم

والشعوب بهدي الأديان، إلا بمقدار ما أعدتها له الأكوان، وقد أجبنا عن هذه الشبهة

في الدرس السابق من غير أن نقررها، ولم يكن الجواب ناقضًا لمسألة الاستعداد، فقد

ورد أن الأنبياء أُمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وما منح الله تعالى الإنسان

الدين إلا بعدما ارتقى استعداده لفهمه {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ

وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213)

إلخ.

وقد ارتقى هدي الدين وإرشاده بارتقاء الإنسان حتى كمل بالإسلام على ما

بينه أستاذنا الأكبر في رسالته، وسيرتقي أهله وهم العالم الإنساني كله بالنسبة إلى

الدعوة حتى يفهموه حق فهمه، وذلك بعدما ترتقي علوم الفطرة والطبيعة أكمل

ارتقاء كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ

الحَقُّ} (فصلت: 53) .

الشبهة الثانية: هي أن الحكماء والعقلاء يمكنهم أن يضعوا للناس قوانين

وحدودًا تغنيهم عن الوحي والشرائع السماوية، والجواب عنها أنه إذا فرض أن في

استطاعة الحكماء أن يستقلوا بهذا الوضع، فهل في استطاعتهم أن يحملوا الناس

جميعًا على قبوله والعمل به بغير وازع الدين؟ فإن قيل: إن الحكماء يضعون

القوانين والحكام يلزمون الناس بالعمل بها؛ نقول:

لا ترجع الأنفس عن غيها

ما لم يكن منها لها زاجر

والوازع الدين وازع نفسي؛ لأن مبدأ الدين من الإلهامات الفطرية في نفوس

البشر، وأما وازع القوة فلا سلطان له إلا على الظواهر، فمتى أمن أهل البغي

والتعدي من اطِّلاع الحاكمين يرتكبون ما شاء البغي، ويجترحون ما أحبت الشهوة من

التعدي على الأموال والأعراض وراء الحجب والأستار، وحيث لا تمتد أعين

الشهداء ولا تصل معارف القضاة والأمراء، ثم إن القضاة والحكام أنفسهم إذا كانوا

على غير دين ينتهكون الحرمات، ويقترفون السيئات، ويساعدون الجناة ويشاركون

الجباة.

والحاصل أن الإنسان لا يستغني في حياته الاجتماعية عن حدود عادلة يقف

أفراده عندها في معاملتهم ومعاشرتهم، وأن هذه الحدود لا تُحْتَرم ويوقف عندها،

إلا إذا كانت على موافقتها للمصلحة العامة مضافة إلى تلك السلطة الغيبية التي فُطِر

الناس على الاعتقاد بها والخضوع لها، وهذا عين حاجتهم إلى الوحي لسعادة الدنيا،

وقد تقدم المثال العملي في إثبات هذه النظرية في الدرس السابق.

الشبهة الثالثة: لقائل أن يقول: إن أمم أوربا التي تحكم بالقوانين الوضعية،

هي أسعد من الأمة الإسلامية، وإن الحكومات الإسلامية التي أخذت ببعض هذه

القوانين كمصر والدولة العلية أحسن حالاً ممن لم يأخذ بشيء منها كحكومة مراكش.

والجواب يعرف مما كتبناه في الدرس الماضي من المقابلة بين المسلمين في

نشأتهم الأولى، وبين الأوربيين في نهايتهم، مع أنهم لم يمرقوا كلهم من الدين الذي

بني على وجوب طاعة الحكام، وقد صرحنا مرارًا أن المسلمين صاروا حجة على

دينهم، بل قلنا في المقابلة المذكورة: إنهم حجة من لا دين له على كل دين.

(المسألة 56) :

الحاجة إلى الوحي لسعادة الآخرة: خلق الله للإنسان حواس ومشاعر،

ووهبه عقلاً وفكرًا يهتدي به إلى مصالحه ومنافعه في الدنيا كما قال: {أَعْطَى كُلَّ

شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) وعلمنا أن هذه المواهب لم تكن كافية له

لسعادته الدنيوية، لولا الدين؛ فما بالك بحياته الأخرى الغيبية التي يقصر عن

تناولها حسه، ولا يحيط بشيء من كنهها عقله، وإنما يشعر بها وجدانه شعورًا

مجملاً مبهمًا؟ وقد بيَّن أستاذنا في (رسالة التوحيد) هذا الشعور أحسن

بيان، واستنتج منه وجه الحاجة إلى الوحي بأجلى برهان، والأفضل أن نقتبسه

بلفظه ومعناه؛ لئلا يضيع شيء من فحواه، قال حفظه الله:

اتفقت كلمة البشر موحدين ووثنيين مليين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم وزن

على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء،

وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في

تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق

الاستدلال عليه؛ فمِن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومِن

ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال:

إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذتها، أو ما به

شقوتها. ومنهم من رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية،

وكان اختلاف المذاهب في كنه السعادة والشقاء الأخرويين وفيما هو متاع الحياة

الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم، وتضارب آراء الأمم

فيه قديمًا وحديثًا مما لا تكاد تحصى وجوهه.

هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة المنبث في جميع الأنفس عالمها

وجاهلها، وحشيها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن

يكون ضلة عقلية أو نزغة وهمية؛ وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا

النوع، فكما أُلْهِم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا، وإن

شذ أفراد منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى

أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا أن لا

وجود للعالم إلا في اختراع الخيال، وأنهم شاكون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن

شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما

ركن الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول، وأشعرت

النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان

ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقيًا في طور آخر،

وإن لم يدرك كنهه، ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء يُشْعِر كل نفس أنها

مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة شيقة إلى لذائذ غير

محدودة، ولا واقفة عند غاية مهيئة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب

والغايات، معرضة لآلام من الشهوات، ونزعات الأهواء، ونزوات الأمراض على

الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عد

ولا تنتهي عند حد، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع إنما

قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل الجزاف،

فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن

يكون بقاؤه قاصرًا على أيام أو سنين معدودات.

شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي وما عسى أن تكون عليه

متى وصلت إليه، وكيف الاهتداء وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز الدليل؟

شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم يكفنا

في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد وقضاء

الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان،

وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب لا ندري

متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة لا نعلم متى ننتهي إليها.

هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم

بما في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد معالم نهتدي بها إلى الغائب؟

وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها،

وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها؛ ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما

أعد له فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه أو إلى

معرفة بيد من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى

اليقين بمناطها من الاعتقادات والأعمال وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في

غاية الغموض بالنسبة إليك؟ كلا، فإن الصلة بين العالمين تكون منقطعةً إلا فيك

أنت، فالنظر في المعلومات الحاضرة، لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم

المستقبلة.

أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد

والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب

للتراسل، أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدلها بمحض فضله بعض

من يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ

بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون

سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته

وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه،

ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين نهاية الشاهد، وبداية الغائب،

فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها،

ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته

الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قُدِّر أن يكون له مدخل في سعادتهم

الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه

بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة

تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم ما هو مناط سعادتهم

وشقائهم في ذلك الكون المُغَيَّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق

ضمائرهم في إجماله، وتدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة

وباطنة، ثم تؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات حتى تقوم بهم الحجة ويتم

الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين؟

لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد

على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرًا ولا جليلاً من خلقه

يكونون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام

المواهب التي اختص بها غيره أن ينقذه من حيرته ويخلصه من التخبط في أهم

حياتيه، والضلال في أفضل حاليه.

يقول قائل: ولِم لمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها

الانقياد إلى العمل وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا

النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل

والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنساني، ذلك النوع على ما به وما دخل

في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب

الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه، وأن

يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات

لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيوانًا آخر كالنحل والنمل، أو ملكًا من الملائكة

ليس من سكان هذه الأرض) اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 140

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العشق وحرية العرب

دخل يزيد بن معاوية على أبيه في أيام حكمه مستأذنًا بقتل أبي دَهْبَل وهب بن

زمعة الجمحي؛ لأنه أكثر التغزل في أخته عاتكة، واشتهر بعشقها، وسارت

بأشعاره الركبان، وتغنى بها الناس، فقال معاوية: وماذا قال؟ فأنشده يزيد أبياتًا من

قصيدة أبي دهبل النونية وهي:

طال ليلي وبت كالمجنون

ومللت الثواء في جيرون

وأطلت المقام بالشام حتى

ظن أهلي مرجمات الظنون

فبكت خشيت التفرق جُمْل

كبكاء القرين إثر القرين

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ

اص ميزت من جوهر مكنون

وإذا ما نسبتها لم تجدها

في سناء من المكارم دون

فلما أنشد هذا البيت وما قبله، قال له معاوية في إثر كل واحد منهما: هي كذلك

يا بني، ولقد صدق. فلما أنشد:

ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ

راء تمشي في مرمر مسنون

قال معاوية: كذب في هذه يا بني. وبعد البيت:

قبة من مراجل ضربوها

عند برد الشتاء في قيطون

عن يساري إذا دخلت من البا

ب وإن كنت خارجًا عن يميني

ولقد قلت إذ تطاول سقمي

وتقلبت ليلتي في فنون

ليت شعري أمن هوى طار نومي

أم براني الباري قصير الجفون

وهذا البيت من الحسن بالمكان الذي تراه.

وعزم معاوية أن يكلم أبا دهبل في الأمر، فتربص به حلمه حتى إذا كان في

يوم جمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل، فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل

الخروج فامنعه واردده إلي، وجعل الناس يسلمون وينصرفون، فقام أبو دهبل

ينصرف، فناداه معاوية: يا أبا دهبل إلي. فلما دنا إليه أجلسه حتى خلا به، ثم قال

له: ما كنت ظننت أن في قريش أشعر منك حيث تقول: (ولقد قلت إذ تطاول

سقمي) إلى آخر البيتين، غير أنك قلت: هي (زهراء) - البيت والذي بعده -،

والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت، وأي

شيء زدت في قدرها؟ ولقد أسأت في قولك: (ثم خاصرتها) البيت. فقال: والله يا

أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قيل على لساني. فقال له معاوية: أما من جهتي فلا

خوف عليك؛ لأنني أعلم صيانة ابنتي نفسها، وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن

يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه، وكل من لم يجز، وإنما أكره لك جوار

يزيد، وأخاف عليك وثباته، فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك. فحذر أبو دهبل

وخرج إلى مكة. ويقال: إن معاوية أراد ذلك لتنقضي المقالة عن ابنته.

أما سبب عشق أبي دهبل لعاتكة فقد روي فيه أنها لما حجت نزلت من مكة

بذي طوى، فبينما هي ذات يوم جالسة في وقت الهاجرة، وقد اشتد الحر وانقطع

الطريق، أمرت جواريها فرفعت الستر وهي جالسة في مجلسها، وعليها شفوف لها

(ثياب رقيقة) تنظر إلى الطريق، فمر أبو دهبل فوقف طويلاً ينظر إليها، ويمتع

نظره بمحاسنها وهي غافلة عنه، فلما فطنت له شتمته، وأمرت بإرخاء الستر،

فقال:

إني دعاني الحين فاقتادني

حتى رأيت الظبي بالباب

يا حسنه إذا سبني مدبرًا

مستترًا عني بجلباب

سبحان من وقفها حسرة

صبَّت على القلب بأوصاب

يذود عني إن تطلبتها

أب لها ليس بوهاب

أحلها قصرًا منيع الذُّرى

يُحمى بأبواب وحجاب

ثم أنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه، فشاعت بمكة وتناشدها الناس،

وغنى بها المغنون، وسمعتها عاتكة إنشادًا وغناءً، فضحكت وأعجبتها، وبعثت إليه

بكسوة، وجرت الرسل بينهما، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام، فكان

ينزل قريبًا منها، وكانت تتعاهده بالبر واللطف حتى وردت دمشق وورد معها،

فانقطعت عن لقائه في بيت الإمارة والملك، ولم يعد يراها، فمرض مرضًا طويلاً

وأنشد القصيدة النونية المذكورة آنفًا.

ولما عاد إلى مكة خوفًا من يزيد كان يكاتب عاتكة، وبينما معاوية ذات يوم

في مجلسه؛ إذ جاءه خصي له، فقال: يا أمير المؤمنين لقد سقط إلى عاتكة اليوم

كتاب فلما قرأته بكت، ثم أخذته فوضعته تحت مصلاها وما زالت خائرة النفس منذ

اليوم.فقال له: اذهب فالطف بها حتى تحتال على أخذ الكتاب. ففعل الخصي وأتى

بالكتاب وإذا فيه:

أعاتك هلا إذا بخلت فلا تَرَيْ

لذي صبوة زلفى لديك ولا يُرقى

رردت فؤادًا قد تولى به الهوى

وسكنت عينًا لا تملُّ ولا ترقا

ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى

ولم أر يومًا منك جودًا ولا صدقا

أتنسين أيامي بربعك مدنفًا

صريعًا بأرض الشام ذا جسد ملقى

وليس صديقي يرتضى لوصية

وأدعو لدائي بالشراب فما أسقى

وأكبر همي أن أرى لك مرسلاً

فطول نهاري جالس أرقب الطرقا

فوا كبدي إذ ليس لي منك مجلس

فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى

رأيتك تزدادين للصب غلظة

ويزداد قلبي كل يوم لكم عشقا

فلما قرأه معاوية بعث إلى ابنه يزيد، فأتى ووجده مطرقًا فقال له: ما هذا

الأمر؟ فقال: أمر أقلقني وأمضني وما أدري ما أعمل في شأنه. قال: وما هو؟

قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهذه الأبيات إلى أختك عاتكة، فلم تزل باكية فما

ترى فيه؟ قال: الأمر هين، عبد من عبيدك يكمن له في أزقة مكة فيريحنا منه.

فقال معاوية: أفٍ لك، والله إن تقتل رجلاً من قريش هذا حاله صدَّق الناس قوله،

وجعلونا أحدوثة أبدًا. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إنه قال قصيدة أخرى تناشدها

أهل مكة وسارت حتى بلغتني وأوجعتني وحملتني على ما أشرت به. فقال:

ما هي؟ فأنشد:

ألا لا تقل مهلاً فقد ذهب المهل

وما كان من يَلْحى محبًّا له عقل

لقد كان في حولين حالا ولم أزر

هواي وإن خُوِّفْتُ عن حبها شغل

حمى الملك الجبار عني لقاءها

فمن دونها تخشى المتالف والقتل

فلا خير في حب يخاف وباله

ولا في حبيب لا يكون له وصل

فوا كبدي إني اشتهرت بحبها

ولم يك فيما بيننا ساعة بذل

ويا عجبًا أني أكاتم حبها

وقد شاع حتى قطعت دونها السبل

فقال معاوية: قد والله رفهت عني؛ لأني أرى أنه يشكو عدم الوصل فالخطب

فيه يسير، قم عني. فقام يزيد، وحج معاوية في تلك السنة، ولما انقضت أيام الحج

كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعراءهم وكتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم

ففرق الصِّلات الجزيلة، فلما قبض أبو دهبل صلته وقام ينصرف، دعا به معاوية،

فرجع إليه فقال له: يا أبا دهبل، ما لي رأيت يزيد ساخطًا عليك في قواريض تأتيه

عنك، وشعر لا تزال تنطق به، وأنفذته إلى أخصامنا وموالينا؟ فطفق أبو دهبل

يعتذر ويحلف أنه مكذوب عليه، فقال له معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك

عندنا فهل تأهلت؟ قال: لا. قال: فأي بنات عمك أحب إليك؟ قال: فلانة. قال:

زوجتكها وأصدقتها ألفي دينار، وأمرت لك بألف دينار أخرى. فلما قبضها، قال:

إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو لي عما مضى، فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق

مني فقد أبحت به دمي، وفلانة التي زوجتنيها طالق ألبتة. فسُرَّ معاوية بذلك،

وضمن له رضا يزيد عنه ووعده بإدرار ما وصله به في كل سنة، وانصرف إلى

دمشق، قالوا: ولم يحج معاوية في تلك السنة إلا لأجل ذلك.

(المنار)

في القصة فوائد لمن يتأمل ويستفيد منها حرية العرب، وتساهلهم في العشق

وغيره مع أولادهم وغير أولادهم، وفي لوازمه ما لم ينتهك العرض وتُلْمَس العفة

وتبتذل الصيانة على أن العشق والعفة لا ينفكان في قرن كما سنبينه، ألم تر إلى

معاوية كيف أجاب يزيد حين قال له: إن أبا دهبل يقول في ابنتك:

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ

اص ميزت من جوهر مكنون

بقوله: لقد صدق يا بني إنها لكذلك. ثم لما قال له: إنه قال: (ثم خاصرتها)

البيت: قال لقد كذب. ألم تر أنه لم يعاتب ابنته، ولم ينصحها؛ لأنه يعلم أن العشق

طور من أطوار النفس يغري به العذل والتثريب، ولا ينجع فيه الوعظ والتأديب؟

ألم تر أنه قال لأبي دهبل: (أما من جهتي فلا خوف عليك؛ لأني أعلم صيانة

ابنتي نفسها وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن يقولوا النسيب)

إلخ.

ومنها الطريقة المثلى في تربية الفتيان والفتيات في طور العشق والحب، إذا

علم الجاهل الأخرق أن ولده عشق وساءه ذلك وخشي مغبته يبادر إلى إطفاء لوعته

باللوم والتعنيف، والعذل والتوبيخ، وذم المحبوب، وانتحال المثالب والعيوب،

وما هذا اللوم إلا عين الإغراء، وما ذلك الإطفاء إلا إضرام وإذكاء.

كالذي طأطأ الشهاب ليطفى

وهو أدنى له إلى التضريم

والعليم الحليم يبادر إلى قطع الصلات، وإبطال المعاملات، بخفي العمل،

ولطائف الحيل، كما فعل معاوية في إخراج أبي دهبل من الشام أولاً، ثم في

تزويجه وإكرامه بحيث ألجأه إلى أن يعطي العهد من نفسه على ترك التشبيب

بعاتكة، ويؤيد ذلك بإبانة زوجه وإباحة دمه من غير أن تعلم عاتكة بذلك.

ومنها: الفرق بين حلم معاوية، وسفه يزيد وميله إلى الظلم وسفك الدم،

وكيف صده أبوه عن اغتيال أبي دهبل بقوله: إن في ذلك إثباتًا للتهمة واشتهارًا

بالفضيحة، ولم يأته من قبل الدين وحرمة الدماء المعصومة، والظاهر أنه كان يعلم

أن ما قاله له هو الذي يؤثر فيه.

ومنها: الحرية العامة عند العرب يومئذ، فقد كانوا يتغنون بشعر يشبب فيه

ببنت أمير المؤمنين من غير مؤاخذة ولا نكير، ولا توقع مؤاخذة، ولا خوف

عقوبة.

ومن وجوه الاعتبار: الفرق بين عظمة الملوك وتجبرهم اليوم، وبساطتهم

يومئذ.

***

العشق والعفة

العشق - كما قلنا - حليف العفة وقرينها، وحب الفساد المقلوب لا يسمى

عشقًا، وقد كان أبو دهبل عفيفًا نزيهًا، وعاتكة أعف وأنزه، روي أنه خرج يريد

الغزو فلما كان بجيرون جاءته امرأة، فأعطته كتابًا فقالت له: اقرأ لي هذا الكتاب.

فقرأه لها ثم ذهبت فدخلت قصرًا، ثم خرجت إليه فقالت: لو تبلغت القصر فقرأت

الكتاب على امرأة كان لك فيه أجر إن شاء الله؛ فإنه من غائب لها يعنيها أمره. فبلغ

معها القصر، فلما دخلا إذا فيه جوارٍ كثيرة فأغلقن عليه القصر، وإذا فيه امرأة

وضيئة، فراودته عن نفسه، فأبى فأمرت به فحبس في بيت من القصر، وكان يُطعم

ويُسقى قليلاً حتى ضعف وكاد يموت، ثم دعته إلى نفسها، فقال: لا يكون ذلك أبدًا؛

ولكني أتزوجك. قالت: نعم. فتزوجها، فأمرت به فأحسن إليه حتى رجعت إليه

نفسه، فأقام معها زمانًا طويلاً لا تدعه يخرج، حتى يئس منه أهله وولده، وتزوج

بنوه وبناته، وتقاسموا ماله، وأقامت زوجه تبكي عليه حتى عمشت ولم تقاسمهم

ماله، ثم إنه قال لامرأته الجديدة: إنك قد أثمت فيَّ وفي ولدي وأهلي، فأذني لي

أطالعهم وأعود إليك. فأخذت عليه أيمانًا أن لا يقيم إلا سنة حتى يعود إليها، فخرج

من عندها بمال كثير حتى قدم على أهله، فرأى حال زوجه وما صار إليه ولده،

وجاء إليه ولده فقال: والله ما بيني وبينكم عمل، أنتم قد ورثتموني وأنا حي، فهو

حظكم، والله لا يشرك زوجي فيما قدمت به أحد، ثم قال لها: شأنك به فهو لك كله.

ولما حان الأجل وأراد الخروج إلى الجديدة جاءه خبر موتها فأقام.

ومن حديث العفة وأخبار أبي دهبل أنه كان يهوى امرأةً جزلةً يجتمع إليها

الرجال للمحادثة وإنشاء الشعر، وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع

إليها، وكانت هي أيضًا محبةً له، وكانت توصيه بحفظ ما بينهما وكتمانه، فضمن

لها ذلك، واتصل الوداد بينهما، فوقفت عليه زوجه وكانت غيورًا عليه، فدست إلى

عمرة امرأة داهية من عجائز قومها، فجاءتها فحادثتها طويلاً، ثم قالت لها في عرض

حديثها: إني لأعجب لك كيف لا تتزوجين بأبي دهبل مع ما بينكما؟ قالت: وأي

شيء يكون بيني وبين أبي دهبل؟ فتضاحكت وقالت: أتسترين عني شيئًا قد تحدثت

به أشراف قريش في مجالسها وسوقة أهل الحجاز في أسواقها، والسقاة في مواردها؟

فما يتدافع اثنان أنه يهواك وتهوينه. فوثبت عمرة عن مجلسها، واحتجبت، ومنعت

كل من كان يجالسها من المصير إليها، وجاء أبو دهبل على عادته فحجبته، وأرسلت

إليه بما كره، فقال في ذلك شعرًا كثيرًا منه:

يلومونني في غير ذنب جنيته

وغيري في الذنب الذي كان ألوم

أَمِنَّا أناسًا كنت تأتمنينهم

فزادوا علينا في الحديث وأوهموا

وقالوا لنا ما لم نقل ثم كثروا

علينا وباحوا بالذي كنت أكتم

ومنها البيت التي يتمثل به وهو:

أليس عجيبًا أن نكون ببلدة

كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلم

ويروى (أليس عظيمًا) ومن شعره اللطيف في ذلك:

تطاول هذا الليل ما يتبلج

وأعيت غواشي عبرتي ما تفرّج

وبت كئيبًا ما أنام كأنما

خلال ضلوعي جمرة تتوهج

فطورًا أمنّي النفس من عَمْرَةَ المنى

وطورًا إذا ما لج بي العشق أنشج

لقد قطع الواشون ما كان بيننا

ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج

أخطط في ظهر الحصير كأنني

أسير يخاف القتل ولهان مفلج

فانظر كيف أن عمرة ما كانت ترى مجلسها معه ومع الأدباء لامسًا للعفة، ولا

ماسًّا بالصيانة، حتى علمت أن الناس يتحدثون بأن الأمر خرج عن المعتاد،

ويرون أن لها شأنًا مع بعض الأفراد، فضربت دون زوارها الحجاب، ومنعت

الهوى أن يدخل عليها من الطاق أو الباب، وكان بنو جمح يزعمون أن أبا دهبل

تزوج بعمرة، ويزعم غيرهم أنه لم يصل إليها، ولم يزن هو ولا هي بكلمة قبيحة.

كان أبو دهبل من سادات بني جمح وأشرافهم، وكان جميلاً ظريفًا وشاعرًا

عفيفًا، وكان يحمل الحمالات ويعطي الفقراء ويُقري الضيوف، ومات في سنة ثلاث

وستين.

_________

ص: 147

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(المرأة في الإسلام)

مجلة علمية تهذيبية تبحث في ترقية شأن المرأة في الإسلام، صدرت في

أوائل شهر ذي الحجة الماضي لمنشئها الفاضل إبراهيم بك رمزي، وهي تصدر

في الشهر مرتين في 16 صفحة كبيرة، وقيمة الاشتراك 30 قرشًا تُدفع سلفًا، وقد

بيَّن في العدد الأول منها المباحث الكلية التي وضعت المجلة لها وهي:

1-

المرأة واستعدادها وحقوقها الشرعية ومكانتها البيتية والاجتماعية.

2-

تدبير المنزل والتربية.

و3- الأخلاق والعادات.

و4- سير شهيرات النساء.

5-

أخبار النساء.

6-

العائلة وتكوينها وحقوق وواجبات أفرادها من زوج وزوجة وآباء وأبناء،

فنسأل الله تعالى أن يوفقه للصواب فيما يكتب وينفع به.

ولا شك أن هذه الحركة المحمودة والعناية بشأن النساء هو أثر من آثار

الصيحة الشديدة، والصاخة القوية التي صدرت من حضرة الفاضل قاسم بك أمين،

ولو أنه خاطب الناس بما يعرفون ويألفون لما أحدث أثرًا ولا حرك قلمًا ولا فكرًا

وحركة الفكر تتقدم العمل دائمًا، وهو الذي يُظهر للناس النافع والضار، وبه تتم

السعادة، ويبلغ الإنسان مراده.

***

(مجلة المجلات العربية)

صدر العدد الأول من مجلة بهذا الاسم شهرية علمية صناعية أدبية سياسية

ذات 24 صفحة، لصاحبها الهمام محمود بك نسيب، وقيمة الاشتراك فيها سبعون

قرشًا أميريًّا في السنة، وقد صدر منها العدد الأول مزينًا برسم سمو الخديو المعظم،

وفي الأخبار السياسية رسم ولي عهد مملكة الإنجليز، وذكر الاحتفال به في

بورسعيد، وفي باب أشهر الحوادث وأعظم الرجال رسم يوسفُ (فردي) الموسيقي

الإيطالي الشهير الذي مات من عهد قريب وترجمته، إلى غير ذلك من الفوائد

والأخبار العلمية والتاريخية، فنرحب بهذه الرفيقة الجديدة أيضًا، ونسأل الله لها

التوفيق والانتشار.

_________

ص: 156

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينية

في فرنسا

اتفق لي أنني عندما زرت في العيد صاحب الفضيلة الأستاذ شيخ الجامع

الأزهر المعظم حدثته بالجمعيات الدينية الأوربية، لا سيما الفرنسوية كالجزويت

والفرير، وذكرت له أولاً ما كان من معاداة رجال الدين المسيحي للعلم في العصور

التي يسمونها المظلمة، وكيف انقلب الحال بعدما ظفر رجال العلم، وسُلبت السلطة

السياسية من البابا، فصارت أَزِمَّة العلوم بأيدي الجمعيات الدينية، حتى إن

الجزويت الذين هم أشد الفرق تعصبًا للدين هم الذين غيَّروا نظام التعليم في أوربا

فارتقى بسعيهم إلى الدرجة التي هو فيها، وذكرت لفضيلته ثروة جمعية الجزويت

ومسالكها في التعليم الديني والدنيوي، وأن غايتها هي وأمثالها إرجاع السلطة

السياسية لرجال الدين كما كانت، وأنها تعلم كما يعلم كل بصير بأحوال الكون أنه

لا يمكن أن يكون مثل هذا الانقلاب إلا بالعلوم العصرية والثروة المالية التي هي

حليفة العلم، وانتقلت من هذا إلى بيان كون الديانة المسيحية ليست ديانة سلطة

بخلاف الديانة الإسلامية التي يجب فيها أن يكون الخليفة فيمن دونه من الحكام

عالمين بالدين في كلام طويل نتيجته أن حفظ الدين الإسلامي وحفظ كرامة أهله

وإعادة سلطته يحتاج فيه إلى العلوم الكونية والجمعيات المالية، وأن هذا ما يدعو

إليه المنار.

لم تمض على حديثنا أيام حتى جاءتنا البرقيات، ثم الجرائد بخبر معارضة

الحكومة الفرنسوية للجمعيات الدينية ورجال الدين عامة، واتهامها إياهم بالسياسة

وعداوة الحكومة الجمهورية، والسعي التمهيدي في نكث فتلها وحل عراها، وقد

اقترحت الحكومة على مجلس البرلمان أن يصدق على قانون قدمته له، ملخصه على

ما في رسالة المؤيد الأغر:

إنه يجب على كل جمعية دينية أن تعرض قانونها على الحكومة، وتأخذ منها

إجازة رسمية وإلا فإنها تنحل وتبطل، وإنه لا يجوز لأعضاء الجمعيات التي تنحل

أن يزاولوا صناعة التعليم مطلقًا، وإِنْ في مدارس الجمعيات المأذونة. وإن

الحكومة تستولي على ما تملك الجمعية المنحلة من عقار ونحوه وتبيعه، وتنشئ بثمنه

صندوق إعانة لعملة الشيوخ والمتقاعدين، وقد قدرت الحكومة قيمة ما للجمعيات

غير المأذونة من ذلك بمليار فرنك (ألف مليون فرنك) فهاج ذلك الاشتراكيين،

وطفقوا يقولون: إن من الجناية على الأمة أن يحتكر صنف من الناس هذا المال

الكثير، ويكنزه ويحول بين الناس وبين استثماره والانتفاع به.

وقد صدَّق المجلس على هذا القانون بعد مناقشات أثبت فيها الموافقون

للمعارضين - وهم الأقل - أن الرهبان يعلّمون الشعب في مدارسهم وكنائسهم أن

الحكومة الجمهورية حكومة فساد واختلاس وقرارة أقذار، وأنه يجب تقويض

أساسها، ومن الشواهد التي أوردها الباحثون على ذلك أن الموسيو لايك أظهر أن

الكتب التي يتعلم بها تلامذة المدارس الدينية تحرف الكلم بما تقلب به الحقائق ليوافق

مشربها، ومنها أن الموسيو برجو لما كان رئيسًا لِلَجْنَةِ جوائز تلامذة المدارس في

المعرض أرادوا منح الجائزة الكبرى لأكثر التلامذة مهارة، فوجدوا أن الذين

يستحقونها هم تلامذة مدارس الفرير؛ ولكنهم وجدوا في كتاباتهم دلائل كثيرة على

بغضهم للحكومة الجمهورية ونظاماتها، واعتبارهم من يخالفهم في المذهب من سائر

الناس أعداء لهم، فلذلك حُرم من هذه الجائزة تلامذتهم في أوربا، وأعطيت لتلامذتهم

في الشرق؛ لأنه لم يوجد في كتاباتهم مثل ذلك، ومنها أنهم يعلِّمون النساء في أوقات

الاعتراف تعليمًا مخلاًّ بالآداب؛ كالكذب على الزوج لإخفاء ما يأتينه من البهتان بين

أيديهن وأرجلهن، كأن تقول المرأة لزوجها: ما زنيت. وتنوي في نفسها تتمة للقول

مثل: لأقول لك، وتقول: ما سرقت، وتنوي: قبل ولادتي أو نحو ذلك، إلى غير

ذلك من الشواهد.

وقد تقرر الآن أن تعليم جميع الجمعيات الدينية لا بد أن يكون تحت مراقبة

الحكومة، ولا شك أن خوف الحكومة في محله، وأن هذه الجمعيات تنوي الانقلاب

الذي حذرته الحكومة، وهي سائرة إليه من طريقته المثلى، وهي طريقة التربية

والتعليم. فليعتبر رجال الشرق عامة وعلماء المسلمين خاصة الذين فقدوا كل شيء

وما بقي عندهم إلا حثالة ما أُلِّف من قبلهم من الكتب يتلهون أو يتعيشون بالبحث في

أساليبها وترديد ألفاظها، ولا يخطر على بالهم السعي في دوامها وحفظ كرامة أهلها

فضلاً عن السعي بالارتقاء وإعادة أحكام الدين ومجده السالف، ومن ينبههم على

ذلك يتخذونه عدوًّا ويمضغون لحمه بالغيبة ويسلطون عليه عقارب السعاية؛ وإنما

يبحثون عن حتفهم بظلفهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

_________

ص: 157

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(العام الجديد)

هذا اليوم فاتحة سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة الشريفة، نسأله تعالى

أن يجعله عام إصلاح وفلاح للأمة، ويهنئ أهله بكشف الغمة.

***

(الأعياد والمواسم)

كان الشهر المنصرم شهر أعياد ومواسم لجميع الملل، عيد الأضحى الكبير

للمسلمين، وعيد الفصح الكبير للنصارى، وعيد الفطر لليهود، وموسم شم النسيم

المشترك بين جميع الطوائف والملل من سكان القطر المصري، نسأله تعالى أن يديم

النعمة والسرور على الجميع في ظل الحضرة الخديوية الظليل.

***

(تركيا الفتاة)

أكثرت الجرائد في هذه الأيام من الكلام في الحزب الذي يسمونه تركيا الفتاة،

فأعلاها مكانة يطعن فيه وبعضها يدافع عنه، والصواب أن هذا الحزب ليس له شأن

في العالم إلا بسؤال مولانا السلطان عنه واهتمامه بشأنه، فإن أهمله أُهمل وأُغفل،

وما دام يبالي به ويحزبه أمره؛ فشأنه كبير لا تؤثر فيه الجرائد ولا يزعزعه الكلام،

وإنما تأثير الجرائد في المابين فالمدح والقدح عاملان متساويان في التأثير هناك، بل

ربما كان القدح والذم أشد تأثيرًا في الاهتمام به.

أما صاحب الدولة محمود باشا داماد ونجلاه الأميران النجيبان فليسا من حزب

تركيا الفتاة؛ ولكن لهم شأن مخصوص بهم.

وقد انتقدنا على جريدة مصباح الشرق الغراء بعض ما كتبته في أسباب الحرب

الروسية العثمانية، والقانون الأساسي من الوجه التاريخي، وسننشر ذلك في العدد

الآتي إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 160

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورات بين المصلح والمقلد

المحاورة السادسة

الاجتهاد والتقليد

لما عاد الشيخ والشاب للمباحثة، والمثافنة للمنافثة، قال الأول:

المقلد: إنني من يوم سمعت منك تلك الكلمة الغريبة، وأنا لا أنفكّ مشتغلاً

بالمطالعة في باب الاجتهاد من كتب الأصول استعدادًا لهذا اليوم، وأعني بالكلمة ما

لم تنسه من قولك: إن فيما قالوه عن المهدي كلمة إصلاح وهي إبطال المذاهب وجعل

المسلمين على طريقة واحدة كما هو أصل الإسلام، وإنني أعتقد كما يعتقد كل من

يعرف الإسلام وعلومه أنه لولا الأئمة الأربعة لضاع الدين بالمرة، وأن لهم رضي

الله تعالى عنهم المنة في عنق كل مسلم إلى يوم القيامة، وأن الخروج عن مذاهبهم

مروق من الدين، والعياذ بالله تعالى.

المصلح: لا أنازعك في مدح الأئمة رضي الله تعالى عنهم، ولا أنكر شيئًا

من فضلهم؛ ولكنني أقول كلمة تعرف بها بطلان قولك الأخير، وهي أن الإسلام

قبلهم كان خيرًا من زمنهم، وكان في زمنهم الذي لم يقلدهم فيه إلا قليل من الناس

خيرًا منه فيما بعده من الأزمنة التي أقامهم الناس فيها مقام الأنبياء، بل إن من

أتباعهم من قدمهم عليهم عند تعارض كلامهم مع الحديث الصحيح؛ فإنهم يردون

كلام النبي المعصوم مع اعتقادهم صحة سنده لقول نقل عن إمامهم، ويتعللون

باحتمالات ضعيفة كقولهم: يحتمل أن يكون الحديث نسخ، ويحتمل أن عند إمامنا

حديثًا آخر يعارضه، ولا شك أن هؤلاء المقلدين قد خرجوا بغلوهم في التقليد عن

التقليد؛ لأنهم لو قلدوا الأئمة في آدابهم وسيرتهم وتمسكهم بما صح عندهم من السنة

لما ردوا كلام المعصوم لكلام غير المعصوم الذي يجوز عليه الخطأ والجهل بالحكم،

وكانوا يأمرون بأن يترك قولهم إذا خالف الحديث، بل تسلق هؤلاء الغالون بمثل

ذلك إلى القرآن نفسه وهو المتواتر القطعي والإمام المبين، وتجرأ بعضهم على

تقرير قاعدة البابوات في الإسلام، وهي أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ دينه من الكتاب؛

لأنه لا يفهمه، وإنما يفهمه رجال الدين، فيجب عليه أن يأخذ بكل ما قالوا وإن

خالف الكتاب، ولا يجوز له أن يأخذ بالكتاب إذا خالف ما قالوا، بل لا يجوز له أن

يتصدى لفهم أحكام دينه منه مطلقًا، ومثل هذا ما قال بعض فقهائنا قال: لا يجوز

لأحد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ لأن الله قال كذا، ولأن رسوله قال كذا، بل

لأن فلانًا الفقيه قال كذا، وهذا مصداق قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لتتبعن

سنن الذين من قبلكم

) الحديث، وفي آخره قالوا: يا رسول الله، اليهود

والنصارى؟ قال: (فمن؟) .

المقلد: ليس كل ما فعله اليهود والنصارى باطلاً، فيكون اتباعهم فيه باطلاً،

على أن الاتباع المذموم هو ما كان عن قصد، ولم يقصد المسلمين قط اتباع البابوات

وغيرهم من النصارى؛ وإنما اتبعوا في ذلك الدليل الذي قام عندهم على وجوب

التقليد على من يعجز عن الاجتهاد، ومن كان عاجزًا لا يجوز له أن يتحكم بفهمه

الضعيف، بل عليه أن يأخذ بأقوال الثقات الذين يثق بفهمهم الدين حق فهمه.

المصلح: المذموم في ذاته يذم فاعله مطلقًا، فإن افتحره افتحارًا كان الذم

عليه وحده، وإن سنه واتبعه عليه غيره فعليه إثمه وإثم من عمل به، وإن كان فيه

مقلدًا فهو أخسّ، وأحرى بالتعس، ولا أطيل الآن فيما أخذه المسلمون عمن سبقهم؛

فإنه يشغلنا الآن عن جوهر البحث، وإنما أقدم لك مسائل في بحث التقليد تكون

مقدمات للأصل الذي أريد تقريره في الوحدة الإسلامية ونسبة المذاهب إليها فأقول:

المقدمة الأولى: إن العلوم الكسبية التي توجد بوجود الحاجة إليها تنقسم

مسائلها إلى قسمين: قسم يسهل فهمه من دليله أو بدليله على كل واحد من الناس،

وقسم يعسر أخذه من الدليل على الأكثرين وينهض به في كل عصر أفراد مجتهدون

يتفرغون له، ويستقلون ببيانه، ويتبعهم من يحتاج إلى ذلك من سائر الناس، ولم

يوجد علم من العلوم الحقيقية تعلو جميع مسائله عن تناول عقول الدهماء، ويستقل

بها أفراد من وقت من الأوقات ويعجز سائر البشر عنها، ومتى وُجد العلم في أمة

فإنه ينمو ويكمل بالتدريج، وسنة الله تعالى في ذلك أن المتأخر يكون أرقى من

المتقدم؛ لأن بداية الآخر من نهاية الأول ما لم يطرأ على الأمة من الأمراض

الاجتماعية ما يوقف سير العلم فيها.

