الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى
الفضائل والرذائل [
1]
] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[2]
قالوا: للإنسان كمال مفروض عليه أن يسعى إليه. وقالوا: إنه عرضة لنقص
يجب عليه الترفع عنه. وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في
التلوث برذيلة من الرذائل. فما هي الفضائل؟ وما هي الرذائل؟
الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها
كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل؛
فإن من سجية كل منهما البذل في الحق والمنع إذا اقتضاها الحق، فكل يعرف حده
فيقف عنده، فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفَّاء لا
يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة
وفي طبيعته الإيثار بالرغائب، وهكذا إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب
من الصفات الفاضلة تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها
في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في
شخصين مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها،
ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة فيهما، وعلى هذا النحو يكون الأمر في
الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة
الاتحاد بين الآحاد تميل بكل منهما إلى الآخر، وتجذب الآخر إلى من يشاكله حتى
يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته
غاية واحدة.
مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع
الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله لا يتجاوزه بما يمس حقًّا للآخر، فبه
يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه
العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع وهو في
هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازًا عن
بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع حتى
يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد، والأفراد فيها كأعضاء تختلف
في الوظائف والأشكال؛ وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير
حظها من الوجود ليعود إليه نصيب من عملها الكلي، كما أودع الله في أعضاء
أبداننا وبنيتنا الشخصية، والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في
كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته كاليد بها البطش
والتناول وليس بها الإبصار، والعين بها الإبصار وتمييز الأشكال والألوان وليس
من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة وإن شئت قلت: الفضائل في عالم
الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام
الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحُفظت
النسبة بينه وبين الكواكب الأخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز
العليم؛ حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها، كذلك شأن الفضائل في
الاجتماع الإنساني بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود، ويثبت البقاء
النوعي إلى أن يأتي أمر الله.
أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارس والوازع، والجالب والدافع،
وجميع من يدبر أمورها، ويسوسها في شؤونها؛ إنما هم أفراد منها من هاماتها،
أو من لهازمها (من الأعلياء والأوساط بل وسائر الأطراف) ، ويكون كل واحد
منها قائمًا بحق الكل، ولا يختار مقصدًا يعاكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية
تميل به عن غاية الكل، ولا يهمل عملاً يتعلق بالأمة حتى يكون الجميع كالبنيان
المتين لا تزعزعه العواصف، ولا تدركه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة
قوة تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار فهي
الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق.
إن أمةً هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد،
فمثلهم في اختلاف الأعمال كمثل المتدابرين على محيط دائرة، يتفارقان في مبدأ
السير؛ ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مآخذهم لجلب منافعهم
كجاذبي طرف خيطة واحدة (حبل واحد) كل آخذ بطرف مع تعادل القوتين، ففي
جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر
فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك
الأفراد من هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم تكون كأنصاف دائرة مركزها
حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وأنهم في
جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه.
يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية، وتمتاز بالميل إليه عن
سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن نواله
إذا توافر للأمة حظها من هذه المزايا، فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة
أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن
فرد من أفرادها، فضلاً عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من
آلات عمله، وقطع سببًا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدًا من الآحاد، ولا
يزدري بعمله ويحسب الشخص من الأمة، وإن كان صغيرًا بمنزلة مسمار صغير
في آلة كبيرة لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه.
عليك أن تنظر في حقائق هذه الصفات الفاضلة لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر
الذي بيَّناه - التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام والعفة والسخاء
والقناعة والدماثة (لين الجانب) والوقار والتواضع وعظم الهمة والصبر والحلم
والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس) ، والنجدة والسماحة والصدق
والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد والعفو والرفق والمروءة والحمية
وحب العدالة والشفقة - أترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم، أو
غلبت في أفرادها يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام العام؟ هل يوجد مثار للخلاف
والتنافر بين عاقلين حُرين صادقين وفيَّين كريمين شجاعين رفيقين صابرين حليمين
متواضعين وَقُورين عفيفين رحيمين؟
أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتًا
لأحيتها، أو قفرًا لأنبتتها، أو جدبًا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله
عليها، ولا قامت لها من الوحدة سياجًا لا يُخرق وحرزًا منيعًا لا يُهتك، وإن أولى
الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: (إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق) ، الفضيلة حياة الأمم تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة وتحفظها
من الانحلال المؤدي إلى الزوال {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: 117) .
أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس من طبيعتها التحليل والتفريق
بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) ، والبذاء (التطاول على الأعراض
بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام) ، والسفه والبله والطيش والتهور والجبن
والدناءة والجزع والحقد والحسد والكبرياء والعجب واللجاج والسخرية والغدر
والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان، ألقت
بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في
الوفاق؛ فإن طبيعة كل منهما، إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما
السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب لمن يشاركه في الجنسية أو الملية
أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل، والإنسان مجبول بالطبع على
النفرة ممن يتعدى على حقوقه، أو يمنعه حقًّا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين
سفيهين جبانين بخيلين (كل منهما يمنع الآخر حقه) شرهين حاقدين حاسدين
متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه) لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين،
هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته
قاضيًا بانتباذ كل من صاحبه، وإن لم تكن داعية؟ وكفى بخلقه وصفته باعثًا قويًّا
للتنابذ.
هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها، ونثرت أعضاءها، وبددتها
شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي أن تسطو على هذه الأمة
قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر؛ فإن حاجاتهم
في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، ولا بد من قوة خارجة
تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة، هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم
صار بأسهم بينهم شديدًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض
أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم ويفتخرون بالانتماء إليهم،
يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم،
ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحًا، وكل جليل منهم حقيرًا، إذا نطق أجنبي
بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم، ونفائس الحكم، وإذا غاص
أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق، وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه
من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف
ومن المحال أن يوجد بيننا خبير. ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب،
ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها، يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت
على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من
أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم وجمع كلمتهم،
ويقعدون له بكل سبيل يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار،
تراهم بتضارب أخلاقهم، وتعاكس أطوارهم، كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم
لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم،
فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه
الأخلاق يجعلهم منبعًا للشر، ومبعثًا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكَلِب أول
ما يبدأ بِعَضّ صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق أول ما يفتك بمربيه
ومهذبه، ثم يثني بطبيبه ومعالج دائه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من
نحو الجزام، والآكلة يمزقون الأمة قطعًا وجذاذات، بعدما يشوهون وجهها،
ويشوشون هيئتها، أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسايس؛ لتغلب النذالة
على سائر أوصافهم، فيتَنفَّجُون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلاً عن
عليتهم، وبهذا يمكِّنون الذلة في نفوسهم لمن دونهم، ويطبعونها على الخضوع
للغرباء، بل الأعداء الألداء من طبقة إلى طبقة، حتى تضمحل الأمة وتُنسخ هيئتها
وتفنى في أمة أو ملة أخرى سنة الله في تبدل الدول وفناء الأمم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) أعاذنا الله من هذه
العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من الصير إلى هذه النهاية.
بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتُمحَّص النفوس من الرذائل
حتى تستعد الجمعيات البشرية إلى الاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد، كل
مولود يولد على الفطرة، مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل
ينال كمال الفضيلة من آبائه وأسلافه؟ أنى يكون لهم حظ منها، وقد كانوا ناشئين
على مثل ما نشأ عليه وليدهم، يرشدنا رائد الحق إلى أن الاعتدال في أصول
الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل
بآثارها إنما يكون بالدين، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به، فيصيبوا حظًّا
وافرًا مما يرشدنا إليه، فيتمتعوا بحياة طيبة وعيشة مرضية، إلا إذا قام رؤساء
الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول
ودعوة الناس إلى العمل بها، وتنبيه الغافلين عن رعايتها، وتذكير الساهين عن
هديها، أما إذا أهمل خَدَمَة الدين وظائفهم، أو تهاونوا في تأدية أعمالها ضعف
اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية، وأظلمت البصائر
بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعاشية، ومال ميزان
الاختيار مع الهوى، فحشرت إلى الأنفس أوفاد الرذائل، فيحق على الناس كلمة
العذاب، ويحل بهم من الشقاء ما أشرنا إليه سابقًا.
