الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد
يرى الباحثون في العمران والمشتغلون بعلم الاجتماع بعد النظر في تاريخ
الأمم أن كل إصلاح وجد في العالم؛ فإنما كان بواسطة رجال فاقوا شعوبهم ببعد
النظر، وصحة الفكر، وعلو الهمة، وقوة العزيمة والإرادة، فتقدموهم ثم قَدَّمُوهم
وارتقوا بهم إلى المكانة العالية، والمنزلة السامية، ولا فصل في هذا بين الإصلاح
الديني والعلمي، والإصلاح المادي والسياسي.
ويقول هؤلاء الناظرون: ما بال بعض الممالك والأقطار تمر عليها القرون
والأعصار، وهي تضعف وتذل، وتذوب وتضمحل، ولا ينبت في أرضها رجل
عظيم، ينقذها من هذا الرجز الأليم، ما بال الشعوب الإسلامية قد تحوَّل عزها إلى
ذل، وكثرها في كل خير إلى قل، وعلمها إلى جهل، ولم يظهر فيها ملك حكيم،
ولا إمام عليم، يجدد لها مجدها، ويرجع إليها عزها، وأين مصداق ما يروونه عن
نبيهم صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من
يجدد لهذه الأمة أمر دينها؟) .
إنما يقول هذا الباحثون في الظواهر، والناظرون في الصور السطحية،
والذين يكتنهون الحقائق ويغصون في الأعماق ويفقهون الأسرار، وتنفذ أشعة
بصائرهم إلى ما وراء الأستار، يعلمون أنه ما قام مصلح في أمة من الأمم بعمل
من الأعمال تغيرت له حالة الأمة، وارتقت بهم من الحضيض إلى القمة، إلا بعد
أن استعدت تلك الأمة لقبول ذلك الإصلاح بتأثير الزمان، وتقلب الحدثان، أو
انتشار العلم والعرفان، فللإصلاح شرطان: أولهما استعداد الأمة لقبوله، والثاني
الزعيم الداعي إليه من طريقه الطبيعي مع الكفاءة والاضطلاع، فإذا ظهر مثل هذا
الكفؤ للقيام بالإصلاح في قوم ورآهم غير مستعدين لقبول إصلاحه فإنما يشتغل
بالسعي في إعدادهم وتهيئتهم للأخذ بأركان ذلك الإصلاح، ولا يدعوهم إليها في
أول الأمر، وربما يقضي عمره في إيجاد الوسائل غير بائح بسر من أسرار
المقاصد، إلا ما يودعه في أطواء الكلام، من الإجمال والإبهام، كالكناية والتورية،
وما يشبه الإلغاز والتعمية، فإذا هو صرح للقوم بالمراد، ودعاهم إلى خلاف ما
هم عليه من التقاليد والعاد، تقوم عليه القيامة، وتتوجه إليه سهام الملامة، بل
تنصب عليه قذائف القاذفين، ولعنات اللاعنين، وينزل به البلاء المبين، ويكون
في عمله من الخاسرين.
المصلح إما داعٍ ذو بيان، يستصرخ الشعور والوجدان، ويستنفر العقل
والجنان، دالاًّ على طريق الإسعاد، هاديًا إلى سبيل الرشاد، وإما ملك مستبد،
حكيم مستعد، على أمة خاملة، ورعية جاهلة، يحملها بالقهر والإلزام، على ما
يطلب ويرام، وكل منها مطالب بمراعاة استعداد الأمة ودرجة قابليتها؛ ولكن الأول
يحتاج من ذلك أكثر مما يحتاج إليه الثاني؛ لأنه يدعو النفوس إلى العمل باختيارها،
وإنما العمل الاختياري ما توجهت إليه الإرادة بباعث العلم والإذعان بأن فيه
اجتناب مفسدة، أو اجتلاب مصلحة، وليس لأحد سلطان على النفوس يفهمها ما لم
تستعد لفهمه، ويقنعها بما لا تحيط بعلمه، وإذا عجز المستبد عن التسلط على
الضمائر، والسيطرة على السرائر، فلا يعجز عن التصرف بالظواهر، بأن يلزم
الناس بالأعمال النافعة، وإن لم يعتقدوا نفعها حتى إذا جاء وقت الجني والقطوف،
عرفوا ما لم يكن معروف، فكانوا كمن يقاد للجنة بالسلاسل.
إن كون الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، قاعدة عامة شاملة للإصلاح
الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإن الله تعالى لم يبعثهم إلا مُعِدِّين،
ومصلحين للمستعدين، وقد {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) في
الجهالة والهمجية، والوقوع في شَرَك الشِّرك والوثنية،] فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين [، بعدما استعد بعض الناس لفهم التوحيد وقبول الدين، ورجي أن يُعدوا
بإيمانهم الآخرين، ولنقص الاستعداد وضعف العقول أيد الله تعالى الأنبياء بالآيات
البينات، التي اعتاد الأكثرون على الخضوع لمثلها مما يخالف المألوفات، ولا
ينطبق على سائر العادات، ومع هذا كله كانوا يضربونهم ويطردونهم، وفي بعض
الأحيان يقتلونهم، ومنهم من لم يؤمن به أحد أو إلا الرجل والرجلان، ومنهم من
آمن به العدد الكثير، ثم ارتدوا وفسقوا بعد زمن قليل أو كثير، وقد بينا من قبل
استعداد العرب لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما امتازوا به على الأمم لقبول
إصلاحه (راجع ج 4 م 3) .