وفي هذه الحالة لا يقال: إن سنة الله تبدلت أو بطلت؛ لأن سنة الله تعالى في

المرضى غير سنته في الأصحاء، فإننا إذا غرسنا شجرة أو وُلد لنا ولد، ومر عليه

في طور النمو زمن ولم ينم فيه؛ لا يصح لنا أن نستدل بذلك على إنكار سنة النمو في

النبات والحيوان، بل علينا أن نبحث عن مرضه الذي عارض النمو ونعالجه ليعود

إلى الأصل.

المقلد: من أين جئت بهذه القاعدة التي لا تنطبق على علم الدين؛ فإنني لم

أرها في كتاب ولا سمعتها من أحد من مشايخنا، وما أراك إلا مفتحرًا لها فإن لم

يكن لك فيها نقل صحيح لا أسلم لك بها.

المصلح: إنني أخذت هذه القاعدة من الوجود وهو أرشد المعلمين، وقد

سلمت لي من قبل أن العلم الصحيح هو ما يشهد له الوجود، ولا يستثنى من هذه

القاعدة إلا العلوم المعدودة المسائل، المحدودة الدلائل إذا استقصيت مسائلها، أو

أُحصِيَ منها قدر تتعذر الزيادة عليه، وذلك كاللغة فإننا إذا أحصينا مفردات لغة قوم

أو أحصينا بعضها وانقرضت الأمة بعد ذلك، يتعذر على المتأخر أن يزيد على

المتقدم الذي أحصى، فإذا قلت: إن علم الدين من هذا القبيل. فقد منعت الاجتهاد

على الأولين والآخرين إلا ما يتعلق بنقل الدين عمن جاء به وهو الشارع صلى الله

عليه وسلم، ومنعت التقليد أيضًا؛ لأن الراوي لا يسمى مقلدًا لمن روى هو عنه؛

لأن التقليد هو أخذك بقول غيرك أو رأيه لذاته لا لمعرفة دليله بحيث لو رجع

لرجعت.

المقلد: لا أقول: إن جميع مسائل الدين مروية عن الشارع بالتفصيل،

والمروي إنما هو الأصول الكلية وبعض الجزئيات، والاجتهاد يكون باستنباط سائر

الجزئيات بالقياس وغيره، وبفهم النصوص والتمييز بين ما يصح الاحتجاج به وما

لا يصح، وبوجوه الترجيح عند التعارض، وغير ذلك مما هو مشروح في علم

الأصول.

المصلح: إذن تصدق قاعدتي في علم الدين، فالمسائل التي يسهل على كل

أحد فهمها بدليلها هي ما نُقل عن الشارع، لا سيما إذا كان النقل بالعمل أو بين

إجماله بالعمل، وأدلة هذه المسائل هي كونها مروية عن الشارع؛ لأن جميع ما ورد

عنه يجب أن يؤخذ بالتسليم من كل من اعتقد بالرسالة، ويبقى التفاضل بين

العارفين بهذه المسائل والأحكام في الفقه بها بمعرفة حكمها وأسرارها، وسأبين

منزلة هذه المسائل من الدين، ومنزلة ما يؤخذ من استنباط المجتهدين، بعد بيان

المقدمات التي بدأت بها.

المقلد: إذا تسنى لكل أحد أن يفهم ما نقل من الدين عن الشارع بالعمل ككيفية

الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات، فلا يتسنى لهم أن يفهموا ما نقل بالقول إلا

بواسطة المجتهد.

المصلح: إن من المقدمات التي أردت سردها ما هو جواب عن قولك هذا،

وليكن (المقدمة الثانية) وهي أن فهم القرآن والسنة أسهل من فهم كتب الفقهاء؛

لأن كلامهما عربي مبين، وأسلوبهما فصيح لا شائبة للعجمة فيه، فمن تعلم العربية

ووقف على مفرداتها وأساليبها لا يعاني في فهمها عشر معشار ما يعانيه في فهم

كتب الفقهاء لاختلاف أساليبهم وبعدها في الأكثر عن أسلوب اللغة الفصيح، ولكثرة

اصطلاحاتهم وخلافاتهم، ولاضطراب الكثير منهم في الفهم، ومن ينكر أن الله

تعالى أعلم بدينه من الفقهاء، وأقدر على بيان ما علمه منهم، أو ينكر أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم أعلم بمراد الله من سائر خلقه وأقدر على بيان ما علمه، وأنه

قام حق القيام بأمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن

لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) .

المقلد: إن المجتهدين بيَّنوا مراد الله ورسوله لمن لم يستطع فهم كلامهما،

والفقهاء بيَّنوا مراد المجتهدين لمن لم يستطع فهم كلامهم.

المصلح: لقد أكثرت الوسائط وغفلت عن قولي الأول، وهو أن الله ورسوله

أقدر على البيان ممن عداها، وأن القول بأن بيان الرسول لم يكن كافيًا للأمة قول

بأنه لم يبلِّغ رسالة ربه؛ ومن يقول بهذا؟ أما تعلم العربية فمن أسهل الأمور على كل

عاقل، ألم يهد لك كيف نبغ فيها الأعاجم عندما كانت داعية الدين سائقة لهم إليها؟

وهل هي إلا لغة من أحسن اللغات أو أحسنها، وإننا نرى الأطفال يتعلمون في

المدارس عدة من اللغات التي هي دون العربية في التهذيب وسلامة الذوق وسهولة

النطق.

المقلد: إن أذهان الناس وعقولهم في هذا الزمان أضعف مما كانت عليه في

أزمنة المجتهدين ومَن بعدهم كالزمخشري والشيخ عبد القاهر الجرجاني والسكاكي

وأضرابهم، والدليل على هذا أن أحدنا يمكث في الجامع الأزهر عشرين سنة، ولا

يقدر أن يفهم من كلامهم حق الفهم إلا ما تلقاه عن المشايخ الذين تلقفوه عمن قبلهم.

المصلح: بعيشك لا تلجئني إلى التكرار في القول، فقد قلت لك آنفًا: إن هذا

مرض اجتماعي عارض يجب أن نعالجه، ومتى أصبنا علاجه الحقيقي يزول

وتظهر في أبناء عصرنا سنة الله في ترقي الإنسان كما هي ظاهرة في غيرنا من

الأمم الذين يرتقون في لغتهم وجميع علومهم، وإن خمس سنين كافية لأن يتعلم

الطالب العربية فيخرج كاتبًا وخطيبًا يفهم جميع كلام البلغاء إذا وجد من يعرف

طريقة التعليم المثلى، ولكن أهل الأزهر لا يعرفون هذه الطريقة ولا يقبلون من

يعرفها من غيرهم، وإذا لم تصدِّقوا فجربوا، وأنا الذي أقوم بذلك أو أدلكم على من

يقوم به.

المقلد: إني لا أستطيع أن أنكر عليك ذلك، ولا أن أسلم لك به فدعنا منه،

واذكر لي بقية مقدماتك، فإني أراك تخلق لي مسائل غير ما أتعبت نفسي في مطالعته

عدة أشهر، وأرجو أن تجيء مناسبة في النتيجة.

المصلح: (المقدمة الثالثة) : لو أن أكثر الناس يعجزون عن فهم الدين مما

يبلغ الرسول من كتاب يكتب ويتلى وسنة يعمل بها، لما كلفهم الله به.

(المقدمة الرابعة) : إن الله أمر الناس بأن يكونوا على بصيرة في دينهم فقال:

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)

(المقدمة الخامسة) : إن الله تعالى ذم التقليد، ونعى على أهله ووبخهم في

آيات منها قوله تعالى بعد الاحتجاج على المشركين وبيان أنه لا حجة لهم: {بَلْ

قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ

فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *

قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: 22-24) فقد احتج على المقلدين بأنه يجب عليهم النظر واتباع ما هو

أهدى، ولم يعذرهم بالتقليد، فدل على أنه غير مقبول عنده، ولو كان التقليد عذرًا

لأحد لكان جميع الكفار والمشركين معذورين عند الله تعالى في عدم اتباع الحق

بحجة أنهم ليس لهم نظر يميزون به بينه وبين الباطل.

المقلد: إن التقليد ليس عذرًا في أصول الدين وعقائده بخلاف الفروع.

المصلح: إن فهم فروع الدين بأدلتها أسهل من فهم أصوله وعقائده بالبرهان؛

لأن أدلة الفروع هو نقلها بطريقة تثق بها النفس، ولكن العقائد لا بد فيها من

براهين عقلية، فكيف يكلفهم بالشاق ويعذرهم بما لا مشقة فيه، نعم إن استنباط

المسائل النادرة بالقياس والرأي أصعب من فهم العقيدة ببرهانها؛ ولكن هذه المسائل

مما يعذر الفقهاء الجاهل بها إذا لم يرعها في عمله وسيأتي بيان ذلك، وأنت تعلم أن

ما علم من الدين بالضرورة من مسائل الأعمال حكمه حكم العقائد كالصلاة بالكيفية

المعروفة وعدد ركعاتها، وكالصوم والزكاة والحج، وكل هذا منقول بالعمل تواترًا لا

كلفة على أحد في فهمه، وإنما موضع البحث في المسائل الشاذة والنادرة.

(المقدمة السادسة) : إن الله تعالى أيد الأنبياء بالآيات الدالة على صدقهم؛

ليكون متبعهم على بصيرة وبينة في دينه، ولم يؤيد المجتهدين بمثل ذلك فمن أخذ

بقولهم لا يكون على بصيرة، ومن كان كذلك فهو على غير سبيل الرسول بحكم

النص.

(المقدمة السابعة) : إننا نهينا عن السؤال عما لم يبين لنا، قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)

وفي صحيح مسلم: خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: (يا أيها

الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل - هو الأقرع بن حابس -: أَكُلَّ

عام يا رسول الله؟ فسكت عليه الصلاة والسلام، حتى قالها ثلاثًا، فقال صلى الله

تعالى عليه وسلم: (لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما

تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا

منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) وذكر ابن حبان أن الآية نزلت لذلك،

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن الله قد فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد

حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير

نسيان فلا تسألوا عنها) رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه،

وأورده النووي في الأربعين وحسنه، وصححه ابن الصلاح، ورواه آخرون.

كل هذا كان قبل إكمال الدين، أفلا يكون بعد إكماله آكد وأولى؟ ولكننا لم نمتثل

كل هذه الأوامر والنواهي، وأنشأنا نفرض مسائل ونخترع لها أحكامًا نستدل عليها

بضروب من الآراء والأقيسة الخفية أو غير الخفية، وهي تتعلق بأمور العبادات التي

لا مجال للعقل فيها، فوسَّعنا الدين بذلك، وجعلناه أضعاف ما جاء به الرسول صلى

الله عليه وسلم، وأوقعنا المسلمين في الحرج والعسر المنفيين بنص القرآن، ولا حجة

لنا في هذا إلا تقليد بعض الفقهاء الذين فرضتم علينا اتباع ما يقولون، وإن خالف

صريحًا ما يقول الله ورسوله.

المقلد: أعوذ بالله، أعوذ بالله، ما أراك يا هذا إلا ظاهريًّا تنكر القياس، وهو

من أصول الدين وتزعم أن الأئمة زادوا في الدين ما ليس منه.

المصلح: مهلاً مهلاً ! أنا لا أنكر القياس بالمرة؛ ولكنني أقول كما قالوا: إن

الأمور التعبدية لا قياس فيها، وأقول: إن العبادات كلها قد تمت وكملت في عهد

النبي صلى الله عليه وسلم كالعقائد، فليس لأحد أن يزيد في الدين شيئًا يتعلق

بالعبادة، كما لا يزيد شيئًا يتعلق بالعقائد؛ لأن الاعتقادات والعبادات هي الدين الذي

قال الله تعالى فيه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وأما القياس والرأي الذي تسميه الحنفية استحسانًا

فينبغي أن يكون مخصوصًا فيما يختلف باختلاف الزمان والمكان كالمعاملات

والأقضية، وأما الاعتقاد والعبادة اللذان يرضاهما الله تعالى فلا يختلفان باختلاف

الزمان وهذه هي.

(المقدمة الثامنة) مما أردت تقديمه على بيان رأيي في الوحدة الإسلامية مع

احترام الأئمة والاعتراف بفضلهم والاهتداء بهديهم.

(المقدمة التاسعة) : هي أن الأئمة أنفسهم نهوا عن التقليد، وحرموه،

وسأتلو عليك أقوالهم فيه، وأما النتيجة فهي

المقلد: أنظرني فقد كَلَّ ذهني، وسمعت ما لم يكن يخطر لي ببال، أنظرني

حتى أرجع إلى تفسير الآيات التي أوردتها، وشروح الأحاديث التي سردتها،

وسأعود إليك قبل عيد الأضحى لإتمام المناظرة، وإن كان الوقت قصيرًا، وكان

في عزمي أن أقضي أيام العيد في الأرياف.

المصلح: لك ذلك، وإنني أنتقد على الناس لا سيما الوجهاء منهم مغادرة بيوتهم

في أيام العيد الذي يُستحب فيه الفرح والسرور مع الأهل والأقارب، إلا من كان

أهله خارج مصر، وكان موظفًا يتربص مثل هذه الفرصة لزيارتهم. ثم انصرفا

على أن يعودا عن قريب.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 161

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة دينية وأجوبتها

فضل سيدنا محمد على سائر الأنبياء

(س) : حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المنار الأغر

رجل يدَّعي بأنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن نبينا

محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله حقًّا، وخاتم الأنبياء صدقًا؛ لكنه لا يصدق

بأنه سيد الأنبياء والمرسلين إلا بالدليل القطعي الذي لا شبهة فيه، وهو كتاب الله

عز وجل.

وإذ كانت جريدتكم الغراء هي الوحيدة في خدمة الدين والملة لزم ترقيمه

لحضرتكم راجيًا إيضاح الحجة القوية قطعًا لألسنة المعارضين من أمثال ذلك الغر

الجهول، وخدمة للدين القويم، وأن يكون ذلك إن استحسنتم مسطورًا على صفحات

جريدتكم الغراء؛ إذ فيه هدى لقوم لا يشعرون.

...

...

...

...

...

... كاتبه

...

...

...

...

عبد المجيد محمد

...

...

...

...

...

... بمصر

ج (المنار)

ليس في القرآن نص صريح في تفضيل سيدنا محمد على سائر الأنبياء عليه

وعليهم الصلاة والسلام بلفظ السيادة أو التفضيل، وذكر اسمه الصريح، ولكن فيه

آيات كثيرة صريحة في معنى التفضيل لا تنطبق على غيره عليه الصلاة والسلام،

والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة وأشهرها حديث: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا

فخر، وما من نبي؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) وفي رواية للبخاري وغيره:

(أنا سيد الناس يوم القيامة) نعم هذه الأحاديث لا تفيد القطع؛ لأنها رواية آحاد

غير متواترة، إلا أن من لا شبهة له في روايتها يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم

قالها، ومتى صدَّق بالرواية تعين عليه الإيمان بمضمونها؛ لأن دلالتها قطعية لا

تحتمل التأويل.

أما الآيات التي استدلوا بها على تفضيله عليه أفضل الصلاة والسلام فكثيرة،

منها آية العهد والميثاق وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم

مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ

أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) ولم يجئ رسول يصدق عليه ما ذكر غير محمد صلى الله

عليه وسلم، ومن ثم اتفقوا على أنه هو، ومنها الآيات الدالة على عموم بعثته

وكونه خاتم النبيين ورحمة للعالمين كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ

بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28)، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وقوله:{وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:

40) وأحسن بيان لوجه التفضيل من كونه خاتم النبيين ما جاء في رسالة التوحيد

لفضيلة مفتي الديار المصرية لهذا العهد؛ فإنه بيَّن أن الأديان ارتقت بارتقاء البشر،

وأن الأديان السابقة إنما منحها الله تعالى لنوع الإنسان عندما كان النوع في أوائل

طور التمييز، وأنه لما بلغ رشده منح الإسلام الذي هو دين الفطرة ومبدأ المدنية

الكاملة.

وأما وجه التفضيل من كونه دينًا عامًّا باقيًا ما بقي العالم فلا أراه يحتاج

إلى بيان، ولا يلتفت إلى دعوى المسيحيين أن دينهم عام؛ فإن الإنجيل الذي في

أيديهم ينطق بلسان السيد المسيح عليه الصلاة والسلام بقوله: (لم أبعث إلا إلى

خراف إسرائيل الضالة) وهو حصر لا ينافيه قول إنجيل يوحنا: (واكرزوا

بالإنجيل في الخليقة كلها) ؛ لأن اللام في الخليقة لا يصح أن تكون للاستغراق؛

لأنه يدخل فيها حينئذ الحيوان الأعجم والنبات والجماد، فيتعين أن تكون للعهد ولا

معهود إلا (خراف إسرائيل الضالة) ، وبهذا يرتفع التناقض، ومنها قوله تعالى:

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) الآية، وتفضيل الأمة

يستلزم تفضيل نبيها؛ لأن خيريتها ما جاءتها إلا من هدايته، ومن كانت هدايته

خيرًا كان خيرًا وأفضل، ومنها قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى

بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) فقد قالوا: إن هذا

البعض هو محمد صلى الله عليه وسلم، نعم إن اللفظ ليس نصًّا معينًا؛ ولكن

القرائن الحالية الوجودية تعينه، والمقام يحتمل التطويل وفي هذا القدر كفاية، والله

أعلم.

_________

ص: 177

الكاتب: مهذب الدين بن منير الطرابلسي

‌الشيعة وأهل السنة

اختلافهما

كان الشيخ مهذب الدين بن منير الطرابلسي شيعيًّا أديبًا وشاعرًا بليغًا، وكان

هاجر إلى بغداد لمدح الشريف الموسوي نقيب الطالبيين والاتصال به، فلما جاء

بغداد أرسل إلى الشريف هدية مع مملوكه، بل معشوقه (تتر) الذي سارت

الركبان بغرامه فيه، فجعل الشريف الغلام من الهدية فكاد يُجن ابن منير، وأرسل

إلى الشريف وإلى تتر هذه القصيدة:

عذَّبت طرفي بالسهر

وأذبت قلبي بالفكر

ومزجت صفو مودتي

من بعد بُعدك بالكدر

ومنحت جثماني الضنى

وكحلت جفني بالسهر

وجفوت صبًّا ما له

عن حسن وجهك مصطبر

يا قلب ويحك كم تخا

دع بالغرور وكم تُغَر

وإلامَ تكلف بالأغنّ

من الظباء وبالأغر

ريم يُفَوِّقُ إن رما

ك بسهم ناظره النظر

تركتك أعين تُرْكها

من بأسهن على خطر

ورمت فأَصْمَتْ عن قسـ

ـيٍّ لا يُناط بها وتر

جرحتك جرحًا لا يُخَيَّـ

ـط بالخيوط ولا الإبر

تلهو وتلعب بالعقو

ل عيون أبناء الخزر

فكأنهن صوالج وكأنهن لها أُكر

تخفي الهوى وتسرّه

وخفيُّ سرك قد ظهر

أفهل لوجدك من مدى

يُفْضَى إليه فينتظر

نفسي الفداء لشادن

أنا من هواه على خطر

رشأ تحاوله الخوا

طر إن تثنى أو خطر

عذل العذول وما رآ

هـ فحين عاينه عَذر

قمر يزيّن ضوء صبـ

ـح جبينه ليل الشعر

تُدمي اللواحظ خدَّه

فيرى لها فيه أثر

هو كالهلال ملثمًا

والبدر حسنًا إن سفر

ويلاه ما أحلاه في

قلبي الشقيّ وما أمر

نومي المحرم بعده

وربيع لذاتي صفر

***

بالمشعرين وبالصفا

والبيت أقسم والحجر

وبمن سعى فيه وطا

ف به ولبى واعتمر

لَئِنِ الشريف الموسوي

بن الشريف أبي مضر

أبدى الجحود ولم يرد

إليَّ مملوكي تتر

واليت آل أمية الطـ

ـهرالميامين الغرر

وجحدت بيعة حيدر

وعدلت عنه إلى عمر

وإذا جرى ذكر الصحا

بة بين قوم واشتهر

قلت المقدم شيخ تيـ

ـم ثم صاحبه عمر

ما سل قطُّ ظِبًى على

آل النبي ولا شهر

كلا ولا صد البتو

ل عن التراث ولا زجر

وأثابها الحسنى وما

شق الكتاب ولا بقر

وبكيت عثمان الشهيـ

ـد بكاء نسوان الحضر

وشرحتُ حسن صلاته

جنح الظلام المعتكر

وقرأت من أوراق مصـ

ـحفه البراءة والزمر

ورثيت طلحة والزبيـ

ـر بكل شعر مبتكر

وأزور قبرهما وأز

جر من لحاني أو زجر

وأقول أم المؤمنيـ

ـن عقوقها إحدى الكُبَرْ

رَكِبَتْ على جمل لتصـ

ـبح من بنيها في زُمر

وأتت لتصلح بين جيـ

ـش المسلمين على غَرَر

فأتى أبو حسن وسل

حسامه وسطا وكر

وأذاق إخوته الرَّدى

وبعير أمهم عقر

ما ضره لو كان كفَّ

وعف عنهم إذ قَدَر

وأقول إن إمامكم

ولّى بصفِّين وفر

وأقول إن أخطا معا

ويةٌ فما أخطا القدر

هذا ولم يغدر معاو

يةٌ ولا عمرو مكر

بطل بسوءته يقا

تل لا بصارمه الذَّكر

وجنيت من رُطب النوا

صب ما تَتَمَّر واختمر

وأقول ذنب الخارجـ

ـين على عليٍّ مغتفر

لا ثائر لقتالهم

في النهروان ولا أثر

والأشعريُّ بما يؤ

ول إليه أمرهما شعر

قال انصبوا لي منبرًا

فأنا البريء من الخطر

فعلا وقال خلعت صا

حبكم وأوجز واختصر

وأقول إن يزيد ما

شرب الخمور ولا فجر

ولجيشه بالكف عن

أبناء فاطمة أمر

والشِّمرُ ما قتل الحسيـ

ـن ولا ابن سعد ما غدر

وحلقت في عشر المحرَّ

م ما استطال من الشعَر

ونويت صوم نهاره

وصيام أيام أُخر

ولبست فيه أَجَلَّ ثَوْ

بٍ للملابس يُدَّخر

وسهرت في طبخ الحبو

ب من العشاء إلى السحر

وغدوت مكتحلاً أصا

فح من لقيت من البشر

ووقفت في وسط الطريـ

ـق أقص شارب من عبر

وأكلت جرجير البقو

ل بلحم جونيّ الجفر

وجعلتها خير المآ

كل والفواكه والخضر

وغسلت رجلي كله

ومسحت خفي في السفر

وأمين أجهر بالصلا

ة بها كمن قبلي جهر

وأسن تسنيم القبو

ر لكل قبر يحتفر

وإذا جرى ذكر الغديـ

ـرأقول ما صح الخبر

وسكنت جلّق واقتديـ

ـت بهم وإن كانوا بقر

وأقول مثل مقالهم

بالفاشريَّا قد فشر

مصطيحتي مكسورة

وفطيرتي فيها قصر

بقر ترى برئيسهم

طيش الظليم إذا نفر

وخفيفهم مستثقل

وصواب قولهم هذر

وطباعهم كجبالهم

خبثت وقدت من حجر

ما يدرك التشبيب تغـ

ـريد البلابل في السحر

وأقول في يوم تحا

ر له البصائر والبصر

والصحف ينشر طيها

والنار ترمي بالشرر

هذا الشريف أضلني

بعد الهداية والنظر

ما لي مضل في الورى

إلا الشريف أبو مضر

فيقال خذ بيد الشريـ

ـف فمستقركما سقر

لواحة تسطو فما

تبقي عليه ولا تذر

والله يغفر للمسي

ء إذا تنصل واعتذر

فاخش الإله بسوء فعـ

ـلك واحتذر كل الحذر

وإليكها

بدوية

رقت لرقتها الحضر

شامية لو شامها

قس الفصاحة لافتخر

وروى وأيقن أنني

بحر وألفاظي درر

حبرتها فغدت كزهـ

ـر الروض باكَرَه المطر

وإلى الشريف بعثتها

لما قراها وانبهر

رد الغلام وما استمرّ

على الجحود ولا أصرّ

وأثابني

وجزيته

شكرًا وقال لقد صبر

(المنار)

لا يخفى أن بعض ما قال لا خلاف فيه، وبعضه عادي محض.

_________

ص: 183

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(دائرة المعارف)

صدر المجلد الحادي عشر من هذا الكتاب المفيد، أو كما عرَّفه واضعه الأول

بقوله: (قاموس عام لكل فن ومطلب) ، ويبتدئ الجزء الحادي عشر بلفظ الصُّلبَة

من حرف الصاد، وينتهي بالكلام على الدولة العثمانية من حرف العين، والكلام

في الدولة يبتدئ من الصفحة 717 وينتهي بالصفحة 752، وهذا ما عدا تراجم

السلاطين؛ فإن ترجمة كل سلطان مذكورة على حدتها بحسب الحروف.

وفي هذا المجلد من مباحث العلوم: الكلام على الصوت والطيف الشمسي،

ومن مباحث الصناعة أشرفها - أعني - صناعة الطباعة، ويسهل على الذكي أن

يعرف أكثر ما فيه من المباحث والتراجم، والكلام على الحيوان والنبات والبلاد

بالتفكر فيما بين الصاد مع اللام، وبين العين مع الثاء من الأسماء، فنشكر لصديقنا

العالم الفاضل سليمان أفندي البستاني عنايته بإتمام هذا العمل النافع، ولمساعديه

الفاضلين نجيب أفندي، ونسيب أفندي البستاني، ونحث أهل العلم وأنصاره على

إسعادهم بالإقبال على الكتاب.

***

(ميزان الجواهر في عجائب هذا الكون الباهر)

كتاب جديد التأليف والطبع، بل والأسلوب والوضع، وهل هو كتاب توحيد

وتنزيه، أم كتاب أخلاق وآداب، أم كتاب فكاهة ونزاهة، أم كتاب طبيعة ونبات،

أم هو تفسير آيات بينات؟ من قرأ وصف، ومن ذاق عرف، مؤلف الكتاب

صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري معلم البلاغة والإنشاء في المدرسة

الخديوية، وقد حذا به حذوًا يحكي أسلوب (رسائل إخوان الصفا) المشهورة في

مزج العلوم الكونية بالآيات القرآنية، والمؤاخاة بين المنازع الفلسفية والمشارع

الدينية، إلا أنه نزهه من الحكايات الخرافية، والسفسطات النظرية، ولم يقصد من

الكتاب تحرير فن مخصوص ببيان مسائله، وتحرير دلائله؛ وإنما هو أفكوهة

علمية دينية فيه فائدتان لصنفين من الناس: صنف عكف على فنون العربية والفقه

ومثل السنوسية والجوهرة من كتب العقائد، فهو يتوهم أن علوم الكون بعيدة عن

الدين ومذاهبه، وصنف اشتغل بمبادئ الفنون العصرية على الطريقة الأوربية التي

لا تستلفت الذهن من الصنعة إلى الصانع، ولا تعرج بعقله من الكون إلى المكون،

فهذا الكتاب يهديه إلى ذلك، وقد سبق الإمام الغزالي إلى هذه الطريقة في كتاب

التفكر من الإحياء، واستن صاحبنا بسنته، هذا ما لاح لي من مطالعة صفحات منه

متفرقة ومطالعة خاتمته، وقد التزم طبع الكتاب صديقنا الأستاذ المرشد، والمسلم

الموحد الشيخ علي أبو النور الجربي، ووكل أمر نشره إلى مريده الفاضل عبد

الحميد بك الطوبجي ويُطلب منهما، ومن المطبعة المتوسطة، ومن مكتبة المدارس

بالصليبة، وثمنه عشرة قروش.

***

(تقويم المؤيد لسنة 1319)

ما زال الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود يزيد هذا التقويم إتقانًا عامًا فعامًا،

وهذه سنته الرابعة قد زادت على السنة الماضية في كل ضرب من ضروب الزيادة،

زيادة الصفحات، وزيادة السطور فيها، وزيادة المواضيع العلمية والأدبية،

وزيادة الجودة في الورق والتجليد، ومن لطيف اختراع واضعه أن اتفق مع بعض

كبار التجار الذين يحتاج كل أحد إلى سلعهم على أن يبيعوا من عنده هذا التقويم

بأقل مما يبيعون من سائر الناس بمقدار مخصوص في المائة، بأن وضع في كل

نسخة من التقويم أوراقًا تقدم إلى المحل التجاري، فتكون المراعاة بها، وبهذا

الاختراع يكون التقويم كالقراطيس المالية المضمونة الربح، وقد اشتهر التقويم عند

جميع طبقات الناس، وصار سمير الأدباء في السهر، ورفيقهم في السفر، وهو

جدير بذلك.

***

(دعاوى وضع اليد)

جرت سنة الارتقاء في العلم بأن يتولد من العلم الواحد عند اتساع دائرته علوم

متعددة تُفرد بالتأليف؛ ليسهل على طلابها الإحاطة بها وإحصاء جزئياتها، فقد كان

علم الطب والعلاج علمًا واحدًا، ثم انقسم إلى علوم متعددة كعلم وظائف الأعضاء،

وعلم التشريح بأقسامه، وعلم الصيدلة

إلخ، بل أفرد علماؤه الأمراض العصبية

بالتأليف، وكذلك أمراض العيون وأمراض الأذن، بل وأمراض الأظافر، وكذلك

كان علم العربية واحدًا، ثم انقسم إلى نحو وصرف واشتقاق ووضع

إلخ، ومن

الارتقاء في علم الحقوق والتأليف فيه بالعربية ما نراه يظهر من المؤلفات من

فروعه، ومن ذلك كتاب المحاماة الشهير لسعادة أحمد فتحي بك زغلول رئيس

محكمة مصر، وكتاب (دعاوى وضع اليد) الذي نشره من أيام المحامي البارع

والقانوني الشهير مراد أفندي فرج أحد المحامين في محكمة الاستئناف بمصر، ولم

تسمح لنا الشواغل بمطالعته؛ ولكن اجتهاد مؤلفه في فنه، وانصراف همته إلى

التأليف في هذا النوع بخصوصه يعطياننا أملاً ورجاء في توفية الموضوع حقه.

***

(احتجاب)

رسالة لطيفة في حكم احتجاب النساء في الشريعة الإسلامية، ألّفها باللغة

التركية العلامة الشيخ عبد الله جمال الدين أفندي قاضي مصر السابق، تغمّده الله

تعالى برحمته، وعرَّبها الأديب الفاضل الشهير بلقب (أصمعي) بإذن المؤلف،

وطبعها بإذن ورثته، ويظهر من مقدمة الرسالة أن المؤلف كانت تحدثه نفسه

بوضعها من زمن بعيد، ثم قويت العزيمة عندما رأى رسائل تدعي (أن أسباب

تأخر الإسلام في الترقي العصري والمدنية هو بقاء نساء الإسلام أسيرات في أيدي

الرجال المتحكمين عليهن وعدم خلاصهن من قيود التستر والحجاب) ، هو إذن يرد

على أصحاب تلك الرسائل؛ ولكن يا له من ردٍّ أدبي نزيه، وكيف لا وهو لمن

يصح أن يكون في آدابه قدوة في عصره لكل فقيه؟ وقد أورد في الرسالة على

اختصارها زبدة ما قاله المفسرون والفقهاء وشراح الحديث في وجوب عفة النساء

وتحجبهن، ولولا أن الجرائد اليومية سبقتنا إلى نشره لأوردنا شيئًا منه، وقد

راجت الرسالة حتى إن ناشرها أخبرنا بأن نسخها نفدت، وما ذلك إلا لشهرة مؤلفها

بالفضل، رحمه الله تعالى وجزاه على حسن نيته خير الجزاء.

_________

ص: 188

الكاتب: محمد رشيد رضا

أسباب الحروب الروسية العثمانية

إن مقاصد أوربا في الممالك الشرقية عامة، والدولة العلية خاصة معلومة

للقراء، بل لم تعد تخفى على طبقة من طبقات الناس، وأشهر تَعِلاّتهم في الافتئات

على الدولة والتعدي على حقوقها الخاصة حماية النصارى، ووقايتهم من الظلم رغبة

في إصلاح شؤونهم، وشغفًا بالإصلاح العام، وكان من تقاليد الروسية التي وضعها

بطرس الأكبر أنه يجب أن لا تمر عشرون سنة من غير حرب تضرم نارها بأسلوب

من أساليب تلك التعلة؛ ولكن القيصر الحالي والقيصر الذي قبله علما أن غنائم

الحرب غالية الثمن، مغبون فيها الغالب والمغلوب، فكانا قيصرا هدون وسلام.

ولقد جرت الحرب الأخيرة بين الدولتين على أصل تلك التعلة التقليدية،

وذلك أنها هزت سلاسل جمعياتها الدينية الثوروية السرية، فاهتزت، وحملتها على

إشعال نيران الثورة في بلاد الصقالبة ففعلت، فكان رجال الجمعية يضرمون النار

ويصيحون: الحريق الحريق، إن الدولة العثمانية متعصبة تحاول أن تحرقنا

وتجعلنا رمادًا. وأنشأ القيصر يتوجع لأوربا مما أثرت في وجدانه الشفقة والرأفة

وعاطفة الرحمة، يحرك أشجانها، ويخرج أضغانها، حتى أقنعها بأنه لا بد من

تأديب الدولة العثمانية بحرب، فأرادت الدول العظام أن تكون الحرب سياسية؛

لتكون منفعتها لهم عمومية، فأجمعوا كيدهم بعد تشاور في الأمر على أن يغتالوا

استقلال الدولة، ويفتئتوا عليها في إدارة بلادها الداخلية بأن يكون سفراؤهم

ووكلاؤهم وقناصلهم مسيطرين على الولاة والحكام في العاصمة وسائر البلاد،

وبذلك يمتلكونها من غير أرواح تزهق، ولا أموال تنفق، ولا سيوف تسل، ولا

نفوس تسيل.

فكان أولاً ما كان من مؤتمر الآستانة الباحث في فتنة البوسنة والهرسك

والبلغار وتقديم تلك اللائحة التي جاء في الفصل الرابع عشر منها ما نصه نقلاً عن

مجموعة الجوائب:

(تجري الإصلاحات بإعانة قوة كافية من العساكر حتى لا يقع اضطراب

ونظارة إجرائها تكون لجمعية مختلطة من الأجانب، وأعضاؤها يكلفون جمعية

أخرى لتلاحظ الإجراء من قريب، بحيث إنه في ظرف شهر من السنة يتم

الانتخاب والإدارة ونظارة الأحكام، واختلاط هذه الجمعية يكون من وكلاء الدول

العظام وأعضاء يرسلهم الباب العالي وأعيان النصارى، ويجوز أن تضم إلى ذلك

وكلاء أرباب ديون الدولة العثمانية، وتستعين هذه الجمعية المكلفة بالنظر والإجراء

بجمع من الضباط مركب من متطوعي الدول الحائدة تحت أمر الوالي الذي صرح

في الفصل الأول باشتراط كونه نصرانيًّا، لابسين لباس الترك؛ أي: كسردار

الجيش المصري وضباطه الإنكليز ومصروفهم على بيت مال الولاية، وهذا الجمع

من المتطوعين تؤيد به فرقة الضبطية الأهلية) اهـ.

ولقد كان رجال الدولة العلية يعرفون أن وكلاء الدول في تلك الولايات

سيكونون كما كانوا بعد في تكريت، فكان من البديهي أن لا يبيعوا استقلال دولتهم

لأوربا، وأن لا يعطوها إياها غنيمة باردة؛ ولذلك لم يقبلوا هذا، وما كان هو

المفضي للحرب حتمًا؛ ولكن المفضي إليها هو رفض البروتوكول الذي وقع عليه

وكلاء الدول الست في لندره القاضي على استقلال الدولة كلها قضاءً حتمًا، الذي جاء

فيه ما نصه نقلاً عن الجوائب أيضًا:

(قام بخاطر الدول أن لها أسبابًا تحملها على أن ترجو أن الباب العالي

يستفيد من هذه الفترة الحاضرة، فيبذل همته في اتخاذ الوسائل التي يحصل بها

تحسين أحوال النصارى التي اتفقت الدول على وجوبها لأجل بقاء السلامة

والطمأنينة بأوربا، فإذا أخذت في هذا المشروع يكون معلومًا عنده أن شرفه ونفعه

أيضًا يوجبان المحافظة عليه بالوفاء والإخلاص والإنجاز، فمن رأي الدول والحالة

هذه أن تكون مراقبة بواسطة سفرائها بالآستانة وعمالها في الولايات للمنوال الذي

ينجز به مواعيد الدولة العثمانية، فإذا خابت آمالها مرة أخرى، ولم تحسِّن حال

رعية السلطان على وجه يمنع من إعادة الارتباكات التي تتعاقب في الشرق، وتكدر

موارد السلم فيه، ترى من الصواب أن تعلن أن مثل هذه الأمور لا يوافق مصلحتها

ومصلحة أوربا عمومًا، ففي مثل هذه الحالة تستبقي لنفسها أن تنظر بالاتفاق في

اتخاذ الوسائل التي تراها الأصلح لتأمين خير النصارى، ولإبقاء السلم عمومًا)

انتهى المراد منه، ولم نذكر ما يتعلق بالولايات التي كانت ثائرة كالجبل الأسود

والصرب والبوسنة والهرسك

إلخ، وليس وراء هذه المراقبة والسيطرة إلا أن

تحتل كل دولة ولاية تنفذ فيها الأحكام تنفيذًا؛ ولذلك قامت قيامة الدولة العلية عندما

بُلِّغت هذا البروتوكول.

أود أن أشرف على الغيب ساعة من زمان، فأعرف ما يجول في خواطر

القراء عندما يطَّلعون على هذه الجملة الوجيزة، وماذا يرتؤون من الصواب أن

تجاب به الدول، وليعلم من لم يكن عالمًا أن الدولة العلية كانت حينئذ مشتغلة بحشر

العسكر وتعبئة الجيوش مجاوبة للروسية، وأنها تعلم أن الحرب واقعة لا محالة إلا

أن ترضخ للدول صاغرة، وتسلم قيادها إليهن تسليمًا.