هذه علل الخراب في كل أمة، ولقد ظهر أثرها في أمم لا تحصى عددًا من
بداية كون الإنسان إلى الآن، ولم يزل آثار بعضها يشهد على ما فتكت به الرذائل
بعدما بدَّلوا وغيّروا كما في طائفة (الدهيرومنك) من سكنة الأقطار الهندية
المعروفين عند الأوربيين بطائفة (ياريا) {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} (الروم: 42) فالدين هو السائق إلى السعادة في الدنيا
كما يسوق إليها في الآخرة.
تقلب قلب الدهر على بعض طوائف من المسلمين في أقطار مختلفة من
الأرض، وسلبهم تيجان عزهم، وألقاها على هامات قوم آخرين، واليوم ينازع
طوائف أخرى، ولا نخاله يتغلب عليهم، فكشف هذا عن نوع من الضعف، ولا
يكون ناشئًا إلا عن شيء من الإهمال في اتباع أوامر الشرع الإسلامي ونواهيه
بحكم قول الله في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد يكون ذلك وربما لا ينكر الآن أن كثيرًا من عامة المسلمين وإن
صحت عقائدهم من حيث ما تعلق به الاعتقاد، إلا أنهم لا ينهجون في بعض
أعمالهم منهاج الشريعة الغراء، وهذا مما يُحْدِث ضعفًا في الأمة بقدر الميل عن
جادة الاعتدال في الفضائل والأعمال {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) .
إلا أن المسلمين لم يزالوا على أصول الفضائل الموروثة عن أسلافهم، ولهم
حسن الإذعان لما جاء به شرعهم، وكتاب الله متلوّ على ألسنتهم وسنة نبيهم
يتناقلونها رواية ودراية وسير الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مرسومة على
صفحات نفوس الخاصة منهم، فليس ما طرأ على بعضهم من الغفلة عن متابعة
الشرع وما تسبب عنه من الضعف في القوة إلا عرضًا لا يبقى، وحالاً لا يدوم.
انظر نظرة إنصاف إلى ما أودعته آيات القرآن من غرر الفضائل وكرائم
الشيم، وإلى حرص المسلمين على احترام كتابهم وتبجيله، تجد من نفسك حكمًا باتًّا
بأن علماء الديانة الإسلامية لو نشطوا لأداء وظائفهم المفروضة عليهم بحكم وراثتهم
لصاحب الشرع والمحتومة على ذمتهم بأمر الله الموجه إلى الذين يعقلونه وهم هم
في قوله الحق: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وبالحض الإلهي المفهوم من
قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} (التوبة: 122)(المؤمنين) {طَائِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) ولو قاموا يعظون العامة بما ينطق به القرآن ويُذَكِّرونهم بما
كان عليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الناهجون على سنته من
الأخلاق المحمودة والأعمال المبرورة؛ لرأيت الأمة الإسلامية ناشطة من عقالها
متضافرة على إعادة مجدها وصيانة ولايتها العامة من الضعف، وبيضة دينها من
الصدع كل ذلك في أقرب وقت، ولن تكون إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.
ولا ريب أن الراسخين في العلم من أهل الدين الإسلامي يعلمون أن ما أصيب
به المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة إنما هو مما امتحنهم الله به جزاء على بعض
ما فرطوا، وليس للناس على الله حجة، فالرجاء في هممهم وغيرتهم الدينية
وحميتهم الملية أن يوجهوا العناية إلى رتق الفتق قبل اتساعه، ومداواة العلة قبل
استحكامها، فَيُذَكِّروا أبناء الملة بأحكام الله، ويحكموا بينهم روابط الأخوة والألفة
كما أمر الله في كتابه وعلى لسان نبيه، ويبذلوا الجهد لمحو اليأس والقنوط الذي
ملك أفئدة البعض منهم، ويقنعوهم بأنه لا ييأس من لطف إلا الذين في قلوبهم
مرض، وفي عقائدهم زيغ، ويسيروا بهم في سبيل يجمع كلمتهم ويوحد وجهتهم
ويقوي فيهم إباءة الضيم والنفرة من الذل، ويحرك فيهم روح الأنفة حتى لا تسمح
نفس أحدهم أن يأتي الدنية في دينه، ويكشفوا لهم حقيقة وعد الله ووعده الحق في
قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
_________
(1)
مقالة من العروة الوثقى والعنوان لنا.