إنما مثل النوع الإنساني في مجموعه كمثل الفرد الواحد من أفراده، فالشعب
الجاهل من شعوبه كالطفل لا يمكن أن تجعله رجلاً كاملاً إلا بتربيته على أخلاق
الرجولية بالتدريج الطبيعي، فإذا كلَّفته بما يُكَلَّف به الرجال من عويص المسائل،
وحل عقد المشاكل، فأمرك لا يطاع؛ لأنه بما لا يستطاع، كذلك حال من يُكَلِّف
شعبًا من الشعوب أو أمة من الأمم بأن تجاري في طور ضعفها الأمم القوية،
وتباري في إبان جهلها من سبقها في جميع الطرق العلمية، من غير أن يربيها على
ذلك بالتدريج الذي عُرف من سنن الله تعالى في الأولين، كالابتداء بإزالة الموانع،
والتثنية بإدالة المنافع، أو بتقديم التخلية على التحلية كما يقول السادة الصوفية،
وإنما نعني التقديم والتأخير في المرتبة لا في الزمن.
تربية الأمم ليست بالمركب الذلول، وطريقها ليس بالطريق المعبَّد؛ وإنما
هي الحَرون في الخُزُون يتوقع راكبها الهلكة في كل حركة، وما كان بسمرك هو
المربي لألمانيا والمبدع للوحدة الجرمانية ولا بيكنسفليد هو المربي لإنكلترا ولا
غامبتا هو المربي لفرنسا ولا غورجيقوف هو المربي لروسيا ولا أمثال هؤلاء
السياسيين من الفلاسفة والعلماء، وإنما ربى أوربا كلها أولئك الذين اُضطهدوا
وأُذلوا وأُبعدوا وصُلِّبوا وقُتِّلوا تقتيلاً أن دعوا الناس لإصلاح عقائدهم وعوائدهم
وتغذية عقولهم بلبان العلم والعرفان، فأعدوا أقوامهم لكل ما هم فيه الآن من العزة
والشمم، والسيادة على الأمم، أولئك الذين كانوا يُرمون بالكفر والزندقة وإفساد
الاعتقاد والجناية على البلاد والعباد، فصاروا الآن يُوصفون بالإمامة، ويحلهم
التاريخ محل الكرامة، ويُذكرون بالتعظيم والتبجيل، وتُرفع لهم الهياكل وتُنصب
التماثيل، وأعظمهم عندي لوتر مصلح الدين، ومزيل العقبة الكبرى من طريق
جميع الأوربيين.
من أسباب الاستعداد لقبول إصلاح ما معاشرة من صلح حالهم به من قبل
ومشاهدة أطوارهم، والوقوف على أخبارهم، عندما وقفوا ببابه، وأنشأوا يأخذون
بأسبابه، ومن أسبابه أن يتسلط على الأمة من يسلبها ثوب مجدها، وينزع عنها
تاج كرامتها ويستأثر بمنافعها، ويستولي على مرافقها، ومن أسبابه أن يمر عليها
حين من الدهر مهدَّدة بقلب كيانها، وتقويض أركانها، وإزالة سلطانها، ممن يقدر
على ذلك، من الدول والممالك، ومن أسبابه أن يرى أحد شعبين متجاورين أو
متمازجين الشعب الآخر قد انسلخ من تقاليده السخيفة، وعاداته الضارة، واستبدل
بها ما عزَّ به جانبه، واتسعت في هذه الحياة مذاهبه، فصلح حاله، وكبرت في
السعادة آماله، وماذا عسانا نستفيد من تعداد الأسباب إذا كنا نجهل الموانع التي
تزاحمها فتحول دون تأثيرها، أو لم يكن لنا سبيل للخوض فيها؟
إنما عدَّدنا ما عدَّدناه تمهيدًا لذكر مثال من أمثلة الاستعداد في الشعوب
الإسلامية التي يضرب بها المثل في التأخر بعد التقدم، والانخفاض بعد الارتفاع
وهو ما كان من مسلمي الهند:
دخل الإنكليز بلاد الهند فكان أقرب الناس إلى الاستفادة منهم الوثنيون الذين
كانوا من قبل دون المسلمين في كل علم وعمل، فطفق الوثني يتعلم، والمسلم يتحسر
ويتألم، أو يشكو في نفسه ويتظلم، حتى مر الزمن الطويل، الذي انقرض به جيل
وتجدد جيل، والمسلم يعادي اللغة الإنكليزية، ويُكَفِّر متعلم العلوم الأوربية.