أليست الطريقة المثلى أن تقنع الدولة الدول بأنها عازمة عزمًا صحيحًا على

إصلاح عامّ تساوي فيه بين النصارى وغيرهم من رعاياها، وتقوم فعلاً بمبادئ

الإصلاح بصورة مقنعة؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيبهن بأنه لا يمكن لها أن

تساوي بين المسلمين والنصارى كما يوهمه كلام اللائم؟ وهل كانت تنجو بهذا من

الحرب؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيب مطالبهن وتحكِّمهن في استقلالها،

وتوليهن إدارة بلادها كلها أو بعضها؟ ذهبت جريدة مصباح الشرق الغراء إلى أن

وعد الدولة للدول بإجراء الإصلاح في رعاياها بالمساواة في الحقوق التي وضع لها

القانون الأساسي كان نزغة من نزغات مدحت باشا المضرة، وأن رفض مطالب

الدول أيضًا مما انفرد به هو ومن أغواهم كوكيل الأرمن، والصواب أن هذا

الرفض كان إجماعيًّا، وأن العلماء والصفتة كانوا أشد طلبًا للحرب ممن عداهم،

وأن مدحت باشا كان أشد توقيًا وتحريًا في الموضوع من سائر رجال الدولة كما

تنطق به المداولات التي وصفها المصباح بالأفن والخطأ والخطل، كما يُعلم مما

نورده في الجزء الآتي بيانًا للحقائق التاريخية، لا انتصارًا لمدحت ولا للذين

يسمون أنفسهم (رون ترك) فإن المنار معروف بمقتهم والرد عليهم منذ أنشئ.

لها بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 192

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسلمون في أفريقيا

قرأنا في جريدة الإكلير فصلاً طويلاً مدبجًا بيراع الموسيو أندره مافيل يتعلق

بأحوال مسلمي المستعمرات الفرنسوية وغيرهم من الوثنيين القاطنين في تلك

الأراضي.

وقد خبط هذا الكاتب خبط عشواء في بعض المسائل الإسلامية ظنًّا منه أن

عقيدة المسلم الأبيض تختلف عن عقيدة المسلم الأسود، وحيث إنه أجنبي عن الدين

الحنيف فلا لوم عليه إذا غلط في بعض أموره؛ وإنما اللوم عليه في تعرضه لما لا

يعنيه ولما لا معرفة له به، ونحن نأخذ من كلامه بعض فقرات؛ ليعلم القارئ اللبيب

ما وصلت إليه أحوال الإسلام في أفريقيا الفرنسوية.

قال: إن المسألة الإسلامية تهم جدًّا مستقبل أفريقيا الفرنسوية؛ ولذلك يتعين

علينا النظر فيها بكل تدقيق والبحث عن شؤونها إفرادًا وإجمالاً.

ولا ريب أن الإسلام انتشر منذ عدة سنين انتشارًا عظيمًا في مستعمراتنا في

أفريقيا، فإذا ذهبت إلى هناك أخبرك الأهالي أنه منذ عشر سنوات كانت الناحية

الفلانية والمقاطعة الفلانية تعبد الأوثان، أما الآن فقد صار الجميع مسلمين، ولا

ريب أن تقدمًا مثل هذا يجب الاعتناء به والنظر إليه، وإذا نظرنا إلى حال الوثنيين

فلا نجدهم إلا أقوامًا سقطوا في هوة البهيمية؛ لأنهم لا خلاق لهم، وليس فيهم من

اشتم رائحة المدنية إلا الذين كانوا في البلاد الواسعة التي انتشرت فيها الوثنية (كذا)

مثل الأشانتي ، والداهومي، ولسوء الحظ فإن مدنيتهم ممزوجة بعادات بربرية

وأمور وحشية مثل ذبح البشر، وتقديمهم ضحايا للأوثان.

على أن مدنية هؤلاء الأقوام لا يمكن بوجه من الوجوه أن تقاس بمدنية الإسلام

في وادي النيجر؛ فإنها لمعت كالشهب وأنارت أفكار أصحاب هذا الدين وأخرجتهم من

هوة الخشونة التي كانوا فيها قبل أن يعتنقوا هذا الدين الإسلامي، فإذا تقرر أن

العنصر الإسلامي هو من العناصر الموجبة للحضارة والمدنية، فيتعين علينا أن لا

نجعل في سبيل تقدمه العثرات، ولا أن نعارضه في شيء، وعلى فرض أننا قصدنا

معارضته والوقوف دون تقدمه فإن جميع مساعينا تذهب سدى؛ لأنه يستحيل علينا أن

نقف دون أمواجه العظيمة المتعالية كالجبال والمتدفقة كالسيول، وعندي أننا إذا

حاولنا ذلك كنا غير عادلين من جهة مسلمينا السودانيين لا سيما إذا أسأنا فيهم الظن؛

لأننا نراهم من أشد رعايانا خضوعًا، ومن أعظمهم غيرة وحمية، أما رأيتم كيف أن

السنغاليين الذين هم من أخلص رعايانا وأتباعنا فتحوا بإرادتنا غربي السودان؟ أليس

هؤلاء القوم من المسلمين الذين استلمنا زمام أمورهم، وجعلناهم فرنسويين مثلنا؟

ولما حاربنا رباحًا أتوا بأعمال خطيرة، وأبلوا بلاء حسنًا، مع أن رباحًا وجماعته من

المسلمين مثلهم، ومن كان في ريب مما نقول فليسأل القومندان جانتيل عن حسن

سلوكهم، وصدق إخلاصهم، وما أبدوه من دلائل الشهامة والغيرة، ولا أظن أن

أولياء أمورنا يحاولون نشر المسيحية في أفريقيا؛ لأن هذه الديانة لا سوق لرواجها

هناك، وإننا في تلك البلاد في موقف مشرف على ثلاث ديانات: الإسلامية،

والمسيحية، والوثنية، والغلبة في ذلك للإسلامية، ولا أمل لي أن الوثنيين يتقدمون

في مستعمراتنا الإفريقية؛ فإن تمدنهم امتزج بالمسكرات، وما رأيت في حياتي شعبًا

ابتلاه الله بالمسكرات مثل هذا الشعب الدنيء، فقد رأيت أفرادهم في بمبوك ،

ومالنكس يشربون أقداح الأبسنت القتالة كما نشرب نحن الحليب، وذلك مما تقشعر

منه فرائص الإنسانية.

أما في شاطئ العاج فالمسكر شائع بين أهل الوثن الذين يصرفون منه كميات

وافرة، ومن النادر أن لا ترى عند الوثنيين ميلاً لأكل البشر، ففي الكنج يفاخرون

بأكل الناس، وهذا الأمر شائع وذائع هناك رغمًا عن حلول عساكرنا، ورغمًا عن

أوامرنا ومقاومتنا لمثل هذه العادات القبيحة، وأنا أراهن بأنك لا تمشي نحو 50

كيلو متر عن بلدة ليبرفيل حتى تشاهد أكل لحوم الناس شائعًا، فلا تكاد تدخل بيتًا

من بيوت الوثنيين وتكشف الأغطية عن طواجنه في المطابخ حتى تراها ملأى

باللحوم البشرية التي تعد عشاء للعيلة، ومثل ذلك يقال في الشعوب الساكنة في

جهات جنوب السودان على حدود ليباديا مما لا يمكن الإقلاع عنه إلا بعد مر السنين

الطوال.

أما أنا فعندي أن أعظم شيء تخفق له القلوب جزعًا وحنانًا مرأى البشر

يذبحون ضحايا للأوثان بسيوف الجهالة والحمق تبعًا لعادات قبيحة، يتعين علينا

إبطالها مهما كلفنا أمرها، وهذه العادات ناشئة عن اعتقاداتهم الدينية وعقولهم

القاصرة، فالمالنكس مثلاً وهم قبائل وثنية لا يعتقدون بشيء إلا بالشيطان، فهم

يقولون: إنه قادر على كل شيء، وعندهم أن هذا الخبيث؛ أي: الشيطان يترصدهم

ويراقب أعمالهم وحركاتهم، فهو يكمن أحيانًا بين الأدغال، وفي الجبال ويطوف

فيها، ويختبئ أيضًا في الجنائن والبيوت، وفي الليل يخرج منها ويطوف لأجل الأذى

والأعمال الفظيعة، والوثنية في شاطئ العاج والداهومي منشورة جدًّا، وأهلها

يعبدون الوجوه الممسوخة وتماثيل الحيوانات، وفي أحد الأيام كنت بينهم، فكان ذلك

اليوم أثقل على قلبي من عبادة الوثن؛ فإني شاهدت الأهالي يصبغون وجوههم بلون

أصفر احترامًا لأصنامهم، وكان ذلك اليوم عيدًا عندهم، أما عندي فكان يوم بؤس،

وكل أهل الوثن يتطيرون بالنحوس، وعندهم أن الإنسان غير مخير في عمله، فهو

يرتكب أعظم الفظائع بما قدرته عليه آلهته.

أما الدين الإسلامي الذي نحسبه بعيدًا عنا وننفر منه بحكم العادة، فيجب علينا

اعتباره وإنزاله في منزلته؛ لأنه دين يعلم أصحابه عبادة الله تعالى، وله جاذبية

تستميل الناس إليه، فهو إذن مالك زمام أفريقيا بأسرها، وعدا عن ذلك فإن كيفية

التدين فيه لها عند شعوب أفريقيا احترام عظيم لو نظرناه - نحن الإفرنج - لما مكثنا

غير مكترثين به، إلى أن قال: فيجب علينا والحالة هذه أن نعيش بما أمكن من

المسالمة وحسن المجاملة مع أهل الإسلام، وأن نحترم دينهم فإنهم يسرّون منا

سرورًا عظيمًا، ولو راجعنا أغلاطنا الماضية منذ فتحنا أفريقيا علمنا حق العلم بأننا

كنا غير عادلين مع المسلمين، ولا ريب أن الاستمرار على عدم العدل يقوض

أركان ملكنا في تلك البلاد، على أن الدين الإسلامي وتعاليمه ليست من التعاليم التي

تهددنا بالخطر والخوف، فإن المسلم رقيق الجانب، أنيس المعشر، يبدي سلامه

بلطف وابتسامة، فهو في كل الوجوه أفضل من سواه، وإننا لنخطئ جدًّا إذا اعتقدنا

بأن هؤلاء المسلمين ينهضون يومًا لأجل الجهاد بقتالنا، فقد مضى في أفريقيا

الغربية زمن الحاج عمر ومحمد وغيرهما.

هذا بعض مما قاله هذا الكاتب المجيد، وقد قابل في آخر كلامه بين الإسلام

والمسيحية، وأظهر أن نشر الإسلامية هناك أسهل بكثير من نشر المسيحية، ثم

ختم كلامه بحض أهل البعثات المسيحية على الذهاب إلى البلدان الوثنية لأجل

إدخال العقائد المسيحية في عقولهم، وقد أبدى للمبعوثين ملاحظات كثيرة، ونبههم

إلى أن لا يدخلوا البلدان الإسلامية؛ لأنه يستحيل أن مسلمًا يخرج من دينه ليعتنق

دينًا آخر اهـ.

...

...

...

...

...

بيروت

_________

ص: 196

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استلفات لإزالة شبهة

جاء في العدد 150 من جريدة مصباح الشرق الغراء في سيرة سقراط

الفيلسوف اليوناني هذه الجملة بنصها: (ولسنا نقول: إن في قدرة كل إنسان أن

يصل إلى درجة سقراط في الجمع بين القول والفعل على حسب أصول الفضيلة، تلك

عليا مراتب الأنبياء) ، ولا يخفى ما يتبادر منها إلى الفهم من إلحاق سقراط بأصحاب

المراتب العليا من الأنبياء كأولي العزم وتفضيله على من سواهم من الأنبياء عليهم

الصلاة والسلام، مما يمتنع أن يكون مرادًا لسعادة صاحب المصباح المنير، فنرجو

من سعادته كتابة ما يرفع الوهم ويزيل الالتباس عن قراء جريدته.

_________

ص: 200

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تصحيح غلط

كلما أجلنا الطرف فيما طُبع من المنار نرى فيه أغلاط طبع مدركة بالطبع

كلفظة (مخازن) في السطر العاشر من الصفحة 124 من الجزء الرابع،

وصوابها (مخازي) ، ومثل لفظ (هي) الذي سقط من السطر التاسع عشر من

الصفحة 166 من هذا الجزء، ومحله قبل الكلمة الأخيرة، ومثل (المقدمة السابعة)

في السطر الأول من الصفحة 170، و (المقدمة الثامنة) من السطر الثالث منها،

وصوابه يُعرف من ترتيب العدد قبله، فليصحِّح مثل هذا من تنبه له.

_________

ص: 200

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنبيه

لا بد أن تثقل أقوال المصلح في المحاورة المنشورة في هذا الجزء، والتي

ستُنشر فيما بعده على بعض أهل العلم؛ ولكننا نرى حججه قوية، فمن كان عنده رد

أقوى من ردّ محاوره المقلد، فليتفضل علينا به لننشره لتحرير البحث.

_________

ص: 200

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شبهات المسيحيين على الإسلام

اطَّلعنا على صحيفة كبيرة لأحد المشتغلين بقراءة الكتب التي نشرتها البعثات

النصرانية في الطعن بدين الإسلام، يسأل فيها كاتبها كشف شبهات علقت في ذهنه

في مطالعة تلك الكتب، ومن الواجب أن نجيب عن هذه الشبهات؛ لأن المدافعة

عن الدين أهم ما أنشئ له المنار؛ ولكن سنتنا التي جرينا عليها من أول يوم هي

مسالمة المخالفين لنا في الدين لا سيما المسيحيين، بل السعي في إزالة الأحقاد،

والاتفاق على ما فيه نجاح البلاد، ونود أن لا يطعن أحد في دين الآخر لا قولاً ولا

كتابة؛ ولكن المسيحيين لا يوافقوننا على هذا كما يوافقنا المسلمون؛ ولذلك نراهم

يعقدون الجمعيات للطعن اللساني في الإسلام، وينشرون الجرائد (كراية صهيون)

ويؤلفون الكتب للطعن الكتابي، وإننا نصبر على هذا التعدي، ونكتفي بكشف

شبهات السائلين من أهل ديننا مع مراعاة الأدب فنقول:

إننا قد عجبنا لهذا المسلم المطالع كتب المسيحيين، كيف اكتفى بمطالعتها من

غير أن يطالع الكتب الإسلامية التي تقابلها بالمثل وتدفع شبهاتها وتورد عليها ما لا

دافع له، ككتاب (إظهار الحق) ، وكتاب (السيف الصقيل) وغيرها؟ فأول

جواب نجيبه به أن عليه أن يطالع تلك الكتب، وبعد مطالعتها والموازنة بينها وبين

كتب المسيحيين التي طالعها يسأل عما يشتبه عليه إن بقيت له شبهة؛ لأن الجريدة

التي طلب أن تنشر فيها الأجوبة عن شبهاته لا يمكنها استيفاء الكلام في مواضيعها؛

لأنها تستلزم الطعن الذي تتحاماه، خلافًا لما جاء في آخر صحيفته، ثم إن شبهاته

تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

(أحدها) : مخالفة بعض نصوص الدين الإسلامي لما ورد في كتب اليهود

والنصارى.

(ثانيها) : ورود أشياء في القرآن لم ترد في تلك الكتب، وإن تعجب،

فعجب اشتباه هذا المسلم في هذا النوع؛ فإن السكوت عن الشيء لا يُعد إنكارًا له،

فكيف يشتبه بما يعتقد أن الله أخبر به؛ لأن أولئك المؤرخين لم يذكروه؟ ! !

(ثالثها) : ورود أشياء في الكتاب والسنة مخالفة للواقع، أو لما ثبت في

العلوم الحديثة بزعم من تلقى عنهم، وإننا نجيب عن القسمين الأول والثالث،

وحسبنا في الجواب عن الثاني ما ذكرنا من أنه لا وجه للاشتباه به، ونبدأ الجواب

بمسألة وجيزة في اعتقاد المسلمين بالتوراة والإنجيل فنقول:

إن السائل يحتج على كون التوراة والإنجيل من عند الله تعالى بالقرآن تبعًا

لدعاة النصرانية، الذين ولع بسماع كلامهم وقراءة كتبهم، ولعمري إنه لا تقوم على

ذلك حجة إلا شهادة القرآن، فشهادة القرآن حجة على أن الله تعالى شرع على لسان

موسى عليه السلام شريعة سماها التوراة، وهذه الشهادة شبهة على القرآن؛ لأنها

شهادة بحقية شيء يشهد العقل والعلم والوجود ببطلانه، بل يشهد هو ببطلان نفسه،

أما شهادته ببطلان نفسه فبما فيه من التناقض والتعارض، وأما شهادة العقل والعلم

والوجود فبمخالفة تلك الكتب التي تسمى عند القوم توراة لها، وإذا أراد السائل أن

يعرف هذا تفصيلاً فليطالع ما كتب فيه من الإنسكلوبيديا الفرنسوية الكبرى وغيرها

من الكتب التي ألفها علماء أوروبا، ومثل إظهار الحق من كتب المسلمين.

وأما الجواب عن هذه الشبهة الذي يُظهر صحة شهادة القرآن، فهو أن التوراة

التي يشهد لها القرآن هي كتاب شريعة وأحكام، لا كتاب تاريخ مقتبس من

ميثولوجيا الآشوريين والكلدانيين وغيرهم، فنبالي بتكذيب علم الجيولوجيا وعلم

الآثار العادية له، أو موافقة هذا لبعض ما ورد فيه، ولا تاريخ طبيعي فنبالي

بتكذيب ما ثبت بالتجارب الوجودية من مخالفته كثبوت كون الحيات لا تأكل التراب،

وإن جاء في سفر التكوين أن الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) ،

فضلاً عما فيه من نسبة ما لا يليق بالله إليه تعالى ككونه ندم على خلق الإنسان

ونحو ذلك، فالتوراة حق، وهي الشرائع والأحكام التي كان يحكم بها موسى ومن

بعده من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وأحبارهم كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا

التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ

وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44) ولم يشهد القرآن لهذه الكتب الكثيرة التاريخية التي

منها ما لم يُعلم مؤلفه وكاتبه، وكلها كتب بعد موسى صاحب التوراة بزمن طويل،

وبهذا الجواب تصح شهادة القرآن وتبطل أسئلة المشتبه في الخلاف التاريخي بين

القرآن وكتاب حزقيال وأشعيا ودانيال وغيرهم؛ لأن هذه الكتب لم يشهد لها

القرآن.

ولا تغترن بتسمية القوم لجميع كتب العهد بالتوراة، فذلك اصطلاح جرى

على سبيل التغليب، بل إننا نرى النصارى كثيرًا ما يسمون مجموع كتب العهدين

العتيق والجديد التوراة عندما تكون مجتمعة.

وأما الإنجيل فهو في اعتقاد المسلمين ما أوحاه الله تعالى إلى السيد المسيح

عليه الصلاة والسلام من المواعظ والحكم والأحكام، وكان يعظ به ويُعَلِّم الناس،

وما زاد على ذلك من هذه الكتب التي يسمونها إنجيلاً فهو في نظر المسلمين من

التاريخ، إن كان خبرًا وإن كان حكمًا أو عقيدة فهو لمن قاله، وأنت تعلم أن

النصارى يسمون مجموع كتب العهد الجديد إنجيلاً، ويعترفون بأنها كُتبت بعد

المسيح بأزمنة مختلفة، وليس لها ولا لكتب العهد العتيق أسانيد يحتجون بها.

والقرآن يشهد على النصارى بأنهم لم يحفظوا جميع ما وعظهم به المسيح من

الوحي المسمى بالإنجيل حيث قال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ

فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) والإنجيل يطلق على بعض ذلك الوحي،

كما يُطلق لفظ القرآن أو قرآن على بعضه، تقول: كان فلان يقرأ القرآن، ومثل

هذا الاستعمال معروف حتى في الكتاب والسنة، وكان القرآن يسمى قرآنًا قبل تمام

نزوله.

ولما كانت أحكام التوراة وحكم الإنجيل موجودة عند اليهود والنصارى بلا

شبهة، كان القرآن يحتج عليهم بعدم إقامتها ولا يمنع من هذا الاحتجاج مزجهم إياها

بالتاريخ؛ ولكن هذا المزج هو السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا

تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم) ؛ أي: عندما يعرضون عليكم شيئًا من كتبهم؛ وذلك لأنه

ليس عندنا فرقان نميز به بين الأحكام الأصلية الموحى بها، وبين ما مُزج بها في

التأليف، نعم إننا نرجح بعقولنا أن الأحكام المسندة إلى سيدنا موسى في سفر الخروج

وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية كلها أو جلها من التوراة؛ لأنها إن لم تكن هي

فأين هي؟ ونرجح مثل ذلك في وعظ المسيح على الجبل كما في تاريخ إنجيل مَتَّى

وغير ذلك من المواعظ كما رجح بعض العلماء في أوربا والشرق أن جزءًا كبيرًا من

الإنجيل الحقيقي دخل في كتاب أشعيا، وأما الأخبار التي عند القوم فما خالف منها

القرآن نقطع بكذبه ولا غرو، فالله يصدق والمؤرخون يكذبون، وهو معنى قوله

تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) وإننا نكتفي الآن بهذا القدر وموعدنا الجزء الآتي، وإن كان للسائل

شبهة فيما كتبنا فليكتب إلينا نزيده إيضاحًا، وكنا نحب أن يجيئنا إلى إدارة المنار،

ويأخذ الأجوبة الشفاهية؛ لأن حرية اللسان أكبر من حرية القلم، ولولا أن فقهاءنا

يحكمون بكفر من يعلم أن مسلمًا شاكًّا في دينه، وهو قادر على إزالة شكه ولم يفعل

لما كتبنا شيئًا مما كتبنا؛ لأننا خطباء وفاق ووئام، وطلاب مودة والتئام، ولكن ديننا

أوجب علينا هذا لا سيما وأن السائل كتم اسمه، وطلب أن يجاب في المنار فتعين

علينا ذلك.

_________

ص: 179

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السخاء والبخل

خلق الله الإنسان يمقت الرذيلة بالطبع، ويُزري بالمتلبس بها، ويحب

الفضيلة ويلهج بإطراء صاحبها، وإذا استقرينا سجايا الإنسان وما قاله ويقوله الناس

في الفضلاء من الثناء والمدح، وما رموا به الرذلاء من سهام الذم والقدح، يتسنى

لنا أن نحكم بأن السخاء أرفع الفضائل منزلة في القلوب، وأعلاها وقعًا في النفوس،

وأبعدها طيرانًا في جو الخيال، وأبدعها افتنانًا في فنون السحر الحلال، وأكثرها

دورانًا في الشعر، وأقواها سلطانًا على الفكر، وأحسنها تصريفًا للأقلام، وتسخيرًا

للعقول والأحلام، وأن الأسخياء أشرف الناس عنصرًا، وأكرمهم جوهرًا، وأطيبهم

نفوسًا، وأضوأهم شموسًا، وأعزهم نفرًا، وأبقاهم أثرًا، وأوسعهم صيتًا وذكرًا،

وأسمعهم حمدًا وشكرًا، وإن شئت حكمت بأنهم أوسع الناس وجودًا، كما أنهم

أوسعهم جودًا، ونحكم بضد ذلك كله، وبضد ما لم نحكه من نعوتهم وصفاتهم،

وآياتهم وكراماتهم، على أضدادهم البخلاء، وبضدها تتميز الأشياء.

ما هو السخاء؟ وبم تعرف الأسخياء؟ وما هو البخل؟ وبم تتميز البخلاء؟

وهل يشتبه الضدان فنحتاج إلى التعريف والفرقة، أو يتشابه المتباينان فنزيل بينهما

بالإبانة والتفصلة؟ نعم إن أكثر الناس لا يفقهون تحديد صفة السخاء والجود،

وصفة البخل والشح، بل ولا يميزون بين الأسخياء والبخلاء تمييزًا حقيقيًّا، فكثيرًا

ما يَسِمُون السخي الكريم، بسمة البخيل اللئيم، وأكثر من هذا أنهم يُسَمُّون الأشحة

اللؤماء، أجاود كرماء، وهذا مما يثير دفائن العجب من النفوس، ويستخرج بقايا

الدهشة من أعماق القلوب؛ لأن المعهود في الإنسان أنه يغفل عما لا شأن له عنده،

ولا مكانة له من نفسه، ويحيط علمًا بدقائق الأمور، ويكتنه خفايا الشؤون، إذا كان

لها سلطان قوي على روحه، وتأثير مؤلم أو ملائم في وجدانه، حيث الداعية إلى

العلم، والباعث إلى الفقه والفهم، وقد أشرنا إلى مكانة الأسخياء الشريفة العليا،

ومنزلة البخلاء الدنيئة السفلى.

أستغفر الله: لقد ظلمت الإنسان؛ إذ ألصقت بمجموعه أو جميعه ما هو خاص

بالشعوب الجاهلة، والأمم التي ضعف في أفرادها معنى الإنسانية، ونزلت عن

مراتب المدنية، فامتلخت أحلامهم، وسادت أوهامهم، يحكمون بالنظرة الحمقى لا

يسبرون الأغوار، ولا يغوصون البحار، فأنى يظفرون بدرر الحقائق، ويقفون

على خفيات الدقائق.

من هو السخي عند هؤلاء؟ ، وبم يعرفون السخاء؟ ، السخاء عندهم هو

التمتع بالمال، ولو بما زاد على قدر الحال، أكل وشرب، ولهو ولعب، وأثاث

ورياش، وسرير وفراش، وخيول ومركبات، ومراكب ذهبيات، واستطابة

الألوان، للوجوه والأعيان، واستعداد في كل آن، لإطعام من يلمّ من الإخوان،

ممن على شاكلة السخي في وظائفه ورتبه، أو على مقربة منه في فضته وذهبه،

وفاتهم أن هؤلاء هم الذين قال في مثلهم القرآن: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم

مُّجْرِمُونَ} (المرسلات: 46) والسخاء محمود عند الله، ممدوح عند الناس

فكيف يكون صاحبه مجرمًا؟

ومن الأسخياء، في عرف هؤلاء الأغبياء من يُهْدِي ليُهْدَى، ويُعْطَى أكثر مما

أعطى، إن لم يكن من نوع ما بذله وجنسه، فمما هو أنفس في نفسه، فإن لم

يتقاض طعامًا بطعام، ويتبادل مُدامًا بمدام، فهو يشتري الجاه العريض الطويل،

بالعرض النزر القليل، فدرهمه دينار، كما هو شأن دهاقين التجار، ومن يقول

فيمن يطعمك قليلاً من اللحم، أو يُهدِي إليك منًا أو منوين من السمن، ليستخدم

جاهك عند الحكام في الحصول على رتبة أو وسام، أو في دفع مظلمة نزلت به

بوادرها، أو الاستعانة على غنيمة ترجى غاياتها وأواخرها -: إن هذا جواد كريم،

وسخي عظيم؟ أليس قد قال تعالى: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) وهل

ينهى الله تعالى عن الجود والكرم وهو الجواد الكريم؟

أرأيتك هذا استسمنت وَرَمه، واستغزرت ديمه، هل أهدى وبذل، إلا لذلك

الأمل، فهو مكتسب يستدر أخلافًا، ودائن يأكل الربا أضعافًا، أما كان لولا هذا

العطاء، لهذا الجزاء، يبذل بدَرَ الدنانير، وهو صاغر حقير، يطيل مع التنفس

إحصاءها وعدَّها، ويرجو على الحرص قبولها ويخشى ردَّها، ويرى لآخذها -

وهي روحه - من الفضل عليه، مثلما رأى له بالهدية والدعوة من الفضل عليك،

نعم إنه دعا أو أهدى وهو يعلم أنه يربح بذلك امتلاك قلبك (أولاً) وامتلاك قلوب

الناس الذين يرونه بذلك جوادًا كريمًا (ثانيًا) وإعدادك لقضاء حوائجه (ثالثًا) وفي

هذا الثالث من التوفير ما أشرنا إليه آنفًا، فهو على كونه يمن ليستكثر ويأكل الربا

أضعافًا مضاعفة غاش طامع، وراشٍ مخادع، ولو علم حاجتك إلى صلة منه ليس

لها منك عائد، ولا تأتي بشيء من هذه الفوائد، لما قابلك إلا بالرد، ولما وصلك

إلا بالإعراض والصد، فما بالك إذا كان يَدُعُّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين،

ويمنع الماعون، ويشكو حرصه الجيران والأقربون، ولا يؤدي الزكاة الشرعية،

ولا يساعد الجمعيات الخيرية، ولا يعضد المشروعات العلمية والعملية.

ومن الناس من لا يَعُدّ مثل هذا في الأسخياء، ويرى أن السخي الكريم هو

الذي يرمي بالمال هكذا وهكذا، يضرب به في كل فج وينفقه في كل سبيل، في

سبيل الله تارة، وفي سبيل الشيطان تارة أو تارات، متبعًا في ذلك خطرات الوساوس

ونزعات الهواجس، ولا ينافي ذلك عندهم تعديه على حقوق الناس، وأكله

أموالهم بالباطل كأنواع الرشوة وضروب الضرائب إن كان حاكمًا أو زعيمًا، أو

صاحب مكانة من الأمراء المستبدين، والسلاطين الجائرين، وكأنواع الاحتيال

والتزوير إن كان من غيرهم، يقولون: فلان لا يُضام؛ لأنه من الكرام، لا يُرَدُّ

سائله، ولا يمنع أحدًا نائله، قد أغنى زيدًا، فصار له يدًا وأيدًا، (أي قوة) وعمر

بيت عمرو، بعدما هدمه الفقر، فجعله من أنصاره، يستعين به على أوطاره وتبرع

على جمعية كذا بمبلغ من النقود، في يوم احتفالها المشهود، وقد عيَّن لعدة من

الجرائد الوطنية والأجنبية، رواتب شهرية أو سنوية، إعانة لأصحابها على إذاعة

المعارف الرافعة، ونشر الأفكار النافعة، فهي دائمًا تعطر المشام بعرف نشره وتشنف

الآذان بحلي ذكره، فإن قيل: إنه إنما يبذل لجرائد الكدية التي ليس لها رأي ولا

مذهب، ولا لها مشرع ولا مشرب، إلا جمع المال بالإطراء والمدح، أو بالإزراء

والقدح، ولا يشترك بجريدة لا يرجو منها الثناء، ولا يخاف منها الإزراء يحار

المنصف فلا يحير جوابًا، ويكذب المتعسف في التشيع له كِذَّابًا، وقد يفضي السرف

والمخيلة بهذا الصنف من المغرمين بالإنفاق، لاقتطاف ثمار التعظيم والتبجيل من

جنات النفاق، إلى أسوأ حالات الفقر والإملاق، وذلك إذا قصرت يد سلطتهم،

وخضدت شوكة سطوتهم، أو كسدت أسواق حيلتهم، ونضب معين ثروتهم، ثم لا

يجدون ممن اصطفوهم صانع معروف، ولا باذل آحاد من تلك الألوف؛ لأنهم لا

يصطفون كريمًا شكورًا {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ

كَفُوراً} (الإسراء: 27) .

للكلام بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 201

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورة السابعة بين المصلح والمقلد

الاجتهاد والوحدة الإسلامية

قد كان كلام الشاب المصلح في المجلس الماضي مؤلمًا للشيخ المقلد؛ لأنه لم

يكن في حسبانه أن يتعدى البحث إلى ما تعدى إليه، فلم يغب إلا يومًا واحدًا راجع

فيه الآيات والأحاديث التي أوردها الشاب في الاستدلال على مقدماته، وعاد في

مساء اليوم الثاني وملامح الامتعاض والتبرم بادية على وجهه وقال في أول كلامه:

المقلد: لقد اهتديت إلى ما يبطل رأيك في أن الاختلاف في المذاهب كان

سببًا في ضعف الأمة، وهو أن المذاهب كانت أيام كانت الأمة في ريعان شبابها

وكمال قوتها، وكذلك نرى الأمم الأوربية في قوة وبأس شديد وهي مختلفة في الدين

ومتفرقة إلى مذاهب، وإذا بطل هذا الرأي تبطل نتيجته وهي الوحدة في الدين

على رأيك، ونكفى مؤنة الخوض في ذلك وما تبعه من فتح باب الاجتهاد الذي

يؤدي إلى تطويل، وقال وقيل، فقد راجعت الآيات والأحاديث التي ذكرتها في

مجلسنا الماضي، وظهر لي وجوه للنزاع في دلالتها على مرادك فهل لك في إقفال

هذا الباب؟

المصلح: من شأن المرض أن يطرأ في إبان الصحة، وكم من مرض تتولد

جراثيمه في طور الحداثة أو الشباب، فتدافعها قوة المزاج زمنًا، ثم تتغلب عليها

في طور آخر، إما بنفسها وإما بمساعدة جراثيم مرض آخر، وهذه القاعدة مشاهدة

في الأشخاص عند علماء الطب، وفي الأمم عند علماء الاجتماع، وإن شئت

فصَّلت لك القول في هذا تفصيلاً، ولو كنت مطلعًا على التاريخ لكفيتني ذلك؛ فإن

فتنة التتار التي هي أشد صدمة زلزلت القوة الإسلامية، لم تكن إلا بسبب تعصب

الشافعية والحنفية، وأما أوربا فقد أخذت حظها من ضعف التفرق في الدين أيام

كانت تُحَكِّم الدين في السياسة، وقد عالجت هذا الضعف بالفصل بين السياسة

والدين، فليس له الآن شأن في سياستها وأحكامها إلا الاستعانة بدعاته على

الاستعمار في الشرق وأفريقيا، وما زال رجال السياسة يطاردون رجال الدين،

ويغضون من صوتهم في عدة ممالك، أما قرأت في الجرائد ما حصل أخيرًا في

أسبانيا وفرنسا وغيرهما؟ فهل يروق في نظرك أن تحذو الحكومات الإسلامية في

هذا حذو الحكومات الأوربية؟ أما أنها ستفعل ولو بعد حين إلا أن تبادروا وأنتم

رجال الدين بالإصلاح الديني الذي تسير به سنن الشريعة على سنن الطبيعة؛ فإن

الله أقام سنن الطبيعة بالاضطرار عنا، ووكَّل إلينا إقامة سنن الشريعة بالاختيار منا

فإذا لم نوفق باختيارنا بين السنتين يثبت الاضطراري، ويبطل الاختياري {فَأَقِمْ

وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ

القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا تَكُونُوا

مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) ففي هذه الآيات الكريمة أهم أركان الإصلاح الديني الذي نطلبه

وكما لاحت لك وجوه للمناقشة في مقدماتي السابقة - بعد انصرافك من مجلسنا

السابق - لاحت لي أيضًا مسائل ومقدمات أخرى إذا أذنت لي سردتها عليك.

المقلد: قد عِيل صبري من المقدمات والمناقشات فيها، وأحب أن أقف على

مقصدك أولاً، فاذكره لي وانتظر في سائر مسائلك المناسبات.

المصلح: أحسن علماء المناظرة صنعًا باصطلاحهم على ترك البحث عن

مقدمات الدلائل لما يستلزمه من انتشار البحث وذهابه إلى غير غاية، وأحب أن

تسمح لي بذكر مقدمتين ذهلت عنهما في مجلسنا السابق ولا بد منهما وهما:

(المقدمة العاشرة) : إن الشارع لم يسلك في بيان الأحكام الدينية مسلك

الفلاسفة وعلماء النظر في وضع الحدود الجامعة المانعة لمسائل علومهم؛ وإنما بيَّن

الأحكام العملية بالعمل، وما بيَّنه بالقول وكَّله إلى أفهام المخاطبين وعرفهم، ولذلك

قال: الحلال بيِّن والحرام بيِّن. وما احتيج في العمل به إلى اجتهاد ورأي وكَّله إلى

اجتهادهم ورأيهم كاستقبال القبلة في السفر، وكان الصحابة والتابعون على هذا حتى

حدثت المذاهب، فأخذ بعض المجتهدين بإطلاقات الشارع في بعض الأحكام،

ووضعوا الحدود والتعريفات المنطقية للبعض الآخر، وكان هذا التحديد أعظم

أسباب الخلاف في المذاهب؛ ولكن لم يلزم أحد من الأئمة بأن يأخذوا بتحديده ولم

يحكم بخطأ من خالفه فيه لعلمهم بأن الشارع فوَّض ذلك إلى أفهام الناس، ووسَّع

الأمر فيه توسيعًا، وأنه لو سلك مسلك الفلاسفة في التحديد لأوقع الناس في الحرج،

ولما صح أن يكون دينه دين الفطرة، ولا أن يكون عامًّا، ولا أن يظهر في أمة

أمية، ولا أن توصف شريعته بالحنيفية السمحة، بل كان دينًا خاصًّا بطائفة من

أهل الفلسفة النظرية، وهكذا جعله علماء المسلمين بعد الصدر الأول، إذا تكلموا

في توحيد الله تعالى يذكرون الكم المتصل والكم المنفصل، ويذكرون الجوهر

والعرض والدور والتسلسل، وإذا تكلموا في الأحكام يذكرون الحدود الجامعة المانعة،

ويكثرون من التقسيم واختراع الأقسام الفرضية التي تمضي الأعمار ولا تقع، بل

يذكرون المحال أيضًا، حتى قال بعض علماء الحنفية: يحتاج من يريد أن يكون

فقيهًا حنيفيًّا إلى الانقطاع لمدارسة الفقه عشرين سنة على الأقل. وأنت تعلم أن هذه

المدة هي مدة التشريع، وفيها نزل الدين كله عقائده وأخلاقه وآدابه وسياسته

وإرادته وأحكامه، ولم تكن المدة كلها ولا عُشْرها مصروفة لبيان الأحكام الظاهرة

التي يسمونها الآن فقهًا.

ويشهد لهذه القاعدة إجازة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المختلفين في فهم

إطلاق النصوص فيما يتعلق بأعمالهم الشخصية، روى النسائي عن طارق (أن

رجلاً أجنب، فلم يصلّ فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال:

(أصبت) فأجنب رجل فتيمم وصلى، فأتاه فقال نحو ما قال للآخر (أصبت) .

وروى البخاري عن عمران بن حصين أنه قال للرجل الذي اعتزل فلم يصل في

القوم: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك

بالصعيد فإنه يكفيك. وأجاز عمرو بن العاص فيما فهم من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) من جواز التيمم للجنب إذا خاف على نفسه

من البرد. والمروي عن عمر وابنه وابن مسعود أن الجنب لا يتيمم. لأنهم كانوا

يفهمون من قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) أنها الجس باليد،

والآثار في هذا كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك عن التابعين والأئمة

المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين.

كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى الوضوء من الفصد والحجامة والرعاف

فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال:

كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب، وكان الإمام مالك أفتى

هارون الرشيد بأنه لا وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى يومًا بعد الحجامة، وصلى

خلفه الإمام أبو يوسف ولم يعد، واغتسل أبو يوسف في الحمام، وبعد صلاة الجمعة

أخبر أنه كان في بئر الحمام فأرة ميتة فلم يعد، وقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل

المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا. والفقهاء من المتأخرين يُرْجِعُون هذا إلى

قواعدهم المنتزعة كجواز التقليد بعد الوقوع، ومنهم من يؤول ذلك بتغير الاجتهاد

ولو ساعة من زمان، ومن ذلك خلافهم في أن العبرة برأي المأموم، وأنت تعرف

هذا تفصيلاً فلا حاجة إلى الإطالة به.