(2)
(الذاريات: 55) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
المحاورات بين المصلح والمقلد
أصل الجفر ومعناه، إضافته إلى الشيعة، إنكار نسبته لجعفر الصادق،
الرواية والمروي، الباطنية وعصمة آل البيت وعبادتهم، ادّعاء الحاكم الألوهية،
المتكلمون وردهم على المعتزلة دون الباطنية ونحوهم، سبب الجدل بين الفقهاء،
المنار والعلماء والأولياء، إسناد الجفر إلى سيدنا علي ورده، معنى الجفر
وموضوعه، ملحمة ابن عربي، التصوير والصور، صدق الجفر والملاحم وكذبها،
الجفر والأمراء والملوك، الزايرجة والرمل والمندل والبروج.
المحاورة الخامسة
الجفر والزايرجة
لما عاد الشيخ المقلد والشاب المصلح إلى المحاورة، والمضي في المباحثة
والمناظرة، بدأ الأول بإعادة الشكر والثناء على الثاني لإهدائه مقدمة ابن خلدون
وإظهار الاغتباط بها وقال:
المقلد: إنني نظرت في فهرس المقدمة قبل المطالعة فرأيت ذكر الجفر
والزايرجة، فكان هذان البحثان أول شيء قرأته في هذا الكتاب؛ ليكون لي منهما
مادة من جنس مادتك أناظرك بها، فأما الجفر فألفيت مؤلفها يميل إلى إنكاره،
ويذكر أن هارون بن سعيد العجلي رأس الزيدية - فرقة من الشيعة - هو الذي يروي
كتاب الجفر عن جعفر الصادق رضي الله عنه، وأنه كان مبينًا لما سيقع لأهل
البيت على العموم، ولبعض الأشخاص على الخصوص بحسب ما أعطاهم الكشف
الذي يقع لمثلهم من الأولياء، قال: وكان مكتوبًا عند جعفر في جلد ثور صغير،
فرواه عنه هارون العجلي وكتبه وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه؛ لأن الجفر
في اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم علمًا على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه
تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق، وبعد
هذا أنكر ابن خلدون صحة الرواية في ذلك مع أنه أثبت الكرامة لجعفر وآله عليهم
الرضوان، ولا إخال إلا أنك تبعت هذا الرجل في إنكار الجفر، وإن كان عدم
صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي في الواقع ونفس الأمر، وأما كلامه
في الزايرجة فلا أخفي عنك أنني لم أفهمه.