فلما رأى المسلمون نتائج ذلك باتساع ثروة الوثنيين وكثرة الموظفين فيهم،
واجتماع شملهم ونفوذ كلمتهم، استعد أفراد منهم إلى معرفة الحقيقة، ووجوب
سلوك الطريقة، ومن فضل الله على الناس أنهم كلما استعدوا لشيء يسَّر لهم أسبابه،
وأفاضه عليهم بها، فكان أعلاهم همة وأقواهم عزيمة هو الساعي الأول والداعي
إلى العمل، وهو السيد أحمد خان فأسس مدرسته الشهيرة في مدينة عليكره ودعا
قومه إلى التربية الصحيحة والتعليم القويم، ونبذ ما كانوا عليه من أسباب الخمول
القديم، فأجابه النزر اليسير، وكافأه الجماهير بالتفسيق والتكفير، ولولا حماية
الحكومة الإنكليزية له ومساعدتها إياه لأخرجوه أو قتلوه، حتى إذا ما ظهرت في
هذه السنين آثاره وتبين لمسلمي الهند أن الخير إنما يرجى لهم من تلامذته، وأن
السعادة إنما تفيض عليهم من ينبوع مدرسته، أشادوا بذكره، وعظَّموا من أمره،
واعترف العلماء والجهلاء والأذكياء والأغبياء بأنه المصلح العظيم، والمجدد
الحكيم، والإمام العليم، ولو قام فيهم بهذه الدعوة منذ خمسين سنة لما وجد
منهم ملبيًا، ولا صادف مصغيًا.
هذا هو السيد أحمد خان الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني ممن يتهمه
بالمروق من الدين، والتصدي بإغراء الإنكليز لإفساد عقائد المسلمين، والسيد
جمال الدين هو من أعظم المصلحين والحكماء الراسخين، وقد كان يُتهم من بعض
الناس في مصر بمثل ما يُتهم به السيد أحمد خان من بعض الوجوه، ألا يدلنا هذا
على أن مصر أبعد من الهند عن الاستعداد؟ بلى وإنني أذكر في هذا المقام كلمتين
إحداهما قالها مؤرخ مسيحي وهي:
أن السيد جمال الدين جاء قبل وقته بخمسين سنة، فالمسلمون لما يستعدوا
لفهمه والاسترشاد بعلمه. والثانية قالها صاحب أكبر جريدة إسلامية في الهند وهي:
أن المصريين لا يزالون مغترين بمثل ما كان عليه الهنديون منذ خمسين سنة،
مغترين بما بقي لهم من الحكام وفضلات الأيام، فلا ينتبهون حتى يفقدوا كل
شيء حتى الأسماء الإسلامية في كراسي الإمارة والحكم كما وقع لإخوانهم
الهنديين.
أقول وإن لم يصح حديث التجديد في كل مئة سنة: لا يكاد يمر على أمة
كأمتنا قرن من القرون يخلو من إمام عليم يصلح لتولي زعامة الإصلاح، وإنما
تظهر آثار الرجال باستعداد أقوامهم، ولذلك كان فيهم من يكتم علمه؛ لأنه لا يجد
له حملة كما نقل عن بعض الأئمة، ومنهم كان يغلبه لسانه أو قلمه على الإفصاح
بشيء من الحق فيقابله الناس بالإعراض، ويحسبونه من معضلات الأمراض، أو
يترك سدى، ويُرمى كالشيء اللَّقَا، فالإمام الغزالي صرَّح برأيه في إصلاح
المسلمين، بعدما بلغ رتبة الإمامة في جميع علوم الدين، ولكن لم يوجد من يعمل
برأيه القويم، ولا من يزن بما وضعه من (القسطاس المستقيم) ، وكذلك الإمام
أحمد بن تيمية لم يترك بدعة إلا وفنَّدها، ولا سنة إلا ودعا إليها وأيَّدها؛ ولكنه لم
يؤخذ بإرشاده إلا بعد قرون حيث جُددت الدعوة إليه من قوم مستعدين له من بعض
الوجوه، على أن إظهار الحق خير من كتمه وإخفائه، فإن لم يُفد في الإصلاح
والإسعاد، فلا بد أن يفيد في التهيئة والإعداد، ولا شك أنه يوجد في كثير من البلاد
التي استحوذ عليها الجهل من يصلح للإمامة وللقيام بالزعامة، فإن لم يقدروا على
الإصلاح فلا بد أن يهيئوا الأمة له، ويُعِدُّوها لقبوله، وربما كان السنوسي السابق
وخليفته الحاضر من المُعِدِّين لا من المصلحين، وربما كان أتباعه قد استعدوا
لنهضة عملية، أما المصريون فقد ظهر فيهم شيء قليل من بوادر الاستعداد
للإصلاح المعنوي والمادي ويرجى نموه ببقاء الحرية ودوامها.