(المقدمة الحادية عشرة) : إن أصول الدين الأساسية هي العقائد الصحيحة

وتهذيب الأخلاق وأدب النفس وعبادة الله تعالى على الوجه الذي بينه وارتضاه،

والقواعد العامة للمعاملات بين الناس كحفظ الدماء والأعراض والأموال، وكل هذه

الأصول قد كملت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك نزل عليه في حجة

الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) فأما العقائد والعبادات فقد كملت بالتفصيل بحيث لا تقبل الزيادة ولا

النقص، ومن يزيد فيها أو ينقص منها فهو مغير للإسلام وآتٍ بدين جديد، وأما

أحكام المعاملات فبعد تقرير أصول الفضائل كوجوب العدل في الأحكام والمساواة

في الحقوق، وتحريم البغي والاعتداء والغش والخيانة وحد الحدود لبعض الجرائم،

وبعد وضع قاعدة الشورى فوَّض الشارع الأمر في جزئيات الأحكام إلى أولي الأمر

من العلماء والحكام الذين يجب شرعًا أن يكونوا من أهل العلم والعدل يقررون

بالمشاورة ما هو الأصلح للأمة بحسب الزمان، وكان الصحابة عليهم الرضوان

يفهمون هذا من غير نص عليه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما يُعلم من

حديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن، فإنه هو الذي قال ابتداءً أنه يحكم برأيه فيما

لا يجد فيه نصًّا في الكتاب ولا في السنة، وأجازه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،

بل نقل أنهم كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به، وإن خالف السنة

المتبعة كأنهم يرون أن الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة، لا بجزئيات الأحكام

وفروعها، أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس

رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله

عليه وسلم، وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، فقال عمر: إن الناس قد

استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. ومن قضاء النبي

صلى الله تعالى عليه وسلم بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى

عنهما قال: طلق ركانة امرأته ثلاثًا في مجلس، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها؟) قال: طلقتها ثلاثًا، قال: (في

مجلس واحد) قال: نعم. قال: (فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت) فراجعها.

والشواهد على هذا كثيرة، والحنفية لاحظوا هذا، فقدموا القياس الجلي على خبر

الواحد، والرأي الذي يسمونه الاستحسان مقدم عندهم على القياس والمراد

بالاستحسان ما ثبت أن فيه المصلحة للأمة، هكذا أفهمه خلافًا لما قاله المتأخرون من

فقهائهم: إنه قياس خفي. وإنما قالوا هذا؛ فرارًا من تشنيع المحدثين وسائر العلماء

عليهم بزيادة أصل في الدين، وبتقديم الرأي على السنة، ولو كان قياسًا لما شنعوا

عليهم بالرأي، ولما صح تقديمه وهو خفي على القياس الجلي، وكان الأولى أن

يحتجوا عليه بعمل عمر وإجازة الصحابة له رضي الله تعالى عنهم.

المقلد: لا أستطيع السكوت لك على هذه، فقد غلوت فيها غلوًّا كبيرًا، وقد

أوَّل الفقهاء حديث عمر رضي الله عنه وأجابوا عنه بعدة أجوبة، قال العلامة

السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ، فكانوا أولاً يصدقون في إرادة

التأكيد لديانتهم، فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع

الثلاث. وأجاب ابن حجر وغيره بأن الأحسن أن يقال: إنه ظهر لعمر ناسخ.

المصلح: لِمَ لَمْ تذكر رد ابن حجر على السبكي وأنت مطلع عليه؟ أتريد أن

تختلبني بكثرة التأويل؟ ألم يرد عليه بأن مذهبهم تصديق مدعي التأكيد وإن بلغ في

الفسوق ما بلغ؟ وأما قولهم باحتمال الناسخ فينافيه لفظ (فلو أمضيناه عليهم) ؛ لأنه

صريح في أنه رأي واجتهاد كما يدل قول ابن عباس في أول الحديث، على أن الحكم

الأول كان سنة متبعة، أو إجماعًا لا خلاف فيه، وأصرح منه في هذا حديث

طاووس عند أبي داود والبيهقي، وهو أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء. كان كثير

السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن

يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر

وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: (بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل

أن يدخل بها جعلوها واحدة، إلى أن قال: فلما رأى - أي عمر - الناس قد تبايعوا

فيها قال: أجيزوهن - أي الثلاث - عليهم) ، فقولهما:(جعلوها) دليل على أنه

إجماع، وقول عمر:(أجيزوهن) يفيد أنه اجتهاد منه كما تدل عليه أيضًا عبارة

السبكي، ولا التفات إلى التقييد بغير المدخول بها لجواز أن السؤال لواقعة كانت

كذلك، بدليل حديث ركانة في المدخول بها، وإطلاق الحديث الصحيح، وما زعمه

بعضهم من أن حديث طاوس لا يدل على أن الجاعل هو النبي صلى الله تعالى

عليه وسلم، وأنه يحتمل أن ذلك لم يقع إلا في الأطراف النائية فيجتهد فيها من

أوتي علمًا، فهو زعم سخيف واحتمال ضعيف؛ لأن اللفظ يأبى قبوله، وحديث

ركانة يقوض أركانه وأصوله، وليس عندهم لفظ أظهر في دعوى الإجماع منه.

المقلد - بحدة وغضب -: هل أداك اجتهادك إلى القول بأن عمر رضي الله

تعالى عنه قدم رأيه واجتهاده على السنة والإجماع؟ لقد راودتني نفسي أن أترك

الكلام معك؛ ولكن لا بد لي من سبر غورك، واستخراج كل ما في صدرك،

والوقوف على ما تتخيله من الإصلاح في الدين، وجمع كلمة المسلمين، وما أرى

هذا الإصلاح إلا نار سعير، سيكون لها فتنة في الأرض وفساد كبير.

المصلح وادعًا ساكنًا: استوقف سربك، واستفت قلبك، واترك المقلدين

المؤولين سدى، وافتح عينيك تجد على النار هدى، واعلم أنني لم أقل عن عمر من

نفسي شيئًا، وإنما هو قول ابن عباس الذي صحت روايته وأخذ به الأئمة الأربعة

وغيرهم، وأما تأويل الفقهاء فسببه أنهم وضعوا أصولاً وقواعد أسندوها إلى أئمتهم،

وحكَّموها في الكتاب والسنة وهدي الصحابة كأنها فروع لأصولهم، والأمر عندي

بخلاف ذلك، وكذلك كان عند الأئمة رحمهم الله تعالى، وما أكثر هذه الأصول إلا

قواعد نظرية استنبطها الأصوليون من أقوال أئمتهم، وطبقوها على مذاهبهم إلا ما

نُقل عن الإمام الشافعي الواضع الأول للأصول، ويعجبني ما قاله العلامة ولي الله

الدهلوي في هذا المقام.

المقلد: قله لي إن كان مختصرًا، وأرشدني إلى الكتاب الذي يوجد فيه إن

كان مطولاً.

المصلح: إنه مختصر وأخذ رسالة من مكتبته وقرأ ما نصه:

(واعلم أني وجدت أكثرهم يزعمون أن بناء الخلاف بين أبي حنيفة

والشافعي رحمهما الله تعالى على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه؛

وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم، وعندي أن المسألة القائلة بأن

الخاص مبين ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة نسخ، وأن العام قطعي كالخاص، وأن

لا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب

الرأي، وأن لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلاً، وأن موجب الأمر هو

الوجوب ألبتة، وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة، وأنها لا تصح بها

رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه، وأنه ليست المحافظة عليها والتكلف في جواب ما

يرد عليها من صنائع المتقدمين في استنباطهم كما يفعله البزدوي وغيره - أحق من

المحافظة على خلافها والجواب عما يرد عليه.

مثاله: أنهم أصلَّوا أن الخاص مبيِّن فلا يلحقه البيان، وخرَّجوه من صنيع

الأوائل في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (الحج: 77) ، وقوله صلى الله

عليه وآله وسلم: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)

وحيث لم يقولوا بفرضية الاطمئنان لم يجعلوا الحديث بيانًا للآية، فورد عليهم

صنيعهم في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (المائدة: 6) ومسحه صلى الله

عليه وآله وسلم على ناصيته حيث جعلوه بيانًا، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي

فَاجْلِدُوا} (النور: 2) الآية، وقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (المائدة: 38) الآية، وقوله تعالى:{حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة: 230)

وما لحقه من البيان بعد ذلك، فتكلفوا للجواب كما هو مذكور في كتبهم، وأنهم

أصلَّوا أن العام قطعي كالخاص، وخرَّجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى:

{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: 20) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) حيث لم يجعلوه مخصصًا، وفي قوله صلى الله عليه

وآله وسلم: (فيما سقت العيون العشر) الحديث، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

(ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) حيث لم يخصوه به ونحو ذلك من المواد

ثم ورد عليهم قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} (البقرة: 196) وإنما هو

الشاة فما فوق ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتكلفوا في الجواب، وأصلَّوا

أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب الرأي، وخرَّجوه من صنيعهم

في ترك حديث المصراة، ثم ورد عليهم حديث القهقهة، وحديث عدم فساد الصوم

بالأكل ناسيًا فتكلفوا في الجواب، وأمثال ما ذكرنا كثير لا يخفى على المتتبع،

ومن لم يتتبع لا تكفيه الإطالة فضلاً عن الإشارة) اهـ، وظاهر أن أكثر القواعد

إنما وضعت لتصحيح كلام الأئمة، وردَّ كل حزب على مخالفه والاعتذار عن ترك

العمل بالكتاب والسنة، فهذه هي أصول فقه مقلديك، فهل يصح أن نسلم بجميعها؟

المقلد: إن هذا الرجل عالم أصولي؛ ولكنه متعصب على الحنفية.

المصلح: هو حنفي الأصل؛ ولكنه أعمل نظره بالإنصاف، ولم يجمد على

التقليد الأعمى، فانفتح له باب العلم، فكان عالمًا أصوليًّا بصيرًا في دينه، ورسالته

هذه اسمها (الإنصاف في أسباب الخلاف) .

المقلد: كلما عزمت على ترك البحث في مقدماتك تجيئني بنغمة جديدة تفسخ

العزيمة، وقد طال المجلس فلا أسمح لك ولا لنفسي بكلام قبل بيان مقصدك،

والإفصاح عن نتيجة مقدماتك بعد إبطال الثقة بعلمي الفروع والأصول، وهل هي

إلا الفوضوية الدينية التي قلت من قبل أنك لا تريدها.

المصلح: أريد أن يكون المسلمون على ما كان عليه أهل الصدر الأول في

زمن الراشدين الذين أمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتمسك بسنته

وسنتهم، والعض عليها بالنواجذ، وترك كل ما أُحْدِثَ في الدين مما يخالف

طريقتهم كما قال: (وإياكم ومحدثات الأمور) الحديث، فأما العقائد فالقرآن برهان

على نفسه، وعلى رسالة من جاء به، ويضاف إليه سيرة النبي عليه السلام في

أخلاقه وآدابه وعلمه وعمله.

كفاك بالعلم في الأمي معجزة

في الجاهلية والتأديب في اليتم

ومتى ثبتت النبوة والقرآن فإننا نأخذ عقائدنا من القرآن من غير فلسفة فيها،

ونستدل عليها بالطريقة التي سلكها في الاستدلال؛ فإن الذين أرادوا معرفة الله

تعالى بالعقل وحده كفلاسفة اليونان زلوا وضلوا، وبهذا نفهم معنى كون الإسلام دين

الفطرة، وأنه لا يمكن أن يخالف في أحكامه أحكام الخليقة، ولا في سنته سنن

الطبيعة؛ لأن كلاًّ من الله تعالى كما تشير إليه الآية السابقة، ونعذر من خالفنا فيما

لا إجماع على أنه كفر لا يعد صاحبه من المسلمين حتى يفيء، وأما الأخلاق

والآداب فحسبنا ما في الكتاب والسنة من بنائهما على قاعدة الاعتدال ولا نلتفت إلى

إفراط بعض المتصوفة في الروحانيات والغلو في الزهد والتواضع والسخاء؛ حتى

انتهوا إلى الكسل والذل وإهانة النفس وتعذيبها والإسراف بإنفاق كل ما تصل إليه

اليد ونحو ذلك، فالقرآن ينادي بلسان عربي مبين بالأمر بالعمل وبعزة النفس

وكرامتها بالاقتصاد، كما لا نلتفت إلى تفريط بعض المتفقهة الذين لم يجعلوا للروح

حظًّا في عملهم.

وأما العبادات فما بينته السنة بالعمل، وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق

حتى صار معلومًا من الدين بالضرورة هو الذي يجب أن يأخذ به كل مسلم، وما

اختلفوا فيه منه كالجهر بالبسملة أو قراءتها ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه

وعدم ذلك، وكتكبيرات صلاة العيد فهو غير واجب، وإن عدَّ بعضه الفقهاء واجبًا

وهو على التخيير، فمن ترجح عنده شيء بدليل أو بموافقة لحاله أخذ به، ولا

يجب عليه البحث عن وجوه الترجيح؛ لأن اختلاف المسلمين فيه عملاً دله على أنه

ليس من ضروريات الدين وفرائضه، ولا يعيب من خالفه بما ترجح عنده من فعل

أو ترك؛ لأنه على التخيير، وما كان مثل صلاة العيد والوتر فالأول أن يتبع المأموم

فيه الإمام، وأن لا تتعدد الأئمة في مسجد واحد في وقت واحد لأجل الخلاف، نفعل

ما ثبت عنهم فعله، ونترك ما ثبت عنهم تركه، ونتخير فيما اختلف فيه النقل مع

الاحتياط وعدم الميل مع الهوى، ونسكت عما سكتوا عنه فلا نُجري فيه قياسًا، ولا

نُعمل فيه، رأيًا وكيف نزيد عليهم وهم خيار الأمة، وقد أحسن الإمام مالك وأصاب

في الاحتجاج بعمل أهل المدينة لعهده، وكذلك يعمل كل أحد بما صح عنده من

الأحاديث القولية، ولا يجعل ذلك مثارًا للخلاف في الدين؛ لأنه من قسم المخير فيه

ولو كان محتمًا لما ترك العمل به الصحابة والتابعون، ولو عملوا به لكان ثابتًا

بالعمل، وقد تقدم حكمه.

المقلد: إن عندي موعدًا قرب وقته، وأحب أن أنصرف الآن، وأعود غدًا

إن شاء الله تعالى. وانصرفا على ذلك.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 205

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

(1)

من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: هل الاجتهاد

المطلق فرض عين على كل مسلم ومسلمة؟ أم فرض كفاية؟ أم لا هذا ولا ذاك؟

وما هو الدليل النقلي الذي لا يحتمل التأويل؟

(ج) الاجتهاد المطلق الذي يستعد ذووه لمعرفة الأحكام الشرعية في كل

باب فرض كفاية؛ لأن المصلحة تقوم فيه بالبعض، ومن الحرج الشديد أن يُكَلَّف

به أحد، وقد اشترطوا في القاضي والمفتي الاجتهاد؛ لأن وظيفة الأول الحكم،

ووظيفة الثاني البيان لما يعرض من الأقضية والمسائل التي لا نص فيها، فلا بد

أن يكونا قادرين على استنباط الأحكام لئلا تتعطل المصالح، وهذا واضح لا غبار

عليه، وترون الكلام في الموضوع مفصلاً في محاورات المصلح والمقلد، فتتبعوها

إلى آخرها، وإن رأيتم فيما كُتب إلى الآن بعض إجمال أو شذوذ عما عرف عن

الفقهاء في بعض الجزئيات، هذا إن كنتم تريدون بالدليل الدليل في المسألة كما هو

الظاهر، وإن كنتم تريدون مطلق الدليل النقلي الذي يفيد القطع، فهو ما كان نصًّا

في معناه لا يحتمل غيره متواترًا في لفظه كالقرآن.

***

(2)

ومنه: من الذي قال من المجتهدين أو المقلدين بحرمة أو كراهة تعلم

العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية وبالإجمال كافة العلوم المجردة من الإلحاد سواء

كانت عصرية أو غير عصرية؟ وهل إذا قصَّر بعض علماء المسلمين في عدم

تعلم وتعليم هذه العلوم ينسب ذلك التقصير إلى علم الفروع الفقهية؟ أم إلى نفس

ذلك المقصر؟ وما هو الدليل؟

(ج) لمَّا حدث في المسلمين علم الكلام والجدل في الدين مقته وذمه غير

واحد من الأئمة المجتهدين كما رأيتم في الجزء 22 من منار السنة الماضية، ولمَّا

ظهرت الفلسفة اليونانية فيهم ومزجوها بمباحث العقائد كان بعض العلماء يقول

بوجوب تعلمها للمدافعة عن العقائد، وبعضهم يحرِّم ذلك ويقول: لا حاجة إليها في

إثبات العقائد، حتى كان في الفقهاء من حرَّم المنطق، ولا يمكن حصر هؤلاء

بأسمائهم ولا حاجة إليه، وحسبك ما قاله الإمام حجة الإسلام في العلوم التي ليست

بشرعية - أي: لم تؤخذ عن الأنبياء عليهم السلام قال رحمه الله تعالى:

(فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم،

وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب،

وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس فريضة، أما فرض

الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا [1] كالطب؛ إذ هو ضروري

في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري

في المعاملات وقسمة الوصايا

والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل

البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين [2]، ولا يتعجب من قولنا:

إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض

الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة [3] ؛ فإنه لو خلا البلد

من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك؛ فإن الذي أنزل

الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض

للهلاك بإهماله.

وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير

ذلك مما يستغنى؛ ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه [4] ، وأما المذموم منه

فعلم السحر والطلسمات، وعلم الشعبذة والتلبيسات [5] ، وأما المباح منه فالعلم

بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار [6] وما يجري مجراه) اهـ.

ومنه يعلم أن المقصِّر في العلوم النافعة تبعة تقصيره عليه.

***

(3)

ومنه: هل أحكام الفروع الفقهية في المذاهب الأربعة أو غيرها من

مذاهب المجتهدين أصلح في العمل لنظام المجتمع أم القوانين الوضعية؟ وما هو

الدليل؟ .

(ج) الأصلح لنظام المجتمع ما قام به العدل والمساواة بين الناس في

الحقوق، والأحكام الفقهية تفضل القوانين عندنا معشر المسلمين، وهي أصلح

لمجتمعنا من القوانين؛ لاعتقادنا بوجوب العمل بها، فهي مصحوبة بقوة تنفيذية في

قلب الإنسان، ووازع نفسي يحمله على مراعاتها سرًّا وجهرًا؛ ولكن اتباع مذهب

واحد فيه حرج وإخلال بالمصلحة في بعض المسائل، كما أن الخلاف وتعدد

الأقوال ينافي المصلحة، ولا تقوم مصلحة المسلمين بهذه الأحكام إلا إذا أُلِّف كتاب

منقح خالٍ من الحشو والتعقيد والخلاف يفي بحاجة الأمة، ويؤخذ من كتب جميع

الأئمة على ما بيناه في مقدمة تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح

المحاكم الشرعية المنشورة في المجلد الثاني من المنار.

(4)

ومنه: هل تلقين العهود وسلوك طريق الآخرة والإرشاد إليها وزيارة

الصالحين الأحياء والميتين مشروع أم منكر؟

(ج) الظاهر أنكم تريدون بتلقين العهود ما عليه القوم الذين يُسَمَّون أهل

الطريق، وهو أمر لم تَرِدْ به سنة صحيحة، وأما ما كان مثل مبايعة النبي صلى

الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات فلا وجه للسؤال عنه، وأما سلوك طريق

الآخرة فإن كان بالعمل بالكتاب والسنة والاهتداء بهدي الراشدين، فهو الدين القيم،

والإرشاد إليه واجب بما أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه،

وما زاد على ذلك فهو منكر وشرع لم يأذن به الله، وأما زيارة الصالحين الأحياء

فهي تدخل في عموم الأمر بالبر والصلة والحب في الله كما تدخل زيارة قبور

الميتين في عموم حديث (فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فزيارتها على هذا الوجه

مشروعة، وما يزيده الجهال من تقبيل الأعتاب والطواف والاستعانة على قضاء

الحاجات فهو من البدع المنكرة، كما فصلناه مرارًا في المنار.

_________

(1)

يدخل في هذا الضابط الهندسة والميكانيكا؛ لأن الآلات الحربية والصناعية لا تقوم بدونهما في هذا العصر، وعلم تقويم البلدان لضرورته في الأعمال الحربية وغيرها، وعلم الكيمياء لتوقف تركيب الأدوية عليه الآن، وعلم الطبيعة لتوقف الصنائع عليه كالوابورات البرية والبحرية، وغير ذلك من العلوم التي يسمونها عصرية لقيام مدنية هذا العصر بها، وبتركها ضعف المسلمون وصاروا عيالاً على خصمائهم الطامعين في بلادهم.

(2)

إنما يصح هذا إذا وفى ذلك الواحد بحاجة البلد، وأما إذا لم يوف بها فلا تسقط االفريضة بالواحد، بل بما تقوم به المصلحة.

(3)

إنما عَدَّ الحجامة فريضة بسبب اعتقاد أطباء زمانه، وعدم الاستغناء عنها، وكذلك كان، وأما اليوم فلا.

(4)

ومثل هذا علم الجيولوجيا ونحوه من الفنون التي لا تتوقف عليها مصالح البشر؛ ولكنها مزيد كمال في العلم.

(5)

عَدَّه السحر علمًا يفيد أنه ليس من خوارق العادات، وهو ما يدل عليه القرآن، ومعنى كونه مذمومًا أنه محرم لما فيه من خداع الناس وإيذائهم بالخداع والتمويه وبعض الأعمال الخفية أسبابها عنهم.

(6)

إنما يكون العلم بالأشعار والأخبار مباحًا إذا كان الغرض منها التسلي والتفكه، وأما إذا قصد بالأشعار تعلم البلاغة وضبط اللغة، وأريد بالأخبار الاحتجاج بها في السياسة التي منبعها التاريخ ونحوها؛ فإنهما يكونان من الفرائض حينئذ.

ص: 221

الكاتب: الشيخ محمد إسماعيل

‌إظهار المدفون من تمثال فرعون

لحضرة الفاضل الشيخ محمد إسماعيل

وكيل المجلة في ملوي

في ضواحي بلدتنا (ملوي) قرية تبعد عنها نحو ساعة تدعى الأشمونين،

وكانت تسمى قديمًا (هرموبوليس) وهي من أشهر مدن الفراعنة التي اتخذوها

عاصمة لملكهم في بعض الأزمان الغابرة، وفيها الآن من المباني العتيقة والآثار

القديمة ما يشهد بسابق حضارتها التي كانت عليها، ومدنيتها الفائقة التي حُفِظَتْ

بحفظ آثارها المخبوءة في بطون آكامها وأطلالها الدارسة التي يبلغ مقدار مساحتها

1200 فدان، وهي على ما هي عليه الآن من الخراب والعفاء لا تزال مطمح

أنظار السائحين الباحثين عن الآثار على اختلاف نحلهم ومللهم، وما زالت الأيام

تُظْهِر بعض تلك الآثار التي تبهر العقل، وتأخذ بالألباب، وفي هذه الأيام عثر

بعض مستخرجي السماد (السباخ) في أثناء حفرهم على أعظم تمثال وأجلّ أثر،

ألا وهو تمثال الملك منفتاح، أو منفطا الأول الذي يقول بعضهم: إنه فرعون موسى.

عُثر عليه في بعض آكام تلك القرية، وهو مصنوع من حجر الجرانيت الأحمر،

موضوع على قاعدتين إحداهما متصلة به وهي من نوع حجره، والأخرى منفصلة

عنه، وهي من الحجر الأبيض مزينة بالكتابة والنقوش، ومقدار ارتفاعه يبلغ خمسة

أمتار، موليًا وجهه شطر المشرق، مقدمًا رجله اليسرى، ومؤخرًا اليمنى، قابضًا

على ملف من الورق مكتوب عليه اسمه وألقابه الملوكية، وعلى جنبه الأيسر قد

رسمت صورة ولده (سيني الثاني) المكتوب عنه أنه ولي عهده ورئيس الكتاب

وقائد جيوش أبيه الملك منفتاح، وعلى كتفه راية العدل مكتوب عليها (الحق) ،

وهذا التمثال يمثل الملك وهو مؤتزر بجلد النمر تحت سرته، قد كتب على ظهره

ما معناه: الذهب الإبريز ابن الشمس، الثور الأعظم، مالك التاجين، صاحب

البرين - أي: الوجه القبلي والبحري - وقد فسر بعض رجال الآثار تقديم رجله

اليسرى وتأخير اليمنى بالخضوع والخشوع للآلهة، وأرى أن هذا التفسير ربما كان

بعيدًا عن الإصابة، فإني أول ما رمقته بنظري وكان معي بعض الأذكياء فهمت أن

ذلك منه رمز إلى الشجاعة والإقدام، وإنه لدى الإمعان يظهر جليًّا أنه كمن يريد

البراز، فهو يتحفز للوثبة بحالة تدل على الكبر والإعجاب، لا الخشوع والخضوع

ولقد راجعت التاريخ فإذا به يقول ما نصه: (منفتاح أو منفطا الأول هو الذي

كان في أيامه خروج بني إسرائيل من مصر تحت رئاسة موسى عليه السلام، ولم

يرث عن أبيه سوى الكبرياء والعظمة، وأجمع المؤرخون على أن قسوته كانت

سببًا في قصر أجله، وعدم طول بقائه في ملكه) اهـ بالحرف.

إن آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

فسبحان الذي نجَّاه ببدنه ليكون آية لمن خلفه، وأظهر تمثاله الآن عبرة لمن

بعده، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

هذا وما انتشر نبأ اكتشافه بين الناس حتى هرع الكثيرون منهم على اختلاف

نزعاتهم لمشاهدته؛ حتى إنه لا يخلو وقت من ازدحام الوافدين عليه، وكل معجب

بحسن وضعه ونسق هندامه، مما يدل صراحة على ما كان بمصر من العلوم

والصنائع

في الغابرين الأوليـ

ـن من القرون لنا بصائر

وهو لعمر الحق جدير بأن يؤمه محبو الآثار، وذوو الشغف بصنائع الأقدمين،

غير أننا نأسف على ما أصابه أثناء استخراجه حيث أفلتت ضربة من أحد الحفار

أصابت تاجه من أعلى فكسرت قطعة صغيرة منه، كما أنه حينما أرادوا إنزاله من

أعلى القاعدة التي كان واقفًا عليها انصدع فخذه فانكسر، لكن بغير انفصال، ولم

يُخِلّ هذا ولا ذاك بحسن التمثال وجميل شكله، هذا وقد شاهدنا بعد انصرافنا من

هذا المشهد تمثالاً آخر قريبًا منه؛ لكنه أكبر جِرْمًا ومقطوع الرأس وبعض الصدر،

وهو على هيئة شخصه جالس على كرسي، ويقال: إن رجال الآثار كابدوا المشقات

في استخراجه فأعياهم.

ثم عرَّج بنا الخرِّيت الذي استصحبناه معنا إلى مسجد هناك قديم، قد تداعت

حيطانه، وخر سقفه، ولم يبق منه غير عُمُد من الرخام قائمة، وهي على طول

عهدها لم يطرأ عليها ما يذهب برونقها، فضلاً عن ما حواه هذا المسجد أيضًا من

الآثار التي قل أن يوجد نظيرها، فزادنا منظره على هذه الحالة أسفًا على أسف، ولم

نقدر أن نمسك ألسنتنا عن الحوقلة، اللهم إلا بالترحم على السلف الصالح الذين بذلوا

كل مرتخص وغالٍ في فتح البلاد، وشيَّدوا للإسلام فيها أرفع عماد، كما أننا لم نملك

خواطرنا التي أخذت تلوم مصلحة آثار الأوقاف التي تركت هذا المسجد وما حواه في

قرية لم يزل أهلها يضيِّعون ما ادخره الأقدمون لجهلهم، مما لو كان لدى غيرهم

لعضوا عليه بالنواجذ، لعلمهم أن ذلك أعلى وأغلى قيمة من الركاز، ولقد شاهدت

بعض أعمدة هذا المسجد ملقاة خارجة عنه على طلل بالٍ، بحيث لا يُؤْمَن ضياعها؛

فلذلك نستلفت أنظار حكومتنا إلى مكافأة من يعثر على الآثار بعد التحري والوقوف

على أنه هو العاثر الحقيقي على ذلك، فقد نما إلينا أن بعض الفلاحين يعثر على شيء

من ذلك، فيخبر أولي الشأن الذين يرفعون الخبر إلى الحكومة، ثم تُصْرَف المكافأة

إلى غير مستحقها، فيشكو الأخير سوء حظه، ويندب سوء حاله، ويأخذ على نفسه

العهود أنه لو عثر على مثل هذا مرة ثانية ليهشمنه وليكسرنه انتقامًا لنفسه من ضياع

أتعابه سدى.

هذا وقد علمت أخيرًا أنه ظهر وراء الحفرة التي كان بها التمثال هيكل منقوش

على جداره (صورة سيتي) بن منفتاح على هيئته التي تولى فيها الملك بعد أبيه

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ

مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر:

82) .

_________

ص: 225

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌طُرَف الأعراب ونوادرهم

أبو النجم الفضل بن قُدامة العجلي الراجز من فحول المتقدمين في الإسلام

يتمثل بكلامه وهو الذي يقول:

أنا أبو النجم وشعري شعري

لله در ما يجن صدري

وفد على هشام بن عبد الملك وقد طعن في السن، فقال له هشام: حدثني يا أبا

النجم. فقال: أعَنِّي أم عن غيري؟ فقال: بل عنك. فأنشأ يحدثه وهو يضحك

وصار يختلف إليه، وكان طرده هشام حين أنشده أرجوزته التي يمثلون في الكلام

على الفصاحة بمطلعها (الحمد لله العلي الأجلل) وفيه مخالفة القاعدة الصرفية في

الإدغام. وذلك أنه لما بلغ أطرف تشبيه فيها وهو (والشمس في الأفق كعين

الأحول) فطن قبل أن ينطق بالكلمة الأخيرة؛ لأن هشامًا كان أحول، فلم يقلها فلما

وقف، قال هشام: أجز. فقالها، فطرده.

وضاق صدر هشام في ليلة، فقال لأحد الخدم: اطلب لي محدثًا أعرابيًّا

شاعرًا، فخرج الخادم إلى المسجد، فإذا هو بأبي النجم وكان ينام فيه بعد طرده،

فضربه برجله وقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: إنني أعرابي غريب. فقال:

إياك أبغي، هل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله. فانطلق به حتى أدخله القصر،

وأغلق الباب، فظن أبو النجم الشر والانتقام، ثم مضى به فأدخله على هشام، فإذا

هو في بيت صغير، والشمع يزهر بين يديه، وإذا هو قد ضرب بينه وبين نسائه

سترًا رقيقًا، فلما رآه هشام قال: أبو النجم؟ قال: نعم، طريد أمير المؤمنين.

فأذن له بالجلوس، وسأله عن منزله ومبيته مباسطة، ثم قال له: ما لك من الولد؟

قال: ثلاث بنات وبُني اسمه شيبان. فقال: هل أخرجت من بناتك أحدًا؟ قال:

نعم، زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة. قال: وما أوصيت به

الأولى؟ فقال:

أوصيت من (بَرَّة) قلبًا حُرَّا

بالكلب خيرًا والحماة شرا

لا تسأمي ضربًا لها وجرَّا

حتى ترى حلو الحياة مرَّا

وإن كستك ذهبًا ودرَّا

والحي عميهم بشر طرَّا

فضحك هشام وقال: فما قلت للأخرى؟ قال: قلت:

سبي الحماة وابهتي عليها

وإن دنت فازدلفي إليها

وأوجعي بالنهز ركبتيها

ومرفقيها واضربي جنبيها

وظاهري النَّذر لها عليها

لا تخبر الدهر بها ابنتيها [1]

فضحك هشام حتى سقط على قفاه وقال: ويحك ما هذه وصية يعقوب عليه

السلام ولده. فقال: ولا أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين. قال: فما قلت للثالثة؟ قال:

قلت:

أوصيك يا بنتي فإني ذاهب

أوصيك أن تحمدك الأقارب

والجار والضيف الكريم الساغب

لا يرجع المسكين وهو خائب

ولا تني أظفارك السلاهب

لهن في وجه الحماة كاتب [2]

والزوج إن الزوج بئس الصاحب

قال: وكيف قلت هذا ولم تتزوج؟ وأي شيء قلت في تأخر تزويجها؟ قال:

قلت:

كأن ظلَاّمة أخت شيبانْ

يتيمة ووالداها حيانْ

الرأس قمل كله وصيبان

وليس في الساقين إلا خيطان

تلك التي يفزع منها الشيطان

فضحك هشام حتى ضحكت النساء لضحكه، وأمر له بثلاثمائة دينار، وقال:

اجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين.

_________

(1)

المظاهرة: المعاونة، والنذر معروف، وبمعنى الإنذار.

(2)

تني: تقصر، والسلاهب: الطوال.

ص: 229

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسباب الحرب الروسية العثمانية

- تتمة

عُلم مما نشرناه في الجزء الماضي أن الدول الأوربية اغتنمت فرصة إشعال

روسيا الفتنة في بلاد البلقان العثمانية لأن تجعل لها حقًّا رسميًّا في زلزلة استقلال

الدولة العلية بمشاركتها في أحكامها وإدارتها، ولو في بعض الولايات، وأن تُصَدِّق

الدولة على ذلك؛ لتقوم الحجة عليها في كل آن، وأن هذا هو السبب في رفض

مطالب المؤتمر، وقد كان مدحت باشا أبصر رجال الدولة بعاقبة الحرب التي تتوقع

من رفضها، كما كان أعلمهم بضرر قبولها، وإننا ننشر المذاكرة والمشاورة في هذا

الأمر مما كتبته الجوائب عن المجلس الأميّ الذي أمر به مولانا السلطان يومئذ وهو:

(قال مدحت باشا: إذا رفضنا مطالب الدول أدى ذلك إلى فسخ المؤتمر،

فربما يعلن بعض الدول بحربنا، والمترجح عندي أن دولتي إنكلترا وفرنسا يبقيان

على الحيادة، أما الروسية التي هي أصل اقتراح هذه المطالب، فيُحتمل أنها تجري

إيجابها علينا بالسيف، وأما أوستريا فحيث إن من رعيتها 17000000 من

الصقالبة، فمن الصعب علينا أن نجزم بما يتأتى لها أن تفعله، فإذا كان سكانها من

المجر يتساهلون معها، فلا يبعد أنها تتحد مع الروسية وتعلن بمحاربتنا، فيمكنها

والحالة هذه أن تستولي على بوسنة وهرسك إلى مدة غير معلومة، أما سكان

الصرب والمملكتين (الأفلاق والبغدان) والجبل الأسود فالأقرب إلى المعقول أنهم

يكونون أضدادًا لنا، فليس من المحتمل أن نتكل على مساعدة أحد من الخارج، فإذا

اعتبرتم هذا كله فلا نخفي على أنفسنا أن أحوالنا في بحران.

فقال صبحي باشا: إن الصقالبة من سكان أوستريا ليس عندهم من القوة ما

يكون به خطر علينا. فطلب مدحت باشا أن يعرف على الحقيقة ما هي قوة الدولة

العلية، فقال بعض العلماء: إن ما يلزم للمملكة أن تفعله هو أن تتكل على المولى

سبحانه وتعالى، وتُقبل على الحرب.

فقال مدحت باشا: إذا رمنا الإعلان بالحرب لزمنا بالضرورة أن تكون لنا قوةً

عسكرية مكافئة، فإذا غلطت في ذكر مقدار قوتنا العسكرية، فناظر الحربية الحاضر

الآن بيننا ينبهني على غلطي، فأقول: إن عدد عساكرنا الآن يبلغ من 500000 إلى

600000 وبحمده تعالى وبعناية مولانا وسلطاننا المعظم قد أمدَّت هؤلاء العسكر

بالسلاح الكافي، فصاروا مستعدين للقتال، وقد أوصينا من أميركا على مقدار وافر

من قراطيس البارود؛ ولكن إذا صار الإعلان بالحرب يحتمل أن يقع القبض عليها

قبل وصولها إلى الآستانة، ولا يخفى عليكم أيضًا أنَّا الآن لا درهم لنا ولا دينار،

وأبواب الصيارفة وأصحاب المعاملات المالية مقفولة دوننا (كذا في الأصل

والصواب مقفلة) ولا يمكننا إبقاء جيش بدون دراهم.

فقال رءوف بك (ابن المرحوم رفعت باشا) : نعم إن لنا من الأسباب ما

يخيفنا من الحرب؛ ولكن إذا قبلنا لائحة المؤتمر لم يبق ريب في انقلاب السلطنة،

فالحرب كداء الحمى يمكن لنا أن نتخلص من رزئه؛ ولكن لائحة المؤتمر كداء

الرئة عاقبته القبر لا محالة، فغاية ما يلزمنا فعله هو أن نلبس الصوف ونوقد

الشمع الأحمر ونغالب العدو.

فقال مدحت باشا: إن قوائمنا (أوراق) المالية في بخس، ويحتمل أنها تزيد

بخسًا، وقد عهد أنه أتى على فرنسا زمان بلغت فيه قيمة الحذاء إلى 27000 فرنك

(سبعة وعشرين ألفًا) فمن ذا الذي يدري ما يصيبنا إذا أقدمنا على الحرب،

فيحتمل أنه بعد مدة قصيرة يعوزنا القوت، فتتمنى الناس أن نكون قد قبلنا

اقتراحات المؤتمر.

فقال محمد رشدي باشا (الصدر الأسبق) : إن ما قاله جناب الصدر الأعظم

صحيح، إلا أن قبول اقتراحات المؤتمر يحرم سلطنتنا السنية من الاستقلال،

والحرمان من الاستقلال يشبه الاضمحلال.

فقال شيخ الإسلام: إني على رأي الصدر الأعظم؛ ولكني أرى أن رفض

الاقتراحات أولى. فقال شيخ الإسلام السابق: إن الواجب علينا واضح جلي، وهو

رفض هذه الاقتراحات؛ لأنها تسلب منا الاستقلال.

فقال عابدين بك (مدير البورس) : إن أربعين مليونًا من العثمانيين يختارون

الحرب على ضياع حقوقهم وشرفهم، فَأْمرونا بالقتال فإنا مطيعون.

فقال الصدر: إن كنت قد اطلعت على أفكار أهل المجلس أيقنت بأنهم يرون

أن قبول اقتراحات المؤتمر يحرم الدولة العلية من الاستقلال. فأجاب سائر الأعضاء

بقولهم (نعم نعم) هذا رأيهم. ثم قال عدة من العلماء: هل تداخلنا نحن في حقوق

دول أوروبا الذين لهم رعايا من المسلمين، فكيف يمكننا أن نسمح لهم بأن يتداخلوا في

مصالح دولتنا؟ فقال مدحت باشا: يبعد عن التصور أننا إذا رفضنا هذه الاقتراحات

يكون ذلك باعثًا على حرب عمومية، ولكن ينبغي لنا أن نعلم أن الأفكار العمومية في

أوربا كلها ضدنا، والأفكار العمومية هي أقوى شيء في أيامنا هذه كما لا يخفى. فقال

جميل باشا: إذا حامينا عن شرفنا فإن الأفكار العمومية تميل إلينا. فقال عابدين بك:

إننا نفتخر بأن نفكر بأن جوابنا السلبي يوجب سفر ستة سفراء من الآستانة في آن

واحد، فهو يذكرنا فخر الملة العثمانية ومجدها، فقد عزمنا على أن نجاوب هؤلاء

السفر جوابًا واحدًا. ثم قال البعض: نعم إن تهييج الأفكار العمومية مما يُتأسف منه؛

ولكن ماذا نفعل بعدما أخبرنا الدول بالصدق عن مقاصدنا، وحقيقة شأننا في هذه المدة

الأخيرة الطويلة فرفضوا رأينا وعولوا على رأيهم، فإذا توكلنا على الله تعالى وحامينا

عن شرفنا واستقلاليتنا، فلنا أمل في أن أفكار عموم الناس في نهاية الأمر تكون معنا

لا علينا، وخصوصًا أن القانون الأساسي الجديد قد شمل غير المسلمين من رعية

دولتنا بالحقوق التي شمل بها المسلمين سواء. فقال صوا باشا: إذا كان سفر سفراء

الدول الست في آن واحد من شأنه أن يهيج علينا الأفكار العمومية يلزم أن لا يبرح من

بالنا أن هذه الوسيلة هي الوسيلة الوحيدة لصون شرف السلطنة العثمانية، وكل

العثمانيين يعنيهم هذا الأمر، ويهمهم، فإن اخترنا الموت على إهانة شرفنا، فالأفكار

العمومية في أوربا تثني على اختيارنا، ولا شك أن الأفكار العمومية في أوربا أقوى

من دولها.