المصلح: إنني أود لو تطَّلع على كل ما اطَّلعت أنا عليه مما نتكلم فيه لما في
ذلك من الاقتصاد في زمن المناظرة، ومن سهولة الإقناع والاقتناع، ولا يختلجن
في نفسك أنني أقلد ابن خلدون أو غيره في شيء مما أقول؛ وإنما أطَّلِع على ما
نقله هو وغيره، وأعتقد ما يترجح عندي بعد النظر الطويل، وأما قولك: إن عدم
صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي فلعلك تريد به أن عدم العلم بصحتها لا
يقتضي أن المروي غير واقع لجواز وقوعه مع عدم تصدي الثقات لنقله وروايته؛
ولكن لا يسعك أن تنكر أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا
بالرواية الصحيحة، فإذا لم توجد لا يسمح لنا الدين ولا العقل أن نقول بثبوته، وإذا
أنكرناه بناء على أن الأصل عدمه لا نُعذل ولا نُلام فكيف إذا وجد من التهم ما يقتضي
الإنكار، وهو ما يقصه علينا التاريخ من سيرة فرق الشيعة المنتحلين لهذه البدع، لا
سيما في عهد العبيديين الذين روجوا مذهب الباطنية الذي زلزل دين الإسلام زلزالاً،
وخرج بمسلمي الشيعة من الاعتقاد بعصمة آل البيت وإلحاقهم في ذلك بالأنبياء إلى
عبادتهم والقول بألوهيتهم فإذا كان شاعر المعز يقول في مظلته:
أمديرها من حيث دار لشد ما
…
زاحمت تحت ركابه جبريلا
ويقول:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
…
فاحكم فأنت الواحد القهار
فإن الحاكم لا يزال يُعبد إلى اليوم، وكل ما قرأته عليك في وصف الله تعالى
من رسالة دين الدروز في محاورتنا الماضية؛ فإنهم يريدون به الحاكم العبيدي،
وكذلك النصيرية يعبدونه، وهم أشد الناس عناية بتعرف علم الغيب من الجفر
والنجوم.
المقلد: إني لأعجب لعلمائنا من المتكلمين والفقهاء كيف يسكتون عن هؤلاء
الضالين المضلين، ولا يزال يرد الأولون على المعتزلة، وقد انقرضوا وانقرض
مذهبهم، ويرد الفقهاء بعضهم على بعض وكلهم من أهل السنة والجماعة.
المصلح: إن أكثر ما تراه من الجدل والرد والإنكار من العلماء بعضهم على
بعض ناشئ عن الأهواء؛ فإن المعتزلة هم السبب في وجود علم الكلام، خاضوا
في أمور لم يخض فيها السلف الصالح فانبرى آخرون لمناضلتهم، وبعد ذلك
تداعت دعائم العلم والنظر، ولما يبق للمقلد من المتأخرين إلا حكاية ألفاظ المتقدمين
وإن ذهبت فائدتها بذهاب وقتها، والاكتفاء بالسكوت عن البدع والضلالات التي
حدثت بعد أولئك الأئمة كالأشعري وأصحابه وتكفير من يسأل عنها وتضليله، إلا
أن تنشر وتُلوَّن بلون الدين، ويوجد لها أتباع وأنصار كبدع أهل الطريق، فحينئذ
يناضلون عنها بالتحريف والتأويل، ويعكسون الحكم فيرمون منكرها بالكفر أو
التضليل، كما هو مشاهد في كل جيل وقبيل، وأما الفقهاء فقد بيَّن حجة الإسلام
الغزالي في كتاب العلم من إحياء علوم الدين أن السبب في مجادلاتهم ومناضلاتهم
هو التزلف إلى الأمراء والخلفاء، والتزاحم على منصب القضاء، ولذلك تجد
الوطيس لم يحم إلا بين الحنفية والشافعية؛ لأن المناصب كانت محصورة فيهم،
على أن الحكم عليهم بالسكوت لا يصح على عمومه، فلا بد في كل عصر من فرد
أو أفراد ينصرون الحق ويخذلون الباطل؛ ولكن غلبة الجهل على الأمة تسوّل لها
الباطل وتزينه في نفوسها فتعمى عن الحق ولا تبصره، وقد نُشر في الجزء الثالث
من منار السنة الثالثة نبذة في حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم نقل فيها
عن الفقيه ابن حجر الهيتمي أن الاشتغال بالروحانيات هو الذي أضل الحاكم
العبيدي حتى ادَّعى الألوهية وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة، فأحب أن تقرأ تلك
النبذة.
المقلد: إن المنار جريدة ضارة تهين العلماء، وتنكر الأولياء، فلا أحب أن
أراها، بل أحمد الله أنني لم أطلع عليها قط.