كما مضت سنة الله تعالى في جعل الإصلاح البشري والإسعاد الكسبي على
قدر الاستعداد، جرت سنته كذلك في التكوين والإيجاد؛ فإنه قدَّر لكل مكوَّن من
المكونات أجلاً محدودًا يستعد فيه للظهور بشكل من الأشكال، أو صورة من الصور
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) فإذا جاء الأجل الموعود، ظهر بذلك
الشكل في الوجود، وذلك من كمال النظام والحكمة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: 2) نعم إنه قدَّره بالتدريج في أزمنة متعاقبة عبَّر عنها بالأيام {الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ
فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 59) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة الدرس (30)
من وظائف الرسل عليهم السلام
المسألة (73) الوظيفة الخامسة - حدود العقوبات وأحكام المعاملات:
خُلق الإنسان ضعيفًا، وارتقى بالتدريج، ولما تألفت المجتمعات من البيوت
والشعوب والقبائل احتاجت للوازع والمسيطر الذي يمنع ما يولده التنازع في
المصالح والمنافع الاجتماعية من البغي والعدوان، ويؤدب الذين تطغى بهم
الشهوات، فيجنون على أنفسهم وعلى الناس. ولذلك اتخذ الناس القضاة والحكام من
رؤساء الدين والدنيا؛ ولكن الحاكم والأمير إذا لجأ إلى رأيه واتبع هواه في حكمه
يضل عن سبيل الحق والعدل فلا تقوم مصلحة الناس بحكمه، وهذه قاعدة طبيعية
ثابتة، وأقوى أدلتها ظلم رؤساء البيوت لنسائهم على ما بينهم من المودة والرحمة،
وظلمهم لأولادهم على ما فُطروا عليه من الشفقة والحنان عليهم، فمن ثم كان الناس
محتاجين إلى من يضع لهم أحكامًا عادلة، ويحد لهم حدودًا مؤدِّبة يستوي فيها الناس،
وتوزن حقوقهم منها بالقسطاس، فكان كل نبي يرشد أمته بالوحي إلى ما يراها
محتاجة إليه من ذلك، ويقرها على ما يراها محسنة فيه، وأكثر اختلاف الشرائع
والأديان في هذه الوظيفة.
م (74) :
ليس من وظائف النبيين بيان طرق الكسب وأسباب المعايش، ولا تعليم
الفنون التي يتوسل بها إلى السعة والثروة كالرياضيات والطبيعيات والزراعة
والصناعة؛ لأن هذه الأمور مما يصل إليها البشر بسعيهم وكسبهم بحسب السنن
الإلهية التي أقام الله بها نظام هذا النوع، وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
إلى ذلك في مسألة تأبير النخل بقوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) .
إذا جاء في كتب الوحي ذكر السموات وكواكبها والأرض وعوالمها؛ فإنما
يجيء على سبيل الاستدلال على قدرة خالقها ومبدعها وحكمته، والتذكير بفضله
ونعمته، لا على سبيل بيان حقائقها في أنفسها وشرح وجوه الانتفاع بها، على أن
هذا الاستدلال والتذكير مما ينبه الناس إلى التوسع في العلم بهذه المخلوقات،
وطرق الانتفاع بها، وإن لم يكن مقصودًا لذاته.
***
الدرس (31)
في شبهات على الوظائف وأجوبتها
م (75) شبهة على الوظيفة الأولى:
يقول قوم: إن الأديان التي تنتسب إلى الوحي السماوي ثلاثة، ونراها لم تتفق
فيما يجب اعتقاده في الله تعالى، فبعضها يصفه بصفات البشر حتى نقائصها
كالتعب والندم والجهل والبداء والخوف والتأسف ومصارعة البشر وتسلط الشيطان
عليه بالإغراء والتهييج، كتهييجه إياه على أيوب لابتلاعه، وكالحلول في البشر
واحتمال اللعن والقتل باختياره، ونحو ذلك مما لا يرضى به المرتقون في الوثنية
فضلاً عن الموحدين، وبعضها يوجب له التنزيه المطلق والوحدة الحقيقية والمباينة
للممكنات، ثم يثبت له مع ذلك وجهًا وعينًا وسمعًا وبصرًا ويدًا وجهة مما يحتمل
التأويل، ويشهد لتلك الكتب التي وصفته بما لا يحتمل التأويل مما أشير إليه آنفًا،
ولما كان الدليل على صحة كتب هذه الأديان واحدًا، وهو وقوع الآيات الكونية
وخوارق العادات على أيدي الذين جاءوا بها، يصح لنا أن نقول: إنها تعارضت ولا
شيء يرجح أحدها على الآخر، فوجب تركها وإهمالها كلها.
وإننا نجيب عن هذه الشبهة بعد تمهيد في إثبات الدين بخوارق العادات، وهو
أنه تقدم في الدرس 29 (ص 371 م 4) أن الآيات الكونية التي يسميها المسلمون
معجزات، ويسميها النصارى عجائب لا تدل على صحة ما جاء به الوحي دلالة
برهانية؛ وإنما تؤثر في بعض النفوس فتجذبها إلى تصديق من ظهرت على أيديهم
في كل ما يقولون؛ ولكن المسلمين والنصارى متفقون على أن الآيات لا تُعتبر
تأييدًا من الله تعالى لمن ظهرت على يديه، إلا إذا كان يدعو إلى الحق ويأمر
بالخير، فالاعتراف بأنها تأييد إلهي يتوقف إذن على معرفة حقيقة الدعوة ووزنها
بميزان العقل الذي به التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر.
ففي الباب الثالث عشر من التثنية: (1 إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا
وأعطاك آية أو أعجوبة 2 ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً
لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها 3 فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم
ذلك لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن
كل أنفسكم) وهذا عن لسان موسى كما لا يخفى، وفي الباب السابع من إنجيل متى:
(كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب أليس باسمك تنبأنا وباسمك
أخرجنا الشياطين وباسمك صنعنا قوَّات كثيرة 23 فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم
قط اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) وفي الباب 24 منه: (لأنه سيقوم مسحاء كذَبة
وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا)
وهذا عن لسان المسيح.