فقال مدحت باشا: لا ريب في أن شرف الأهالي منوط بشرف الدولة،

فالدولة العلية إن لم تعرف كيف تحافظ على استقلاليتها فلا تستحق أن تسمى مملكة.

فقال ياور باشا (ناظر البوسطة والتلغراف) : لو فرض أن تلك المطالب اقترحت

على شخص لكان يرفضها لا محالة، فكيف لا ترفضها مملكة.

ثم ألقى وكيل بطرك الأرمن الكاثوليك مقالة طويلة في عدم لزوم قبول

اقتراحات المؤتمر، ثم قال حاخام الإسرائيليين: إن أبناء ملتي عازمون على أن

يبذلوا أرواحهم للمحافظة على استقلال السلطنة العثمانية. (سرور من الحاضرين

عمومًا) ، ثم قال يانقوسكياديس أفندي - أحد أعضاء شورى الدولة وهو من طائفة

الأروام -: كلنا نفتخر بأن نكون من رعية سلطان شمل قومه بقانون أساسي، كالذي

أنعم علينا به مولانا السلطان المعظم، وإنا مستعدون لأن نموت محافظة على هذا

القانون وبحب وطننا [1] . ثم قال الصدر الأعظم (إذ ذاك مدحت باشا) : المملكة

التي تنعم على رعاياها بالحرية والاستقلالية جديرة بأن تطلب لنفسها أيضًا الحرية

والاستقلالية. ثم قال محمد رشدي باشا: إن القانون الأساسي وإن كان قد نُشر

أخيرًا إلا أن مولانا السلطان المعظم وعد بامتيازات عظيمة في الخط الهمايوني الذي

أصدره يوم جلوسه على سرير السلطنة السنية، وكان صدوره قبل عقد المؤتمر

فالفضل في إصدار هذا القانون عائد إلى مولانا السلطان، وليس هو من تشدد

المؤتمر على مولانا [2] .

ثم قال وكيل بطرك الروم الأرثوذكسيين: إنني أستحسن ما قاله صوا باشا

بالنيابة عن أبناء ملتي. ثم قال وكيل البروتستانط: إن القانون الأساسي شمل سائر

الرعايا بحقوق واحدة، فكلنا عثمانيون، وكلنا نكره تداخل الأجانب، وقد صدق

الصدر الأعظم في قوله: إن هذه المسألة خطيرة لا يلزم إنهاؤها على عجل، فيُحتمل

أنه يوجد سبيل لإصلاحها بدون قتال، والظاهر أن الأولى أن نترك لمجلس الوكلاء

أن ينهي هذه المسألة لصون شرفنا بأنفسنا. (ضحك في المجلس) ، ثم صرخ أحد

الحاضرين قائلاً: نعم إنا نحافظ على شرفنا بأنفسنا، فقد مضت تلك الأيام التي كنا

نوكِّل فيها وكلاءنا - أي: الوزراء - بأن يحافظوا على شرفنا. ثم قال حالت باشا -

ناظر التجارة إذ ذاك -: أنا أيضًا مستعد لأن أحافظ على شرفنا؛ ولكن مرادي

أن لا يقترن ذلك بسفك دم، فينبغي لنا أن نسعى في إصلاح هذه المسألة بدون

حرب، فالأولى عدم الإعلان بالحرب بالمرة. وعند ذلك حصلت ضجة في

المجلس، فصرخ السامعون قائلين:(غير ممكن غير ممكن لا بد من الحرب) ،

ثم قال وكيل بطرك الأرمن: غير واجب على الأرمن أن يصرخوا بمتابعة بقية

الرعايا العثمانية في جميع مقاصدهم؛ فإن البطرك الآن منحرف المزاج؛ لكنه

أرسلني لأقول: إن الأرمن كانوا دائمًا صادقين في طاعة الدولة العلية في الأيام

السالفة، فهم عازمون على أن يبقوا كما كانوا وهم يَدْعُون الآن بقية أبناء الوطن

لأن يتحدوا معهم للمحاماة عن شرف السلطنة واستقلاليتها. (أظهر المجلس سرورهم

من هذا المقال) .

ثم قال الصدر الأعظم: هل لي أن أفهم مما ذكرتموه أنكم رفضتم مطالب

المؤتمر، وهي تشكيل لجنة مختلطة كيفما كان تشكيلها؟ (صراخ من أهل المجلس:

نعم نعم) قال: وترفضون الاقتراحات المعتدلة التي عرضها السفراء؟ وهل

تنبذون بدون شرط سائر المطالب المختلفة التي عرضها علينا المؤتمر؟ وهل أنتم

عازمون وجازمون بهذا الرفض، وإن كان رفضكم هذا كما لا يخفى عليكم يوجب

سفر السفراء من الآستانة؟ فقال أهل المجلس: (نعم نعم قد رفضناها)، ثم قال:

(من كان يخالفنا في هذا الرأي فليقم عن كرسيه؟) فلم يقم أحد، ثم قال إبراهيم

باشا: لا يوجد أحد على غير هذا الرأي سواء كان في هذا المجلس أو في خارجه.

ثم قال فائق باشا: (دلاسد طلياني الأصل) : أنا على رأي المجلس، ولكن لا

بأس في أن أذكركم أن رفض مطلبين من مطالب المؤتمر يكون سببًا في سفك الدماء،

أما إذا قبلنا فإنا نكون في السلم، (فحصل ضجة في المجلس) .

ثم قال الصدر الأعظم: إذا أردنا المصالحة والاتفاق مع مرخصي المؤتمر؛

فإن ذلك من شأنه أن يقذف بنا في مهواة، والله أعلم أن يقذف بنا، فالظاهر أن

الحرب أولى، ومع هذا فإني أدعوكم لأن تترووا في قبول بقية مطالب المؤتمر،

أما المطلبان الأخيران فالأرجح رفضهما، فقال سيدنا شيخ الإسلام: (إن لائحة

المؤتمر كلها خطر على بلادنا فعلينا الآن أن نرفض المطلبين الأهمين) .

ثم بعد مذاكرة قصيرة في عرض القانون الأساسي على الدول قال محمود

باشا الداماد: علينا أن نرفض المطلبين الأهمين من مطالب المؤتمر، فإذا كانت

الدول بعد ذلك تريد أن تعرض علينا سائر المطالب على صورة أخرى أمكننا أن

نجتمع مرة أخرى في هذا المجلس، ثم خُتمت الجلسة بعد أن استقر الرأي على

رفض اقتراحات المؤتمر بأسرها) اهـ.

هذه هي مداولات (المجلس الأمي) الذي اجتمع قبل مجلس المبعوثان للنظر

فيما يتعلق بشأن لائحة المؤتمر والحرب التي تتوقع من رفضها، وقد ذهب مصباح

الشرق الأغر إلى أن مدحت باشا هو الذي كان مصممًا على رفض مطالب الدول

التي يرى المصباح أن الصواب في قبولها، وأنه هو الذي أوحى إلى أهل المجلس

وجوب رفضها، وقد رأيت أن مدحت باشا كان أصوب أهل المجلس رأيًا، وأشدهم

حذرًا، وأبعدهم في العواقب خطرًا، ويليه في الحذر حالت باشا، ثم وكيل دولة

البروتستانت، وأنه لم يجنح أحد إلى قبول سيطرة الدول على الدولة العلية

ومراقبتهم أحكامها التي تتضمنها المطالب، إلا ذلك الطلياني المسمى فائق باشا،

وأن سائر أهل المجلس كانوا متفقين على تفضيل الحرب على قبول مطالب الدول،

فإذا كانوا يعتقدون أن الصواب في قبول ذلك، وأنه هو الذي ينجي الدولة ويرضي

السلطان، فهل يتصور أن جميع أولئك الوزراء والعلماء والوجهاء ورؤساء الأديان

وهم خاصة المملكة قدموا طاعة هوى مدحت باشا على استقلال عقولهم وأفكارهم،

وعلى مرضاة الهمم وموافقة سلطانهم ونجاة أوطانهم؟ إن كان هذا صحيحًا فهو دليل

على أنه لم يكن في الدولة إلا رجل واحد شرير هو مدحت باشا، وكل من عداه فهو

عدم، وأن أمة هذا شأنها وهؤلاء رؤساؤها وقادتها لا يمكن أن تستقل مع عدم

مراقبة أعدائها وسيطرتهم عليها، فكيف إذا كانت تحت مراقبتهم! ! !

_________

(1)

أنت ترى أن المسيحيين وحاخام اليهود ما نطقوا إلا بعدما رأوا إجماع أهل المجلس على رفض الاقتراحات، فما كان عن رأي وصدق فهو من أثر القانون الأساسي، وما كان غير ذلك فهو مصانعة لئلا يُتهموا بأن لهم ضلعًا مع أوربا التي تدعي الانتصار لهم.

(2)

أراد رشدي باشا نفي تهمة كانت تلعب بالنفوس، وهي أن السلطان أعلن القانون الأساسي لخداع أوربا والتمويه عليها بإرضاء النصارى؛ لتكف عن التعرض للدولة.

ص: 231

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الوفد الإسلامي إلى الصين

قال صديقنا الفاضل الكامل محمود بك سالم عندما حدثت فتنة أوربا مع الصين:

إن هذه الفتنة وتحرّش أوربا بالصين مما يظهر مكانة مسلمي الصين العالية،

ورفعة شأنهم وقوتهم المادية والأدبية. أو ما هذا معناه. وما زالت الأيام تُظهر

صدق قوله؛ حتى رأينا مُسَعِّر نار هذه الفتنة عاهل الألمان، وداهية أوربا في هذا

الزمان، قد قدّر هذه القوة قدرها، وأراد الاستفادة منها بصديقه السلطان الأعظم

للمسلمين الذي يعترف له مسلمو الصين بالخلافة الدينية، ويخطبون باسمه على

منابرهم، فطلب منه أن يرسل وفدًا إسلاميًّا تكون وظيفته الظاهرة العمومية نهي

مسلمي الصين الأشداء الأغنياء أن يساعدوا الثوار الصينيين على المسيحيين،

وفائدته الخصوصية الخفية إعلام أولئك المسلمين بأن عاهل الألمان صديق خليفتهم

وحليفه؛ لتستفيد ألمانيا بذلك مثلما كانت تستفيد إنكلترا في الهند من قبل؛ فإنها ما

رسخت قدمها في تلك الممالك إلا بنفوذ الدولة العلية الديني، حيث كانت تقنع

مسلمي الهند بأنها حليفة الدولة العلية.

أجاب مولانا السلطان أيده الله تعالى دعوة العاهل غليوم، وأرسل وفدًا مؤلفًا

من ستة نفر، منهم عالمان من علماء الآستانة، ورئيسه من قواد الجيش العثماني،

وسيكون هذا الوفد آلة بيد الألمان الذاهبين؛ لأنه لا يعرف اللغة الصينية، فالألمان

هم الذين يبلغونه ويبلغون عنه، ولهذا نُقل إلينا أن الروسية كان مستاءة معارضة

في إرسال هذا الوفد، وقد مر منذ أيام من السويس بلَّغه الله السلامة، وجعل رحلته

مفيدة نافعة في تخفيف الشر واستبدال الخير به.

_________

ص: 238

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌زيارة القبور والمدرس المغرور

حدَّثنا غير واحد عن شيخ يقرأ كتاب (الدر المختار) درسًا أنه بلغ من أيام

الكلام على زيارة القبور من كتاب الجنائز، فخبط في الكلام خبط عشواء في

مدلهمة ظلماء؛ إذ أنشأ يأوِّل للعوام ما يأتونه من البدع والمنكرات عند زيارة قبور

الصالحين، من ذلك أنه أوَّل دعاءهم إياهم في المساجد لقضاء الحوائج، ودفع

المكاره، واستعانتهم بهم في المهمات، وإن كانت من الموبقات، بأن هذا من باب

طلب الدعاء منهم. قال: (كأنهم يقولون: نحن ندعو الله تعالى وندعوكم لأن تدعو

معنا) . ولو كان كل عامي فقيهًا بحيل الحنفية، وقاضيًا في المحكمة الشرعية،

لأمكنه أن يهتدي إلى هذا التأويل، عندما يضل سواء السبيل، وإن لم يعتقد بقلبه،

أنه ينفعه عند ربه، لأنه تعالى يقول:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18)

ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولم يرد في الكتاب، ولا

في السنة، ولا في سيرة سلف الأمة أن الدعاء يطلب من الموتى، وحديث البخاري

في الاستسقاء بالعباس حجة على بطلانه.

وإذا علم القراء أن هذا المدرس هو الذي دارت بيننا وبينه المناظرة في هذا

الموضوع في المسجد الحسيني المنشورة في العدد الخامس من المجلد الثاني،

وتذكَّروا أن مبدأ المناظرة أن الشيخ المدرس عندما رأى الزائرين يطوفون بقفص

قبر سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان، ويقبِّلونه قرأ قوله تعالى: {مَا هَذِهِ

التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم؛ لعجبوا من تلوّن

الشيخ ومخاطبته كل أحد بما يظن أنه يقبله ليعظم في نفسه ويكبر في عينه، وإذا

علموا بعد هذا أنه كان رئيس محفل ماسوني يزول ذلك العجب؛ لأن الناس لا

يعجبون من ألوان الحرباء. وإذا علموا أنه هو الذي كتب في المؤيد يذم علوم

الحساب والهندسة وتقويم البلدان، وجعل توقيعه (ثابت بن منصور) وتذكروا

كيف فنَّد مزاعمه أحد المجاورين - يعلمون درجته في العلم، وأنه فيه غير ثابت ولا

منصور، بل لو علم حاضرو درسه كل ما تقدم لما اكتفى بعض نبهاء الطلاب بالرد

عليه في وجهه.

وقد كتبنا هذه الكلمات تنبيهًا له على قدر نفسه، ونهيًا له عن المنكر من غير

تصريح باسمه، عساه ينتهي عن ذلك التدليس، ويترك ذياك التلبيس، ويأخذ

بطريقة السلف الصالحين، ويترك الخوض بأهل الحق واليقين؛ فإنهم لهم الثابتون

المنصورون {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا

تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .

_________

ص: 239

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السخاء والبخل

- تتمة

أَتَعَجَّبُ من ضلال عامة الناس في فهم حقيقة السخيّ، على ما له من نفوسهم

القدر العليّ، وإلباسهم البخلاء الشحاح، لبوس أهل الجود والسماح، أليس هذا

الخطأ من أهل العلم والأدب أجدر بنبث بئار العجب، بعدما رفع الله تعالى في

القرآن من ذكر أهل البر والإحسان، وجعل بذل المال في سبيله آية الإيمان،

وإمساكه آية الكفر والخسران؟ اقرأ إن شئت قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي

يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الماعون: 1- 3)، وقوله جل علاه: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ

الزَّكَاةَ} (فصلت: 6-7) وارجع إلى سورة الحجرات، واتل ما ورد في

الأعراب من الآيات، فقد بينت حقيقة المؤمنين بعد إنكار دعوى الإيمان على

أولئك المسلمين، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ

لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .

وناهيك بما ورد من الوعيد الشديد لمن يكنز المال، ووعد المتصدقين بمضاعفة

الأعمال، وبعدما جعل الشرع في أموال المسلمين وكسبهم من حرث ونسل وتجارة

ذلك الحق المعلوم، وفرض عليهم القيام بالنفقات الضرورية على من يعجز عن كسب

يذهب بضرورته، ويسدُّ من خلته، سواء كان من المسلمين، أم كان من الذميين،

وما هذا الإلزام بالبذل، إلا لتزكية النفس من رذيلة البخل، وتعويدها على الجود،

مما يسمح به الوجود، وقد ورد في معنى هذه الآيات أحاديث كثيرة من أشدها وعيدًا

حديث البخاري في الأدب، والترمذي في صحيحه وهو: (خصلتان لا يجتمعان في

مؤمن: البخل، وسوء الخلق) وفي رواية لغيرهما:(البخل والكذب) وحديث ابن

أبي شيبة وهناد والنسائي والحاكم والبيهقي وهو: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب

عبد أبدًا) .

هذا شأن السخاء والبخل في نظر الدين، وما سلم رجال الدين معه من

الخلاف في تعريفهما عندما أنشؤوا يضعون الحدود الجامعة المانعة للاصطلاحات

الشرعية لبعد العهد باللغة وما يتبادر منها، فقالت طائفة: إن البخل هو منع الواجب

من نحو زكاة ونفقة قريب. وهدم بعضهم هذا الحد قائلاً: إن الذي يعطي عياله ما

يفرضه القاضي من النفقة، ثم يضايقهم في لقمة زادوها، أو ثمرة من ماله أكلوها

يُعَدُّ بخيلاً، ومن كان بين يديه طعام فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه فهو

بخيل، وكذلك من يَرُدَّ اللحم إلى القصَّاب، والخبز إلى الخباز لنقصان حبة أو

نصف حبة يوصف بالبخل كما وصفوا مروان بن أبي حفصة.

وقال قوم: إن البخيل من يستصعب العطية في نفسه، وردّ هذا القول لإطلاق

لفظ العطية؛ فإن السخي الجواد قد يصعب عليه أن يبذل جميع ما يملك أو ما هو

في أشد الحاجة لنحو وفاء دين أو نفقة من تجب عليه نفقته، بل السخي الحقيقي

يستصعب وضع المال في غير موضعه، وإعطاءه لغير مستحقه كمن يعلم أنه ينفقه

في معصية، أو يستعين به على مفسدة.

واختلفت أقوالهم في السخاء والجود، فقال بعضهم: هو عطاء بلا مَنّ،

وإسعاف من غير رؤية. وهو قول غير مرضي؛ لأن البخيل قد يعطي لغرض من

الأغراض التي شرحناها في النبذة الأولى، ولا يمن لئلا يحبط عمله ويخيب سعيه

وقد يُسْعِف ولا يرى نفسه مُسْعِفًا لعلمه بأنه يمنُّ ليستكثر، ويُسْعِف لِيُسْعَف، وقيل:

هو العطاء من غير مسألة. وهو كما ترى. وفصل القشيري في رسالته بين

السخاء والجود، وفصل بينهما وبين البخل نقلاً عن أستاذه الدَّقاق، فقال: من

أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه

شيئًا فهو صاحب جود، ومن لم يبذل شيئًا فهو صاحب بخل. وهو قول مردود

غير محيط الحدود، وقيل: الجود: بذل الموجود. وهو قول من لا يميز في العطاء

بين التبذير والسخاء.

والحد الصحيح الذي يشهد له النص الصريح، هو أن السخاء أريحية،

وصفة نفسية، تقف بصاحبها في وسط، بين تفريط القبض وإفراط البسط، بحيث

يبذل المال بارتياح، إذا حَسُنَ في الشرع والعقل البذل والسماح، فإن بذل بغير

ارتياح فهو متكلف محمود؛ لأنه يربي نفسه على الجود، ولا يلبث أن يزول

التكلف فيكون سخيًّا، وتأنس نفسه بالبذل فيكون جوادًا حقيقيًّا، والبخل كيفية من

كيفيات النفس الخبيثة، وخلق من أخلاقها الرديئة، إذا عرض لصاحبه موجب البذل

في معروف، أو إغاثة ملهوف، أو مساعدة جمعية خيرية، أنشئت للمنافع الملية -

ينقبض صدره، وينقبض لصدره كفه، فيبخل بالدرهم والدينار، ويجود بالتعلات

ويسخو بالأعذار.

فمن أعذار البخلاء، الإحالة على المشيئة والقضاء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا

رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ويقولون: لو أراد الله بهؤلاء الفقراء خيرًا لأعطاهم،

ولو اقتضت حكمته أن يكونوا أغنياء لأغناهم. ولا يقولون: إن الله تعالى فضلنا

عليهم، فَلْنُفْض بشيء من فضل نعمه إليهم، وجعل بعضنا لبعض فتنة، فلنصبر

على منحتهم النوال كما صبروا على المحنة، وحسبنا أن اليد العليا خير من اليد

السفلى.

ومن أعذارهم أن أكثر السائلين، يظهرون على الغني بأخلاق المساكين،

فصلتهم ليست من البر، ولا يعود على المرء منها أجر، ومن أعذارهم أن إنفاق

المال في غير مقابلة عمل يغري الناس بالبطالة والكسل؛ ولذلك يذمه الأوربيون

وهم في ذلك محقون، وبذل المال وإمساكه هو سبب خسراننا وفلاحهم، وعلة

خذلاننا ونجاحهم.

فإن قيل لهؤلاء وأولئك: إن كنتم صادقين في اعتذاركم، وممسكين لما ذكرتم

من تعلاتكم وأعذاركم، ومُسْتَنين بسنة الأوربيين؛ لأنهم في نظركم من المصيبين،

وليست أيديكم بسلاسل البخل مغلولة، ولإبداء الشح الذميم مشلولة، فامسكوا عن

السائلين، وامنعوا الكسالى والبطَّالين، فالشريعة قد ذمت السؤال، وورد: إن الله

يكره العبد البطَّال؛ ولكن ما تقولون في العجزة والضعفاء، واليتامى والفقراء؟ هل

تجدون لكم عذرًا في تركهم سدى، أو تجدون على نار تقليد الأوربيين هدى؟ وما

تقولون في الإنفاق على المدارس العلمية، والجمعيات الدينية، التي بها نجح

الأوربيون، لا بالبخل والشح كما تزعمون؟ فلماذا لا تتلون فيها تلوهم، ولا

تحذون حذوهم؟ ألم يأتكم في كل يوم أنباء بذلهم الألوف والملايين على معاهد العلم

والصناعة والدين [1] ؟

ولا تحسبن أيها القارئ الكريم، الذي لم يكتنه خُلق الشَّحَاح اللئيم، أن هذه

الحجج الناصعة، والبراهين القاطعة، تقطع لسانه أو تمحو بهتانه، فتكون للسانه

خير عقال، وتحل يديه من السلاسل والأغلال، كلا إنه بعد بيان الآيات، ليتعذر

بعدم الثقة بالجمعيات، فإن كانت مؤسسة لإعانة العجزة والبائسين، يقول: إنما نحن

في حاجة إلى تربية أولاد الفقراء والمساكين. وإن كان من موضوعها التربية الملية

يقول: نحن أحوج إلى المدارس الصناعية، وإن كان من موضوعها ذلك، وقيل له:

إنه لا يتم إلا بمساعدة أمثالك. يقول: ليس عندنا استعداد للقيام بما يكون به الإسعاد

ولا يسمع لمن يقول: يجب إذن أن نسعى في إيجاد ذلك الاستعداد، ولا يتم ذلك إلا

بالبذل والإمداد؛ لأنه يرى أن إضاعة المال أن يدخل في غير الصندوق، أو يخرج

لغير الاستغلال، ويصح أن يقال في هؤلاء الأشحاء، ما قيل في الجبناء؛ لأن

الجبن والشح من جب واحد.

يرى الجبناء أن الجبن حزم

وتلك خديعة الطبع اللئيم

وأختم القول بأنه لا عذر لمسلم في دينه، ولا لوطني في وطنه، ولا لإنسان

في إنسانيته أن يرى أمته تتلاشى وتنحلّ، وملته تذوب وتضمحل، وهو يعلم أن

حياة الأمم في هذا العصر بالمال؛ لأنه هو الذي يرقي العلوم والفنون، وهو الذي

يربي النفوس والأخلاق، وهو الذي يوجد الصناعة، وينمي التجارة ويثمر الزراعة

وهو الذي ينهض بالدولة ويعطيها القوة والصولة، بل هو كل شيء؛ إذ لا يتم

بدونه شيء، يعلم هذا كله ثم لا يجود لإنقاذها بشيء من فضل ماله، لا سيما في

هذه البلاد المصرية، وفيها مثل الجمعية الخيرية، القائمة على خير أساس، ينفع

البلاد والناس، ومثل جمعية العروة الوثقى وجمعية المساعي المشكورة، وغيرهما

من الجمعيات الدينية الأدبية كجمعية شمس الإسلام، وجمعية مكارم الأخلاق،

وجمعية شمس المكارم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليساعد هذه الجمعيات

كلها أو بعضها، أو ما يوافق مشربه منها بحسب الاستطاعة {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن

سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ

اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .

_________

(1)

آخر أنباء المنح الكبيرة نبأ المثري الكبير كارنجي الإسكتلندي الذي وهب مدارس وطنه مليوني جنيه، وثروة هذا الرجل تقدر بخمسين مليون جنيه، ولم ننس ذلك اليوناني العظيم الذي توفي في السنة الماضية عن مليوني جنيه اكتسبها من القطر المصري، وأوصى بثلاثين ألف جنيه؛ منها ألف جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية بمصر، وهي هبة لم تر مثلها الجمعية من أغنياء المسلمين، ولو كان في مصر ألف كريم كهذا اليوناني (ليلا بوبلو) يُعَضِّدون هذه الجمعية لأنشئت في القطر مدارس صناعية، بل ومدرسة كلية تكون منبعًا لنهضة جديدة، ومن العار على كل غني في مصر أن لا يكون لهذه الجمعية مثل هذه المدارس، ولو شئنا أن نسرد ما نشرته الجرائد العربية لا سيما المقتطف من أخبار الهبات العلمية في أميركا وأوربا لاحتجنا إلى عدة مقالات.

ص: 241

الكاتب: محمد رشيد رضا

الدرس العشرون

الوحي وأقسامه

م (60) إمكان الوحي:

تقدم أن إثبات النبوة يتوقف على إثبات كون الإنسان مركبًا من جسد وروح،

وأن الروح ليست من عالم الملك المادي المشهود؛ وإنما هي من ملكوت أعلى

مغيب بحقيقته عنا، وقد عرفنا أرواحنا بآثارها، لا بكنهها وأسرارها، وكما يمتاز

أفراد من الناس بالقوة الجثمانية على سائر أهل قطرهم، أو على سائر الناس

كقيصر روسيا السابق إسكندر الثالث الذي كانت تلين في يديه المعادن، حتى إن

كان ليغمز الريال الروسي من وسطه بأصبعه، فيصير مجوفا كالفنجانة، ويضع

فيه زهرة ويعطيها لإحدى عقائل النساء في مجلسه ذاك، كذلك يكون لبعض

الأناسي قوة روحانية يفوقون فيها سائر البشر، فإذا كان من أثر القوة الجسدية ما

ذكرنا عن قيصر روسيا السابق؛ فإن من آثار قوة الروح في البشر ما هو أظهر من

ذلك وأبعد في التفاوت بين أفراد الناس.

آثار القوة الروحية سعة العقل والعرفان وشدة العزيمة والإرادة المساعدة على

العمل بما يحيط به العقل من المعرفة بالمصالح، حتى إننا نرى الرجل الواحد يحيي

أمة أو أممًا بعد مماته، ويجمع شملها بعد شتاتها، ويعمل ما تعجز عنه الملايين

كعمل السلطان صلاح الدين، في قهر ملوك أوربا وإعادة سلطة المسلمين، وكعمل

بسمرك في الوحدة الألمانية، وواشنطون في تحرير البلاد الأميركانية، حتى إن

بعض أهل الزيغ والجحود توهموا أن ما أعطيه الأنبياء من سياسة البشر وإصلاح

شؤونهم وتقويم مدنيتهم هو نحو ما ذكرنا عن هؤلاء الملوك والسياسيين، وما أبعد

ما يتوهمون؛ فإن هؤلاء الرجال ظهروا في أمم لها أديان تهديها، وشرائع وقوانين

تحكم بها، وجيوش منظمة تحمي حقيقتها، وتدافع عن حوزتها؛ ولكنها أساءت

استعمالها، أو رزئت بإهمالها، فأرشدوها إلى الانتفاع بما وهبت فعملت بإرشادهم

وأسعدوها بالرأي الصحيح فسعدت بإسعادهم، فأين هذا من حال الأنبياء

والمرسلين، الذين بُعثوا في أقوام وثنيين، يدعونهم إلى ترك ما هم عليه من

الاعتقادات، ونبذ ما ألفوه من التقاليد والعادات، ولم يكن لهم في إبان ظهورهم قوة

مُلك يعتمدون عليها، ولا شرائع يقتبسون منها، وهل قياس هؤلاء بأولئك، إلا

كقياس الحدادين بالملائك، وإنما ضربنا بهم المثل لبعد المسافة بينهم وبين سائر

الناس، كما أن المسافة بينهم وبين الأنبياء في البعد على نحو تلك النسبة أو أبعد

منها.

م (61) ضروب الوحي وأنواعه:

الوحي في اللغة اختصاصك أحدًا بكلام، أو إعلام تخفيه عن غيره، وأصله

الإشارة السريعة كما قال الراغب. ووحي الله إلى الأنبياء عبارة عما يختصهم به من

المعارف التي يريد أن يعملوا بها، وأن يبلغوها الناس للاهتداء بها؛ بحيث يكونون

على بينة من ربهم، وثقة تامة بأن ذلك من لدنه سبحانه وتعالى، ولا يعلم كنه

الوحي وحقيقته إلا من اختصهم الله تعالى به. وقصارى ما يصل إليه علمنا أن

نعرف بالدليل أنهم صادقون في دعوى الوحي وتبليغنا عن العليم الحكيم الرحمن

الرحيم ما مست حاجتنا إليه، وسبق التنبيه عليه، وأن نفهم ما ورد عنهم في ذلك

الوحي من بيانه، ورسومه وأقسامه.

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ

يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51) فالآية

الشريفة ناطقة بأن طرق كلام الله لأنبيائه ثلاثة: أحدها: الوحي بلا واسطة، وقد

غلَّب هذا الإطلاق في العرف والاصطلاح؛ وإنما تكون للنبي تلك الأنواع أو بعضها

بالقوة الروحانية الفائقة التي فطره الله تعالى عليها.

من وظيفة تلك القوة وآثارها تمزيق الحجب المادية التي حجبت الروح عن

معالمها، وكسر المقاطر الحسية [1] التي عاقتها عن العروج إلى عالمها، فتعرج

بإذن الله تعالى إلى الملكوت، وتتصل بمن شاء الله تعالى من عماره المقربين،

تتصل بالمَلَك المسمى بروح القدس والروح الأمين {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ

أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ

عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) .

يتلقى النبي بهذا العروج الروحاني عن الله تعالى من المعارف التي لا ينالها

الناس بكسبهم ما هم في أشد الحاجة إليه في نظام جمعياتهم، وإصلاح أحوال

معيشتهم؛ ولتطهير عقولهم من أدران الشرك والجهل بالله تعالى، وتنظيف نفوسهم

من لوث الأخلاق الذميمة والسجايا الرديئة، وتحليتهم بالعقائد الحقة والأخلاق

الفاضلة والآداب الصحيحة والعبادات البدنية المرضية التي تمدّ العقائد والأخلاق

والآداب، وتُسْتَمَدُّ منها؛ لأنها كالبريد بين العقل والنفس، وبين الجسد والحس.

وهذا التلقي قد يكون بالإلهام، وعبرت عنه الآية بالوحي المطلق، وهذا الحرف

مستعمل في القرآن بمعنى الإلهام كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ

اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً} (النحل: 68)

إلخ، وقال جل ذكره: {وَأَوْحَيْنَا

إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية، وليس كل موحى إليه بالإلهام

الصحيح نبيًّا مرسلاً، بل النبي هو الموحى إليه بالدين الذي يُرشد به الناس،

وكذلك يقال في مكالمة المَلَك التي وقعت للسيدة مريم عليها السلام، وهي ليست

بنبية على الصحيح الذي عليه الجمهور، والرؤيا الصادقة من هذا القسم، وكانت

أول وحي نبينا عليه الصلاة والسلام كما ورد في حديث البخاري المشهور، وأدخل

بعضهم الإلقاء في القلب في معنى وحي الإلهام، واستدلوا عليه بقول عبيد ابن

الأبرص:

وأوحى إليّ الله أن قد تآمروا

بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي

نعم إنه يريد بالوحي أن الله خلق في قلبه علمًا بذلك لا يعرف مصدره، وهذا

هو الإلهام. ولكن ورد في الحديث ذكر الإلقاء والنفث في الروع مضافًا إلى روح

القدس، فيدل على أنه يكون من القسم الثالث وهو الوحي بواسطة الرسول، والكل

وحي، وهذا الأول ما يكون بغير واسطة.

هذا النوع من التلقي عن الله تعالى يحصل في روح النبي دفعة واحدة من

غير أن تكون الروح متعلقة بشيء من الأشياء التي تشغلها عن الحس؛ لتجتمع

الهمة ويتم الانسلاخ عن العالم المادي، والاتصال بالعالم الروحاني، وهو الوحي

بدون واسطة مطلقًا، وأما النوع الثاني فهو ما يقيض فيه للنبي ما تتعلق به نفسه

ويشتغل به حسه، حتى تجتمع الهمة ويصح توجه الروح وتبلغ الكمال في قوتها

العقلية، بعد الانقطاع عن الشواغل الكونية، فيكون ذلك حجابًا له بين عالم الغيب

وعالم الشهادة، ويأتيه الوحي من وراء هذا الحجاب، ومن ذلك النار التي رآها

موسى عليه السلام في الشجرة فطار إليها لبه، وعلق بها قلبه، وانحصرت في

مشكاتها روحه، فكان منها فتوحه، وجاءه منها العلم والحكم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى

تَكْلِيماً} (النساء: 164) وكل كلامه تعالى يسمى وحيًا، ولذلك قال عز وجل:

{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (طه: 13) .

وبقي التلقي عن الله تعالى بواسطة المَلَك المسمى بالروح، وهو القسم الثالث

المُعَبَّر عنه في الآية بقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ} (الشورى: 51)

إلى النبي ويُعَلِّمه بما يلقيه في قلبه بإذنه تعالى ما يشاء سبحانه أن يوحيه كما قال:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ} (الشعراء: 193-

194) فهذه الآية تدل على أن المَلَك يُلْقِي ما يريد الله إلقاءه للنبي في القلب، فهو

خطاب للروح لما يكون بينهما من الاتصال، وقد ورد في الصحيح أن المَلَك كان

يتمثل بهيئة الإنسان ويؤيده قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً

سَوِياًّ} (مريم: 17) وهل يكون كلامه حينئذ ككلام البشر كما في حديث الإيمان

والإسلام والإحسان، أم هو مناجاة روحية على كل حال كما هو ظاهر قوله تعالى:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أم يكون تارة

هكذا، وتارة كذلك؟ الله ورسوله أعلم.

م (62) الوقوف عند النصوص:

علينا أن نفهم النصوص وما لنا أن نزيد فيها ولا ننقص منها؛ لأن هذا مما لا

يُعْرَف إلا بالقياس، ولا مجال في حقيقته للعقل ولا للحواس، وما اختلف المختلفون

وفرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا همُّ كل فرقة الرد على الأخرى، إلا لتسمية هذا الوحي

بأنواعه كلام الله تعالى، وإيحائه تكليم الله عز وجل، ولو لم يرد إلا لفظ الوحي

والإيحاء، والتعليم والإنباء، كقوله تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} (النساء: 113) وقوله تبارك اسمه: {نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: 3) لما

كان لهم أن يقولوا ما قالوه في الصفة النفسية والصفة اللفظية، ولا أن يثبتوا له

سبحانه صوتًا وحروفًا إلى غير ذلك مما نمسك عن الخوض فيه عملاً بهدي

الراشدين، وفي الحديث الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أحيانًا

كصوت السلسلة على الصفوان) ، ولعل ذلك حجاب كنار موسى، وقد علمنا من

الآية أن القرآن الكريم أطلق لفظ التكليم على الوحي الذي بمعنى الإلهام، ورؤى

المنام، والذي بواسطة الحجاب، والذي بواسطة الروح الذي ينزل على القلب،

وظواهر الآيات تنأى بك عن قياس التمثيل، وتربأ بنفسك عن القال والقيل، والله

يقول الحق وهو يهدي السبيل.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المقاطر: جمع مقطرة، وهي خشبة فيها ثقوب توضع فيها أرجل المحبوسين.

ص: 251

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة والأجوبة الدينية

(1)

من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: من أين أخذتم

وتأخذون الأحكام التي أجبتم وتجيبون بها على أسئلتنا عدا ما نقلتموه عن الغزالي؟

أهي باجتهاد منكم خاصة أم من مذاهب الأئمة المجتهدين أم خليط من هذا وذاك؟

اهـ بنصه.

(ج) لا نكتب جوابًا على إطلاقه إلا إذا قام عندنا دليل على صحته توصلنا

إليه ببحثنا واجتهادنا، ولم نكتب جوابًا مخالفًا لمذاهب الأئمة المجتهدين.

***

(2)

ومنه: هل يصح للمناظر أن يستدل بأقوال الأصوليين والمتكلمين

والمحدِّثين والمفسرين والفقهاء المجتهدين والصوفية طبقة بعد أخرى؟ أم لا بد أن

يكون الدليل من الكتاب والسنة ليس إلا؟ وهل الإجماع والقياس من أصول الدين

كالكتاب والسنة في الاستدلال أم لا؟ وهل الآحاد لا يجوز العمل والاستدلال

بروايتها إذا ثبتت صحتها؟ وإلا فما الفائدة منها؟ اهـ بنصه.

(ج) إنما يستدل المناظر بما تقوم به الحجة على خصمه، فمن كان يناظر

من يحتج بكلام هؤلاء العلماء، يصح له أن يحتج عليه بكلامهم لأجل الإلزام كما

هو معلوم من فن المناظرة، وأما الإجماع والقياس فالجماهير يعدونهما من أصول

الاستدلال في الفقه على خلاف ترونه في محاورات المصلح والمقلد الآتية، وبهذا

تعلمون أنهما ليسا محل وفاق كالكتاب والسنة، وأما أحاديث الآحاد الصحيحة فيحتج

بها في كل ما يُكتفى فيه بالظن كالأحكام، وأما ما يُطلب فيه القطع كالاعتقادات فلا

يُستدل عليه بالآحاد، هذا ما اتفقوا عليه في جملته. وفي التفاصيل والجزئيات

خلاف الحنفية في ترك أحاديث الآحاد التي تخالف القياس الجلي.