المصلح: سبحان الله، كيف يصح لك وأنت من أهل علم الدين أن تحكم على
ما لم تر، والله يأمرك أن تتبين وتتثبت فيما يجيئك من الأنباء عن الفساق الذين
يغتابون الناس، ويسعون بينهم بالنميمة، لا توجد عندنا جريدة تُعلي من قدر
العلماء كالمنار؛ لأنها تجعل في أيديهم زمام الأمة، وتنيط بهم أمر إصلاحها،
وإرجاعها إلى مجدها الأول بإصلاح التربية والتعليم، ولا يذمه منهم إلا من يشعر
من نفسه بالقصور عن القيام بشيء من هذا الإصلاح، وأما الأولياء فالمنار لا
ينكرهم؛ وإنما ينهى عن إطرائهم والغلو فيهم بأن يُدْعَون مع الله تعالى، ويطلب
منهم ما لا يطلب إلا منه سبحانه، ولولا خشية الخروج عن موضوعنا لقرأت لك
بعض كلامه في ذلك.
المقلد: كنت أسمع أن الجفر مأخوذ عن سيدنا علي كرم الله وجهه، وينسبون
للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس سره جفرًا يسمونه الشجرة النعمانية،
ويقولون: إنه يحتوي على جميع الحوادث العظيمة إلى يوم القيامة.
المصلح: نعم إن من الناس من يزعم ما ذكرت كالجرجاني، وقال ابن طلحة:
الجفر والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي وهو يخطب على المنبر في
الكوفة؛ والآخر أسرَّ به إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتدوينه فكتبه علي
حروفًا متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر فاشتهر بين الناس؛ لأنه وجد فيه ما
جرى للأولين والآخرين. أقول: وكانوا يزعمون أن الجفر إخبار عن المغيبات
صريحة أو رموزًا، ولما أرادوا أن يجعلوه علمًا أدخلوه في علم الحرف والعدد الذي
هو بعد الروحانيات في المرتبة، واختلفوا في وضعه وتكسيره فمنهم من كسره
بالتكسير الصغير، وزعموا أنه جعفر الصادق، ومنهم من يضعه بالتكسير المتوسط
وهو الذي توضع به الأوفاق الحرفية، ومنهم من يضعه بطريق التركيب الحرفي
أو العددي، ومن الناس من خلط بين الجفر والتنجيم وسمى كل ما كتب في الملاحم
والحدثان جفرًا، وإن كان مبنيًّا على القرانات.
ومنهم من يعتقد أن الجفر لا يكون إلا عن كشف، وأن الرموز الحرفية والعددية
وغيرها لم يضعها الشيخ محيي الدين بن عربي في جفره، إلا لأجل الإبهام لكيلا يطلع
الناس على الغيب، فتفسد شؤونهم، وقد اطلعت أنا على الشجرة النعمانية، فإذا هي
رموز لا يُفهم منها شيء، وبالجملة لم يثبت أن لهذا الجفر أصلاً علميًّا يُرجع إليه في
معرفة الغيب، وإلا لارتقى وتسنى تحصيله لكل أحد، ولم يعط الله تعالى علم الغيب
لأحد إلا ما أخبر به بعض الأنبياء عليهم السلام من أحوال الآخرة والملائكة والجن مما
ثبت في الوحي فنصدق بالقطعي منه إيمانًا وتسليمًا، نعم لا ننكر أن في الناس محدَّثين
وملهمين يخبرون بشيء أن سيقع فيقع كما قالوا، لكن هذا نادر ومخصوص
بالجزئيات، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى
مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) .
المقلد: رأيت في مقدمة ابن خلدون أنه وقف على ملحمة منسوبة لابن
العربي الحاتمي الذي هو الشيخ الأكبر فيها أوفاق عددية، ورموز ملغوزة، وأشكال
حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة، وتماثيل من حيوانات غريبة، وقد أنكرها ابن
خلدون، وقال: الغالب إنها غير صحيحة؛ لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة
ولا غيرها، وكان الأولى أن ينكر نسبها للشيخ الأكبر لوجود الصور والتماثيل فيها؛
لأن التصوير حرام يجل عنه ولي من أكابر الأولياء.