إذًا لا بد من معرفة الحق بذاته، فإذا وجدنا نصوص الوحي متعارضة أو
وجدنا فيها ما يحكم العقل ببطلانه، فعلينا أولاً أن ننظر في طريق نقلها، فإن كان
المخالف منها للعقل أو سائر النصوص غير متواتر نحكم ببطلانه وعدم صلاحيته
لمعارضة العقل أو النص المتواتر ونسلم بالقطعي الذي يخالفه، وإن كان النصان
اللذان يخالف أحدهما الآخر أو العقل، متواترين، فلا بد من الجمع بينهما بالتأويل،
فإن لم يمكن التأويل فرضًا، فالعقل يُعذر إذا هو رفضهما معًا؛ ولكن هذا الفرض
لم يقع إذ لم يوجد نص في القرآن يخالف العقل خلافًا لا يحتمل التأويل، ولا يثبت
الآن كتاب سماوي بالتواتر اللفظي الحقيقي غير القرآن، وما يُعَدُّ متواترًا من سائر
الكتب؛ فإنما تواتره معنوي، أي أنه متواتر في جملته لا في تفصيله، فلا يحتج
بكل كلمة وكل عبارة منه.
يوجد فيما حُفظ من التوراة والإنجيل، وأودع في أطواء هذه الكتب المعروفة
ما يدل على تنزيه الله تعالى على نحو ما يوجد في القرآن، فإذا وُجد فيها أيضًا ما
ينافي التنزيه يجب تأويله إذا كان منقولاً عن لسان نبي كموسى وعيسى عليهما
السلام وعدم الاعتداد به إن لم يكن كذلك، فإن لم يمكن تأويله يحكم بعدم صحة
إسناده إلى النبي الذي نسب إليه، وبهذا تتفق الكتب في أصل الاعتقاد بالله تعالى،
أما بيان الآيات القرآنية التي تثبت لله تعالى وجهًا وعينًا ويدًا فقد تقدم في الدرس
السابع عدم منافاتها للآيات المحكمة الناطقة بالتنزيه (راجع ص 603 م 2)
ويتعذر تأويل كثير مما نُسب إلى الله تعالى في كتب العهدين وتقدمت الإشارة إلى
شيء منه آنفًا.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المحاورة الثانية عشرة بين المصلح والمقلد
نهي الإمام الشافعي وأصحابه عن التقليد
لما ضم الشاب المصلح والشيخ المقلد المجلس (12) ابتدأ الثاني فقال:
المقلد: قد قلت لي مرة إنك مطَّلع على نُقُول كثيرة عن الشافعي وأتباعه، فأرجو أن
تكتفي بالمهم منها.
المصلح: نعم إن ما ورد عن الإمام الشافعي والأئمة المنتسبين إليه في العلم
والاجتهاد في اتباع الدليل، وعدم جواز الأخذ بقول أحد من غير معرفة دليله - كثير
جدًّا، فمنه ما في كتاب (الأم) وهو موجود بين أيديكم في دار الكتب الخديوية
وهو قول الإمام بمناسبة كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) وروى الحافظ البيهقي بسنده إلى
الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي وقد سأله رجل عن مسألة فقال: يُروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول
بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك! وأي أرض تقلني وأي سماء
تظلني إذا رويت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئًا، ولم أقل نعم على
الرأس والعين.
(قال المصلح) فهذا السؤال ومثله كثير يدلنا على شدة استعداد الناس لتقليد من
يشتهر من العلماء إلى حد أن يتركوا قول الرسول المعصوم لأقوالهم والأئمة رضي الله
تعالى عنهم كانوا يصدون الناس عن ذلك، ويفتحون لهم باجتهادهم أبواب البحث؛
ولكن الغلبة للاستعداد العام على قول كل عالم وإمام.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سُنة
لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول وأصَّلت
من أصل فيه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما
قاله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو قولي) وجعل يردد هذا الكلام،
وروى البيهقي أيضًا بسنده إلى الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: (إذا وجدتم في
كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم ودعوا ما قلت) فهذا مذهبه في اتباع السنة. وبه إليه قال: (إذا
كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف له عنه، وكان يروى
عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يوافقه لم يزده قوة، وحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغن بنفسه وأن كان يروى عمن دون رسول الله
صلى الله عليه وسلم حديث يخالفه لم يلتفت إلى ما خالفه) .. . إلخ.
وقال الشافعي أيضًا: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد (وصح عنه أيضًا قال:) لا
قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كل هذا من رواية البيهقي في
المدخل، وفي أعلام الموقعين لابن القيم نحوه، ومن أحسن تلك الروايات قول
أحمد بن عيسى بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول:
(كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل
بخلاف ما قلت فأنا راجع إليها في حياتي وبعد مماتي) .
المقلد: حسبي هذا عن الإمام نفسه، وأحب أن أسمع شيئًا عن أصحابه
وأتباعه.
المصلح: روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: كان أحسن أمر
الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله، وقال أيضًا:
قال لنا الشافعي (إذا صح عندكم الحديث فقولوا لي كي أذهب إليه) والإمام أحمد
من أصحاب الشافعي أي أنه جرى على طريقته في الاجتهاد وإن استقل بمذهب.