***

(3)

ومنه: ما نقلتموه عن الغزالي من تقسيم العلوم إلى محمود ومذموم

ليس غرضنا؛ وإنما مرادنا هل قال أحد من المجتهدين بمنع تعلم وتعليم العلوم

النافعة في الدنيا والآخرة الخالية من الإلحاد والمفسدة، حتى يمكن أن يقال: إن

مذاهبهم فيها ما يمنع الترقي المادي والمعنوي؟ وهل علم الكلام وعلم التصوف

وتدوينهما فنًّا مستقلاًّ كغيرهما من العلوم الحادثة بحدوث الإسلام على ما ذهب إليه

أئمة الهدى، ومصابيح الدجى من جمهور أهل السنة والجماعة يُعَدُّ مفسدة في الدين

والدنيا؟ وإذا كان كذلك فما حكم من عمل بهما من المسلمين؟ وإلا فما معنى انتقاد

تدوينهما والأخذ بأحكامهما؟ اهـ بنصه.

(ج) ما كان يخطر في بالنا أن أحدًا يسأل السؤال الأول، فكيف يسأله من

يُعلم من توقيع مكاتبيه أنه (خادم العلوم والآداب) ، وكيف يمنع مجتهد في العلم

تعليم ما ينفع في الدنيا والآخرة ولا ضرر فيه مطلقًا! ! ! أما العلوم النافعة في

الدين فهي علوم المجتهدين الذين تعنيهم، وأما العلوم الكونية التي يرجى أن ترتقي

بها مدنية المسلمين وترتقي دنياهم فلم تنتشر فيهم إلا بعد الأئمة الأربعة، وقد شنَّ

الغارة على أصحابها علماء مذاهبهم وذموا علومهم وحرموها، ورموا المشتغلين بها

بالكفر والإلحاد كابن سينا وابن رشد والفارابي والغزالي وكمال الدين بن معية

وأضرابهم.

وما زالوا يطاردونهم ويستعينون بالأمراء عليهم حتى اضمحلوا وتلاشت

علومهم، ثم عادوا إلى الاعتراف بفضل بعضهم كالإمام الغزالي الذي حكموا بإحراق

كتابه (إحياء علوم الدين) في الشرق والغرب حتى كان يُحرق في أسواق القاهرة

أكداسًا أكداسًا، وما أجمعوا على فضله بعد موته إلا لأنه زهد في الدنيا، وقضى

سائر عمره في التأليف في الأخلاق والرقائق، وقد كان من تأثير هذه الغارة أن

المسلمين تركوا تلك العلوم حتى الطب منها، وقد شكا الغزالي في إحيائه من فقد

الأطباء المسلمين، ومما كذَّب به مزاعم الفقهاء الذين يزعمون أنهم يشتغلون بدقائق

الفقه؛ لأنه فرض كفاية أنهم لو كانوا صادقين لأحيوا فن الطب؛ لأنه من فروض

الكفايات المتروكة بخلاف الفقه، ولا يزال فقهاؤنا إلى اليوم يذمون علوم الدنيا مع

علمهم بأن الدين لا يحفظ إلا بالدنيا، وأن القوة فيها موقوفة في هذا العصر على هذه

العلوم والفنون.

ولعل السائل لم ينس المقالات التي كتبت في المؤيد منذ نحو سنة في ذم الحساب

والهندسة وتقويم البلدان، فالمنتقدون في هذا المقام ينتقدون أمثال هؤلاء الذين يعتقد

عامة المسلمين أنهم حفظة الدين، لا أنهم ينتقدون الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي

وأحمد رضي الله تعالى عنهم.

وأما علم الكلام فقد حدث في الملة على عهد الأئمة، فحرَّموه وذمَّوه، وقد

نقلنا أقوالهم في ذلك في المسألة (52) من الدرس السابع عشر من الأمالي الدينية

المنشور في الجزء الأخير من مجلد المنار الثالث، وقد جمعنا ثمة بين أقوالهم،

وبين ما ذهب إليه الخلف من استحسان علم الكلام والقول بلزومه، فراجعه.

وأما علم التصوف فهو على قسمين: القسم الأول ما يتكلمون فيه على تهذيب

الأخلاق وتأديب النفوس بآداب الدين، ومحاسبتها على الإخلاص لله تعالى،

ومطالبتها بكمال التوحيد الذي لا يشهد صاحبه فعلاً لغير الله تعالى، ويرى الخلق

مسخرين في قبضته، مع عدم الغفلة عن الأسباب التي اقتضتها الحكمة وتم بها

النظام، وهذا هو لباب الشريعة، ورجاله رجال الرسالة القشيرية وأضرابهم رضي

الله تعالى عنهم، وكان هؤلاء على طريقة الصحابة والتابعين في أخلاقهم وآدابهم

وزادوا عليهم الكتابة والتأليف - ونعمت الزيادة - والمبالغة في ترك الدنيا وذمها

زهدًا فيها، وقد كان لهذا أثر بيّن في كسل المسلمين وتقاعدهم عن الترقي في الدنيا،

وقد بيَّنا عذرهم في بعض ما كتبنا، ولعلنا نذكره في المنار بعد، وهذا القسم من

التصوف يسمونه التخلق.

والقسم الثاني: يسمونه التحقيق، وعلمه علم الأسرار، ويتكلمون فيه عن

الأذواق والمواجد، وعما وراء الحس من عوالم الغيب، وعن الذات الإلهية

والصفات العلية ووحدة الوجود، وهنالك المهامه الفيح، والجبال الشاهقة، والبحار

المغرقة التي تاه فيها الأدلاء، وغرق فيها الملاحون، وكان التأليف فيها طامة

كبرى ومصيبة عظمى، ولقد كان الشيوخ الأجلاء يُنْكِرُون الكلام فيها، فما بالك

بالتأليف حتى إن الأستاذ الجنيد أفتى مع الفقهاء بقتل الحلاج، أما منبع هذه الطريقة

فهو الصين، ثم انتشرت في الهند، وانتقلت وساوسها إلى اليونان، ولما امتدت

الفتوحات الإسلامية، وامتزج المسلمون بجميع أمم الأرض مزجوا علومهم بما

أخذوه عن تلك الأمم، وصبغوه بصبغة الدين، ولوَّنوه وذهبوا فيه مذاهب شتى،

وكان أشد تلك المذاهب فتكًا في الإسلام مذهب الباطنية وله شُعَب وفروع، وقد راج

كثير من مسائله على كثيرين من أهل السنة باسم هذا القسم الثاني من التصوف،

وقد شرحنا هذا في أجزاء من المنار وسنفصله بعد تفصيلاً، وقد شن الغارة

المتكلمون والفقهاء على أهل هذا القسم من المتصوفة، وأفتوا بكفرهم، وساعدهم

عليهم الأمراء بالقتل والنفي، وأتذكر أنهم سلخوا جلود عدد كبير منهم في مصر

القاهرة في يوم مشهود، وربما أُخذ البريء بجريرة الأثيم، وقُتل الصادق بذنب

المارق.

والحاصل أن الميزان الذي يُعرف به الحق والباطل والراجح في دين الله

والمرجوح هو كتاب الله المعصوم والسنة النبوية الشريفة المبينة له، وسيرة أهل

الصدر الأول العاملين به على أكمل الوجوه، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويُردّ عليه،

إلا المعصوم كما نُقل عن الإمام مالك رضي الله عنه.

وقد طال الكلام وسنجيب على بقية الأسئلة التي تفيد الأمة في الجزء الآتي

إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 256

الكاتب: عبد العزيز محمد

التربية والتعليم

بالفانوس السحري والتمثيل والمعارض [1]

(المكتوب 29) من هيلانة إلى أراسم في 3 فبراير سنة 185

لقد وهمت أيها العزيز في دعوى أن ذلك الهيكل الذي تمنيت إقامته للعلم لا

يوجد ولن يوجد؛ فإنه موجود بالفعل في سايدنهام [2] على غاية القرب من لوندرة،

واسمه القصر البلوري، وفي نيتي أن أزوره أنا وأميل متى أمكنتني الفرص،

وصار في سن يؤهله لإدراك ما فيه من مواد التعليم، نعم إني لست على يقين من

مطابقة طريقة بنائه لآرائك تمام المطابقة؛ ولكن أقل ما فيه على ما سمعته عنه أن

القصد من إنشائه موافق لقصدك، وقد يدهشك أن تعلم أن ليس للحكومة يد في بناء

هذا القصر العامي - وإنما أصفه بذلك؛ لأن المقصود الأصلي من إقامته إنما هو

تربي طبقات العامة - فإن كل ما فيه من البساتين الواسعة، والبناء البلوري،

والآثار القديمة، والتماثيل وجمل الأشياء المفيدة ملك لجماعة من المتساهمين، وقد

عهد برفعه إلى مشاهير العلماء والصناع والأثريين، فكانوا يباشرون بأنفسهم إفراغ

المواد في القواليب، وتحصيل مُثل الأشياء؛ ذلك لأن الإنكليز إذا قصدوا تحقيق

غرض مفيد أو إنشاء معهد جديد لمنفعة عامة اعتمدوا على أنفسهم بسبب ما آتتهم

ضروب الحرية، ووسائل العمل الذاتية من قوة العزيمة وشدة البأس غير راجين

من الحكومة مساعدة مالية ولا قولية، لعلمهم أن العمر ينقضي دون الوصول إلى ما

يرجون، فهم متى أرادوا أقاموا تماثيل لعظمائهم، ورفعوا هياكل لفكرة يبديها

الواحد منهم.

أراك تشكو من عدم وجود معاهد للتمثيل عندنا خالصة للأطفال، فاعلم أن

لأطفال الإنكليز واحدًا منها؛ ذلك أنك في صبيحة عيد الميلاد تجد معظم تلك المعاهد

كأنها قد انفكت عن الاختصاص بالروايات الجدية والهزلية، ولا يقبل فيها من

الكبار إلا من كان مولعًا بسماع الأساطير، كأسطورة إهاب الحمار [3] وأسطورة

الأصيبع، فكل واحد منها يصح أن يعنون بمعهد الرؤوس الشقر؛ لأن الأطفال في

شهرين أو ثلاثة من السنة يكونون هم المتصرفين في اختيار نوع الآلاهي العامة،

والمتمتعين بكل ما في المعاهد من المقاعد المخملة والموسيقى وضروب الغرور

والفتنة، ويؤكد لي الناس هنا أن كثيرًا من تلك المشاهد يحصل فيه التمثيل مرتين

في اليوم، إحداهما بعد الظهر لمن يتعجل في النوم من الأطفال الذين لا يقوون على

السهر، والثانية في العشي لليافعين والآباء والأمهات وللشيوخ الذين حفظوا للشباب

في ناحية من أذهانهم شعاعًا من ضيائه، ولمعة من بهائه، وينبغي على ذلك أن

أول شرط يلزم تحقيقه في النظارة أن يكونوا صبيانًا أو مستصبين، وإلا فكيف

يروقهم سماع ما يروى هنالك من أقاصيص الجن، وما يتمثل من الأضاحيك؟ نعم

إن مواضيع تلك الألاهي البهجة هي في الجملة غاية في الابتذال، وإنك لتأسف

على ما يضيع في سبيل تربية الإدراك بهذه الأماكن من نفقات الزينة والثياب،

وغيرها من عتار التمثيل؛ لأن ما يحصل فيها من تغيير المناظر قلما يفيد إلا إثارة

وجدان الإعجاب والدهشة؛ ولكن ما أشد ما يبديه الأطفال عندها من دلائل الفرح

المنبعث عن السذاجة، وما أبلغ ما يظهر من تشوفهم إليها، وأعظم ما يكون من

بريق أبصارهم وحملقتها بسبب استغرابها والافتتان بها، خصوصًا إذا جاء دور

ذلك المنظر المعروف المسمى منظر الانقلاب والتحول، فلشد ما تخفق القلوب

هنالك خفة ومرحًا.

ومهما كان في تلك المرائي من الابتذال فلا ينبغي أن يستخف بما يتجلى للأطفال

فيها من تلك القصور المسحورة، وأمطار العسجد والشرر والأنوار المشتملة على

جميع ما يرى في الفجر القطبي من الألوان المتباينة، والجزر السعيدة (الجزائر

الخالدات) والنساء العائشة في السحب، وفي الأشجار والأزهار؛ وبالجملة لا تصح

الاستهانة بتلك المخترعات الخيالية العامية التي تمثل في أضاحيك المناظر، فأينما

طار بنا الخيال وإن على أجنحة من الورق المقوى ولم يرفعنا إلا قليلاً؛ فإنه يفكنا

ساعات مما يبهظنا من أغلال العوائد والحاجات، تلك المناظر الغرارة لن تنفك أن

تكون محبوبة للعامة والأطفال؛ لأنها تفتح جزءًا من أبواب الكمال المطلق البالغ

أقصى غاياته.

لما رأيتني لا أملك الآن الذهاب بأميل إلى القصر البلوري، ولا إلى معهد

التمثيل عولت على الاستعانة بآلة يطاف بها هنا في المدن والقرى، وهي الفانوس

السحري وكأني بك تضحك من ذلك؛ ولكن أي مانع يمنع من أن تكون تلك الآلة

المستعملة لتحصيل اللذة والإعجاب من وسائل التعليم أيضًا، فليس ذنبًا للفانوس

السحري أنه قلما استعمل إلا لتمثيل الصور المضحكة الغريبة في دارة مضيئة، بل

إنه لا يكون إلا مفيدًا إذا قصد به الجد، ولو أن العلماء تفضلوا على المصورين

بإرشادهم إلى ما يختارون من مواضيع العمل، وإلى طريقة التصوير على الزجاج

لأدى الفريقان للأطفال فيما أرى فوائد، وقد سمعت أن المتولين أمر التربية في

إنكلترا سبقوا إلى اتخاذ هذه الطريقة في بعض المدارس لتأدية شيء من معاني علم

الفلك وتقويم البلدان والتاريخ إلى عقول الناشئين.

أنت تعلم أن علماء الفلك قد رسموا صور الأجرام السماوية الكبرى،

وخططوا آثار ذوات الذنب والشهب والخسوف والكسوف، أو انتزعوا صورها بآلة

التصوير (الفتوغراف) فلو أننا أردنا أن نجعل الفانوس السحري الذي هو الآن

مشهد الأوهام والمغالطات مشهدًا للحقائق أيضًا، كفانا في ذلك أن ننسخ على زجاجة

رسوم السماء وما فيها مصورة على الحالة القطرية تصويرًا مضبوطًا.

إذا كان المراد تمثيل الأرض في هذه الآلة، فلست على يقين من صلاحيتها

لتحصيل صور جميع ما فيها من سلاسل الجبال الكبرى، ومجاري الأنهار العظمى

ومجاهل الصحاري المريعة، وشكل السواحل الوعرة المغمورة بالمحيط، ولا حيلة

لنا في ذلك، فعلينا أن نكتفي بمبلغ طاقتنا من تصويرها فيها، على أن الطفل

يروقه نظر الأشياء تفصيلاً أكثر من النظر إليها جملة، فهو إذا نظر إلى صور

الأقاليم وهيئاتها؛ فإنما يلتمس أثرًا يريعه ويدهشه كصخرة غريبة الشكل، أو نبات

أجنبي، أو حيوان عجيب، أو إنسان مغاير لنا بلون جسمه.

وأما التاريخ؛ فلا شك في صلاحية الفانوس السحري لتعليمه؛ فإنه يتأتى به

إحضار خيالات من يتحدث عنهم من الماضين، فلا مانع من أن ترسم على صفحته

صور الشجعان الغابرين بزيهم وبزتهم، وصنوف ما وجد من الصور الغريبة كأبي

الهول، والثيران ذات الأجنحة وذات الرؤوس الإنسانية واللحى السوداء،

والجنيات، والآلهة، وغيرها من الصور الخرافية؛ لأنها إذا خرجت من الليل فلا

عجب أن تعود إليه.

أنا لسوء حظي لست عالمة ولا مصورة؛ ولكني أرسم رسمًا مناسبًا لحالتي،

وكنت أرى منك أحيانًا استحسان رسومي الكثيرة الألوان، نعم إني لا أحسن طريقة

التصوير على الزجاج؛ فإنها حرفة تُتعلم وكمال سأفتخر بأن يكون (أميل) هو

صاحب الفضل علي في كسبه وأصعب عليَّ في ذلك فيما أرى؛ إنما هو الحصول

على مُثُل متقنة؛ لأني إخال أن الواجب على المربي أن يكون دقيقًا فيما يعلمه الطفل

وأكره أن لا أبرز الأشياء لولدي في صورها الصحيحة، وقد وعدني الدكتور

وارنجتون - وهو موافق لي في كثير من أفكاري - أن ينتقي لي من لندره صورًا

منتزعة بآلة التصوير (الفتوغراف) أو رسومًا أُخذت من علماء الطبيعة وعلماء

الآثار والسياح، وأنا بفضل معونته على أمل من إنشاء مشهدي الصغير عما قليل

اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

معرب من كتاب ‌

(أميل القرن التاسع عشر)

.

(2)

سايدنهام: قرية من قرى إنكلترا واقعة على بعد ثمان كليومترات من لوندرة بني فيها القصر البلوري للمعرض العام الذي أقيم في سنة 1851.

(3)

أسطورة إهاب الحمار هي من أساطير شار برولت الذي سبق التنويه بذكره في المكتوب (25) وملخصها أن ملكًا كانت له زوجة يحبها جدًّا، ورزقت منه ببنت فائقة الجمال، ثم مرضت وعند احتضارها استحلفته أن لا يتزوج إلا بمن تكون أجمل منها، فلم يجد في عقائل مملكته من تحقق فيها الشرط إلا بنته، فأفضى إليها بميله إلى تزوجها، فأنكرت عليه الأمر، فصمم فاشتكت إلى جنيتها، فأرشدتها إلى أن تطلب منه حلة كالزمن في لونه، فاستصنعها لها، فأوعزت إليها بطلب آخر كلون القمر، فما كان أقرب من تقديمها لها، ثم بثالثة كلون الشمس فكان ما طلبت، وكان لأبيها حمار يحبه كثيرًا؛ لأنه كان يجد تحته كل يوم مقدارًا وافرًا من النقود، فلما أعيت الحيلة تلك الأميرة، وظنت أن لا خلاص لها امتلأ قلبها حزنًا، فأوحت إليها الجنية بأن تطلب إهاب الحمار (جلده) ، فقُدِّم لها بعد استغراب، فزادها ذلك جزعًا، فقالت لها الجنية: كفي فهذا وقت خلاصك، فالبسي إهاب الحمار وأخرجي فإنه لا يشعر بك أحد، وسأتبعك بحليك وحللك أينما قصدت، فخرجت في ذلك الإهاب، وساحت في الأرض فدخلت مملكة أخرى، فاستخدمتها زوجة مزارع في رعاية الديكة وكنس معلف الخنازير لرفاهة حالتها وقذارتها، فرآها ابن ملك تلك الجهة من خصاص كوخها وقد تعرت من إهاب الحمار ولبست حلة من حللها، ففتن بها وذهب إلى أهله مدنفًا سقيمًا وحار الأطباء في أمره،

وقالوا: إنه لا مرض به إلا الفكر، وبعد إلحاح من والديه طلب أن الخادمة التي تلبس إهاب الحمار تصنع له قرصًا، ففعلت ودست فيه خاتمها؛ لأنها قد فهمت حقيقة الأمر، فلما تناول الخاتم في فمه قال لوالديه: إني أريد أن أتزوج بصاحبة هذا الخاتم، فنودي في المدينة بأن أية فتاة يوافقها الخاتم الذي في بيت الملك تكون زوجةً لولي عهده، وكانت نتيجة ذلك أن تزوجت به وعاشا في نعيم ورغد، وأسطورة الأصيبع تقدم تلخيصها في هامش مكتوب 25 (راجع ص 814 مجلد 3) .

ص: 261

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تعليم العربية في المدارس

تأخره في تقدمه

أحسب الناس أن تقدم اللغة العربية بلغ من النجاح أن يُمتحن في فنونها مائتان

وخمسون طالبًا وأربعة نفر، فلا يخيب منهم إلا الأربعة والباقون نجحوا في

امتحانها؛ وأنها قد بلغت نصابها واسترجعت شبابها؟ كلا إن الناس متعجبون من

نتيجة الامتحان في هذا العام لا معجبون، وإنهم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم

فيه مختلفون، وإننا نشير إلى الحقيقة بمجمل من القول.

من المعلوم لأكثر الناس أن التلامذة لم يسألوا في هذه السنة إلا ثلاث مسائل

سهلة جدًّا، وكانوا يسألون في كل عام عشرة مسائل دقيقة كالألغاز ربما لا تخطر

في بال عالم؛ ولذلك كان الناس يشكون مع التلامذة من الإفراط في التشديد

بالامتحان، وكأن سكرتير المعارف المستر دنلوب أراد أن يزيل شكواهم، فأفرط

في التساهل حتى جعل الشكوى أعم وأكثر، ورجال لجنة الامتحان مستسلمون

لأمره، وإرادتهم فانية في إرادته.

والمتبادر أن المنوط بهم أمر الامتحان كانوا عازمين على جعل الامتحان في

هذا العام كما كان في العام الماضي لولا السكرتير، وإن أول من خضع للأمر مع

علمه بعدم كفاية المسائل الثلاث هو الشيخ ذو المكانة الأولى في اللجنة، والذي كان

يرجى أن يكون أعز أنصار اللغة العربية، ويقال: إن شابًّا من اللجنة تربى تربية

إنكليزية عارض في ذلك، ودافع عن اللغة العربية، أما حجة الشيخ في امتثال

الأمر فهي أن صيغة الأمر عند علماء الأصول حقيقة في الوجوب مجاز في غيره،

وأما حجة الشاب فهي أن هذا اجتهاد من السكرتير في المصلحة، وأن تقرير مسائل

الامتحان موكول إلى اجتهاد اللجنة؛ لأنها أعرف بالمصلحة، والمجتهد لا يقلد

مجتهدًا، وللشيخ في دفع هذا أنه لا بد من تنفيذ الأمر على ظاهره؛ لأن الاجتهاد لا

يصح أن يعارض النص كما هو مبيَّن في علم الأصول، وللشاب أن يقول في دفع

الدفع أنه يمكننا التوفيق بين أمر السكرتير وبين المصلحة بأن نضع ثلاث مسائل

جديدة تتضمن العشر، وبذلك نسلم من المخالفة ومن الغش في العمل، وينطبق قوله

هذا على قواعد الأصول، لقولهم بتأويل نصوص الكتاب والسنة إذا خالفت المعقول،

إلا أن يعود الشيخ فيدعي أن اجتهاده موافق لاجتهاد السكرتير في الاكتفاء بثلاث

مسائل بديهية عن عشرة عويصة؛ ولكن للشاب الحجة عليه بأنه كان مقررًا للعشر في

كل عام، فليس الانقلاب الآن عن اجتهاد؛ وإنما هو عن استسلام.

ويظهر أن سائر الأعضاء كانوا منقادين مع ذلك الشيخ الكبير إلى العمل

بظاهر الأمر من غير بحث في موافقته للمصلحة التي أنيطت بهم، كأنه أمر منزل

ونص قاطع لا يحتمل التأويل، ولولا ذلك لم يُنَفَّذْ ولكنه نُفِّذ كما يعلم من جميع

التلامذة، وهذا الاستسلام مبني على أنهم يعتقدون أن السكرتير أمر بما أمر وهو

عالم بأنه خلاف المصلحة فهم في الحقيقة خاضعون لما يظنون أنه يهواه ويميل إليه،

ولو كانوا يعتقدون أنه يقصد من الأمر بتيسير الامتحان المصلحة؛ ولكنه بالغ في

التيسير حتى صار مفسدة لراجعوه وبيَّنوا له الحد الوسط، ولو فعلوا ذلك بالاتفاق

لما خالفهم، وإن كان يُقصد إماتة اللغة العربية كما يقول الناس.

التربية الإنكليزية

سيقول الذين يسيئون الظن بالإنكليز عامة، وبالمستر دنلوب خاصة،

ويتهمونهم بالسعي في إماتة اللغة العربية؛ لأنها لغة الدين الإسلامي: ما بال هذا

الشاب هو الذي تصدى للمدافعة عن اللغة العربية، مع أنه لا يتميز على الأستاذ إلا

بكونه تربى وتعلم في البلاد الإنكليزية، والإنكليز لا يُعَلِّمون المصريين في بلادهم

إلا ليستعينوا بهم على تنفيذ مقاصدهم في مصر؟ وللإنكليز أن يجيبوا هؤلاء بقولهم:

إن الذي نعلمه ونربيه لا يخلو من أحد حالين: إما أن يتعلم منا كيف يخدم بلاده

ويعلي شأن أمته؛ لأننا نحب ذلك، أو لا نعارض فيه، وإما أن يأخذ عنا من

الاستقلال في الفكر وفي الإرادة ما يمكنه أن يجاهدنا به في ميدان الحياة، فإذن لا

نجاح لكم إلا بالتربية الإنكليزية، لا سيما إذا ترشح لها الخيار منكم.

كلمتا اللورد كرومر

وحكمدار الهند

أما الدليل على ترجيح الشطر الأول فهو ما قاله الفيكونت كرومر وكيل دولتنا

عندكم في تقريره عن مصر، وما قاله حكمدار الهند في خطبته في كلية عليكدة،

أما الأول فقد قال بعد الحث على التعليم الصناعي، وتعليم البنات، وموافقة شورى

القوانين على توسيع نطاق المدارس الأهلية ما ترجمته:

(من الشواذ الكثيرة في هذا القطر، بل من أغربها أن الشبان المصريين

يهتمون الآن بتعلم اللغة الإنكليزية أكثر مما يهتم الإنكليز بتعليمهم إياها؛ وسبب ذلك

واضح، وهو أن المصريين عمومًا يحسبون أن حصولهم على وظائف الحكومة

يكون أسهل عليهم وهم يعرفون الإنكليزية منه وهم يجهلونها، والمرجح أنهم

مصيبون في ذلك إلى حد محدود، أما الإنكليز الذين يعرفون أحوال المصريين وما

يحتاجون إليه، فينظرون إلى هذه المسألة من وجه تعليمي ولا رغبة لهم في جعل

البلاد إنكليزية، بل يودون الاقتصار من تعليم الإنكليزية والفرنساوية على ما تمس

إليه الحاجة ويفيد المصريين أنفسهم، ولا يضلهم الرأي السطحي وهو أن درس

الفرنساوية والإنكليزية يتضمن إيجاد الأميال السياسية؛ لأن هذا الرأي خطأ في

الغالب على ما أرى) .

إلى أن قال:

(ويظهر من آخر إحصاء أن الذين يتعلمون لغات أجنبية في المدارس التي

تحت إدارة نظارة المعارف العمومية هم 5835 ذكورًا وإناثًا، ومن هؤلاء 4984؛

أي: 85 في المائة يتعلمون اللغة الإنكليزية، ولا بد من تعليم هؤلاء بلغة أجنبية،

ومن أسباب ذلك أنه ليس في العربية كتب للتعليم في العلوم التي يتعلمها التلامذة؛

ولكن التوسع فيه وراء هذا الحد غير محمود العاقبة؛ ولذلك أحذر بكل جهدي من

جعل اللغات الأجنبية مما يعلم في الكتاتيب، ويجب أن يبقى التعليم الآن باللغة

العربية وحدها، وخلاصة القول في هذا الموضوع أن اجتهاد الذين يهمهم أمر

التعليم في هذا القطر يجب أن يكون مصروفًا بنوع خاص إلى إصلاح التعليم

الصناعي وتوسيع نطاقه، وإلى تعليم البنات وترقية التعليم الابتدائي بواسطة

الكتاتيب حتى يرتفع مقياس المعرفة في البلاد كلها؛ إذ لا يخفى أن الإحصاء

الأخير دل على 89.5 في المائة من ذكور المصريين، و 99.7 في المائة من

إناثهم لا يعرفون القراءة والكتابة) اهـ.

وأما الثاني فقد قال في خطابه: وها نحن أولاء قد فتحنا باب القرن العشرين

وكيفما تكون النتائج والتقلبات التي تظهر في هذا القرن، فلا خلاف في أنه سيكون

مملوءًا بالحركة العلمية، مفعمًا بأنوار العلوم والمعارف، ومثل الذي يوجد في هذا

القرن بغير تربية مثل الفارس الأعزل في القرون الوسطى التي لم يكن للإنسان فيها

أنفع من سلاحه مدافعًا عن حقوقه، أو حافظًا لكيان وجوده؛ ولذلك أرى أن أحسن

سياسة ترقى بالأمة المحكومة إلى طريق الفلاح هي سياسة تساعدها على حفظ

كيانها بين تيارات المنافسات، وازدحام الأقدام في عالم المباراة، ولهذا ينشرح

صدر كل حاكم في الهند حينما يرى المسلمين فيها من سنيين وشيعيين على حد

سواء آخذين بأهداب العلم في سبيل التعليم والتربية، وأنهم جاوزوا نقطة الابتداء

في وقت تقدمهم به منافسوهم في حلبة هذا السباق، نعم يمكن للمسلمين أن يسابقوا

غيرهم إذا هم تعلموا كيف يسابقون، وهو ما عرفوه مرة قبل هذا الوقت في أيام

كان فيها للمسلمين السطوة والسلطان، وكان قضاتهم يحكمون بالعدل بين الناس،

وفلاسفتهم وأئمتهم يؤلفون الكتب النفيسة، إلا أن طريقة السباق القديمة أصبحت

اليوم متأخرة، ويحتاج الإنسان إلى حركة أخف وأنشط من الأولى، فيلزمكم أن

تذهبوا إلى المدارس، فتُلقنوا عن الأساتذة الماهرين في الصناعة الحديثة كيف

تكون خفة الأقدام، ودقة السيقان اللازمة للمسابقة في مستقبل الأيام، وإنني أعتقد

بناءً على ذلك أن المرحوم السير سيد أحمد خان ومن ساعدوه في هذه النهضة لم

يبرهنا على صدق وطنيتهم وحميتهم فقط، بل برهنوا أيضًا على أنهم نظروا نظرة

سياسية دقيقة، وعرفوا أن الواسطة الوحيدة والعلاج الناجع الذي يعيد للمسلمين

شيئًا من سابق مجدهم هو العلم والتربية، ولو كنت أميرًا من أمراء المسلمين، أو

غنيًّا من أغنيائهم لما أضعت خمس دقائق تمر علي لا أفكر بها في أية وسيلة أفيد

بها أبناء ملتي، وأرقي بواسطتها إخواني المسلمين في هذه الديار، وكنت أحصر

مساعيَّ في التعليم والتربية، أجل في التعليم والتربية لا سواهما.

وكون هذه خطتكم هو مما لا مُشَاحَّةَ فيه كما سمعت اليوم من الخطبة التي

تليت أمامي، فأنتم تقولون فيها أنه لا أمل لكم في إعادة شيء من ماضي مجدكم

وعزكم إلا بضم العلوم العصرية إلى علومكم، حقًّا لقد أصبتم كبد الحقيقة، تمسكوا

بدينكم الذي اجتمعت فيه أصول الرفعة والشرف ومنابع الحقيقة، واجعلوا ذلك

أساسًا لتربيتكم وتعليمكم؛ لأن التربية بغير أساس ديني كبنيان القصور على الهواء،

وإن كان أولاد المدارس الابتدائية والعالية صغار السن لا يدركون معنى هذه

الحقيقة، هكذا تمسكوا بهذا المبدأ وهذه القواعد حتى تجنوا ثمرة شجرة التربية التي

كانت نامية أحسن نمو في الحدائق الشرقية، والآن صارت تنمو في الغربية اهـ

المراد منه، ومما تقدم يعلم أن جُلّ بلاء المسلمين من أنفسهم.

_________

ص: 266

الكاتب: محمد رشيد رضا

هدايا وتقاريظ

(الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية)

كان شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى مجدد علم الدين،

ومحيي السُّنة في أول القرن الثامن للهجرة الشريفة، وكان قد بعد عهد المسلمين

بأخذ أحكام دينهم من الكتاب والسنة، كما كان سلفهم في القرون الثلاثة، فأراد

الرجوع بهم إلى ذلك فألَّف في أهم المسائل كتبًا ورسائل يستمد فيها من ذلك الينبوع

الأعظم، ويذكر أحيانًا خلاف الأئمة المشهورين، ومن أعظم تصانيفه فائدة رسالة

الحسبة، أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي رسالة تبلغ زهاء 100

صفحة، وقد طُبعت في مطبعة المؤيد على أجود ورق، فينبغي أن يطَّلع على هذه

الرسالة كل مسلم؛ لأن ركن الحسبة هو الركن الذي يحفظ سائر الأركان الإسلامية،

وإهمال الأمر والنهي هو الذي أضاع الدين، ولو أقيم لقام عليه بناؤه إلى يوم الدين.

***

(معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول)

وهذه الرسالة للإمام ابن تيمية أيضًا، وهي من أحسن ما كتبه، ومن أحسن ما

خدم به الإسلام، وقد تعرض فيها للرد على الذين حكَّموا أهواءهم في الدين من

الفلاسفة وبعض المتصوفة وغيرهم من الفرق الذين لم يرضهم أخذ الدين ببساطته

التي كان عليها في عهد السلف الصالح رضي الله عنهم، كما أقام الحجة على من لم

يرض الإسلام دينًا بالمرة، فنحث كل مسلم قارئ على مطالعتها.

***

(المظالم المشتركة)

طُبعت رسالة المعارج المنوَّه بها آنفًا في مطبعة المؤيد، وطُبع معها في الذيل

رسالة المظالم المشتركة، أي: التي تُطلب من الشركاء، وقد بين حكمها وكيفية

مراعاة العدل فيها بالنسبة للطالب والمطلوب، ولا يستغني المتدين المبتلى بهذه

المظالم من الاطلاع على هذه الرسالة، والمشتغلون بالعلم الإسلامي أحوج الناس

إلى الوقوف عليها، جزى الله مؤلف هذه الرسائل وناشرها خيرًا.

***

(كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة ومعرفة جيد الأعراض من رديها

وغشوش المدلسين فيها)

من يطلع على اسم الكتاب أو يسمع به، يظن قبل العلم بمؤلفه أنه من وضع

المتأخرين؛ لأن جهل الأكثرين منا بتاريخ سلفنا يوهمهم أنه لم يكن للتجارة عند

السلف من الشأن ما يحملهم على التأليف فيها؛ ولكن الكتاب من تأليف الشيخ أبي

الفضل جعفر بن علي الدمشقي من علماء القرون المتوسطة، وقد وجد في أحد نسخ

الكتاب أنه تم في سنة 570، والظاهر أن هذا تاريخ تأليفه لا نسخه، وفي الكتاب

فوائد اقتصادية نافعة، ويُعْرَف منه تاريخ التجارة وحالها في تلك الأيام، فنحث

القراء على مطالعته.

***

(السياسة الشرعية في حقوق الراعي وسعادة الرعية)

كتاب وجيز ألفه بالتركية العلامة الشهير جمال الدين أفندي قاضي مصر

السابق تغمده الله برحمته، ونشره بالعربية بإذن الورثة الأديب الملقب بأصمعي،

والكتاب مشتمل على مسائل نافعة، ومباحث مفيدة في مشروعية السياسة، وأداء

الأمانة، واختيار العمال، والاستشارة، والقضاء، والإمارات والمصالح المرسلة،

ويتلو هذا فصل في الحقوق العمومية، يتكلم فيه عن الحبس والعقوبات والعمل

بالقرائن وبالفراسة، وأقسام المتهمين وعن الرشوة والسعاية، ويتكلم في فصل آخر

عن شروط الإمامة، وفي فصل آخر عن المشورة وتنظيمات أوربا، وفي فصل

آخر عن العدل والظلم، وفي فصل آخر عن الولايات والوزارات والحرب، وفي

فصل آخر عن الفضائل والرذائل، وفي فصل آخر عن تأثير الدين في الأخلاق،

ويلي ذلك فصول في الوعظ، وفي الإنسان، وفي السياسة، وفي طبائع البشر،

وفي أسباب ضعف الحكومات الإسلامية وانحطاطها، وفي الخلفاء الأمويين

والعباسيين والفاطميين، وفصل فيما أنتج اختلاف العلماء على الأمة وعدم

اجتماعهم على مصلحتها وما فيه نجاحها.

ومما نذكره مع الشكر لله تعالى، ثم للمؤلف أن في الكتاب اقتباسًا كثيرًا من

مجلتنا المنار، لا سيما في هذه الفصول الأخيرة؛ فإن معظمها مأخوذ بحذافيره من

مجلد السنة الأولى، وحسبنا حجة على المقلدين والموسوسين أن مثل هذا العالم

الكبير موافق لنا في رأينا، لا سيما في العلماء واختلافهم وعدم تكاتفهم على ما ينفع

الملة والدين، والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا في مطبة دار الترقي العامرة، وثمنه

خمسة قروش أميرية، وهو ثمن بخس، ويباع في مكتبة الترقي ومكتبة الشعب في

شارع محمد علي وغيرهما.

***

(فصل الخطاب في المرأة والحجاب)

مصنف جديد ظهر في هذه الأيام لحضرة الفاضل محمد طلعت بك حرب،

وضعه للرد على كتاب (المرأة الجديدة) كما ألَّف كتاب (تربية المرأة والحجاب)

للرد على كتاب (تحرير المرأة) ، وقد سلك في هذا المصنف مسلك الإلزام،

فعرَّب بعض ما كان كتبه الفاضل قاسم بك أمين في المدافعة عن الحجاب ردًّا على

الدوق داركور الفرنسوي، واحتج من جهة الدين برسالة الاحتجاب التي ألفها قاضي

مصر السابق، ثم بجملة من شرح نهج البلاغة لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ

محمد عبده مفتي الديار المصرية، ثم بنبذ من ثلاثة أجزاء من المنار.

وبعد أن ذكر حكم المنار بغلو قاسم بك أمين في مسألة الحجاب واعتذاره عنه

بأنه إفراط في مقابلة التفريط في التشدد بالحجاب، حتى جعل مانعًا من العلم، وأن

غرضه الرجوع إلى الاعتدال وقوله - أي المنار -: فإذا انتهت هذه المناقشات

بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، قال:

(هذا ما قاله حضرة صاحب المنار، وهو أحسن اعتذار يقدم من صديق لصديقه بما

ربما لم يكن في الحسبان، أو يخطر له على بال، فما داعية التحير والاختباط إذن

والمسألة بسيطة قد حلها أئمة الدين، والمغترفون من بحرهم - حتى الذين يقدِّس

رأيهم محرر المرأة - أعظم حل وأسهله) .

ثم أورد من مؤلف قاسم بك في الرد على الدوق داركور نبذًا في فضائل

الحجاب ومحاسنه وضرر التبرج والتهتك لم يأت بمثلها أحد ممن رد على كتابيه،

وفيها من التأثير في التنفير عما عليه نساء الإفرنج، والترغيب في الصيانة والعفاف

المقرونين بالحجاب، ما لم يوجد ما يقاربه في كلام مناقشيه، فدلنا هذا على أن

قاسمًا من أعلم الناس بمنافع الحجاب الشرعي، وبمضار الغلو فيه، وأنه يخاطب

كل قوم غلوا في طرف بالمبالغة في الطرف الآخر، فلما رأى الإفرنج يذمون

الإسلام والمسلمين لأجل الحجاب ألف كتابًا في منافعه بلغتهم ألقمهم فيه الحجر، ولم

يشرح فيه ما يعتقده من مبالغة المسلمين فيه، وجعلهم الجهل ضربة لازب على

النساء لأجله؛ ولكنه بيَّن هذا وبالغ فيه، بل تغالى للمسلمين ولم يذكر لهم شيئًا من

منافع الحجاب التي يعلمها ليرجعهم إلى الحد الوسط وهو الحجاب الشرعي الذي

يقطع السبيل على الفساق الذين يجنون على العفة في الخلوات، ويهتكون حرمة

الصيانة من وراء الأستار، ولا يقطع على النساء طريق التربية والتعليم اللذين

يصلن بهما إلى الكمال الممكن لهن، والاستقلال في شؤون الحياة، وبهذا تبين أن

اعتذارنا، بل بياننا قد أصاب كبد الحقيقة.