المصلح: ربما يعتقد ابن عربي وابن خلدون أن الصور المحرمة هي ما لها
علاقة بالدين كصور الأنبياء والأولياء؛ لأنها ربما تُعَظَّم تعظيمًا دينيًّا، فتكون أوثانًا
تعبد عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فالنهي عن التصوير كالنهي عن بناء القبور
وتشريفها واتخاذ المساجد عليها، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين، فقد لعن النبي
صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بها، وأما الصور التي لا علاقة لها بالدين ولا
هي مظنة التعظيم فلا تدخل في علة النهي، أما قرأت في صحيح البخاري وغيره
حديث القرام (الستار) المصور الذي كان عند عائشة رضي الله عنها، وكيف أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بهتكه؛ لأنه كان منصوبًا كالصور التي كانت تُعْبَد في
الكعبة وطمسها، ثم لما زالت صفة التعظيم باتخاذ القرام وسادة كان عليه السلام
يتكئ عليها مع بقاء الصور فيها.
المقلد: هذا تعليل مخالف لكلام الفقهاء، وأُجِلُّ الشيخ الأكبر عن القول به.
المصلح: أما علمت أن الشيخ الأكبر غير مقلد للفقهاء ولا لغيرهم، وأنه
صرح في فاتحة الفتوحات بأنه لا يتقيد بمذهب سني ولا معتزلي ولا غير ذلك،
وصرح بأن ليس كل ما يقوله المعتزلي باطلاً
…
إلخ، وعلم أن بعض الناس ينسبه
إلى مذهب ابن حزم الظاهري فأنكر ذلك وأنشد:
ويعزوني إلى قول ابن حزم
…
ولست أقول ما قال ابن حزم
المقلد: لقد صح من أخبار الجفر شيء كثير، وذلك كقول الشيخ الأكبر في
الشجرة النعمانية على ما يقولون: (إذا دخل س في ش ظهر قبر محيي الدين)
وقد كان كذلك؛ فإن السلطان سليمًا هو الذي أظهر قبر الشيخ عندما دخل الشام وبناه
وأجرى عليه الأوقاف.
المصلح: يوجد في هذه الجفور الرمزية وغير الرمزية أخبار تقع، وقد
رأيت في جفر منسوب إلى الإمام علي كرم الله وجهه (ويل للإسكندرية من
الأساطيل البحرية) ، وفي موضع آخر (ويل للقاهرة من العاهرة) ، وذلك أن من
يخبر بأشياء كثيرة من شأنها أن تقع لا بد أن يصدق بعضها، ولو كان الجفر حقًّا
لوقع كل ما أخبر به، وأما الرموز فمجال التضليل فيها واسع وميدانه فسيح؛ لأن
هذه الحروف تصدق على أشياء كثيرة وتنطبق عليها من غير أن تكون موضوعة
لها، ولم يوضع ذلك إلا لخداع الأمراء والملوك لابتزاز أموالهم وابتغاء الزلفى
عندهم، وما أراك إلا قد قرأت قصة الدانيالي في مقدمة ابن خلدون [1] ، وما ذكره
عن ملحمة الباجريقي الصوفي [2] ، وقد ذكرت لك من قبل أن كلمة تصدق تخدع
الجهلاء، فيظنون أن الكلام كله صحيح.
المقلد: نعم قرأت ذلك، وإني أخبرك بخبر من هذا القبيل جرى لصاحبي
الشيخ المصري العالم بالزايرجة والحرف؛ ولكنه من الأسرار التي لا أسمح لك أن
تذكرها عني، ذلك أن الأمير.. . تنازع هو وحرمه في أمر ذي بال لا ينبغي
التصريح به، وإنما يقال في الجملة: إنه ارتكب ما يوجب حدًّا شديدًا، فعاقبته عليه
بجناية ساءته وإن كانت خيرًا له، وأنكرت عليه أن العقوبة من قِبَلَها، فاستحضر
الشيخ ليكشف له الحقيقة بالزايرجة، فلما وقف على القصة بالإجمال والتمويه علم
أن المصلحة والمنفعة في تبرئة الحرم المصون مما يتهمها به الأمير، فزعم بعد
إعماله وحسابه أن الأمر جاء من طبيعته لا من قبلها وانصرف بمال كثير.