وقال الحافظ ابن حجر في (توالي التأسيس في معالي ابن إدريس) : قد
اشتهر عن الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي) قرأت بخط تقي الدين السبكي
في مصنف له في هذه المسألة ما ملخصه: إذا وجد الشافعي حديثًا صحيحًا يخالفه
مذهبه إن كملت فيه آلة الاجتهاد في تلك المسألة فليعمل بالحديث بشرط أن لا يكون
الإمام اطَّلع عليه وأجاب عليه، وإن لم يكمل ووجد إمامًا من أصحاب المذاهب
عمل به، فله أن يقلده فيه، وإن لم يجد وكانت المسألة حيث لا إجماع، قال السبكي:
فالعمل بالحديث أولى اهـ.
ونحن نقول: إن العمل بالحديث متعين حيث لا إجماع ولا حديث يعارضه مما
يرجح عليه.
وقال ابن القيم في قول الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي) هذا صريح
في مدلوله، وإن مذهبه ما دل عليه الحديث لا قول له غيره، ولا يجوز أن ينسب
إليه ما خالف الحديث، فيقال: هذا مذهب الشافعي ولا يحل الإفتاء بما يخالف
الحديث على أنه مذهب الشافعي ولا الحكم به، صرح بذلك جماعة من أئمة أتباعه
حتى كان منهم من يقول للقارئ إذا قرأ عليه مسألة من كلامه قد صح الحديث
بخلافها: اضرب هذه المسألة فليست مذهبه، وهذا هو الصواب قطعًا لو لم ينص
عليه، فكيف إذا نص عليه وأبدى فيه وأعاد، وصرح به بألفاظ كلها صريحة في
مدلولها، فنحن نشهد بالله أن مذهبه وقوله الذي لا قول له سواه ما وافق الحديث
دون ما خالفه، ومن نسب إليه خلافه فقد نسب إليه خلاف مذهبه، ولا سيما إذا
ذكر هو ذلك الحديث، وأخبر أنه إنما خالفه لضعف في سنده أو لعدم بلوغه له من
وجه يثق به، ثم ظهر للحديث سند صحيح لا مطعن فيه وصححه أئمة الحديث من
وجوه لم تبلغه، فهذا لا يشك عالم ولا يماري أنه مذهبه قطعًا، وهذا كمسألة
الجوائح [1]
…
إلخ.
المقلد: قد تقدم مثل هذا عن أصحاب أبي حنيفة أيضًا، ولك الحق في لوم
العلماء على عدم العمل بهذا الإرشاد، وعلى إهمال العمل بالحديث وقراءته للتبرك
فقط؛ ولكنني أعجب كيف اتفق الأكثرون على هذا.
المصلح: قد عجب من هذا كل عالم منصف حتى من يقول بالتقليد، قال
العز بن عبد السلام الذي كان يلقَّب بسلطان العلماء: (ومن العجب العجيب أن
الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مذهب إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا،
وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه؛
جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها
بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا
ذُكر لأحدهم خلاف ما وطَّن نفسه عليه تعجب منه غاية التعجب من غير استرواح
إلى دليل لما ألفه من تقليد إمامه؛ حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه،
ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب الإمام أولى من تعجبه من مذهب غيره، والبحث
مع هؤلاء ضائع مفضٍ إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة تجذبها، وما رأيت أحدًا
رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصر عليه مع علمه بضعفه
وبُعده، والأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه،
قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولا يعلم المسكين أن
هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح،
فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته، وفقنا الله
تعالى لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف
ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر دليل على لسان الخصم
وقد نقل عن الشافعي أنه قال: (ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللهم أجر الحق على
قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان معه اتبعته) اهـ.
المقلد: كلام هذا الإمام معقول، ولكن تحكيم الأدلة في المذاهب يفضي إلى
تلاشيها، أو استخلاص مذهب واحد ملفق منها، ولعل هذا هو ما تريده من توحيد
المذاهب الذي سميته الوحدة الإسلامية؛ ولكن نفوس أكثر الفقهاء لا ترضى به؛
لأنهم كما قال العز بن عبد السلام جمدوا عليها جمودًا غريبًا أعمى كل متبع مذهب
عن غيره، ولا أعرف سر ذلك وحكمته، ولعل لله تعالى حكمة في حفظ الإسلام
بحفظ هذه المذاهب.
المصلح: الأسباب في جمودهم ظاهرة، وقد أوضحها الإمام الغزالي والعز
ابن عبد السلام وغيرهما من الأئمة الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فمنها
بالنسبة إلى بعضهم المباراة والمماراة وحب الظهور وما يتعلق بذلك، ومنها المنافع
والمرافق في القضاء والإفتاء والأوقاف والجرايات بالنسبة إلى آخرين، ومنها الثقة
والاطمئنان بالتربية العلمية على المذهب والاقتصار عليه في التعلم، ثم في التعليم
والإفتاء، ومن طبع الإنسان أن ما يعتاد عليه زمنًا طويلاً يملك عليه أمره، ويؤثر
في نفسه تأثيرًا يصرفها عن كل ما عداه إلا أصحاب العقول الكبيرة والنفوس العالية
الذين تكون الحقيقة ضالتهم، والصواب وجهتهم وقليل ما هم، وأما الحكمة في ذلك
فهي ما نشاهد من تفرق المسلمين شيعًا وحرجهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا، ودينهم
واحد ينهى عن الخلاف والاختلاف كما قلنا مرارًا، ولو اجتمع العلماء في كل
عصر وحكَّموا الكتاب والسنة في كل ما استنبطه الأئمة والعلماء وأرشدوا إلى العمل
بالأرجح ما خرج بذلك أولئك الأئمة عن كونهم هداة الأمة ولصح ما يروى من أن
اختلافهم رحمة؛ لأن الحقيقة تظهر من تصادم الأفكار، والصواب يؤخذ من اختلاف
الأنظار، وبذلك يكون كل مسلم مهتديًا بكل إمام من أولئك الأئمة من غير توزيع، ولا
قول بعصمة أحد أو استقلاله بالتشريع.