والقول الفصل: إنه يجب العناية بتربية النساء وتعليمهن، وإننا في التربية

النفسية أحوج، وإن أفضل سجايا النفس - لا سيما في النساء - العفة والصيانة،

وإنه لا يتم ذلك إلا بالتربية الدينية، وإن التربية قوامها وملاكها القدوة بالمعاشرة،

فإذا كان من يُراد تربيته يعاشر فاسدي الآداب والأخلاق يتربى على مثل ما هم عليه،

وإن أكثر بلادنا مبتلون بهذا الفساد نساءً ورجالاً، والنتيجة الصحيحة أنه يجب

حجب البنات اللائي يُراد تربيتهن عن النساء بقدر الإمكان، فما بالك بالرجال،

ومتى عمت التربية الصحيحة، أو غُلِّبت يكون لها حكم آخر، فليعمل لكل وقت ما

يصلح له العاملون {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 3) .

***

(رحلة الصيف)

تشرف بالسفر مع حاشية الجناب العالي الخديوي إلى أوروبا في العام الماضي

صديقنا الأديب الفاضل عزتلو لبيب بك البتنوني، وقد زار كثيرًا من العواصم

الشهيرة، وطاف كثيرًا من المعاهد، وشاهد أبدع المشاهد، وكتب فيما رآه واختبره

بنفسه رحلة مطولة أودعها من فنون الفوائد وصنوف الاعتبارات ولطائف الفكاهات

ما تصبو إليه كل نفس، ويود الاطلاع عليه السياسي والاجتماعي والعالم والأديب

والمؤرخ، وطبعها طبعًا متقنًا على ورق جيد، وأهدى نسخها إلى فقراء المسلمين

بتقديمها إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، فنحث أهل الفضل على مطالعتها لما فيها

من الفوائد التي يحن إليها كل ذي فضل، ونحث أهل الغيرة الإسلامية على اقتنائها

لما في ذلك من المساعدة على البر والإحسان، وهي تُباع في مكتبة الجمعية في قبة

الغوري، وفي جميع المكاتب الشهيرة، وسنتحف القراء ببعض فوائدها في جزء

آخر.

_________

ص: 272

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نوادر البخلاء

ذكَّرتنا مقالة السخاء والبخل بأن نورد بعض نوادر البخلاء على سبيل الفكاهة

والعبرة فنقول:

كان بالبصرة رجل موسر، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة ببيض [1] ،

فأكل منه فأكثر، وجعل يشرب الماء، فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل

يتلوَّى، فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب، فقال: لا بأس عليك تقيأ ما أكلت.

فقال: هَاهْ، أتقيأ طباهجة ببيض؟ الموت ولا ذلك.

وأقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس

الأعرابي، فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئًا؟ قال: نعم. فقرأ (والزيتون

وطور سنين) فقال: وأين التين؟ قال: هو تحت كسائك.

ودعا بعضهم أخًا له ولم يُطْعِمَه شيئًا، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه،

وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود، وقال: بحياتي أي صوت تشتهي أن

أسمعك؟ قال: صوت المِقْلَى [2] .

ويُحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل

نسيب له كان يعرفه عنه وقال له قائل: صف مائدته. فقال: هي فِتْر في فتر،

وصحافه منقورة من حب الخشخاش. قيل فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون.

قال: فما يأكل معه أحد؟ قال: بلى الذباب. فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به

وثوبك مخرق. قال: أنا والله ما أقدر على إبرة أخيطه بها، ولو ملك محمد بيتًا من

بغداد إلى النوبة مملوءًا إبرًا، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه

السلام يطلبون منه إبرة، ويسألونه إعارتهم إياها ليخيطوا بها قميص يوسف الذي

قُدَّ من دبر ما فعل.

ويقال: كان مروان بن أبي حفصة [3] لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم إليه [4] ،

فإذا قرم إليه أرسل غلامه فاشترى له رأسًا فأكله، فقيل له: نراك لا تأكل إلا

الرؤوس في الصيف والشتاء، فلم تختار ذلك؟ قال: نعم الرأس أعرف سعره فآمن

خيانة الغلام، ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل

منه إن مس عينًا أو أذنًا أو خدًّا وقفت على ذلك، وآكل منه ألوانًا؛ عينه لونًا، وأذنه

لونًا ولسانه لونًا، وغلصمته [5] لونًا، ودماغه لونًا، وأكفى مؤنة طبخه، فقد

اجتمعت لي فيه مرافق.

وخرج يومًا يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن

رجعت بالجائزة؟ فقال: إن أُعطيت مائة ألف أعطيتك درهمًا، فأُعطي ستين ألفًا،

فأعطاها أربعة دوانق.

واشترى مرة لحمًا بدرهم، فدعاه صديق له فرَدَّ اللحم إلى القصَّاب بنقصان

دانق، وقال: أكره الإسراف.

وكان للأعمش جار، وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت

فأكلت كسرة وملحًا [6] ، فيأبى عليه الأعمش، فعرض عليه ذات يوم، فوافق جوع

الأعمش، فقال: سر بنا. فدخل منزله، فقرب إليه كسرة وملحًا، فجاء سائل فقال

له رب المنزل: بورك فيك. فأعاد عليه المسألة، فقال له: بورك فيك. فلما سأل

الثالثة قال له: اذهب وإلا والله خرجت إليك بالعصا، قال: فناداه الأعمش، فقال:

اذهب ويحك، فلا والله ما رأيت أحدًا أصدق مواعيد منه، هو منذ مدة يدعوني على

كسرة وملح، فلا والله ما زادني عليهما.

_________

(1)

الطباهجة: اللحم يجعل قطعًا، ويشوى في الطنجير بأي دهن، فإذا طُبخ في الماء، ثم قلي سمي (قلية) .

(2)

المِقْلَى: معروفة ويريد بصوتها قلي اللحم لإطعامه.

(3)

هو الذي ذكرناه في مقالة السخاء والبخل، وسيأتي ذكر رده اللحم قريبًا.

(4)

قرم: اشتدت شهوته إلى أكل اللحم.

(5)

الغلصمة: رأس الحلقوم.

(6)

كانت هذه الكلمة تقال في الدعوة إلى الطعام ويذكر بدلها الآن (الشوربا) أو القهوة.

ص: 277

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية ندوة العلماء في الهند

حيَّا الله تعالى علماء الهند أحسن تحية، وأيد بسعيهم هذه الملة الإسلامية،

ووفق سائر علماء المسلمين لمثل ما وفَّقهم إليه من تأليف الجمعيات للبحث في

شؤون المسلمين، وتلافي ما نزل بهم من البلاء المبين، فقد سبقوا للدخول في

كثير من الجمعيات الإسلامية، ثم ألَّفوا جمعية خاصة بهم سموها ندوة العلماء، وقد

احتفلت في شهر رجب الماضي احتفالها السنوي في مدينة لاهور، ومن أهم ما بحثت

فيه تعيين جمعية مخصوصة لتأليف كتب نافعة في علم الموجودات على الطريقة

الحديثة، وفي الرد على فلاسفة هذا العصر فيما يخالفون فيه الإسلام، وقد أرسل

إلينا أحد العلماء الفضلاء كراسة مطبوعة باللغة الأوردية في شؤون الاحتفال

لم نظفر بمن يترجمها لنا.

وسنذكر في الجزء الآتي خطبة لأحد أصدقائنا من علماء بمبي تُليت في

الاحتفال.

_________

ص: 279

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الطاعون في الكاب والمسلمون

كُتب إلينا من الكاب أن الطاعون قد فتك بالناس فتكًا ذريعًا، لا سيما في

الجهة الجنوبية، وأن رجال الصحة من الإنكليز قد أساءوا معاملة المسلمين،

وصاروا يدمرون على بيوتهم لأخذ المرضى بالقوة، ويأخذون عن كل مريض 30

أو 40 جنيهًا، ويحرقون جميع متاع البيت حتى الكراسي، ويمنعونهم من تجهيز

الموتى ودفنهم على الطريقة الإسلامية، وقد أُرسل إلينا قطعة من جريدة إنكليزية

ملخص ما فيها أنه اجتمعت لجنة من المسلمين والإنكليز للبحث في ذلك رئيسها

المسلم الحاج محمد طالب، وأن اللجنة أقرت الحكومة الإنكليزية على عملها بأنه

غير مخالف للدين؛ ولكن المسلمين هناك ناقمون على محمد طالب هذا، وكتب

إلينا أنه احتج على جواز شق بطون المسلمين بأن جبريل شق بطن النبي صلى الله

عليه وسلم، فإن كان هذا صحيحًا فالرجل مجنون لا يعول على قوله، والظاهر أن

سبب الشكوى هو سوء معاملة صغار المأمورين للمسلمين، فعسى أن يلتفت كبارهم

إلى تلافي ذلك.

سكتنا عن (شبهات المسيحيين) ؛ لأن السائل جاءنا وأقنعناه بالقول.

_________

ص: 280

الكاتب: محمد رشيد رضا

المحاورة الثامنة بين المصلح والمقلد

الاجتهاد والوحدة الإسلامية

علمنا من آخر المحاورة السابعة أن الشيخ المقلد ذهب قبل إتمام الحديث

لموعد كان بينه وبين آخر، وقال إنه يعود في الغد؛ ولكنه أبطأ وجاء بعد أيام

يصحبه شيخ آخر فاعتذر عن الإبطاء وقال:

المقلد: إن هذا الأستاذ - وذكر اسمه - صديقي منذ أيام المجاورة في الأزهر

وهو قاضي بلدنا الشرعي الآن، ولما جئت البلد في فرصة العيد ذكرت له ما دار

بيننا، فتمنى لو كان في القاهرة وشاركنا في المناظرة والبحث، وقد حضر في هذه

الأيام بإجازة، فجئت به عالمًا أن سَتُسَرُّ بمعرفته، ولا أقصد أن يساعدني عليك

لاحتمال أن يوافقك؛ فإنه حرّ في فكره ورأيته موافقًا لك في بعض ما نقلته له عنك

في مباحث الجمل والاستدلال بالحروف والإشارات.

المصلح: أهلاً وسهلا لقد شرفنا الأستاذ - وصافحه ثانيًا - وإنني أحب أن

يساعدنا في هذه المذاكرة على تحقيق الحق الذي هو ضالتنا المنشودة، وليس لأحد

منا حظ دنيوي في رأيه يخاف فواته إذا ظهر له بطلان الرأي، على أن المجتهد الذي

يتبع الدليل أينما ظهر ويأخذ الحكمة حيث وجدها لا يزداد بالمباحثة ومراجعة

المراجعين إلا نورًا على نور، وأما المقلد الذي يجني دائمًا على نور الفطرة الإلهية

التي من مقتضاها النظر والفكر والاستدلال ويحاول إطفاءه بما يلقيه عليه من رماد

التقليد تعظيمًا لأسماء من ينسب إليهم ذلك الرماد، فهو الذي يخاف المناظرين

وَيَفْرَقُ من المباحثين؛ لأنهم يمدون نور الفطرة بنور البرهان، فتتضاعف الأنوار

حتى يعشيه تألقها ويكاد يخطف بصره شعاعها، ويرى نفسه في عجز عن إطفائها،

وتتولاه الحيرة وتحيط به الغمة، وكيف حال من فقد السكينة والاطمئنان وجعل

خصمه السنة والقرآن.

المقلد: دعنا من التعريض والتلويح، بل من هذا التشنيع الصريح، فها أنا

ذا أناظرك بالدليل، لا بالقال والقيل، قررت أن الواجب على المسلمين بالنسبة

للأحكام العملية هو الأخذ بما أجمع عليه أهل الإسلام، وأنهم على التخيير فما

اختلف فيه يعمل كل أحد بما يرجح عنده

إلخ، فما تقول فيمن عرض له شيء

من ذلك وهو عامي لا يعرف الأقوال فيتخير فيها، ألا يجب عليه أن يسأل العلماء

ويأخذ بأقوالهم؟ سكتَّ عن هذه المسألة؛ لأنها حجة عليك في جواز التقليد.

المصلح: يمكن لهذا العامي أن يتبع سبيل عامة أهل الصدر الأول، فقد كان

من تعرض له مسألة لا يعرف حكم الله فيها يسأل من يظن أن عنده فيها شيئًا من

كتاب أو سنة، لا أنه يسأله عن رأيه الشخصي ويأخذ به من غير معرفة دليله

فيكون مقلدًا، ومثل هذا السؤال كان يقع من الخاصة أيضًا والمسئول فيه راوٍ، أو

منبه على مأخذ الحكم ووجه استنباطه، ولو كان كل سائل مقلدًا، وكل مسئول إمامًا

متبعًا لذاته لكان كل مجتهد مقلدًا، وكثير من الجاهلين أئمة ولا يقول بهذا أحد.

الزائر أو المقلد الثاني أو المناظر الثالث: على هذا يكون استدلال الأصوليين

بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) على

وجوب التقليد على العاجز عن الاجتهاد غير سديد.

المصلح: لا شك أنه استدلال عقيم لوجوه، منها أن السبب الخاص الذي

نزلت فيه الآية الكريمة لا يصح فيه التقليد، فتكون أمرًا به وإنما هي إزالة شبهة

بالتنبيه إلى أمر مقرر عندهم، وذلك أن مشركي العرب كانوا يقولون ما قص الله

عنهم بقوله: {إِنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ

لَغَافِلِينَ} (الأنعام: 156) وقوله:] لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [

أي لأننا أزكى فطرة، وأذكى فهمًا، وأقوى عزيمة، فلما نزل عليهم الكتاب كان من

شبههم على من نزل عليه صلى الله عليه وسلم أنه بشر يأكل الطعام ويمشي في

الأسواق، وأنه رجل مثلهم والآيات الحاكية هذا عنهم معروفة، فأجابهم عن هذه

الشبهة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن

كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7) يأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب هل كان الأنبياء

ملائكة أم رجالاً من البشر، وكون الأنبياء رجالاً أمر مجمع عليه عند أهل الكتاب،

ومنقول بالتواتر حتى عند غيرهم، فالسؤال عنه ليس أخذًا برأي من غير دليل فيكون

تقليدًا، ومنها: أن هذه المسألة اعتقادية لا عملية، وأنتم لا تقولون بوجوب التقليد في

أصول الإيمان؛ لأن المقلد لا يكون موقنًا ومن لا يقين له لا إيمان له؛ لأن الظن لا

يغني من الحق شيئًا في هذا المقام، ولو كان الآخذ بقول غيره في عقائد دينه وأصوله

معذورًا عند الله تعالى لكان جميع أهل الأديان معذورين وناجين، ولما وجب النظر في

دعوة نبي من الأنبياء إلا على المجتهدين، فإذا ظهر النبي في طور لجأت فيه الأمة

كلها إلى التقليد كما تحكمون أنتم وفقهاؤكم على هذه الأمة الإسلامية، تكون الأمة كلها

معذورة عند الله تعالى في رفض دعوته وعدم النظر فيها وهل يقول بهذا إلا مجنون.

المقلد: إنني سلَّمت لك من قبل أن التقليد في العقائد غير جائز.

المصلح: وأنا بينت لك أن فهم الأحكام أسهل من فهم العقائد.

الثالث: إن فرقًا بين المقلد في الكفر، وبين المقلد في الحق، فالثاني يعذره

الله تعالى؛ لأنه وافق الحق دون الأول.

المصلح: إن الله تعالى هو الحكم العدل القائم بالقسط، فإذا أمر بمقلدي

الوثنيين مثلاً إلى النار، وبمقلدي المسلمين إلى الجنة، وسأل الوثنيون مساواتهم

بأمثالهم من مقلدي المسلمين؛ لأن كلاًّ منهم غير مكلف بالنظر لمعرفة الحق، ألا

يكون طلبهم هذا عادلاً يتنزه الله تعالى عن منعهم إياه؟

الثالث: إنه تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) .

المصلح: معنى الآية الكريمة أنه ليس لأحد سلطان على الله تعالى، فيحاسبه

على أفعاله، بل هو صاحب السلطان الأكبر القائم على كل نفس بما كسبت، وليس

معناها أنه لا يعدل بين عباده فيما هم فيه سواء، وما أنبأنا الله تعالى بتبرؤ الأتباع

من المتبوعين والمرءوسين من الرؤساء في يوم القيامة، إلا ليكون ذلك عبرة لنا

وآية على أنه لا يعذر أحدًا باتِّباع من لم يأمره باتِّباعه، والآيات في هذا كثيرة

كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ

الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ

اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 166-167)

والآيات في هذا المعنى كثيرة.

الثالث: أتقول إن هذه الملايين من المسلمين المقلدين خالدون في النار، وأنهم

كالوثنيين سواء؟

المصلح: لا أقول هذا؛ ولكنني أقول: إن دعوة الإسلام لم تبلغهم كاملة،

فيجب تبليغهم إياها بالقرآن الكريم الذي بَلَّغ به النبي صلى الله عليه وسلم من قبلهم

من أولئك السلف الكرام، ومن اهتدى بهديهم الذين شادوا لنا ذلك المجد الكبير

بإرشاد القرآن وأضعناه بالإعراض عن القرآن احتجاجًا بتقليد فلان وفلان الذين

يتبرءون منا يوم القيامة قائلاً كل منهم كما يقول عيسى بن مريم عليه السلام: {مَا

قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (المائدة: 117) وسأورد بعض ما يؤثر عنهم في

النهي عن الأخذ بقولهم حتى في الفروع من غير معرفة دليلهم والاقتناع به، وعن

تقديم كلامهم على الحديث النبوي - بله القرآن العظيم - وما يؤثر أيضًا عن أكابر

العلماء الأعلام من بعدهم، وأرجو أن يكون في ذلك مقنع لكم فإنكم ألفتم الأخذ بكلام

الناس دون كلام الله ورسوله.

الثالث: ونحن يمكننا أن نورد لك من كلامهم، بل ما نقل فيه الإجماع ما

يقتضي القول بالتقليد، وهو منع التلفيق؛ فإن التلفيق لازم للتقليد، وقد نقل في

الدر المختار الإجماع على بطلانه، فأورد لنا قولاً بالإجماع على منع التقليد في

الفروع.

المقلد للثالث: إنه لم يتم كلامه الأول فيما يجب الأخذ به لأجل الوحدة

الإسلامية، فقد بقي عليه الكلام في قسم المعاملات الدنيوية والأحكام القضائية؛

وإنما مناقشتنا معه الآن في العبادات، وإن في كلامه قوة والحق يقال؛ ولكنه

يحتمل النقض والمعارضة، والمصيبة فينا أننا لم يسبق لنا بحث كثير في هذه

المواضيع لنستحضر النصوص فيها، وما كنت أظن أن مثله يشتغل بهذه المسائل،

فقد حضرت مجلسًا ضم جماعة من أكابر مشايخنا، وذكر فيه الذين يتكلمون في

الإصلاح، فرأيتهم متفقين على أن الذين يتكلمون في الإصلاح كلهم جاهلون بالدين

وغير مطلعين على علومه ولا متمسكين بأعماله، ولولا أنني اختبرت هذا الشاب

وألفيته متمسكًا بالدين أشد التمسك، محافظًا على الصلوات أتم المحافظة - لما

جاريته وقصدت سبر غوره، ولما احتملت منه ما احتملت من التهكم بالمقلدين

والإزراء بهم تلويحًا وتصريحًا مع أنني أعلم أنه يعتدني منهم؛ ولكنني أستغرب

كيف لم يهتد أحد من علماء الملة إلى هذا الرأي - إزالة الخلاف بالأخذ بالقرآن

والسنة العملية المتفق عليها - في كل هذه القرون، فهل علم صاحبنا ما جهله العلماء

بعد حدوث المذاهب، وهو زمن يزيد على ألف سنة؟

المصلح: أستحيي أن أعود إلى التشنيع على التقليد بعد الذي ذكرت من

التبرم من ذلك، وإن كنت أشاهد مصائبه تترشح من كل كلمة يقولها المقلد الذي

بطلت ثقته بفهمه وعقله، وما أحب أن أعتدك مقلدًا بحتًا بعدما عاهدتني على الأخذ

بالدليل، كيف صح لك الحكم بأنه لم يقل أحد من علماء الأمة بوجوب إزالة الخلاف

من المسلمين وإرجاعهم إلى ما يرشد إليه القرآن من الوحدة، والأخذ بالمتفق عليه،

وهل استقريت كل ما قاله العلماء الأعلام في كل فن من الفنون؟ إن هذا إلا كحكم

شيوخك بأن جميع المتكلمين بُعَداء عن الدين علمًا وعملاً.

هذا حجة الإسلام وعلم الأعلام الإمام الغزالي كان أعلم علماء التقليد وأقواهم

عارضة في الدفاع عن مذهب الشافعي وله في الخلاف مصنفات، وبعد أن بلغ

الكمال في الفروع والأصول والمعقول والمنقول، اهتدى إلى هذا الرأي فمهَّد له

بالإنحاء على العلماء المختلفين باللوم والتعنيف في كتابه (إحياء علوم الدين)

وسماهم علماء السوء، ثم صرح برأيه في كتابه (القسطاس المستقيم) وقد وقع

في يدي أمس فكان أول ما قرأته فيه هذا الموضوع، والكتاب موضوع في مناظرة

جرت بين الإمام وبين رجل من الباطنية الذين يقولون لا بد من إمام معصوم يتبع

في كل عصر.

المقلد الأول والثالث معًا: هل يوجد عندك هذا الكتاب هنا فتُسمعنا ذلك؟

المصلح: نعم، وأخذ كتابًا صغيرًا، وقرأ من أواخره ما يأتي:

القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات

فقال - أي مناظر الإمام الغزالي - كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟

قلت: إن أصغوا إليَّ رفعت الاختلاف بينهم بكتاب الله تعالى؛ ولكن لا حيلة في

إصغائهم؛ فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إلي

وكيف يجتمعون على الإصغاء وقد حُكم عليهم في الأزل بأنهم {لَا يَزَالُونَ

مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) وكون الخلاف

بينهم ضروريًّا تعرفه من كتاب (جواب مفصل الخلاف) وهو الفصول الاثنى

عشر، فقال: فلو أصغوا إليك كيف كنت تفعل؟

قلت: كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب الله تعالى إذ قال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ

الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} (الحديد: 25) الآية، وإنما

أنزل هذه الثلاث لأن الناس ثلاثة أصناف: عوام وهم أهل السلامة البله وهم

أهل الجنة، وخواص وهم أهل الذكاء والبصيرة، ويتولد بينهم طائفة هم أهل الجدل

والشغب، فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة.

أما الخواصّ فإني أعالجهم بأن أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها،

فيرتفع الخلاف بينهم على قرب، وهؤلاء قوم اجتمع فيهم ثلاث خصال (إحداها)

القريحة النافذة والفطنة القوية، وهذه عطية فطرية وغريزة جِبِلية لا يمكن كسبها،

و (الثانية) خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث مسموع - والتفت إلى

المقلدين قائلاً: انظرا كيف حكم حكمًا مطلقًا بأن خواص الناس لا يقلدون أحدًا - ثم

قرأ: فإن المقلد لا يصغي، والبليد وإن أصغى فلا يفهم (الثالثة) : أن يعتقد أني من

أهل البصيرة بالميزان، ومن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب لا يمكنه أن يتعلمه منك.

(والصنف الثاني البله وهم جميع العوام) وهؤلاء هم الذين لهم فطنة لفهم

الحقائق وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب، بل شغلتهم الصناعات

والحِرَف، وليس فيهم أيضًا داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع قصور

الفهم عنه، فهؤلاء لا يختلفون ولا يتخيرون بين الأئمة المختلفين، فأدعو هؤلاء

إلى الله بالموعظة، كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة، وأدعو أهل الشغب بالمجادلة

وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته عليك أولاً، فأقول

لهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي جاءه فقال علمني من غرائب

العلم، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس أهلاً لذلك فقال: (وماذا عملت

في رأس العلم) أي الإيمان والتقوى والاستعداد للآخرة (اذهب فأَحكِم رأس العلم،

ثم ارجع لأعلمك من غرائبه) فأقول للعامي: ليس الخوض في الاختلافات من عشك

فادرج فإياك أن تخوض فيه ، أو تصغي إليه فتهلك، فإنك إذا صرفت عمرك في

صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة، وقد صرفت عمرك في غير العلم ، فكيف

تكون من أهل العلم، ومن أهل الخوض فيه؟! فإياك ثم إياك أن تهلك نفسك فكل

كبيرة تجري على العامي أهون عليه من الخوض في العلم، فيكفر من حيث لا

يدري [1] .

(فإن قال: لا بد من دين أعتقده وأعمل به لأصل إلى المغفرة والناس

مختلفون في الأديان فبأي دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له: للدين

أصول وفروع والاختلاف إنما يقع فيهما، أما الأصول فليس عليك أن تعتقد فيها إلا

ما في القرآن؛ فإن الله لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه، فعليك أن تعتقد أن لا

إله إلى الله، وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله

شيء.. إلى جميع ما ورد في القرآن واتفق عليه الأئمة، فذلك كافٍ في صحة الدين

وإن تشابه عليك شيء فقل {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) واعتقد

كل ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة،

واعتقاد أنه ليس كمثله شيء، وبعد هذا لا تلتفت إلى القيل والقال؛ فإنك غير

مأمور به ولا هو على حد طاقتك، فإن أخذ يتحذلق ويقول: قد علمت أنه عالم من

القرآن؛ ولكني لا أعلم أنه عالم بالذات أو بعلم زائد عليه، وقد اختلف فيه

الأشعرية والمعتزلة - فقد خرج بهذا عن حد العوام، إذ العامي لا يلتفت قلبه إلى مثل

هذا ما لم يحركه شيطان الجدل؛ فإن الله لا يهلك قومًا إلا يؤتيهم الجدل، كذلك ورد

الخبر [2] ، وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم.

(هذا ما أعظ به في الأصول وهو الحوالة على كتاب الله (قال المصلح:

ولا تنسيا أن كلامه في العوام) فإن الله أنزل الكتاب والميزان والحديد وهؤلاء أهل

الحوالة على الكتاب، وأما الفروع فأقول: لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ

من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع،

وأن الكسب الحرام والمال الحرام والنميمة والزنا والسرقة والخيانة وغير ذلك من

المحظورات حرام والفرائض كلها واجبة، فإن فرغت من جميعها علمتك طريق

الخلاص من الخلاف، فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا فهو جدلي وليس

بعامي، ومتى تفرغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف؟ أفرأيت رفقاءك قد

فرغوا من جميع هذه ثم أخذ إشكال الخلاف بمخنقهم؟ هيهات ما أُشبِّه ضعف

عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف به على الموت وله علاج

متفق عليه بين الأطباء وهو يقول: قد اختلف الأطباء في بعض الأدوية أنها حارة

أو باردة، وربما افتقرت إليه يومًا فأنا لا أعالج نفسي حتى أجد من يعلمني رفع

الخلاف فيه.

نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها، وقال ها أنذا تشكل عليَّ

مسائل: فإني لا أدري أتوضأ من اللمس والقيء والرعاف وأنوي الصوم بالليل

في رمضان أو بالنهار إلى غير ذلك - فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق

الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط، وخذ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ من كل ما فيه

خلاف وانو الصوم بالليل في رمضان؛ فإن من لا يوجبه يستحبه، فإن قال: هو

ذا يثقل علي الاحتياط ويعرض لي مسائل تدور بين النفي والإثبات، وقال: لا

أدري أأقنت في الصبح أم لا، وأجهر بالتسمية أم لا؟ فأقول له: الآن اجتهد مع

نفسك، وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل عندك وصوابه أغلب على قلبك، كما لو كنت

مريضًا وفي البلد أطباء؛ فإنك تختار بعض الأطباء باجتهادك لا بهواك وطبعك،

فيكفيك مثل ذلك الاجتهاد في أمر دينك فمن غلب على ظنك أنه الأفضل، فاتبعه

فإن أصاب فيما قال عند الله فله في ذلك أجران، وإن أخطأ فله عند الله أجر واحد،

وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من اجتهد فأصاب فله أجران

ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد) ورد الله الأمر إلى أهل الاجتهاد فقال تعالى:

{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وارتضى الاجتهاد لأهله إذ قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم

تجد، قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد

رأيي) قال ذلك قبل أن أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له فيه.

وهنا التفت المصلح إلى المقلد وقال: أرأيت كيف وافق فهمي في الحديث فهم

الإمام الغزالي، إلا أنني خصصته بالأحكام القضائية دون الأمور التعبدية كما هو

ظاهر اللفظ، والغزالي عممه وسنعود إلى ذلك.

ثم مضى في القراءة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي وفق

رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله) ففهم من ذلك أنه مرضي من رسول الله

صلى الله عليه وسلم لمعاذ وغيره، كما قال الأعرابي: إني هلكت وأهلكت: واقعت

أهلي في رمضان، فقال:(أعتق رقبة) ففهم أن التركي والهندي لو جامع أيضًا

لزمه الإعتاق.

وهذا لأن الخلق ما كلفوا الصواب عند الله؛ فإن ذلك غير مقدور عليه ولا

تكليف بما لا يطاق، بل كلفوا بما يظنونه صوابًا، كما لم يُكلَّفوا الصلاة بثوب طاهر

بل بثوب يظنون أنه طاهر، فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم القضاء إذ نزع رسول

الله صلى الله عليه وسلم نعله في أثناء الصلاة لما أنبأه جبريل أن عليه قذرًا ولم يُعِدْ

الصلاة ولم يستأنف، وكذلك لم يكلف أن يصلي إلى القبلة، بل إلى جهة يظن أنها

القبلة بالاستدلال بالجبال والكواكب والشمس، فإن أصاب فله أجران وإلا فله أجر

واحد، ولم يُكلَّفوا أداء الزكاة إلى الفقير، بل إلى من ظنوا فقره؛ لأن ذلك لا

يعرف باطنه، ولم يكلف القضاة في سفك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون

صدقهم بل من يظنون صدقه، وإذا جاز سفك دم بظن يحتمل الخطأ، وهو ظن

صدق الشهود، فلم لا تجوز الصلاة بظن شهادة الأدلة عند الاجتهاد.

وليت شعري ماذا يقول رفقاؤك في هذا؟ يقولون: إذا اشتبهت عليه القبلة

يؤخر الصلاة حتى يسافر إلى الإمام ويسأله، أو يكلفه الإصابة التي لا يطيقها أو

يقول اجتهد لمن لا يمكنه الاجتهاد، إذ لا يعرف أدلة القبلة وكيفية الاستدلال

بالكواكب والجبال والرياح، قال: لا أشك في أنه يأذن له في الاجتهاد، ثم لا

يؤثمه إذ بذل كنه مجهوده وإن أخطأ أو صلى إلى غير القبلة، قلت: فإذا كان من

جعل القبلة خلفه معذورًا مأجورًا فلا يبعد أن يكون من أخطأ في سائر الاجتهادات

معذورًا، فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون: بعضهم مصيبون ما عند الله،

وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين، فمناصبهم متقاربة وليس لهم أن

يتعاندوا وأن يتعصب بعضهم مع بعض، لا سيما والمصيب لا يتعين وكل واحد

منهم يظن أنه مصيب كما لو كان اجتهد مسافران في القبلة فاختلفا في الاجتهاد

فحقهما أن يصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي غلبت على ظنه، وأن يكف إنكاره

وإعراضه واعتراضه على صاحبه؛ لأنه لم يكلف إلا استعمال موجب ظنه، أما

استقبال عين القبلة عند الله فلا يقدر عليه، وكذلك كان معاذ في اليمن يجتهد لا على

اعتقاد أنه لا يُتَصَور منه الخطأ؛ لكن على اعتقاد أنه إن أخطأ كان معذورًا، وهذا

لأن الأمور الوضعية الشرعية التي يُتَصَور أن تختلف بها الشرائع يقرب فيها

الشيء من نقيضه بعد كونه مظنونًا في سر الاستبصار، وأما ما لا تتغير فيه

الشرائع فليس فيه اختلاف. وحقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتِّباع السنة، وقد

ذكرته في الأصل العاشر من الأعمال الظاهرة من كتاب جواهر القرآن.

وأما الصنف الثالث، وهم أهل الجدل فإني أدعوهم بالتلطف إلى الحق،

وأعني بالتلطف أن لا أتعصب عليهم ولا أعنفهم، لكن أرفق وأجادل بالتي هي

أحسن، وكذلك أمر الله تعالى رسوله، ومعنى المجادلة بالأحسن أن آخذ الأصول

التي يسلمها الجدلي واستنتج منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذي أوردته في

كتاب الاقتصاد في الاعتقاد [3] وإلى ذلك الحد، فإن لم يقنعه ذلك لتشوفه بفطنته إلى

مزيد كشف، رقيته إلى تعليم الموازين، فإن لم يقنعه لبلادته وإصراره على تعصبه

ولجاجه وعناده عالجته بالحديد؛ فإن الله سبحانه جعل الحديد والميزان قريني

الكتاب ليُفهم منه أن جميع الخلائق لا يقومون بالقسط إلا بهذه الثلاث، فالكتاب

للعوام، والميزان للخواص، والحديد الذي فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من

الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولا يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم، وأنه لا

يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم دون أهل الجدل، وأعني بأهل الجدل طائفة

فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام؛ ولكن قياساتهم ناقصة إذ كانت الفطرة كاملة؛ لكن

في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد، فذلك يمنعهم عن إدراك الحق، وتكون هذه

الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا؛ لكن لم تهلكهم إلا كياستهم

الناقصة؛ فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة شر من البلاهة بكثير، وفي الخبر

(إن أكثر أهل الجنة البُلْهُ وإن عليين لذوي الألباب) .

ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون في آيات الله، وأولئك أصحاب النار

ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهؤلاء ينبغي أن يمنعوا من الجدال

بالسيف والسنان كما فعل عمر رضي الله عنه برجل إذ سأله عن آيتين متشابهتين

في كتاب الله تعالى فعلاه بالدرة، وكما قال مالك رضي الله عنه لما سئل عن

الاستواء على العرش، فقال: (الاستواء حق والإيمان به واجب والكيفية مجهولة

والسؤال عنه بدعة) وحسم بذلك باب الجدال، وكذلك فعل السلف كلهم، وفي

فتح باب الجدال ضرر عظيم على عباد الله تعالى، فهذا مذهبي في دعوة الناس إلى

الحق، وإخراجهم من ظلمات الضلال إلى نور الحق، وذلك بأن أدعو الخواص

إلى الحكمة بتعليم الميزان، حتى إذا تعلم الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد

بل على علوم كثيرة؛ فإن من معه ميزان فإنه يعرف به مقادير أعيان لا نهاية لها

كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا

لا نهاية له، ولولا اشتمال القرآن على الموازين لما صح تسمية القرآن نورًا؛ لأن

النور ما يبصر بنفسه ويبصر به غيره وهو نعت الميزان، ولَمَا صدق قوله: {وَلَا

رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59) فإن جميع العلوم غير

موجودة في القرآن بالتصريح، ولكن موجودة فيه بالقوة لما فيه من الموازين القسط

التي بها تفتح أبواب الحكمة التي لا نهاية لها، فبهذا أدعو الخواص ودعوت العوام

بالموعظة الحسنة بالإحالة على الكتاب، والاقتصار على ما فيه من الصفات الثابتة

لله تعالى، ودعوت أهل الجدل بالمجادلة التي هي أحسن، فمن أبى أعرضت عن

مخاطبته، وكففت شره ببأس السلطان والحديد المُنَزَّل مع الميزان.

فليت شعري الآن يا رفيقي بم يعالج أمامك هؤلاء الأصناف الثلاثة، أيعلم

العوامُ غريبَ العلم فيكلفهم ما لا يفهمون ويخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم،

أو يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالمحاجة ولم يقدر على ذلك رسول الله صلى

الله عليه وسلم مع كثرة محاجة الله تعالى في القرآن مع الكفار، فما أعظم قدرة

إمامك إذ صار أقدر من الله تعالى ومن رسوله، أو يدعو أهل البصيرة إلى تقليده،

وهم لا يقبلون قول الرسول صلى الله عيه وسلم بالتقليد، ولا يقنعون بقلب العصا

ثعبانًا، بل يقولون: هو فعل غريب ولكن من أين يلزم منه صدق فاعله، وفي

العالم من غرائب السحر والطلسمات ما تتحير فيه العقول، ولا يقوى على تمييز

المعجزة عن السحر والطلسم إلا من عرف جميعها وجملة أنواعها؛ ليعلم أن المعجز

خارج عنها، كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلام إذ كانوا من أئمة

السحرة، ومن الذي يقوى على ذلك؟ بل إن أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن

يعلموا صدقه من قوله، كما يعلم متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه في

قوله: إني حاسب، فهذه هي المعرفة اليقينية التي بها يقنع أولو الألباب وأهل

البصائر ولا يقنعون بغيرها ألبتة، وهم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول

صلى الله عليه وسلم، وصدق القرآن، وفهموا موازين القرآن كما ذكرت لك،

وأخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذكرته في كتاب (جواهر القرآن) فمن

أين يحتاجون إلى إمامك المعصوم، وما الذي حل من إشكالات الدين، وعن ماذا

كشف من غوامضه؟ قال الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن

دُونِهِ} (لقمان: 11) وقد سمعت الآن منهاجي في موازين العلوم، فأرني ماذا

اقتبسته من غوامض العلوم من إمامك إلى الآن، وما الذي يتعلمون منه، وليت شعري

ما الذي تعلمت من إمامك المعصوم أرني ما رأيتها:

ما يسدي بي رتسدي أوف

خرابن وقلب يارفوت

فليس الغرض من الدعوة إلى المائدة مجرد الدعوة دون الأكل والتناول منها،

وإني أراكم تدعون الناس إلى الإمام، ثم أرى المستجيب إمامك بعد الاستجابة على

جهله الذي كان قبله لم يحل له الإمام عقدًا، بل ربما عقد له حلاًّ ولم تفده استجابته

له علمًا، بل ربما زاد به طغيانًا وجهلاً، فقال: قد طالت صحبتي مع رفقائي؛

ولكن ما تعلمت منهم شيئًا إلا أنهم يقولون: عليك بمذهب التعليم، وإياك والرأي

والقياس فإنه متعارض مختلف، فقلت: فمن الغرائب أن يدعوا إلى التعليم، ثم لا

يشتغلوا بالتعليم، فقل لهم: قد دعوتموني إلى التعليم، فاستجبت فعلموني ما عندكم،

فقال: ما أراهم يزيدونني على هذا شيئًا، فقلت: فإني قائل أيضًا بالتعليم وبالإمام

ويبطلان الرأي والقياس، وأنا أزيدك على هذا - لو أطقت ترك التقليد - تعليم

غرائب العلوم وأسرار القرآن، فأستخرج لك منه مفاتيح العلوم كلها، كما استخرجت

منه موازين العلوم كلها على ما أشرت إلى انشعاب العلوم كلها منه في كتاب (جواهر

القرآن) لكني لست أدعو إلى إمام سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى كتاب

سوى القرآن فمنه أستخراج جميع أسرار العلوم وبرهاني على ذلك لساني وبياني،

وعليك إن شككت تجريبي وامتحاني، أفتراني أولى بأن يتعلم مني من رفقائك،

أم لا؟ اهـ.