المصلح: انظر إلى أمراء المشرق وملوكه الذين تروج عندهم هذه
الخزعبلات كيف يزدادون تعاسة وشقاء عامًا بعد عام، فمستقبلهم دائمًا شر من
ماضيهم، وانظر إلى ملوك أوروبا الذين يستعدون للمستقبل بما تعطيهم العلوم
الصحيحة وسنن الكون كيف يزدادون قوة وعزة وارتقاء.
المقلد: هل الرمل من قبيل الزايرجة والجفر؟ فإني أراك درست هذه الأشياء.
المصلح: الزايرجة ضرب من أعمال الحساب وتكسير الحروف يُقصد به
معرفة الغيب، وعدَّه ابن خلدون من فروع السيمياء، والرمل من قبيل الزايرجة،
قال ابن خلدون: استنبطه قوم من عامة المنجمين وسموه خط الرمل نسبة إلى المادة
التي يضعون فيها عملهم، وفصل القول في محصول صناعتهم الباطلة، ولعلك
قرأته فهو صناعة، والغيب لا يمكن أن يعرف بصناعة، ومن آية بطلان هذا العمل
أنه لا يروج إلا في سوق الجهالة كما قال ابن خلدون في أهله وهو: (ولقد نجد في
المدن صنفًا من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه
فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه، فتغدو عليهم
وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم
في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل،
ويسمونه المنجم، وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب، ونظر في المرايا
والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في
الشريعة من ذم ذلك، وأن البشر محجوبون عن الغيب)
…
إلخ ما قرأت، وأنت
ترى أنهم زادوا في هذا الزمان أمورًا أخرى كالنظر في ورق اللعب، والنظر في
الكف، ومن ذلك كتاب البروج لأبي معشر وغيره يحسبون اسم الرجل واسم أمه
بالجُمَّل، ويسقطون من المجموع اثني عشر مرة بعد أخرى حتى لا يبقى إلا اثنا
عشر أو دونها، فينظرون في الباب الذي يوافق العدد الباقي، ويتعرفون منه تاريخ
ذلك الرجل في جميع شؤونه، وحسبك في فساد هذا أن المتفقين في اسم الأب والأم
تكون شؤونهم متحدة، وإننا لنشاهد فيهم السعيد والشقي والغني والفقير والمالك
والمملوك فحسبنا يا مولاي بحثًا في هذا الهذيان، ولنتكلم في الجد الذي هو أصل
موضوعنا، فقبل الشيخ منه ذلك، وانصرفا على موعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
قال ابن خلدون: حكى المؤرخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيام المقتدر (الخليفة) وراق ذكي يعرف بالدانيالي يبل الأوراق، ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة، ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريده منهم من
الدنيا، وأنه وضع في بعض دفاتره م مكررة ثلاث مرات، وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر فقال له: هذا كناية عنك، وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما يرضاه ويناله من الدولة ونصب لذلك علامات يموه بها عليه، فبذل له ما أغناه به، ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً، فجاءه بأوراق مثلها، وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها، وأنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء، وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدنيا في أيامه، وأوقف مفلحًا على هذه الأوراق، وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النوع مما وقع، ومما لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأُعجب به مفلح ووقف عليه المقتدر، واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سببًا لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز اهـ.
(2)
وقال قبل ذلك: ووقفت بالمشرق أيضًا على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي، وكلها ألغاز بالحروف، وذكر منها أبيات منها بعد ذكر رجل يسمى الأعرج الكلبي يأتي من المشرق:
إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من الـ
…
ـزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء وظاء وعين كلهم حبسوا هلكًا وينفق أموالاً بلا ثمن
ثم ساق حكاية الدانيالي وقال:
والظاهر أن هذا الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع، ولقد سألت عنها أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفًا بطرائقهم فقال: (كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية، وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف يومئ إلى رجال معينين عنده ويلغز عليهم بحروف بعينها في ضمنها لمن يراه منهم، وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها، فتنوقلت عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة وهو أمر ممتنع؛ إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف
قبله ويوضع له، وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه) ، فرأيت من كلام هذا الرجل الفاضل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.