المقلد: إن العز بن عبد السلام من أئمة الشافعية ويظهر من كلامه هذا أنه
كان يدَّعي الاجتهاد؛ ولكن لم يدوِّن مذهبًا، ولم يتبعه أحد.
المصلح: إنه كان شافعيًّا ثم صار مجتهدًا عن أهلية واستحقاق، وهو ممن
اتفق الناس على قوة دينه وغزارة علمه، حتى قال الإمام ابن عرفة المالكي: لا
ينعقد للمسلمين إجماع بدون عز الدين بن عبد السلام يعني في عصره؛ لأن
الإجماع إنما هو إجماع المجتهدين كما قالوه في الأصول، وما كل مجتهد يدوِّن
مذهبًا يحمل الناس على اتِّباعه، وقد قلت غير مرة أن الأئمة المشهورين لم
يستنبطوا الأحكام ليحملوا الناس على تقليدهم فيها؛ ولكن ليفتحوا لهم باب العلم،
والذين ارتقوا إلى مرتبة الاجتهاد المطلق بعد تدوين المذاهب وانتشارها أداهم
اجتهادهم إلى إرجاع الأقوال الكثيرة في كل مسألة إلى قول واحد، وهو ما كان
دليله أقوى، ولو ألَّفوا في ذلك لكان لهم مذهب يزيد به الخلاف، إذ لا يمكن أن
يأخذ به كل الناس؛ ولذلك كانوا يحاولون إقناع العلماء بذلك، ولو تسنى لهم هذا
الإقناع لجمعوا كلمة المسلمين، وهذا مطلب عزيز لا يصل إليه المسلمون إلا بعد
أن يشتغلوا بالعلم الصحيح مع استقلال الفكر أربعين سنة، ومتى نبتدئ بهذا؟
وللجلال السيوطي رسالة في ثلاث مسائل متعلقة بالاجتهاد، إحداها: هل
الاجتهاد موجود الآن أم لا؟ والثانية: هل الاجتهاد المطلق مرادف للاجتهاد
المستقل أو بينهما فرق؟ والثالثة: هل للمجتهد أن يتولى المدارس الموقوفة على
الشافعية مثلاً؟ قال (وكل من المسائل الثلاث جوابها منقول ومنصوص للعلماء،
بل ومجمع عليه لا خلاف فيه صادر من عالم؛ وإنما فيه نزاع ومكابرة من غير
العلماء الموثوق بهم) .
قال: أما المسألة الأولى فالجواب عنها من وجهين: أحدهما أن العلماء من
جميع المذاهب متفقون على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر،
واجب على أهل كل زمان أن يقوم به بعضهم، وأنه متى قصَّر فيه أهل عصر
بحيث خلا العصر عن مجتهد أثموا كلهم وعصوا بأسرهم، وممن أشار إلى ما
ذكرناه الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم صاحبه المزني وصنف - أعني المزني -
كتابًا في ذلك سماه (إفساد التقليد) وممن نص على ما ذكرناه من الفرضية وتأثيم
أهل العصر بأسرهم عند خلو العصر عن مجتهد نصًّا صريحًا الماوردي في أول
كتابه (الحاوي) والروياني في أول (البحر) والقاضي حسين في تعليقه،والزبيري
في كتاب (المسكت) وابن سراقة في كتاب (الأعداد) وإمام الحرمين في باب السيف
من النهاية، والشهرستاني في (الملل والنحل) والبغوي في أول (التهذيب)
والغزالي في (البسيط والوسيط) وابن الصلاح في (آداب الفتيا) والنووي في
(شرح المهذب) وفي (شرح مسلم) والشيخ عز الدين بن عبد السلام في (مختصر
النهاية) ، وابن الرفعة في (المطلب) والزركشي في كتاب (القواعد والبحر) وذكر
ابن الصلاح أن ظاهر كلام الأصحاب أن المجتهد المطلق هو الذي يتأدى به فرض
الكفاية، وأما المجتهد المقيد فلا يتأدى به الفرض.
فهؤلاء أئمة أصحابنا نصوا صريحًا على أن الاجتهاد في كل عصر فرض
كفاية، وأن أهل العصر إذا قصروا فيه أثموا كلهم.
وممن نص على ذلك من أئمة المالكية القاضي عبد الوهاب في (المقدمات)
وابن القصار في كتابه (في أصول الفقه) ونقله عن مذهب مالك وجمهور العلماء
والقرافي في (التنقيح) وابن عبد السلام المالكي في شرح مختصر ابن الحاجب وأبو
محمد بن ستناري في (المسائل المنثورة) وابن عرفة في كتابه (المبسوط في الفقه)
وقد سقنا عبارات هؤلاء بحروفها في كتاب (الرد على من أخلد إلى الأرض)
فليراجعه من أراد الوقوف عليه.