المقلد والثالث: إن الإمام الغزالي أثبت التقليد، بل أوجبه على العوام، وفي

كلامه بعض إشكالات لم يبق في الوقت سعة للبحث فيها.

المصلح: سنبحث في هذا في مجلس آخر - إن شاء الله تعالى - وافترقوا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

من المصائب أن تفلسف المتكلمين في علم الكلام أخرجهم عن طريق القرآن في تقرير العقائد، وفسد التعليم بذلك حتى صار كل عامي يجادل في الله بغير علم ولا كتاب منير، ويخوض في القدر ويذهب مذهب الجبر ويكون في هذا أكثر جدلاً كلما كان أقرب من الشيوخ في العلم والطريق، فلا هو مجتهد يفهم ولا مقلد يسلم.

(2)

وكذلك وقع لهذه الأمة، ما زال يفتك فيها الجدل الذي أثاره الاختلاف حتى جعلها حرضًا.

(3)

المنار: كنت أتعجب من وضع كتاب الاقتصاد المذكور على طريقة المتكلمين بعدما وصل

الغزالي إلى الطريقة المثلى حتى رأيت سببه هنا، وهو مجادلة المتكلمين بما ألفوا.

ص: 281

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسئلة والأجوبة الدينية

(1)

مجاور في الأزهر: ما معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ

إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فقد استشكل المفسرون في لام (ليعبدون) إذ لا

يصح أن تكون للتعليل؛ لأن أفعاله تعالى لا تُعلل ولا للغاية لأن أكثرهم لا يعبده،

وذهب بعضهم إلى أنها لام العاقبة والصيرورة وقال: إنه لا يلزم وقوع ما بعدها،

ومثّل لها بأنك إذا قلت بريت القلم لأكتب به ولم تكتب تكون صادقًا، وهذا إذا ظهر

بالنسبة إلى الناس، فليس بظاهر بالنسبة إلى الباري سبحانه وتعالى، وقال

البيضاوي: لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها جعل خلقهم مغيًّا بها

مغالبة في ذلك ولو حُمِلَ على ظاهره، مع أن الدليل يمنعه لنا في قوله تعالى:

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ} (الأعراف: 179) وقيل معناه

لنأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عبادًا اهـ. ولا تطمئن إليه النفس، فهل عندكم ما

أوضح من ذلك؟ اهـ بتصرف.

(ج) : اللام للغاية حتمًا، والآية حاكية عن طبيعة النوع الإنساني،

وشارحة لترقيه في الشعور الديني الذي أُلهمه بالفطرة، وتاريخ الإنسان يؤيد معناها

ويقاس به النوع الذي سماه الله بالجن؛ لأنه مجتن ومستتر عنا.

الشعور الفطري الذي أودعه الإنسان هو أن في الوجود سلطة وراء الطبيعة

يخضع لها ويعظمها وينيط بها كل حادث لم يقف على سببه، وهذا الخضوع

والتعظيم هو العبادة، وقد كان في أطوار الجهالة يضيف ما لا يعرف سببه إلى

مظهره، ويخضع لذلك المظهر، هذا النوع من الخضوع الذي قلنا إنه يسمى عبادة،

فعبد السحاب لأنه مظهر البرق والرعد والمطر، وعبد الثعابين لأن لها قوة في

الإعدام لم يكن يعرفها، وعبد بعض البشر لأنه ظهر على أيديهم أعمال غريبة لم

يقف على عللها وأسبابها، وكان يرتقي في مجموعه في هذه الاعتقادات تدريجًا،

وغاية ما ينتهي إليه بعد كمال العلم والمعرفة أن يعتقد أن مظاهر الأفعال الخارقة في

نظره أو بالنسبة له ولغيره هي كمظاهر الأفعال العادية مسخرة لقوة غيبية مطلقة

عرفت بآثارها لا بذاتها، وأن صاحب تلك القوة هو الله تعالى الذي لا يستحق

العبادة غيره فيعبده حينئذ وحده.

***

(2)

السيد عمر بن مبروك من تونس: عندنا ماجِل [1] في دارنا يجتمع فيه

ماء المطر من السطوح، فنستعمله في العادة والعبادة، وقد وقع فيه فرخ حمام ميت

وكان الوقت صيفًا، والماء فيه قليلاً، فتغير لونه وريحه وتعذر علينا إخراج

الفرخ منه، فتركنا استعماله حتى جاء الشتاء وامتلأ الماجل بالماء وزال التغير من

لونه ورائحته، وعاد زلالاً نقيًّا، فسألنا سادتنا الحنفية عنه فقالوا: لا بد من نزع

ماء الماجل كله، وسألنا سادتنا المالكية فقالوا: لا بد من إخراج الطير أو ما بقي

منه في الماء ليجوز استعماله في العادة والعبادة، وفي ذلك مشقة علينا كبيرة،

ونحن مضطرون لاستعمال هذا الماء، وقد قصدنا مذهب سادتنا الشافعية لعلنا نجد

فيه رحمة فأفيدونا يرحمكم الله.

(ج) : مذهب الشافعية أن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس إلا بتغير طعمه أو

لونه أو ريحه من النجاسة، فلو كان الماء متنجسًا لوقوع نجاسة فيه وهو قليل، ثم

زاد حتى بلغ قلتين يطهر، ولو كان الماء المتجدد متنجسًا أيضًا، بل ولو كان مائعًا

نجس العين، والقلتان خمسمائة رطل بغدادي، وتبلغ بالمساحة نحو ذراعًا وربعًا

مربعًا طولاً وعرضًا وعمقًا، ولا شك أن ماجلكم أوسع من ذلك فهو طاهر حتمًا،

هذا وإن الله تعالى أمرنا بإزالة النجاسة ليطهرنا لا ليعنتنا، وهو يريد بنا اليسر ولا

يريد بنا العسر، وما جعل علينا في الدين من حرج، والنجاسة التي نهينا عنها هي

القاذورات التي تنفر منها الطباع السليمة، فهل يعقل أن ماجلاً عظيمًا وحوضًا

كبيرًا فيه ماء صافٍ نقي لا تغير فيه يحكم عليه بالنجاسة لتدقيق بعض الفقهاء في

الحدود التي وضعوها للاصطلاحات الشرعة، ويلزم لهذا التدقيق إعنات أهل بيت

من المسلمين وإيقاعهم في الحرج والعسر اللذين نفاهما الله تعالى؟

***

(3)

الشيخ أحمد محمد الألفي من طوخ القراموص: ما الفرق بين العهد

الذي لقنه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات، وبين العهد الذي تناقله

أهل الطريق بالأسانيد الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أليسوا من

المؤمنين والمؤمنات حتى يفرق بينهم وبين غيرهم؟ وما هو دليل الخصوصية في

عمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ وهل لا تُعتبر هذه الأسانيد الصحيحة حجة

في النقل؟ اهـ بنصه.

(ج) : إن مبايعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات

التي ذكرناها في جواب سؤالكم الرابع من الأسئلة المنشورة في الجزء الثالث ليست

تلقين عهد كالعهد المعروف الآن بين أهل الطريق، أما مبايعة المؤمنين المشار إليها

في سورة الفتح، فهي أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لعمرة

الحديبية وصدَّه المشركون، وأرسل إليهم عثمان بن عفان إلى مكة يخبرهم أنهم

جاءوا عُمَّارًا لا مقاتلين، وشاع أنهم قتلوه عزم النبي عليه الصلاة والسلام على

مقاتلة القوم، وبايع أصحابه رضي الله تعالى عنهم على عدم الفرار وعلى الموت

(روايتان) وبلغ ذلك المشركين فخافوا، وانتهى الأمر بالصلح المشهور، وفي ذلك

نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10) وقوله

عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح: 18) .

وأما مبايعة المؤمنات فهي المشار إليها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا

جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَاّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} (الممتحنة: 12) الآية، ورد أنه عليه الصلاة والسلام بايع المؤمنين مثل هذه

المبايعة على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمَنْشَط والمَكْرَه وأُثرته عليهم،

وأن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يقولوا الحق حيث كانوا لا يخافون الحق في أن

هذه البيعة لازمة في عنق كل من يدخل الإسلام، وهي السمع والطاعة لله ولرسوله

وعدم عصيان أولي الأمر في معروف؛ ولكن هل لأحد من الناس أن يبايع الناس

على طاعته غير خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو إمام

المسلمين؟ كلا ومن يدعيه فعليه البيان.

ومشايخ الصوفية يُعَبِّرون عن الدخول في الطريق بلبس الخرقة، ويذكرون

لذلك في إجازاتهم سندًا ينتهي إلى الحسن البصري وأن عليًّا كرم الله وجهه ألبسه

الخرقة؛ ولذلك ترى الطرائق كلها تنتهي إلى سيدنا علي عليه الرضوان والسلام؛

ولكن أئمة علم الحديث قالوا: حديث إن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة

على الصورة المتعارفة باطل لا أصل له، قال الحافظ ابن حجر: لم يرد في خبر

صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألبس الخرقة

على الصورة المتعارفة بين الصوفية أحدًا من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه

بفعل ذلك، وكل ما يروى في ذلك صريحًا فهو باطل، وقال: من المفترى أن عليًّا

ألبس الخرقة الحسن البصري؛ فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا

فضلاً عن أن يلبسه الخرقة، قال في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة:

وقد صرح بمثل ما ذكره ابن حجر جماعة من الحفاظ كالدمياطي والذهبي وابن

حبان والعلائي والعراقي وابن ناصر.

ويا ليت السائل يذكر لنا العهد الذي قال إن أهل الطريق تناقلوه بالأسانيد

الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكر لنا الحفَّاظ الذين خرَّجوه.

***

(4)

هل تقولون في الروح الناطقة الإنسانية والكشف وكرامات الأولياء

في الحياة وبعد الموت بقول جمهور أهل السنة والجماعة؟ أم ما هو مذهبكم في

ذلك؟

(ج) أما الكرامات فليراجع السائل فيها كتبناه في المجلد الثاني من المنار

(صفحة 145 و401 و417 و449 و481 و545 و657) فقد أثبتنا ما يقوم عليه

الدليل من الكرامات، وأما الروح فنقول فيها ما أمر الله تعالى رسولَه صلى الله

عليه وسلم أن يقول وهو {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) وأما الأسئلة التي تتعلق بالاجتهاد والتقليد فمحاورات المصلح

والمقلد تبين ذلك مفصلاً تفصيلاً.

_________

(1)

الماجل في اللغة: كل ماء في أصل جبل أو وادٍ، ولعل أهل تونس يطلقونه على الصهريج.

ص: 302

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مكتوب في حق مسلوب

يظن الذين لا فضيلة لهم بأن العفة والشهامة والشمم والإباء وعزة النفس

والنجدة، وما أشبهها من السجايا الفاضلة - ألفاظ لا توجد إلا في القاموس، وهي من

لغو الكلام الذي لا يصدق على شيء، وقد جاءنا من مدة مكتوب من صديق نعرفه

من أفضل الفضلاء، وأئمة محاريب الإنشاء يحكي فيه عن شيء اتفق له وهو

صادق في جميع ما قال، وهاك مكتوبه معرفًا بقلم يحاكي قلمه:

سيدي رب الكمال

مذ أفكر في فتور المراسلة بيننا طول هذه المدة يعروني الخجل، ويؤثر في

نفسي أثرًا يذهب بالراحة والطمأنينة، ولا شيء أشد نكاية على الإنسان من مؤاخذة

نفسه له وعتاب ضميره الذي لا يعذر ولا يحابي.

ترى ما هو الحكم الذي تسجلونه عليّ، أو ما هي التهم التي توجهونها إلي

عندما تفكرون في انقطاع رسائلي عنكم كل هذه المدة؟ أما أنا فالله يعلم أنني بريء.

بينا أنا متألم من الجراح التي فتحتها في قلبي مصائب الوطن، إذ رأيتني الآن

مشغولاً بمحنة نفسي مضطربًا من النازلة الفادحة التي ألمَّت بي رأيتني أصارع

الظلمة وأواثب المعتدين، فلقد حُرمتُ من حقوقي، وهي بمثابة الشمس في الظهور

والنهار في الجلاء والوضوح، الحق أقول: لو كنت أدوس تحت قدمي الناموس

والحمية وسائر المزايا الإنسانية الشريفة في سبيل نيل المطالب الخسيسة، وتناول

الحظوظ الفانية، وأهين النفس في التزلف إلى أولئك الأسافل النازين على مراتب

العُلِّية [1] وذوي السبق والفضل، فألثم أرجلهم القذرة وأذيالهم النتنة وأيديهم الدنسة

وأضعها على الرأس تبجيلاً لهم وتفخيمًا، بل لو كنت أسلك في طلب حاجتي مسلك

التسول مبالغًا في الملق والتبصبص [2] محركًا بضراعتي عاطفة الحنان والشفقة

علي كما هو شأن أصحاب الدناءة الذين يحسبون أن هذا العمل هو مناط المجد،

وأقرب وسيلة لنيل الفخر والشرف، أو لو كنت أظهر الخضوع والتخشع إلى درجة

تحاكي العبادة لقوم هم أخبث من الشياطين لأجل جلب توجههم إليّ، وأُغرق في

مدح الفراعنة والملاعين حتى أصعد بهم من أرض البشرية إلى سماء الألوهية تقليدًا

لأولئك المداهنين المخذولين، ولا أربأ بنفسي عن عرض العبودية لهم بمثل قول

الشاعر:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

لو كنت آتي بشيء من ذلك لما رجعت بخيبة، ولما صادفت حرمانًا؛ لكنني

بحمد الله لم أدع عملاً كهذا يخلص إلى خاطري أو يحوك في نفسي، نعم أحببت أن

أعرض شيئًا من الآثار الأدبية التي تناسب عجزي وقصوري مؤملاً أن تكون خير

وسيلة للرقي، وأمثل طريق للسعادة، وكنت لا أظهر من كلمات التحسين والتحبيذ

المستخرجة من خزينة (آفرين) التي لا نفاد لها والتي شكا منها الشاعر نابي [3] .

لكن بعيشك قل لي هل استفدت من سعيي بطائل؟ وهل أثمر سوى الخيبة

والحرمان؟ وهل كانت بشاشتهم في وجهي سوى ضحك يدل على الاستهزاء

والسخرية بأوضح تعبير، إن أولئك الخَسَرة الذين سميتهم ظلمة قد غمطوا حقي

بغير مساغ مع أنهم - واحنقاه - يعترفون بذلك، يقولون لي: هكذا جرى فلا تتألم،

كما إذا ضربت أحدًا بلا ذنب ولا سبب وقلت له: لا تأس ولا تتكدر.

يا للعجب، هل أنا من قوم رزئوا بالعجز، وأصيبوا بكل ضروب المهانة

فأتحمل هذه الإهانة؟ هل أنا أسير الذلة أو ذليل المنة حتى أحني ظهري للاستخذاء؟

هل شأني شأن أولئك الأذلاء الذين رئموا للدناءة وألفوا المهانة حتى أراني أُوطأ

بأقدام المذلة ثم أعتد ذلك حسنًا جميلاً؟ ما هو السبب للإغضاء والتحمل؟ لست

عاجزًا ولا وضيعًا فأهضم الظلم وأغمض على القذى، لست خاليًا من العزة وعلو

الهمة فأحمل نفسي على الرضا وعدم المبالاة، لست من فاقدي العزيمة الذين

يستحوذ عليهم اليأس فيفرِّطوا في حقوقهم حتى أزج نفسي في زاوية الضعة

والخمول، فطرتي ليست ملوثة بالجبن والخور حتى أتهيب من ادعاء الحق،

طينتي لا يشوبها شيء من الخساسة والسفالة حتى أطأطئ عنقي لصفعة الإهانة، لا

يليق بالجريء الذي لا يهاب أن يعمل عمل الجبان العاجز حتى أسلك سبيل الدهان

والنفاق، فأسمي الباطل حقًّا والمنكر معروفًا، لا يحسن بذي الغيرة والحمية أن

تتحول حرارة غيرته وغليان حميته إلى برودة وخمول حتى أرى بعيني من يبتز

حقي، وينتهك حقيقتي، ثم أسكت كظيمًا، وأنكس مهضومًا، لا أرضى أن أكون

فاقد الشعور كالأموات، عديم التأثر كمن إيفت حواسه، أنا حي أشعر بحقوق

الأحياء، فأتألم من كل ما يصادم الحق ويمس الشرف، إنسان أنفر وأضطرب لكل

معاملة تنابذ الإنسانية وتحط من كرامتها.

واعجبًا! تسعى البهائم جهدها في صيانة فرائسها وحفظها من مخالب أعدائها

وأتقاعس أنا عن انتياش حقي من أيدي الظلمة المتغلبين، هل الإنسانية أحط شأنًا

من البهيمية أم الحق المقدس في نظري من محقرات الأمور والسفاسف التي لا يؤبه

لها؟

قسمًا بالقهار المنتقم لأجتهدن ولأثبتن في الدفاع عن الحق حتى آخر نفس من

حياتي، ولو اعترضت دوني شوامخ الجبال، وقام في وجهي سد من حديد

لأقتحمنها بعزم المتجلد وصبر المستميت، ما دمت أجد في لساني ذرابة، وأحس

من قلمي بمضاء، فلست بممسك لساني عن القول، ولا بوازعٍ قلمي عن العمل،

ما دام في قلبي صبر وفي عزمي قوة، فلا أحبس نفسي عن الكفاح، ولا أمنع

قدمي عن الإقدام، بل لو تمثلت في سبيل عزيمتي الأهوال، وكشرت لي عن

أنياب غوائلها الأغوال، وكل ما يسمونه خطرًا وهلكة - لَمَا صدني ذلك عن بلوغ

غايتي، ولما غشيني لأجله ونى ولا فتور.

قد كنت قلت قولاً وأقول الآن: (إن لدي من السآمة للحياة بقدر ما عند الناس

من الكراهة للموت) لتنغمس تلك الحياة المرة في بحار ظلمات العدم التي لا يدرك

قعرها، لتهْوِ في آخر دركات الجحيم، نعم ماذا يضر لو عجنت قبضة من تراب

الأرض بدم مظلوم أريق في سبيل نصرة الحق؛ لكن ليعلم الظالمون وليكونوا في

أمن من رؤية انتقالي من دار الدنيا قبل أن أعمل في تشهير قبائحهم، والإشادة

بمخازيهم وفضائحهم في أقطار العالم، وأصب على رؤوسهم - وسحقًا لها - سياط

المصائب، وأقذف عليهم صواعق البلاء، وأدعهم يئنون تحت أعبائها ويتململون

من مس آلامها.

لا جرم أن موقد نار الظلم، والعامل على تخريب البيوت لا تنام عنه العيون

{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .

يا سبحان الله! بينا أنا في صدد الاعتذار عن عدم كتابة رقيم إليك، وإذ

بالتأثر والامتعاض حفزني من حيث لا أشعر فَهِمْتُ في كل وادٍ، وتفننت في

أساليب الكلام، على أنه لا ينبغي العجب؛ فإن من كان مثل مخاطَبي في الاطلاع

على الخفايا والوقوف على الأسرار يجب أن لا أكتمه حديثًا، ولا أخفي عنه ما

يحوك في ثنيات النفس.

فهاك يا سيدي قصتي عرضتها على النظر الكريم، ويغلب على ظني أن

معذرتي عن تراخي مكاتبتي تتكفل بعفوكم؛ لأن قبول المعذرة من شأن الكرام،

وأرى أن أختم كلامي بعرض افتقاري إلى فوائدكم العلمية، وأود أن أكون ذا

نصيب منها مولاي.

_________

(1)

العلية: بالضم والكسر مع تشديد اللام المكسورة والياء: الأشراف والأعلياء.

(2)

التبصبص والبصبصة: تحريك الكلب ذنبه تقربًا للإنسان، ويطلق على التملق مطلقًا، وعند عامة المصريين النظر إلى النساء بشهوة والتعرض لمغازلتهن، وهو تجوُّز يليق بأولئك الأدنياء الذين هم أحقر من الكلاب.

(3)

نابي: أحد مشاهير شعراء الترك وحكمائهم والمقصود من شكايته قوله:

ارزان متاع نضل وهند باق نه رتبه كيم

بيك معرفت رمانه ده سر آفرينه در

أرباب دهر هر هنره آفرين ويرر

يارب لو آفرين نه توكنمز خزينه در

والمعنى: تأمل فيما آلت إليه أثمان المعارف والفضائل في هذا العصر، ترى الأديب يظهر ألف أثر فلا ينتقد عليه سوى (آفرين) واحدة، وهكذا أرباب العصر جميعهم يعطون في مقابل كل أثر أدبي آفرين آفرين، فيا عجبًا لخزينة آفرين كيف لا ينفذ مددها، ولا يفنى عددها، وآفرين كلمة استحسان تركية كمرحى في العربية.

ص: 307

الكاتب: أبو العلاء المعري

‌للفيلسوف الإسلامي

أبي العلاء المعري

إذا مدحوا آدميًّا مدحـ

ـت مولى الموالي ورب الأمم

وذاك الغني عن المادحين

ولكن لنفسي عقدت الذمم

له سجد الشامخ المشمخر

على ما بعرنينه من شمم

ومغفرة الله مرجوة

إذا حُبست أعظمي في الرِّمَم

مجاور قوم تمشَّى الفنا

ء ما بين أقدامهم والقِمم

فيا ليتني هامدًا لا أقوم

إذا نهضوا ينفضون اللِّمَم

ونادى المنادي على غفلة

فلم يبق في أذن من صمم

وجاءت صحائف قد ضُمّنت

كبائر آثامهم واللَّمم

فليت العقوبة تحريقة

فصاروا رمادًا بها أو حُمم [1]

رأيت بني الدهر في غفلة

وليست جهالتهم بالأَمم [2]

فنسك أناس لضعف العقول

ونسك أناس لبعد الهمم

_________

(1)

أي ياليتهم يُحرقون فيكونوا رمادًا أو فحمًا، ولا يكون عذابهم دائمًا.

(2)

الأمم - بالتحريك - القريب، أي أنهم عريقون في الجهالة، وبعيدو العهد بها.

ص: 312

الكاتب: حافظ إبراهيم

‌للشاعر العصري

المجيد

حافظ أفندي إبراهيم

هجعتَ يا طيرُ ولم أهجع

ما أنت إلا عاشق مُدَّعي

لو كنتَ ممن يعرفون الجوى

قضيت هذا الليل سهدًا معي

يا من تحاميتم سبيل الهوى

أعيذكم من قلق المضجع

وحسرة في النفس لو قسمت

على ذوات الطوق لم تسجع

ويا بني الشوق وأهل الأسى

ومن قضوا في هذه الأربع

عليكم من واجد مغرم

تحية الموجع للموجع

لله ما أقسى فؤاد الدجى

على فؤاد العاشق المولع

هذا غليظ لم يَرُضه الهوى

ما بين جَنْبَيْ أسود أسفع

وذاك في جنبي فتى مدنف

على سوى الرقة لم يطبع

وأغيدٍ أسكنته في الحشا

وقلت يا نفس به فاقنعي

نفاره أسرع من خاطري

وصده أقرب من مدمعي

وخده لا تنطفئ ناره

كأنما يقبس من أضلعي

تساءلتْ عني نجومُ الدجى

لما رأتني داني المصرع

قالت نرى في الأرض ذا لوعة

قد بات بين اليأس والمطمع

يئن كالمكبود أو كالذي

أصابه سهم ولم ينزع

إن كان في بدر الدجى هائمًا

أما لهذا البدر من مطلع

أو كان في ظبي الحمى مغرمًا

أما لهذا الظبي من مرتع

هيهات يا أنجم أن تعلمي

من ذا الذي أهواه أو تطمعي

_________

ص: 313

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهدايا والتقاريظ

(القسطاس المستقيم)

بحق لقّبت الأمة الإسلامية الإمام أبا حامد الغزالي بحجة الإسلام، فقد كان في

بدايته حجة المتكلمين والفقهاء المقلدين، وفي نهايته حجة الأئمة المجتهدين، بل

حجة العلم والدين ، ومن أجل ما كتبه في نهايته وأنفعه كتاب (القسطاس المستقيم)

وهو مصنف مختصر يشرح فيه مناظرة جرت بينه وبين رجل من أهل مذهب

التعليم الباطني الداعين إلى القول بالإمام المعصوم في كل عصر.

وقد جاء في رسالة المحاورة الثامنة بين المصلح والمقلد فصل من فصول هذا

الكتاب فكانت نموذجًا أغنانا عن التطويل في تقريظه، وفيه أن الموازين التي

تُعرف بها الحقائق ثلاثة في الجملة، وخمسة في التفصيل، وقد استخرجها كلها من

القرآن. وقد طبع هذا الكتاب من عهد قريب الفاضل المهذب الشيخ مصطفى

القباني الدمشقي بمطبعة الترقي الشهيرة، وأضاف إليه هوامش لإيضاح بعض

العبارات وتفسير بعض الكلمات، وذكر في أول الكتاب ترجمة الإمام الغزالي

رضي الله تعالى عنه ونفعنا به والمسلمين، وثمن الكتاب ثلاثة غروش أميرية،

وهو ثمن بخس بالنسبة إلى ورقه الحسن وطبعه الجيد، وأما بالنسبة إلى فوائده فلا

يوفيه حقه إلا من عمل بهديه القويم، ووزن بقسطاسه المستقيم، وهو يطلب من

مكتبة الترقي ومكتبة هندية ومكتبة جمالي وخانجي بالقرب من الأزهر.

***

(المرأة المسلمة)

كتاب جديد يقارب كتاب (المرأة الجديدة) في حجمه، ويخالفه في مباحثه غالبًا

لحضرة الكاتب الفاضل محمد فريد وجدي، وأكثر مباحثه في المرأة اجتماعية

نظرية يحتج عليها بما كتبه بعض علماء الغرب وفلاسفتهم في انتقاد تربية النساء،

وطرق تعليمهن والإفراط في حريتهن، ومعلوم أن طريقة العلماء والسياسيين

الأوربيين في الانتقاد أن يغلو كل فريق منهم في طرف يخالف فيه الآخر؛ لتظهر

خفايا الأمور للجمهور لأجل العمل بها عند ظهور بارقة الحقيقة بين تصادم الأفكار

وقدح زناد الأنظار، ومن أراد معرفة المرجح عندهم فلينظر إلى ما عليه العمل لا

إلى جمل في جريدة أو كتاب، وكذلك الحال عند كل أمة. فالحالة التي عليها نساؤنا

هي المرجحة عند مجموع أمتنا، وإن ذمها بعض العقلاء والفضلاء، ولن تتغير

حتى تتغير شؤون التربية وأحوال المعيشة والعلم بالمصلحة، وهذه الكتابات في

شأن النساء المهمل عندنا التي دفع الناس إلى الخوض فيها تأثير كتابي الفاضل قاسم

بك أمين ستكون من أسباب التغيير ولو بعد حين.

وكتاب (المرأة المسلمة) مؤلف من مقدمة وثلاثة عشر فصلاً وخاتمة،

لخص فيها جميع الفصول في تسع نظريات، وقد صدق وأنصف بتسميتها نظريات

وهي:

(1)

المرأة أضعف من الرجل جسمًا، وأقل منه قبولاً للعلم؛ لأن وظيفتها

الطبيعية تقتضي ذلك لا لأن تكون خاضعة للرجل.

(2)

كمال المرأة في موهبة روحانية مُتعت بها أكثر من الرجل، وهي

الشعور الدقيق والعواطف الرقيقة واستعدادها لتضحية نفسها في سبيل الخير، وهذه

المواهب إذا نمت فيها تكون لها مكانة تُحنى لها الرؤوس إجلالاً؛ ولكنها لا تنمو إلا

تحت قيادة الرجل ولو فاقته فيها واستطاعت أن تأسره بها؛ ولكنها لا تأسره بها لأنها

لو فعلت بطل مضاء سلاحها وزايلتها بهجة موهبتها، فتقع فيما لا ترضاه لنفسها.

(3)

إن هذا الكمال لا تناله المرأة إلا إذا كانت زوجة لرجل، وأمًّا لأطفال

تربيهم تربية صحيحة.

(4)

إن اشتغال المرأة بأشغال الرجال قتل لمواهبها، وإذهاب لبهجتها،

ومدعاة إلى هبوطها، ومفسدة لتركيبها، ومجلبة للخلل في أمتها، وإن عمل المرأة

الغربية خارج بيتها يعده علماء بلادها جرحًا داميًا في فؤاد الأمة، وأثر من آثار

أسر الرجال للمرأة ويعملون بكليتهم على تضييق دائرته.

(5)

إن الحجاب ضروري للنساء لصلاح النوع الإنساني كله على العموم،

وصلاحها على الخصوص؛ لأنه ضمانة استقلالها وكفالة حريتها لا علامة ذلها

وعنوان أسرها، وقلنا إنه لا يمنع كمالها بل يهيئه، وإنه وإن كان له شيء من

المضارّ كما هي طبيعة كل شيء؛ فإن مزاياه وفوائده لا تُقَدَّر، ومن أظهرها أن

يجبر المرأة إلى عدم تخطي دائرة وظيفتها الطبيعية التي فيها كل سعادتها ويوجهها

لتنمية خصيصتها السامية التي هي سلاحها الوحيد في هذه الحرب الحيوية.

(6)

المرأة في المدنية المادية ليست كاملة، ولا سائرة إلى الكمال.

(7)

إن طرق التعليم في كل ممالك أوروبا وأمريكا غير صالحة للنساء

بشهادة أصحابها أنفسهم.

(8)

إن تعاليم الديانة الإسلامية بالنسبة للمرأة موافقة لفطرتها تمام الموافقة

فهي كالقالب التام التركيب لجميع خصائصها وملكاتها، بمعنى أن تلك الخصائص

لو نمت على حسب تلك التعاليم لبلغت المرأة المسلمة أعلى شأو يمكنها أن تبلغه

بدون أن تتعدى حدودها الطبيعية.

(9)

لا ينقص المرأة المسلمة لكي تبلغ أكمل نقطة يمكن أن يناله جنسها إلا

تعلم مبادئ العلوم الضرورية ليس إلا.

هذا مجمل مسائل الكتاب، ويُطلب من مؤلفه ومن مطبعة الترقي

_________

ص: 314

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصاب الصحافة

وفاة بشارة باشا تقلا

في ليلة السبت الماضي (15 يونيو سنة 1901 - 28 صفر سنة 1391)

تقوَّض ركن الصحافة الركين، وَفَتَّ في عضدها المتين، حيث حل القضاء المبرم

ونزل القدر المحتم، فاختطف بشارة باشا تقلا صاحب جريدة الأهرام العربية،

وجريدة البراميد الفرنسوية، وهو في مستوى طور الكهولة ناهز الخمسين ولم

يبلغها، وقد تقدم هذا القضاء السماوي بعشرين يومًا إنذار مرضي حار نطس

الأطباء في معرفة حقيقته، ولم يهتدوا إلى طريقة معالجته، والأرجح أنه كان في

ذلك الدماغ الجوَّال، الذي كان كصاحبه لا يعرف الإعياء والكلال.

ورد الفقيد وادي النيل من لبنان مع أخيه الكاتب الشهير سليم بك تقلا منشئ

جريدة الأهرام، واشتغلا بالصحافة، وكانت أرضها مواتا فأحيتها همتهما، وغرسا

واستثمرا بجدهما وعزيمتهما، وقد كان سليم وبشارة يقتسمان التحرير والإدارة،

فلما اغتالت المنون أحد الفرقدين، نهض الآخر بالأمرين، وتقدمت الأهرام به

وتقدم بها فأصاب ثروة طائلة وجاهًا عريضًا، وما زال يرتقي في رتب الدولة

العلية ويتمتع برواتبها ويتحلى بوسامات الشرف منها حتى بلغ رتبة (روم إيلي

بكاربكي) التي لا يعلوها في الرتب الملكية إلا رتبة الوزارة، وتحلى بالوسام

المجيدي الأول، وكان محلًّى بوسامات دول أخرى، كوسام ليجون دونور

الفرنساوي من الدرجة الثالثة، ووسام سان استانس لاسي الروسي، ووسام

المخلص اليوناني من الدرجة الثانية، ووسام الافتخار التونسي وغير ذلك.

نجحت الأهرام في أول عهدها بمساعدة الحكومة المصرية لا سيما في أيام

وزارة دولتلو رياض باشا الذي لم تنجح جريدة من الجرائد الشهيرة الغنية بمصر إلا

بسعيه، حتى قيل إن الحكومة كانت تلزم الموظفين والوجهاء بالاشتراك، وتكلف

جباتها بتحصيل قيمة الاشتراك منهم، ثم لمَّا انقضى هذا الدور، وصار الناس

مختارين في الاشتراك استمر النجاح بسعي الفقيد الموافق لحالة البلاد الاجتماعية

والأدبية، وقلما ينجح عمل مخالف لاستعداد الناس إلا أن يكون بعد تأسيسه بزمن

طويل.

وقد احتُفل في مساء يوم السبت بجنازة الفقيد احتفالاً لائقًا بمقامه، مشى فيه

كثيرون من الوجهاء والفضلاء، ومنهم أصحاب الجرائد المصرية كلهم، وصُلِّي

عليه في كنيسة الروم الكاثوليك، ودفن في قرافتهم بمصر العتيقة وأبَّنه على القبر

كل من الأديب يوسف أفندي البستاني، والأصولي الفاضل نقولا بك توما، ورجع

المشيعون وهم يستمطرون له الرحمة، ويدعون لقرينته الفاضلة ولولده النجيب

بالعزاء والسلوة.

_________

ص: 317

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الواسطة والزيارة

أو ابن تيمية والسبكي

من المؤلفين مَنْ حظه كثرة النقول، وإن خالفت المعقول، وإرضاء العوام

ولو بما يضر الأنام، ومن الناس من يتحرى الهداية والإرشاد، وإن استُهدف لسهام

الانتقاد، وما تفرد أحد بالإمامة في عصر، وبرز على العلماء في قرية أو مصر،

إلا سلَّط عليه الحاسدون، وطعن فيه المعاصرون، ولقد كان الإمام أحمد بن تيمية

في عصره ناصر السُّنة، وخاذل البدعة، والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد

المجتهدين، وكان جرَّد حسام قلمه لمحاربة البدع والدعوة إلى مذهب السلف، لا

سيما فيما يتعلق بالعقائد وأصول الدين، فحمل عليه بعض علماء التقليد الذين يرون

معاشهم وجاههم بإرضاء العامة، فخاضوا فيه كما خاضوا في الأئمة من قبله،

ومضى الزمان على ذلك.

وقد انتدب بعض الفضلاء في هذه الأيام لإحياء مؤلفات هذا الإمام، فبدأ

بطبع رسالة (الواسطة) التي تحمي حقيقة التوحيد وتدعو الناس لأن يوجهوا وجوههم

في طلب حاجاتهم للذي فطر السموات والأرض، وأن لا يعبدوا غيره ولا يستعينوا

فيما وراء الأسباب التي سنها لهم إلا به، وأن لا يتخذوا غير دينه واسطة بينهم

وبينه؛ لأنه تعالى - كما قال - أقرب إليهم من حبل الوريد.

فرأى بعض المشايخ الذين يحبون الشهرة عند العوام، ويرون لهم في ذلك

منفعة وجاهًا أن ينتصر لهم فيما يأتونه في الأضرحة من البدع والمنكرات وطلب

الحاجات من غير الله تعالى بالرد على الإمام ابن تيمية، فسعى بنشر عدة رسائل

إحداها منسوبة للقاضي تقي الدين السبكي الشافعي الشهير، وكتب مقدمة لهذه

الرسائل جاء فيها بالتناقض، وأقام الحجة على نفسه فكان قاضيًا حكم على كلامه

وكلام السبكي بالإبطال، من حيث لم يفهم إلا أن يكون أراد أن يدلس على الناس

بالتمويه، وافتتح المقدمة بتشبيه مشهور انتحله لنفسه والأرجح أنه لم يفهمه؛ لأنه

استعمله في غير موضعه.

أما تناقضه وتهافته فهو أنه ذكر أولاً أنه لا شفاء لأحد من الأمراض الروحية

ولا سعادة له إلا باستعمال أدوية الدين، وهي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان

عليه السلف الصالح، وهذا ما يدعو إليه الإمام ابن تيمية ومن على شاكلته من أهل

الهدى، ثم أنشأ بعد هذا التمهيد يثبت لأجل الرد على ابن تيمية أن بين العباد وبين

ربهم واسطة تحجبهم عنه، ولا يمكن الوصول إلى مرضاته إلا بها وهي غير دينه

الذي شرعه لهداية الناس، ولما لم يجد لهذا دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا هدي

الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين حاول أن يثبته بالاحتمالات الخيالية، كاحتمال

أن لأرواح الأموات تأثيرًا وإمدادًا كما يقول بعض الفلاسفة، وذكر بعض كلمات من

شرح قصيدة ابن سينا الفيلسوف ومن غيرها، وحسب صاحب هذه المقدمة أنه

يدعو إلى كتاب مملوء بالموضوعات، أي بالكذب على رسول الله صلى الله عليه

وسلم، فإن كان لم يقرأه فهو شاهد زور، وإلا فهو لا يميز بين الصحيح والموضوع.

قال في الاستدلال على انتفاع العامة بالقبور والأضرحة: إن الإنسان يتأثر

بتصوراته. وهذا صحيح ولكن هذا التأثر وهمي يحصل للمعتقد بالشيء ولو كان

صنمًا، وينقل مثله عن عوام سائر الملل فهل يكون قوله هذا حجة على أن دين

الإسلام بنى عقائده وعباداته على أسس الأوهام؟ وزعم أن العامي لا يعتقد أن الولي

يؤثر أو ينفع؛ وإنما يعتقد أنه يدعو إلى الله تعالى معه فيكون الدعاء أرجى للقبول

وهذا الزعم منقوض بما يشاهد من العوام من طلب الحوائج من الجمادات، كباب

المتولي ونعل الكلشني وشجرة الحنفي وشجرات الست المنضورة التي تحبل العاقر

وغير ذلك، وجعلوا لكل ولي وظيفة: فبعضهم يشفي الأمراض المزمنة، وبعضهم

يشفي الرمد الحاد، وبعضهم يرد الأطفال التائهين إلى غير ذلك، على أن رسائله التي

نشرها لإرشاد المسلمين تصرِّح بأن الله وكل بقبور الأولياء ملائكة تقضي حاجات

زائريها، وأن بعضهم يخرج من قبره فيقضي الحاجة بنفسه، وهذا شيء لا يُعلم إلا

من الوحي، ولم يرد به كتاب منير ولا سنة صحيحة، وسنعود إلى تتمة الانتقاد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 318