(الوجه الثاني) : أن جمهور العلماء نصوا على أنه يستحيل عقلاً خلو
الزمان عن مجتهد إلى أن تأتي أشراط الساعة الكبرى، وأنه متى خلا الزمان عن
مجتهد تعطلت الشريعة وزال التكليف عن العباد، وسقطت الحجة وصار الأمر
كزمن الفترة، وممن نص على ذلك صريحًا الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني
والزبيري، وإمام الحرمين في (البرهان) والغزالي في (المنخول) ونقله ابن
برهان في (الوجيز) عن طائفة من الأصولييين ورجحه ابن دقيق العيد وابن عبد
السلام من المالكية في (شرح المختصر) وجزم به القاضي عبد الوهاب في
(الملخص) وأشار إليه الشيخ أبو إسحق الشيرازي في (اللمع) وهو مذهب الحنابلة
بأسرهم نقله عنهم ابن الحاجب في مختصره، وابن الساعاتي من الحنفية في
(البديع) وابن السبكي في (جمع الجوامع) وقال ابن عرفة المالكي في كتابه في
الفقه: قد قال الفخر الرازي في (المحصول) وتبعه السراج في تحصيله والتاج
في حاصله ما نصه (ولو بقي من المجتهدين - والعياذ بالله - واحد كان قوله حجَّةً)
قال فاستعاذتهم تدل على بقاء الاجتهاد في عصرهم، قال والفخر الرازي توفي سنة
606 هذا كلام ابن عرفة.
وقد وجدت ما هو أبلغ من ذلك، فذكر التبريزي في تنقيح المحصول ما نصه:
لا يعتبر في المجمعين عدد التواتر، فلو انتهوا - والعياذ بالله - إلى ثلاثة كان
إجماعهم حجة، ولو لم يبق منهم إلا واحد كان قوله حجة؛ لأنه كل الأمة وإن كان
ينبو عنه لفظ الإجماع، وقال الزركشي في (البحر) : قال الأستاذ أبو إسحاق يجوز
أن لا يبقى في الدهر إلا مجتهد واحد، ولو اتفق فقوله حجة كالإجماع، ويجوز أن
يقال للواحد أمة، كما قال الله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً} (النحل:
120) ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين، وبه جزم ابن شريح في كتاب (الودائع)
فقال: وحقيقة الإجماع هو القول بالحق، فإذا حصل القول بالحق من واحد فهو
إجماع، وقال إلكيا الهراسي: (اختلف هل يتصور قلة المجتهدين بحيث لا يبقى في
العصر إلا مجتهد واحد والصحيح تصوره) .
ثم أجاب عن المسألة الثانية بأن ابن الصلاح والنووي وغيرهما قالوا إن
المجتهدين أصناف، مجتهد مستقل، ومجتهد مطلق منتسب إلى إمام من الأئمة
الأربعة، ومجتهد مقيَّد، وأن الصنف الأول فُقِد من القرن الرابع، ولم يبق
الصنفان الآخران، وأجاب عن المسألة الثالثة بأن المجتهد المطلق المنتسب
والمجتهد المقيد كلاهما يستحقان ولاية وظائف الشافعية مثلاً (بلا خلاف بين
المسلمين) اهـ ملخصًا.
المقلد: أراك مطلعًا على أن أكابر العلماء حكموا بأن باب الاجتهاد المطلق
المستقل قد أُقفل من القرن الرابع، فما بالك تطلب فتحه في هذا الزمان.
المصلح: إنهم لم يقولوا بأن الباب أُقفل؛ وإنما قالوا إن المجتهد المستقل فُقِدَ
وذلك أن العلماء الذين صاروا مجتهدين قد حصَّلوا الفقه على طريق الأئمة الأربعة
إذ لم يوجد غيرها ومنها ارتقوا إلى درجة الاجتهاد المطلق، فظلوا منتسبين إلى
الأئمة الذين اشتغلوا في أول الأمر بمذاهبهم، وقد كشفت لك آنفًا عن السبب في
عدم إنشاء مذاهب جديدة لهم، ومن أراد أن يسلك سبل الاجتهاد المستقل من غير
التزام طريقة واحد من الأربعة بعينه فعل، ومن هؤلاء الإمام محمد الشوكاني
المتوفى سنة 1250 للهجرة، ومذهبه أقوى المذاهب المعروفة دليلاً، وأقوم قيلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الجوائح: جمع جائحة، وهي الآفة السماوية يهلك بها الزرع، فمن اشترى ثمرة وأخذتها الجوائح قبل قطعها يوضع عنه الثمن، وقد علل الشافعي حديث سفيان بن عيينة في وضع الجوائح بأنه كان ربما ترك ذكر الجوائح فلم يعول عليه ولكن الحديث صح من غير طريق سفيان، وأظهر الروايات في الباب حديث مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك بغير حق) فابن القيم يقول إن مذهب الشافعي وضع الجوائح، وإن علل ما رواه فيها؛ لأنه صح من طرق أخرى.